مكتب / محمد جابرعيسى المحامى
عقد الصلح في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية
( الجزء الأول )
التّعريف :
الصّلح في اللّغة : اسم بمعنى المصالحة والتّصالح ، خلاف المخاصمة والتّخاصم .
قال الرّاغب : والصّلح يختصّ بإزالة النّفار بين النّاس . يقال : اصطلحوا وتصالحوا .
وعلى ذلك يقال : وقع بينهما الصّلح ، وصالحه على كذا ، وتصالحا عليه واصطلحا ، وهم لنا صلح ، أي مصالحون .
وفي الاصطلاح : معاقدة يرتفع بها النّزاع بين الخصوم ، ويتوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين .
فهو عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتّراضي ، وهذا عند الحنفيّة .
وزاد المالكيّة على هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقاية ، فجاء في تعريف ابن عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ففي التّعبير ب ( خوف وقوعه ) إشارة إلى جواز الصّلح لتوقّي منازعةً غير قائمة بالفعل ، ولكنّها محتملة الوقوع .
والمصالح : هو المباشر لعقد الصّلح والمصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه إذا قطع النّزاع فيه بالصّلح والمصالح عليه ، أو المصالح به : هو بدل الصّلح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّحكيم :
التّحكيم عند الفقهاء : تولية حكم لفصل خصومة بين مختلفين . وهذه التّولية قد تكون من القاضي ، وقد تكون من قبل الخصمين .
ويختلف التّحكيم عن الصّلح من وجهين :
أحدهما : أنّ التّحكيم ينتج عنه حكم قضائيّ ، بخلاف الصّلح فإنّه ينتج عنه عقد يتراضى عليه الطّرفان المتنازعان . وفرق بين الحكم القضائيّ والعقد الرّضائيّ .
والثّاني : أنّ الصّلح يتنزّل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حقّ ، بخلاف التّحكيم فليس فيه نزول عن حقّ .
ب - الإبراء :
الإبراء عبارة عن : إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . أمّا عن العلاقة بين الصّلح والإبراء ، فلها وجهان :
أحدهما : أنّ الصّلح إنّما يكون بعد النّزاع عادةً ، والإبراء لا يشترط فيه ذلك .
والثّاني : أنّ الصّلح قد يتضمّن إبراءً ، وذلك إذا كان فيه إسقاط لجزء من الحقّ المتنازع فيه، وقد لا يتضمّن الإبراء ، بأن يكون مقابل التزام من الطّرف الآخر دون إسقاط .
ومن هنا : كان بين الصّلح والإبراء عموم وخصوص من وجه ، فيجتمعان في الإبراء بمقابل في حالة النّزاع ، وينفرد الإبراء في الإسقاط مجّاناً ، أو في غير حالة النّزاع ، كما ينفرد الصّلح فيما إذا كان بدل الصّلح عوضًا لا إسقاط فيه .
ج - العفو :
العفو : هو التّرك والمحو ، ومنه : عفا اللّه عنك . أي محا ذنوبك ، وترك عقوبتك على اقترافها . عفوت عن الحقّ : أسقطته . كأنّك محوته عن الّذي هو عليه .
هذا ويختلف العفو عن الصّلح في كون الأوّل إنّما يقع ويصدر من طرف واحد ، بينما الصّلح إنّما يكون بين طرفين . ومن جهة أخرى : فالعفو والصّلح قد يجتمعان كما في حالة العفو عن القصاص إلى مال .
مشروعيّة الصّلح :
ثبتت مشروعيّة الصّلح بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .
أمّا الكتاب :
أ - ففي قوله تعالى : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } قال القاضي أبو الوليد بن رشد : وهذا عامّ في الدّماء والأموال والأعراض ، وفي كلّ شيء يقع التّداعي والاختلاف فيه بين المسلمين .
ب - وفي قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فقد أفادت الآية مشروعيّة الصّلح ، حيث إنّه سبحانه وصف الصّلح بأنّه خير ، ولا يوصف بالخيريّة إلاّ ما كان مشروعاً مأذوناً فيه .
وأمّا السّنّة :
أ - فما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلح جائز بين المسلمين » . وفي رواية : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » . والحديث واضح الدّلالة على مشروعيّة الصّلح .
ب - وما روى « كعب بن مالك - رضي الله عنه أنّه لمّا تنازع مع ابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلح بينهما : بأن استوضع من دين كعب الشّطر ، وأمر غريمه بأداء الشّطر » .
وأمّا الإجماع :
فقد أجمع الفقهاء على مشروعيّة الصّلح في الجملة ، وإن كان بينهم اختلاف في جواز بعض صوره .
وأمّا المعقول :
فهو أنّ الصّلح رافع لفساد واقع ، أو متوقّع بين المؤمنين ، إذ أكثر ما يكون الصّلح عند النّزاع . والنّزاع سبب الفساد ، والصّلح يهدمه ويرفعه ، ولهذا كان من أجلّ المحاسن .
أنواع الصّلح :
الصّلح يتنوّع أنواعاً خمسةً :
أحدهما : الصّلح بين المسلمين والكفّار . ( ر . جهاد ، جزية ، عهد ، هدنة ) .
والثّاني : الصّلح بين أهل العدل وأهل البغي . ( ر . بغاة ) .
والثّالث : الصّلح بين الزّوجين إذا خيف الشّقاق بينهما ، أو خافت الزّوجة إعراض الزّوج عنها .
والرّابع : الصّلح بين المتخاصمين في غير مال . كما في جنايات العمد .
والخامس : الصّلح بين المتخاصمين في الأموال . وهذا النّوع هو المبوّب له في كتب الفقه ، وهو موضوع هذا البحث .
الحكم التّكليفيّ للصّلح :
قال ابن عرفة : وهو - أي الصّلح - من حيث ذاته مندوب إليه ، وقد يعرض وجوبه عند تعيّن مصلحة ، وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدةً واجبة الدّرء أو راجحته .
وقال ابن القيّم : الصّلح نوعان :
أ - صلح عادل جائز . وهو ما كان مبناه رضا اللّه سبحانه ورضا الخصمين ، وأساسه العلم والعدل ، فيكون المصالح عالماً بالوقائع ، عارفاً بالواجب ، قاصداً للعدل كما قال سبحانه : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } .
ب - وصلح جائر مردود : وهو الّذي يحلّ الحرام أو يحرّم الحلال ، كالصّلح الّذي يتضمّن أكل الرّبا ، أو إسقاط الواجب ، أو ظلم ثالث ، وكما في الإصلاح بين القويّ الظّالم والخصم الضّعيف المظلوم بما يرضي المقتدر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظّ ، بينما يقع الإغماض والحيف فيه على الضّعيف ، أو لا يمكّن ذلك المظلوم من أخذ حقّه .
ردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح :
جاء في " البدائع " : ولا بأس أن يردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح إن طمع منهم ذلك ، قال اللّه تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فكان الرّدّ للصّلح ردّاً للخير . وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : " ردّوا الخصوم حتّى يصطلحوا ، فإنّ فصل القضاء يورث بينهم الضّغائن ". فندب - رضي الله عنه - القضاة إلى الصّلح ونبّه على المعنى ، وهو حصول المقصود من غير ضغينة . ولا يزيد على مرّة أو مرّتين ، فإن اصطلحا ، وإلاّ قضى بينهما بما يوجب الشّرع . وإن لم يطمع منهم فلا يردّهم إليه ، بل ينفّذ القضاء فيهم ؛ لأنّه لا فائدة في الرّدّ .
حقيقة الصّلح :
يرى جمهور الفقهاء أنّ عقد الصّلح ليس عقداً مستقلّاً قائماً بذاته في شروطه وأحكامه، بل هو متفرّع عن غيره في ذلك ، بمعنى : أنّه تسري عليه أحكام أقرب العقود إليه شبهاً بحسب مضمونه . فالصّلح عن مال بمال يعتبر في حكم البيع ، والصّلح عن مال بمنفعة يعدّ في حكم الإجارة ، والصّلح على بعض العين المدّعاة هبة بعض المدّعى لمن هو في يده، والصّلح عن نقد بنقد له حكم الصّرف ، والصّلح عن مال معيّن بموصوف في الذّمّة في حكم السّلم ، والصّلح في دعوى الدّين على أن يأخذ المدّعي أقلّ من المطلوب ليترك دعواه يعتبر أخذًا لبعض الحقّ ، وإبراءً عن الباقي ... إلخ .
وثمرة ذلك : أن تجري على الصّلح أحكام العقد الّذي اعتبر به وتراعى فيه شروطه ومتطلّباته . قال الزّيلعيّ : وهذا لأنّ الأصل في الصّلح أن يحمل على أشبه العقود به ، فتجري عليه أحكامه ؛ لأنّ العبرة للمعاني دون الصّورة .
أقسام الصّلح :
الصّلح إمّا أن يكون بين المدّعي والمدّعى عليه ، وإمّا أن يكون بين المدّعي والأجنبيّ المتوسّط ، وينقسم إلى ثلاثة أقسام ، صلح عن الإقرار ، وصلح عن الإنكار ، وصلح عن السّكوت .
الصّلح بين المدّعي والمدّعى عليه :
وهو ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل :
الصّلح مع إقرار المدّعى عليه :
وهو جائز باتّفاق الفقهاء . وهو ضربان : صلح عن الأعيان ، صلح عن الدّيون .
أ - الصّلح عن الأعيان . وهو نوعان : صلح الحطيطة ، وصلح المعاوضة .
أوّلاً : صلح الحطيطة :
وهو الّذي يجري على بعض العين المدّعاة ، كمن صالح من الدّار المدّعاة على نصفها أو ثلثها . وقد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال .
أحدها : للمالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : وهو أنّه يعدّ من قبيل هبة بعض المدّعى لمن هو في يده ، فتثبت فيه أحكام الهبة ، سواء وقع بلفظ الهبة أو بلفظ الصّلح .
قال الشّافعيّة : لأنّ الخاصّيّة الّتي يفتقر إليها لفظ الصّلح ، وهي سبق الخصومة قد حصلت . والثّاني : للحنابلة ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة : وهو أنّه إذا كان له في يده عين ، فقال المقرّ له : وهبتك نصفها ، فأعطني بقيّتها ، فيصحّ ويعتبر له شروط الهبة ؛ لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من هبة بعض حقّه ، كما لا يمنع من استيفائه ، ما لم يقع ذلك بلفظ الصّلح، فإنّه لا يصحّ ؛ لأنّه يكون قد صالح عن بعض ماله ببعضه ، فهو هضم للحقّ ، أو بشرط أن يعطيه الباقي ، كقوله : على أن تعطيني كذا منه أو تعوّضني منه بكذا ؛ لأنّه يقتضي المعاوضة ، فكأنّه عاوض عن بعض حقّه ببعضه ، والمعاوضة عن الشّيء ببعضه محظورة ، أو يمنعه حقّه بدون الصّلح ، فإنّه لا يصحّ كذلك .
والثّالث : للحنفيّة : وهو أنّه لو ادّعى شخص على آخر داراً ، حصل الصّلح على قسم معيّن منها ، فهناك قولان في المذهب :
أحدهما : لا يصحّ هذا الصّلح ، وللمدّعي الادّعاء بعد ذلك بباقي الدّار ؛ لأنّ الصّلح إذا وقع على بعض المدّعى به يكون المدّعي قد استوفى بعض حقّه ، وأسقط البعض الآخر ، إلاّ أنّ الإسقاط عن الأعيان باطل ، فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ، كما أنّ بعض المدّعى به لا يكون عوضاً عن كلّه ، حيث يكون ذلك بمثابة أنّ الشّيء يكون عوضاً عن نفسه ، إذ البعض داخل ضمن الكلّ .
والثّاني : يصحّ هذا الصّلح ، ولا تسمع الدّعوى في باقيها بعده ، وهو ظاهر الرّواية ؛ لأنّ الإبراء عن بعض العين المدّعى بها إبراء في الحقيقة عن دعوى ذلك البعض ، فالصّلح صحيح ولا تسمع الدّعوى بعده .
أمّا لو صالحه على منفعة العين المدّعاة ، بأن صالحه عن بيت ادّعى عليه به وأقرّ له به على سكناه مدّةً معلومةً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك الصّلح على قولين :
أحدهما : الجواز وهو قول الحنفيّة : ويعتبر إجارةً . وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ ، ويعتبر إعارةً ؛ فتثبت فيه أحكامها . فإن عيّن مدّةً فإعارة مؤقّتة ، وإلاّ فمطلقة .
والثّاني : عدم الجواز ، وهو للحنابلة ووجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّه صالحه عن ملكه على منفعة ملكه ، فكأنّه ابتاع داره بمنفعتها ، وهو لا يجوز .
ثانياً : صلح المعاوضة :
وهو الّذي يجري على غير العين المدّعاة ، كأن ادّعى عليه داراً ، فأقرّ له بها ثمّ صالحه منها على ثوب أو دار أخرى .
وهو جائز صحيح باتّفاق الفقهاء ، ويعدّ بيعاً ، وإن عقد بلفظ الصّلح ؛ لأنّه مبادلة مال بمال، ويشترط فيه جميع شروط البيع : كمعلوميّة البدل ، والقدرة على التّسليم ، والتّقابض في المجلس إن جرى بين العوضين ربا النّسيئة .
كذلك تتعلّق به جميع أحكام البيع : كالرّدّ بالعيب ، وحقّ الشّفعة ، والمنع من التّصرّف قبل القبض ونحو ذلك ، كما يفسد بالغرر والجهالة الفاحشة والشّروط المفسدة للبيع .
ولو صالحه من العين المدّعاة على منفعة عين أخرى ، كما إذا ادّعى على رجل شيئاً ، فأقرّ به ، ثمّ صالحه على سكنى داره ، أو ركوب دابّته ، أو لبس ثوبه مدّةً معلومةً فلا خلاف بين الفقهاء في جواز هذا الصّلح ، وأنّه يكون إجارةً ، وتترتّب عليه سائر أحكامها ؛ لأنّ العبرة للمعاني ، فوجب حمل الصّلح عليها ، لوجود معناها فيها ، وهو تمليك المنافع بعوض .
ب - الصّلح عن الدّين :
وذلك مثل أن يدّعي شخص على آخر ديناً ، فيقرّ المدّعى عليه له به ، ثمّ يصالحه على بعضه ، أو على مال غيره . وهو جائز - في الجملة - باتّفاق الفقهاء ، وإن كان ثمّة اختلاف بينهم في بعض صوره وحالاته .
وهو عند الفقهاء نوعان : صلح إسقاط وإبراء ، وصلح معاوضة .
أوّلاً : صلح الإسقاط والإبراء :
ويسمّى عند الشّافعيّة صلح الحطيطة .
وهو الّذي يجري على بعض الدّين المدّعى ، وصورته بلفظ الصّلح ، أن يقول المقرّ له : صالحتك على الألف الحالّ الّذي لي عليك على خمسمائة .
وقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، هو أنّ هذا الصّلح جائز ؛ إذ هو أخذ لبعض حقّه وإسقاط لباقيه ، لا معاوضة ، ويعتبر إبراءً للمدّعى عليه عن بعض الدّين ؛ لأنّه معناه .
ثمّ قال الشّافعيّة : ويصحّ بلفظ الإبراء والحطّ ونحوهما ، كالإسقاط والهبة والتّرك والإحلال والتّحليل والعفو والوضع ، ولا يشترط حينئذ القبول على المذهب ، سواء قلنا : إنّ الإبراء تمليك أم إسقاط . كما يصحّ بلفظ الصّلح في الأصحّ . وفي اشتراط القبول إذا وقع به وجهان -كالوجهين فيما لو قال لمن عليه دين : وهبته لك - والأصحّ الاشتراط ؛ لأنّ اللّفظ بوضعه يقتضيه .
والثّاني : للحنابلة : وهو أنّه إذا كان لرجل على آخر دين ، فوضع عنه بعض حقّه ، وأخذ منه الباقي ، كان ذلك جائزاً لهما إذا كان بلفظ الإبراء ، وكانت البراءة مطلقةً من غير شرط إعطاء الباقي ، كقول الدّائن : على أن تعطيني كذا منه ، ولم يمتنع المدّعى عليه من إعطاء بعض حقّه إلاّ بإسقاط بعضه الآخر . فإن تطوّع المقرّ له بإسقاط بعض حقّه بطيب نفسه جاز، غير أنّ ذلك ليس بصلح ولا من باب الصّلح بسبيل .
أمّا إذا وقع ذلك بلفظ الصّلح فأشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد : أنّه لا يصحّ ، وهي الرّواية الأصحّ في المذهب ؛ وذلك لأنّه صالح عن بعض ماله ببعضه ، فكان هضماً للحقّ .
والثّانية : وهي ظاهر " الموجز " " والتّبصرة " أنّه يصحّ .
أمّا لو صالحه عن ألف مؤجّل على خمسمائة معجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والصّحيح عند الحنابلة أنّ ذلك لا يجوز .
واستثنى الحنفيّة والحنابلة من ذلك دين الكتابة ؛ لأنّ الرّبا لا يجري بينهما في ذلك .
وعلّل الشّافعيّة عدم الصّحّة : بأنّه ترك بعض المقدار ليحصل الحلول في الباقي ، والصّفة بانفرادها لا تقابل بعوض ؛ ولأنّ صفة الحلول لا يصحّ إلحاقها بالمؤجّل ، وإذا لم يحصل ما ترك من القدر لأجله لم يصحّ التّرك .
ووجه المنع عند المالكيّة : أنّ من عجّل ما أجّل يعدّ مسلّفاً ، فقد أسلف الآن خمسمائة ليقتضي عند الأجل ألفاً من نفسه .
وقد علّل الحنفيّة المنع في غير دين الكتابة : بأنّ صاحب الدّين المؤجّل لا يستحقّ المعجّل ، فلا يمكن أن يجعل استيفاءً ، فصار عوضاً ، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز .
وبيان ذلك : أنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والتّعجيل خير من النّسيئة لا محالة ، فيكون خمسمائة بمقابلة خمسمائة مثله من الدّين ، والتّعجيل في مقابلة الباقي ، وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو باطل ؛ ألا ترى أنّ الشّرع حرّم ربا النّسيئة ، وليس فيه إلاّ مقابلة المال بالأجل شبهةً ، فلأن تكون مقابلة المال بالأجل حقيقةً حرامًا أولى .
الثّاني : جواز ذلك - وهو رواية عن الإمام أحمد ، حكاها ابن أبي موسى وغيره ، وهو قول ابن عبّاس وإبراهيم النّخعيّ ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة. قال ابن القيّم : لأنّ هذا عكس الرّبا ، فإنّ الرّبا يتضمّن الزّيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمّن براءة ذمّته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كلّ واحد منهما ، ولم يكن هنا رباً لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً ، فإنّ الرّبا الزّيادة ، وهي منتفية هاهنا ، والّذين حرّموا ذلك إنّما قاسوه على الرّبا ، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : إمّا أن تربي ، وإمّا أن تقضي . وبين قوله : عجّل لي وأهب لك مائةً . فأين أحدهما من الآخر ؛ فلا نصّ في تحريم ذلك ، ولا إجماع ، ولا قياس صحيح .
ولو صالح من ألف درهم حالّ على ألف درهم مؤجّل ، فقد اختلف الفقهاء في صحّة ذلك على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ التّأجيل لا يصحّ ، ويعتبر لاغياً ؛ إذ هو من الدّائن وعد بإلحاق الأجل ، وصفة الحلول لا يصحّ إلحاقها ، والوعد لا يلزم الوفاء به .
والثّاني : للحنفيّة : وهو صحّة التّأجيل ، وذلك ؛ لأنّه إسقاط لوصف الحلول فقط ، وهو حقّ له ، فيصحّ ، ويكون من قبيل الإحسان . قالوا : لأنّ أمور المسلمين محمولة على الصّحّة ، فلو حملنا ذلك على المعاوضة فيلزم بيع الدّراهم بالدّراهم نساءً ، وذلك لا يجوز ؛ لأنّه بيع الدّين بالدّين ؛ لأنّ الدّراهم الحالّة والدّراهم المؤجّلة ثابتة في الذّمّة ، والدّين بالدّين لا يجوز ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الكالئ بالكالئ » ، فلمّا لم يكن حمله على المعاوضة حملناه على التّأخير تصحيحاً للتّصرّف ؛ لأنّ ذلك جائز كونه تصرّفاً في حقّ نفسه، لا في حقّ غيره .
ولو اصطلحا عن الدّين الحالّ على وضع بعضه وتأجيل الباقي ، كما لو صالح الدّائن مدينه عن ألف حالّة على خمسمائة مؤجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة . وهو صحّة الإسقاط والتّأجيل . وقد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة . قال ابن القيّم : وهو الصّواب ، بناءً على صحّة تأجيل القرض والعاريّة .
والثّاني : للحنابلة في الأصحّ والشّافعيّة : وهو أنّه يصحّ الإسقاط دون التّأجيل . وعلّة صحّة الوضع والإسقاط : أنّه أسقط بعض حقّه عن طيب نفسه ، فلا مانع من صحّته ؛ لأنّه ليس في مقابلة تأجيل ، فوجب أن يصحّ كما لو أسقطه كلّه ؛ إذ هو مسامحة وليس بمعاوضة . والثّالث : لبعض الحنابلة : وهو أنّه لا يصحّ الإسقاط ولا التّأجيل ؛ بناءً على أنّ الصّلح لا يصحّ مع الإقرار ، وعلى أنّ الحالّ لا يتأجّل .
عقد الصلح في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
عقد الصُلْح في الشريعة الإسلامية
( الجزء الأول )
التّعريف :
الصّلح في اللّغة : اسم بمعنى المصالحة والتّصالح ، خلاف المخاصمة والتّخاصم .
قال الرّاغب : والصّلح يختصّ بإزالة النّفار بين النّاس . يقال : اصطلحوا وتصالحوا .
وعلى ذلك يقال : وقع بينهما الصّلح ، وصالحه على كذا ، وتصالحا عليه واصطلحا ، وهم لنا صلح ، أي مصالحون .
وفي الاصطلاح : معاقدة يرتفع بها النّزاع بين الخصوم ، ويتوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين .
فهو عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتّراضي ، وهذا عند الحنفيّة .
وزاد المالكيّة على هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقاية ، فجاء في تعريف ابن عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ففي التّعبير ب ( خوف وقوعه ) إشارة إلى جواز الصّلح لتوقّي منازعةً غير قائمة بالفعل ، ولكنّها محتملة الوقوع .
والمصالح : هو المباشر لعقد الصّلح والمصالح عنه : هو الشّيء المتنازع فيه إذا قطع النّزاع فيه بالصّلح والمصالح عليه ، أو المصالح به : هو بدل الصّلح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّحكيم :
التّحكيم عند الفقهاء : تولية حكم لفصل خصومة بين مختلفين . وهذه التّولية قد تكون من القاضي ، وقد تكون من قبل الخصمين .
ويختلف التّحكيم عن الصّلح من وجهين :
أحدهما : أنّ التّحكيم ينتج عنه حكم قضائيّ ، بخلاف الصّلح فإنّه ينتج عنه عقد يتراضى عليه الطّرفان المتنازعان . وفرق بين الحكم القضائيّ والعقد الرّضائيّ .
والثّاني : أنّ الصّلح يتنزّل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حقّ ، بخلاف التّحكيم فليس فيه نزول عن حقّ .
ب - الإبراء :
الإبراء عبارة عن : إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . أمّا عن العلاقة بين الصّلح والإبراء ، فلها وجهان :
أحدهما : أنّ الصّلح إنّما يكون بعد النّزاع عادةً ، والإبراء لا يشترط فيه ذلك .
والثّاني : أنّ الصّلح قد يتضمّن إبراءً ، وذلك إذا كان فيه إسقاط لجزء من الحقّ المتنازع فيه، وقد لا يتضمّن الإبراء ، بأن يكون مقابل التزام من الطّرف الآخر دون إسقاط .
ومن هنا : كان بين الصّلح والإبراء عموم وخصوص من وجه ، فيجتمعان في الإبراء بمقابل في حالة النّزاع ، وينفرد الإبراء في الإسقاط مجّاناً ، أو في غير حالة النّزاع ، كما ينفرد الصّلح فيما إذا كان بدل الصّلح عوضًا لا إسقاط فيه .
ج - العفو :
العفو : هو التّرك والمحو ، ومنه : عفا اللّه عنك . أي محا ذنوبك ، وترك عقوبتك على اقترافها . عفوت عن الحقّ : أسقطته . كأنّك محوته عن الّذي هو عليه .
هذا ويختلف العفو عن الصّلح في كون الأوّل إنّما يقع ويصدر من طرف واحد ، بينما الصّلح إنّما يكون بين طرفين . ومن جهة أخرى : فالعفو والصّلح قد يجتمعان كما في حالة العفو عن القصاص إلى مال .
مشروعيّة الصّلح :
ثبتت مشروعيّة الصّلح بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .
أمّا الكتاب :
أ - ففي قوله تعالى : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } قال القاضي أبو الوليد بن رشد : وهذا عامّ في الدّماء والأموال والأعراض ، وفي كلّ شيء يقع التّداعي والاختلاف فيه بين المسلمين .
ب - وفي قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فقد أفادت الآية مشروعيّة الصّلح ، حيث إنّه سبحانه وصف الصّلح بأنّه خير ، ولا يوصف بالخيريّة إلاّ ما كان مشروعاً مأذوناً فيه .
وأمّا السّنّة :
أ - فما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلح جائز بين المسلمين » . وفي رواية : « إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » . والحديث واضح الدّلالة على مشروعيّة الصّلح .
ب - وما روى « كعب بن مالك - رضي الله عنه أنّه لمّا تنازع مع ابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلح بينهما : بأن استوضع من دين كعب الشّطر ، وأمر غريمه بأداء الشّطر » .
وأمّا الإجماع :
فقد أجمع الفقهاء على مشروعيّة الصّلح في الجملة ، وإن كان بينهم اختلاف في جواز بعض صوره .
وأمّا المعقول :
فهو أنّ الصّلح رافع لفساد واقع ، أو متوقّع بين المؤمنين ، إذ أكثر ما يكون الصّلح عند النّزاع . والنّزاع سبب الفساد ، والصّلح يهدمه ويرفعه ، ولهذا كان من أجلّ المحاسن .
أنواع الصّلح :
الصّلح يتنوّع أنواعاً خمسةً :
أحدهما : الصّلح بين المسلمين والكفّار . ( ر . جهاد ، جزية ، عهد ، هدنة ) .
والثّاني : الصّلح بين أهل العدل وأهل البغي . ( ر . بغاة ) .
والثّالث : الصّلح بين الزّوجين إذا خيف الشّقاق بينهما ، أو خافت الزّوجة إعراض الزّوج عنها .
والرّابع : الصّلح بين المتخاصمين في غير مال . كما في جنايات العمد .
والخامس : الصّلح بين المتخاصمين في الأموال . وهذا النّوع هو المبوّب له في كتب الفقه ، وهو موضوع هذا البحث .
الحكم التّكليفيّ للصّلح :
قال ابن عرفة : وهو - أي الصّلح - من حيث ذاته مندوب إليه ، وقد يعرض وجوبه عند تعيّن مصلحة ، وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدةً واجبة الدّرء أو راجحته .
وقال ابن القيّم : الصّلح نوعان :
أ - صلح عادل جائز . وهو ما كان مبناه رضا اللّه سبحانه ورضا الخصمين ، وأساسه العلم والعدل ، فيكون المصالح عالماً بالوقائع ، عارفاً بالواجب ، قاصداً للعدل كما قال سبحانه : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } .
ب - وصلح جائر مردود : وهو الّذي يحلّ الحرام أو يحرّم الحلال ، كالصّلح الّذي يتضمّن أكل الرّبا ، أو إسقاط الواجب ، أو ظلم ثالث ، وكما في الإصلاح بين القويّ الظّالم والخصم الضّعيف المظلوم بما يرضي المقتدر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظّ ، بينما يقع الإغماض والحيف فيه على الضّعيف ، أو لا يمكّن ذلك المظلوم من أخذ حقّه .
ردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح :
جاء في " البدائع " : ولا بأس أن يردّ القاضي الخصوم إلى الصّلح إن طمع منهم ذلك ، قال اللّه تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فكان الرّدّ للصّلح ردّاً للخير . وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : " ردّوا الخصوم حتّى يصطلحوا ، فإنّ فصل القضاء يورث بينهم الضّغائن ". فندب - رضي الله عنه - القضاة إلى الصّلح ونبّه على المعنى ، وهو حصول المقصود من غير ضغينة . ولا يزيد على مرّة أو مرّتين ، فإن اصطلحا ، وإلاّ قضى بينهما بما يوجب الشّرع . وإن لم يطمع منهم فلا يردّهم إليه ، بل ينفّذ القضاء فيهم ؛ لأنّه لا فائدة في الرّدّ .
حقيقة الصّلح :
يرى جمهور الفقهاء أنّ عقد الصّلح ليس عقداً مستقلّاً قائماً بذاته في شروطه وأحكامه، بل هو متفرّع عن غيره في ذلك ، بمعنى : أنّه تسري عليه أحكام أقرب العقود إليه شبهاً بحسب مضمونه . فالصّلح عن مال بمال يعتبر في حكم البيع ، والصّلح عن مال بمنفعة يعدّ في حكم الإجارة ، والصّلح على بعض العين المدّعاة هبة بعض المدّعى لمن هو في يده، والصّلح عن نقد بنقد له حكم الصّرف ، والصّلح عن مال معيّن بموصوف في الذّمّة في حكم السّلم ، والصّلح في دعوى الدّين على أن يأخذ المدّعي أقلّ من المطلوب ليترك دعواه يعتبر أخذًا لبعض الحقّ ، وإبراءً عن الباقي ... إلخ .
وثمرة ذلك : أن تجري على الصّلح أحكام العقد الّذي اعتبر به وتراعى فيه شروطه ومتطلّباته . قال الزّيلعيّ : وهذا لأنّ الأصل في الصّلح أن يحمل على أشبه العقود به ، فتجري عليه أحكامه ؛ لأنّ العبرة للمعاني دون الصّورة .
أقسام الصّلح :
الصّلح إمّا أن يكون بين المدّعي والمدّعى عليه ، وإمّا أن يكون بين المدّعي والأجنبيّ المتوسّط ، وينقسم إلى ثلاثة أقسام ، صلح عن الإقرار ، وصلح عن الإنكار ، وصلح عن السّكوت .
الصّلح بين المدّعي والمدّعى عليه :
وهو ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل :
الصّلح مع إقرار المدّعى عليه :
وهو جائز باتّفاق الفقهاء . وهو ضربان : صلح عن الأعيان ، صلح عن الدّيون .
أ - الصّلح عن الأعيان . وهو نوعان : صلح الحطيطة ، وصلح المعاوضة .
أوّلاً : صلح الحطيطة :
وهو الّذي يجري على بعض العين المدّعاة ، كمن صالح من الدّار المدّعاة على نصفها أو ثلثها . وقد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال .
أحدها : للمالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : وهو أنّه يعدّ من قبيل هبة بعض المدّعى لمن هو في يده ، فتثبت فيه أحكام الهبة ، سواء وقع بلفظ الهبة أو بلفظ الصّلح .
قال الشّافعيّة : لأنّ الخاصّيّة الّتي يفتقر إليها لفظ الصّلح ، وهي سبق الخصومة قد حصلت . والثّاني : للحنابلة ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة : وهو أنّه إذا كان له في يده عين ، فقال المقرّ له : وهبتك نصفها ، فأعطني بقيّتها ، فيصحّ ويعتبر له شروط الهبة ؛ لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من هبة بعض حقّه ، كما لا يمنع من استيفائه ، ما لم يقع ذلك بلفظ الصّلح، فإنّه لا يصحّ ؛ لأنّه يكون قد صالح عن بعض ماله ببعضه ، فهو هضم للحقّ ، أو بشرط أن يعطيه الباقي ، كقوله : على أن تعطيني كذا منه أو تعوّضني منه بكذا ؛ لأنّه يقتضي المعاوضة ، فكأنّه عاوض عن بعض حقّه ببعضه ، والمعاوضة عن الشّيء ببعضه محظورة ، أو يمنعه حقّه بدون الصّلح ، فإنّه لا يصحّ كذلك .
والثّالث : للحنفيّة : وهو أنّه لو ادّعى شخص على آخر داراً ، حصل الصّلح على قسم معيّن منها ، فهناك قولان في المذهب :
أحدهما : لا يصحّ هذا الصّلح ، وللمدّعي الادّعاء بعد ذلك بباقي الدّار ؛ لأنّ الصّلح إذا وقع على بعض المدّعى به يكون المدّعي قد استوفى بعض حقّه ، وأسقط البعض الآخر ، إلاّ أنّ الإسقاط عن الأعيان باطل ، فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ، كما أنّ بعض المدّعى به لا يكون عوضاً عن كلّه ، حيث يكون ذلك بمثابة أنّ الشّيء يكون عوضاً عن نفسه ، إذ البعض داخل ضمن الكلّ .
والثّاني : يصحّ هذا الصّلح ، ولا تسمع الدّعوى في باقيها بعده ، وهو ظاهر الرّواية ؛ لأنّ الإبراء عن بعض العين المدّعى بها إبراء في الحقيقة عن دعوى ذلك البعض ، فالصّلح صحيح ولا تسمع الدّعوى بعده .
أمّا لو صالحه على منفعة العين المدّعاة ، بأن صالحه عن بيت ادّعى عليه به وأقرّ له به على سكناه مدّةً معلومةً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك الصّلح على قولين :
أحدهما : الجواز وهو قول الحنفيّة : ويعتبر إجارةً . وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ ، ويعتبر إعارةً ؛ فتثبت فيه أحكامها . فإن عيّن مدّةً فإعارة مؤقّتة ، وإلاّ فمطلقة .
والثّاني : عدم الجواز ، وهو للحنابلة ووجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّه صالحه عن ملكه على منفعة ملكه ، فكأنّه ابتاع داره بمنفعتها ، وهو لا يجوز .
ثانياً : صلح المعاوضة :
وهو الّذي يجري على غير العين المدّعاة ، كأن ادّعى عليه داراً ، فأقرّ له بها ثمّ صالحه منها على ثوب أو دار أخرى .
وهو جائز صحيح باتّفاق الفقهاء ، ويعدّ بيعاً ، وإن عقد بلفظ الصّلح ؛ لأنّه مبادلة مال بمال، ويشترط فيه جميع شروط البيع : كمعلوميّة البدل ، والقدرة على التّسليم ، والتّقابض في المجلس إن جرى بين العوضين ربا النّسيئة .
كذلك تتعلّق به جميع أحكام البيع : كالرّدّ بالعيب ، وحقّ الشّفعة ، والمنع من التّصرّف قبل القبض ونحو ذلك ، كما يفسد بالغرر والجهالة الفاحشة والشّروط المفسدة للبيع .
ولو صالحه من العين المدّعاة على منفعة عين أخرى ، كما إذا ادّعى على رجل شيئاً ، فأقرّ به ، ثمّ صالحه على سكنى داره ، أو ركوب دابّته ، أو لبس ثوبه مدّةً معلومةً فلا خلاف بين الفقهاء في جواز هذا الصّلح ، وأنّه يكون إجارةً ، وتترتّب عليه سائر أحكامها ؛ لأنّ العبرة للمعاني ، فوجب حمل الصّلح عليها ، لوجود معناها فيها ، وهو تمليك المنافع بعوض .
ب - الصّلح عن الدّين :
وذلك مثل أن يدّعي شخص على آخر ديناً ، فيقرّ المدّعى عليه له به ، ثمّ يصالحه على بعضه ، أو على مال غيره . وهو جائز - في الجملة - باتّفاق الفقهاء ، وإن كان ثمّة اختلاف بينهم في بعض صوره وحالاته .
وهو عند الفقهاء نوعان : صلح إسقاط وإبراء ، وصلح معاوضة .
أوّلاً : صلح الإسقاط والإبراء :
ويسمّى عند الشّافعيّة صلح الحطيطة .
وهو الّذي يجري على بعض الدّين المدّعى ، وصورته بلفظ الصّلح ، أن يقول المقرّ له : صالحتك على الألف الحالّ الّذي لي عليك على خمسمائة .
وقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، هو أنّ هذا الصّلح جائز ؛ إذ هو أخذ لبعض حقّه وإسقاط لباقيه ، لا معاوضة ، ويعتبر إبراءً للمدّعى عليه عن بعض الدّين ؛ لأنّه معناه .
ثمّ قال الشّافعيّة : ويصحّ بلفظ الإبراء والحطّ ونحوهما ، كالإسقاط والهبة والتّرك والإحلال والتّحليل والعفو والوضع ، ولا يشترط حينئذ القبول على المذهب ، سواء قلنا : إنّ الإبراء تمليك أم إسقاط . كما يصحّ بلفظ الصّلح في الأصحّ . وفي اشتراط القبول إذا وقع به وجهان -كالوجهين فيما لو قال لمن عليه دين : وهبته لك - والأصحّ الاشتراط ؛ لأنّ اللّفظ بوضعه يقتضيه .
والثّاني : للحنابلة : وهو أنّه إذا كان لرجل على آخر دين ، فوضع عنه بعض حقّه ، وأخذ منه الباقي ، كان ذلك جائزاً لهما إذا كان بلفظ الإبراء ، وكانت البراءة مطلقةً من غير شرط إعطاء الباقي ، كقول الدّائن : على أن تعطيني كذا منه ، ولم يمتنع المدّعى عليه من إعطاء بعض حقّه إلاّ بإسقاط بعضه الآخر . فإن تطوّع المقرّ له بإسقاط بعض حقّه بطيب نفسه جاز، غير أنّ ذلك ليس بصلح ولا من باب الصّلح بسبيل .
أمّا إذا وقع ذلك بلفظ الصّلح فأشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد : أنّه لا يصحّ ، وهي الرّواية الأصحّ في المذهب ؛ وذلك لأنّه صالح عن بعض ماله ببعضه ، فكان هضماً للحقّ .
والثّانية : وهي ظاهر " الموجز " " والتّبصرة " أنّه يصحّ .
أمّا لو صالحه عن ألف مؤجّل على خمسمائة معجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والصّحيح عند الحنابلة أنّ ذلك لا يجوز .
واستثنى الحنفيّة والحنابلة من ذلك دين الكتابة ؛ لأنّ الرّبا لا يجري بينهما في ذلك .
وعلّل الشّافعيّة عدم الصّحّة : بأنّه ترك بعض المقدار ليحصل الحلول في الباقي ، والصّفة بانفرادها لا تقابل بعوض ؛ ولأنّ صفة الحلول لا يصحّ إلحاقها بالمؤجّل ، وإذا لم يحصل ما ترك من القدر لأجله لم يصحّ التّرك .
ووجه المنع عند المالكيّة : أنّ من عجّل ما أجّل يعدّ مسلّفاً ، فقد أسلف الآن خمسمائة ليقتضي عند الأجل ألفاً من نفسه .
وقد علّل الحنفيّة المنع في غير دين الكتابة : بأنّ صاحب الدّين المؤجّل لا يستحقّ المعجّل ، فلا يمكن أن يجعل استيفاءً ، فصار عوضاً ، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز .
وبيان ذلك : أنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والتّعجيل خير من النّسيئة لا محالة ، فيكون خمسمائة بمقابلة خمسمائة مثله من الدّين ، والتّعجيل في مقابلة الباقي ، وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو باطل ؛ ألا ترى أنّ الشّرع حرّم ربا النّسيئة ، وليس فيه إلاّ مقابلة المال بالأجل شبهةً ، فلأن تكون مقابلة المال بالأجل حقيقةً حرامًا أولى .
الثّاني : جواز ذلك - وهو رواية عن الإمام أحمد ، حكاها ابن أبي موسى وغيره ، وهو قول ابن عبّاس وإبراهيم النّخعيّ ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة. قال ابن القيّم : لأنّ هذا عكس الرّبا ، فإنّ الرّبا يتضمّن الزّيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل ، وهذا يتضمّن براءة ذمّته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل ، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل ، فانتفع به كلّ واحد منهما ، ولم يكن هنا رباً لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً ، فإنّ الرّبا الزّيادة ، وهي منتفية هاهنا ، والّذين حرّموا ذلك إنّما قاسوه على الرّبا ، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : إمّا أن تربي ، وإمّا أن تقضي . وبين قوله : عجّل لي وأهب لك مائةً . فأين أحدهما من الآخر ؛ فلا نصّ في تحريم ذلك ، ولا إجماع ، ولا قياس صحيح .
ولو صالح من ألف درهم حالّ على ألف درهم مؤجّل ، فقد اختلف الفقهاء في صحّة ذلك على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ التّأجيل لا يصحّ ، ويعتبر لاغياً ؛ إذ هو من الدّائن وعد بإلحاق الأجل ، وصفة الحلول لا يصحّ إلحاقها ، والوعد لا يلزم الوفاء به .
والثّاني : للحنفيّة : وهو صحّة التّأجيل ، وذلك ؛ لأنّه إسقاط لوصف الحلول فقط ، وهو حقّ له ، فيصحّ ، ويكون من قبيل الإحسان . قالوا : لأنّ أمور المسلمين محمولة على الصّحّة ، فلو حملنا ذلك على المعاوضة فيلزم بيع الدّراهم بالدّراهم نساءً ، وذلك لا يجوز ؛ لأنّه بيع الدّين بالدّين ؛ لأنّ الدّراهم الحالّة والدّراهم المؤجّلة ثابتة في الذّمّة ، والدّين بالدّين لا يجوز ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الكالئ بالكالئ » ، فلمّا لم يكن حمله على المعاوضة حملناه على التّأخير تصحيحاً للتّصرّف ؛ لأنّ ذلك جائز كونه تصرّفاً في حقّ نفسه، لا في حقّ غيره .
ولو اصطلحا عن الدّين الحالّ على وضع بعضه وتأجيل الباقي ، كما لو صالح الدّائن مدينه عن ألف حالّة على خمسمائة مؤجّلة ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة . وهو صحّة الإسقاط والتّأجيل . وقد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة . قال ابن القيّم : وهو الصّواب ، بناءً على صحّة تأجيل القرض والعاريّة .
والثّاني : للحنابلة في الأصحّ والشّافعيّة : وهو أنّه يصحّ الإسقاط دون التّأجيل . وعلّة صحّة الوضع والإسقاط : أنّه أسقط بعض حقّه عن طيب نفسه ، فلا مانع من صحّته ؛ لأنّه ليس في مقابلة تأجيل ، فوجب أن يصحّ كما لو أسقطه كلّه ؛ إذ هو مسامحة وليس بمعاوضة . والثّالث : لبعض الحنابلة : وهو أنّه لا يصحّ الإسقاط ولا التّأجيل ؛ بناءً على أنّ الصّلح لا يصحّ مع الإقرار ، وعلى أنّ الحالّ لا يتأجّل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق