بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

18 يونيو 2010

مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تصرفات الفضولي في الفقه الإسلامي








تصرفات الفُضُوليّ



التّعريف :



الفضوليّ لغةً من يشتغل بما لا يعنيه ، نسبةً إلى الفضول ، جمع فضل ، وهو الزّيادة . غير أنّ هذا الجمع - الفضول - غلب استعماله على ما لا خير فيه ، حتّى صار بالغلبة كالعلم لهذا المعنى ، ومن أجل ذلك كان في النّسبة إليه تلك الدّلالة .



وفي اصطلاح الفقهاء يطلق الفضوليّ على من يتصرّف في حقّ الغير بلا إذن شرعيّ وذلك لكون تصرّفه صادراً من غير ملك ولا وكالة ولا ولاية .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - الوليّ :



الوليّ لغةً : من الوَلْي ، بمعنى القرب والنّصرة ، والوليّ خلاف العدوّ .



وفي الاصطلاح : الوليّ من يملك الولاية ، وهي تنفيذ القول على الغير .



ويختلف معنى الوليّ حسب اختلاف المواضيع ، قال التّمرتاشيّ في باب النّكاح : هو البالغ العاقل الوارث .



ويمكن تعريف الوليّ بوجه عامّ أنّه من يتصرّف للغير بحكم الشّرع ، كالوالد لولده الصّغير أو المجنون ، وكذا القاضي والإمام .



والصّلة بينه وبين الفضوليّ ، أنّ الوليّ له حقّ التّصرّف في حقّ المولّى عليه شرعاً ، بخلاف الفضوليّ .



ب - الوكيل :



من معاني الوكيل لغةً : الحافظ والكافي ، ومنه قوله تعالى : { وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } . وفي الاصطلاح : الوكيل فعيل من الوكالة ، وهي تفويض واحد أمره لآخر وإقامته مقامه في ذلك الأمر .



فالوكيل هو المفوّض والنّائب عن الغير في أمر قابل للنّيابة .



والصّلة بينه وبين الفضوليّ أنّ كليهما يتصرّف للغير ، لكنّ الوكيل بالتّفويض من الغير ، والفضوليّ بغير تفويض .



ج - المالك :



المالك فاعل من الملك ، وهو شرعاً اختصاص العمل في التّصرّف ، والمالك صاحب الملك .



وقال ابن نجيم : الملك قدرة يثبتها الشّارع ابتداءً على التّصرّف إلاّ لمانع .



وعلى ذلك فمالك الشّيء هو القادر على التّصرّف فيه ابتداءً ، فهو مقابل الفضوليّ الّذي ليس له التّصرّف ابتداءً ، وإنّما تصحّ بعض تصرّفاته بإجازة المالك انتهاءً عند بعض الفقهاء .



الأحكام المتعلّقة بتصرّفات الفضوليّ :



بيع الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم بيع الفضوليّ - في الجملة - على قولين :



أحدهما للحنفيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه : هو أنّ بيع الفضوليّ ينعقد موقوفاً على إجازة المالك ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



والثّاني للحنابلة والشّافعيّة في المعتمد : وهو أنّ بيع الفضوليّ باطل ، فلا ينقلب صحيحاً ولو أجازه المالك بعد .



شراء الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم شراء الفضوليّ لغيره على أربعة أقوال :



أحدها للمالكيّة وأحمد في رواية عنه : وهو أنّ شراء الفضوليّ كبيعه ، ينعقد موقوفاً على إجازة من اشترى له ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



والثّاني للشّافعيّ في الجديد والحنابلة في الصّحيح من المذهب : وهو أنّ شراء الفضوليّ باطل لا يترتّب عليه أي حكم أو أثر .



والثّالث للحنفيّة : حيث فرّقوا بين ما إذا أضاف العقد إلى نفسه ، وبين ما إذا أضافه إلى الّذي اشتراه له ، وقالوا : إذا أضافه الفضوليّ إلى نفسه ، كانت العين المشتراة له ، سواء وجدت الإجازة من الّذي اشتراه له أو لم توجد ، لأنّ الشّراء إذا وجد نفاذاً على العاقد أمضي عليه ، لأنّ الأصل أن يكون تصرّف الإنسان لنفسه لا لغيره ، لقوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } وشراء الفضوليّ كسبه حقيقةً ، فالأصل أن يكون له إلاّ إذا جعله لغيره ، أو لم يجد نفاذاً عليه لعدم الأهليّة ، فعندئذ يتوقّف على إجازة من اشترى له ، بأن كان الفضوليّ عبداً محجوراً ، أو صبيّاً مميّزاً واشترى لغيره ، فإنّ شراءه يتوقّف على إجازة ذلك الغير ، إذ الشّراء لم يجد نفاذاً عليه ، فيتوقّف على إجازة الّذي اشتري له ضرورةً ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



وإن أضاف الفضوليّ العقد إلى الّذي اشتراه له ، بأن قال الفضوليّ للبائع : بع دابّتك هذه من فلان بكذا ، فقال : بعت ، وقال الفضوليّ : قبلت البيع فيه لأجل فلان ، أو قال البائع : بعت هذا الثّوب من فلان بكذا ، وقبل المشتري الفضوليّ منه الشّراء لأجل فلان ، فإنّ هذا العقد يكون موقوفاً على إجازة المشترى له .



والرّابع للشّافعيّ في القديم ، وحكي عنه في الجديد وقد قسّم شراء الفضوليّ إلى أربع حالات ، وافقه الحنابلة في ثلاث منها في القسمة لا في الحكم .



وبيان ذلك :



الحالة الأولى : أن يشتري للغير بعين مال الغير ، وللشّافعيّ في ذلك قولان : الوقف وهو رواية عن الإمام أحمد ، والبطلان وهو المذهب عند الحنابلة .



والحالة الثّانية : أن يشتري بمال نفسه للغير ، وقد فرّق الشّافعيّ في هذه الحالة بين ما إذا سمّى في العقد من اشترى له ، وبين ما إذا لم يسمّه : فإن سمّاه نظر : فإن لم يأذن لغت التّسمية ، وفي وقوعه عن الفضوليّ وجهان : الوقف ، والبطلان ، وإن أذن له ، فهل تلغو التّسمية أم لا ؟ فإن قلنا : تلغو ، فهل يقع عن المباشر ، أم يبطل من أصله ؟ وجهان ، وإن قلنا : لا تلغو ، وقع العقد عن الآذن .



وإن لم يسمّه وقع عن المباشر سواء أذن ذلك الغير أم لا .



أمّا الحنابلة فالمذهب عندهم في هذه الحالة هو بطلان الشّراء مطلقاً ، إلاّ ما روي عن بعض فقهائهم من طرد قولي الوقف والبطلان فيها .



والحالة الثّالثة : أن يشتري الفضوليّ لغيره في الذّمّة بغير إذنه ، وفي هذه الحالة ينظر : فإن لم يسمّ ذلك الغير في العقد ، فالشّافعيّ في الجديد قال : يقع عن المباشر ، وفي القديم قال : يتوقّف على إجازة المشتري له ، فإن أجازه نفذ في حقّه ، وإن ردّه نفذ في حقّ الفضوليّ ، وقال الحنابلة : يصحّ - على الصّحيح - ويكون موقوفاً على الإجازة .



وإن سمّاه في العقد ، فقال الشّافعيّة : هو كشرائه بعين مال الغير .



وعند الحنابلة قولان : الصّحيح أنّه لا يصحّ هذا العقد ، والثّاني أنّ حكمه حكم ما إذا لم يسمّه في العقد .



والحالة الرّابعة : أن يضيف الشّراء إلى الغير بثمن معيّن ، وهذه الحالة انفرد بذكرها الشّافعيّة ، ولهم حسب المحكيّ في الجديد وجهان : أحدهما : يلغو العقد ، والثّاني يقع عن المباشر .



إجارة الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم إجارة الفضوليّ لأعيان الغير ، هل هي صحيحة موقوفة على الإجارة أم أنّها باطلة شرعاً ؟ وذلك على قولين :



أحدهما للحنفيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه : وهو أنّ إجارة الفضوليّ تنعقد موقوفةً على إجازة المالك أو وليّه ، فإن أجازها نفذت ، وإن ردّها بطلت .



والثّاني للشّافعيّ في الجديد ، والحنابلة على الصّحيح في المذهب : وهو أنّ إجارة الفضوليّ باطلة ، لأنّها عقد صدر من غير مالك أو ذي ولاية في إبرامه ، فيكون باطلاً .



ثمّ إنّ الحنفيّة فرّقوا بين كون الفضوليّ في عقد الإجارة مؤجّراً وبين كونه مستأجراً ، فجعلوا إجارته كبيعه ، واستئجاره كشرائه .



إنكاح الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم إنكاح الفضوليّ من غير ولاية أو نيابة على أربعة أقوال : أحدها للحنابلة ، والشّافعيّ في الجديد : هو أنّ إنكاح الفضوليّ باطل لا تؤثّر فيه إجازة الوليّ .



والثّاني لأحمد في رواية عنه ، وأبي يوسف : وهو أنّ إنكاح الفضوليّ صحيح ، لكنّه يتوقّف على إجازة الوليّ ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



والثّالث لأبي حنيفة ، ومحمّد بن الحسن : وهو أنّه إذا كان المتولّي لطرفي النّكاح شخصاً واحداً فضوليّاً ، كان العقد باطلاً ، سواء تكلّم بكلام واحد أو بكلامين ومثل ذلك في الحكم إذا كان فضوليّاً بالنّسبة لأحد الطّرفين ، ولو كان أصيلاً أو وكيلاً أو وليّاً عن الطّرف الآخر ، ما دام قد تولّى العقد عن الطّرفين .



أمّا إذا لم يكن المتولّي لطرفي النّكاح فضوليّاً ، فيكون عقده موقوفاً على الإجازة ، سواء قبل فيه فضوليّ آخر أو أصيل أو وكيل .



والرّابع للمالكيّة : وهو التّفريق بين كون الوليّ مجبراً وبين كونه غير مجبر ، فإن كان الوليّ مجبراً ، لم يجز النّكاح الواقع من الفضوليّ ولو أجازه الوليّ ، أمّا إذا لم يكن له الإجبار ، فإمّا أن تكون المزوّجة ذات قدر ، أو دنيئةً ، فإن كانت ذات قدر ، فقال مالك : ما فسخه بالبيّن ، ولكنّه أحبّ إليّ ، وقال ابن القاسم : له إجازة ذلك وردّه ما لم يبن بها الزّوج ، وقال بعض فقهاء المالكيّة : إن دخل بها الزّوج ، وطال مكثه معها بمضيّ ثلاث سنين ، أو ولادة ولدين فأكثر ، لم يفسخ النّكاح ، وإلاّ كان الوليّ مخيّراً بين الفسخ والإمضاء .



وإن كانت دنيئةً ، فعندهم في إنكاحه قولان ، أحدهما : أنّ النّكاح ماض مطلقاً ، وهو المشهور في المذهب



والثّاني : أنّها كذات القدر الشّريفة .



وصيّة الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم وصيّة الفضوليّ من مال غيره على قولين :



أحدهما للحنفيّة ، وهو القديم عند الشّافعيّة ، وحكي في الجديد عن الشّافعيّ وهو قول عند الحنابلة : وهو أنّه تصحّ وصيّة الفضوليّ ، لكنّها تكون موقوفةً على إجازة المالك ، وذلك لأنّ الوصيّة تصحّ بالمعدوم ، فأولى أن تصحّ من الفضوليّ .



والثّاني للمالكيّة - وهو الأصحّ عند الحنابلة والقول الجديد عند الشّافعيّة - : وهو أنّ وصيّة الفضوليّ لا تصحّ مطلقاً ، لأنّه تبرّع ممّن لا ملك له ولا ولاية ولا نيابة ، فيكون باطلاً .



هبة الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم هبة الفضوليّ لمال غيره على قولين :



أحدهما للمالكيّة على المشهور ، والحنابلة والشّافعيّ في الجديد وعليه المذهب : وهو أنّ هبة الفضوليّ باطلة ، إذ يستحيل على المرء أن يملّك ما لا يملك .



والثّاني للحنفيّة ، وهو رواية عند المالكيّة : وهو أنّ هبة الفضوليّ تنعقد صحيحةً ، غير أنّها تكون موقوفةً على إجازة المالك ، فإن ردّها بطلت ، وإن أجازها كان لإجازته حكم الوكالة السّابقة .



وقال المالكيّة : الفرق بين بيع الفضوليّ وهبته أنّ البيع تمليك في نظير عوض ، أمّا الهبة فالتّمليك فيها مجّاناً ، ولهذا اختلف الحكم بينهما .



وقف الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم وقف الفضوليّ لمال غيره على قولين :



أحدهما للمالكيّة على المشهور ، والحنابلة ، والشّافعيّ في الجديد : وهو أنّ وقف الفضوليّ باطل ، سواء أجازه المالك بعد أم لا .



والثّاني للحنفيّة ، وهو قول عند المالكيّة ، ورواية عن أحمد : وهو أنّ وقف الفضوليّ صحيح ، غير أنّه يكون موقوفاً على إجازة المالك ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



صلح الفضوليّ :



اتّفق الفقهاء على جريان الصّلح من الفضوليّ كجريانه ممّن عليه الحقّ ، واختلفوا في ضمن ذلك إلى أقوال وصور وشروط كثيرة .









مكتب / محمد جابرعيسى المحامى




 
تصرفات الفضولي في الفقه الإسلامي








تصرفات الفُضُوليّ



التّعريف :



الفضوليّ لغةً من يشتغل بما لا يعنيه ، نسبةً إلى الفضول ، جمع فضل ، وهو الزّيادة . غير أنّ هذا الجمع - الفضول - غلب استعماله على ما لا خير فيه ، حتّى صار بالغلبة كالعلم لهذا المعنى ، ومن أجل ذلك كان في النّسبة إليه تلك الدّلالة .



وفي اصطلاح الفقهاء يطلق الفضوليّ على من يتصرّف في حقّ الغير بلا إذن شرعيّ وذلك لكون تصرّفه صادراً من غير ملك ولا وكالة ولا ولاية .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - الوليّ :



الوليّ لغةً : من الوَلْي ، بمعنى القرب والنّصرة ، والوليّ خلاف العدوّ .



وفي الاصطلاح : الوليّ من يملك الولاية ، وهي تنفيذ القول على الغير .



ويختلف معنى الوليّ حسب اختلاف المواضيع ، قال التّمرتاشيّ في باب النّكاح : هو البالغ العاقل الوارث .



ويمكن تعريف الوليّ بوجه عامّ أنّه من يتصرّف للغير بحكم الشّرع ، كالوالد لولده الصّغير أو المجنون ، وكذا القاضي والإمام .



والصّلة بينه وبين الفضوليّ ، أنّ الوليّ له حقّ التّصرّف في حقّ المولّى عليه شرعاً ، بخلاف الفضوليّ .



ب - الوكيل :



من معاني الوكيل لغةً : الحافظ والكافي ، ومنه قوله تعالى : { وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } . وفي الاصطلاح : الوكيل فعيل من الوكالة ، وهي تفويض واحد أمره لآخر وإقامته مقامه في ذلك الأمر .



فالوكيل هو المفوّض والنّائب عن الغير في أمر قابل للنّيابة .



والصّلة بينه وبين الفضوليّ أنّ كليهما يتصرّف للغير ، لكنّ الوكيل بالتّفويض من الغير ، والفضوليّ بغير تفويض .



ج - المالك :



المالك فاعل من الملك ، وهو شرعاً اختصاص العمل في التّصرّف ، والمالك صاحب الملك .



وقال ابن نجيم : الملك قدرة يثبتها الشّارع ابتداءً على التّصرّف إلاّ لمانع .



وعلى ذلك فمالك الشّيء هو القادر على التّصرّف فيه ابتداءً ، فهو مقابل الفضوليّ الّذي ليس له التّصرّف ابتداءً ، وإنّما تصحّ بعض تصرّفاته بإجازة المالك انتهاءً عند بعض الفقهاء .



الأحكام المتعلّقة بتصرّفات الفضوليّ :



بيع الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم بيع الفضوليّ - في الجملة - على قولين :



أحدهما للحنفيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه : هو أنّ بيع الفضوليّ ينعقد موقوفاً على إجازة المالك ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



والثّاني للحنابلة والشّافعيّة في المعتمد : وهو أنّ بيع الفضوليّ باطل ، فلا ينقلب صحيحاً ولو أجازه المالك بعد .



شراء الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم شراء الفضوليّ لغيره على أربعة أقوال :



أحدها للمالكيّة وأحمد في رواية عنه : وهو أنّ شراء الفضوليّ كبيعه ، ينعقد موقوفاً على إجازة من اشترى له ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



والثّاني للشّافعيّ في الجديد والحنابلة في الصّحيح من المذهب : وهو أنّ شراء الفضوليّ باطل لا يترتّب عليه أي حكم أو أثر .



والثّالث للحنفيّة : حيث فرّقوا بين ما إذا أضاف العقد إلى نفسه ، وبين ما إذا أضافه إلى الّذي اشتراه له ، وقالوا : إذا أضافه الفضوليّ إلى نفسه ، كانت العين المشتراة له ، سواء وجدت الإجازة من الّذي اشتراه له أو لم توجد ، لأنّ الشّراء إذا وجد نفاذاً على العاقد أمضي عليه ، لأنّ الأصل أن يكون تصرّف الإنسان لنفسه لا لغيره ، لقوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } وشراء الفضوليّ كسبه حقيقةً ، فالأصل أن يكون له إلاّ إذا جعله لغيره ، أو لم يجد نفاذاً عليه لعدم الأهليّة ، فعندئذ يتوقّف على إجازة من اشترى له ، بأن كان الفضوليّ عبداً محجوراً ، أو صبيّاً مميّزاً واشترى لغيره ، فإنّ شراءه يتوقّف على إجازة ذلك الغير ، إذ الشّراء لم يجد نفاذاً عليه ، فيتوقّف على إجازة الّذي اشتري له ضرورةً ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



وإن أضاف الفضوليّ العقد إلى الّذي اشتراه له ، بأن قال الفضوليّ للبائع : بع دابّتك هذه من فلان بكذا ، فقال : بعت ، وقال الفضوليّ : قبلت البيع فيه لأجل فلان ، أو قال البائع : بعت هذا الثّوب من فلان بكذا ، وقبل المشتري الفضوليّ منه الشّراء لأجل فلان ، فإنّ هذا العقد يكون موقوفاً على إجازة المشترى له .



والرّابع للشّافعيّ في القديم ، وحكي عنه في الجديد وقد قسّم شراء الفضوليّ إلى أربع حالات ، وافقه الحنابلة في ثلاث منها في القسمة لا في الحكم .



وبيان ذلك :



الحالة الأولى : أن يشتري للغير بعين مال الغير ، وللشّافعيّ في ذلك قولان : الوقف وهو رواية عن الإمام أحمد ، والبطلان وهو المذهب عند الحنابلة .



والحالة الثّانية : أن يشتري بمال نفسه للغير ، وقد فرّق الشّافعيّ في هذه الحالة بين ما إذا سمّى في العقد من اشترى له ، وبين ما إذا لم يسمّه : فإن سمّاه نظر : فإن لم يأذن لغت التّسمية ، وفي وقوعه عن الفضوليّ وجهان : الوقف ، والبطلان ، وإن أذن له ، فهل تلغو التّسمية أم لا ؟ فإن قلنا : تلغو ، فهل يقع عن المباشر ، أم يبطل من أصله ؟ وجهان ، وإن قلنا : لا تلغو ، وقع العقد عن الآذن .



وإن لم يسمّه وقع عن المباشر سواء أذن ذلك الغير أم لا .



أمّا الحنابلة فالمذهب عندهم في هذه الحالة هو بطلان الشّراء مطلقاً ، إلاّ ما روي عن بعض فقهائهم من طرد قولي الوقف والبطلان فيها .



والحالة الثّالثة : أن يشتري الفضوليّ لغيره في الذّمّة بغير إذنه ، وفي هذه الحالة ينظر : فإن لم يسمّ ذلك الغير في العقد ، فالشّافعيّ في الجديد قال : يقع عن المباشر ، وفي القديم قال : يتوقّف على إجازة المشتري له ، فإن أجازه نفذ في حقّه ، وإن ردّه نفذ في حقّ الفضوليّ ، وقال الحنابلة : يصحّ - على الصّحيح - ويكون موقوفاً على الإجازة .



وإن سمّاه في العقد ، فقال الشّافعيّة : هو كشرائه بعين مال الغير .



وعند الحنابلة قولان : الصّحيح أنّه لا يصحّ هذا العقد ، والثّاني أنّ حكمه حكم ما إذا لم يسمّه في العقد .



والحالة الرّابعة : أن يضيف الشّراء إلى الغير بثمن معيّن ، وهذه الحالة انفرد بذكرها الشّافعيّة ، ولهم حسب المحكيّ في الجديد وجهان : أحدهما : يلغو العقد ، والثّاني يقع عن المباشر .



إجارة الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم إجارة الفضوليّ لأعيان الغير ، هل هي صحيحة موقوفة على الإجارة أم أنّها باطلة شرعاً ؟ وذلك على قولين :



أحدهما للحنفيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه : وهو أنّ إجارة الفضوليّ تنعقد موقوفةً على إجازة المالك أو وليّه ، فإن أجازها نفذت ، وإن ردّها بطلت .



والثّاني للشّافعيّ في الجديد ، والحنابلة على الصّحيح في المذهب : وهو أنّ إجارة الفضوليّ باطلة ، لأنّها عقد صدر من غير مالك أو ذي ولاية في إبرامه ، فيكون باطلاً .



ثمّ إنّ الحنفيّة فرّقوا بين كون الفضوليّ في عقد الإجارة مؤجّراً وبين كونه مستأجراً ، فجعلوا إجارته كبيعه ، واستئجاره كشرائه .



إنكاح الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم إنكاح الفضوليّ من غير ولاية أو نيابة على أربعة أقوال : أحدها للحنابلة ، والشّافعيّ في الجديد : هو أنّ إنكاح الفضوليّ باطل لا تؤثّر فيه إجازة الوليّ .



والثّاني لأحمد في رواية عنه ، وأبي يوسف : وهو أنّ إنكاح الفضوليّ صحيح ، لكنّه يتوقّف على إجازة الوليّ ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



والثّالث لأبي حنيفة ، ومحمّد بن الحسن : وهو أنّه إذا كان المتولّي لطرفي النّكاح شخصاً واحداً فضوليّاً ، كان العقد باطلاً ، سواء تكلّم بكلام واحد أو بكلامين ومثل ذلك في الحكم إذا كان فضوليّاً بالنّسبة لأحد الطّرفين ، ولو كان أصيلاً أو وكيلاً أو وليّاً عن الطّرف الآخر ، ما دام قد تولّى العقد عن الطّرفين .



أمّا إذا لم يكن المتولّي لطرفي النّكاح فضوليّاً ، فيكون عقده موقوفاً على الإجازة ، سواء قبل فيه فضوليّ آخر أو أصيل أو وكيل .



والرّابع للمالكيّة : وهو التّفريق بين كون الوليّ مجبراً وبين كونه غير مجبر ، فإن كان الوليّ مجبراً ، لم يجز النّكاح الواقع من الفضوليّ ولو أجازه الوليّ ، أمّا إذا لم يكن له الإجبار ، فإمّا أن تكون المزوّجة ذات قدر ، أو دنيئةً ، فإن كانت ذات قدر ، فقال مالك : ما فسخه بالبيّن ، ولكنّه أحبّ إليّ ، وقال ابن القاسم : له إجازة ذلك وردّه ما لم يبن بها الزّوج ، وقال بعض فقهاء المالكيّة : إن دخل بها الزّوج ، وطال مكثه معها بمضيّ ثلاث سنين ، أو ولادة ولدين فأكثر ، لم يفسخ النّكاح ، وإلاّ كان الوليّ مخيّراً بين الفسخ والإمضاء .



وإن كانت دنيئةً ، فعندهم في إنكاحه قولان ، أحدهما : أنّ النّكاح ماض مطلقاً ، وهو المشهور في المذهب



والثّاني : أنّها كذات القدر الشّريفة .



وصيّة الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم وصيّة الفضوليّ من مال غيره على قولين :



أحدهما للحنفيّة ، وهو القديم عند الشّافعيّة ، وحكي في الجديد عن الشّافعيّ وهو قول عند الحنابلة : وهو أنّه تصحّ وصيّة الفضوليّ ، لكنّها تكون موقوفةً على إجازة المالك ، وذلك لأنّ الوصيّة تصحّ بالمعدوم ، فأولى أن تصحّ من الفضوليّ .



والثّاني للمالكيّة - وهو الأصحّ عند الحنابلة والقول الجديد عند الشّافعيّة - : وهو أنّ وصيّة الفضوليّ لا تصحّ مطلقاً ، لأنّه تبرّع ممّن لا ملك له ولا ولاية ولا نيابة ، فيكون باطلاً .



هبة الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم هبة الفضوليّ لمال غيره على قولين :



أحدهما للمالكيّة على المشهور ، والحنابلة والشّافعيّ في الجديد وعليه المذهب : وهو أنّ هبة الفضوليّ باطلة ، إذ يستحيل على المرء أن يملّك ما لا يملك .



والثّاني للحنفيّة ، وهو رواية عند المالكيّة : وهو أنّ هبة الفضوليّ تنعقد صحيحةً ، غير أنّها تكون موقوفةً على إجازة المالك ، فإن ردّها بطلت ، وإن أجازها كان لإجازته حكم الوكالة السّابقة .



وقال المالكيّة : الفرق بين بيع الفضوليّ وهبته أنّ البيع تمليك في نظير عوض ، أمّا الهبة فالتّمليك فيها مجّاناً ، ولهذا اختلف الحكم بينهما .



وقف الفضوليّ :



اختلف الفقهاء في حكم وقف الفضوليّ لمال غيره على قولين :



أحدهما للمالكيّة على المشهور ، والحنابلة ، والشّافعيّ في الجديد : وهو أنّ وقف الفضوليّ باطل ، سواء أجازه المالك بعد أم لا .



والثّاني للحنفيّة ، وهو قول عند المالكيّة ، ورواية عن أحمد : وهو أنّ وقف الفضوليّ صحيح ، غير أنّه يكون موقوفاً على إجازة المالك ، فإن أجازه نفذ ، وإن ردّه بطل .



صلح الفضوليّ :



اتّفق الفقهاء على جريان الصّلح من الفضوليّ كجريانه ممّن عليه الحقّ ، واختلفوا في ضمن ذلك إلى أقوال وصور وشروط كثيرة .









مكتب / محمد جابرعيسى المحامى



القواعد الفقهيّة الضّابطة لأحكام الضّرر








القواعد الفقهيّة الضّابطة لأحكام الضّرر



لقد عنى الفقهاء كثيراً بدراسة موضوع الضّرر ومعالجة آثاره ، وذلك لما له من أهمّيّة بالغة في استقرار العلاقات بين النّاس ، وقعّدوا لذلك مجموعةً من القواعد الفقهيّة الكلّيّة تضبطه ، وتوضّح معالمه العامّة وتنظّم آثاره ، وأهمّ هذه القواعد هي :



الضّرر يزال :



أصل هذه القاعدة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لا ضرر ولا ضرار « ويبتنى على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه فمن ذلك الرّدّ بالعيب ، وجميع أنواع الخيارات ، والحجر بسائر أنواعه ، والشّفعة ، وما إلى ذلك .



ويتعلّق بهذه القاعدة قواعد :



الأولى : الضّرورات تبيح المحظورات :



ومن ثمّ جاز أكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللّقمة بالخمر .



وزاد الشّافعيّة على هذه القاعدة : " بشرط عدم نقصانها عنها " .



الثّانية : ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها :



ومن فروعها : المضطرّ لا يأكل من الميتة إلاّ قدر سدّ الرّمق ، والطّعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة ، لأنّه إنّما أبيح للضّرورة ، قال في الكنز : وينتفع فيها بعلف وطعام وحطب وسلاح ودهن بلا قسمة ، وبعد الخروج منها لا ينتفع بها وما فضل ردّ إلى الغنيمة.



الضّرر لا يزال بمثله :



هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر يزال " بمعنى أنّ الضّرر مهما كان واجب الإزالة ، فإزالته إمّا بلا ضرر أصلاً أو بضرر أخفّ منه ، كما هو مقتضى قاعدة " الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ " وأمّا إزالة الضّرر بضرر مثله أو أشدّ فلا يجوز ، وهذا غير جائز عقلاً - أيضاً - لأنّ السّعي في إزالته بمثله عبث .



ومن فروع هذه القاعدة ما لو أكره على قتل المسلم بالقتل مثلاً لا يجوز لأنّ هذا إزالة الضّرر بضرر مثله ، بخلاف أكل ماله فإنّه إزالة الضّرر بما هو أخفّ .



ومنها لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ، أو أدخل البقر رأسه في قدر ، أو أودع فصيلاً فكبر في بيت المودع ولم يمكن إخراجه إلاّ بهدم الجدار ، أو كسر القدر ، أو ذبح الدّجاجة ، يضمن صاحب الأكثر قيمة الأقلّ ، لأنّ الأصل أنّ الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ .



يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ :



هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر لا يزال بمثله " أي لا يزال الضّرر بالضّرر إلاّ إذا كان أحدهما عامّاً والآخر خاصّاً ، فيتحمّل حينئذ الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ .



وهذه قاعدة مهمّة من قواعد الشّرع مبنيّة على المقاصد الشّرعيّة في مصالح العباد استخرجها المجتهدون من الإجماع ومعقول النّصوص ، قال الأتاسيّ نقلاً عن الغزاليّ : إنّ الشّرع إنّما جاء ليحفظ على النّاس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم ، فكلّ ما يكون بعكس هذا فهو مضرّة يجب إزالتها ما أمكن وإلاّ فتأييداً لمقاصد الشّرع يدفع في هذا السّبيل الضّرر الأعمّ بالضّرر الأخصّ .



إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفّهما :



هذه القاعدة وقاعدة " الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ " وقاعدة " يختار أهون الشّرّين " متّحدات والمسمّى واحد وإن اختلف التّعبير وما يتفرّع عليها يتفرّع على أختيها .



ومن فروعها جواز شقّ بطن الميتة لإخراج الولد إذا كانت ترجى حياته .



استعمال الحقّ بالنّظر إلى ما يؤوّل إليه من أضرار :



يقول الشّاطبيّ : جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذوناً فيه على ضربين : أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .



والثّاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا ضربان :



أحدهما : أن يقصد الجالب أو الدّافع ذلك الإضرار كالمرخّص في سلعته قصداً لطلب معاشه ، وصحبه قصد الإضرار بالغير .



والثّاني : أن لا يقصد إضراراً بأحد ، وهو قسمان :



أحدهما : أن يكون الإضرار عامّاً كتلقّي السّلع وبيع الحاضر للبادي والامتناع عن بيع داره أو فدّانه ، وقد اضطرّ إليه النّاس لمسجد جامع أو غيره .



والثّاني : أن يكون خاصّاً وهو نوعان :



أحدهما : أن يلحق الجالب أو الدّافع بمنعه من ذلك ضرر ، فهو محتاج إلى فعله ، كالدّافع عن نفسه مظلمةً يعلم أنّها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالماً أنّه إذا حازه تضرّر غيره بعدمه ، ولو أخذ من يده تضرّر .



والثّاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع :



الأوّل : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيّاً ، أعني القطع العادي كحفر البئر خلف الدّار في الظّلام ، بحيث يقع الدّاخل فيه ، وشبه ذلك .



والثّاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر البئر بموضع لا يؤدّي غالباً إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية الّتي غالباً لا تضرّ أحداً وما أشبه ذلك .



والثّالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا نادراً وهو على وجهين :



أحدهما : أن يكون غالباً كبيع السّلاح من أهل الحرب ، والعنب من الخمّار ، وما يغشّ به ممّن شأنه الغشّ ، ونحو ذلك .



والثّاني : أن يكون كثيراً لا غالباً كمسائل بيوع الآجال .



فهذه ثمانية أقسام .



القسم الأوّل : استعمال الحقّ بحيث لا يلزم عنه مضرّة :



استعمال الحقّ إذا لم يلزم عنه مضرّة بالغير ، حكمه أنّه باق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدّليل على الإذن ابتداءً .



القسم الثّاني : استعمال الحقّ بقصد الإضرار بالغير :



لا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدّليل على أنّه : » لا ضرر ولا ضرار في الإسلام « .



والضّابط الكلّيّ في استعمال الحقّ هو ما ذكره الغزاليّ حيث يقول : أن لا يحبّ لأخيه إلاّ ما يحبّ لنفسه ، فكلّ ما لو عومل به شقّ عليه وثقل على قلبه فينبغي أن لا يعامل به غيره . وجاء في معين الحكّام في شرح حديث » لا ضرر ولا ضرار « فنهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتعمّد أحدهما الإضرار بصاحبه وعن أن يقصدا ذلك جميعاً .



وفيما يلي نذكر بعض الفروع الفقهيّة تطبيقاً لهذا النّوع من استعمال الحقّ :



الإضرار في الوصيّة :



روى الدّارقطنيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً : » الإضرار في الوصيّة من الكبائر « .



وورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » إنّ الرّجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه ستّين سنةً ثمّ يحضرهما الموت فيضارّان في الوصيّة فتجب لهما النّار « قال شهر بن حوشب - راوي الحديث - ثمّ قرأ عليّ أبو هريرة : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } إلى قوله : { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .



والإضرار في الوصيّة تارةً يكون بأن يخصّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الّذي فرضه اللّه له فيتضرّر بقيّة الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث « .



وتارةً بأن يوصي لأجنبيّ بزيادة على الثّلث فينقص حقوق الورثة ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » الثّلث ، والثّلث كثير « ومتى أوصى لوارث أو لأجنبيّ بزيادة على الثّلث لم ينفذ ما أوصى به إلاّ بإجازة الورثة .



الإضرار بالرّجعة :



من طلّق زوجته ثمّ راجعها وكان قصده بالرّجعة المضارّة فإنّه آثم بذلك ، وقد نهى اللّه سبحانه وتعالى عن هذا التّصرّف بقوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .



يقول الطّبريّ في تفسير هذه الآية : ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارّةً لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدّة انقضاء عددهنّ ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إيّاهنّ ، بإمساككم إيّاهنّ ومراجعتكموهنّ ضراراً واعتداءً .



وبهذا تبيّن أنّ اللّه سبحانه وتعالى نهى الأزواج أن يمسكوا زوجاتهم بقصد إضرارهنّ بتطويل العدّة ، أو أخذ بعض مالهنّ ، والنّهي يفيد التّحريم فتكون الرّجعة محرّمةً في هذه الحالة .



ومن صور الإضرار : الإيلاء ، وغيبة الزّوج ، والحبس ، فيفرّق بين الزّوجين دفعاً للضّرر ، بشروطه على تفصيل وخلاف فيه .



الإضرار في الرّضاع :



إن رغبت الأمّ في إرضاع ولدها أجيبت وجوباً سواء كانت مطلّقةً أم في عصمة الأب على قول جمهور الفقهاء ، لقوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } والمنع من إرضاع ولدها مضارّة لها .



وقيل : إن كانت الأمّ في حبال الزّوج فله منعها من إرضاع ولدها إلاّ أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها ، ولكن إنّما يجوز له ذلك إذا كان قصد الزّوج به توفير الزّوجة للاستمتاع ، لا مجرّد إدخال الضّرر عليها ، ويلزم الأب إجابة طلب المطلّقة في إرضاع ولدها ما لم تطلب زيادةً على أجرة مثلها ، أمّا إن طلبت زيادةً على أجرة مثلها زيادةً كبيرةً ، ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلبت ، لأنّها تقصد المضارّة .



الإضرار في البيع :



من أمثلة الضّرر في البيوع بيع الرّجل على بيع أخيه ، والسّوم والشّراء على شراء أخيه ، والنّجش وتلقّي الجلب أو الرّكبان ، وبيع الحاضر للبادي ، وبيع المضطرّ .



وممّا يندرج في القسم الثّاني حسب تقسيمات الشّاطبيّ :



استعمال صاحب الحقّ حقّه لتحقيق مصلحة مشروعة له على وجه يتضرّر منه غيره .



يقول الشّاطبيّ : لكن يبقى النّظر في العمل الّذي اجتمع فيه قصد نفع النّفس ، وقصد إضرار الغير هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه ، أم يبقى على حكمه الأصليّ من الإذن ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا ممّا يتصوّر فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار في مسألة الصّلاة في الدّار المغصوبة مع ذلك فيحتمل الاجتهاد فيه .



وهو أنّه إمّا أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة جعل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك فلا إشكال في منعه منه ، لأنّه لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن محيص عن تلك الجهة الّتي يستضرّ منها الغير ، فحقّ الجالب أو الدّافع مقدّم وهو ممنوع من قصد الإضرار ، ولا يقال : إنّ هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنّه إنّما كلّف بنفي قصد الإضرار وهو داخل تحت الكسب لا بنفي الإضرار بعينه .



ومن فروع هذا النّوع ما ذكره التّسوّليّ ، فيمن أراد أن يحفر بئراً في ملكه ويضرّ بجدار جاره ، وأمّا إن وجد عنه مندوحةً ولم يتضرّر بترك حفره فلا يمكّن من حفره لتمحّض إضراره بجاره حينئذ .



ومذهب الحنابلة ومتأخّري الحنفيّة قريب من مذهب المالكيّة في هذا الصّدد ، إذ هم يقيّدون حقّ المالك في التّصرّف بملكه بما يمنع الإضرار الفاحش عن جاره فقد جاء في المغني : ليس للجار التّصرّف في ملكه تصرّفاً يضرّ بجاره ، نحو أن يبني فيه حمّاماً بين الدّور ، أو يفتح خبّازاً بين العطّارين .



والزّيلعيّ من الحنفيّة يقرّر هذا المعنى ويقول : إنّ للإنسان أن يتصرّف في ملكه ما شاء من التّصرّفات ما لم يضرّ بغيره ضرراً ظاهراً ، ولو أراد بناء تنّور في داره للخبز الدّائم ، كما يكون في الدّكاكين ، أو رحاً للطّحن ، أو مدقّات للقصّارين لم يجز ، لأنّ ذلك يضرّ بالجيران ضرراً ظاهراً فاحشاً لا يمكن التّحرّز منه ، والقياس أنّه يجوز لأنّه تصرّف في ملكه ، وترك ذلك استحساناً لأجل المصلحة .



القسم الثّالث : لحوق الضّرر بجالب المصلحة أو دافع المفسدة عند منعه من استعمال حقّه :

هذا لا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أوّلاً ، فإن لزم قدّم حقّه على الإطلاق .



ومن فروع هذا النّوع ما ذكره ابن قدامة من أنّه إذا اشتدّت المخمصة في سنة المجاعة وأصابت خلقاً كثيراً ، وكان عند بعض النّاس قدر كفايته وكفاية عياله ، لم يلزمه بذله للمضطرّين ، وليس لهم أخذه منه لأنّ ذلك يفضي إلى وقوع الضّرر به ولا يدفعه عنهم ، وكذلك إن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة ، لم يلزمه بذل ما معه للمضطرّين، لأنّ البذل في هذه الحالة يفضي إلى هلاك نفسه وهلاك عياله فلم يلزمه ، كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه ، ولأنّ في بذله إلقاءً بيده إلى التّهلكة ، وقد نهى اللّه عن ذلك .



أمّا إذا أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملةً فاعتبار الضّرر العامّ أولى فيمنع الجالب أو الدّافع ممّا همّ به ، لأنّ المصالح العامّة مقدّمة على المصالح الخاصّة بدليل النّهي عن تلقّي السّلع وعن بيع الحاضر للبادي ، واتّفاق السّلف على تضمين الصّنّاع مع أنّ الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غيره ممّا رضي أهله وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرّة - لا تنجبر - وهو مفاد قاعدة " يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ " .



القسم الرّابع : دفع الضّرر بالتّمكين من المعصية :



فمن ذلك الرّشوة على دفع الظّلم إذا لم يقدر على دفعه إلاّ بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفّار في فداء الأسرى ، ولمانعي الحاجّ حتّى يؤدّوا خراجاً ، كلّ ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد ، مع أنّه تعرّض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال عليه الصلاة والسلام : » والّذي نفسي بيده لوددت أنّي أقتل في سبيل اللّه ثمّ أحيا ثمّ أقتل « ولازم ذلك دخول قاتله النّار ، وقول أحد ابني آدم : { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } .



بل العقوبات كلّها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير ، إلاّ أنّ ذلك كلّه إلغاء لجانب المفسدة لأنّها غير مقصودة للشّارع في شرع هذه الأحكام ، ولأنّ جانب الجالب والدّافع أولى .



القسم الخامس : التّصرّف المفضي إلى المفسدة قطعاً :



المفروض في هذا الوجه أنّه لا يلحق الجالب للمصلحة أو الدّافع للمفسدة ضرر ، ولكنّ أداءه إلى المفسدة قطعيّ عادةً فله نظران :



نظر من حيث كونه قاصداً لما يجوز أن يقصد شرعاً من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .



ونظر من حيث كونه عالماً بلزوم مضرّة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنّه من هذا الوجه مظنّة لقصد الإضرار ، لأنّه في فعله إمّا فاعل لمباح صرف لا يتعلّق بفعله مقصد ضروريّ ولا حاجيّ ولا تكميليّ فلا قصد للشّارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإمّا فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرّة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرّة وليس للشّارع قصد في وقوعه على الوجه الّذي يلحق به الضّرر دون الآخر . وعلى كلا التّقديرين فتوخّيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرّة لا بدّ فيه من أحد أمرين : إمّا تقصير في النّظر المأمور به وذلك ممنوع ، وإمّا قصد إلى نفس الإضرار وهو ممنوع - أيضاً - فيلزم أن يكون ممنوعاً من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله يعدّ متعدّياً بفعله ويضمن ضمان المتعدّي على الجملة .



القسم السّادس : التّصرّف المفضي إلى المفسدة نادراً :



المفروض في هذا الوجه أنّ الجالب أو الدّافع لا يقصد الإضرار بأحد إلاّ أنّه يلزم عن فعله مضرّة بالغير نادراً ، هو على أصله من الإذن ، لأنّ المصلحة إذا كانت غالبةً فلا اعتبار بالنّدور في انخرامها ، إذ لا توجد في العادة مصلحة عريّة عن المفسدة جملةً ، إلاّ أنّ الشّارع إنّما اعتبر في مجاري الشّرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراءً للشّرعيّات مجرى العاديّات في الوجود ، ولا يعدّ - هنا - قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة - مع معرفته بندور المضرّة عن ذلك - تقصيراً في النّظر ولا قصداً إلى وقوع الضّرر ، فالعمل إذن باق على أصل المشروعيّة ، والدّليل على ذلك أنّ ضوابط المشرّعات هكذا وجدناها : كالقضاء والشّهادة في الدّماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وكذلك إعمال الخبر الواحد والأقيسة الجزئيّة في التّكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة .



القسم السّابع : التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة ظنّاً :



قد يكون التّصرّف وسيلةً موضوعةً للمباح إلاّ أنّه يظنّ أداؤه إلى المفسدة فيحتمل الخلاف ، أمّا أنّ الأصل الإباحة والإذن فظاهر ، وأمّا أنّ الضّرر والمفسدة تلحق ظنّاً فهل يجري الظّنّ مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا ، لجواز تخلّفهما وإن كان التّخلّف نادراً ؟ لكن اعتبار الظّنّ هو الأرجح ، ولا يلتفت إلى أصل الإذن والإباحة لأمور : أحدها : أنّ الظّنّ في أبواب العمليّات جار مجرى العلم فالظّاهر جريانه هنا .



والثّاني : قوله تعالى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } فحرّم اللّه تعالى سبّ آلهة المشركين مع كون السّبّ غيظاً وحميّةً للّه وإهانةً لآلهتهم ، لكونه ذريعةً إلى سبّهم للّه تعالى وكانت مصلحة ترك مسبّته تعالى أرجح من مصلحة سبّنا لآلهتهم ، وهذا كالتّنبيه بل كالتّصريح على المنع من الجائز لئلاّ يكون سبباً في فعل ما لا يجوز .



القسم الثّامن : التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة كثيراً :



إذا كان أداء التّصرّف إلى المفسدة كثيراً لا غالباً ولا نادراً ، فهو موضع نظر والتباس واختلف الفقهاء في حكمه :



فيرى فريق من الفقهاء أنّ الأصل فيه الحمل على الأصل من صحّة الإذن ، لأنّ العلم والظّنّ بوقوع المفسدة منتفيان ، إذ ليس - هنا - إلاّ احتمال مجرّد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة ترجّح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة ، والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه .



وذهب الفريق الآخر إلى المنع من مثل هذا التّصرّف ، لأنّ القصد لا ينضبط في نفسه لأنّه من الأمور الباطنة لكن له مجال - هنا - وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنّة ذلك ، فكما اعتبرت المظنّة وإن صحّ التّخلّف ، كذلك نعتبر الكثرة لأنّها مجال القصد .



دفع الضّرر بترك الواجب :



المعهود في الشّريعة دفع الضّرر بترك الواجب إذا تعيّن طريقاً لدفع الضّرر كالفطر في رمضان ، وترك ركعتين من الصّلاة لدفع ضرورة السّفر ، وكذلك يستعمل المحرّم لدفع الضّرر كأكل الميتة لدفع ضرر التّلف ، وتساغ الغصّة بشرب الخمر كذلك ، وذلك كلّه لتعيّن الواجب أو المحرّم طريقاً لدفع الضّرر .



أمّا إذا أمكن تحصيل الواجب ، أو ترك المحرّم مع دفع الضّرر بطريق آخر من المندوبات أو المكروهات فلا يتعيّن ترك الواجب ولا فعل المحرّم ، ولذلك لا يترك الغسل بالماء ، ولا القيام في الصّلاة ولا السّجود لدفع الضّرر والألم والمرض ، إلاّ لتعيّنه طريقاً لدفع ذلك الضّرر ، وهذا كلّه قياس مطّرد .



وجوب دفع الضّرر :



قال الحصكفيّ : يجب قطع الصّلاة لإغاثة ملهوف وغريق وحريق ويقول ابن عابدين: المصلّي متى سمع أحداً يستغيث وإن لم يقصده بالنّداء ، أو كان أجنبيّاً وإن لم يعلم ما حلّ به ، أو علم وكان له قدرة على إغاثته قطع الصّلاة فرضاً كانت أو غيره .



وفي الجملة يجب إغاثة المضطرّ بإنقاذه من كلّ ما يعرّضه للهلاك من غرق أو حرق ، فإن كان قادراً على ذلك دون غيره وجبت الإعانة عليه وجوباً عينيّاً ، وإن كان ثمّ غيره كان ذلك واجباً كفائيّاً على القادرين ، فإن قام به أحد سقط عن الباقين وإلاّ أثموا جميعاً .



وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ، وإنّما اختلفوا في تضمين من امتنع عن دفع الضّرر عن المضطرّ مع قدرته على ذلك ، فيرى أكثر الفقهاء أنّ كلّ من رأى إنساناً في مهلكة فلم ينجّه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه ، وقد أساء ، لأنّه لم يهلكه ، ولم يكن سبباً في هلاكه كما لو لم يعلم بحاله .



وذهب المالكيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة إلى أنّ الممتنع مع القدرة يلزمه الضّمان ، لأنّه لم ينجّه من الهلاك مع إمكانه ، فيضمنه كما لو منعه الطّعام والشّراب .



الحجر لدفع الضّرر :



يحجر على بعض النّاس الّذين تكون مضرّتهم عامّةً ، كالطّبيب الجاهل ، والمفتي الماجن ، والمكاري المفلس ، لأنّ الطّبيب الجاهل يسقي النّاس في أمراضهم دواءً مخالفاً يفسد أبدانهم لعدم علمه ، ومثله المفتي الماجن وهو الّذي يعلّم الحيل الباطلة ، كتعليم المرأة الرّدّة لتبين من زوجها ، أو لتسقط عنها الزّكاة ، ثمّ تسلم ، وكالّذي يفتي عن جهل ، وكذا المكاري المفلس ، لأنّه يأخذ الكراء أوّلاً ليشتري بها الجمال والظّهر ويدفعه إلى بعض ديونه مثلاً ، فإنّ كلّ واحد من هؤلاء مضرّ بالعامّة ، الطّبيب الجاهل يهلك أبدانهم ، والمفتي الماجن يفسد عليهم أديانهم ، والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيحجر على هؤلاء ، لكن المراد من الحجر المنع من إجراء العمل لا منع التّصرّفات القوليّة ، والمنع في هذه الحالة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .



التّفريق لضرر عدم الاتّفاق :



ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في قول إلى أنّ الزّوج إذا أعسر بالنّفقة فالزّوجة بالخيار إن شاءت صبرت وأنفقت على نفسها من مالها أو ممّا اقترضته ، وإن شاءت رفعت أمرها إلى القاضي وطلبت فسخ نكاحها .



وروي نحو ذلك عن عمر وعليّ وأبي هريرة ، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وحمّاد ويحيى القطّان وعبد الرّحمن بن مهديّ وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور .



ويرى الحنفيّة وعطاء والزّهريّ وابن شبرمة أنّ من أعسر بنفقة امرأته لم يفرّق بينهما ، ويقال لها : استديني .










مكتب / محمد جابرعيسى المحامى




عقد الصلح في الشريعة الإسلامية- الجزء الثالث








عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية



( الجزء الثالث )



شروط الصّلح :



للصّلح شروط يلزم تحقّقها لوجوده ، هي خارجة عن ماهيّته ، منها ما يرجع إلى الصّيغة ، ومنها ما يرجع إلى العاقدين ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عنه ، وهو الشّيء المتنازع فيه ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عليه ، وهو بدل الصّلح .



وبيان ذلك فيما يأتي :



الشّروط المتعلّقة بالصّيغة :



المراد بالصّيغة : الإيجاب والقبول الدّالّين على التّراضي . مثل أن يقول المدّعى عليه: صالحتك من كذا على كذا ، أو من دعواك كذا على كذا ، ويقول الآخر : قبلت ، أو رضيت أو ما يدلّ على قبوله ورضاه . فإذا وجد الإيجاب والقبول فقد تمّ الصّلح .



هذا ، ولم يتعرّض فقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في باب الصّلح لبيان الشّروط المتعلّقة بصيغته ؛ نظراً لاعتبارهم عقد الصّلح غير قائم بذاته ، بل تابعاً لأقرب العقود به في الشّرائط والأحكام ، بحيث يعدّ بيعاً إذا كان مبادلة مال بمال ، وهبةً إذا كان على بعض العين المدّعاة، وإبراءً إذا كان على بعض الدّين المدّعى ، اكتفاءً منهم بذكر ما يتعلّق بالصّيغة من شروط وأحكام في تلك العقود الّتي يلحق بها الصّلح ، بحسب محلّه وما تصالحا عليه .



أمّا الحنفيّة : فقد تكلّموا على صيغة الصّلح بصورة مستقلّة في بابه ، وأتوا على ذكر بعض شروطها وأحكامها ، وسكتوا عن البعض الآخر ، اكتفاءً بما أوردوه من تفصيلات تتعلّق بالصّيغة في أبواب البيع والإجارة والهبة والإبراء ، الّتي يأخذ الصّلح أحكامها بحسب أحواله وصوره .



أمّا كلامهم في باب الصّلح عن صيغته وشروطها : فهو أنّه يشترط في الصّلح حصول الإيجاب من المدّعي على كلّ حال ، سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أم لم يكن ، ولذلك لا يصحّ الصّلح بدون إيجاب مطلقاً . أمّا القبول ، فيشترط في كلّ صلح يتضمّن المبادلة بعد الإيجاب .



ثمّ قالوا : تستعمل صيغة الماضي في الإيجاب والقبول ، ولا ينعقد الصّلح بصيغة الأمر ، وعلى ذلك لو قال المدّعي للمدّعى عليه : صالحني على الدّار الّتي تدّعيها بخمسمائة درهم ، فلا ينعقد الصّلح بقول المدّعى عليه : صالحت ؛ لأنّ طرف الإيجاب كان عبارةً عن طلب الصّلح ، وهو غير صالح للإيجاب ، فقول الطّرف الآخر : قبلت ، لا يقوم مقام الإيجاب .



أمّا إذا قال المدّعي ثانياً : قبلت . ففي تلك الحالة ينعقد الصّلح .



وبناءً على ما تقدّم :



إذا كان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين : كالعقارات ، والأراضي ، وعروض التّجارة ، ونحوها فيشترط القبول بعد الإيجاب لصحّة الصّلح ؛ لأنّ الصّلح في هذه الحالة لا يكون إسقاطاً حتّى يتمّ بإرادة المسقط وحدها ، وسبب عدم كونه إسقاطاً مبنيّ على عدم جريان الإسقاط في الأعيان .



وإذا كان الصّلح واقعاً على جنس آخر ، فيشترط القبول - أيضاً - سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أو كان ممّا لا يتعيّن بالتّعيين : كالنّقدين ، وما في حكمهما .



وسبب اشتراط القبول في هاتين المسألتين : أنّ الصّلح فيهما مبادلة ، وفي المبادلة يجب القبول ، ولا يصحّ العقد بدونه .



أمّا الصّلح الّذي ينعقد بالإيجاب وحده ، فهو الّذي يتضمّن إسقاط بعض الحقوق ، فيكتفى فيه بالإيجاب ، ولا يشترط القبول .



وعلى ذلك : فإذا وقع الصّلح على بعض الدّين الثّابت في الذّمّة ، بمعنى أن يكون كلّ من المصالح عنه والمصالح به من النّقدين ، وهما لا يتعيّنان بالتّعيين ، فهاهنا ينعقد الصّلح بمجرّد إيجاب الدّائن ، ولا يشترط قبول المدين ؛ لأنّ هذا الصّلح عبارة عن إسقاط بعض الحقّ ، والإسقاط لا يتوقّف على القبول ، بل يتمّ بمجرّد إيجاب المسقط .



فمثلاً : لو قال الدّائن للمدين : صالحتك على ما في ذمّتك لي من الخمسمائة دينار على مائتي دينار فينعقد الصّلح بمجرّد الإيجاب ، ولا يشترط قبول المدين ، ويلزم الصّلح ما لم يردّه الدّين . إلاّ أنّه يشترط في ذلك أن يكون الموجب المدّعي ؛ لأنّه لو كان المدّعى عليه هو الموجب ، فيشترط قبول المدّعي ؛ سواء أكان الصّلح عمّا يتعيّن بالتّعيين ، أم عمّا لا يتعيّن بالتّعيين ، وذلك لأنّ هذا الصّلح إمّا أن يكون إسقاطاً ، فيجب أن يكون المسقط المدّعي أو الدّائن ، إذ لا يمكن سقوط حقّه بدون قبوله ورضاه ، وإمّا أن يكون معاوضةً ، وفي المعاوضة يشترط وجود الإيجاب والقبول معاً . أمّا في الصّلح عمّا لا يتعيّن بالتّعيين الّذي يقع على عين الجنس ، فيقوم طلب المدّعى عليه الصّلح مقام القبول .



الصّلح بالتّعاطي :



ذهب الحنفيّة إلى انعقاد الصّلح بالتّعاطي إذا كانت قرائن الحال دالّةً على تراضيهما به، كما لو أعطى المدّعى عليه مالاً للمدّعي لا يحقّ له أخذه وقبض المدّعي ذلك المال . وبيان ذلك : أنّه لو ادّعى شخص على آخر بألف درهم ، وأنكر المدّعى عليه الدّين ، وأعطى المدّعي شاةً وقبضها المدّعي منه فإنّه ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وليس للمدّعي بعد ذلك الادّعاء بالألف درهم ، كما أنّه ليس للمدّعى عليه استرداد تلك الشّاة .



أمّا إذا أعطى المدّعى عليه للمدّعي بعض المال الّذي كان للمدّعي حقّ أخذه وقبضه المدّعي، ولم يجر بينهما كلام يدلّ على الصّلح فلا ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وللمدّعي طلب باقي الدّين؛ لأنّ أخذ المدّعي بعضاً من المال الّذي له حقّ أخذه ، يحتمل أنّه قصد به استيفاء بعض حقّه على أن يأخذ البعض الباقي بعد ذلك ، كما أنّه يحتمل أنّه اكتفى بالمقدار الّذي أخذه وعدل عن المطالبة بالباقي ، والحقّ لا يسقط بالشّكّ .



الشّروط المتعلّقة بالعاقدين :



وهي على ثلاثة أقسام : منها ما يرجع إلى الأهليّة ، ومنها ما يرجع إلى الولاية ، ومنها ما يرجع للتّراضي .



الشّروط المتعلّقة بالمصالح عنه :



المصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه ، وهو نوعان : حقّ اللّه ، وحقّ العبد .



أمّا حقّ اللّه : فلا خلاف بين الفقهاء في عدم صحّة الصّلح عنه . وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح عن حدّ الزّنا والسّرقة وشرب الخمر ، بأن صالح زانياً أو سارقاً من غيره أو شارب خمر على مال على أن لا يرفعه إلى وليّ الأمر ؛ لأنّه حقّ اللّه تعالى فلا يجوز ، ويقع باطلاً ؛ لأنّ المصالح بالصّلح متصرّف في حقّ نفسه ، إمّا باستيفاء كلّ حقّه ، أو باستيفاء البعض وإسقاط الباقي ، أو بالمعاوضة ، وكلّ ذلك لا يجوز في غير حقّه .



وكذا إذا صالح من حدّ القذف ، بأن قذف رجلاً ، فصالحه على مال على أن يعفو عنه ؛ لأنّه وإن كان للعبد فيه حقّ ، فالمغلّب فيه حقّ اللّه تعالى ، والمغلوب ملحق بالعدم شرعاً ، فكان في حكم الحقوق المتمحّضة حقّاً للّه عزّ وجلّ ، وهي لا تحتمل الصّلح ، فكذلك ما كان في حكمها .



وكذلك لو صالح شاهداً يريد أن يشهد عليه على مال ليكتم شهادته فهو باطل ؛ لأنّ الشّاهد في إقامة الشّهادة محتسب حقّاً للّه عزّ وجلّ لقوله سبحانه : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } والصّلح عن حقوق اللّه باطل .



وإذا بطل الصّلح في حقوق اللّه تعالى وجب عليه ردّ ما أخذ ؛ لأنّه أخذه بغير حقّ ، ولا يحلّ لأحد أخذ مال أحد إلاّ بسبب شرعيّ .



وأمّا حقّ العبد : فهو الّذي يصحّ الصّلح عنه عند تحقّق شروطه الشّرعيّة ، وشروطه عند الفقهاء ثلاثة :



أحدها : أن يكون المصالح عنه حقّاً ثابتاً للمصالح في المحلّ :



وعلى ذلك : فما لا يكون حقّاً له ، أو لا يكون حقّاً ثابتاً له في المحلّ لا يجوز الصّلح عنه ، حتّى لو أنّ امرأةً طلّقها زوجها ادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها ، وجحد الرّجل، فصالحت عن النّسب على شيء فالصّلح باطل ؛ لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ لا حقّها ، فلا تملك الاعتياض عن حقّ غيرها ؛ ولأنّ الصّلح إمّا إسقاط أو معاوضة ، والنّسب لا يحتملهما. وكذا لو صالح الشّفيع من الشّفعة الّتي وجبت له على شيء ، على أن يسلّم الدّار للمشتري فالصّلح باطل ؛ لأنّه لا حقّ للشّفيع في المحلّ ، إنّما الثّابت له حقّ التّملّك ، وهو ليس لمعنىً في المحلّ ، بل هو عبارة عن الولاية ، وأنّها صفة الوالي فلا يحتمل الصّلح عنه ، وهو قول الجمهور - خلافاً للمالكيّة - فيجوز عندهم الصّلح عن الشّفعة .



وكذلك لو صالح الكفيل بالنّفس المكفول له على مال ، على أن يبرّئه من الكفالة فالصّلح باطل ؛ لأنّ الثّابت للطّالب قبل الكفيل بالنّفس حقّ المطالبة بتسليم نفس المكفول بنفسه ، وذلك عبارة عن ولاية المطالبة ، وأنّها صفة الوالي فلا يجوز الصّلح عنها كالشّفعة .



أمّا لو ادّعى على رجل مالاً وأنكر المدّعى عليه ، ولا بيّنة للمدّعي ، فطلب منه اليمين فصالح عن اليمين على أن لا يستحلفه جاز الصّلح وبرئ من اليمين ، بحيث لا يجوز للمدّعي أن يعود إلى استحلافه . وكذا لو قال المدّعى عليه : صالحتك من اليمين الّتي وجبت لك عليّ. أو قال : افتديت منك يمينك بكذا وكذا صحّ الصّلح ؛ لأنّ هذا صلح عن حقّ ثابت للمدّعي ؛ لأنّ اليمين حقّ للمدّعي قبل المدّعى عليه ، وهو ثابت في المحلّ - وهو الملك في المدّعي في زعمه - فكان الصّلح في جانب المدّعي عن حقّ ثابت في المحلّ ، وهو المدّعي، وفي جانب المدّعى عليه بذل المال لإسقاط الخصومة والافتداء عن اليمين . قاله الكاسانيّ . ونصّ الحنفيّة والحنابلة : على أنّه لو ادّعى رجل على المرأة نكاحاً فحجّته ، وصالحته على مال بذلته حتّى يترك الدّعوى جاز هذا الصّلح ؛ لأنّ النّكاح حقّ ثابت في جانب المدّعي حسب زعمه ، فكان الصّلح على حقّ ثابت له ، والدّافع يقطع به الخصومة عن نفسه ، فكان في معنى الخلع .



والثّاني : أن يكون ممّا يصحّ الاعتياض عنه :



أي : أن يكون ممّا يجوز أخذ العوض عنه ، سواء أكان ممّا يجوز بيعه أو لا يجوز ، وسواء أكان مالاً أو غير مال .



وعلى ذلك : فيجوز الصّلح عن قود نفس ودونها ، وعن سكنى دار ونحوها ، وعن عيب في عوض أو معوّض ، قطعاً للخصومة والمنازعة .



ومتى صالح عمّا يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقلّ جاز . لقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فقوله عزّ وجلّ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } أي : أعطى له . كذا روي عن عبد اللّه بن عبّاس - رضي الله عنهما - وقوله عزّ شأنه { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } أي : فليتبع " مصدر بمعنى الأمر " فقد أمر اللّه تعالى الوليّ بالاتّباع بالمعروف إذا أعطي له شيء ، واسم الشّيء يتناول القليل والكثير ، فدلّت الآية على جواز الصّلح عن القصاص على القليل والكثير . وقال الزّيلعيّ : ولأنّ القصاص حقّ ثابت في المحلّ ، ويجري فيه العفو مجّاناً ، فكذا تعويضاً لاشتماله على الأوصاف الجميلة من إحسان الوليّ ، وإحياء القاتل ... والكثير والقليل سواء في الصّلح عن القصاص ؛ لأنّه ليس فيه شيء مقدّر ، فيفوّض إلى اصطلاحهما ، كالخلع على مال .



أمّا إذا صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها لم يجز . وكذلك لو أتلف شيئاً غير مثليّ لغيره ، فصالح عنه بأكثر من قيمته من جنسها لم يجز أيضاً ، وذلك لأنّ الدّية والقيمة ثبتت في الذّمّة مقدّرةً ، فلم يجز أن يصالح عنها بأكثر من جنسها الثّابتة عن قرض أو ثمن مبيع ؛ ولأنّه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقّه وزيادةً لا مقابل لها ، فيكون أكل مال بالباطل . فأمّا إذا صالحه على غير جنسها بأكثر من قيمتها ، فيجوز ؛ لأنّه بيع ، ويجوز للمرء أن يشتري الشّيء بأكثر من قيمته أو أقلّ ؛ ولأنّه لا ربا بين العوض والمعوّض عنه فصحّ . وبناءً على ما تقدّم : لا يجوز الصّلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه ، مثل أن يصالح امرأةً على مال لتقرّ له بالزّوجيّة ؛ لأنّه صلح يحلّ حراماً ؛ ولأنّها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز .



الثّالث : أن يكون معلوماً :



وقد اختلف الفقهاء في اشتراطه أو في مداه على ثلاثة أقوال :



أحدها للشّافعيّة : وهو عدم صحّة الصّلح عن المجهول .



قال الإمام الشّافعيّ في " الأمّ " : أصل الصّلح أنّه بمنزلة البيع ، فما جاز في البيع جاز في الصّلح ، وما لم يجز في البيع لم يجز في الصّلح ، ثمّ يتشعّب ... ولا يجوز الصّلح عندي إلاّ على أمر معروف ، كما لا يجوز البيع إلاّ على أمر معروف ، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - : « الصّلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » .



ومن الحرام الّذي يقع في الصّلح أن يقع عندي على المجهول الّذي لو كان بيعاً كان حراماً .



هذا ، وقد نصّ الشّافعيّة على صحّة الصّلح عن المجمل عندهم ، فلو ادّعى عليه شيئاً مجملاً فأقرّ له به وصالحه عنه على عوض ، صحّ الصّلح .



قال الشّيخ أبو حامد وغيره : هذا إذا كان المعقود عليه معلوماً لهما فيصحّ الصّلح وإن لم يسمّياه ، كما لو قال : بعتك الشّيء الّذي نعرفه أنا وأنت بكذا فقال : اشتريت صحّ .



والثّاني للحنفيّة : وهو أنّه يشترط كون المصالح عنه معلوماً إن كان ممّا يحتاج إلى التّسليم، فإنّه لمّا كان مطلوب التّسليم اشترط كونه معلوماً لئلاّ يفضي إلى المنازعة .



جاء في فتاوى قاضي خان : إذا ادّعى حقّاً في دار رجل ولم يسمّ ، فاصطلحا على مال معلوم يعطيه المدّعي ليسلّم المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي لا يصحّ هذا الصّلح ؛ لأنّ المدّعى عليه يحتاج إلى تسليم ما ادّعاه المدّعي ، فإذا لم يعلم مقدار ذلك لا يدري ماذا يسلّم إليه ، فلا يجوز .



أمّا إذا كان ممّا لا يحتاج التّسليم - كترك الدّعوى مثلاً - فلا يشترط كونه معلوماً ؛ لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة ، والمصالح عنه هاهنا ساقط ، فهو بمنزلة الإبراء عن المجهول ، وهو جائز . قال الإسبيجابيّ : لأنّ الجهالة لا تبطل العقود لعينها ، وإنّما تبطل العقود لمعنىً فيها ، وهو وقوع المنازعة . فإن كان ممّا يستغنى عن قبضه ولا تقع المنازعة في ثاني الحال فيه جاز ، وإن كان ممّا يحتاج إلى قبضه ، وتقع المنازعة في ثاني الحال عند القبض والتّسليم لم يجز .



والثّالث للمالكيّة والحنابلة : وهو التّفريق بين ما إذا كان المصالح عنه ممّا يتعذّر علمه . وبين ما إذا كان ممّا لا يتعذّر .



فإن كان ممّا يتعذّر علمه ، فقد نصّ المالكيّة والحنابلة على صحّة الصّلح عنه .



قال الحنابلة : سواء أكان عيناً أم ديناً ، وسواء جهلاه أو جهله من عليه الحقّ ، وسواء أكان المصالح به حالّاً أو نسيئةً ، واستدلّوا على ذلك :



أ - بما ورد عن أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت : « جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس بينهما بيّنة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّكم تختصمون إليّ ، وإنّما أنا بشر ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته أو قد قال : لحجّته من بعض ، فإنّي أقضي بينكم على نحو ممّا أسمع ، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار ، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة . فبكى الرّجلان ، وقال كلّ واحد منهما حقّي لأخي . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمّا إذ قلتما ، فاذهبا ، فاقتسما ثمّ توخّيا الحقّ ، ثمّ استهما ، ثمّ ليحلل كلّ واحد منكما صاحبه » .



ب - ولأنّه إسقاط حقّ ، فصحّ في المجهول كالطّلاق للحاجة .



ج - ولأنّه إذا صحّ الصّلح مع العلم وإمكان أداء الحقّ بعينه فلأن يصحّ مع الجهل أولى . وذلك لأنّه إذا كان معلومًا فلهما طريق إلى التّخلّص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ، ومع الجهل لا يمكن ذلك ، فلو لم يجز الصّلح لأفضى ذلك إلى ضياع الحقّ ، أو بقاء شغل الذّمّة على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كلّ واحد منهما قدر حقّه منه .



أمّا إذا كان ممّا لا يتعذّر علمه ، كتركة باقية ، صالح الورثة الزّوجة عن حصّتها منها مع الجهل بها . فقال المالكيّة ، وأحمد في قول له : لا يجوز الصّلح إلاّ بعد المعرفة بذلك .



وقال الحنابلة في المشهور عندهم : يصحّ لقطع النّزاع .



الشّروط المتعلّقة بالمصالح به :



المصالح به ، أو المصالح عليه : هو بدل الصّلح . وشروطه عند الفقهاء اثنان .



أحدهما : أن يكون مالاً متقوّماً :



وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح على الخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدّم ، وصيد الإحرام والحرم ، وذلك لأنّ في الصّلح معنى المعاوضة ، فما لا يصحّ عوضاً في البياعات لا يصحّ جعله بدل صلح ، ولا فرق بين أن يكون المال ديناً أو عيناً أو منفعةً .



فلو صالحه على مقدار من الدّراهم ،أو على سكنى دار أو ركوب دابّة وقتاً معلوماً صحّ ذلك. قال الكاسانيّ : الأصل أنّ كلّ ما يجوز بيعه وشراؤه يجوز الصّلح عليه ، وما لا فلا .



والثّاني : أن يكون معلوماً :



وعلى ذلك قال الحنابلة : فإن وقع الصّلح بمجهول لم يصحّ ؛ تسليمه واجب والجهل يمنعه . أمّا الحنفيّة ، فقد فصّلوا في المسألة وقالوا : يشترط كون المصالح به معلوماً إن كان ممّا يحتاج إلى القبض والتّسليم ؛ لأنّ جهالة البدل تؤدّي إلى المنازعة ، فتوجب فساد العقد ، أمّا إذا كان شيئاً لا يفتقر إلى القبض والتّسليم فلا يشترط معلوميّته ، مثل أن يدّعي حقّاً في دار رجل ، وادّعى المدّعى عليه حقّاً في أرض بيد المدّعي فاصطلحا على ترك الدّعوى جاز ، وإن لم يبيّن كلّ منهما مقدار حقّه ؛ لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة .



قال الكاسانيّ : لأنّ جهالة البدل لا تمنع جواز العقد لعينها ، بل لإفضائها إلى المنازعة المانعة من التّسليم والتّسلّم ، فإذا كان مالاً يستغنى عن التّسليم والتّسلّم فيه ، لا يفضي إلى المنازعة فلا يمنع الجواز .



آثار الصّلح :



قال الفقهاء : إنّ الآثار المترتّبة على انعقاد الصّلح هو حصول البراءة عن الدّعوى ووقوع الملك في بدل الصّلح للمدّعي ، وفي المصالح به للمدّعى عليه إن كان ممّا يحتمل التّمليك ، وأنّ الصّلح يعتبر بأقرب العقود إليه - إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني - فما كان في معنى البيع أو الإجارة أو الإسقاط أخذ حكمه .



وعلى ذلك قالوا : إذا تمّ الصّلح على الوجه المطلوب دخل بدل الصّلح في ملك المدّعي ، وسقطت دعواه المصالح عنها ، فلا يقبل منه الادّعاء بها ثانياً ، ولا يملك المدّعى عليه استرداد بدل الصّلح الّذي دفعه للمدّعي .



وأصل ذلك : أنّ الصّلح من العقود اللّازمة ، فلذلك لا يملك أحد العاقدين فسخه ، أو الرّجوع عنه بعد تمامه أمّا إذا لم يتمّ فلا حكم له ولا أثر يترتّب عليه . فلو ادّعى أحد على آخر حقّاً وتصالح مع المدّعى عليه على شيء ، ثمّ ظهر بأنّ ذلك الحقّ أو المال لا يلزم المدّعى عليه فلا يتمّ ولا حكم له ، وللمدّعى عليه استرداد بدل الصّلح ، وكذلك لو تصالح البائع مع المشتري عن خيار العيب ، ثمّ ظهر عدم وجود العيب ، أو زال العيب من نفسه وبدون معالجة أو كلفة بطل الصّلح ، ويجب على المشتري ردّ بدل الصّلح الّذي أخذه للبائع . وكذا إذا كان المدّعي مبطلاً وغير محقّ في دعواه ، فلا يحلّ له ديانةً بدل الصّلح في جميع أنواع الصّلح ، ولا يطيب له ، ما لم يسلّم المدّعى عليه للمدّعي بدل الصّلح عن طيب نفس ، وفي تلك الحالة يصبح التّمليك بطريق الهبة .



وعلى أساس ما تقدّم نصّ الفقهاء على : أنّه إذا مات أحد المتصالحين بعد تمام الصّلح ، فليس لورثته فسخه .



وقال المالكيّة : من ادّعى على آخر حقًّا ، فأنكره ، فصالحه ، ثمّ ثبت الحقّ بعد الصّلح باعتراف أو بيّنة فله الرّجوع في الصّلح ، إلاّ إذا كان عالمًا بالبيّنة وهي حاضرة ولم يقم بها، فالصّلح له لازم . أمّا إذا كان أحد المتصالحين قد أشهد قبل الصّلح إشهاد تقيّة : أنّ صلحه إنّما هو لما يتوقّعه من إنكار صاحبه أو غير ذلك ، فإنّ الصّلح لا يلزمه إذا ثبت أصل حقّه .



ما يترتّب على انحلال الصّلح :



إذا بطل الصّلح بعد صحّته ، أو لم يصحّ أصلاً فيرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصّلح عن إنكار . وإن كان عن إقرار فيرجع على المدّعى عليه بالمدّعى لا غيره ، إلاّ في الصّلح عن القصاص إذا لم يصحّ فإنّ لوليّ الدّم أن يرجع على القاتل بالدّية دون القصاص ، إلاّ أن يصير مغروراً من جهة المدّعى عليه ، فيرجع عليه بضمان الغرور أيضاً .









مكتب / محمد جابرعيسى المحامى



عقد الصلح في الشريعة الإسلامية - الجزء الثاني








عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية



( الجزء الثاني )







ثانياً : صلح المعاوضة :



وهو الّذي يجري على غير الدّين المدّعى ، بأن يقرّ له بدين في ذمّته ، ثمّ يتّفقان على تعويضه عنه . وحكمه حكم بيع الدّين ، وإن كان بلفظ الصّلح . وهو عند الفقهاء على أربعة أضرب :



الأوّل : أن يقرّ بأحد النّقدين ، فيصالحه بالآخر ، نحو : أن يقرّ له بمائة درهم ، فيصالحه منها بعشرة دنانير ، أو يقرّ له بعشرة دنانير ، فيصالحه منها على مائة درهم .



وقد نصّ الفقهاء على أنّ له حكم الصّرف ؛ لأنّه بيع أحد النّقدين بالآخر ، ويشترط له ما يشترط في الصّرف من الحلول والتّقابض قبل التّفرّق .



والثّاني : أن يقرّ له بعرض ، كفرس وثوب ، فيصالحه عن العرض بنقد ، أو يعترف له بنقد، كدينار ، فيصالحه عنه على عرض .



وقد نصّ الفقهاء على أنّ له حكم البيع ؛ إذ هو مبادلة مال بمال ، وتثبت فيه أحكام البيع . والثّالث : أن يقرّ له بدين في الذّمّة - من نحو بدل قرض أو قيمة متلف - فيصالح على موصوف في الذّمّة من غير جنسه ، بأن صالحه عن دينار في ذمّته ، بإردبّ قمح ، ونحوه في الذّمّة .



وقد نصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على صحّة هذا الصّلح ، غير أنّه لا يجوز التّفرّق فيه من المجلس قبل القبض ؛ لأنّه إذا حصل التّفرّق قبل القبض كان كلّ واحد من العوضين دينًا - لأنّ محلّه الذّمّة - فصار من بيع الدّين بالدّين ، وهو منهيّ عنه شرعاً .



وقال الشّافعيّة : يشترط تعيين بدل الصّلح في المجلس ليخرج عن بيع الدّين بالدّين .



وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان : أصحّهما : عدم الاشتراط إلاّ إذا كانا ربويّين . والرّابع : أن يقع الصّلح عن نقد ، بأن كان على رجل عشرة دراهم ، فصالح من ذلك على منفعة : كسكنى دار ، أو ركوب دابّة مدّة معيّنة ، أو على أن يعمل له عملاً معلوماً .



وقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ لهذا الصّلح حكم الإجارة ،وتثبت فيه أحكامها.



القسم الثّاني :



الصّلح مع إنكار المدّعى عليه :



وذلك كما إذا ادّعى شخص على آخر شيئاً ، فأنكره المدّعى عليه ، ثمّ صالح عنه . وقد اختلف الفقهاء في جوازه على قولين :



أحدهما لجمهور الفقهاء - من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - : وهو جواز الصّلح على الإنكار . بشرط أن يكون المدّعي معتقداً أنّ ما ادّعاه حقّ ، والمدّعى عليه يعتقد أن لا حقّ عليه . فيتصالحان قطعاً للخصومة والنّزاع . أمّا إذا كان أحدهما عالماً بكذب نفسه ، فالصّلح باطل في حقّه ، وما أخذه العالم بكذب نفسه حرام عليه ؛ لأنّه من أكل المال بالباطل . واستدلّوا على ذلك :



أ - بظاهر قوله تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } . حيث وصف المولى عزّ وجلّ جنس الصّلح بالخيريّة . معلوم أنّ الباطل لا يوصف بالخيريّة ، فكان كلّ صلح مشروعاً بظاهر هذا النّصّ إلاّ ما خصّ بدليل .



ب - بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « الصّلح جائز بين المسلمين » .



فيدخل ذلك في عمومه .



ج - وبأنّ الصّلح إنّما شرع للحاجة إلى قطع الخصومة والمنازعة ، والحاجة إلى قطعها في التّحقيق عند الإنكار - إذ الإقرار مسالمة ومساعدة - فكان أولى بالجواز .



قال ابن قدامة : وكذلك إذا حلّ مع اعتراف الغريم ، فلأن يحلّ مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقّه إلاّ بذلك أولى .



د - ولأنّه صالح بعد دعوى صحيحة ، فيقضى بجوازه ؛ لأنّ المدّعي يأخذ عوضاً عن حقّه الثّابت له في اعتقاده ، وهذا مشروع ، والمدّعى عليه يؤدّيه دفعاً للشّرّ وقطعاً للخصومة عنه ، وهذا مشروع أيضاً ، إذ المال وقاية الأنفس ، ولم يرد الشّرع بتحريم ذلك في موضع.



هـ - ولأنّ افتداء اليمين جائز ؛ لما روي عن عثمان وابن مسعود : أنّهما بذلا مالاً في دفع اليمين عنهما . فاليمين الثّابتة للمدّعي حقّ ثابت لسقوطه تأثير في إسقاط المال ، فجاز أن يؤخذ عنه المال على وجه الصّلح ، أصله القود في دم العمد .



والثّاني للشّافعيّة وابن أبي ليلى : وهو أنّ الصّلح على الإنكار باطل .



واستدلّوا على ذلك :



أ - بالقياس على ما لو أنكر الزّوج الخلع ، ثمّ تصالح مع زوجته على شيء، فلا يصحّ ذلك.



ب - وبأنّ المدّعي إن كان كاذباً فقد استحلّ مال المدّعى عليه ، وهو حرام ، وإن كان صادقًا فقد حرّم على نفسه ماله الحلال ؛ لأنّه يستحقّ جميع ما يدّعيه ، فدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » .



ج - وبأنّ المدّعي اعتاض عمّا لا يملكه ، فصار كمن باع مال غيره ، والمدّعى عليه عاوض على ملكه ، فصار كمن ابتاع مال نفسه من وكيله . فالصّلح على الإنكار يستلزم أن يملك المدّعي ما لا يملك ، وأن يملك المدّعى عليه ما يملك ، وذلك إن كان المدّعي كاذباً . فإن كان صادقاً انعكس الحال .



د - ولأنّه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه ، فبطل كالصّلح على حدّ القذف .



التّكييف الفقهيّ للصّلح على الإنكار :



قال ابن رشد في " بداية المجتهد " : وأمّا الصّلح على الإنكار ، فالمشهور فيه عن مالك وأصحابه : أنّه يراعى فيه من الصّحّة ما يراعى في البيوع . ثمّ قال : فالصّلح الّذي يقع فيه ما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام : صلح يفسخ باتّفاق ، وصلح يفسخ باختلاف ، وصلح لا يفسخ باتّفاق إن طال ، وإن لم يطل ففيه اختلاف .



وفرّق الحنفيّة والحنابلة بين تكييفه في حقّ المدّعي وبينه في حقّ المدّعى عليه وقالوا : يكون الصّلح على مال المصالح به معاوضةً في حقّ المدّعي ؛ لأنّه يعتقده عوضاً عن حقّه ; فيلزمه حكم اعتقاده ، وعلى ذلك : فإن كان ما أخذه المدّعي عوضاً عن دعواه شقصاً مشفوعاً ، فإنّها تثبت فيه الشّفعة لشريك المدّعى عليه ؛ لأنّه أخذه عوضاً ، كما لو اشتراه . - ويكون الصّلح على الإنكار في حقّ المدّعى عليه خلاصاً من اليمين وقطعاً للمنازعة ؛ لأنّ المدّعي في زعم المدّعى عليه المنكر غير محقّ ومبطل في دعواه ، وأنّ إعطاءه العوض له ليس بمعاوضة بل للخلاص من اليمين ، إذ لو لم يصالحه ويعط العوض لبقي النّزاع ولزمه اليمين . وقد عبّر الحنابلة عن هذا المعنى بقولهم : يكون صلح الإنكار إبراءً في حقّ المنكر؛ لأنّه دفع إليه المال افتداءً ليمينه ودفعاً للضّرر عنه لا عوضاً عن حقّ يعتقده عليه .



وبناءً على ذلك : لو كان ما صالح به المنكر شقصاً لم تثبت فيه الشّفعة ؛ لأنّ المدّعي يعتقد أنّه أخذ ماله أو بعضه مسترجعاً له ممّن هو عنده ، فلم يكن معاوضةً ، بل هو كاسترجاع العين المغصوبة .



القسم الثّالث :



الصّلح مع سكوت المدّعى عليه :



وذلك كما إذا ادّعى شخص على آخر شيئاً ، فسكت المدّعى عليه دون أن يقرّ أو ينكر، ثمّ صالح عنه .



وقد اعتبر الفقهاء - ما عدا ابن أبي ليلى - هذا الصّلح في حكم الصّلح عن الإنكار ؛ لأنّ السّاكت منكر حكماً . صحيح أنّ السّكوت يمكن أن يحمل على الإقرار ، وعلى الإنكار ، إلاّ أنّه نظراً لكون الأصل براءة الذّمّة وفراغها ، فقد ترجّحت جهة الإنكار .



ومن هنا كان اختلافهم في جوازه تبعاً لاختلافهم في جواز الصّلح عن الإنكار .



وعلى هذا ، فللفقهاء في الصّلح عن السّكوت قولان :



أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : وهو جواز الصّلح على السّكوت ، وحجّتهم نفس الأدلّة الّتي ساقوها على جوازه عن الإنكار .



وقد اشترطوا فيه نفس الشّروط ورتّبوا ذات الأحكام الّتي اعتبروها في حالة الإنكار .



هذا وقد وافقهم على جوازه ابن أبي ليلى - مع إبطاله الصّلح عن الإنكار - حيث اعتبره في حكم الصّلح على الإقرار .



والثّاني : للشّافعيّة : وهو عدم جواز الصّلح على السّكوت ، وأنّه باطل وذلك لأنّ جواز الصّلح يستدعي حقّاً ثابتاً ، ولم يوجد في موضع السّكوت ؛ إذ السّاكت يعدّ منكراً حكماً حتّى تسمع عليه البيّنة ، فكان إنكاره معارضاً لدعوى المدّعي . ولو بذل المال لبذله لدفع خصومة باطلة ، فكان في معنى الرّشوة .



الصّلح بين المدّعي والأجنبيّ :



اختلف الفقهاء في الأحكام المتعلّقة بالصّلح الكائن بين المدّعي والأجنبيّ على النّحو التّالي :



أوّلاً : مذهب الحنفيّة :



نصّ الحنفيّة على أنّ الصّلح إذا كان بين المدّعي والأجنبيّ ، فلا يخلو : إمّا أن يكون بإذن المدّعى عليه أو بغير إذنه .



أ - فإن كان بإذنه ، فإنّه يصحّ الصّلح ، ويكون الأجنبيّ وكيلاً عن المدّعى عليه في الصّلح ، ويجب المال المصالح به على المدّعى عليه دون الوكيل ، سواء أكان الصّلح عن إقرار أم إنكار ؛ لأنّ الوكيل في الصّلح لا ترجع إليه حقوق العقد . وهذا إذا لم يضمن الأجنبيّ بدل الصّلح عن المدّعى عليه ، فأمّا إذا ضمن ، فإنّه يجب عليه بحكم الكفالة والضّمان لا بحكم العقد .



ب - وأمّا إذا كان بغير إذنه ، فهذا صلح الفضوليّ ، وله وجهان :



أحدهما : أن يضيف الفضوليّ الصّلح إلى نفسه ، كأن يقول للمدّعي : صالحني عن دعواك مع فلان بألف درهم فيصالحه ذلك الشّخص . فهذا الصّلح صحيح ، ويلزم بدل الصّلح الفضوليّ ، ولو لم يضمن أو يضف الصّلح إلى ماله أو ذمّته ؛ لأنّ إضافة الفضوليّ الصّلح إلى نفسه تنفذ في حقّه ، ويكون قد التزم بدل الصّلح مقابل إسقاط اليمين عن المدّعى عليه، وليس للفضوليّ الرّجوع على المدّعى عليه ببدل الصّلح الّذي أدّاه ، طالما أنّ الصّلح لم يكن بأمر المدّعى عليه . قال السّمرقنديّ في ( التّحفة ) : وإنّما كان هكذا ، لأنّ التّبرّع بإسقاط الدّين، بأن يقضي دين غيره بغير إذنه صحيح ، والتّبرّع بإسقاط الخصومة عن غيره صحيح، والصّلح عن إقرار إسقاط للدّين ، والصّلح عن إنكار إسقاط للخصومة ، فيجوز كيفما كان . والثّاني : أن يضيف الفضوليّ الصّلح إلى المدّعى عليه ، بأن يقول للمدّعي : تصالح مع فلان عن دعواك . ولهذا الوجه خمس صور : في أربع منها يكون الصّلح لازماً ، وفي الخامسة منها يكون موقوفاً .



ووجه الحصر في هذا الوجه : أنّ الفضوليّ إمّا أن يضمن بدل الصّلح أو لا يضمن ، وإذا لم يضمن ، فإمّا أن يضيف الصّلح إلى ماله أو لا يضيفه . وإذا لم يضفه ، فإمّا أن يشير إلى نقد أو عرض أو لا يشير . وإذا لم يشر ، فإمّا أن يسلّم العوض أو لا يسلّم .



فالصّور خمس هي :



الصّورة الأولى : أن يضمن الفضوليّ بدل الصّلح ، كما إذا قال الفضوليّ للمدّعي : صالح فلاناً عن دعواك معه بألف درهم ، وأنا ضامن لك ذلك المبلغ وقبل المدّعي تمّ الصّلح وصحّ؛ لأنّه في هذه الصّورة لم يحصل للمدّعى عليه سوى البراءة ، فكما أنّ للمدّعى عليه أن يحصل على براءته بنفسه ، فللأجنبيّ - أيضاً - أن يحصل على براءة المدّعى عليه .



وفي هذه الصّورة ، وإن لم يلزم الفضوليّ بدل الصّلح بسبب عقده الصّلح - من حيث كونه سفيراً - إلاّ أنّه يلزمه أداؤه بسبب ضمانه .



الصّورة الثّانية : أن لا يضمن الفضوليّ بدل الصّلح إلاّ أنّه يضيفه إلى ماله ، كأن يقول الفضوليّ : قد صالحت على مالي الفلانيّ ، أو على فرسي هذه ، أو على دراهمي هذه الألف فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ المصالح الفضوليّ بإضافة الصّلح إلى ماله يكون قد التزم تسليمه ، ولمّا كان مقتدراً على تسليم البدل صحّ الصّلح ولزم الفضوليّ تسليم البدل .



الصّورة الثّالثة : أن يشير إلى العروض أو النّقود الموجودة بقوله : عليّ هذا المبلغ ، أو هذه السّاعة فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ بدل الصّلح المشار إليه قد تعيّن تسليمه على أن يكون من ماله وبذلك تمّ الصّلح .



والفرق بين الصّورة الثّانية والثّالثة : هو أنّ الفضوليّ في الثّانية قد أضاف الصّلح إلى ماله الّذي نسبه إلى نفسه ، أمّا في الثّالثة فبدل الصّلح مع كونه ماله إلاّ أنّه لم ينسبه إلى نفسه عند العقد .



الصّورة الرّابعة : إذا أطلق بقوله : صالحت على كذا ، ولم يكن ضامناً ولا مضيفاً إلى ماله ولا مشيراً إلى شيء ، وسلّم المبلغ فيصحّ الصّلح ؛ لأنّ تسليم بدل الصّلح يوجب بقاء البدل المذكور سالماً للمدّعي ، ويستلزم حصول المقصود بتمام العقد ، فصار فوق الضّمان والإضافة إلى نفسه .



وعلى ذلك : إذا حصل للمدّعي عوض في هذه الصّور وتمّ رضاؤه به برئ المدّعى عليه ، ولا شيء للفضوليّ المصالح من المصالح عنه .



ويستفاد من حصر لزوم التّسليم في الصّورة الرّابعة أنّ تسليم بدل الصّلح في الصّورتين الثّانية والثّالثة ليس شرطاً لصحّة الصّلح ، فيصحّ فيهما ولو لم يحصل التّسليم ، ويجبر الفضوليّ على التّسليم .



هذا وحيث صحّ الصّلح في هذه الصّور الأربع ، فإنّ الفضوليّ المصالح يكون متبرّعاً بالبدل ; لأنّه أجرى هذا العقد بلا أمر المدّعى عليه .



الصّورة الخامسة : أن يطلق الفضوليّ بقوله للمدّعي : أصالحك عن دعواك هذه مع فلان على ألف درهم ، ولا يكون ضامناً ، ولا مضيفاً إلى ماله ولا مشيراً إلى شيء ، ثمّ لا يسلّم بدل الصّلح ، فصلحه هذا موقوف على إجازة المدّعى عليه ؛ لأنّ المصالح هاهنا - وهو الفضوليّ - لا ولاية له على المطلوب المدّعى عليه ، فلا ينفذ تصرّفه عليه ، فيتوقّف على إجازته .



وعلى ذلك : فإن أجاز المدّعى عليه صلحه صحّ ؛ لأنّ إجازته اللّاحقة بمنزلة ابتداء التّوكيل ، ويلزم بدل الصّلح المدّعى عليه دون المصالح ؛ لأنّه التزم هذا البدل باختياره ، ويخرج الأجنبيّ الفضوليّ من بينهما ، ولا يلزمه شيء . وإن لم يجز المدّعى عليه الصّلح فإنّه يبطل؛ لأنّه لا يجب المال عليه والمدّعى به لا يسقط .



ولا فرق في هذه الصّورة بين أن يكون المدّعى عليه مقرّاً أو منكراً ، وبين أن يكون بدل الصّلح عيناً أو ديناً ؛ لأنّ المصالح الفضوليّ لم يضف بدل الصّلح لنفسه أو ماله ، كما أنّه لم يضمنه ؛ فلا يلزمه البدل المذكور .



ثانياً : مذهب المالكيّة :



ذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز للرّجل أن يصالح عن غيره بوكالة أو بغير وكالة ، وذلك مثل أن يصالح رجل على دين له على رجل ، ويلزم المصالح ما صالح به .



جاء في " المدوّنة " في باب الصّلح : ومن قال لرجل : هلمّ أصالحك من دينك الّذي على فلان بكذا ، ففعل ، أو أتى رجل رجلاً فصالحه عن امرأته بشيء مسمّىً لزم الزّوج الصّلح ، ولزم المصالح ما صالح به وإن لم يقل : أنا ضامن ؛ لأنّه إنّما قضى عن الّذي عليه الحقّ ممّا يحقّ عليه .



ثالثاً : مذهب الشّافعيّة :



ذهب الشّافعيّة إلى أنّ للصّلح الجاري بين المدّعي والأجنبيّ حالتين :



الأولى : مع إقرار المدّعى عليه :



وفي هذه الحال فرّقوا بين ما إذا كان المدّعى عيناً أو ديناً .



أ - فإن كان المدّعى عيناً ، وقال الأجنبيّ للمدّعي : إنّ المدّعى عليه وكّلني في مصالحتك له عن بعض العين المدّعاة ، أو عن كلّها بعين من مال المدّعى عليه ، أو بعشرة في ذمّته ، فتصالحا عليه ، صحّ الصّلح ؛ لأنّ دعوى الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة .



ثمّ ينظر : فإن كان الأجنبيّ صادقاً في الوكالة ، صار المصالح عنه ملكاً للمدّعى عليه . وإلاّ كان فضوليّاً ولم يصحّ صلحه ، لعدم الإذن فيه ، كشراء الفضوليّ .



ولو صالحه الوكيل على عين مملوكة للوكيل ، أو على دين في ذمّته صحّ العقد ، ويكون كشرائه لغيره بإذنه بمال نفسه ، ويقع للآذن ، فيرجع المأذون عليه بالمثل إن كان مثليّاً ، وبالقيمة إن كان قيميّاً ؛ لأنّ المدفوع قرض لا هبة .



أمّا لو صالح عن العين المدّعاة لنفسه بعين من ماله أو بدين في ذمّته فيصحّ الصّلح للأجنبيّ، وكأنّه اشتراه بلفظ الشّراء ، ولو لم يجر مع الأجنبيّ خصومه ؛ لأنّ الصّلح ترتّب على دعوى وجواب .



ب - وإن كان المدّعى ديناً ، فينظر : فإن صالحه عن المدّعى عليه ، كما لو قال الأجنبيّ للمدّعي : صالحني على الألف الّذي لك على فلان بخمسمائة صحّ الصّلح ؛ لأنّه إن كان قد وكّله المدّعى عليه بذلك فقد قضى دينه بإذنه ، وإن لم يوكّله فقد قضى دينه بغير إذنه وذلك جائز . ومثل ذلك ما لو قال له الأجنبيّ : وكّلني المدّعى عليه بمصالحتك على نصفه ، أو على ثوبه هذا ، فصالحه فإنّه يصحّ ، وإن صالحه عن نفسه فقال : صالحني عن هذا الدّين ليكون لي في ذمّة المدّعى عليه ففيه وجهان - بناءً على الوجهين في بيع الدّين مَن غير من عليه - .



أحدهما : لا يصحّ ؛ لأنّه لا يقدر على تسليم ما في ذمّة المدّعى عليه .



والثّاني : يصحّ كما لو اشترى وديعةً في يد غيره .



والثّانية : مع إنكار المدّعى عليه :



وفي هذه الحال - أيضاً - فرّقوا بين ما إذا كان المدّعى عيناً أو ديناً .



أ - فإن كان عيناً ، وصالحه الأجنبيّ عن المنكر ظاهراً بقوله : أقرّ المدّعى عليه عندي ووكّلني في مصالحتك له ، إلاّ أنّه لا يظهر إقراره لئلاّ تنتزعه منه ، فصالحه صحّ ذلك ؛ لأنّ دعوى الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة . قال الشّيرازيّ : لأنّ الاعتبار بالمتعاقدين ، وقد اتّفقا على ما يجوز العقد عليه فجاز ، ثمّ ينظر فيه : فإن كان قد أذن له في الصّلح ملك المدّعى عليه العين ؛ لأنّه ابتاعه له وكيله ، وإن لم يكن أذن له في الصّلح لم يملك المدّعى عليه العين ؛ لأنّه ابتاع له عيناً بغير إذنه ، فلم يملكه .



ولو قال الأجنبيّ للمدّعي : هو منكر ، غير أنّه مبطل ، فصالحني له على داري هذه لتنقطع الخصومة بينكما فلا يصحّ على الأصحّ ؛ لأنّه صلح إنكار .



وإن صالح لنفسه فقال : هو مبطل في إنكاره ؛ لأنّك صادق عندي ، فصالحني لنفسي بداري هذه أو بعشرة في ذمّتي فهو كشراء المغصوب ، فيفرّق بين ما إذا كان قادراً على انتزاعه فيصحّ ، وبين ما إذا كان عاجزًا عن انتزاعه فلا يصحّ .



ب - وإن كان المدّعى ديناً : وقال الأجنبيّ : أنكر الخصم وهو مبطل ، فصالحني له بدابّتي هذه لتنقطع الخصومة بينكما ، فقبل صحّ الصّلح ، إذ لا يتعذّر قضاء دين الغير بدون إذنه ، بخلاف تمليك الغير عين ماله بغير إذنه فإنّه لا يمكن .



وإن صالحه عن الدّين لنفسه فقال : هو منكر ، ولكنّه مبطل ، فصالحني لنفسي بدابّتي هذه أو بعشرة في ذمّتي لآخذه منه فلا يصحّ ؛ لأنّه ابتياع دين في ذمّة غيره .



رابعاً : مذهب الحنابلة :



تكلّم الحنابلة عن صلح الأجنبيّ مع المدّعي في حالة الإنكار فقط ، ولم يتعرّضوا لصلحه في حالة الإقرار ، وقالوا :



أ - إنّ صلح الأجنبيّ عن المنكر ، إمّا أن يكون عن عين أو دين :



فإن صالح عن منكر لعين بإذنه ، أو بدون إذنه صحّ الصّلح ، سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي بصحّة دعواه على المنكر ، أو لم يعترف له بصحّتها ، ولو لم يذكر الأجنبيّ أنّ المنكر وكّله في الصّلح عنه ؛ لأنّه افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدّعوى ، ولا يرجع الأجنبيّ بشيء ممّا صالح به على المنكر إن دفع بدون إذنه ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا يلزمه فكان متبرّعاً، كما لو تصدّق عنه . أمّا إذا صالح عنه بإذنه فهو وكيله ، والتّوكيل في ذلك جائز ويرجع عليه بما دفع عنه بإذنه إن نوى الرّجوع عليه بما دفع عنه .



وإن صالح عن منكر لدين بإذنه أو بدون إذنه ، صحّ الصّلح ، سواء اعترف الأجنبيّ للمدّعي لصحّة دعواه على المطلوب ، أو لم يعترف ؛ لأنّ قضاء الدّين عن غيره جائز بإذنه وبغير إذنه ، فإنّ « عليّاً وأبا قتادة - رضي الله عنهما - قضيا الدّين عن الميّت ، وأقرّهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم » ، ولو لم يقل الأجنبيّ إنّ المنكر وكّله في الصّلح عنه ؛ لأنّه افتداء للمنكر من الخصومة ، وإبراء له من الدّعوى ، ولا يرجع الأجنبيّ على المنكر بشيء ممّا صالح به إن دفع بدون إذنه ؛ لأنّه أدّى عنه ما لا يلزمه فكان متبرّعاً ، كما لو تصدّق عنه . فإن أذن المنكر للأجنبيّ في الصّلح ، أو الأداء عنه رجع عليه بما ادّعى عنه إن نوى الرّجوع بما دفع عنه .



ب - وإن صالح الأجنبيّ المدّعي لنفسه ، لتكون المطالبة له فلا يخلو : إمّا أن يعترف للمدّعي بصحّة دعواه ، أو لا يعترف له :



فإن لم يعترف له كان الصّلح باطلاً ؛ لأنّه اشترى من المدّعي ما لم يثبت له ، ولم تتوجّه إليه خصومة يفتدي منها ، أشبه ما لو اشترى منه ملك غيره .



وإن اعترف له بصحّة دعواه وصالح المدّعي ، والمدّعى به دين لم يصحّ ؛ لأنّه اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه ؛ ولأنّه بيع للدّين من غير من هو في ذمّته . وإذا كان بيع الدّين المقرّ به من غير من هو في ذمّته لا يصحّ ؛ فبيع دين في ذمّة منكر معجوز عن قبضه منه أولى .



وإن كان المدّعى به عيناً ، وعلم الأجنبيّ عجزه عن استنقاذها من مدّعىً عليه لم يصحّ الصّلح ؛ لأنّه اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه كشراء الشّارد . وإن ظنّ الأجنبيّ القدرة على استنقاذها صحّ ؛ لأنّه اشترى من مالك ملكه القادر على أخذه منه في اعتقاده ، أو ظنّ عدم المقدرة ثمّ تبيّنت قدرته على استنقاذها صحّ الصّلح ؛ لأنّ البيع تناول ما يمكن تسليمه فلم يؤثّر ظنّ عدمه .



ثمّ إن عجز الأجنبيّ بعد الصّلح ظانّاً القدرة على استنقاذها خُيّر الأجنبيّ بين فسخ الصّلح - ولأنّه لم يسلّم له المعقود عليه ؛ فكان له الرّجوع إلى بدله - وبين إمضاء الصّلح ؛ لأنّ الحقّ له كخيار العيب . وإن قدر على انتزاعه استقرّ الصّلح .



ج - وإن قال الأجنبيّ للمدّعي : أنا وكيل المدّعى عليه في مصالحتك عن العين ، وهو مقرّ لك بها في الباطن ، وإنّما يجحدك في الظّاهر فظاهر كلام الخرقيّ : لا يصحّ الصّلح ؛ لأنّه يجحدها في الظّاهر لينتقص المدّعي بعض حقّه ، أو يشتريه بأقلّ من ثمنه ؛ فهو هاضم للحقّ يتوصّل إلى أخذ المصالح عنه بالظّلم والعدوان ، فهو بمنزلة ما لو شافهه بذلك فقال : أنا أعلم صحّة دعواك ، وأنّ هذا لك ، ولكن لا أسلّمه إليك ولا أقرّ لك به عند الحاكم حتّى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه ، وهو غير جائز . وقال القاضي : يصحّ . ثمّ ينظر إلى المدّعى عليه : فإن صدّقه على ذلك ملك العين ، ولزمه ما أدّى عنه ورجع الأجنبيّ عليه بما أدّى عنه إن كان أذن له في الدّفع . وإن أنكر المدّعى عليه الإذن في الدّفع فالقول قوله بيمينه ، ويكون حكمه كمن أدّى عن غيره ديناً بلا إذنه . وإن أنكر الوكالة فالقول قوله بيمينه ، ولا رجوع للأجنبيّ عليه ولا يحكم له بملكها ؛ ثمّ إن كان الأجنبيّ قد وكّل في الشّراء، فقد ملكها المدّعى عليه باطناً ؛ لأنّه اشتراها بإذنه فلا يقدح إنكاره في ملكها ؛ لأنّ ملكه ثبت قبل إنكاره ، وإنّما هو ظالم بالإنكار للأجنبيّ ، وإن لم يوكّله لم يملكها ؛ لأنّه اشترى له عيناً بغير إذنه .



ولو قال الأجنبيّ للمدّعي : قد عرف المدّعى عليه صحّة دعواك ، ويسألك الصّلح عنه ، وكّلني فيه فصالحه صحّ ؛ لأنّه هاهنا لم يمتنع من أدائه ، بل اعترف به وصالحه عليه مع بذله فأشبه ما لو لم يجحده .



أركان الصّلح :



ذهب الحنفيّة إلى أنّ للصّلح ركناً واحداً : وهو الصّيغة المؤلّفة من الإيجاب والقبول الدّالّة على التّراضي . وخالفهم في ذلك جمهور الفقهاء - من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - حيث عدّوا أركان الصّلح ثلاثةً :



أ - الصّيغة .



ب - والعاقدان .



ج - والمحلّ . " وهو المصالح به والمصالح عنه " .






 
 
مكتب / محمد جابرعيسى المحامى





عقد الصلح في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول








عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية



( الجزء الأول )



التّعريف :



الصّلح في اللّغة : اسم بمعنى المصالحة والتّصالح ، خلاف المخاصمة والتّخاصم .



قال الرّاغب : والصّلح يختصّ بإزالة النّفار بين النّاس . يقال : اصطلحوا وتصالحوا .



وعلى ذلك يقال : وقع بينهما الصّلح ، وصالحه على كذا ، وتصالحا عليه واصطلحا ، وهم لنا صلح ، أي مصالحون .



وفي الاصطلاح : معاقدة يرتفع بها النّزاع بين الخصوم ، ويتوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين .



فهو عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتّراضي ، وهذا عند الحنفيّة .



وزاد المالكيّة على هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقاية ، فجاء في تعريف ابن عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ففي التّعبير ب ( خوف وقوعه ) إشارة إلى جواز الصّلح لتوقّي منازعةً غير قائمة بالفعل ، ولكنّها محتملة الوقوع .



والمصالح : هو المباشر لعقد الصّلح والمصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه إذا قطع النّزاع فيه بالصّلح والمصالح عليه ، أو المصالح به : هو بدل الصّلح .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - التّحكيم :



التّحكيم عند الفقهاء : تولية حكم لفصل خصومة بين مختلفين . وهذه التّولية قد تكون من القاضي ، وقد تكون من قبل الخصمين .



ويختلف التّحكيم عن الصّلح من وجهين :



أحدهما : أنّ التّحكيم ينتج عنه حكم قضائيّ ، بخلاف الصّلح فإنّه ينتج عنه عقد يتراضى عليه الطّرفان المتنازعان . وفرق بين الحكم القضائيّ والعقد الرّضائيّ .



والثّاني : أنّ الصّلح يتنزّل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حقّ ، بخلاف التّحكيم فليس فيه نزول عن حقّ .



ب - الإبراء :



الإبراء عبارة عن : إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . أمّا عن العلاقة بين الصّلح والإبراء ، فلها وجهان :



أحدهما : أنّ الصّلح إنّما يكون بعد النّزاع عادةً ، والإبراء لا يشترط فيه ذلك .



والثّاني : أنّ الصّلح قد يتضمّن إبراءً ، وذلك إذا كان فيه إسقاط لجزء من الحقّ المتنازع فيه، وقد لا يتضمّن الإبراء ، بأن يكون مقابل التزام من الطّرف الآخر دون إسقاط .



ومن هنا : كان بين الصّلح والإبراء عموم وخصوص من وجه ، فيجتمعان في الإبراء بمقابل في حالة النّزاع ، وينفرد الإبراء في الإسقاط مجّاناً ، أو في غير حالة النّزاع ، كما ينفرد الصّلح فيما إذا كان بدل الصّلح عوضًا لا إسقاط فيه .



ج - العفو :



العفو : هو التّرك والمحو ، ومنه : عفا اللّه عنك . أي محا ذنوبك ، وترك عقوبتك على اقترافها . عفوت عن الحقّ : أسقطته . كأنّك محوته عن الّذي هو عليه .



هذا ويختلف العفو عن الصّلح في كون الأوّل إنّما يقع ويصدر من طرف واحد ، بينما الصّلح إنّما يكون بين طرفين . ومن جهة أخرى : فالعفو والصّلح قد يجتمعان كما في حالة العفو عن القصاص إلى مال .



مشروعيّة الصّلح :



ثبتت مشروعيّة الصّلح بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .



أمّا الكتاب :



أ - ففي قوله تعالى : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } قال القاضي أبو الوليد بن رشد : وهذا عامّ في الدّماء والأموال والأعراض ، وفي كلّ شيء يقع التّداعي والاختلاف فيه بين المسلمين .



ب - وفي قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فقد أفادت الآية مشروعيّة الصّلح ، حيث إنّه سبحانه وصف الصّلح بأنّه خير ، ولا يوصف بالخيريّة إلاّ ما كان مشروعاً مأذوناً فيه .



وأمّا السّنّة :



أ - فما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلح جائز بين المسلمين » . وفي رواية : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » . والحديث واضح الدّلالة على مشروعيّة الصّلح .



ب - وما روى « كعب بن مالك - رضي الله عنه أنّه لمّا تنازع مع ابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلح بينهما : بأن استوضع من دين كعب الشّطر ، وأمر غريمه بأداء الشّطر » .



وأمّا الإجماع :



فقد أجمع الفقهاء على مشروعيّة الصّلح في الجملة ، وإن كان بينهم اختلاف في جواز بعض صوره .



وأمّا المعقول :



فهو أنّ الصّلح رافع لفساد واقع ، أو متوقّع بين المؤمنين ، إذ أكثر ما يكون الصّلح عند النّزاع . والنّزاع سبب الفساد ، والصّلح يهدمه ويرفعه ، ولهذا كان من أجلّ المحاسن .



أنواع الصّلح :



الصّلح يتنوّع أنواعاً خمسةً :



أحدهما : الصّلح بين المسلمين والكفّار . ( ر . جهاد ، جزية ، عهد ، هدنة ) .



والثّاني : الصّلح بين أهل العدل وأهل البغي . ( ر . بغاة ) .



والثّالث : الصّلح بين الزّوجين إذا خيف الشّقاق بينهما ، أو خافت الزّوجة إعراض الزّوج عنها .



والرّابع : الصّلح بين المتخاصمين في غير مال . كما في جنايات العمد .



والخامس : الصّلح بين المتخاصمين في الأموال . وهذا النّوع هو المبوّب له في كتب الفقه ، وهو موضوع هذا البحث .



الحكم التّكليفيّ للصّلح :



قال ابن عرفة : وهو - أي الصّلح - من حيث ذاته مندوب إليه ، وقد يعرض وجوبه عند تعيّن مصلحة ، وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدةً واجبة الدّرء أو راجحته .



وقال ابن القيّم : الصّلح نوعان :



أ - صلح عادل جائز . وهو ما كان مبناه رضا اللّه سبحانه ورضا الخصمين ، وأساسه العلم والعدل ، فيكون المصالح عالماً بالوقائع ، عارفاً بالواجب ، قاصداً للعدل كما قال سبحانه : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } .



ب - وصلح جائر مردود : وهو الّذي يحلّ الحرام أو يحرّم الحلال ، كالصّلح الّذي يتضمّن أكل الرّبا ، أو إسقاط الواجب ، أو ظلم ثالث ، وكما في الإصلاح بين القويّ الظّالم والخصم الضّعيف المظلوم بما يرضي المقتدر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظّ ، بينما يقع الإغماض والحيف فيه على الضّعيف ، أو لا يمكّن ذلك المظلوم من أخذ حقّه .



ردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح :



جاء في " البدائع " : ولا بأس أن يردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح إن طمع منهم ذلك ، قال اللّه تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فكان الرّدّ للصّلح ردّاً للخير . وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : " ردّوا الخصوم حتّى يصطلحوا ، فإنّ فصل القضاء يورث بينهم الضّغائن ". فندب - رضي الله عنه - القضاة إلى الصّلح ونبّه على المعنى ، وهو حصول المقصود من غير ضغينة . ولا يزيد على مرّة أو مرّتين ، فإن اصطلحا ، وإلاّ قضى بينهما بما يوجب الشّرع . وإن لم يطمع منهم فلا يردّهم إليه ، بل ينفّذ القضاء فيهم ؛ لأنّه لا فائدة في الرّدّ .



حقيقة الصّلح :



يرى جمهور الفقهاء أنّ عقد الصّلح ليس عقداً مستقلّاً قائماً بذاته في شروطه وأحكامه، بل هو متفرّع عن غيره في ذلك ، بمعنى : أنّه تسري عليه أحكام أقرب العقود إليه شبهاً بحسب مضمونه . فالصّلح عن مال بمال يعتبر في حكم البيع ، والصّلح عن مال بمنفعة يعدّ في حكم الإجارة ، والصّلح على بعض العين المدّعاة هبة بعض المدّعى لمن هو في يده، والصّلح عن نقد بنقد له حكم الصّرف ، والصّلح عن مال معيّن بموصوف في الذّمّة في حكم السّلم ، والصّلح في دعوى الدّين على أن يأخذ المدّعي أقلّ من المطلوب ليترك دعواه يعتبر أخذًا لبعض الحقّ ، وإبراءً عن الباقي ... إلخ .



وثمرة ذلك : أن تجري على الصّلح أحكام العقد الّذي اعتبر به وتراعى فيه شروطه ومتطلّباته . قال الزّيلعيّ : وهذا لأنّ الأصل في الصّلح أن يحمل على أشبه العقود به ، فتجري عليه أحكامه ؛ لأنّ العبرة للمعاني دون الصّورة .



أقسام الصّلح :



الصّلح إمّا أن يكون بين المدّعي والمدّعى عليه ، وإمّا أن يكون بين المدّعي والأجنبيّ المتوسّط ، وينقسم إلى ثلاثة أقسام ، صلح عن الإقرار ، وصلح عن الإنكار ، وصلح عن السّكوت .



الصّلح بين المدّعي والمدّعى عليه :



وهو ثلاثة أقسام :



القسم الأوّل :



الصّلح مع إقرار المدّعى عليه :



وهو جائز باتّفاق الفقهاء . وهو ضربان : صلح عن الأعيان ، صلح عن الدّيون .



أ - الصّلح عن الأعيان . وهو نوعان : صلح الحطيطة ، وصلح المعاوضة .



أوّلاً : صلح الحطيطة :



وهو الّذي يجري على بعض العين المدّعاة ، كمن صالح من الدّار المدّعاة على نصفها أو ثلثها . وقد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال .



أحدها : للمالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : وهو أنّه يعدّ من قبيل هبة بعض المدّعى لمن هو في يده ، فتثبت فيه أحكام الهبة ، سواء وقع بلفظ الهبة أو بلفظ الصّلح .



قال الشّافعيّة : لأنّ الخاصّيّة الّتي يفتقر إليها لفظ الصّلح ، وهي سبق الخصومة قد حصلت . والثّاني : للحنابلة ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة : وهو أنّه إذا كان له في يده عين ، فقال المقرّ له : وهبتك نصفها ، فأعطني بقيّتها ، فيصحّ ويعتبر له شروط الهبة ؛ لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من هبة بعض حقّه ، كما لا يمنع من استيفائه ، ما لم يقع ذلك بلفظ الصّلح، فإنّه لا يصحّ ؛ لأنّه يكون قد صالح عن بعض ماله ببعضه ، فهو هضم للحقّ ، أو بشرط أن يعطيه الباقي ، كقوله : على أن تعطيني كذا منه أو تعوّضني منه بكذا ؛ لأنّه يقتضي المعاوضة ، فكأنّه عاوض عن بعض حقّه ببعضه ، والمعاوضة عن الشّيء ببعضه محظورة ، أو يمنعه حقّه بدون الصّلح ، فإنّه لا يصحّ كذلك .



والثّالث : للحنفيّة : وهو أنّه لو ادّعى شخص على آخر داراً ، حصل الصّلح على قسم معيّن منها ، فهناك قولان في المذهب :



أحدهما : لا يصحّ هذا الصّلح ، وللمدّعي الادّعاء بعد ذلك بباقي الدّار ؛ لأنّ الصّلح إذا وقع على بعض المدّعى به يكون المدّعي قد استوفى بعض حقّه ، وأسقط البعض الآخر ، إلاّ أنّ الإسقاط عن الأعيان باطل ، فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ، كما أنّ بعض المدّعى به لا يكون عوضاً عن كلّه ، حيث يكون ذلك بمثابة أنّ الشّيء يكون عوضاً عن نفسه ، إذ البعض داخل ضمن الكلّ .



والثّاني : يصحّ هذا الصّلح ، ولا تسمع الدّعوى في باقيها بعده ، وهو ظاهر الرّواية ؛ لأنّ الإبراء عن بعض العين المدّعى بها إبراء في الحقيقة عن دعوى ذلك البعض ، فالصّلح صحيح ولا تسمع الدّعوى بعده .



أمّا لو صالحه على منفعة العين المدّعاة ، بأن صالحه عن بيت ادّعى عليه به وأقرّ له به على سكناه مدّةً معلومةً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك الصّلح على قولين :



أحدهما : الجواز وهو قول الحنفيّة : ويعتبر إجارةً . وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ ، ويعتبر إعارةً ؛ فتثبت فيه أحكامها . فإن عيّن مدّةً فإعارة مؤقّتة ، وإلاّ فمطلقة .



والثّاني : عدم الجواز ، وهو للحنابلة ووجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّه صالحه عن ملكه على منفعة ملكه ، فكأنّه ابتاع داره بمنفعتها ، وهو لا يجوز .



ثانياً : صلح المعاوضة :



وهو الّذي يجري على غير العين المدّعاة ، كأن ادّعى عليه داراً ، فأقرّ له بها ثمّ صالحه منها على ثوب أو دار أخرى .



وهو جائز صحيح باتّفاق الفقهاء ، ويعدّ بيعاً ، وإن عقد بلفظ الصّلح ؛ لأنّه مبادلة مال بمال، ويشترط فيه جميع شروط البيع : كمعلوميّة البدل ، والقدرة على التّسليم ، والتّقابض في المجلس إن جرى بين العوضين ربا النّسيئة .



كذلك تتعلّق به جميع أحكام البيع : كالرّدّ بالعيب ، وحقّ الشّفعة ، والمنع من التّصرّف قبل القبض ونحو ذلك ، كما يفسد بالغرر والجهالة الفاحشة والشّروط المفسدة للبيع .



ولو صالحه من العين المدّعاة على منفعة عين أخرى ، كما إذا ادّعى على رجل شيئاً ، فأقرّ به ، ثمّ صالحه على سكنى داره ، أو ركوب دابّته ، أو لبس ثوبه مدّةً معلومةً فلا خلاف بين الفقهاء في جواز هذا الصّلح ، وأنّه يكون إجارةً ، وتترتّب عليه سائر أحكامها ؛ لأنّ العبرة للمعاني ، فوجب حمل الصّلح عليها ، لوجود معناها فيها ، وهو تمليك المنافع بعوض .



ب - الصّلح عن الدّين :



وذلك مثل أن يدّعي شخص على آخر ديناً ، فيقرّ المدّعى عليه له به ، ثمّ يصالحه على بعضه ، أو على مال غيره . وهو جائز - في الجملة - باتّفاق الفقهاء ، وإن كان ثمّة اختلاف بينهم في بعض صوره وحالاته .



وهو عند الفقهاء نوعان : صلح إسقاط وإبراء ، وصلح معاوضة .



أوّلاً : صلح الإسقاط والإبراء :



ويسمّى عند الشّافعيّة صلح الحطيطة .



وهو الّذي يجري على بعض الدّين المدّعى ، وصورته بلفظ الصّلح ، أن يقول المقرّ له : صالحتك على الألف الحالّ الّذي لي عليك على خمسمائة .



وقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين :



أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، هو أنّ هذا الصّلح جائز ؛ إذ هو أخذ لبعض حقّه وإسقاط لباقيه ، لا معاوضة ، ويعتبر إبراءً للمدّعى عليه عن بعض الدّين ؛ لأنّه معناه .



ثمّ قال الشّافعيّة : ويصحّ بلفظ الإبراء والحطّ ونحوهما ، كالإسقاط والهبة والتّرك والإحلال والتّحليل والعفو والوضع ، ولا يشترط حينئذ القبول على المذهب ، سواء قلنا : إنّ الإبراء تمليك أم إسقاط . كما يصحّ بلفظ الصّلح في الأصحّ . وفي اشتراط القبول إذا وقع به وجهان -كالوجهين فيما لو قال لمن عليه دين : وهبته لك - والأصحّ الاشتراط ؛ لأنّ اللّفظ بوضعه يقتضيه .



والثّاني : للحنابلة : وهو أنّه إذا كان لرجل على آخر دين ، فوضع عنه بعض حقّه ، وأخذ منه الباقي ، كان ذلك جائزاً لهما إذا كان بلفظ الإبراء ، وكانت البراءة مطلقةً من غير شرط إعطاء الباقي ، كقول الدّائن : على أن تعطيني كذا منه ، ولم يمتنع المدّعى عليه من إعطاء بعض حقّه إلاّ بإسقاط بعضه الآخر . فإن تطوّع المقرّ له بإسقاط بعض حقّه بطيب نفسه جاز، غير أنّ ذلك ليس بصلح ولا من باب الصّلح بسبيل .



أمّا إذا وقع ذلك بلفظ الصّلح فأشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد : أنّه لا يصحّ ، وهي الرّواية الأصحّ في المذهب ؛ وذلك لأنّه صالح عن بعض ماله ببعضه ، فكان هضماً للحقّ .



والثّانية : وهي ظاهر " الموجز " " والتّبصرة " أنّه يصحّ .



أمّا لو صالحه عن ألف مؤجّل على خمسمائة معجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين :



أحدهما : لجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والصّحيح عند الحنابلة أنّ ذلك لا يجوز .



واستثنى الحنفيّة والحنابلة من ذلك دين الكتابة ؛ لأنّ الرّبا لا يجري بينهما في ذلك .



وعلّل الشّافعيّة عدم الصّحّة : بأنّه ترك بعض المقدار ليحصل الحلول في الباقي ، والصّفة بانفرادها لا تقابل بعوض ؛ ولأنّ صفة الحلول لا يصحّ إلحاقها بالمؤجّل ، وإذا لم يحصل ما ترك من القدر لأجله لم يصحّ التّرك .



ووجه المنع عند المالكيّة : أنّ من عجّل ما أجّل يعدّ مسلّفاً ، فقد أسلف الآن خمسمائة ليقتضي عند الأجل ألفاً من نفسه .



وقد علّل الحنفيّة المنع في غير دين الكتابة : بأنّ صاحب الدّين المؤجّل لا يستحقّ المعجّل ، فلا يمكن أن يجعل استيفاءً ، فصار عوضاً ، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز .



وبيان ذلك : أنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والتّعجيل خير من النّسيئة لا محالة ، فيكون خمسمائة بمقابلة خمسمائة مثله من الدّين ، والتّعجيل في مقابلة الباقي ، وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو باطل ؛ ألا ترى أنّ الشّرع حرّم ربا النّسيئة ، وليس فيه إلاّ مقابلة المال بالأجل شبهةً ، فلأن تكون مقابلة المال بالأجل حقيقةً حرامًا أولى .



الثّاني : جواز ذلك - وهو رواية عن الإمام أحمد ، حكاها ابن أبي موسى وغيره ، وهو قول ابن عبّاس وإبراهيم النّخعيّ ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة. قال ابن القيّم : لأنّ هذا عكس الرّبا ، فإنّ الرّبا يتضمّن الزّيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمّن براءة ذمّته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كلّ واحد منهما ، ولم يكن هنا رباً لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً ، فإنّ الرّبا الزّيادة ، وهي منتفية هاهنا ، والّذين حرّموا ذلك إنّما قاسوه على الرّبا ، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : إمّا أن تربي ، وإمّا أن تقضي . وبين قوله : عجّل لي وأهب لك مائةً . فأين أحدهما من الآخر ؛ فلا نصّ في تحريم ذلك ، ولا إجماع ، ولا قياس صحيح .



ولو صالح من ألف درهم حالّ على ألف درهم مؤجّل ، فقد اختلف الفقهاء في صحّة ذلك على قولين :



أحدهما : للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ التّأجيل لا يصحّ ، ويعتبر لاغياً ؛ إذ هو من الدّائن وعد بإلحاق الأجل ، وصفة الحلول لا يصحّ إلحاقها ، والوعد لا يلزم الوفاء به .



والثّاني : للحنفيّة : وهو صحّة التّأجيل ، وذلك ؛ لأنّه إسقاط لوصف الحلول فقط ، وهو حقّ له ، فيصحّ ، ويكون من قبيل الإحسان . قالوا : لأنّ أمور المسلمين محمولة على الصّحّة ، فلو حملنا ذلك على المعاوضة فيلزم بيع الدّراهم بالدّراهم نساءً ، وذلك لا يجوز ؛ لأنّه بيع الدّين بالدّين ؛ لأنّ الدّراهم الحالّة والدّراهم المؤجّلة ثابتة في الذّمّة ، والدّين بالدّين لا يجوز ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الكالئ بالكالئ » ، فلمّا لم يكن حمله على المعاوضة حملناه على التّأخير تصحيحاً للتّصرّف ؛ لأنّ ذلك جائز كونه تصرّفاً في حقّ نفسه، لا في حقّ غيره .



ولو اصطلحا عن الدّين الحالّ على وضع بعضه وتأجيل الباقي ، كما لو صالح الدّائن مدينه عن ألف حالّة على خمسمائة مؤجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :



الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة . وهو صحّة الإسقاط والتّأجيل . وقد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة . قال ابن القيّم : وهو الصّواب ، بناءً على صحّة تأجيل القرض والعاريّة .



والثّاني : للحنابلة في الأصحّ والشّافعيّة : وهو أنّه يصحّ الإسقاط دون التّأجيل . وعلّة صحّة الوضع والإسقاط : أنّه أسقط بعض حقّه عن طيب نفسه ، فلا مانع من صحّته ؛ لأنّه ليس في مقابلة تأجيل ، فوجب أن يصحّ كما لو أسقطه كلّه ؛ إذ هو مسامحة وليس بمعاوضة . والثّالث : لبعض الحنابلة : وهو أنّه لا يصحّ الإسقاط ولا التّأجيل ؛ بناءً على أنّ الصّلح لا يصحّ مع الإقرار ، وعلى أنّ الحالّ لا يتأجّل .










مكتب / محمد جابرعيسى المحامى





عقد الصلح في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول








عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية



( الجزء الأول )



التّعريف :



الصّلح في اللّغة : اسم بمعنى المصالحة والتّصالح ، خلاف المخاصمة والتّخاصم .



قال الرّاغب : والصّلح يختصّ بإزالة النّفار بين النّاس . يقال : اصطلحوا وتصالحوا .



وعلى ذلك يقال : وقع بينهما الصّلح ، وصالحه على كذا ، وتصالحا عليه واصطلحا ، وهم لنا صلح ، أي مصالحون .



وفي الاصطلاح : معاقدة يرتفع بها النّزاع بين الخصوم ، ويتوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين .



فهو عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتّراضي ، وهذا عند الحنفيّة .



وزاد المالكيّة على هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقاية ، فجاء في تعريف ابن عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ففي التّعبير ب ( خوف وقوعه ) إشارة إلى جواز الصّلح لتوقّي منازعةً غير قائمة بالفعل ، ولكنّها محتملة الوقوع .



والمصالح : هو المباشر لعقد الصّلح والمصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه إذا قطع النّزاع فيه بالصّلح والمصالح عليه ، أو المصالح به : هو بدل الصّلح .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - التّحكيم :



التّحكيم عند الفقهاء : تولية حكم لفصل خصومة بين مختلفين . وهذه التّولية قد تكون من القاضي ، وقد تكون من قبل الخصمين .



ويختلف التّحكيم عن الصّلح من وجهين :



أحدهما : أنّ التّحكيم ينتج عنه حكم قضائيّ ، بخلاف الصّلح فإنّه ينتج عنه عقد يتراضى عليه الطّرفان المتنازعان . وفرق بين الحكم القضائيّ والعقد الرّضائيّ .



والثّاني : أنّ الصّلح يتنزّل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حقّ ، بخلاف التّحكيم فليس فيه نزول عن حقّ .



ب - الإبراء :



الإبراء عبارة عن : إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . أمّا عن العلاقة بين الصّلح والإبراء ، فلها وجهان :



أحدهما : أنّ الصّلح إنّما يكون بعد النّزاع عادةً ، والإبراء لا يشترط فيه ذلك .



والثّاني : أنّ الصّلح قد يتضمّن إبراءً ، وذلك إذا كان فيه إسقاط لجزء من الحقّ المتنازع فيه، وقد لا يتضمّن الإبراء ، بأن يكون مقابل التزام من الطّرف الآخر دون إسقاط .



ومن هنا : كان بين الصّلح والإبراء عموم وخصوص من وجه ، فيجتمعان في الإبراء بمقابل في حالة النّزاع ، وينفرد الإبراء في الإسقاط مجّاناً ، أو في غير حالة النّزاع ، كما ينفرد الصّلح فيما إذا كان بدل الصّلح عوضًا لا إسقاط فيه .



ج - العفو :



العفو : هو التّرك والمحو ، ومنه : عفا اللّه عنك . أي محا ذنوبك ، وترك عقوبتك على اقترافها . عفوت عن الحقّ : أسقطته . كأنّك محوته عن الّذي هو عليه .



هذا ويختلف العفو عن الصّلح في كون الأوّل إنّما يقع ويصدر من طرف واحد ، بينما الصّلح إنّما يكون بين طرفين . ومن جهة أخرى : فالعفو والصّلح قد يجتمعان كما في حالة العفو عن القصاص إلى مال .



مشروعيّة الصّلح :



ثبتت مشروعيّة الصّلح بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .



أمّا الكتاب :



أ - ففي قوله تعالى : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } قال القاضي أبو الوليد بن رشد : وهذا عامّ في الدّماء والأموال والأعراض ، وفي كلّ شيء يقع التّداعي والاختلاف فيه بين المسلمين .



ب - وفي قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فقد أفادت الآية مشروعيّة الصّلح ، حيث إنّه سبحانه وصف الصّلح بأنّه خير ، ولا يوصف بالخيريّة إلاّ ما كان مشروعاً مأذوناً فيه .



وأمّا السّنّة :



أ - فما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلح جائز بين المسلمين » . وفي رواية : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » . والحديث واضح الدّلالة على مشروعيّة الصّلح .



ب - وما روى « كعب بن مالك - رضي الله عنه أنّه لمّا تنازع مع ابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلح بينهما : بأن استوضع من دين كعب الشّطر ، وأمر غريمه بأداء الشّطر » .



وأمّا الإجماع :



فقد أجمع الفقهاء على مشروعيّة الصّلح في الجملة ، وإن كان بينهم اختلاف في جواز بعض صوره .



وأمّا المعقول :



فهو أنّ الصّلح رافع لفساد واقع ، أو متوقّع بين المؤمنين ، إذ أكثر ما يكون الصّلح عند النّزاع . والنّزاع سبب الفساد ، والصّلح يهدمه ويرفعه ، ولهذا كان من أجلّ المحاسن .



أنواع الصّلح :



الصّلح يتنوّع أنواعاً خمسةً :



أحدهما : الصّلح بين المسلمين والكفّار . ( ر . جهاد ، جزية ، عهد ، هدنة ) .



والثّاني : الصّلح بين أهل العدل وأهل البغي . ( ر . بغاة ) .



والثّالث : الصّلح بين الزّوجين إذا خيف الشّقاق بينهما ، أو خافت الزّوجة إعراض الزّوج عنها .



والرّابع : الصّلح بين المتخاصمين في غير مال . كما في جنايات العمد .



والخامس : الصّلح بين المتخاصمين في الأموال . وهذا النّوع هو المبوّب له في كتب الفقه ، وهو موضوع هذا البحث .



الحكم التّكليفيّ للصّلح :



قال ابن عرفة : وهو - أي الصّلح - من حيث ذاته مندوب إليه ، وقد يعرض وجوبه عند تعيّن مصلحة ، وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدةً واجبة الدّرء أو راجحته .



وقال ابن القيّم : الصّلح نوعان :



أ - صلح عادل جائز . وهو ما كان مبناه رضا اللّه سبحانه ورضا الخصمين ، وأساسه العلم والعدل ، فيكون المصالح عالماً بالوقائع ، عارفاً بالواجب ، قاصداً للعدل كما قال سبحانه : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } .



ب - وصلح جائر مردود : وهو الّذي يحلّ الحرام أو يحرّم الحلال ، كالصّلح الّذي يتضمّن أكل الرّبا ، أو إسقاط الواجب ، أو ظلم ثالث ، وكما في الإصلاح بين القويّ الظّالم والخصم الضّعيف المظلوم بما يرضي المقتدر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظّ ، بينما يقع الإغماض والحيف فيه على الضّعيف ، أو لا يمكّن ذلك المظلوم من أخذ حقّه .



ردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح :



جاء في " البدائع " : ولا بأس أن يردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح إن طمع منهم ذلك ، قال اللّه تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فكان الرّدّ للصّلح ردّاً للخير . وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : " ردّوا الخصوم حتّى يصطلحوا ، فإنّ فصل القضاء يورث بينهم الضّغائن ". فندب - رضي الله عنه - القضاة إلى الصّلح ونبّه على المعنى ، وهو حصول المقصود من غير ضغينة . ولا يزيد على مرّة أو مرّتين ، فإن اصطلحا ، وإلاّ قضى بينهما بما يوجب الشّرع . وإن لم يطمع منهم فلا يردّهم إليه ، بل ينفّذ القضاء فيهم ؛ لأنّه لا فائدة في الرّدّ .



حقيقة الصّلح :



يرى جمهور الفقهاء أنّ عقد الصّلح ليس عقداً مستقلّاً قائماً بذاته في شروطه وأحكامه، بل هو متفرّع عن غيره في ذلك ، بمعنى : أنّه تسري عليه أحكام أقرب العقود إليه شبهاً بحسب مضمونه . فالصّلح عن مال بمال يعتبر في حكم البيع ، والصّلح عن مال بمنفعة يعدّ في حكم الإجارة ، والصّلح على بعض العين المدّعاة هبة بعض المدّعى لمن هو في يده، والصّلح عن نقد بنقد له حكم الصّرف ، والصّلح عن مال معيّن بموصوف في الذّمّة في حكم السّلم ، والصّلح في دعوى الدّين على أن يأخذ المدّعي أقلّ من المطلوب ليترك دعواه يعتبر أخذًا لبعض الحقّ ، وإبراءً عن الباقي ... إلخ .



وثمرة ذلك : أن تجري على الصّلح أحكام العقد الّذي اعتبر به وتراعى فيه شروطه ومتطلّباته . قال الزّيلعيّ : وهذا لأنّ الأصل في الصّلح أن يحمل على أشبه العقود به ، فتجري عليه أحكامه ؛ لأنّ العبرة للمعاني دون الصّورة .



أقسام الصّلح :



الصّلح إمّا أن يكون بين المدّعي والمدّعى عليه ، وإمّا أن يكون بين المدّعي والأجنبيّ المتوسّط ، وينقسم إلى ثلاثة أقسام ، صلح عن الإقرار ، وصلح عن الإنكار ، وصلح عن السّكوت .



الصّلح بين المدّعي والمدّعى عليه :



وهو ثلاثة أقسام :



القسم الأوّل :



الصّلح مع إقرار المدّعى عليه :



وهو جائز باتّفاق الفقهاء . وهو ضربان : صلح عن الأعيان ، صلح عن الدّيون .



أ - الصّلح عن الأعيان . وهو نوعان : صلح الحطيطة ، وصلح المعاوضة .



أوّلاً : صلح الحطيطة :



وهو الّذي يجري على بعض العين المدّعاة ، كمن صالح من الدّار المدّعاة على نصفها أو ثلثها . وقد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال .



أحدها : للمالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : وهو أنّه يعدّ من قبيل هبة بعض المدّعى لمن هو في يده ، فتثبت فيه أحكام الهبة ، سواء وقع بلفظ الهبة أو بلفظ الصّلح .



قال الشّافعيّة : لأنّ الخاصّيّة الّتي يفتقر إليها لفظ الصّلح ، وهي سبق الخصومة قد حصلت . والثّاني : للحنابلة ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة : وهو أنّه إذا كان له في يده عين ، فقال المقرّ له : وهبتك نصفها ، فأعطني بقيّتها ، فيصحّ ويعتبر له شروط الهبة ؛ لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من هبة بعض حقّه ، كما لا يمنع من استيفائه ، ما لم يقع ذلك بلفظ الصّلح، فإنّه لا يصحّ ؛ لأنّه يكون قد صالح عن بعض ماله ببعضه ، فهو هضم للحقّ ، أو بشرط أن يعطيه الباقي ، كقوله : على أن تعطيني كذا منه أو تعوّضني منه بكذا ؛ لأنّه يقتضي المعاوضة ، فكأنّه عاوض عن بعض حقّه ببعضه ، والمعاوضة عن الشّيء ببعضه محظورة ، أو يمنعه حقّه بدون الصّلح ، فإنّه لا يصحّ كذلك .



والثّالث : للحنفيّة : وهو أنّه لو ادّعى شخص على آخر داراً ، حصل الصّلح على قسم معيّن منها ، فهناك قولان في المذهب :



أحدهما : لا يصحّ هذا الصّلح ، وللمدّعي الادّعاء بعد ذلك بباقي الدّار ؛ لأنّ الصّلح إذا وقع على بعض المدّعى به يكون المدّعي قد استوفى بعض حقّه ، وأسقط البعض الآخر ، إلاّ أنّ الإسقاط عن الأعيان باطل ، فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ، كما أنّ بعض المدّعى به لا يكون عوضاً عن كلّه ، حيث يكون ذلك بمثابة أنّ الشّيء يكون عوضاً عن نفسه ، إذ البعض داخل ضمن الكلّ .



والثّاني : يصحّ هذا الصّلح ، ولا تسمع الدّعوى في باقيها بعده ، وهو ظاهر الرّواية ؛ لأنّ الإبراء عن بعض العين المدّعى بها إبراء في الحقيقة عن دعوى ذلك البعض ، فالصّلح صحيح ولا تسمع الدّعوى بعده .



أمّا لو صالحه على منفعة العين المدّعاة ، بأن صالحه عن بيت ادّعى عليه به وأقرّ له به على سكناه مدّةً معلومةً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك الصّلح على قولين :



أحدهما : الجواز وهو قول الحنفيّة : ويعتبر إجارةً . وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ ، ويعتبر إعارةً ؛ فتثبت فيه أحكامها . فإن عيّن مدّةً فإعارة مؤقّتة ، وإلاّ فمطلقة .



والثّاني : عدم الجواز ، وهو للحنابلة ووجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّه صالحه عن ملكه على منفعة ملكه ، فكأنّه ابتاع داره بمنفعتها ، وهو لا يجوز .



ثانياً : صلح المعاوضة :



وهو الّذي يجري على غير العين المدّعاة ، كأن ادّعى عليه داراً ، فأقرّ له بها ثمّ صالحه منها على ثوب أو دار أخرى .



وهو جائز صحيح باتّفاق الفقهاء ، ويعدّ بيعاً ، وإن عقد بلفظ الصّلح ؛ لأنّه مبادلة مال بمال، ويشترط فيه جميع شروط البيع : كمعلوميّة البدل ، والقدرة على التّسليم ، والتّقابض في المجلس إن جرى بين العوضين ربا النّسيئة .



كذلك تتعلّق به جميع أحكام البيع : كالرّدّ بالعيب ، وحقّ الشّفعة ، والمنع من التّصرّف قبل القبض ونحو ذلك ، كما يفسد بالغرر والجهالة الفاحشة والشّروط المفسدة للبيع .



ولو صالحه من العين المدّعاة على منفعة عين أخرى ، كما إذا ادّعى على رجل شيئاً ، فأقرّ به ، ثمّ صالحه على سكنى داره ، أو ركوب دابّته ، أو لبس ثوبه مدّةً معلومةً فلا خلاف بين الفقهاء في جواز هذا الصّلح ، وأنّه يكون إجارةً ، وتترتّب عليه سائر أحكامها ؛ لأنّ العبرة للمعاني ، فوجب حمل الصّلح عليها ، لوجود معناها فيها ، وهو تمليك المنافع بعوض .



ب - الصّلح عن الدّين :



وذلك مثل أن يدّعي شخص على آخر ديناً ، فيقرّ المدّعى عليه له به ، ثمّ يصالحه على بعضه ، أو على مال غيره . وهو جائز - في الجملة - باتّفاق الفقهاء ، وإن كان ثمّة اختلاف بينهم في بعض صوره وحالاته .



وهو عند الفقهاء نوعان : صلح إسقاط وإبراء ، وصلح معاوضة .



أوّلاً : صلح الإسقاط والإبراء :



ويسمّى عند الشّافعيّة صلح الحطيطة .



وهو الّذي يجري على بعض الدّين المدّعى ، وصورته بلفظ الصّلح ، أن يقول المقرّ له : صالحتك على الألف الحالّ الّذي لي عليك على خمسمائة .



وقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين :



أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، هو أنّ هذا الصّلح جائز ؛ إذ هو أخذ لبعض حقّه وإسقاط لباقيه ، لا معاوضة ، ويعتبر إبراءً للمدّعى عليه عن بعض الدّين ؛ لأنّه معناه .



ثمّ قال الشّافعيّة : ويصحّ بلفظ الإبراء والحطّ ونحوهما ، كالإسقاط والهبة والتّرك والإحلال والتّحليل والعفو والوضع ، ولا يشترط حينئذ القبول على المذهب ، سواء قلنا : إنّ الإبراء تمليك أم إسقاط . كما يصحّ بلفظ الصّلح في الأصحّ . وفي اشتراط القبول إذا وقع به وجهان -كالوجهين فيما لو قال لمن عليه دين : وهبته لك - والأصحّ الاشتراط ؛ لأنّ اللّفظ بوضعه يقتضيه .



والثّاني : للحنابلة : وهو أنّه إذا كان لرجل على آخر دين ، فوضع عنه بعض حقّه ، وأخذ منه الباقي ، كان ذلك جائزاً لهما إذا كان بلفظ الإبراء ، وكانت البراءة مطلقةً من غير شرط إعطاء الباقي ، كقول الدّائن : على أن تعطيني كذا منه ، ولم يمتنع المدّعى عليه من إعطاء بعض حقّه إلاّ بإسقاط بعضه الآخر . فإن تطوّع المقرّ له بإسقاط بعض حقّه بطيب نفسه جاز، غير أنّ ذلك ليس بصلح ولا من باب الصّلح بسبيل .



أمّا إذا وقع ذلك بلفظ الصّلح فأشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد : أنّه لا يصحّ ، وهي الرّواية الأصحّ في المذهب ؛ وذلك لأنّه صالح عن بعض ماله ببعضه ، فكان هضماً للحقّ .



والثّانية : وهي ظاهر " الموجز " " والتّبصرة " أنّه يصحّ .



أمّا لو صالحه عن ألف مؤجّل على خمسمائة معجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين :



أحدهما : لجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والصّحيح عند الحنابلة أنّ ذلك لا يجوز .



واستثنى الحنفيّة والحنابلة من ذلك دين الكتابة ؛ لأنّ الرّبا لا يجري بينهما في ذلك .



وعلّل الشّافعيّة عدم الصّحّة : بأنّه ترك بعض المقدار ليحصل الحلول في الباقي ، والصّفة بانفرادها لا تقابل بعوض ؛ ولأنّ صفة الحلول لا يصحّ إلحاقها بالمؤجّل ، وإذا لم يحصل ما ترك من القدر لأجله لم يصحّ التّرك .



ووجه المنع عند المالكيّة : أنّ من عجّل ما أجّل يعدّ مسلّفاً ، فقد أسلف الآن خمسمائة ليقتضي عند الأجل ألفاً من نفسه .



وقد علّل الحنفيّة المنع في غير دين الكتابة : بأنّ صاحب الدّين المؤجّل لا يستحقّ المعجّل ، فلا يمكن أن يجعل استيفاءً ، فصار عوضاً ، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز .



وبيان ذلك : أنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والتّعجيل خير من النّسيئة لا محالة ، فيكون خمسمائة بمقابلة خمسمائة مثله من الدّين ، والتّعجيل في مقابلة الباقي ، وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو باطل ؛ ألا ترى أنّ الشّرع حرّم ربا النّسيئة ، وليس فيه إلاّ مقابلة المال بالأجل شبهةً ، فلأن تكون مقابلة المال بالأجل حقيقةً حرامًا أولى .



الثّاني : جواز ذلك - وهو رواية عن الإمام أحمد ، حكاها ابن أبي موسى وغيره ، وهو قول ابن عبّاس وإبراهيم النّخعيّ ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة. قال ابن القيّم : لأنّ هذا عكس الرّبا ، فإنّ الرّبا يتضمّن الزّيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمّن براءة ذمّته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كلّ واحد منهما ، ولم يكن هنا رباً لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً ، فإنّ الرّبا الزّيادة ، وهي منتفية هاهنا ، والّذين حرّموا ذلك إنّما قاسوه على الرّبا ، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : إمّا أن تربي ، وإمّا أن تقضي . وبين قوله : عجّل لي وأهب لك مائةً . فأين أحدهما من الآخر ؛ فلا نصّ في تحريم ذلك ، ولا إجماع ، ولا قياس صحيح .



ولو صالح من ألف درهم حالّ على ألف درهم مؤجّل ، فقد اختلف الفقهاء في صحّة ذلك على قولين :



أحدهما : للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ التّأجيل لا يصحّ ، ويعتبر لاغياً ؛ إذ هو من الدّائن وعد بإلحاق الأجل ، وصفة الحلول لا يصحّ إلحاقها ، والوعد لا يلزم الوفاء به .



والثّاني : للحنفيّة : وهو صحّة التّأجيل ، وذلك ؛ لأنّه إسقاط لوصف الحلول فقط ، وهو حقّ له ، فيصحّ ، ويكون من قبيل الإحسان . قالوا : لأنّ أمور المسلمين محمولة على الصّحّة ، فلو حملنا ذلك على المعاوضة فيلزم بيع الدّراهم بالدّراهم نساءً ، وذلك لا يجوز ؛ لأنّه بيع الدّين بالدّين ؛ لأنّ الدّراهم الحالّة والدّراهم المؤجّلة ثابتة في الذّمّة ، والدّين بالدّين لا يجوز ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الكالئ بالكالئ » ، فلمّا لم يكن حمله على المعاوضة حملناه على التّأخير تصحيحاً للتّصرّف ؛ لأنّ ذلك جائز كونه تصرّفاً في حقّ نفسه، لا في حقّ غيره .



ولو اصطلحا عن الدّين الحالّ على وضع بعضه وتأجيل الباقي ، كما لو صالح الدّائن مدينه عن ألف حالّة على خمسمائة مؤجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :



الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة . وهو صحّة الإسقاط والتّأجيل . وقد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة . قال ابن القيّم : وهو الصّواب ، بناءً على صحّة تأجيل القرض والعاريّة .



والثّاني : للحنابلة في الأصحّ والشّافعيّة : وهو أنّه يصحّ الإسقاط دون التّأجيل . وعلّة صحّة الوضع والإسقاط : أنّه أسقط بعض حقّه عن طيب نفسه ، فلا مانع من صحّته ؛ لأنّه ليس في مقابلة تأجيل ، فوجب أن يصحّ كما لو أسقطه كلّه ؛ إذ هو مسامحة وليس بمعاوضة . والثّالث : لبعض الحنابلة : وهو أنّه لا يصحّ الإسقاط ولا التّأجيل ؛ بناءً على أنّ الصّلح لا يصحّ مع الإقرار ، وعلى أنّ الحالّ لا يتأجّل .