الإصلاح الزراعي agrarian reform
الإصلاح الزراعي
الإصلاح الزراعي agrarian reform هو مجموعة الإجراءات التشريعية والتنفيذية التي تقوم بها السلطات العامة لإحداث تغييرات إيجابية في الحقوق المتعلقة بالأرض الزراعية من حيث ملكيتها وحيازتها والتصرف بها، لينجم عن هذه التغييرات إلغاء احتكار الأرض الزراعية أو تقليصه وضمان توزيع أكثر عدالة في الثروة والدخول. ويتم ذلك عن طريق وضع حد أعلى للملكية الزراعية الخاصة لا يجوز تخطيه، والاستيلاء على ما يتجاوز هذا الحد من أراض وتوزيعها على فقراء الفلاحين المستحقين وفقاً لشروط وأولويات تختلف باختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية والسكانية والاجتماعية لكل بلد.
والإصلاح الزراعي بهذا المعنى المحدد الأكثر شيوعاً يركز على إصلاح نمط توزيع الأرض land distribution reform، أي على تحقيق العدالة وفتح الطريق أمام تحرير الفلاحين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً من استغلال إقطاعي أو شبه إقطاعي.
وقد يتسع مفهوم الإصلاح الزراعي لا ليركز على تحقيق العدالة فقط وإنما على تحقيق النمو أيضاً. فيشمل في هذه الحالة، إضافة إلى ما سبق، بعض الإجراءات الكفيلة بتنظيم العلاقات الزراعية بين ملاك الأراضي الزراعية ومستأجريها، وتدريب الفلاحين وإرشادهم وتنظيمهم في تعاونيات، وتطوير طرق زراعتهم ووسائلها، وتوفير القروض لهم ومساعدتهم في تسويق المنتجات الزراعية وإقامة وحدات إنتاجية زراعية على أسس جماعية متقدمة، وغير ذلك.
والإصلاح الزراعي قد يكون مرحلة نهائية في حد ذاته، كما هو الحال في الدول غير الاشتراكية، وقد يكون مجرد مرحلة انتقالية تفضي إلى مرحلة أخرى أكثر جذرية تلغى فيها الملكية الخاصة للأرض، كما هو الحال في معظم الدول الاشتراكية (الشيوعية).
المنظور التاريخي
الأرض بمفهومها الطبيعي محدودة المساحة، وهي تؤلف أحد عوامل الإنتاج الأساسية فضلاً عن أنها أداة غنىً وتخزين ثروة، وأنها كانت مصدر جاه اجتماعي ونفوذ سياسي. وتتناسب قيمة الأرض مع ندرتها وتزداد هذه القيمة كلما ازداد ضغط السكان عليها، أي كلما انخفض نصيب الفرد من الأرض الزراعية في المجتمع، وهو ما يؤلف الاتجاه التاريخي العام.
لذلك، كان الحصول على الأرض الزراعية وما يزال مصدراً للتنافس والمنازعات والصراعات بين الأفراد والعشائر والقبائل وبين الفئات المختلفة داخل المجتمع الواحد. وغالباً ما تنتهي هذه الصراعات إلى غالب ومغلوب مع ما يترتب على ذلك من تمركز للأراضي في أيدي فئة وحرمان فئات أخرى منها.
والإصلاح الزراعي بصوره التاريخية المختلفة يهدف عموماً إلى إعادة نوع من التوازن إلى هيكلية التوزيع وإلى إيجاد الشروط التي تساعد على أن يكون للأرض وظيفتها المزدوجة الإنتاجية الاجتماعية في آن واحد.
والإصلاحات الزراعية في التاريخ قديمة ومتنوعة من حيث أغراضها ومراميها. ولا يتسع المجال هنا لأكثر من الإشارة إلى بعض النماذج المهمة منها. ولعل الإصلاح الزراعي الذي قام به سولون Solon ثم بيزيستراتوس Peisistratus في القرن السادس قبل الميلاد في أثينة القديمة يعد من أقدم الإصلاحات المعروفة. وتضمن القانون الذي أصدره سولون إلغاء ديون الفلاحين وفك أراضيهم المرهونة وتحريرهم من «عمل المسادسة» لدى المقرضين، أي تقديم العمل لقاء سدس الإنتاج للفلاح وخمسة أسداسه للمقرض. ولدى تسلّم بيزيستراتوس السلطة عقب ثورة 561ق.م، استمر بالإصلاح ودعمه ووزع أراضي خصومه على صغار الحائزين ووفر لهم القروض ومنع الهجرة من الريف إلى المدينة. لقد ساعد إصلاح بيزيستراتوس على استقرار الأوضاع السياسية وضمن بقاءه في السلطة مدى الحياة، إلا أن النتائج الاقتصادية بقيت غير واضحة.
في رومه القديمة وفي المرحلة 133- 121ق.م، أصدر تيبريوس (طيبريوس) Tiberius قانوناً للإصلاح الزراعي تضمن وضع سقف للحيازة لا يجوز تجاوزه. وكان هدف القانون من ذلك استرداد الأراضي العامة التي اغتصبها كبار الملاك وأهملوا استغلالها بغية إعادة توزيعها على صغار المزارعين والمحرومين. إلا أن تيبريوس قتل وانتخب أخوه غايوس Gaius بعد نحو عقد من الزمن، ونفذ إصلاحاً أكثر جذرية إلا أنه قتل أيضاً وعادت الفوضى وعادت من جديد ظاهرة تمركز الأرض واحتكارها.
ومشكلة ملكية الأرض وحيازتها وأسلوب استغلالها كانت تحتل أهمية كبيرة في عهد الفتوحات العربية الإسلامية. فعندما فتح المسلمون العراق والشام ومصر اختلف الصحابة في الأراضي الزراعية في تلك البلاد: أيقسمونها على الفاتحين أو يتركونها بأيدي أصحابها؟ واستقر الرأي على إبقاء الأرض تحت تصرف أصحابها الذين يزرعونها على أن تكون رقبتها للدولة، أي عُدَّت الأرض ملكاً للدولة وعد زارعوها حائزين لها على أن يدفعوا للدولة لقاء ذلك بدل إيجار أو ضريبة العشر أو الخراج. إلا أن المسلمين نهجوا في الأندلس نهجاً مختلفاً، وقسموا أراضي الإقطاعات الكبيرة على فلاحيها المحرومين. وبهذا الصدد يذكر المستشرق دوزي: «لقد أنقذ الإسلام الطبقات الدنيا من المسيحيين العبيد وأقنان الأرض من العبودية والظلم وحررهم من سلطة الإقطاعيين الأقوياء.. ووزعت الأراضي المصادرة بين عدد كبير من أفراد هذه الطبقات المستغلة المظلومة».
في العصور الحديثة نسبياً طبق الإصلاح الزراعي الفرنسي بعد نجاح الثورة مباشرة (1789) فأعتقت الأقنان وألغيت الإقطاعات وجعلت المزرعة الأُسريّة الصغيرة المستقلة أساساً للديمقراطية، وكان إشعاع ذلك عظيماً على الدول الأخرى.
وفي الدنمرك، كانت مرحلة 1786-1813 مرحلة الإصلاحات الزراعية السعيدة والذهبية فقد تحول 60% من فلاحي الدنمرك إلى ملاك. وبعد ثورة 1848 تم تحرير الفلاحين في كل من ألمانية وإيطالية وإسبانية ووزعت عليهم الأراضي. وفي روسية عد قانون عتق الأرقاء عام 1861 نقطة تحول بارزة، وعبارة القيصر ألكسندر الثاني شهيرة بهذا الصدد: «إن إلغاء الرق من قبلنا خير من انتظار اليوم الذي يقوم فيه الأرقاء أنفسهم بذلك». وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر طبقت بعض بلدان أوربة الشرقية نماذج مختلفة من الإصلاحات الزراعية، تحولت فيما بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحولات زراعية اشتراكية جذرية. وفي أمريكة اللاتينية، يعدّ الإصلاح الزراعي المكسيكي الشهير الذي بدأ عام 1915 وامتد تطبيقه على مدى ثلاثين عاماً، وشمل مساحة 30 مليون هكتارٍ من الأراضي (ربع المساحة الصالحة للزراعة في البلاد) من أهم إنجازات الثورة المكسيكية.
والمرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت نشطة وغنية بالإصلاحات الزراعية التي كان لها بمعظمها هدف مزدوج: العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. ويشار بهذا الصدد إلى الإصلاحات الزراعية في: يوغوسلافية 1945، واليابان 1946، وجمهورية الصين الشعبية 1949، وإيطالية 1950، ومصر 1952، وفييتنام الشمالية 1955، وسورية 1958، والعراق 1958، وكوبة 1959، والهند وإيران في الخمسينيات والستينيات، وكوستاريكة 1961، والجزائر 1962، وتشيلي 1965، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1968، وإثيوبية 1974، وأفغانستان 1977.
وهكذا، فإن الإصلاح الزراعي بوصفه سياسةً اجتماعيةً، أخذت به وطبقته دول كثيرة قارب عددها المئة. ومع ذلك، فإن المؤتمر العالمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية WCARRD، الذي انعقد في رومة في تموز 1979 والذي حضرته 143 دولة، أعاد التأكيد مجدداً أن الإصلاح الزراعي يؤلف عنصراً حاسماً لا غنى عنه للتنمية الريفية وأوصى الحكومات التي ما تزال تحتاج إلى إعادة تنظيم حيازة أراضيها بأن تقوم بذلك بسرعة وحزم وأن تتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع إعادة ظهور أنماط جديدة من تمركز الأراضي والموارد لقطع الطريق على الاستغلال.
المسوِّغات والأهداف
قد تختلف مسوغات الإصلاح الزراعي وأهدافه من بلد إلى آخر وفقاً للأحوال والحقائق التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد المعني، ووفقاً لانتماءات السلطة الحاكمة فيه واختياراتها ومقدرتها. ومع ذلك يمكن القول، من الناحية العامة والمبدئية، إن للإصلاح الزراعي مسوِّغات يمكن وضع أهمها في المجالات الثلاثة التالية:
في السياسة تذكر المسوِّغات والأهداف التالية:
ـ تصفية الإقطاع بما له من امتيازات وسلطة ونفوذ وهو أهم الأهداف.
ـ تحرير الفلاحين من التسلط والاستغلال وتنشيط دورهم السياسي.
ـ تهيئة الشروط الموضوعية (بتوزيع الأرض على الفلاحين) للممارسة الديمقراطية وهذا هدف معلن نادراً ما يطبق.
وتجدر الإشارة إلى أن الهدف السياسي للإصلاح الزراعي قد يكون امتصاص نقمة عارمة أو إجهاض ثورة فلاحية جذرية.
و«الإصلاح» هنا قد لا ينفذ نتيجة للضغوط الداخلية فقط وإنما نتيجة لضغوط خارجية أيضاً، مثل الإصلاح الزراعي في تايوان (1949ـ 1953) والإصلاح الزراعي في فييتنام الجنوبية (1955).
وفي الاقتصاد يذكر:
ـ تصفية الاستغلال الإقطاعي.
ـ توجيه الفائض الزراعي نحو الاستثمار المنتج.
ـ تصفية ملكيات الملاك الغائبين، وهي مهملة وضعيفة الإنتاج.
ـ تحسين الإنتاجية الزراعية وتكثيف الزراعة وزيادة الإنتاج. وتساعد على ذلك الحوافز الجديدة لدى الفلاح الذي أصبح مالكاً، وزيادة إمكاناته على الاستثمار لتخلصه من الريع، كما يساعد عليه احتمال زيادة المالك المشمول بالإصلاح لاستثماراته في الأراضي المحدودة نسبياً التي احتفظ بها لتعويض ما خسره من أراض شاسعة.
ـ تحسين دخل الفلاح والدخل الزراعي عموماً.
وفي المجال الاجتماعي يذكر:
ـ تحقيق توزيع أكثر عدالة للأرض وللأصول الإنتاجية الأخرى، مع ما يترتب على ذلك من تخفيف للتفاوت الصارخ في توزيع الدخول الزراعية.
ـ إيجاد فرص عمل جديدة.
ـ تحسين الخدمات التعليمية والصحية وغيرها ... ولاسيما في المناطق المحرومة التي هي أكثر حاجة إليها.
نماذج من الإصلاح الزراعي
في عالمنا المعاصر، تبنت كثير من الدول الإصلاح الزراعي أسلوباً لتحقيق العدالة والنمو في الريف. والمبدأ الجوهري الذي حكم الإصلاحات الزراعية في الدول غير الاشتراكية تجلى في وضع حد أقصى للملكية الخاصة لا يجوز تجاوزه والاستيلاء على الأراضي الفائضة عن هذا الحد تمهيداً لتوزيعها على المستحقين من أبناء الريف.
أما في الدول الاشتراكية (الشيوعية ) فالمبدأ يختلف، والهدف النهائي هو إلغاء الملكية الخاصة وعدّ الأرض ملكاً عاماً للمجتمع كما سيأتي فيما بعد.
والحد الأقصى للملكية الخاصة يختلف من بلد إلى آخر (وقد يختلف داخل البلد الواحد) تبعاً لعوامل كثيرة أهمها الضغط السكاني على الأرض الزراعية، وخصب الأرض وإنتاجيتها، ونظام الاستغلال الزراعي، وعدد المحرومين من الأرض ونسبتهم، ومستوى دخل الفرد، ومدى نفوذ طبقة الملاك، وأهداف السلطة السياسية وتطلعاتها.
فالحد الأقصى للملكية هو في اليابان 3 هكتارات وفي تركية 500 هكتار. ويختلف في الهند من ولاية إلى أخرى. وهو في يوغوسلافية (سابقاً) 45 هكتاراً للملكيات المستغلة مباشرة من قبل أصحابها و35 هكتاراً للملكيات التي تؤجر للغير. وفي بعض مناطق إيطالية ثمة علاقة طردية بين سقف الملكية وحسن استغلالها.
ومسألة التعويض عن الأراضي المستولى عليها هي مسألة سياسية ـ اقتصادية حساسة ومعقدة، وتراوح بين المصادرة أي الاستيلاء من غير تعويض والتعويض شبه الكامل. ويرتبط التعويض أحياناً بحجم الملكية إذ يقل التعويض عن الهكتار كلما كبرت الملكية، وبقانونية نشوئها وكيفية استغلالها وكثافة الاستثمارات الرأسمالية فيها (تقصر بعض الدول دفع التعويضات على التحسينات والمنشآت الإنتاجية)، وبموقف كبار الملاك والوضع الاقتصادي في البلد ونحو ذلك. وتختلف طرائق تقدير التعويض الذي قد يحسب على أساس الضريبة على الأرض (تركية، وألمانية الغربية سابقاً) أو قيمتها الإيجارية (مصر) أو دخلها (يوغوسلافية) أو قيمتها السوقية (اليابان). وتكتفي بعض الدول بدفع قيمة اسمية للأراضي المستولى عليها أو بإعطاء الملاك أسهماً في شركات عامة، في حين تأخذ دول أخرى بنظام التعويض بأسناد حكومية لآجال طويلة (20-40 سنة)، والهدف من ذلك هو منع حدوث التضخم أو تهريب الأموال.
وتوزع الأراضي المستولى عليها طبقاً لشروط خاصة وأولويات تختلف وفقاً لأحوال كل دولة. والمستفيدون من التوزيع هم الفلاحون والعمال الزراعيون المعدمون. وتعطى الأولوية لمن كان يزرع الأرض فعلاً (لمستأجرها) من أهل القرية أو المنطقة وللأسر التي هي أكثر عدداً وأكثر حاجة وخبرة. وقد توزع بعض الأراضي على خريجي المعاهد الزراعية لتكون واحات إنتاجية وإرشادية في آن واحد.
وتختلف المساحة التي تخصص للأسرة وفقاً لعوامل كثيرة منها: مساحات الأراضي الزراعية المتاحة للتوزيع، وعدد الأسر التي تتوافر فيها شروط التوزيع، وعدد أفراد الأسرة، وإنتاجية الأرض ومردودها الاقتصادي، ومستوى الدخل وأحوال العمالة في القطاعات غير الزراعية، وسياسة الدولة الاقتصادية والاجتماعية، ومن أمثلة ذلك أن المساحة التي وزعت على الأسرة بلغت بالمتوسط هكتاراً واحداً في مصر وهكتارين مرويين أو 10 بعلية في إيران و5 هكتارات في كل من إيطالية وتركية و8-15 هكتاراً مروياً أو ضعفها بعلياً في العراق. وفي تشيكوسلوفاكية (سابقاً) منحت الأسرة 5 هكتارات في مناطق الشوندر أو 8 هكتارات في مناطق الحبوب أو 15 هكتاراً في مناطق المراعي.
ويجري توزيع الأرض مجاناً في بعض الدول ولقاء قيمة رمزية أو حقيقية في دول أخرى. وفي هذه الحالة الأخيرة، يراعى في طريقة الدفع أن تتناسب الأقساط مع قدرة المنتفع المادية المحدودة، ولاسيما في السنوات الأولى التي تعقب عملية التوزيع.
وتنص بعض قوانين الإصلاح الزراعي على التزامات المالك الجديدة التي من أهمها ضرورة قيامه بزراعة أرضه بنفسه مع أفراد أسرته واستغلالها على أفضل وجه وعدم التصرف بها تحت طائلة سحبها منه ثانية. ويمكن إعفاؤه من هذه الالتزامات بعد مضي مدة كافية (10-20سنة). وتنص معظم القوانين على ضرورة أن يقوم المنتفعون الجدد، بالاشتراك مع صغار الملاك في المنطقة بتأليف الجمعيات التعاونية.
نماذج من الدول الرأسمالية: اليابان وإيطالية من الدول الرأسمالية المتطورة القليلة التي طبقت إصلاحات زراعية حديثة نسبياً.
فاليابان، في الحرب العالمية الثانية، كانت تعاني نقصاً غذائياً مرهقاً واحتكاراً للأرض متفاقماً من قبل المضاربين والمقرضين والملاك الغائبين absentee landlords وضغطاً سكانياً متزايداً على أرض محدودة. وكان من نتيجة ذلك أن بلغ ريع الأرض وسطياً 48% من قيمة إنتاجها عام 1943 إذ كان ثلثا الأراضي الزراعية في اليابان يستثمران من قبل صغار المستأجرين.
في عام 1946، صدر قانون للإصلاح الزراعي وكان هدفه الأساسي تحويل صغار المستأجرين إلى ملاك. وتضمن وضع سقف للملكية الخاصة قدره 3 هكتارات والاستيلاء على الأراضي الفائضة لقاء تعويض على أن يعاد بيعها إلى صغار المزارعين المستأجرين لقاء ثمن يسدد تقسيطاً على سنوات. في الأراضي التي لم يشملها القانون وضع «سقف للريع» لا يجوز تجاوزه قدره 25% من إنتاج الأرض. وقد عزز تطبيق الإصلاح بتأسيس تعاونيات للتسويق والإقراض بإقامة نظام للإدارة المحلية القروية. وظهرت نتائج القانون سريعاً وأهمها: انخفاض الأراضي المؤجرة بنسبة 80%، وانتشار الملكية الأسرية الصغيرة وإرساخ قاعدة الديمقراطية، وتحسين إنتاجية الأرض وتقليص الفروق في الدخول، وتطور عقلية المزارع الصغير الذي أصبح مستقلاً ومسؤولاً فاندمج في النشاط الاقتصادي والسياسي وبدأ باتخاذ المبادرات وبالإقبال على القراءة والتعليم والتثقف وباعتماد العقل والمهارة وسيلة أولى للتقدم.
وفي إيطالية، صدر عام 1950 قانونان للإصلاح الزراعي خاصان بالمناطق الزراعية ذات الاستثمارات الضئيلة والإنتاجية المنخفضة في وسط إيطالية وجنوبيها. وضع قانون سيلا Sila سقفاً للملكية قدره 300 هكتار واستثنى من ذلك الملكيات الزراعية المستغلة استغلالاً ممتازاً. أما قانون سترالشيو Stralcio فقد تضمن سقفاً متحركاً للملكية يرتفع مع ارتفاع درجة جودة استغلال الأرض وبالعكس. وتنفيذاً لهذا القانون، وصلت نسبة الاستيلاء في بعض المزارع المهملة إلى 90% من مجمل أراضيها، في حين استثنيت مزارع أخرى من الاستيلاء بسبب حسن استغلالها وتوفير شروط عمل ممتازة للعاملين فيها.
لقد حقق الإصلاح الزراعي هدفه الإنتاجي في معظم الأراضي التي شملها (750.000 هكتار)، فرفع معدلات الإنتاج وأسهم في تحقيق التوازن في توزيع الملكيات الزراعية، وفي تحسين المستوى الاجتماعي للمنتفعين الذين كانوا بمعظمهم من العمال الزراعيين العاملين في المزارع المستولى عليها، فقد تم توزيع 5 هكتارات وسطياً للأسرة الواحدة لقاء ثمن معتدل ومقسط.
نماذج من بعض دول العالم الثالث: في أرياف دول أمريكة اللاتينية، تزايد كبير ومتسارع في السكان وسوء في توزيعهم وفي توزيع الأرض عليهم. فالضياع الكبيرة الواسعة بملاكها الغائبين ليس فيها إلا القليل من الأيدي العاملة، وهي خاضعة ومُستغلَّة. وبالمقابل، يتمركز الفلاحون بكثافة في المزارع الصغيرة. ومع تزايد الازدحام تزدهر الهجرة إلى الأحياء الفقيرة في المدن. لقد لخص أحدهم مشاكل الأرض وحيازتها في أمريكة اللاتينية بقوله «فلاحون بلا أرض وأرض بلا فلاحين».
وعلى الرغم من تلك الأحوال، فإن الإصلاحات الزراعية في أمريكة اللاتينية تُعدّ، باستثناء الإصلاح الزراعي في المكسيك، حديثة العهد نسبياً، وتتفاوت في أهدافها وجدية تنفيذها ونتائجها. واقتصر بعضها، كما في البرازيل عام 1964، على فرض ضرائب تصاعدية على الأراضي المهملة وأراضي الضياع الواسعة. وحاول بعضها الآخر وضع حد للملكيات المهملة ولأراضي الملاك الغائبين وتوزيع الأراضي الفائضة على الفلاحين، إلا أن معوقات كثيرة عطلت تنفيذ ذلك، ويستثنى من هذا البيرو وتشيلي إذ حققت برامج الإصلاح فيها نجاحاً نسبياً.
ففي تشيلي مثلاً، تم اختيار الذين ستوزع عليهم الأراضي تنفيذاً للإصلاح الزراعي لعام 1965 وفقاً لمعايير محددة ونُظموا في مجموعات صغيرة تولت كل منها زراعة الأرض التي خصصت لها لمرحلة انتقالية (3-5 سنوات) جرى في أثنائها تدريب المنتفعين الجدد واختبارهم وفرزهم إذ وزعت الأرض نهائياً على أولئك الذين أثبتوا جدارة كافية. وفي نهاية 1969، بلغ عدد الأسر المستفيدة (15.000) أسرة تم توطينها في مساحة نحو مليوني فدان.
والاتجاه لإصلاح هيكل الملكية والحيازة الزراعية، ولمراقبة الإيجارات الزراعية وإلغاء الوسطاء والمضاربين في الريف ظهر في كثير من دول إفريقية وآسيا، ولاسيما في جنوب شرقي آسيا، حيث الضغط السكاني على الأرض يبلغ أشده مما يجعل نصيب الفرد من الأرض الزراعية ضئيلاً للغاية ومستمراً في التناقص، مع مايترتب على ذلك من فقر نسبي ومطلق يصل أحياناً إلى حد البؤس. هنا أيضاً تنتشر في الكثير من الدول ظاهرة الملاك الغائبين وسوء استغلال الأرض وتوزيعها وعدم استقرار الملكية والحيازة وغير ذلك. وقد جرت وما تزال تجري محاولات، تختلف في مدى جديتها وفاعليتها، للتصدي لهذه المشكلات.
نماذج من الدول الاشتراكية: تنادي النظرية الماركسية، كما هو معروف، بإلغاء الملكية الخاصة للأرض (ولوسائل الإنتاج الرئيسة الأخرى)، لأنها تؤلف وسيلة استغلال الإنسان للإنسان والاستعاضة عنها بالملكية التعاونية أو الملكية العامة للدولة. من هنا، فإن الإصلاح الزراعي الذي يخفض حجم الملكيات الزراعية الكبيرة ويقيد هذه الملكيات من غير أن يلغيها لا يؤلف في معظم الدول الاشتراكية (الشيوعية) سوى مرحلة انتقالية لمرحلة الزراعة الاشتراكية.
وفي الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، وعقب نجاح ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، كان وضع الإنتاج الزراعي مأسوياً عندما أعلن لينين «مرسوم الأرض» الذي يلغي ملكية الأرض الخاصة ومن دون تعويض ويعدها ملكية عامة. وصدرت تعليمات بتوزيع الأرض (حق الانتفاع) مجاناً على الفلاحين لاستغلالها وفقاً لقواعد تناسب واقع كل منطقة. إلا أن تطبيق ذلك في قطاع زراعي أنهكته الحروب الأهلية والخارجية لم يكن سهلاً. واستمر تدهور الإنتاج الزراعي. وأعلن لينين سياسته الاقتصادية الجديدة عام 1921 التي كان لها بعض النتائج الإيجابية، ولكنها نتائج جزئية ومؤقتة. فالإجراءات الاشتراكية، الثورية الصارمة بدأها ستالين عام 1929 بتطبيق برنامج التجميع collectivization الزراعي السريع، الشامل والقسري أحياناً والذي حول في أقل من ثماني سنوات 25 مليون حيازة زراعية صغيرة إلى 240.000 مزرعة جماعية تعاونية (كولخوز Kolkhoz) تغطي مساحة 112 مليون هكتار تمثل 86.5% من مجموع مساحة الأراضي الزراعية آنذاك، و4000 مزرعة حكومية (سوفخوز Sovkhoz) كانت تشغل عام 1938 نحو 9% من مساحة الأراضي المزروعة. وتم دعم ذلك بالقروض الزراعية وبشبكة قوية مكونة من بضعة آلاف من محطات الآلات والجرارات الزراعية.
لقد كان لهذا التحول الجذري والشامل ثمنٌ اجتماعيٌ واقتصاديٌ باهظٌ تجلى في نفي أعداد هائلة من الفلاحين الأغنياء (الكولاك) المناوئين إلى سيبيرية وفي ذبح المواشي وتصفيتها، وفي تعثر الكولخوزات التي عانت في بداية عهدها مشكلات كثيرة. إلا أنه بصرف النظر عن التكاليف والصعوبات، فقد أتاح التنظيم الاشتراكي الجديد تحرير الملايين من فقراء الفلاحين من الاستغلال والفقر والجوع ووفر لهم أوضاعاً اجتماعية وتعليمية وصحية تفضل بكثير ماكانوا عليه من قبل وأرسى قاعدة هائلة للزراعة الاشتراكية، وأخضع القطاع الزراعي للتخطيط الشامل ولسياسة سعرية وضرائبية هادفة سمحت بتعبئة القسم الأكبر من الفائض الزراعي وتوظيفه لخدمة التصنيع. إنه القطاع الزراعي الاشتراكي الذي كان دافع الجزية الأكبر لبرنامج التصنيع الاشتراكي السوفييتي الهائل الذي كان يحتل مكان الصدارة في سياسة التنمية السوفييتية.
ولتجربة جمهورية الصين الشعبية أهمية خاصة، فالثورة الصينية ثورة فلاحية انتقلت إلى الاشتراكية انطلاقاً من مستوى صناعي منخفض، واستطاعت في أقل من ربع قرن إنجاز تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية في ريف كان الإقطاع والتخلف والفقر تؤلف ملامحه الأساسية.
لقد تميز التحويل الاشتراكي للريف الصيني بالتدرج، ففي المرحلة الأولى التي امتدت من 1949-1952 طبق إصلاح زراعي شامل قام الفلاحون بدور أساسي في تنفيذه. وتم توزيع 46.7 مليون هكتار على نحو مليون إنسان، وسيطرت الحيازة الأسرية الزراعية الصغيرة سيطرة كاملة. ووفقاً لإحصاءات 1952، كان في الريف 110 مليون حيازة تستثمر 110 مليون هكتار، أي بمتوسط هكتار واحد للحيازة.
طبيعي أن يتعذر ضمان استغلال فعال ومتطور للأرض في إطار هذه الوحدات الصغيرة فتقرر الانتقال إلى مرحلة الزراعة التعاونية التي طبقت هي نفسها، في المدة 1953-1957 بالتدريج مبتدئة بأبسط أنواع التنظيم التعاوني (فرق المساعدة المتبادلة) مارّة بالتعاونيات الزراعية للمنتجين (نصف اشتراكية إذ يوزع الناتج بين الأعضاء على أساس عمل العضو وحصة من الأرض) ومنتهية بالجمعيات التعاونية الزراعية الاشتراكية.
ولعل أكثر المراحل أهمية وتميزاً هي مرحلة الجماعيات أو الكوميونات الشعبية people’s communes التي أعلن عنها في أيلول 1958. وبعد ذلك بستة أشهر تم دمج 140.000 تعاونية اشتراكية في 24.000 كوميونة (قسمت فيما بعد إلى 74.000 كوميونة تخلصاً من الحجم المفرط في الكبر) ضمت تقريباً سكان الريف الصيني بكاملهم.
إن اتساع منطقة العمل، وتنوع الأنشطة والفعاليات (زراعية، وصناعية، وتجارية، وتعليمية، واجتماعية، وثقافية، وحتى عسكرية) ومركزية الإدارة والتخطيط، والصيغة الجماعية للعمل والإنتاج، وتطبيق مبدأ المساواة بين الأعضاء في توزيع الناتج، تؤلف، هذه كلها، الخصائص الجوهرية المميزة للكوميونة الشعبية التي تعدّ خطوة متقدمة في طريق تطبيق المبدأ المشهور القائل «من كل بحسب إمكاناته ولكل بحسب حاجته». إلا أن هذه الخصائص نفسها هي التي تعرضت في مراحل لاحقة، وتحت ضغط أحوال مختلفة، إلى انتقادات ثم إلى تغييرات متلاحقة تضمنت التخفيف من المركزية وإعادة بعض الاعتبار لحوافز العمل ولمبدأ توزيع الناتج على أساس العمل والجهد.
الإصلاحات الزراعية في الوطن العربي
الخمسينات والستينات هي مرحلة الإصلاح الزراعي الجدي والجذري في عدد من أهم الأقطار العربية. وكان ذلك نتيجة معطيات قومية وسياسية مواتية وتنفيذاً لمبدأ «القضاء على سيطرة الإقطاع..» الذي نادت به وعملت على تطبيقه ثورة 23 يوليو في مصر.
وطبيعي أن تبدأ المرحلة المذكورة بالإصلاح الزراعي الرائد والشامل في ثورة مصر عام 1952، وهو الإصلاح الذي مهد الطريق للإصلاحات الزراعية المهمة في سورية (1958 و1963 و1980) والعراق (1958 و1970) والجزائر (1962 وبعدها) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1968 و1970) وليبية (1970).
وقد رافق معظم الإصلاحات المذكورة وأعقبها اتخاذ تدابير، أو سنّ تشريعات، هدفها تجميع زراعة المحصولات مع الحفاظ على الملكيات الصغيرة، ومنع تفاقم تجزئة الملكيات الصغيرة بفعل قوانين الوراثة والبيع وغيرها، وإقامة التعاونيات والمزارع المسيّرة ذاتياً ومزارع الدولة، وتوفير القروض لصغار المزارعين، وتنظيم العلاقات الزراعية بين مُلاّك الأراضي ومستأجريها، وضمان حقوق العمال الزراعيين، وتنظيم الفلاحين وتوعيتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن القاسم المشترك لتلك الإصلاحات هو تصفية الملكيات التقليدية الكبيرة. لأنها أداة الاستغلال والسيطرة الإقطاعية ولأنها كانت تعاني سلبياتٍ وعيوباً كثيرة تُلخّصُ بما يلي:
ـ الإفراط في الحجم الكبير (فقد تجاوز حجم حيازات بعض الأسر مئة ألف هكتار).
ـ العجز عن تحقيق مزايا الوحدات الإنتاجية الكبيرة ذلك أن الملكية موضوع البحث هي كبيرة فقط (في عائديتها لشخص واحد) أما من الناحية التقنية والإنتاجية فإنها تجزأ إلى قطع صغيرة تستغل كلاً منها أسرة فلاحية.
ـ إمكان الطعن في مشروعية منشئها وفي أساليب الحصول عليها.
ـ غياب أصحابها عنها وهم من الشيوخ والأغوات والأعيان والسياسيين، الذين يندر أن تتوافر فيهم المؤهلات اللازمة لاستغلال زراعي فعال ومتطور.
ـ تخلفها إنتاجياً واقتصادياً بسبب ضعف الاستثمار الإنتاجي ذلك أن معظم الفائض الذي يحصل عليه كبار الملاك كان يكتنز أو يجمد في مزيد من العقارات أو يبدد في استهلاكات طفيلية أو يهرب إلى الخارج.
ـ اتخاذها وسيلة لاستغلال الفلاح اقتصادياً (ريع نقدي أو عيني مرتفع، وفوائد باهظة للديون، وأسعار منخفضة لشراء محصولات المزارعين وغير ذلك) واجتماعياً وسياسياً.
طبيعي والحالة هذه، أن يكون الهدف المحوري لكل إصلاح زراعي جدي هو تصفية هذا النوع من الملكيات، وأن تستبدل به صيغ أكثر كفاية وقدرة وعدلاً.
الإصلاح الزراعي في مصر: كانت أهم خصائص الريف في مصر عشية صدور أول قانون للإصلاح الزراعي في أيلول عام 1952 رقعة زراعية مروية صغيرة محدودة، مساحتها الإجمالية 5.8 مليون فدان (الفدان المصري =4200م2)، وضغط سكاني مرتفع ومتزايد مع سوء توزيع في الأرض نجم عنهما تدهور في نصيب الفرد من الأرض (0.25 فدان للفرد عام 1952) وارتفاع في إيجارها وفي انتشار سوق سوداء ومضاربات، وجيش من الفلاحين حُرموا الأرض والعمل أحياناً، واستغلال إقطاعي بصوره وألوانه المختلفة. في تلك الحقبة، كان في مصر 2.6 مليون مالك صغير (أقل من 5 فدادين للملكية) يؤلفون 94% من مجموع الملاك ويملكون 35% فقط من إجمالي الأرض المزروعة. في الطرف المقابل، كان 6% من الملاك، يملكون المتبقي من الأرض أي 65%. كان 0.5% من كبار الملاك يملكون 34.2% من الأرض الزراعية. إنه «مجتمع النصف بالمئة».
في تلك الأحوال، أصدرت الثورة في مصر، بعد ستة أسابيع فقط من نجاحها، قانون الإصلاح الزراعي الأول ذا الرقم 178 لعام 1952 وحدد سقفاً للملكية قدره 200 فدان للمالك. وفي عام 1961، صدر القانون 127 فخفض السقف إلى 100 فدان، تلاه القانون الثالث ذو الرقم 50 لعام 1969 فخفض السقف من جديد إلى 50 فداناً للمالك و100 فدان للأسرة. وتخلل كل ذلك قوانين إصلاحية أخرى، تضمنت مصادرة أموال الأسرة الملكية وممتلكاتها وتوزيع الأراضي الموقوفة على الفلاحين وحظر تملك الأجانب للأراضي الزراعية.
كانت الحصيلة الإجمالية لتلك القوانين الاستيلاء على نحو 980.000 فدان (نصفها تقريباً يعود لتطبيق القانون 178) وزع نحو 85% منها، قبل نهاية الستينات على نحو 347.000 أسرة تضم أكثر من 1.7 مليون إنسان، ويراوح نصيب الأسرة الواحدة بين 2-5 فدادين. وقد نظم صغار الملاك الجدد في تعاونيات هدفها الأساسي القضاء على استغلال الوسطاء والمرابين وتحقيق التجميع المحصولي وتوفير القروض والمساعدة في تسويق المحصولات.
لقد نفذت قوانين الإصلاح الزراعي في مصر العربية بفاعلية وجدية. فسادت الملكية الزراعية الصغيرة التي أصبحت تشغل منذ منتصف الستينات نحو 57% من الأرض المزروعة في مصر وتحرر الفلاح وقويت دعائم الديمقراطية الاجتماعية. وقد رافق ذلك كله بناء السد العالي والمباشرة باستصلاح مايزيد على 900.000 فدان من الأراضي الجديدة المروية بمياه السد إضافة إلى أراضي الإصلاح الزراعي. فالخمسينات والستينات، كانت بحق مرحلة فقراء الفلاحين الذهبية في ريف مصر وفي غيره من الأرياف العربية.
الإصلاح الزراعي في العراق: إن سوء توزيع الأرض وسوء استغلالها في العراق كانا يؤلفان عشية صدور قانون الإصلاح الزراعي ذي الرقم 30 في 29 أيلول 1958 نموذجاً صارخاً للإقطاع في جشعه وقصوره، وإذا استطاع 6% من ملاك مصر امتلاك 65% من أراضيها المزروعة، ففي العراق كان 2% فقط من الملاك يملكون 68% من أراضيه الزراعية. كان في العراق شخصان تجاوزت حيازة كل منهما مليون دونم عراقي (الدونم العراقي = 2500م2).
تضمن القانون 30 وضع حدٍ أعلى للملكية قدره 1000 دونم في الأراضي المروية ومثلاها في الأراضي المطرية. ونص توزيع الأراضي المستولى عليها على المستحقين بمعدل 30-60 دونم للأسرة في الأراضي المروية أو مثليها في الأراضي المطرية. ويشمل القانون نحو 2400 مالك بلغت مساحة الأراضي الخاضعة للاستيلاء لديهم 11.26 مليون دونم أي نحو 48.7% من إجمالي المساحات المزروعة.
وتعثر تطبيق القانون في السنوات الأولى نتيجة لبعض المشاكل الناجمة عن نقص البيانات وقصور في التخطيط وفي خبرة الأجهزة وغير ذلك من العوامل.
وفي عام 1970 صدر القانون 117 وجعل الحد الأقصى للملكية يُراوح بين 40- 2000 دونم وذلك باختلاف إنتاجية الأرض ومصدر الري، واستثنى من ذلك حدائق أشجار الفاكهة والنخيل تشجيعاً للتشجير وألغى مبدأ دفع التعويضات وقصر ذلك على التحسينات الإنتاجية والمنشآت القائمة. ونص تخصيص الأسرة المنتفعة بالتوزيع بمساحة تراوح بين 4-200 دونم أي مايعادل 10% من المساحة المتروكة للمالك. وأعفى المنتفعين من قيمة الأرض الموزعة وأجاز إقامة مزارع جماعية في بعض الأراضي المستولى عليها وسمح بتوزيع بعض أراضي الاستيلاء على خريجي المعاهد الزراعية.
الإصلاح الزراعي في الجزائر: عشية انتصار الثورة وإعلان الاستقلال كان في الجزائر قطاع زراعي تقليدي فقير يشمل نحو 4 ملايين هكتار، وقطاع زراعي حديث يضم مشروعات وضياع المستعمرين ويشمل نحو 3 ملايين هكتار مخصص معظمها لعنب الخمور والحمضيات والخضراوات.
وبعد مغادرة المستعمرين الأوربيين تولى عمال وفلاحو ذلك القطاع، على نحو يكاد أن يكون تلقائياً، إدارته ذاتياً. وقامت الدولة بمهمة المشجع والداعم بهدف الحفاظ على إنتاجه وإنتاجيته ومنع استيلاء البرجوازية عليه وتحاشي تجزئة مشروعاته وتفتيتها وسعياً وراء الإبقاء على وحدات إنتاج جماعية مسيرة ذاتياً.
وفي عام 1963 صدرت مجموعة من القرارات التنظيمية وبدئ بفرز «الكوادر» المسؤولة وتخصيصها وبتحديد طرائق الإدارة والتمويل وتوزيع الدخل، وتحققت نتائج معقولة. وبوشر بعد ذلك بتطبيق خطط لترشيد الإدارة الذاتية وتعديل التركيب المحصولي، ليكون أكثر ملاءمة للحاجات الوطنية وتكثيف الزراعة وإقامة شبكة ممتازة من تعاونيات التسويق.
وفي أوائل السبعينات جرى التركيز على دعم القطاع التقليدي وتطويره اعتماداً على جزء من الفائض المتحقق من القطاع الحديث: فتمت تصفية ملكيات الملاك الغائبين، وفرضت حدود قصوى على حجم الحيازات، ووزع الفائض على المستأجرين، وأسست أنواع مختلفة من التعاونيات، ودعمت مؤسسات الخدمات.
الإصلاح الزراعي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية: كان القطاع الزراعي في اليمن الجنوبي الأكثر تأثراً بالإجراءات الاشتراكية الجذرية التي طبقت على مراحل بعد استقلال البلاد.
في المرحلة الأولى، صدر قانون للإصلاح الزراعي 1968 ثم قانون آخر عام 1970. وتضمن القانون الأخير وضع سقف للملكية قدره 20 فداناً مروياً أو 40 بعلياً للفرد، ومثلا ذلك للأسرة. ووزعت الأراضي المصادرة وقدرها 126000 فدان على نحو 31000 منتفع.
وفي المرحلة الثانية التي بدأت عام 1972، جرى تعديل جذري لنظام حيازة الأرض واستغلالها بتأميم بعض الملكيات الخاصة وباعتماد مزارع الدولة وتعاونيات الإنتاج والخدمات وحدات إنتاج أساسية. وفي نهاية السبعينات أصبح البنيان الهيكلي للقطاع الزراعي يعتمد على 41 مزرعة دولة تستغل 15% من الأراضي المزروعة وتدعمها 6 محطات لتأجير الآلات الزراعية، و43 تعاونية إنتاجية و19 تعاونية خدمات تغطي مجتمعة 75- 80% من الأراضي المزروعة. أما الملكيات الخاصة، فاقتصرت على المساحات المحدودة المتبقية. ورافق هذه التعديلات الجذرية في نظام الحيازة تأميم «تصنيع المنتجات الزراعية وتسويقها» ووضع حدٍ أدنى للأجور، وتحديد الأسعار، ودعم أسعار مستلزمات الإنتاج والمواد الغذائية الأساسية، وتوفير التعليم والرعاية الصحية مجاناً وغير ذلك.
النتائج الإيجابية كانت واضحة في مجال التطور الاجتماعي، ولاسيما في ميدان التعليم والصحة ومحو الأمية وتحرير المرأة وتحسين الأجور. أما في الإنتاج فكانت النتائج أقل وضوحاً، ذلك أن عقبات جدية اعترضت هذا التحويل الجذري منها مايتعلق بضعف الأراضي وندرة المياه، ومنها مايمكن إرجاعه إلى مركزية التخطيط وتعجله وبيروقراطية الإدارة وضعف الجهاز الفني، إضافة إلى الطبيعة الصعبة والمعقدة أصلاً للتحويل الاشتراكي في القطاع الزراعي وذلك بسبب تخلف هذا القطاع عموماً بالمقارنة مع القطاعات الأخرى (كالصناعة مثلاً) واتساع رقعته، وكثرة عدد منتجيه وعدد حيازاته، وتعقد علاقاته الإنتاجية، وصعوبة مراقبة العمل الزراعي وتنظيمه وتقويمه، وعدم تنظيم الفلاحين وشدة تعلقهم بالأرض بصفتها مصدراً للإنتاج وأساساً للاستقرار وقاعدة متينة للحياة الريفية. وإذا كان تأميم المصانع يحقق مكاسب مباشرة أو غير مباشرة فيما يخص البروليتارية الصناعية التي لم تكن أصلاً تملك شيئاً من هذه المصانع، فإن تأميم الأرض الزراعية بالمقابل يعني في نظر صغار الملاك المستثمرين تجريدهم من وسيلة إنتاجهم الأساسية ومن قاعدة حياتهم الاجتماعية. ولعل في هذا مايفسر، إلى حد كبير، صعوبات التحويلات الاشتراكية الزراعية الجذرية والمتسرعة في الكثير من البلاد.
الإصلاح الزراعي في سورية: إن تمركز الأراضي الزراعية في أيدي فئة قليلة من شيوخ العشائر وكبار الملاك والمتنفذين والمرتزقة كان معروفاً منذ العهد العثماني وعهد الانتداب. واستمر هذا الوضع، بل تفاقم في السنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال بفعل عوامل كثيرة ومتنوعة.
إن البيانات الإحصائية لتلك الحقبة تشير إلى أن الملكيات الكبيرة (أكثر من 100 هكتار) كانت تشغل نحو 49% من المساحات التي تم تحديدها وتحريرها حتى عام 1953 والتي بلغت 2،2 مليون هكتار. ومن إحصاءات ظهرت عام 1959 اتضح أنّ 3240 مالكاً يؤلفون مع أفراد أسرهم أقل من 0.6% من سكان الريف كانوا يملكون ويتصرفون بنحو 2.375.000 هكتار منها 2.143.000 هكتار مستثمر أي ما يعادل 35% من إجمالي الأراضي المستثمرة في تلك الحقبة.
ومن ناحية أخرى، فإن صيغ الاستغلال الزراعي المختلفة التي كانت سائدة في تلك الحقبة، كانت هي الأخرى لا تخلو من العيوب. إذ كان نحو 70% من الأراضي يزرع بوساطة مزارعين بالمشاركة أو بمستأجرين، أي إن «من يملك الأرض لم يكن يزرع ومن يزرع الأرض لم يكن يملك». وكان من نتائج هذه الصيغة البالية خلافات مستمرة واستغلال للفلاح وضعف في الاستثمارات والتحسينات الرأسمالية وانخفاض في الإنتاجية.
في ظل تلك الأحوال، جرت محاولات للإصلاح ولتحديد الملكية الزراعية وحماية الفلاح، ولكنها بقيت جزئية وغير فعالة. وكان ينبغي انتظار عام 1958، عام الوحدة بين القطرين العربيين المصري والسوري، لتوجيه أول ضربة جدية للإقطاع في الإقليم السوري، حيث صدر أول قانون للإصلاح الزراعي برقم 161 وتاريخ 27/9/ 1958 وبوشر بتنفيذه مباشرة بعد صدوره.
وتضمن القانون وضع حد أعلى لملكية المالك قدره 80 هكتاراً في الأراضي المروية أو المشجرة أو 300 هكتار في الأراضي البعلية أو ما يعادل هذه النسب من النوعين. وأجاز للمالك أن ينزل لكل من زوجه وأولاده عن 10 هكتارات مروية أو 30 هكتاراً بعلياً، على ألا يتجاوز مجموع ما ينزل عنه 40 هكتاراً مروياً أو 120 بعلياً.
ونص القانون على توزيع الأراضي المستولى عليها على المستحقين بما لا يزيد على 8 هكتارات مروية أو 30 هكتاراً بعلياً للأسرة على أن يؤدى ثمن الأرض على أقساط موزعة على أربعين عاماً. وأوجب تكوين جمعيات تعاونية من المنتفعين ومن صغار الملاك الآخرين. وقد أنيط أمر تنفيذ القانون بمؤسسة ذات استقلال مالي وإداري، ملحقة برئاسة الجمهورية هي مؤسسة الإصلاح الزراعي.
يؤلف القانون 161 ضربة جدية وحاسمة للإقطاع وللملكية التقليدية الكبيرة ويُعدّ من أهم المكاسب التي حصل عليها الفلاحون، لهذا فقد تعرض منذ صدوره لمقاومة قوى الإقطاع والرجعية التي حاولت إجهاضه وعرقلة تنفيذه بكل السبل. وقد نجحت في ذلك جزئياً ومؤقتاً بعد نكسة الانفصال في أيلول 1961.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن موقف القوى الرجعية والمحافظة، فقد كان للقانون بعض المآخذ الفنية.
لقد وضع سقفاً موحداً للملكية في كل من الأراضي المروية والأراضي البعلية من غير أن يراعي التفاوت الكبير في خصب الأرض وطاقتها الإنتاجية والاقتصادية وموقعها، ومن غير أن يفرق بين ملكية مستغِلة وأخرى غير مستغِلة. ورأى أن حل مشكلة الأرض يكمن في تجزئتها، مع أن هذا لا يناسب كل المناطق، ولاسيما مناطق الزراعة الواسعة الآلية. وفرض ثمناً للأرض الموزعة على فقراء الفلاحين يتجاوز إمكاناتهم ويحد من قدرتهم الاستثمارية الضرورية خاصة في السنوات الأولى لتملكهم.
إن الثغرات المذكورة، ومعها ما كشفه التطبيق العملي من قلة في الأراضي الخاضعة للاستيلاء بالمقارنة مع الأعداد الكبيرة للأسر الفلاحية التي حُرمت الأرض، وإن التعديلات الجذرية الجديدة التي أدخلتها الجمهورية العربية المتحدة عام 1961 على قانون الإصلاح الزراعي الخاص بالإقليم المصري، إن كل ذلك يُعدّ مسوّغات قوية لإعادة النظر بالقانون المذكور.
وقد تم ذلك مباشرة بعد ثورة الثامن من آذار إذ صدر في 23/6/1963 المرسوم التشريعي ذو الرقم 88 الذي أدخل على القانون 161 التعديلات الجوهرية التالية:
ـ خفض الحد الأعلى للملكية من جديد ووضع 13 سقفاً مميزاً بذلك بين المناطق والوضع الزراعي والاقتصادي للأرض. وأصبح السقف في المناطق المروية والبعلية المشجرة يُراوح بين 15 و55 هكتاراً وفي المناطق البعلية بين 80 و200 هكتار، باستثناء محافظات الحسكة ودير الزور والرقة حيث سقف الأراضي البعلية 300 هكتار.
ومنح الحق للمالك بأن ينزل لكل من أزواجه وأولاده بما يعادل 8% من المساحة التي يحق له الاحتفاظ بها.
ـ أعفى المنتفعين من قيمة الأرض الموزعة.
ـ أجاز تطبيق نظام المزارع الجماعية في المناطق التي تستدعي شروط إنتاجها ذلك. إن نتيجة تطبيق الإصلاح الزراعي كانت الاستيلاء على نحو 1.225.000 هكتار من الأراضي المستثمرة، أي خمس الأراضي المستثمرة في سورية، وتم حتى غاية 1969، توزيع 780.000 هكتاراً على 52.500 أسرة من الفلاحين تضم نحو 300.000 فرد وبمعدل وسطي قدره 15 هكتاراً للأسرة الواحدة. وتركت بعض أراضي الاستيلاء من غير توزيع لتكون مزارع دولة.
ويجب أن يضاف إلى ما سبق ما وزع من أراضي أملاك الدولة والأراضي المستصلحة في سهلي الغاب والعشارنة في الستينات والسبعينات. كما تضاف المساحات المخصصة للتوزيع من أراضي الاستيلاء الجديدة الناتجة عن تطبيق المرسوم التشريعي ذي الرقم 31 لعام 1980، والذي خفض السقوف مرة أخرى وجعلها تُراوح بين 15-140 هكتاراً.
إن حصيلة كل ذلك تتجلى في التغيير الجذري الذي تحقق في خريطة توزيع الأرض وصيغ استغلالها. لقد صُفيت الملكية التقليدية الكبيرة وصفيت معها العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعية، إن نصيب الـ0.6% من كبار الملاك الذي كان 35% من إجمالي الأراضي المستثمرة قبل الإصلاح قد انخفض إلى أقل من 15% في أواخر الستينات. وازداد بالمقابل ثقل الملكيات والحيازات الأسرية الصغيرة التي يستغلها أصحابها بأنفسهم. وتقلصت ظاهرة تغيب كبار الملاك كما تقلص التفاوت الصارخ الذي كان قائماً في توزيع الدخول الزراعية.
إن القطاع الزراعي بتنظيمه الهيكلي والحيازي الجديد (وفقاً لإحصاءات 1985) وفيه يشمل القطاع الخاص 64.2% من الأراضي الزراعية المستثمرة والقطاع التعاوني 34.3% والقطاع العام أو مزارع الدولة 1.4%، أصبح موضوعياً وأكثر ملاءمة لتحقيق تنمية ريفية متكاملة، ديناميكية ومتوازنة تجمع بين العدالة والنمو في آن واحد.
النتائج وتقويمها
ما هي نتائج الإصلاح الزراعي فيما يخص الفلاحين (المنتفعين بتوزيع الأراضي وغير المنتفعين)، من حيث عملهم وإنتاجهم ودخلهم وتعليمهم واعتمادهم على أنفسهم وتحررهم وقدرتهم على المبادرة والمشاركة والاختيار واتخاذ القرار؟، ما نتائجه على الملاك؟، ماذا جرى لباقي أبناء الريف وللأراضي الزراعية وللدخل الزراعي العام من حيث قيمته وتوزيعه وتطوره؟، ما الاتجاهات المستقبلية؟.
الحديث عن تقويم نتائج الإصلاح الزراعي كثير، إلا أن تنفيذ التقويم نادراً ما يحدث، لأسباب تتعلق بصعوبة التقويم نفسه، فالإصلاح الزراعي هو أصلاً عملية معقدة متعددة الأبعاد والأهداف والمراحل. ونتائجها أيضاً متنوعة وأحياناً متعارضة. وليس ثمة معايير وأدوات متفق عليها لقياس درجة النجاح أو الإخفاق. فضلاً عن أنه ليس من السهل توافر الموضوعية في التقويم، ذلك أن الإصلاح الزراعي يمس مصالح شرائح واسعة من الناس وهم عموماً منحازون «مع» المشروع أو «عليه». وحتى عند توافر الموضوعية فقد لا تتوافر المعلومات والبيانات لمرحلتي ما قبل الإصلاح وما بعده على نحو يتيح إجراء المقارنة ورصد التطورات.
ومع ذلك، تبقى عملية التقويم ضرورية، وهي ممكنة إذا تم اعتماد بعض المؤشرات الواضحة والمقبولة، من هذه المؤشرات في الميادين الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما يلي:
مجال الإنتاج والاقتصاد: تؤلف الإنتاجية الزراعية أهم المؤشرات وأكثرها دلالة. وهو مؤشر قابل للقياس بدرجة كافية من الدقة والموضوعية. وتجدر الإشارة إلى أنه كلما طالت مدة القياس كانت أكثر تعبيراً ولاسيما في المناطق البعلية.
ومؤشر الدخل أيضاً (دخل الفلاح ودخل المالك والدخل الزراعي العام) على غاية من الأهمية. إلا أنه أكثر صعوبة في تقديره وفي تفسير مدلوله وتأويله.
ولمؤشر العمالة فائدته. وفي هذه الحالة يقوّم تأثير الإصلاح الزراعي على فرص العمالة وعلى البطالة بأنواعها وعلى تشغيل المرأة الريفية والأولاد وعلى تكثيف الزراعة، اعتماداً على استثمار المزيد من وحدات العمل في وحدة المساحة.
هناك مؤشرات أخرى منها مؤشر المساحة المزروعة ومؤشر مشاركة الفلاحين الفعالة في عملية التنمية وغير ذلك.
مجال الاجتماع: قد يكون تقويم النتائج الاجتماعية أكثر صعوبة من تقويم النتائج الاقتصادية، ومؤشر العدالة يؤلف الأساس هنا. وهو ينصبّ بالدرجة الأولى على إبراز أثر الإصلاح الزراعي في تقليص الاحتكار والتخفيف من الفروق الصارخة في توزيع الأرض. ويمكن أيضاً تناول أثر الإصلاح الزراعي في وضع أسس تضمن عدالة توزيع الإنتاج بين مالك الأرض ومستثمرها.
ثم إن عدد الذين حولهم الإصلاح الزراعي من أجراء إلى ملاّك واتجاهات تطور الأحوال التعليمية والصحية والثقافية في الريف، تؤلف كلها مؤشرات اجتماعية أخرى لا يستهان بها.
مجال السياسة: يركز عادة في هذا المجال على قياس درجة انحسار النفوذ، ودرجة التسلط السياسي الإقطاعي وشبه الإقطاعي، ومدى انتشار القاعدة الديمقراطية التي يمكن أن يوفرها الإصلاح الزراعي موضوعياً، عندما ينشر الملكيات الزراعية الأسرية المستقلّة، ومدى انتعاش الممارسة الديمقراطية نفسها عن طريق قياس مدى تطور مشاركة القاعدة العريضة من أبناء الريف في النشاط السياسي (كالانتخابات مثلاً)، ومدى تمثيلهم الجدي والفعلي في مركز اتخاذ القرار السياسي.
وأخيراً، ثمة ملاحظتان مهمتان يجب ذكرهما.
الأولى أنه عندما تكون نتائج تقويم مؤشر ما (كإنتاجية الأرض الزراعية مثلاً) إيجابية أو سلبية لا بد من التساؤل: هل هو الإصلاح الزراعي بالتحديد الذي كان وراء ذلك، أو أن عوامل أخرى كان لها تأثيرها؟ وفي هذه الحالة، هل يمكن عزل هذه العوامل الأخرى عن عامل الإصلاح وتحديد الأثر النسبي لكل منها؟
والثانية أن تقويم نتائج الإصلاح الزراعي لا بد من أن يكون عملية متدرجة ومستمرة لمدة كافية: فهناك تقويم النتائج المباشرة والسريعة نسبياً والمتصلة بالاستيلاء على الأراضي الفائضة وتوزيعها، ثم هناك تقويم النتائج الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه بطبيعتها لا يمكن أن تظهر وتستقر قبل مرور بعض الوقت هو في العادة عدة سنوات.
صلاح وزان
مراجع للاستزادة
ـ صلاح وزان، من التخلف إلى التطور الاشتراكي في القطاع الزراعي (1967).
ـ المؤتمر العالمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية: استعراض وتحليل للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية منذ منتصف الستينات (1979).
-A.T.POSADAF, 15 Years of Frustrated Agrarian Reform (Land Tenure Center, Wisconsin 1977).
-United Nation, Progress in Land Reforms, 6th Report (New York 1976).
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
الإصلاح الزراعي
الإصلاح الزراعي agrarian reform هو مجموعة الإجراءات التشريعية والتنفيذية التي تقوم بها السلطات العامة لإحداث تغييرات إيجابية في الحقوق المتعلقة بالأرض الزراعية من حيث ملكيتها وحيازتها والتصرف بها، لينجم عن هذه التغييرات إلغاء احتكار الأرض الزراعية أو تقليصه وضمان توزيع أكثر عدالة في الثروة والدخول. ويتم ذلك عن طريق وضع حد أعلى للملكية الزراعية الخاصة لا يجوز تخطيه، والاستيلاء على ما يتجاوز هذا الحد من أراض وتوزيعها على فقراء الفلاحين المستحقين وفقاً لشروط وأولويات تختلف باختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية والسكانية والاجتماعية لكل بلد.
والإصلاح الزراعي بهذا المعنى المحدد الأكثر شيوعاً يركز على إصلاح نمط توزيع الأرض land distribution reform، أي على تحقيق العدالة وفتح الطريق أمام تحرير الفلاحين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً من استغلال إقطاعي أو شبه إقطاعي.
وقد يتسع مفهوم الإصلاح الزراعي لا ليركز على تحقيق العدالة فقط وإنما على تحقيق النمو أيضاً. فيشمل في هذه الحالة، إضافة إلى ما سبق، بعض الإجراءات الكفيلة بتنظيم العلاقات الزراعية بين ملاك الأراضي الزراعية ومستأجريها، وتدريب الفلاحين وإرشادهم وتنظيمهم في تعاونيات، وتطوير طرق زراعتهم ووسائلها، وتوفير القروض لهم ومساعدتهم في تسويق المنتجات الزراعية وإقامة وحدات إنتاجية زراعية على أسس جماعية متقدمة، وغير ذلك.
والإصلاح الزراعي قد يكون مرحلة نهائية في حد ذاته، كما هو الحال في الدول غير الاشتراكية، وقد يكون مجرد مرحلة انتقالية تفضي إلى مرحلة أخرى أكثر جذرية تلغى فيها الملكية الخاصة للأرض، كما هو الحال في معظم الدول الاشتراكية (الشيوعية).
المنظور التاريخي
الأرض بمفهومها الطبيعي محدودة المساحة، وهي تؤلف أحد عوامل الإنتاج الأساسية فضلاً عن أنها أداة غنىً وتخزين ثروة، وأنها كانت مصدر جاه اجتماعي ونفوذ سياسي. وتتناسب قيمة الأرض مع ندرتها وتزداد هذه القيمة كلما ازداد ضغط السكان عليها، أي كلما انخفض نصيب الفرد من الأرض الزراعية في المجتمع، وهو ما يؤلف الاتجاه التاريخي العام.
لذلك، كان الحصول على الأرض الزراعية وما يزال مصدراً للتنافس والمنازعات والصراعات بين الأفراد والعشائر والقبائل وبين الفئات المختلفة داخل المجتمع الواحد. وغالباً ما تنتهي هذه الصراعات إلى غالب ومغلوب مع ما يترتب على ذلك من تمركز للأراضي في أيدي فئة وحرمان فئات أخرى منها.
والإصلاح الزراعي بصوره التاريخية المختلفة يهدف عموماً إلى إعادة نوع من التوازن إلى هيكلية التوزيع وإلى إيجاد الشروط التي تساعد على أن يكون للأرض وظيفتها المزدوجة الإنتاجية الاجتماعية في آن واحد.
والإصلاحات الزراعية في التاريخ قديمة ومتنوعة من حيث أغراضها ومراميها. ولا يتسع المجال هنا لأكثر من الإشارة إلى بعض النماذج المهمة منها. ولعل الإصلاح الزراعي الذي قام به سولون Solon ثم بيزيستراتوس Peisistratus في القرن السادس قبل الميلاد في أثينة القديمة يعد من أقدم الإصلاحات المعروفة. وتضمن القانون الذي أصدره سولون إلغاء ديون الفلاحين وفك أراضيهم المرهونة وتحريرهم من «عمل المسادسة» لدى المقرضين، أي تقديم العمل لقاء سدس الإنتاج للفلاح وخمسة أسداسه للمقرض. ولدى تسلّم بيزيستراتوس السلطة عقب ثورة 561ق.م، استمر بالإصلاح ودعمه ووزع أراضي خصومه على صغار الحائزين ووفر لهم القروض ومنع الهجرة من الريف إلى المدينة. لقد ساعد إصلاح بيزيستراتوس على استقرار الأوضاع السياسية وضمن بقاءه في السلطة مدى الحياة، إلا أن النتائج الاقتصادية بقيت غير واضحة.
في رومه القديمة وفي المرحلة 133- 121ق.م، أصدر تيبريوس (طيبريوس) Tiberius قانوناً للإصلاح الزراعي تضمن وضع سقف للحيازة لا يجوز تجاوزه. وكان هدف القانون من ذلك استرداد الأراضي العامة التي اغتصبها كبار الملاك وأهملوا استغلالها بغية إعادة توزيعها على صغار المزارعين والمحرومين. إلا أن تيبريوس قتل وانتخب أخوه غايوس Gaius بعد نحو عقد من الزمن، ونفذ إصلاحاً أكثر جذرية إلا أنه قتل أيضاً وعادت الفوضى وعادت من جديد ظاهرة تمركز الأرض واحتكارها.
ومشكلة ملكية الأرض وحيازتها وأسلوب استغلالها كانت تحتل أهمية كبيرة في عهد الفتوحات العربية الإسلامية. فعندما فتح المسلمون العراق والشام ومصر اختلف الصحابة في الأراضي الزراعية في تلك البلاد: أيقسمونها على الفاتحين أو يتركونها بأيدي أصحابها؟ واستقر الرأي على إبقاء الأرض تحت تصرف أصحابها الذين يزرعونها على أن تكون رقبتها للدولة، أي عُدَّت الأرض ملكاً للدولة وعد زارعوها حائزين لها على أن يدفعوا للدولة لقاء ذلك بدل إيجار أو ضريبة العشر أو الخراج. إلا أن المسلمين نهجوا في الأندلس نهجاً مختلفاً، وقسموا أراضي الإقطاعات الكبيرة على فلاحيها المحرومين. وبهذا الصدد يذكر المستشرق دوزي: «لقد أنقذ الإسلام الطبقات الدنيا من المسيحيين العبيد وأقنان الأرض من العبودية والظلم وحررهم من سلطة الإقطاعيين الأقوياء.. ووزعت الأراضي المصادرة بين عدد كبير من أفراد هذه الطبقات المستغلة المظلومة».
في العصور الحديثة نسبياً طبق الإصلاح الزراعي الفرنسي بعد نجاح الثورة مباشرة (1789) فأعتقت الأقنان وألغيت الإقطاعات وجعلت المزرعة الأُسريّة الصغيرة المستقلة أساساً للديمقراطية، وكان إشعاع ذلك عظيماً على الدول الأخرى.
وفي الدنمرك، كانت مرحلة 1786-1813 مرحلة الإصلاحات الزراعية السعيدة والذهبية فقد تحول 60% من فلاحي الدنمرك إلى ملاك. وبعد ثورة 1848 تم تحرير الفلاحين في كل من ألمانية وإيطالية وإسبانية ووزعت عليهم الأراضي. وفي روسية عد قانون عتق الأرقاء عام 1861 نقطة تحول بارزة، وعبارة القيصر ألكسندر الثاني شهيرة بهذا الصدد: «إن إلغاء الرق من قبلنا خير من انتظار اليوم الذي يقوم فيه الأرقاء أنفسهم بذلك». وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر طبقت بعض بلدان أوربة الشرقية نماذج مختلفة من الإصلاحات الزراعية، تحولت فيما بعد الحرب العالمية الثانية إلى تحولات زراعية اشتراكية جذرية. وفي أمريكة اللاتينية، يعدّ الإصلاح الزراعي المكسيكي الشهير الذي بدأ عام 1915 وامتد تطبيقه على مدى ثلاثين عاماً، وشمل مساحة 30 مليون هكتارٍ من الأراضي (ربع المساحة الصالحة للزراعة في البلاد) من أهم إنجازات الثورة المكسيكية.
والمرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت نشطة وغنية بالإصلاحات الزراعية التي كان لها بمعظمها هدف مزدوج: العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. ويشار بهذا الصدد إلى الإصلاحات الزراعية في: يوغوسلافية 1945، واليابان 1946، وجمهورية الصين الشعبية 1949، وإيطالية 1950، ومصر 1952، وفييتنام الشمالية 1955، وسورية 1958، والعراق 1958، وكوبة 1959، والهند وإيران في الخمسينيات والستينيات، وكوستاريكة 1961، والجزائر 1962، وتشيلي 1965، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1968، وإثيوبية 1974، وأفغانستان 1977.
وهكذا، فإن الإصلاح الزراعي بوصفه سياسةً اجتماعيةً، أخذت به وطبقته دول كثيرة قارب عددها المئة. ومع ذلك، فإن المؤتمر العالمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية WCARRD، الذي انعقد في رومة في تموز 1979 والذي حضرته 143 دولة، أعاد التأكيد مجدداً أن الإصلاح الزراعي يؤلف عنصراً حاسماً لا غنى عنه للتنمية الريفية وأوصى الحكومات التي ما تزال تحتاج إلى إعادة تنظيم حيازة أراضيها بأن تقوم بذلك بسرعة وحزم وأن تتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع إعادة ظهور أنماط جديدة من تمركز الأراضي والموارد لقطع الطريق على الاستغلال.
المسوِّغات والأهداف
قد تختلف مسوغات الإصلاح الزراعي وأهدافه من بلد إلى آخر وفقاً للأحوال والحقائق التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد المعني، ووفقاً لانتماءات السلطة الحاكمة فيه واختياراتها ومقدرتها. ومع ذلك يمكن القول، من الناحية العامة والمبدئية، إن للإصلاح الزراعي مسوِّغات يمكن وضع أهمها في المجالات الثلاثة التالية:
في السياسة تذكر المسوِّغات والأهداف التالية:
ـ تصفية الإقطاع بما له من امتيازات وسلطة ونفوذ وهو أهم الأهداف.
ـ تحرير الفلاحين من التسلط والاستغلال وتنشيط دورهم السياسي.
ـ تهيئة الشروط الموضوعية (بتوزيع الأرض على الفلاحين) للممارسة الديمقراطية وهذا هدف معلن نادراً ما يطبق.
وتجدر الإشارة إلى أن الهدف السياسي للإصلاح الزراعي قد يكون امتصاص نقمة عارمة أو إجهاض ثورة فلاحية جذرية.
و«الإصلاح» هنا قد لا ينفذ نتيجة للضغوط الداخلية فقط وإنما نتيجة لضغوط خارجية أيضاً، مثل الإصلاح الزراعي في تايوان (1949ـ 1953) والإصلاح الزراعي في فييتنام الجنوبية (1955).
وفي الاقتصاد يذكر:
ـ تصفية الاستغلال الإقطاعي.
ـ توجيه الفائض الزراعي نحو الاستثمار المنتج.
ـ تصفية ملكيات الملاك الغائبين، وهي مهملة وضعيفة الإنتاج.
ـ تحسين الإنتاجية الزراعية وتكثيف الزراعة وزيادة الإنتاج. وتساعد على ذلك الحوافز الجديدة لدى الفلاح الذي أصبح مالكاً، وزيادة إمكاناته على الاستثمار لتخلصه من الريع، كما يساعد عليه احتمال زيادة المالك المشمول بالإصلاح لاستثماراته في الأراضي المحدودة نسبياً التي احتفظ بها لتعويض ما خسره من أراض شاسعة.
ـ تحسين دخل الفلاح والدخل الزراعي عموماً.
وفي المجال الاجتماعي يذكر:
ـ تحقيق توزيع أكثر عدالة للأرض وللأصول الإنتاجية الأخرى، مع ما يترتب على ذلك من تخفيف للتفاوت الصارخ في توزيع الدخول الزراعية.
ـ إيجاد فرص عمل جديدة.
ـ تحسين الخدمات التعليمية والصحية وغيرها ... ولاسيما في المناطق المحرومة التي هي أكثر حاجة إليها.
نماذج من الإصلاح الزراعي
في عالمنا المعاصر، تبنت كثير من الدول الإصلاح الزراعي أسلوباً لتحقيق العدالة والنمو في الريف. والمبدأ الجوهري الذي حكم الإصلاحات الزراعية في الدول غير الاشتراكية تجلى في وضع حد أقصى للملكية الخاصة لا يجوز تجاوزه والاستيلاء على الأراضي الفائضة عن هذا الحد تمهيداً لتوزيعها على المستحقين من أبناء الريف.
أما في الدول الاشتراكية (الشيوعية ) فالمبدأ يختلف، والهدف النهائي هو إلغاء الملكية الخاصة وعدّ الأرض ملكاً عاماً للمجتمع كما سيأتي فيما بعد.
والحد الأقصى للملكية الخاصة يختلف من بلد إلى آخر (وقد يختلف داخل البلد الواحد) تبعاً لعوامل كثيرة أهمها الضغط السكاني على الأرض الزراعية، وخصب الأرض وإنتاجيتها، ونظام الاستغلال الزراعي، وعدد المحرومين من الأرض ونسبتهم، ومستوى دخل الفرد، ومدى نفوذ طبقة الملاك، وأهداف السلطة السياسية وتطلعاتها.
فالحد الأقصى للملكية هو في اليابان 3 هكتارات وفي تركية 500 هكتار. ويختلف في الهند من ولاية إلى أخرى. وهو في يوغوسلافية (سابقاً) 45 هكتاراً للملكيات المستغلة مباشرة من قبل أصحابها و35 هكتاراً للملكيات التي تؤجر للغير. وفي بعض مناطق إيطالية ثمة علاقة طردية بين سقف الملكية وحسن استغلالها.
ومسألة التعويض عن الأراضي المستولى عليها هي مسألة سياسية ـ اقتصادية حساسة ومعقدة، وتراوح بين المصادرة أي الاستيلاء من غير تعويض والتعويض شبه الكامل. ويرتبط التعويض أحياناً بحجم الملكية إذ يقل التعويض عن الهكتار كلما كبرت الملكية، وبقانونية نشوئها وكيفية استغلالها وكثافة الاستثمارات الرأسمالية فيها (تقصر بعض الدول دفع التعويضات على التحسينات والمنشآت الإنتاجية)، وبموقف كبار الملاك والوضع الاقتصادي في البلد ونحو ذلك. وتختلف طرائق تقدير التعويض الذي قد يحسب على أساس الضريبة على الأرض (تركية، وألمانية الغربية سابقاً) أو قيمتها الإيجارية (مصر) أو دخلها (يوغوسلافية) أو قيمتها السوقية (اليابان). وتكتفي بعض الدول بدفع قيمة اسمية للأراضي المستولى عليها أو بإعطاء الملاك أسهماً في شركات عامة، في حين تأخذ دول أخرى بنظام التعويض بأسناد حكومية لآجال طويلة (20-40 سنة)، والهدف من ذلك هو منع حدوث التضخم أو تهريب الأموال.
وتوزع الأراضي المستولى عليها طبقاً لشروط خاصة وأولويات تختلف وفقاً لأحوال كل دولة. والمستفيدون من التوزيع هم الفلاحون والعمال الزراعيون المعدمون. وتعطى الأولوية لمن كان يزرع الأرض فعلاً (لمستأجرها) من أهل القرية أو المنطقة وللأسر التي هي أكثر عدداً وأكثر حاجة وخبرة. وقد توزع بعض الأراضي على خريجي المعاهد الزراعية لتكون واحات إنتاجية وإرشادية في آن واحد.
وتختلف المساحة التي تخصص للأسرة وفقاً لعوامل كثيرة منها: مساحات الأراضي الزراعية المتاحة للتوزيع، وعدد الأسر التي تتوافر فيها شروط التوزيع، وعدد أفراد الأسرة، وإنتاجية الأرض ومردودها الاقتصادي، ومستوى الدخل وأحوال العمالة في القطاعات غير الزراعية، وسياسة الدولة الاقتصادية والاجتماعية، ومن أمثلة ذلك أن المساحة التي وزعت على الأسرة بلغت بالمتوسط هكتاراً واحداً في مصر وهكتارين مرويين أو 10 بعلية في إيران و5 هكتارات في كل من إيطالية وتركية و8-15 هكتاراً مروياً أو ضعفها بعلياً في العراق. وفي تشيكوسلوفاكية (سابقاً) منحت الأسرة 5 هكتارات في مناطق الشوندر أو 8 هكتارات في مناطق الحبوب أو 15 هكتاراً في مناطق المراعي.
ويجري توزيع الأرض مجاناً في بعض الدول ولقاء قيمة رمزية أو حقيقية في دول أخرى. وفي هذه الحالة الأخيرة، يراعى في طريقة الدفع أن تتناسب الأقساط مع قدرة المنتفع المادية المحدودة، ولاسيما في السنوات الأولى التي تعقب عملية التوزيع.
وتنص بعض قوانين الإصلاح الزراعي على التزامات المالك الجديدة التي من أهمها ضرورة قيامه بزراعة أرضه بنفسه مع أفراد أسرته واستغلالها على أفضل وجه وعدم التصرف بها تحت طائلة سحبها منه ثانية. ويمكن إعفاؤه من هذه الالتزامات بعد مضي مدة كافية (10-20سنة). وتنص معظم القوانين على ضرورة أن يقوم المنتفعون الجدد، بالاشتراك مع صغار الملاك في المنطقة بتأليف الجمعيات التعاونية.
نماذج من الدول الرأسمالية: اليابان وإيطالية من الدول الرأسمالية المتطورة القليلة التي طبقت إصلاحات زراعية حديثة نسبياً.
فاليابان، في الحرب العالمية الثانية، كانت تعاني نقصاً غذائياً مرهقاً واحتكاراً للأرض متفاقماً من قبل المضاربين والمقرضين والملاك الغائبين absentee landlords وضغطاً سكانياً متزايداً على أرض محدودة. وكان من نتيجة ذلك أن بلغ ريع الأرض وسطياً 48% من قيمة إنتاجها عام 1943 إذ كان ثلثا الأراضي الزراعية في اليابان يستثمران من قبل صغار المستأجرين.
في عام 1946، صدر قانون للإصلاح الزراعي وكان هدفه الأساسي تحويل صغار المستأجرين إلى ملاك. وتضمن وضع سقف للملكية الخاصة قدره 3 هكتارات والاستيلاء على الأراضي الفائضة لقاء تعويض على أن يعاد بيعها إلى صغار المزارعين المستأجرين لقاء ثمن يسدد تقسيطاً على سنوات. في الأراضي التي لم يشملها القانون وضع «سقف للريع» لا يجوز تجاوزه قدره 25% من إنتاج الأرض. وقد عزز تطبيق الإصلاح بتأسيس تعاونيات للتسويق والإقراض بإقامة نظام للإدارة المحلية القروية. وظهرت نتائج القانون سريعاً وأهمها: انخفاض الأراضي المؤجرة بنسبة 80%، وانتشار الملكية الأسرية الصغيرة وإرساخ قاعدة الديمقراطية، وتحسين إنتاجية الأرض وتقليص الفروق في الدخول، وتطور عقلية المزارع الصغير الذي أصبح مستقلاً ومسؤولاً فاندمج في النشاط الاقتصادي والسياسي وبدأ باتخاذ المبادرات وبالإقبال على القراءة والتعليم والتثقف وباعتماد العقل والمهارة وسيلة أولى للتقدم.
وفي إيطالية، صدر عام 1950 قانونان للإصلاح الزراعي خاصان بالمناطق الزراعية ذات الاستثمارات الضئيلة والإنتاجية المنخفضة في وسط إيطالية وجنوبيها. وضع قانون سيلا Sila سقفاً للملكية قدره 300 هكتار واستثنى من ذلك الملكيات الزراعية المستغلة استغلالاً ممتازاً. أما قانون سترالشيو Stralcio فقد تضمن سقفاً متحركاً للملكية يرتفع مع ارتفاع درجة جودة استغلال الأرض وبالعكس. وتنفيذاً لهذا القانون، وصلت نسبة الاستيلاء في بعض المزارع المهملة إلى 90% من مجمل أراضيها، في حين استثنيت مزارع أخرى من الاستيلاء بسبب حسن استغلالها وتوفير شروط عمل ممتازة للعاملين فيها.
لقد حقق الإصلاح الزراعي هدفه الإنتاجي في معظم الأراضي التي شملها (750.000 هكتار)، فرفع معدلات الإنتاج وأسهم في تحقيق التوازن في توزيع الملكيات الزراعية، وفي تحسين المستوى الاجتماعي للمنتفعين الذين كانوا بمعظمهم من العمال الزراعيين العاملين في المزارع المستولى عليها، فقد تم توزيع 5 هكتارات وسطياً للأسرة الواحدة لقاء ثمن معتدل ومقسط.
نماذج من بعض دول العالم الثالث: في أرياف دول أمريكة اللاتينية، تزايد كبير ومتسارع في السكان وسوء في توزيعهم وفي توزيع الأرض عليهم. فالضياع الكبيرة الواسعة بملاكها الغائبين ليس فيها إلا القليل من الأيدي العاملة، وهي خاضعة ومُستغلَّة. وبالمقابل، يتمركز الفلاحون بكثافة في المزارع الصغيرة. ومع تزايد الازدحام تزدهر الهجرة إلى الأحياء الفقيرة في المدن. لقد لخص أحدهم مشاكل الأرض وحيازتها في أمريكة اللاتينية بقوله «فلاحون بلا أرض وأرض بلا فلاحين».
وعلى الرغم من تلك الأحوال، فإن الإصلاحات الزراعية في أمريكة اللاتينية تُعدّ، باستثناء الإصلاح الزراعي في المكسيك، حديثة العهد نسبياً، وتتفاوت في أهدافها وجدية تنفيذها ونتائجها. واقتصر بعضها، كما في البرازيل عام 1964، على فرض ضرائب تصاعدية على الأراضي المهملة وأراضي الضياع الواسعة. وحاول بعضها الآخر وضع حد للملكيات المهملة ولأراضي الملاك الغائبين وتوزيع الأراضي الفائضة على الفلاحين، إلا أن معوقات كثيرة عطلت تنفيذ ذلك، ويستثنى من هذا البيرو وتشيلي إذ حققت برامج الإصلاح فيها نجاحاً نسبياً.
ففي تشيلي مثلاً، تم اختيار الذين ستوزع عليهم الأراضي تنفيذاً للإصلاح الزراعي لعام 1965 وفقاً لمعايير محددة ونُظموا في مجموعات صغيرة تولت كل منها زراعة الأرض التي خصصت لها لمرحلة انتقالية (3-5 سنوات) جرى في أثنائها تدريب المنتفعين الجدد واختبارهم وفرزهم إذ وزعت الأرض نهائياً على أولئك الذين أثبتوا جدارة كافية. وفي نهاية 1969، بلغ عدد الأسر المستفيدة (15.000) أسرة تم توطينها في مساحة نحو مليوني فدان.
والاتجاه لإصلاح هيكل الملكية والحيازة الزراعية، ولمراقبة الإيجارات الزراعية وإلغاء الوسطاء والمضاربين في الريف ظهر في كثير من دول إفريقية وآسيا، ولاسيما في جنوب شرقي آسيا، حيث الضغط السكاني على الأرض يبلغ أشده مما يجعل نصيب الفرد من الأرض الزراعية ضئيلاً للغاية ومستمراً في التناقص، مع مايترتب على ذلك من فقر نسبي ومطلق يصل أحياناً إلى حد البؤس. هنا أيضاً تنتشر في الكثير من الدول ظاهرة الملاك الغائبين وسوء استغلال الأرض وتوزيعها وعدم استقرار الملكية والحيازة وغير ذلك. وقد جرت وما تزال تجري محاولات، تختلف في مدى جديتها وفاعليتها، للتصدي لهذه المشكلات.
نماذج من الدول الاشتراكية: تنادي النظرية الماركسية، كما هو معروف، بإلغاء الملكية الخاصة للأرض (ولوسائل الإنتاج الرئيسة الأخرى)، لأنها تؤلف وسيلة استغلال الإنسان للإنسان والاستعاضة عنها بالملكية التعاونية أو الملكية العامة للدولة. من هنا، فإن الإصلاح الزراعي الذي يخفض حجم الملكيات الزراعية الكبيرة ويقيد هذه الملكيات من غير أن يلغيها لا يؤلف في معظم الدول الاشتراكية (الشيوعية) سوى مرحلة انتقالية لمرحلة الزراعة الاشتراكية.
وفي الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، وعقب نجاح ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، كان وضع الإنتاج الزراعي مأسوياً عندما أعلن لينين «مرسوم الأرض» الذي يلغي ملكية الأرض الخاصة ومن دون تعويض ويعدها ملكية عامة. وصدرت تعليمات بتوزيع الأرض (حق الانتفاع) مجاناً على الفلاحين لاستغلالها وفقاً لقواعد تناسب واقع كل منطقة. إلا أن تطبيق ذلك في قطاع زراعي أنهكته الحروب الأهلية والخارجية لم يكن سهلاً. واستمر تدهور الإنتاج الزراعي. وأعلن لينين سياسته الاقتصادية الجديدة عام 1921 التي كان لها بعض النتائج الإيجابية، ولكنها نتائج جزئية ومؤقتة. فالإجراءات الاشتراكية، الثورية الصارمة بدأها ستالين عام 1929 بتطبيق برنامج التجميع collectivization الزراعي السريع، الشامل والقسري أحياناً والذي حول في أقل من ثماني سنوات 25 مليون حيازة زراعية صغيرة إلى 240.000 مزرعة جماعية تعاونية (كولخوز Kolkhoz) تغطي مساحة 112 مليون هكتار تمثل 86.5% من مجموع مساحة الأراضي الزراعية آنذاك، و4000 مزرعة حكومية (سوفخوز Sovkhoz) كانت تشغل عام 1938 نحو 9% من مساحة الأراضي المزروعة. وتم دعم ذلك بالقروض الزراعية وبشبكة قوية مكونة من بضعة آلاف من محطات الآلات والجرارات الزراعية.
لقد كان لهذا التحول الجذري والشامل ثمنٌ اجتماعيٌ واقتصاديٌ باهظٌ تجلى في نفي أعداد هائلة من الفلاحين الأغنياء (الكولاك) المناوئين إلى سيبيرية وفي ذبح المواشي وتصفيتها، وفي تعثر الكولخوزات التي عانت في بداية عهدها مشكلات كثيرة. إلا أنه بصرف النظر عن التكاليف والصعوبات، فقد أتاح التنظيم الاشتراكي الجديد تحرير الملايين من فقراء الفلاحين من الاستغلال والفقر والجوع ووفر لهم أوضاعاً اجتماعية وتعليمية وصحية تفضل بكثير ماكانوا عليه من قبل وأرسى قاعدة هائلة للزراعة الاشتراكية، وأخضع القطاع الزراعي للتخطيط الشامل ولسياسة سعرية وضرائبية هادفة سمحت بتعبئة القسم الأكبر من الفائض الزراعي وتوظيفه لخدمة التصنيع. إنه القطاع الزراعي الاشتراكي الذي كان دافع الجزية الأكبر لبرنامج التصنيع الاشتراكي السوفييتي الهائل الذي كان يحتل مكان الصدارة في سياسة التنمية السوفييتية.
ولتجربة جمهورية الصين الشعبية أهمية خاصة، فالثورة الصينية ثورة فلاحية انتقلت إلى الاشتراكية انطلاقاً من مستوى صناعي منخفض، واستطاعت في أقل من ربع قرن إنجاز تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية في ريف كان الإقطاع والتخلف والفقر تؤلف ملامحه الأساسية.
لقد تميز التحويل الاشتراكي للريف الصيني بالتدرج، ففي المرحلة الأولى التي امتدت من 1949-1952 طبق إصلاح زراعي شامل قام الفلاحون بدور أساسي في تنفيذه. وتم توزيع 46.7 مليون هكتار على نحو مليون إنسان، وسيطرت الحيازة الأسرية الزراعية الصغيرة سيطرة كاملة. ووفقاً لإحصاءات 1952، كان في الريف 110 مليون حيازة تستثمر 110 مليون هكتار، أي بمتوسط هكتار واحد للحيازة.
طبيعي أن يتعذر ضمان استغلال فعال ومتطور للأرض في إطار هذه الوحدات الصغيرة فتقرر الانتقال إلى مرحلة الزراعة التعاونية التي طبقت هي نفسها، في المدة 1953-1957 بالتدريج مبتدئة بأبسط أنواع التنظيم التعاوني (فرق المساعدة المتبادلة) مارّة بالتعاونيات الزراعية للمنتجين (نصف اشتراكية إذ يوزع الناتج بين الأعضاء على أساس عمل العضو وحصة من الأرض) ومنتهية بالجمعيات التعاونية الزراعية الاشتراكية.
ولعل أكثر المراحل أهمية وتميزاً هي مرحلة الجماعيات أو الكوميونات الشعبية people’s communes التي أعلن عنها في أيلول 1958. وبعد ذلك بستة أشهر تم دمج 140.000 تعاونية اشتراكية في 24.000 كوميونة (قسمت فيما بعد إلى 74.000 كوميونة تخلصاً من الحجم المفرط في الكبر) ضمت تقريباً سكان الريف الصيني بكاملهم.
إن اتساع منطقة العمل، وتنوع الأنشطة والفعاليات (زراعية، وصناعية، وتجارية، وتعليمية، واجتماعية، وثقافية، وحتى عسكرية) ومركزية الإدارة والتخطيط، والصيغة الجماعية للعمل والإنتاج، وتطبيق مبدأ المساواة بين الأعضاء في توزيع الناتج، تؤلف، هذه كلها، الخصائص الجوهرية المميزة للكوميونة الشعبية التي تعدّ خطوة متقدمة في طريق تطبيق المبدأ المشهور القائل «من كل بحسب إمكاناته ولكل بحسب حاجته». إلا أن هذه الخصائص نفسها هي التي تعرضت في مراحل لاحقة، وتحت ضغط أحوال مختلفة، إلى انتقادات ثم إلى تغييرات متلاحقة تضمنت التخفيف من المركزية وإعادة بعض الاعتبار لحوافز العمل ولمبدأ توزيع الناتج على أساس العمل والجهد.
الإصلاحات الزراعية في الوطن العربي
الخمسينات والستينات هي مرحلة الإصلاح الزراعي الجدي والجذري في عدد من أهم الأقطار العربية. وكان ذلك نتيجة معطيات قومية وسياسية مواتية وتنفيذاً لمبدأ «القضاء على سيطرة الإقطاع..» الذي نادت به وعملت على تطبيقه ثورة 23 يوليو في مصر.
وطبيعي أن تبدأ المرحلة المذكورة بالإصلاح الزراعي الرائد والشامل في ثورة مصر عام 1952، وهو الإصلاح الذي مهد الطريق للإصلاحات الزراعية المهمة في سورية (1958 و1963 و1980) والعراق (1958 و1970) والجزائر (1962 وبعدها) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1968 و1970) وليبية (1970).
وقد رافق معظم الإصلاحات المذكورة وأعقبها اتخاذ تدابير، أو سنّ تشريعات، هدفها تجميع زراعة المحصولات مع الحفاظ على الملكيات الصغيرة، ومنع تفاقم تجزئة الملكيات الصغيرة بفعل قوانين الوراثة والبيع وغيرها، وإقامة التعاونيات والمزارع المسيّرة ذاتياً ومزارع الدولة، وتوفير القروض لصغار المزارعين، وتنظيم العلاقات الزراعية بين مُلاّك الأراضي ومستأجريها، وضمان حقوق العمال الزراعيين، وتنظيم الفلاحين وتوعيتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن القاسم المشترك لتلك الإصلاحات هو تصفية الملكيات التقليدية الكبيرة. لأنها أداة الاستغلال والسيطرة الإقطاعية ولأنها كانت تعاني سلبياتٍ وعيوباً كثيرة تُلخّصُ بما يلي:
ـ الإفراط في الحجم الكبير (فقد تجاوز حجم حيازات بعض الأسر مئة ألف هكتار).
ـ العجز عن تحقيق مزايا الوحدات الإنتاجية الكبيرة ذلك أن الملكية موضوع البحث هي كبيرة فقط (في عائديتها لشخص واحد) أما من الناحية التقنية والإنتاجية فإنها تجزأ إلى قطع صغيرة تستغل كلاً منها أسرة فلاحية.
ـ إمكان الطعن في مشروعية منشئها وفي أساليب الحصول عليها.
ـ غياب أصحابها عنها وهم من الشيوخ والأغوات والأعيان والسياسيين، الذين يندر أن تتوافر فيهم المؤهلات اللازمة لاستغلال زراعي فعال ومتطور.
ـ تخلفها إنتاجياً واقتصادياً بسبب ضعف الاستثمار الإنتاجي ذلك أن معظم الفائض الذي يحصل عليه كبار الملاك كان يكتنز أو يجمد في مزيد من العقارات أو يبدد في استهلاكات طفيلية أو يهرب إلى الخارج.
ـ اتخاذها وسيلة لاستغلال الفلاح اقتصادياً (ريع نقدي أو عيني مرتفع، وفوائد باهظة للديون، وأسعار منخفضة لشراء محصولات المزارعين وغير ذلك) واجتماعياً وسياسياً.
طبيعي والحالة هذه، أن يكون الهدف المحوري لكل إصلاح زراعي جدي هو تصفية هذا النوع من الملكيات، وأن تستبدل به صيغ أكثر كفاية وقدرة وعدلاً.
الإصلاح الزراعي في مصر: كانت أهم خصائص الريف في مصر عشية صدور أول قانون للإصلاح الزراعي في أيلول عام 1952 رقعة زراعية مروية صغيرة محدودة، مساحتها الإجمالية 5.8 مليون فدان (الفدان المصري =4200م2)، وضغط سكاني مرتفع ومتزايد مع سوء توزيع في الأرض نجم عنهما تدهور في نصيب الفرد من الأرض (0.25 فدان للفرد عام 1952) وارتفاع في إيجارها وفي انتشار سوق سوداء ومضاربات، وجيش من الفلاحين حُرموا الأرض والعمل أحياناً، واستغلال إقطاعي بصوره وألوانه المختلفة. في تلك الحقبة، كان في مصر 2.6 مليون مالك صغير (أقل من 5 فدادين للملكية) يؤلفون 94% من مجموع الملاك ويملكون 35% فقط من إجمالي الأرض المزروعة. في الطرف المقابل، كان 6% من الملاك، يملكون المتبقي من الأرض أي 65%. كان 0.5% من كبار الملاك يملكون 34.2% من الأرض الزراعية. إنه «مجتمع النصف بالمئة».
في تلك الأحوال، أصدرت الثورة في مصر، بعد ستة أسابيع فقط من نجاحها، قانون الإصلاح الزراعي الأول ذا الرقم 178 لعام 1952 وحدد سقفاً للملكية قدره 200 فدان للمالك. وفي عام 1961، صدر القانون 127 فخفض السقف إلى 100 فدان، تلاه القانون الثالث ذو الرقم 50 لعام 1969 فخفض السقف من جديد إلى 50 فداناً للمالك و100 فدان للأسرة. وتخلل كل ذلك قوانين إصلاحية أخرى، تضمنت مصادرة أموال الأسرة الملكية وممتلكاتها وتوزيع الأراضي الموقوفة على الفلاحين وحظر تملك الأجانب للأراضي الزراعية.
كانت الحصيلة الإجمالية لتلك القوانين الاستيلاء على نحو 980.000 فدان (نصفها تقريباً يعود لتطبيق القانون 178) وزع نحو 85% منها، قبل نهاية الستينات على نحو 347.000 أسرة تضم أكثر من 1.7 مليون إنسان، ويراوح نصيب الأسرة الواحدة بين 2-5 فدادين. وقد نظم صغار الملاك الجدد في تعاونيات هدفها الأساسي القضاء على استغلال الوسطاء والمرابين وتحقيق التجميع المحصولي وتوفير القروض والمساعدة في تسويق المحصولات.
لقد نفذت قوانين الإصلاح الزراعي في مصر العربية بفاعلية وجدية. فسادت الملكية الزراعية الصغيرة التي أصبحت تشغل منذ منتصف الستينات نحو 57% من الأرض المزروعة في مصر وتحرر الفلاح وقويت دعائم الديمقراطية الاجتماعية. وقد رافق ذلك كله بناء السد العالي والمباشرة باستصلاح مايزيد على 900.000 فدان من الأراضي الجديدة المروية بمياه السد إضافة إلى أراضي الإصلاح الزراعي. فالخمسينات والستينات، كانت بحق مرحلة فقراء الفلاحين الذهبية في ريف مصر وفي غيره من الأرياف العربية.
الإصلاح الزراعي في العراق: إن سوء توزيع الأرض وسوء استغلالها في العراق كانا يؤلفان عشية صدور قانون الإصلاح الزراعي ذي الرقم 30 في 29 أيلول 1958 نموذجاً صارخاً للإقطاع في جشعه وقصوره، وإذا استطاع 6% من ملاك مصر امتلاك 65% من أراضيها المزروعة، ففي العراق كان 2% فقط من الملاك يملكون 68% من أراضيه الزراعية. كان في العراق شخصان تجاوزت حيازة كل منهما مليون دونم عراقي (الدونم العراقي = 2500م2).
تضمن القانون 30 وضع حدٍ أعلى للملكية قدره 1000 دونم في الأراضي المروية ومثلاها في الأراضي المطرية. ونص توزيع الأراضي المستولى عليها على المستحقين بمعدل 30-60 دونم للأسرة في الأراضي المروية أو مثليها في الأراضي المطرية. ويشمل القانون نحو 2400 مالك بلغت مساحة الأراضي الخاضعة للاستيلاء لديهم 11.26 مليون دونم أي نحو 48.7% من إجمالي المساحات المزروعة.
وتعثر تطبيق القانون في السنوات الأولى نتيجة لبعض المشاكل الناجمة عن نقص البيانات وقصور في التخطيط وفي خبرة الأجهزة وغير ذلك من العوامل.
وفي عام 1970 صدر القانون 117 وجعل الحد الأقصى للملكية يُراوح بين 40- 2000 دونم وذلك باختلاف إنتاجية الأرض ومصدر الري، واستثنى من ذلك حدائق أشجار الفاكهة والنخيل تشجيعاً للتشجير وألغى مبدأ دفع التعويضات وقصر ذلك على التحسينات الإنتاجية والمنشآت القائمة. ونص تخصيص الأسرة المنتفعة بالتوزيع بمساحة تراوح بين 4-200 دونم أي مايعادل 10% من المساحة المتروكة للمالك. وأعفى المنتفعين من قيمة الأرض الموزعة وأجاز إقامة مزارع جماعية في بعض الأراضي المستولى عليها وسمح بتوزيع بعض أراضي الاستيلاء على خريجي المعاهد الزراعية.
الإصلاح الزراعي في الجزائر: عشية انتصار الثورة وإعلان الاستقلال كان في الجزائر قطاع زراعي تقليدي فقير يشمل نحو 4 ملايين هكتار، وقطاع زراعي حديث يضم مشروعات وضياع المستعمرين ويشمل نحو 3 ملايين هكتار مخصص معظمها لعنب الخمور والحمضيات والخضراوات.
وبعد مغادرة المستعمرين الأوربيين تولى عمال وفلاحو ذلك القطاع، على نحو يكاد أن يكون تلقائياً، إدارته ذاتياً. وقامت الدولة بمهمة المشجع والداعم بهدف الحفاظ على إنتاجه وإنتاجيته ومنع استيلاء البرجوازية عليه وتحاشي تجزئة مشروعاته وتفتيتها وسعياً وراء الإبقاء على وحدات إنتاج جماعية مسيرة ذاتياً.
وفي عام 1963 صدرت مجموعة من القرارات التنظيمية وبدئ بفرز «الكوادر» المسؤولة وتخصيصها وبتحديد طرائق الإدارة والتمويل وتوزيع الدخل، وتحققت نتائج معقولة. وبوشر بعد ذلك بتطبيق خطط لترشيد الإدارة الذاتية وتعديل التركيب المحصولي، ليكون أكثر ملاءمة للحاجات الوطنية وتكثيف الزراعة وإقامة شبكة ممتازة من تعاونيات التسويق.
وفي أوائل السبعينات جرى التركيز على دعم القطاع التقليدي وتطويره اعتماداً على جزء من الفائض المتحقق من القطاع الحديث: فتمت تصفية ملكيات الملاك الغائبين، وفرضت حدود قصوى على حجم الحيازات، ووزع الفائض على المستأجرين، وأسست أنواع مختلفة من التعاونيات، ودعمت مؤسسات الخدمات.
الإصلاح الزراعي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية: كان القطاع الزراعي في اليمن الجنوبي الأكثر تأثراً بالإجراءات الاشتراكية الجذرية التي طبقت على مراحل بعد استقلال البلاد.
في المرحلة الأولى، صدر قانون للإصلاح الزراعي 1968 ثم قانون آخر عام 1970. وتضمن القانون الأخير وضع سقف للملكية قدره 20 فداناً مروياً أو 40 بعلياً للفرد، ومثلا ذلك للأسرة. ووزعت الأراضي المصادرة وقدرها 126000 فدان على نحو 31000 منتفع.
وفي المرحلة الثانية التي بدأت عام 1972، جرى تعديل جذري لنظام حيازة الأرض واستغلالها بتأميم بعض الملكيات الخاصة وباعتماد مزارع الدولة وتعاونيات الإنتاج والخدمات وحدات إنتاج أساسية. وفي نهاية السبعينات أصبح البنيان الهيكلي للقطاع الزراعي يعتمد على 41 مزرعة دولة تستغل 15% من الأراضي المزروعة وتدعمها 6 محطات لتأجير الآلات الزراعية، و43 تعاونية إنتاجية و19 تعاونية خدمات تغطي مجتمعة 75- 80% من الأراضي المزروعة. أما الملكيات الخاصة، فاقتصرت على المساحات المحدودة المتبقية. ورافق هذه التعديلات الجذرية في نظام الحيازة تأميم «تصنيع المنتجات الزراعية وتسويقها» ووضع حدٍ أدنى للأجور، وتحديد الأسعار، ودعم أسعار مستلزمات الإنتاج والمواد الغذائية الأساسية، وتوفير التعليم والرعاية الصحية مجاناً وغير ذلك.
النتائج الإيجابية كانت واضحة في مجال التطور الاجتماعي، ولاسيما في ميدان التعليم والصحة ومحو الأمية وتحرير المرأة وتحسين الأجور. أما في الإنتاج فكانت النتائج أقل وضوحاً، ذلك أن عقبات جدية اعترضت هذا التحويل الجذري منها مايتعلق بضعف الأراضي وندرة المياه، ومنها مايمكن إرجاعه إلى مركزية التخطيط وتعجله وبيروقراطية الإدارة وضعف الجهاز الفني، إضافة إلى الطبيعة الصعبة والمعقدة أصلاً للتحويل الاشتراكي في القطاع الزراعي وذلك بسبب تخلف هذا القطاع عموماً بالمقارنة مع القطاعات الأخرى (كالصناعة مثلاً) واتساع رقعته، وكثرة عدد منتجيه وعدد حيازاته، وتعقد علاقاته الإنتاجية، وصعوبة مراقبة العمل الزراعي وتنظيمه وتقويمه، وعدم تنظيم الفلاحين وشدة تعلقهم بالأرض بصفتها مصدراً للإنتاج وأساساً للاستقرار وقاعدة متينة للحياة الريفية. وإذا كان تأميم المصانع يحقق مكاسب مباشرة أو غير مباشرة فيما يخص البروليتارية الصناعية التي لم تكن أصلاً تملك شيئاً من هذه المصانع، فإن تأميم الأرض الزراعية بالمقابل يعني في نظر صغار الملاك المستثمرين تجريدهم من وسيلة إنتاجهم الأساسية ومن قاعدة حياتهم الاجتماعية. ولعل في هذا مايفسر، إلى حد كبير، صعوبات التحويلات الاشتراكية الزراعية الجذرية والمتسرعة في الكثير من البلاد.
الإصلاح الزراعي في سورية: إن تمركز الأراضي الزراعية في أيدي فئة قليلة من شيوخ العشائر وكبار الملاك والمتنفذين والمرتزقة كان معروفاً منذ العهد العثماني وعهد الانتداب. واستمر هذا الوضع، بل تفاقم في السنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال بفعل عوامل كثيرة ومتنوعة.
إن البيانات الإحصائية لتلك الحقبة تشير إلى أن الملكيات الكبيرة (أكثر من 100 هكتار) كانت تشغل نحو 49% من المساحات التي تم تحديدها وتحريرها حتى عام 1953 والتي بلغت 2،2 مليون هكتار. ومن إحصاءات ظهرت عام 1959 اتضح أنّ 3240 مالكاً يؤلفون مع أفراد أسرهم أقل من 0.6% من سكان الريف كانوا يملكون ويتصرفون بنحو 2.375.000 هكتار منها 2.143.000 هكتار مستثمر أي ما يعادل 35% من إجمالي الأراضي المستثمرة في تلك الحقبة.
ومن ناحية أخرى، فإن صيغ الاستغلال الزراعي المختلفة التي كانت سائدة في تلك الحقبة، كانت هي الأخرى لا تخلو من العيوب. إذ كان نحو 70% من الأراضي يزرع بوساطة مزارعين بالمشاركة أو بمستأجرين، أي إن «من يملك الأرض لم يكن يزرع ومن يزرع الأرض لم يكن يملك». وكان من نتائج هذه الصيغة البالية خلافات مستمرة واستغلال للفلاح وضعف في الاستثمارات والتحسينات الرأسمالية وانخفاض في الإنتاجية.
في ظل تلك الأحوال، جرت محاولات للإصلاح ولتحديد الملكية الزراعية وحماية الفلاح، ولكنها بقيت جزئية وغير فعالة. وكان ينبغي انتظار عام 1958، عام الوحدة بين القطرين العربيين المصري والسوري، لتوجيه أول ضربة جدية للإقطاع في الإقليم السوري، حيث صدر أول قانون للإصلاح الزراعي برقم 161 وتاريخ 27/9/ 1958 وبوشر بتنفيذه مباشرة بعد صدوره.
وتضمن القانون وضع حد أعلى لملكية المالك قدره 80 هكتاراً في الأراضي المروية أو المشجرة أو 300 هكتار في الأراضي البعلية أو ما يعادل هذه النسب من النوعين. وأجاز للمالك أن ينزل لكل من زوجه وأولاده عن 10 هكتارات مروية أو 30 هكتاراً بعلياً، على ألا يتجاوز مجموع ما ينزل عنه 40 هكتاراً مروياً أو 120 بعلياً.
ونص القانون على توزيع الأراضي المستولى عليها على المستحقين بما لا يزيد على 8 هكتارات مروية أو 30 هكتاراً بعلياً للأسرة على أن يؤدى ثمن الأرض على أقساط موزعة على أربعين عاماً. وأوجب تكوين جمعيات تعاونية من المنتفعين ومن صغار الملاك الآخرين. وقد أنيط أمر تنفيذ القانون بمؤسسة ذات استقلال مالي وإداري، ملحقة برئاسة الجمهورية هي مؤسسة الإصلاح الزراعي.
يؤلف القانون 161 ضربة جدية وحاسمة للإقطاع وللملكية التقليدية الكبيرة ويُعدّ من أهم المكاسب التي حصل عليها الفلاحون، لهذا فقد تعرض منذ صدوره لمقاومة قوى الإقطاع والرجعية التي حاولت إجهاضه وعرقلة تنفيذه بكل السبل. وقد نجحت في ذلك جزئياً ومؤقتاً بعد نكسة الانفصال في أيلول 1961.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن موقف القوى الرجعية والمحافظة، فقد كان للقانون بعض المآخذ الفنية.
لقد وضع سقفاً موحداً للملكية في كل من الأراضي المروية والأراضي البعلية من غير أن يراعي التفاوت الكبير في خصب الأرض وطاقتها الإنتاجية والاقتصادية وموقعها، ومن غير أن يفرق بين ملكية مستغِلة وأخرى غير مستغِلة. ورأى أن حل مشكلة الأرض يكمن في تجزئتها، مع أن هذا لا يناسب كل المناطق، ولاسيما مناطق الزراعة الواسعة الآلية. وفرض ثمناً للأرض الموزعة على فقراء الفلاحين يتجاوز إمكاناتهم ويحد من قدرتهم الاستثمارية الضرورية خاصة في السنوات الأولى لتملكهم.
إن الثغرات المذكورة، ومعها ما كشفه التطبيق العملي من قلة في الأراضي الخاضعة للاستيلاء بالمقارنة مع الأعداد الكبيرة للأسر الفلاحية التي حُرمت الأرض، وإن التعديلات الجذرية الجديدة التي أدخلتها الجمهورية العربية المتحدة عام 1961 على قانون الإصلاح الزراعي الخاص بالإقليم المصري، إن كل ذلك يُعدّ مسوّغات قوية لإعادة النظر بالقانون المذكور.
وقد تم ذلك مباشرة بعد ثورة الثامن من آذار إذ صدر في 23/6/1963 المرسوم التشريعي ذو الرقم 88 الذي أدخل على القانون 161 التعديلات الجوهرية التالية:
ـ خفض الحد الأعلى للملكية من جديد ووضع 13 سقفاً مميزاً بذلك بين المناطق والوضع الزراعي والاقتصادي للأرض. وأصبح السقف في المناطق المروية والبعلية المشجرة يُراوح بين 15 و55 هكتاراً وفي المناطق البعلية بين 80 و200 هكتار، باستثناء محافظات الحسكة ودير الزور والرقة حيث سقف الأراضي البعلية 300 هكتار.
ومنح الحق للمالك بأن ينزل لكل من أزواجه وأولاده بما يعادل 8% من المساحة التي يحق له الاحتفاظ بها.
ـ أعفى المنتفعين من قيمة الأرض الموزعة.
ـ أجاز تطبيق نظام المزارع الجماعية في المناطق التي تستدعي شروط إنتاجها ذلك. إن نتيجة تطبيق الإصلاح الزراعي كانت الاستيلاء على نحو 1.225.000 هكتار من الأراضي المستثمرة، أي خمس الأراضي المستثمرة في سورية، وتم حتى غاية 1969، توزيع 780.000 هكتاراً على 52.500 أسرة من الفلاحين تضم نحو 300.000 فرد وبمعدل وسطي قدره 15 هكتاراً للأسرة الواحدة. وتركت بعض أراضي الاستيلاء من غير توزيع لتكون مزارع دولة.
ويجب أن يضاف إلى ما سبق ما وزع من أراضي أملاك الدولة والأراضي المستصلحة في سهلي الغاب والعشارنة في الستينات والسبعينات. كما تضاف المساحات المخصصة للتوزيع من أراضي الاستيلاء الجديدة الناتجة عن تطبيق المرسوم التشريعي ذي الرقم 31 لعام 1980، والذي خفض السقوف مرة أخرى وجعلها تُراوح بين 15-140 هكتاراً.
إن حصيلة كل ذلك تتجلى في التغيير الجذري الذي تحقق في خريطة توزيع الأرض وصيغ استغلالها. لقد صُفيت الملكية التقليدية الكبيرة وصفيت معها العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعية، إن نصيب الـ0.6% من كبار الملاك الذي كان 35% من إجمالي الأراضي المستثمرة قبل الإصلاح قد انخفض إلى أقل من 15% في أواخر الستينات. وازداد بالمقابل ثقل الملكيات والحيازات الأسرية الصغيرة التي يستغلها أصحابها بأنفسهم. وتقلصت ظاهرة تغيب كبار الملاك كما تقلص التفاوت الصارخ الذي كان قائماً في توزيع الدخول الزراعية.
إن القطاع الزراعي بتنظيمه الهيكلي والحيازي الجديد (وفقاً لإحصاءات 1985) وفيه يشمل القطاع الخاص 64.2% من الأراضي الزراعية المستثمرة والقطاع التعاوني 34.3% والقطاع العام أو مزارع الدولة 1.4%، أصبح موضوعياً وأكثر ملاءمة لتحقيق تنمية ريفية متكاملة، ديناميكية ومتوازنة تجمع بين العدالة والنمو في آن واحد.
النتائج وتقويمها
ما هي نتائج الإصلاح الزراعي فيما يخص الفلاحين (المنتفعين بتوزيع الأراضي وغير المنتفعين)، من حيث عملهم وإنتاجهم ودخلهم وتعليمهم واعتمادهم على أنفسهم وتحررهم وقدرتهم على المبادرة والمشاركة والاختيار واتخاذ القرار؟، ما نتائجه على الملاك؟، ماذا جرى لباقي أبناء الريف وللأراضي الزراعية وللدخل الزراعي العام من حيث قيمته وتوزيعه وتطوره؟، ما الاتجاهات المستقبلية؟.
الحديث عن تقويم نتائج الإصلاح الزراعي كثير، إلا أن تنفيذ التقويم نادراً ما يحدث، لأسباب تتعلق بصعوبة التقويم نفسه، فالإصلاح الزراعي هو أصلاً عملية معقدة متعددة الأبعاد والأهداف والمراحل. ونتائجها أيضاً متنوعة وأحياناً متعارضة. وليس ثمة معايير وأدوات متفق عليها لقياس درجة النجاح أو الإخفاق. فضلاً عن أنه ليس من السهل توافر الموضوعية في التقويم، ذلك أن الإصلاح الزراعي يمس مصالح شرائح واسعة من الناس وهم عموماً منحازون «مع» المشروع أو «عليه». وحتى عند توافر الموضوعية فقد لا تتوافر المعلومات والبيانات لمرحلتي ما قبل الإصلاح وما بعده على نحو يتيح إجراء المقارنة ورصد التطورات.
ومع ذلك، تبقى عملية التقويم ضرورية، وهي ممكنة إذا تم اعتماد بعض المؤشرات الواضحة والمقبولة، من هذه المؤشرات في الميادين الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما يلي:
مجال الإنتاج والاقتصاد: تؤلف الإنتاجية الزراعية أهم المؤشرات وأكثرها دلالة. وهو مؤشر قابل للقياس بدرجة كافية من الدقة والموضوعية. وتجدر الإشارة إلى أنه كلما طالت مدة القياس كانت أكثر تعبيراً ولاسيما في المناطق البعلية.
ومؤشر الدخل أيضاً (دخل الفلاح ودخل المالك والدخل الزراعي العام) على غاية من الأهمية. إلا أنه أكثر صعوبة في تقديره وفي تفسير مدلوله وتأويله.
ولمؤشر العمالة فائدته. وفي هذه الحالة يقوّم تأثير الإصلاح الزراعي على فرص العمالة وعلى البطالة بأنواعها وعلى تشغيل المرأة الريفية والأولاد وعلى تكثيف الزراعة، اعتماداً على استثمار المزيد من وحدات العمل في وحدة المساحة.
هناك مؤشرات أخرى منها مؤشر المساحة المزروعة ومؤشر مشاركة الفلاحين الفعالة في عملية التنمية وغير ذلك.
مجال الاجتماع: قد يكون تقويم النتائج الاجتماعية أكثر صعوبة من تقويم النتائج الاقتصادية، ومؤشر العدالة يؤلف الأساس هنا. وهو ينصبّ بالدرجة الأولى على إبراز أثر الإصلاح الزراعي في تقليص الاحتكار والتخفيف من الفروق الصارخة في توزيع الأرض. ويمكن أيضاً تناول أثر الإصلاح الزراعي في وضع أسس تضمن عدالة توزيع الإنتاج بين مالك الأرض ومستثمرها.
ثم إن عدد الذين حولهم الإصلاح الزراعي من أجراء إلى ملاّك واتجاهات تطور الأحوال التعليمية والصحية والثقافية في الريف، تؤلف كلها مؤشرات اجتماعية أخرى لا يستهان بها.
مجال السياسة: يركز عادة في هذا المجال على قياس درجة انحسار النفوذ، ودرجة التسلط السياسي الإقطاعي وشبه الإقطاعي، ومدى انتشار القاعدة الديمقراطية التي يمكن أن يوفرها الإصلاح الزراعي موضوعياً، عندما ينشر الملكيات الزراعية الأسرية المستقلّة، ومدى انتعاش الممارسة الديمقراطية نفسها عن طريق قياس مدى تطور مشاركة القاعدة العريضة من أبناء الريف في النشاط السياسي (كالانتخابات مثلاً)، ومدى تمثيلهم الجدي والفعلي في مركز اتخاذ القرار السياسي.
وأخيراً، ثمة ملاحظتان مهمتان يجب ذكرهما.
الأولى أنه عندما تكون نتائج تقويم مؤشر ما (كإنتاجية الأرض الزراعية مثلاً) إيجابية أو سلبية لا بد من التساؤل: هل هو الإصلاح الزراعي بالتحديد الذي كان وراء ذلك، أو أن عوامل أخرى كان لها تأثيرها؟ وفي هذه الحالة، هل يمكن عزل هذه العوامل الأخرى عن عامل الإصلاح وتحديد الأثر النسبي لكل منها؟
والثانية أن تقويم نتائج الإصلاح الزراعي لا بد من أن يكون عملية متدرجة ومستمرة لمدة كافية: فهناك تقويم النتائج المباشرة والسريعة نسبياً والمتصلة بالاستيلاء على الأراضي الفائضة وتوزيعها، ثم هناك تقويم النتائج الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه بطبيعتها لا يمكن أن تظهر وتستقر قبل مرور بعض الوقت هو في العادة عدة سنوات.
صلاح وزان
مراجع للاستزادة
ـ صلاح وزان، من التخلف إلى التطور الاشتراكي في القطاع الزراعي (1967).
ـ المؤتمر العالمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية: استعراض وتحليل للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية منذ منتصف الستينات (1979).
-A.T.POSADAF, 15 Years of Frustrated Agrarian Reform (Land Tenure Center, Wisconsin 1977).
-United Nation, Progress in Land Reforms, 6th Report (New York 1976).
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق