بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

18 يونيو 2010

مكتب / محمد جابرعيسى المحامى




عقد الصلح في الشريعة الإسلامية- الجزء الثالث








عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية



( الجزء الثالث )



شروط الصّلح :



للصّلح شروط يلزم تحقّقها لوجوده ، هي خارجة عن ماهيّته ، منها ما يرجع إلى الصّيغة ، ومنها ما يرجع إلى العاقدين ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عنه ، وهو الشّيء المتنازع فيه ، ومنها ما يرجع إلى المصالح عليه ، وهو بدل الصّلح .



وبيان ذلك فيما يأتي :



الشّروط المتعلّقة بالصّيغة :



المراد بالصّيغة : الإيجاب والقبول الدّالّين على التّراضي . مثل أن يقول المدّعى عليه: صالحتك من كذا على كذا ، أو من دعواك كذا على كذا ، ويقول الآخر : قبلت ، أو رضيت أو ما يدلّ على قبوله ورضاه . فإذا وجد الإيجاب والقبول فقد تمّ الصّلح .



هذا ، ولم يتعرّض فقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في باب الصّلح لبيان الشّروط المتعلّقة بصيغته ؛ نظراً لاعتبارهم عقد الصّلح غير قائم بذاته ، بل تابعاً لأقرب العقود به في الشّرائط والأحكام ، بحيث يعدّ بيعاً إذا كان مبادلة مال بمال ، وهبةً إذا كان على بعض العين المدّعاة، وإبراءً إذا كان على بعض الدّين المدّعى ، اكتفاءً منهم بذكر ما يتعلّق بالصّيغة من شروط وأحكام في تلك العقود الّتي يلحق بها الصّلح ، بحسب محلّه وما تصالحا عليه .



أمّا الحنفيّة : فقد تكلّموا على صيغة الصّلح بصورة مستقلّة في بابه ، وأتوا على ذكر بعض شروطها وأحكامها ، وسكتوا عن البعض الآخر ، اكتفاءً بما أوردوه من تفصيلات تتعلّق بالصّيغة في أبواب البيع والإجارة والهبة والإبراء ، الّتي يأخذ الصّلح أحكامها بحسب أحواله وصوره .



أمّا كلامهم في باب الصّلح عن صيغته وشروطها : فهو أنّه يشترط في الصّلح حصول الإيجاب من المدّعي على كلّ حال ، سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أم لم يكن ، ولذلك لا يصحّ الصّلح بدون إيجاب مطلقاً . أمّا القبول ، فيشترط في كلّ صلح يتضمّن المبادلة بعد الإيجاب .



ثمّ قالوا : تستعمل صيغة الماضي في الإيجاب والقبول ، ولا ينعقد الصّلح بصيغة الأمر ، وعلى ذلك لو قال المدّعي للمدّعى عليه : صالحني على الدّار الّتي تدّعيها بخمسمائة درهم ، فلا ينعقد الصّلح بقول المدّعى عليه : صالحت ؛ لأنّ طرف الإيجاب كان عبارةً عن طلب الصّلح ، وهو غير صالح للإيجاب ، فقول الطّرف الآخر : قبلت ، لا يقوم مقام الإيجاب .



أمّا إذا قال المدّعي ثانياً : قبلت . ففي تلك الحالة ينعقد الصّلح .



وبناءً على ما تقدّم :



إذا كان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين : كالعقارات ، والأراضي ، وعروض التّجارة ، ونحوها فيشترط القبول بعد الإيجاب لصحّة الصّلح ؛ لأنّ الصّلح في هذه الحالة لا يكون إسقاطاً حتّى يتمّ بإرادة المسقط وحدها ، وسبب عدم كونه إسقاطاً مبنيّ على عدم جريان الإسقاط في الأعيان .



وإذا كان الصّلح واقعاً على جنس آخر ، فيشترط القبول - أيضاً - سواء أكان المدّعى به ممّا يتعيّن بالتّعيين أو كان ممّا لا يتعيّن بالتّعيين : كالنّقدين ، وما في حكمهما .



وسبب اشتراط القبول في هاتين المسألتين : أنّ الصّلح فيهما مبادلة ، وفي المبادلة يجب القبول ، ولا يصحّ العقد بدونه .



أمّا الصّلح الّذي ينعقد بالإيجاب وحده ، فهو الّذي يتضمّن إسقاط بعض الحقوق ، فيكتفى فيه بالإيجاب ، ولا يشترط القبول .



وعلى ذلك : فإذا وقع الصّلح على بعض الدّين الثّابت في الذّمّة ، بمعنى أن يكون كلّ من المصالح عنه والمصالح به من النّقدين ، وهما لا يتعيّنان بالتّعيين ، فهاهنا ينعقد الصّلح بمجرّد إيجاب الدّائن ، ولا يشترط قبول المدين ؛ لأنّ هذا الصّلح عبارة عن إسقاط بعض الحقّ ، والإسقاط لا يتوقّف على القبول ، بل يتمّ بمجرّد إيجاب المسقط .



فمثلاً : لو قال الدّائن للمدين : صالحتك على ما في ذمّتك لي من الخمسمائة دينار على مائتي دينار فينعقد الصّلح بمجرّد الإيجاب ، ولا يشترط قبول المدين ، ويلزم الصّلح ما لم يردّه الدّين . إلاّ أنّه يشترط في ذلك أن يكون الموجب المدّعي ؛ لأنّه لو كان المدّعى عليه هو الموجب ، فيشترط قبول المدّعي ؛ سواء أكان الصّلح عمّا يتعيّن بالتّعيين ، أم عمّا لا يتعيّن بالتّعيين ، وذلك لأنّ هذا الصّلح إمّا أن يكون إسقاطاً ، فيجب أن يكون المسقط المدّعي أو الدّائن ، إذ لا يمكن سقوط حقّه بدون قبوله ورضاه ، وإمّا أن يكون معاوضةً ، وفي المعاوضة يشترط وجود الإيجاب والقبول معاً . أمّا في الصّلح عمّا لا يتعيّن بالتّعيين الّذي يقع على عين الجنس ، فيقوم طلب المدّعى عليه الصّلح مقام القبول .



الصّلح بالتّعاطي :



ذهب الحنفيّة إلى انعقاد الصّلح بالتّعاطي إذا كانت قرائن الحال دالّةً على تراضيهما به، كما لو أعطى المدّعى عليه مالاً للمدّعي لا يحقّ له أخذه وقبض المدّعي ذلك المال . وبيان ذلك : أنّه لو ادّعى شخص على آخر بألف درهم ، وأنكر المدّعى عليه الدّين ، وأعطى المدّعي شاةً وقبضها المدّعي منه فإنّه ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وليس للمدّعي بعد ذلك الادّعاء بالألف درهم ، كما أنّه ليس للمدّعى عليه استرداد تلك الشّاة .



أمّا إذا أعطى المدّعى عليه للمدّعي بعض المال الّذي كان للمدّعي حقّ أخذه وقبضه المدّعي، ولم يجر بينهما كلام يدلّ على الصّلح فلا ينعقد الصّلح بالتّعاطي ، وللمدّعي طلب باقي الدّين؛ لأنّ أخذ المدّعي بعضاً من المال الّذي له حقّ أخذه ، يحتمل أنّه قصد به استيفاء بعض حقّه على أن يأخذ البعض الباقي بعد ذلك ، كما أنّه يحتمل أنّه اكتفى بالمقدار الّذي أخذه وعدل عن المطالبة بالباقي ، والحقّ لا يسقط بالشّكّ .



الشّروط المتعلّقة بالعاقدين :



وهي على ثلاثة أقسام : منها ما يرجع إلى الأهليّة ، ومنها ما يرجع إلى الولاية ، ومنها ما يرجع للتّراضي .



الشّروط المتعلّقة بالمصالح عنه :



المصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه ، وهو نوعان : حقّ اللّه ، وحقّ العبد .



أمّا حقّ اللّه : فلا خلاف بين الفقهاء في عدم صحّة الصّلح عنه . وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح عن حدّ الزّنا والسّرقة وشرب الخمر ، بأن صالح زانياً أو سارقاً من غيره أو شارب خمر على مال على أن لا يرفعه إلى وليّ الأمر ؛ لأنّه حقّ اللّه تعالى فلا يجوز ، ويقع باطلاً ؛ لأنّ المصالح بالصّلح متصرّف في حقّ نفسه ، إمّا باستيفاء كلّ حقّه ، أو باستيفاء البعض وإسقاط الباقي ، أو بالمعاوضة ، وكلّ ذلك لا يجوز في غير حقّه .



وكذا إذا صالح من حدّ القذف ، بأن قذف رجلاً ، فصالحه على مال على أن يعفو عنه ؛ لأنّه وإن كان للعبد فيه حقّ ، فالمغلّب فيه حقّ اللّه تعالى ، والمغلوب ملحق بالعدم شرعاً ، فكان في حكم الحقوق المتمحّضة حقّاً للّه عزّ وجلّ ، وهي لا تحتمل الصّلح ، فكذلك ما كان في حكمها .



وكذلك لو صالح شاهداً يريد أن يشهد عليه على مال ليكتم شهادته فهو باطل ؛ لأنّ الشّاهد في إقامة الشّهادة محتسب حقّاً للّه عزّ وجلّ لقوله سبحانه : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } والصّلح عن حقوق اللّه باطل .



وإذا بطل الصّلح في حقوق اللّه تعالى وجب عليه ردّ ما أخذ ؛ لأنّه أخذه بغير حقّ ، ولا يحلّ لأحد أخذ مال أحد إلاّ بسبب شرعيّ .



وأمّا حقّ العبد : فهو الّذي يصحّ الصّلح عنه عند تحقّق شروطه الشّرعيّة ، وشروطه عند الفقهاء ثلاثة :



أحدها : أن يكون المصالح عنه حقّاً ثابتاً للمصالح في المحلّ :



وعلى ذلك : فما لا يكون حقّاً له ، أو لا يكون حقّاً ثابتاً له في المحلّ لا يجوز الصّلح عنه ، حتّى لو أنّ امرأةً طلّقها زوجها ادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها ، وجحد الرّجل، فصالحت عن النّسب على شيء فالصّلح باطل ؛ لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ لا حقّها ، فلا تملك الاعتياض عن حقّ غيرها ؛ ولأنّ الصّلح إمّا إسقاط أو معاوضة ، والنّسب لا يحتملهما. وكذا لو صالح الشّفيع من الشّفعة الّتي وجبت له على شيء ، على أن يسلّم الدّار للمشتري فالصّلح باطل ؛ لأنّه لا حقّ للشّفيع في المحلّ ، إنّما الثّابت له حقّ التّملّك ، وهو ليس لمعنىً في المحلّ ، بل هو عبارة عن الولاية ، وأنّها صفة الوالي فلا يحتمل الصّلح عنه ، وهو قول الجمهور - خلافاً للمالكيّة - فيجوز عندهم الصّلح عن الشّفعة .



وكذلك لو صالح الكفيل بالنّفس المكفول له على مال ، على أن يبرّئه من الكفالة فالصّلح باطل ؛ لأنّ الثّابت للطّالب قبل الكفيل بالنّفس حقّ المطالبة بتسليم نفس المكفول بنفسه ، وذلك عبارة عن ولاية المطالبة ، وأنّها صفة الوالي فلا يجوز الصّلح عنها كالشّفعة .



أمّا لو ادّعى على رجل مالاً وأنكر المدّعى عليه ، ولا بيّنة للمدّعي ، فطلب منه اليمين فصالح عن اليمين على أن لا يستحلفه جاز الصّلح وبرئ من اليمين ، بحيث لا يجوز للمدّعي أن يعود إلى استحلافه . وكذا لو قال المدّعى عليه : صالحتك من اليمين الّتي وجبت لك عليّ. أو قال : افتديت منك يمينك بكذا وكذا صحّ الصّلح ؛ لأنّ هذا صلح عن حقّ ثابت للمدّعي ؛ لأنّ اليمين حقّ للمدّعي قبل المدّعى عليه ، وهو ثابت في المحلّ - وهو الملك في المدّعي في زعمه - فكان الصّلح في جانب المدّعي عن حقّ ثابت في المحلّ ، وهو المدّعي، وفي جانب المدّعى عليه بذل المال لإسقاط الخصومة والافتداء عن اليمين . قاله الكاسانيّ . ونصّ الحنفيّة والحنابلة : على أنّه لو ادّعى رجل على المرأة نكاحاً فحجّته ، وصالحته على مال بذلته حتّى يترك الدّعوى جاز هذا الصّلح ؛ لأنّ النّكاح حقّ ثابت في جانب المدّعي حسب زعمه ، فكان الصّلح على حقّ ثابت له ، والدّافع يقطع به الخصومة عن نفسه ، فكان في معنى الخلع .



والثّاني : أن يكون ممّا يصحّ الاعتياض عنه :



أي : أن يكون ممّا يجوز أخذ العوض عنه ، سواء أكان ممّا يجوز بيعه أو لا يجوز ، وسواء أكان مالاً أو غير مال .



وعلى ذلك : فيجوز الصّلح عن قود نفس ودونها ، وعن سكنى دار ونحوها ، وعن عيب في عوض أو معوّض ، قطعاً للخصومة والمنازعة .



ومتى صالح عمّا يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقلّ جاز . لقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فقوله عزّ وجلّ { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } أي : أعطى له . كذا روي عن عبد اللّه بن عبّاس - رضي الله عنهما - وقوله عزّ شأنه { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } أي : فليتبع " مصدر بمعنى الأمر " فقد أمر اللّه تعالى الوليّ بالاتّباع بالمعروف إذا أعطي له شيء ، واسم الشّيء يتناول القليل والكثير ، فدلّت الآية على جواز الصّلح عن القصاص على القليل والكثير . وقال الزّيلعيّ : ولأنّ القصاص حقّ ثابت في المحلّ ، ويجري فيه العفو مجّاناً ، فكذا تعويضاً لاشتماله على الأوصاف الجميلة من إحسان الوليّ ، وإحياء القاتل ... والكثير والقليل سواء في الصّلح عن القصاص ؛ لأنّه ليس فيه شيء مقدّر ، فيفوّض إلى اصطلاحهما ، كالخلع على مال .



أمّا إذا صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها لم يجز . وكذلك لو أتلف شيئاً غير مثليّ لغيره ، فصالح عنه بأكثر من قيمته من جنسها لم يجز أيضاً ، وذلك لأنّ الدّية والقيمة ثبتت في الذّمّة مقدّرةً ، فلم يجز أن يصالح عنها بأكثر من جنسها الثّابتة عن قرض أو ثمن مبيع ؛ ولأنّه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقّه وزيادةً لا مقابل لها ، فيكون أكل مال بالباطل . فأمّا إذا صالحه على غير جنسها بأكثر من قيمتها ، فيجوز ؛ لأنّه بيع ، ويجوز للمرء أن يشتري الشّيء بأكثر من قيمته أو أقلّ ؛ ولأنّه لا ربا بين العوض والمعوّض عنه فصحّ . وبناءً على ما تقدّم : لا يجوز الصّلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه ، مثل أن يصالح امرأةً على مال لتقرّ له بالزّوجيّة ؛ لأنّه صلح يحلّ حراماً ؛ ولأنّها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز .



الثّالث : أن يكون معلوماً :



وقد اختلف الفقهاء في اشتراطه أو في مداه على ثلاثة أقوال :



أحدها للشّافعيّة : وهو عدم صحّة الصّلح عن المجهول .



قال الإمام الشّافعيّ في " الأمّ " : أصل الصّلح أنّه بمنزلة البيع ، فما جاز في البيع جاز في الصّلح ، وما لم يجز في البيع لم يجز في الصّلح ، ثمّ يتشعّب ... ولا يجوز الصّلح عندي إلاّ على أمر معروف ، كما لا يجوز البيع إلاّ على أمر معروف ، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - : « الصّلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » .



ومن الحرام الّذي يقع في الصّلح أن يقع عندي على المجهول الّذي لو كان بيعاً كان حراماً .



هذا ، وقد نصّ الشّافعيّة على صحّة الصّلح عن المجمل عندهم ، فلو ادّعى عليه شيئاً مجملاً فأقرّ له به وصالحه عنه على عوض ، صحّ الصّلح .



قال الشّيخ أبو حامد وغيره : هذا إذا كان المعقود عليه معلوماً لهما فيصحّ الصّلح وإن لم يسمّياه ، كما لو قال : بعتك الشّيء الّذي نعرفه أنا وأنت بكذا فقال : اشتريت صحّ .



والثّاني للحنفيّة : وهو أنّه يشترط كون المصالح عنه معلوماً إن كان ممّا يحتاج إلى التّسليم، فإنّه لمّا كان مطلوب التّسليم اشترط كونه معلوماً لئلاّ يفضي إلى المنازعة .



جاء في فتاوى قاضي خان : إذا ادّعى حقّاً في دار رجل ولم يسمّ ، فاصطلحا على مال معلوم يعطيه المدّعي ليسلّم المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي لا يصحّ هذا الصّلح ؛ لأنّ المدّعى عليه يحتاج إلى تسليم ما ادّعاه المدّعي ، فإذا لم يعلم مقدار ذلك لا يدري ماذا يسلّم إليه ، فلا يجوز .



أمّا إذا كان ممّا لا يحتاج التّسليم - كترك الدّعوى مثلاً - فلا يشترط كونه معلوماً ؛ لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة ، والمصالح عنه هاهنا ساقط ، فهو بمنزلة الإبراء عن المجهول ، وهو جائز . قال الإسبيجابيّ : لأنّ الجهالة لا تبطل العقود لعينها ، وإنّما تبطل العقود لمعنىً فيها ، وهو وقوع المنازعة . فإن كان ممّا يستغنى عن قبضه ولا تقع المنازعة في ثاني الحال فيه جاز ، وإن كان ممّا يحتاج إلى قبضه ، وتقع المنازعة في ثاني الحال عند القبض والتّسليم لم يجز .



والثّالث للمالكيّة والحنابلة : وهو التّفريق بين ما إذا كان المصالح عنه ممّا يتعذّر علمه . وبين ما إذا كان ممّا لا يتعذّر .



فإن كان ممّا يتعذّر علمه ، فقد نصّ المالكيّة والحنابلة على صحّة الصّلح عنه .



قال الحنابلة : سواء أكان عيناً أم ديناً ، وسواء جهلاه أو جهله من عليه الحقّ ، وسواء أكان المصالح به حالّاً أو نسيئةً ، واستدلّوا على ذلك :



أ - بما ورد عن أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت : « جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس بينهما بيّنة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّكم تختصمون إليّ ، وإنّما أنا بشر ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته أو قد قال : لحجّته من بعض ، فإنّي أقضي بينكم على نحو ممّا أسمع ، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار ، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة . فبكى الرّجلان ، وقال كلّ واحد منهما حقّي لأخي . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمّا إذ قلتما ، فاذهبا ، فاقتسما ثمّ توخّيا الحقّ ، ثمّ استهما ، ثمّ ليحلل كلّ واحد منكما صاحبه » .



ب - ولأنّه إسقاط حقّ ، فصحّ في المجهول كالطّلاق للحاجة .



ج - ولأنّه إذا صحّ الصّلح مع العلم وإمكان أداء الحقّ بعينه فلأن يصحّ مع الجهل أولى . وذلك لأنّه إذا كان معلومًا فلهما طريق إلى التّخلّص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ، ومع الجهل لا يمكن ذلك ، فلو لم يجز الصّلح لأفضى ذلك إلى ضياع الحقّ ، أو بقاء شغل الذّمّة على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كلّ واحد منهما قدر حقّه منه .



أمّا إذا كان ممّا لا يتعذّر علمه ، كتركة باقية ، صالح الورثة الزّوجة عن حصّتها منها مع الجهل بها . فقال المالكيّة ، وأحمد في قول له : لا يجوز الصّلح إلاّ بعد المعرفة بذلك .



وقال الحنابلة في المشهور عندهم : يصحّ لقطع النّزاع .



الشّروط المتعلّقة بالمصالح به :



المصالح به ، أو المصالح عليه : هو بدل الصّلح . وشروطه عند الفقهاء اثنان .



أحدهما : أن يكون مالاً متقوّماً :



وعلى ذلك ، فلا يصحّ الصّلح على الخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدّم ، وصيد الإحرام والحرم ، وذلك لأنّ في الصّلح معنى المعاوضة ، فما لا يصحّ عوضاً في البياعات لا يصحّ جعله بدل صلح ، ولا فرق بين أن يكون المال ديناً أو عيناً أو منفعةً .



فلو صالحه على مقدار من الدّراهم ،أو على سكنى دار أو ركوب دابّة وقتاً معلوماً صحّ ذلك. قال الكاسانيّ : الأصل أنّ كلّ ما يجوز بيعه وشراؤه يجوز الصّلح عليه ، وما لا فلا .



والثّاني : أن يكون معلوماً :



وعلى ذلك قال الحنابلة : فإن وقع الصّلح بمجهول لم يصحّ ؛ تسليمه واجب والجهل يمنعه . أمّا الحنفيّة ، فقد فصّلوا في المسألة وقالوا : يشترط كون المصالح به معلوماً إن كان ممّا يحتاج إلى القبض والتّسليم ؛ لأنّ جهالة البدل تؤدّي إلى المنازعة ، فتوجب فساد العقد ، أمّا إذا كان شيئاً لا يفتقر إلى القبض والتّسليم فلا يشترط معلوميّته ، مثل أن يدّعي حقّاً في دار رجل ، وادّعى المدّعى عليه حقّاً في أرض بيد المدّعي فاصطلحا على ترك الدّعوى جاز ، وإن لم يبيّن كلّ منهما مقدار حقّه ؛ لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة .



قال الكاسانيّ : لأنّ جهالة البدل لا تمنع جواز العقد لعينها ، بل لإفضائها إلى المنازعة المانعة من التّسليم والتّسلّم ، فإذا كان مالاً يستغنى عن التّسليم والتّسلّم فيه ، لا يفضي إلى المنازعة فلا يمنع الجواز .



آثار الصّلح :



قال الفقهاء : إنّ الآثار المترتّبة على انعقاد الصّلح هو حصول البراءة عن الدّعوى ووقوع الملك في بدل الصّلح للمدّعي ، وفي المصالح به للمدّعى عليه إن كان ممّا يحتمل التّمليك ، وأنّ الصّلح يعتبر بأقرب العقود إليه - إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني - فما كان في معنى البيع أو الإجارة أو الإسقاط أخذ حكمه .



وعلى ذلك قالوا : إذا تمّ الصّلح على الوجه المطلوب دخل بدل الصّلح في ملك المدّعي ، وسقطت دعواه المصالح عنها ، فلا يقبل منه الادّعاء بها ثانياً ، ولا يملك المدّعى عليه استرداد بدل الصّلح الّذي دفعه للمدّعي .



وأصل ذلك : أنّ الصّلح من العقود اللّازمة ، فلذلك لا يملك أحد العاقدين فسخه ، أو الرّجوع عنه بعد تمامه أمّا إذا لم يتمّ فلا حكم له ولا أثر يترتّب عليه . فلو ادّعى أحد على آخر حقّاً وتصالح مع المدّعى عليه على شيء ، ثمّ ظهر بأنّ ذلك الحقّ أو المال لا يلزم المدّعى عليه فلا يتمّ ولا حكم له ، وللمدّعى عليه استرداد بدل الصّلح ، وكذلك لو تصالح البائع مع المشتري عن خيار العيب ، ثمّ ظهر عدم وجود العيب ، أو زال العيب من نفسه وبدون معالجة أو كلفة بطل الصّلح ، ويجب على المشتري ردّ بدل الصّلح الّذي أخذه للبائع . وكذا إذا كان المدّعي مبطلاً وغير محقّ في دعواه ، فلا يحلّ له ديانةً بدل الصّلح في جميع أنواع الصّلح ، ولا يطيب له ، ما لم يسلّم المدّعى عليه للمدّعي بدل الصّلح عن طيب نفس ، وفي تلك الحالة يصبح التّمليك بطريق الهبة .



وعلى أساس ما تقدّم نصّ الفقهاء على : أنّه إذا مات أحد المتصالحين بعد تمام الصّلح ، فليس لورثته فسخه .



وقال المالكيّة : من ادّعى على آخر حقًّا ، فأنكره ، فصالحه ، ثمّ ثبت الحقّ بعد الصّلح باعتراف أو بيّنة فله الرّجوع في الصّلح ، إلاّ إذا كان عالمًا بالبيّنة وهي حاضرة ولم يقم بها، فالصّلح له لازم . أمّا إذا كان أحد المتصالحين قد أشهد قبل الصّلح إشهاد تقيّة : أنّ صلحه إنّما هو لما يتوقّعه من إنكار صاحبه أو غير ذلك ، فإنّ الصّلح لا يلزمه إذا ثبت أصل حقّه .



ما يترتّب على انحلال الصّلح :



إذا بطل الصّلح بعد صحّته ، أو لم يصحّ أصلاً فيرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصّلح عن إنكار . وإن كان عن إقرار فيرجع على المدّعى عليه بالمدّعى لا غيره ، إلاّ في الصّلح عن القصاص إذا لم يصحّ فإنّ لوليّ الدّم أن يرجع على القاتل بالدّية دون القصاص ، إلاّ أن يصير مغروراً من جهة المدّعى عليه ، فيرجع عليه بضمان الغرور أيضاً .









ليست هناك تعليقات: