بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

مسؤولية المحامي في الجلسة

مجلة المحاماة - العدد الأول السنة العاشرة 1929


نصت المادة (89) مرافعات بما يأتي:
(تكون المحكمة مختصة بإصدار الحكم بالحبس مدة أربع وعشرين ساعة على من يقع منه
تشويش في الجلسة، وينفذ حكمها في الحال، وبإصدار الحكم بالعقوبة على من تقع منه جنحة
في الجلسة سواء كانت في حق المحكمة أو أحد أعضائها المأمورين الموظفين بالمحاكم).
قد يقوم بين المحامي - وهو يترافع وبسبب هذه المرافعة - وبين القاضي جدل، يتحول إلى مناقشة تأخذ من مظاهر الحدة ما لا يحسن، فيعتقد القاضي أن المحامي قد أهانه، ومن حقه أن يحكم عليه تطبيقًا للمادة (89) - فهل هذا العمل صحيح - وبعبارة أبسط، هل يجوز للمحكمة أن تحكم على المحامي بالعقوبة بسبب موقفه في الجلسة وهو يترافع ؟
لا بد أن نبين من الآن أننا لا نقصد بوضع السؤال أن المحامي غير مسؤول إذا اعتدى على القاضي، فهذا مما لا نرضاه لكرامة المحاماة، فضلاً عن كرامة القضاة، بل إنها لمنقصة لمن يرجو أن يكون في حل من المسؤولية إذا اعتدى.
إن شرف المحاماة مرتبط بأن نؤكد بأعمالنا أننا حقيقة شركاء القاضي - في أداء العدالة - لا نريد امتيازًا لمن يخطئ خطأ يدخل في حدود المسؤولية التي قررها القانون.
إنما نريد بالسؤال أمرًا بسيطًا محدودًا، هو مع تأكيد المسؤولية بسبب الاعتداء إذا وقع، هل يجوز أن تكون محاكمة المحامي في نفس الجلسة التي يترافع فيها، ومن نفس القاضي الذي يترافع أمامه، أو يجب أن تكون محاكمته أمام المحكمة المختصة العادية، وبمعرفة قاضٍ غير الذي حصلت الحادثة في جلسته، فكانت عراكًا بينهما ؟
البحث في هذه الحدود نراه بسيطًا سهل الحل، لكنه قد أخذ مظاهر المباحث المعقدة، فاختلفت فيه الآراء، وتناقضت الأحكام.
وما كان هذا - على ما نعتقد - لغموض في الموضوع أو لصعوبة في حله حلاً يتفق مع المبادئ القانونية ومع مصلحة العدالة، ومع كرامة القضاء، بل كان لأن للشهوة فيه دخلاً عظيمًا، فإن القاضي يأبى إلا أن يكون له الحق في عقوبة من اعتدى عليه، وألفاظ المادة أمامه، عامة صريحة.
أما المحامي فيريد أن لا يكون مهددًا في تأدية واجبه، وفي نفس اللحظة التي يؤديه فيها، ودعوى الاعتداء، إلا ما ندر والنادر، لا حكم له، مأخوذة بلا شك بسبب تأدية هذا الواجب ولأجله.
وواضح أن أحكام القضاة كانت قضاء في حق أنفسهم وتأكيدًا لسلطتهم.
لأجل هذا فلا عجب أن نرى هذا الاضطراب يتمشى في طريقة الاستدلال عند كل من الرأيين، لأن الحرج في المناقشة من شأنه أن يفسد عند الجانبين سلامة التقدير، وأنك لا ترى في حجة كل من الفريقين ما يفيدك إثباتًا ونفيًا، وإذا أردت أن نرجح بينهما كأن الترجيح تعقيدًا فوق تعقيد.
يرى أصحاب البنديكت أن المادة لا تنطبق على المحامي، ويسندون رأيهم (جزء 11 صفحة 129 فقرة 538)، إلى أن المادة قد وضعت لحماية المحامي لأنه داخل ضمن الأشخاص المعبر عنهم بكلمات (المأمورون الموظفون بالمحاكم)، يقولون ولا يقول إن تكون المادة قد وضعت لحماية المحامي، ومع هذا يجوز أن تكون مقررة لعقوبته.
غير أن الضعف في الاستدلال ظاهر، إذ ليس من الهين التسليم بأن المحامي داخل في من أرادهم الشارع بقوله.
(المأمورون الموظفون بالمحاكم officiers de justice).
بل لو سلمنا بأنه يدخل فيهم، فلا نفهم معنى تلك الحجة الكلامية التي تصاع في أنه لا يعقل أن يكون القانون الذي يحمي هو بذاته الذي يعاقب، فإن هذا على ما نفهم هو شأن القوانين جميعها فإنها وضعت لحماية من لا يعبث بها، ثم لعقوبة من يعبث بها من أولئك الذين وضعت لحمايتهم:
أما الرأي الثاني فالضعف في إسناده أظهر، تراه قائمًا على أن المحامي في الجلسة مثله مثل الأفراد لا يمتاز عنهم في شيء، على أن هذه القضية بذاتها هي محل البحث فإعادتها لا تصلح للتدليل عليها.
ثم تراه بعد هذا مسندًا إلى ضرورة المحافظة على كرامة القضاء، وهيبته، وهذا كلام لا دليل فيه غير أنه يرضي.
ولأنه يرضى فهو خطر، يجب استبعاده من الاستدلال، ولولا أنه خطر لظهر عند التأمل أنه غير صحيح في واقعته لأن كرامة القضاء لا تتأثر بواقعة اعتداء أيًا كانت، بل هي باقية، ثابتة بعد أي اعتداء كما كانت قبله، ولعل الذي يفهم معنى كرامة القضاء يسلم معنا بأن الرأي الأول أليق بكرامة القضاء على وجهها الصحيح كما سنبين ذلك في موضعه.
هذا مظهر الرأيين فإذا وقفنا في بحثنا عند استدلال كل من الفريقين كان في الترجيح بينهما شيء من الصعوبة فلا بد أن نرجع إلى أصل النظام القضائي، وإلى قواعد القانون الكلية، وإلى المبادئ العامة لنصل إلى حقيقة قضائية مقنعة.
قد يقال إنه لغرور ظاهر !!! لكن الذي يؤدي واجبًا لا يعنيه ماذا يقال، وإلا فقد وقف دون الواجب، على أني أعرض ملاحظات يستطيع كل من فكر ودقق، في مواقف المحامي، وفي عمله، وفي أحكام القوانين المتعلقة به، أن يصل إلى الحقيقة في أمرها.
ولعل غيري كان قادرًا أن يقدمها للناس بأحسن تدليل فلست أطمع في أكثر من توجيه البحث إلى طريقه الصحيح على ما وصل إليه نظري، ولمحكمة النقض أن تحل هذا الأشكال بحكمتها تقريرًا للواجبات وتأكيدًا للتضامن بين عنصري العائلة القضائية، على ما يجب أن يكون.

البحث الأول: مركز المحامي في الجلسة

- إنه يمثل مأمورية عامة لا يملك القاضي تعطيلها.
ليس من الضروري أن يكون المحامي داخلاً ضمن الذين تشير إليهم المادة (89) بكلمات (المأمورين الموظفين بالمحاكم) كما يقول الرأي الأول، ولكن المحامي مع هذا ليس فردًا من الأفراد يستوي حكمه إذا حضر في الجلسة مع أفراد الجمهور الحاضر كما يقول الرأي الثاني.
إن المحامي يحضر في الجلسة على أن له مأمورية اجتماعية، حسبها المشرعون من قديم ركنًا من الأركان الضرورية لتوزيع العدالة، وعمادًا في البناء القضائي، فليس هو في الجلسة فردًا بل تقرر على الدوام ومع اختلاف الأزمنة أنه شريك للقاضي في حدود الدعوى التي يحضر فيها، وأنه ممثل لفكرة أرادها الشارع ومنفذ لغرض اجتماعي مقرر.
المحامي يمثل الخصم الذي يترافع عنه - ظاهرًا - لكنه في الواقع يمثل مأمورية المناقشة اللازمة، لتنوير الدعوى، وظهور الحقيقة، وتكوين فكرة للقاضي، ولا يمنع هذا أن المحامي، يترافع باسم أحد المتقاضين، لأن هذا التخصص كان لازمًا من باب، توزيع العمل، وتقسيم المأموريات، لتتساعد الأفكار المختلفة في نواحي المناقشة، والبحث، فيكون من مجموع جهودها ما يوصل إلى الحق بقدر المستطاع.
القاعدة التي لا نزاع فيها أن المحاماة مأمورية مقررة، وضع نظامها لمصلحة عامة، وإن ظهرت عند التنفيذ في شكل مصلحة خاصة.
نريد أن تظهر هذه الحقيقة، لا من طريق التدليل النظري، فقد لا يكون ملزمًا لإسناد الأحكام، بل من طريقها القضائي، ومن طريق الأنظمة الموضوعة، والنصوص المكتوبة.
إنك لتجد هذه الحقيقة مكتوبة في معناها إذا لم تجدها في لفظها إذا تصفحت أي قانون من قوانين العالم، وأينما وقع نظرك، ومهما كان القانون الذي تقرأه.
1 - خذ قانون المحاكم المختلطة مثلاً، وقد اخترناه لأنه أقدم تشريع نظامي صدر في مصر، تجد المحامي في لائحة تنظيم القضاء ركنًا من أركان بنائه العام، وتجده محوطًا بثقة خاصة، ليست لأحد سوى فريق من الموظفين القضائيين، فتجده يحتكر حق الكلام أمام محكمة الاستئناف ثم تجد مقامه في تأسيس المحاكم المختلطة مع القضاة، والمستشارين، وموظفي المحاكم، في مستوى واحد، وتحت حكم واحد فيما يختص بالتأديب بغير تمييز ولا فارق، وفي هذا تصريح بأن مأمورية المحامي، ركن من النظام القضائي، في وجودها، وفي زوالها، إذ هي توجد وتزول، بنفس الطريقة التي توجد وتزول بها وظيفة القاضي سواء بسواء.
قلنا إن لقوله في حدود وظيفته ثقة خاصة، لا تتحقق إلا في شأن المأموريين الرسميين، فنجد تفريغًا لهذا الأصل وتنفيذًا لحكمه، إن المحامي يحضر في الواقع ممثلاً لمأمورية اجتماعية وكلت إليه، وتأكدت له الثقة من أجلها، فهو مصدق بمجرد قوله إنه وكيل عن أحد الخصوم، فلا يطلب منه توكيل.
وأنك تقدر هذه الثقة، وأثرها على الحق المتنازع فيه، فإن المحامي يترافع في الخصومة والقاضي يقضي بناءً على تلك المرافعة، فهي عماد الحكم، وقد يعترف المحامي، وقد ينكر، والقاضي ملزم بأن يأخذ هذه التقريرات مجردة عن كل دليل فيما يختص باتخاذها حجة على الموكل وعمادًا لحكمه.
أرأيت مثل هذه الثقة مقررة في حق موظف من الموظفين، كيفما كان مركزه ؟!
إن القاضي إذا قرر واقعة فهي لا تعتبر صحيحة إلا إذ دونها في محضر وساعده في التدوين كاتب، ثم وقع صاحب الشأن معه.
أما المحامي في تقريره بوكالته، فهو مصدق بقوله مجردًا عن كل دليل، وعن كل محضر، ولا سبيل لتعليل هذا إلا بأنه في نظر القانون مأمور حقيقة بخدمة عامة، فحققت له تلك الثقة المقررة للمأمورين جميعًا، بل كان مظهرها في حقه أبلغ.
2 - يدلك على أنه لا يحضر في الجلسة رسولاً عن الموكل الذي يترافع عنه، أن الموكل ليس له أن يبعث من يريد، بل لا بد له أن يلجأ إلى من أولاه الشارع ثقته، واشترط في تقريره محاميًا شروطًا خاصة، هي بذاتها الشروط التي يقتضيها في حق القاضي بلا فرق.
فالشارع حينئذٍ يضع مهمة القضاء بين جهتين، يستلزم لهما من شروط الكفاءات شروطًا واحدة، ومن شروط التأديب شروطًا واحدة، ومن شروط الاستقامة شروطًا واحدة، ثم بعد هذا تراه يوزع عليهما العمل، فللمحامي الأعمال التمهيدية، وللقاضي الكلمة الفاصلة والقول الحاسم، فتصوير المحامي وهو في الجلسة يترافع بأنه فرد من الأفراد أو قائم مقام الفرد صاحب الخصومة إنما هو خروج عن الواقع، وعن المقرر بنصوص القوانين.
3 - إن مأمورية المحامي في الجلسة لا تتوقف على توكيل أحد المترافعين، بل يريد القانون لو أنها تؤدي على الدوام - وفي كل القضايا - ورغمًا عن إرادة المترافعين أصحاب الشأن، ولهذا كان من أجمل موقف المحامي أن يتطوع في الجلسة للدفاع عن مترافع يراه صاحب حق، ويراه عاجزًا عن التدليل عليه، وفي هذا الظرف لا يستطيع القاضي أن يقول له، مالك ولهذا ؟ ولم يوكلك الخصم ؟!
ليس لهذا معنى، غير أن مأمورية المحامي، هي في الواقع مأمورية تقررت على أنها من كفالات العدالة وشروطها، فكلما ظهر المحامي في الجلسة، بتوكيل أو بغير توكيل، ليؤدي هذه المأمورية، تعين سماعه، ليكون نظام العدالة أدق وأكمل.
بل إنك لو رجعت إلى تلك العصور الأولى التي قامت فيها المحاماة، قبل أن توجد لها أنظمة وقواعد، وقوانين، وجدتها قد تأسست على أنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة التي لا تقبل المناقشة فقبلها القاضي على أنها نور يرشده ولجأ إليها المترافعون كأنها سفينة النجاة، ولا يزال أثر هذا القديم حاصلاً كلما تطوع محامٍ في الجلسة لمساعدة عاجز عن المرافعة فشكره الناس بل كان القاضي أول من يشكر.
4 - كذلك عملاً بهذا الأصل وتنفيذًا له، تجد أنظمة المحاماة في كل بلد مجمعة على أن مأمورية المحامي، ملك للمتقاضين جميعًا وبدون استثناء، فهي ليست تجارة للربح، ولا طريقة للعيش، فلا ينتفع بها إلا من كان قادرًا على دفع الأتعاب، بل هي مأمورية عامة، مثلها مثل مأمورية القضاء بالضبط، للفقير فيها حظه كالغني، فكل من لا يستطيع أن يعين محاميًا لفقره من حقه أن ينتفع بهذه المأمورية الاجتماعية، وليس عليه سوى أن يقصد المحامي أو مجلس النقابة، أو القاضي فيجد حالاً محاميًا يتحمل المشاق للدفاع عنه، بلا مقابل، ولا مصلحة غير نصرة الحق !!
باسم من يحضر هذا المحامي ؟! وما هو ذلك الواجب الذي يلقى على كاهله فلا يستطيع أن يتمايل، سوى أنه واجب العدالة الاجتماعي يطالبه بأداء حقه، وقد تخصص له، فوجب عليه تلبية النداء كلما سمعه، لا فرق بينه وبين جندي وهب نفسه للدفاع عن بلده غير أنه جندي السلام يقاتل الباطل ويدافع للحق، وما هي المصلحة الاجتماعية التي تفضل هذه المصلحة ؟!!
لا سبيل لتعليل هذا غير أن المحاماة مأمورية عامة حقًا، وواجب اجتماعي لا نزاع فيه، تقررت شرطًا لعدالة القاضي فليس للقاضي أن يهدم ركن عدالته بيده ؟
5 - عملاً بهذه القاعدة أيضًا، تجد القوانين، صريحة في أن القاضي غير كفؤ وحده للفصل في قضايا معينة، بل لا بد للثقة بحكمه، وللاطمئنان إلى رأيه أن يكون معه المحامي، شريكًا، عاملاً، فتجد بعض القوانين تشترط هذا في الجنايات، وبعضها تشترطه في الجنايات، وفي الجنح أيضًا، وبعض القوانين يجعل لهذا العمل أتعابًا تدفعها الخزينة العامة، وبعضها تجعله مجانًا وبلا مقابل.
أترى أن الحكومة تكلف خزانتها أن تدفع المال للمحامي ليشترك مع القاضي عبثًا ولهوًا ؟!
ولمجرد أن يزيد في عدد الحاضرين بالجلسة فرد من الناس يستوي حكمه مع حكم أفراد الجمهور فيما عدا أنه يلبس رداءً أسود ؟!! أو لا بد أن تكون هذه الأنظمة نتيجة لتلك القاعدة الثابتة وهي أن المحامي يؤدي مأمورية اجتماعية، هي أساس لاطمئنان الناس على العدالة بينهم، فهي جزء أصلي لمأمورية القاضي يتحقق حكمها وأثرها، كلما وجد ظرفها وحضر المحامي فعلاً.
6 - تجد أثر هذه القاعدة أيضًا، في نص بعض القوانين على أن المحامي يؤدي يمينًا بأن ينفذ مأموريته بالصدق والنزاهة، فهو في هذا مثله مثل القاضي، فيمين كل منهما واحدة، كما كانت شروط الكفاءة عندهما واحدة.
ولو أن المحامي يمثل الخصم، لاستحال أن يكلف باليمين على هذه الصورة.
7 - كذلك، تجد أثر القاعدة في تدوين الواجبات التي على المحامي، وفي أسباب تأديبه، فإن واجباته ثقيلة الكلفة واسعة المدى، تكاد تجرده من كثير من حقوق الإنسان، بل تكاد تخنقه خنقًا، إذ المبالغة فيها تتدفق من كل ناحية، حتى لقد كان من أسباب محو الاسم في بعض الأنظمة أن يطلب المحامي تقدير أتعاب ضد موكله.
ومهما قلت بأن هذا أثر باقٍ من أصل نشأة المحاماة حيث كانت مروءة ونجدة، لكنها قد تطورت، وأصبحت عملاً لا بد من تقدير أتعابه، مهما قلت هذا فإن ذلك الأصل القديم دليل على أن المحاماة ليست تظاهرًا بالبلاغة ولا تجارة، ولا طريقًا للعيش، بل هي مأمورية، اجتماعية، حقيقية، تشكلت في أول عهدها على قدر الإفهام، بالمروءة والنجدة، أي بأحسن نزعة في قلب الإنسان، ثم تشكلت مع تقدم الفكر القضائي بأنها شرط للعدالة، وركن لفهم القاضي، وهذا هو مقامها في القوانين العصرية تراه مكتوبًا في جميع النصوص معنى وحكمًا.
لهذا لا تزال واجبات المحامي، من حيث النزاهة، والاعتدال، والرفق، والصدق، واصلة به إلى أسمى مراتب الفضيلة، لا فرق بينه وبين القاضي.
بل نجد من واجباته أن لا يعمل لتوسيع رزقه، في دائرة الحلال والاستقامة، فليس له أن يتاجر، وليس له أن يكون موظفًا في الحكومة، وليس له أن يكون عضوًا في شركة، إلى آخر ما تعلم من تلك الواجبات، التي تنقص من حقوقه المدنية العادية، كأنه قد تجرد من أهم حقوق الفرد أو كأنه قد زهد في متاع الحياة، فأصبح بقوته، ونشاطه، ومقدرته، وقفًا على تمهيد سبل الحكم في حقوق الناس، فكان لا بد له أن لا يشتغل بغير هذا، ولا يفكر في غير هذا، وأن فكر فقد خان واجبه المقرر.
8 - تحقيقًا لهذا الأصل أيضًا، تجد المحامي إذا ترافع لا يرتبط بأقوال الذي يدافع عنه، خصوصًا في قضايا الجنايات والجنح، فإن المتهم قد يعترف بالجريمة، لكن المحامي يعارضه، ويدلل على كذبه وهو في هذا الموقف، ذو ولاية عامة، تلقاها من القانون، وهي ولاية تضعه في موضع قاضي، لا نظير له بين القضاة، لأنه هو وحده الذي يملك أن يقول إن المتهم كاذب، وهو وحده الذي يمهد هذا السبيل للقاضي، بحيث إذا لم يقترح المحامي هذا الاقتراح خرج بحثه عن ولاية القاضي، والمحامي يعرضه كما رأيت من تلقاء نفسه !!! بل ورغم المتهم الذي يدافع عنه، وعلى عكس أقواله، فهي ولاية اجتماعية لا شك فيها، ولا نظير لها !!!
حينئذٍ هو خطأ جسيم أن يقال إن المحامي يحضر عن صاحب الشأن، ويعمل لمصلحته، بل هو قول باطل، تنقضه كل مواقف المحامي، كيفما تأملتها، ولا بد لنا أن تقف عند هذه الحقيقة المؤكدة:
وهي أن المحامي، يمثل واجبًا اجتماعيًا، ومأمورية اجتماعية، علم الناس ووثقوا أنها ركن من أركان العدالة، فوضعت الأنظمة لتقرير أحكامها، وبيان حقوقها وواجباتها.
وحينئذٍ هو خطأ أيضًا أن يقال إن المحامي يدخل ضمن الأشخاص المشار إليهم في المادة (89)، بكلمات (المأمورين، الموظفين بالمحاكم)، بل إن تقاليده وواجباته ولائحته بنصها الصريح، كل هذا يمنع أن يكون من الموظفين، أو من المأمورين، وإنما هو رسول القانون، وممثل الركن الأول من أركان العدالة في مجلس القاضي، يحمل ويؤدي واجب البحث والمناقشة، ويحمل ولاية العاجز عن الدفاع لقصر، أو جهل، وولاية كل من قهره البؤس فطوح بنفسه إلى جحيم المجرمين اعتباطًا.
هذا هو مركز المحامي في الجلسة، وذلك موقفه القانوني بلا فلسفة، وبلا إجهاد في النظريات، فما أغنانا، عن البحث، كما بحث أصحاب البنديكت، وغيرهم، في هل هو يعتبر ضمن المأمورين القضائيين أو لا يعتبر منهم.
بناءً على هذا نستطيع أن نؤكد أنه لا يمكن أن يكون شأن المحامي في الجلسة هو بذاته شأن كل فرد من الأفراد الذين شرعت المادة (89) لحماية المحكمة من تشويشهم واعتدائهم.
ذلك، لأنه متى تقرر، والأمر واضح، أن المحامي لا يمكن أن يستوي بأفراد الجمهور الحاضر، فقد خرج من حكمهم، وخرج من حكم المادة (89)، الموضوعة بنصها الصريح لهذا الجمهور وحده.
إن المحامي، بحكم مهمته الاجتماعية حر في تأديتها كما يملي عليه ضميره، لا يخضع فيها لأحد، وإذا قلنا لا يخضع لأحد فلا نعني بهذا غير القاضي الذي يسمعه أولاً وبالذات، فليس لقاضي الجلسة أن ينازعه في طريقه الذي وضعه لتأدية تلك المهمة، وليس له أن يطلب منه أن يوجه بحثه إلى غير التوجيه الذي يراه.
نقصد ليس له ذلك أي من باب السلطة والأمر، ولكن له طبعًا، من باب التفاهم، ورغبةً في الإقناع، أن يسأل وأن يناقش، وللمحامي أن يصر على رأيه، وأن يزيد في التدليل، على ما أراد، وأن يصمم على الغرض الذي يرمي إليه.
المسألة هنا واجبان يتلاقيان، وقد يُحدث هذا التلاقي حرجًا، وقد يثير الغضب، فيولد الاتهام من الجانبين، ويرى كل منهما أن الآخر قد تجاوز واجبه، فانتقلت المسألة من جنحة جلسة مادية صرفة إلى أنها نزاع بين فريقين، تستلزم بحثًا وتحقيقًا لمعرفة مَنْ مِنْ الاثنين قد تجاوز ذلك الواجب، ومَنْ مِنْ الاثنين كان غير مصيب، وهذا لا يتحقق منه شيء بالنسبة لفرد من الجمهور، فخرجت هذه الواقعة المعينة بحكمها، وطبيعتها، وموقف كل من القاضي والمحامي فيها، من حدود المادة (89).
إنما وضعت هذه المادة للجمهور الذي لا رابطة بينه وبين القاضي، غير أن يسكت، وأن لا يتكلم إلا بقدر ما يريد القاضي، وفي حدود سماحه، وهذا لا ينطبق على المحامي بحال من الأحوال ما دمنا علمنا أنه عضو قانوني، يؤدي مأمورية اجتماعية تريدها القوانين لمصلحة عامة، لا يملك القاضي تعطيلها، أو توجيهها إلى عرض معين، أو الوقوف في سبيلها، وإن فعل فقد اعتدى على النظام الذي يسند إلى سلطته.
وفي الواقع، فكيف تتولد على وجه العموم وفي أكثر الحالات، حوادث الاعتداء في الجلسة بالنسبة للمحامين إلا من باب تأدية الواجب ؟
يترافع المحامي فيقول قولاً على غير ما يرى القاضي، يعترضه القاضي فينشأ بين الاثنين مناقشة، تأخذ حدودًا لم تكن في الحسبان، يكون من حدتها ما يدفع بالفريقين أو بأحدهما، إلى ما يغضب، ومتى غضب القاضي فالمادة (89) في يده، والسلطة له مطلقة، فما أسرع من تطبيقها على المحامي، لهذا تتعطل سير العدالة، وينتقم القاضي لنفسه وهو في حدة الغضب انتقامًا لا راد له.
لست أريد بهذا، أن القاضي هو المعتدي، وأنه الغضوب المتسرع في كل حالة، لكني أقول، وأرجو دائمًا، أن لا يبرح هذا من الذهن، أننا في هذه الحالة الدقيقة لسنا أمام قاضٍ وفرد من أفراد الجمهور، بل أمام واجبين متعارضين، في الظاهر، وأمام مأموريتين اجتماعيتين لا بد لهما من التضامن في العمل، لتصلا إلى العدالة المقصودة، فإذا كان أحد الجانبين يؤدي واجبه وهو حر في تأديته، فهو مقدس ما د أنه يؤديه، وهناك بالنسبة له، نظرة تعصمه عن
سلطة القاضي المقررة لأفراد الجلسة، وهناك احتمال أن يكون القاضي هو الذي بدأ بالعداء، وهناك احتمال أن يكون القاضي هو المسؤول دون المحامي، فأصبح القاضي أحد الفريقين المتناظرين، وهذه الحالة من المحال أن تتحقق في حق فرد من الناس الذين شرعت لأجلهم المادة (89).
أنه لا يوجد من أعمال المحامي في الجلسة، ما يصعب جريًا مع المنطق، والاستعداد النفسي، أن تنتزع منها واقعة إهانة للمحكمة، فإن مأمورية المحامي تؤدي من طريق اشتراكه مع القاضي مباشرةً، ومن طريق مجاهدته في الرأي، ليسير في طريق معين.
هذا في واقعته وفي جوهره أكثر من التشويش، بل هو مجاهدة، وتصادم بين رأيين، وقد يكون من شأنه إحراج النفس ثم تحويلها إلى توهم السخرية بالرأي، فجنحة الاعتداء سريعة التكوين في نفس القاضي من مجرد القيام بالواجب وبدون أي سبب خارجي.
إذا علمنا أن مأمورية المحامي، شرط لازم لعدالة القاضي، فالنتيجة اللازمة لهذا حتمًا أن المحامي وهو يؤدي هذه المأمورية لا تدخل عقوبته في حدود سلطة القاضي لأن هذه السلطة نفسها شرطها احترام مأمورية المحامي، وتمكينها إلى آخر حدودها.
ولا يجوز للقاضي أن ينقض بعمله، شروط عدالته، فيمنع المحامي من تأدية عمله بحجة أنه قد اعتدى.
إن هذا الاعتداء إذا وقع لا يذهب أثره، ولا بد أن نتذكر دائمًا أن عقوبته محققة باقية لا تضيع سُدى، ونتذكر دائمًا أننا هنا أمام واجبين اجتماعيين، والواجبات الاجتماعية، لا تتعارض ولا تتناقض، فيجب أن يترك المحامي يؤدي واجبه، ثم للقانون، بدون تعجل ولا انتقام، أن يقتص منه بعد ذلك فيقدم إلى السلطة المختصة لمحاكمته على الاعتداء الذي وقع منه.
هب أنك أمام محكمة جنائية، وأهم ما فيها بحث في شهادة شهود وتدوين لأقوالهم، وهب أن الرئيس قد اعتقد أن الشاهد قد أجاب بكذا، فأملاه على الكاتب، والواقع أن الرئيس أخطأ في السماع، فاعترضه المحامي بأن الشاهد قال غير هذا، أفلا يكون من هذا تهمة اعتداء، أبسط ما يقال فيها إن المحامي قد اتهم الرئيس بأنه يزور محضرًا رسميًا، أو بأنه لاه عن سماع الشهود، والاعتداء قائم في الحالتين ؟!
حينئذٍ تكون النتيجة، أن هذا المحامي، ووجوده شرط لصحة عمل القاضي، ووجوده إنما لوحظ لأجل هذا الواجب الذي يؤديه، ولأجله فقط، تكون النتيجة أنه قد استحق الحكم بالحبس، لا لشيء سوى أنه أدى واجبه، فكان في تأديته إيلامًا للقاضي، ومن ذا الذي يعطي سلطة الانتقام إذا غضب فلا يستعملها ؟!
لا شك عندنا في أن الرأي القائل بجواز استعمال المادة (89)، في حق المحامي يخرج بنا عن كل ما يدركه العقل، إذ تذكر هذه الواجبات المقررة، وعن كل ما يحققه القانون في نصوصه المختلفة من وجود المحامي، ومن القيام بمأموريته:
قد يجوز أن يكون اعتداء المحامي واضحًا وضوحًا لا ريب فيه، بحيث لا يحتمل الموضوع تأجيلاً ولا محاكمة يجب تحويلها على محكمة أخرى، وعلى هذا فقد يعترض: ما معنى ضرورة التأجيل هنا، ولماذا لا ينفذ القاضي سلطته المقررة في المادة (89).
هذا اعتراض، لا يضعف شيئًا مما تقدم، بل هو رجوع بنا إلى الوراء، كأننا لم نتقدم بالبحث خطوة، فإن الاعتراض قائم على التسليم بأن المادة (89)، يدخل في حكمها المحامي حتمًا، وهذه هي المسألة المراد بحثها وتقديم الدليل عليها، فإذا ما دللنا، على أن المحامي لا يمكن أن يدخل في حكم المادة، فلا معنى للاعتراض، بجواز أن يكون خطأ المحامي واضحًا، لأن هذا الوضوح موضعه هناك أمام القاضي الذي يحكم في الموضوع وليس من شأنه أن يدخل في حكم المادة ما لم توضع لأجله.
على أن هذا الاعتداء المفترض خيالاً والمجرد عن كل ملابسة، لتأدية الواجب، هو بالطبع من الوقائع النادرة الشاذة، والشذوذ لا حكم له.
إنما توضع القواعد للحوادث الغالبة، وحكمها أن تهمة الاعتداء إذا وجهت للمحامي فإنما هي ناشئة من تأدية واجبه وبسبب ذلك الواجب ما يتبعه من تصادم الرأي بين القاضي والمحامي.
على أن هذا الاعتراض يرد عليه بمثل حجته، وذلك بافتراض الحالة الشاذة، التي تقابله، وهي أن القاضي، وهو قوي، قد يغتر بسلطته، فيعتدي على المحامي اعتداءً واضحًا، فيكون المحامي في حل من رد الاعتداء بمثله، ولا يجوز للقاضي، أن يحكم في حق نفسه، فينتقم بعد أن كان معتديًا ؟!!
الصواب أن هذه الاعتراضات، الافتراضية، تتلاشى وتستقيم شروط العدالة، إذا قلنا إن هذه الحالة حالة خاصة، بمظهرها، وبحكمها، وبنتائجها ولا سبيل لتطبيق المادة (89) عليها، بل هذه مناقشة، بين فريقين، فلكل منهما الحق في أن يناقش، فإذا تحولت المناقشة إلى اتهام متبادل، فلكل منهما أن يحتمي ضد الآخر بواجبه، والواجبات لا تتعارض، فلا بد من تحويل خصومتها للمحكمة المختصة لتفصل فيها، تحقيقًا لمسؤولية كل منهما.
بقيت كلمة أخيرة يجب أن تكون ختامًا لهذا البحث.
قد يقال، نسلم إن للمحامي مأمورية مقررة في الجلسة، نسلم أنه رسول القانون، وأنه شريك القاضي في عمله، لكن هذا قد لا يحل الإشكال لأن للقاضي شركاء آخرين في الجلسة هم الموظفون معه، وهم أيضًا أصحاب مأمورية اجتماعية، ومع هذا جاز للقاضي أن يحكم عليهم إذا اعتدوا، فلماذا لا يجوز له أن يحكم على المحامي ؟!
قيمة هذا الاعتراض كلامية أكثر منها جوهرية.
أولاً: لأن البحث في هل للقاضي أن يحكم على الموظف بالعقوبة طبقًا للمادة (89) لا يزال باقيًا كله، ولا ندري هل تنطبق هذه المادة على الموظف أو لا تنطبق، فالاعتراض أساسه افتراض غير مسلم به أو عقدة غير محلولة، فهي لا تحل عقدة أخرى.
وثانيًا: لأن المادة (86) التي قررها الشارع لأجل الموظفين وحدهم لا تسمح بغير توقيع الجزاء التأديبي - دون العقوبة - فالاستدلال بها يؤيد رأينا.
وثالثًا: لأنه قد يكون الاعتداء من عضو من المحكمة فتسقط ولاية الباقين في الحكم، فالظاهر المادي أن المادة (89) لم توضع لهذه الحالة فهي حينئذٍ لا يجوز تطبيقها على الموظفين.
ورابعًا: لأن المادة (86) قاصرة على التشويش لا على أية جنحة أخرى، ومن هذا أيضًا تدليل صريح على أن المحكمة لا تملك الحكم على الموظف إذا أسندت إليه جنحة، فهي حينئذٍ لا تملك الحكم على المحامي لا لأنه موظف ولكن لأنه يؤدي واجبًا في الجلسة كالموظف.
وخامسًا: لأن الموظف عند إصدار المادة (89) كان خاضعًا في المسؤولية التأديبية للمحكمة، فلا غرابة في أن تؤدي هذه السلطة في الجلسة كما تؤديها خارج الجلسة.
هذا أما إذا أردنا التمثيل بالموظف، ليكون القياس كاملاً، فيجب أن تفترض الواقعة الآتية:
كاتب الجلسة أمين على محضر الجلسة، يدون فيه الوقائع كما تحصل، كما أن المحامي أمين على طريقة الدفاع يرسمه كما يريد، فهب أن القاضي والكاتب اختلفا في تدوين الوقائع في محضر الجلسة فرأي القاضي تدوين واقعة، ورأي الكاتب أن الواقعة ليست بالشكل الذي يريد القاضي إثباته فرفض الإثبات، فقامت المناقشة بين الفريقين، وكان من نتيجتها حدة أغضبت القاضي، فهل له أن يتهم الكاتب بالإهانة والاعتداء، ثم يحكم عليه لأنه لم ينفذ أمره، فيما لا يجوز أن يأمر فيه ؟!!
لا يمكن لأحد أن يتوهم أن هذا الكاتب الحريص على واجبه، والصادق في تأديته يصبح بسبب هذا الصدق، مهددًا بالعقوبة، ويكون الذي يعاقبه هو نفس ذلك القاضي الذي طلب إليه أن يثبت في محضره واقعة قد يجوز أن القاضي أساء الفهم فظن أنها وقعت كما فهم، وهي لم تقع !!
هذا هو الحال بالضبط بالنسبة للمحامي، فإننا أمام واجبات تتلاقى، كل من الفريقين أمين على واجبه، وليس بينهما سوى التفاهم بالحسنى، فإذا تعذر التفاهم، واحتد أحدهما على الآخر، فلا بد لهما بمن يفصل بينهما.
على هذا تكون المادة (86) الخاصة بالتشويش بالنسبة للموظفين فقط، والمادة (89) الخاصة بالتشويش والاعتداء بالنسبة لغيرهم إنما الغرض منهما، هو ذلك التشويش الذي يصدر من شخص لا تربطه مع القاضي - رابطة مقررة - وفي ظرف لا يكون يؤدي فيه لدى القاضي واجبًا مقررًا، كان من شأنه حصول ذلك النزاع الذي اعتبره القاضي إهانة، وهو تأدية واجب ليس إلا، وإن شذ عن الحد، فما كان للشذوذ في الواجب غير المحاكمة التأديبية إن وجد سببها.

البحث الثاني

في أن العمل الواحد قد يكون واجبًا إذا صدر من المحامي وهو اعتداء إذ صدر من الفرد:
لا شك في أنه لا يجوز لأحد من الجمهور الحاضر، أن يتقدم إلى القاضي، ليبدي اعتراضًا على عمله، أو ليقدم نقدًا، أو ليبين أنه أخطأ، وإذا صدر هذا من واحد من الجمهور، فقد اعتدى على القاضي طبقًا للمادة (89)، وحقت عليه العقوبة.
أما المحامي، وهنا يظهر لك الفارق العظيم بينه وبين الجمهور، ويظهر لك أن المادة (89) لا تعنيه أصلاً، فإنه بحكم مأموريته المقررة، من حقه بل يجب عليه أن يقول للقاضي لقد أخطأت كلما اعتقد أنه في الواقع قد أخطأ.
نقول هذا واجب، ولا ينازعنا في هذا القول منازع، وهو مع هذا قول فيه شيء من الإيلام، وإن شئت أن تنزل إلى إفهام طبقة الحاضرين في الجلسة من الشعب ففيه تصغير وإهانة، فهو اعتداء بالمعنى اللفظي للمادة (89).
لكنه عمل مشرف، عند من يدركون الواجبات، الموزعة على شخصين، يتفاهمان في دائرة واجب سامٍ، لا ينقص من قدره أن إفهام بعض الطبقات لا تدركه.
تتحدث النيابة في مذكرتها (بكرامة القاضي)، وضرورة أن يحاط بسياج من التقديس والاحترام، (والمهابة، حتى يتمكن من أداء واجبه)، ثم تكتب (إن الشارع لهذه الغاية قد وضع من النصوص الصريحة، ما يكفل للقاضي وهو على عرش العدل المحافظة على احترام، وهيبة ذلك المجلس المقدس).
هذا صحيح، لا يعارض فيه أحد، غير أنه في الوقت نفسه، كلام عام مرسل، هو إلى الأسلوب الخطابي أقرب منه إلى البحث القانوني، ونبرئ واضع المذكرة من احتمال أنه قصد بوضع هذه الكلمات حمل القضاة على العقيدة بأن كرامتهم مرتبطة بسلطة حبس المحامين في الجلسات، واعتبارهم جناة إذا هم نطقوا بكلمة لا ترضيهم.
نريد أن نبحث هل من معاني احترام القاضي، أن تتلاشى أمامه إذا أخطأ، كل الحقوق والواجبات، فتسقط حقوق الأفراد وتبطل الأنظمة الموضوعة للمصلحة العامة، بل نذهب الضمانات المقررة لاحترام أحكامه، فلا يبقى من كل هذا إلا أن القاضي يتمتع بسلطة استبدادية مطلقة لا حد لها، فلا يجوز لأحد أن يعترض وإلا حقت عليه العقوبة !
ولا نظن أن النيابة تريد شيئًا من هذه الفوضى، بل لا نظن أن القاضي العليم بموجبات كرامته، والمؤمن بجلال مهمته، يرضى لنفسه أن يكون ذلك المستبد المعصوم من الخطأ، فلا يقبل على عمله اعتراضًا !!! من محامٍ جاء إلى الجلسة بحكم القانون للمعاونة على إدراك الصواب وطريقه.
قررت في صدر بحثي أنها مسبة للمحاماة أن يطلب المحامي امتيازًا هو خروج على القانون وامتهان لحقوق الناس، فلا لوم علينا إذ قلنا إننا نرجو للقاضي ما نرجوه لأنفسنا من الكرامة فجلال القاضي أو (قدسيته) كما تعبر النيابة مرتبطان بمظهر تنفيذ القانون، واحترام حقوق شركائه في العمل، وتحمل أداء الواجبات التي فرضت على كل من يساعده في أعماله التمهيدية الموصلة للحكم قبل أن يؤدي مأموريته التي يمتاز بها ولا يشاركه فيها أحد وهي إصدار الحكم.
أما قبل هذا فلا مأمورية، ولا واجب له، سوى السماع، واستيفاء إجراءات القانون كاملة !! وبحث كل اعتراض يوجه إليه، فربَّ اعتراض يؤلمه، لكنه يعصمه من الخطأ !!
بناءً على هذا يجب أن نقول إن واجبات المحامي إزاء القاضي هي بذاتها، المقررة عليه بحدودها، وشروطها، قبل زملائه، وقبل الشهود، وقبل الخصوم، وقبل الخارجين عن الخصومة، وذلك مع ملاحظة الفارق الذي يقتضيه مراكز كل من هؤلاء.
إن المحامي في جلسة القاضي لا غرض لمأموريته إلا إلفات النظر إلى مواضع الخطأ في جميع أشكاله، ومقاتلته في جميع أسبابه كيفما كانت أقواله، ومهما ألبسها من مظاهر التلطف في التعبير، أو البلاغة في الإقناع، فهو يعمل على توجيه فكرة القاضي إلى غرض معين.
والفائدة الاجتماعية من تنظيم مهنة المحاماة إنما تنحصر في احتمال أن يكون ذلك الغرض الذي يوجه المحامي فكر القاضي إليه لم يرد على خاطره، ولم يحسب له حسابًا، فالقاضي يجلس محاطًا بكل أنواع الاحترام والإجلال، إلا أنه إنسان، معترض للخطأ، بل هو لا يهمه إجلال الناس إذا لم يكن إنسانًا مثلهم - معرضًا للخطأ مثلهم - لكنه يمتاز عنهم في سمو مأموريته، ويفضلهم حقيقة في إخلاصه لإقامة العدل، وهذا الإخلاص بعينه يقتضي أن يتقي مواضع الخطأ، وأن يشكر من يلفته إليه،، فإن العصمة ليست من أقدار الإنسان.
1 - يواجه المحامي القاضي بأنه أخطأ في حكم صدر منه غيابيًا، أو في أمر صدر على عريضة، وقد يكون الخطأ في مسألة قانونية فُهمت على غير ما يجب، فيدلل المحامي علنًا، وعلى ملأ من الناس أن وجه الصواب فيها على غير ما فهم القاضي، فيشرح النقطة المقصودة، ويبين حدودها وأركانها، وأصولها وفروعها، ولم يقل أحد أن هذا يعتبر تعديًا على مركز القاضي لأن المحامي قد وصفه بالجاهل لأحكام القانون، بل يفرح القاضي لهذا فرح العادل بإدراك الحق، ثم يعدل عن رأيه وينضم إلى رأي المحامي، وفي هذا العدول جلاله وشرط احترامه.
2 - كذلك المحامون أمام محكمة الاستئناف يدللون على خطأ القضاة بكل قوة، وتصدر أحكام الاستئناف معلنة أن القضاة قد أخطأوا، ومهما كان الخطأ جسيمًا، فلم يخطر على فكر أحد إن في إعلان هذا الخطأ اعتداء على كرامة من أخطأ.
3 - ألا ترى، فضلاً عن حالات الحكم الغيابي، والأوامر التي تصدر على العرائض، إن المحامي يواجه المحكمة، بأنها أخطأت، عند المرافعة بعد حكم تمهيدي صدر، وبعد تنفيذه فعلاً فيدلل على أن هذا الحكم قد صدر خطأ، ويطلب إلى نفس القاضي أو إلى نفس المحكمة التي أصدرته، أن تعدل عنه في مبدأه، وأن تمحو الأثر الذي صدر عنه، وأن تعلن بنفسها في حكم جديد، أنها قد أخطأت في قضائها الأول وأنها تعدل عن ذلك القضاء إلى قضاء جديد !!!
4 - ثم ألا ترى أن المحامي يواجه محكمة الاستئناف بأنها أخطأت في حكمها، ويطلب إليها أن تعدل عنه من طريق الالتماس ؟! ولا يدور في خلد أحد أن الشارع أراد في هذه الحالة الاعتداء على كرامة القضاة، والعبث باحترامهم !!
أين هذا الجلال، الصحيح، المُجسم، من القول بأن المحامي إذا قال للقاضي إن هذا خطأ فقد خرج عن حدود مأموريته واعتدى على ذلك الجلال الوهمي اعتداءً ؟!!
قلنا إن الاعتراض بالمواجهة يخالف الواقع، ونقول بعد هذا إنه يخالف ما نفهمه من آداب القاضي على وجهها الأكمل، لأن التفريق، بين القول بالخطأ مواجهة، والقول به في غيبته أمام محكمة أخرى، إلى حد جعل الأول اعتداء والثاني عملاً شرعيًا واجبًا، إنما معناه عجز القاضي عن إصلاح خطئه، وضيق نفسه عن سماع ملاحظة صادقة مهما كان الواجب فيها واضحًا !!
ثم نقول ثالثًا إن الاعتراض بالمواجهة وعدمها إنما يرجع في الواقع إلى أن القول بالخطأ في حالة الغياب لا يثير غضب النفس كما يثيره في حالة المواجهة، فينتقل بنا النظر إلى أن القاضي إذا غضب كان من حقه أن ينتقم، فنخرج بهذا عن أصول عقوبة الاعتداء، وحكمة تشريعها، وشرط تطبيقها، لأنها مقررة، لا إرضاء لشهوة الغضب، والغضب لا تشريع له، وليس من حق المخطئ أن يغضب، وليس من مظاهر العدل من جهته أن ينزل نقمته على من يرجو لخطواته السداد ويريد أن يبعده عن مواضع الزلل.
المسألة ترجع بنا دائمًا إلى التساؤل، هل وظيفة القاضي تتحمل التفاهم مع المحامي بيانًا للصواب والخطأ أو لا تتحمل ؟!
وقد وضح أنه لا مأمورية للمحامي غير هذا، ولا مأمورية للقاضي أيضًا غير سماع اعتراضات المحامي.
لا نقول إذن وجب أن نطلق العنان في الجلسة إلى حد التجاوز عن اللائق، فلا شك في أن المحامي من أدق واجباته، في أداء مهمته أن يكون حكيمًا، كلما وجد التصادم في الجلسة بين رأيه وبين رأي القاضي أو عمله، فعليه أن يختار من العبارات أحسنها فيكون إلى إدراك غرضه في الحادثة المعينة أقرب، وإلى اكتساب ثقة القضاة وتقديرهم لحسن أساليبه أمكن.
غير أنه إذا أخطأ السبيل فالمسألة مهارة فنية، ومقدرة في صناعة الكلام، لا تعلق لها بقانون العقوبات، ولا تتصل بحوادث الاعتداء، وقد يكون الخطأ بسيطًا فلا مسؤولية عليه غير أن يُعرف عن المحامي بأنه محدود الكفاءة في مهنته، وقد يكون الخطأ جسيمًا، فتبدأ المسؤولية التأديبية.
ومن هنا يظهر لك أيضًا أن حسن النية أصل مقرر في مناقشة المحامي، مهما ظهر في ألفاظها من دلائل الحدة، لأنه يؤدي واجبًا، وهذا هو قصده، وغرضه، فتحويل هذا القصد الشريف قانونًا، ونظامًا، إلى قصد سيئ، يستحق العقوبة، خروج بنا عن الموقف المقرر إلى نقيضه، وهو موضوع قضية معقدة، لا يتيسر لقاضي الجلسة أن يكون هو الفاصل فيها.

مرسوم بقانون خاص بترتيب المجالس الحسبية

مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة السادسة - يناير 1926

مرسوم بقانون خاص بترتيب المجالس الحسبية

نحن فؤاد الأول ملك مصر،
بناءً على المادة (41) من الدستور، وبعد الاطلاع على الأمر العالي الصادر في 13 جمادى الثانية سنة 1314, (19 نوفمبر سنة 1896) الخاص بالمجالس الحسبية والمعدل بالقانونين رقم (10) لسنة 1918 و (38) لسنة 1922، وعلى القانون رقم (5) لسنة 1911 الخاص بتشكيل مجلس حسبي عالٍ، وعلى القانون رقم (35) لسنة 1923 بشأن نظام جلسات المجالس الحسبية والرقابة على الأوصياء والقامة والوكلاء عن الغائبين، وبناءً على ما عرضه علينا وزير الحقانية، وموافقة رأي مجلس الوزراء، رسمنا بما هو آتٍ:
الفصل الأول: تشكيل المجالس الحسبية الابتدائية واختصاصها:
مادة (1):
يُشكل في كل مركز مجلس حسبي بالكيفية الآتية:
أولاً: قاضٍ من المحاكم الأهلية يندبه وزير الحقانية ويكون رئيسًا, فإذا تعذر وجوده يحل محله مأمور المركز.
ثانيًا: قاضٍ شرعي يندبه وزير الحقانية فإذا تعذر وجوده يحل محله عالم من علماء المركز يعينه وزير الحقانية.
ثالثًا: أحد الأعيان يعينه وزير الداخلية.
وعند النظر في المسائل الخاصة بغير المسلمين يستبدل بالقاضي الشرعي أو العالم عضو يعينه وزير الحقانية يكون من أهل ملة الشخص المقتضي النظر في أمره، ويجب أن يكون هذا العضو من رجال القانون في حالة غياب القاضي الأهلي حلول مأمور المركز محله في الرياسة.

بحث في نظام المجالس الحسبية

إن القانون الصادر في 12 أكتوبر سنة 1925 بتوسيع اختصاص المجالس الحسبية للنظر في المسائل الخاصة بغير المسلمين من الرعاية المحلية قد أثار عاصفة استياء ونقد نريد بمقالنا هذا الخوض في مناقشتها.
رأى بعضهم أن إلغاء المجالس هذه وإضافة اختصاصها إلى المحاكم الأهلية ضمان أكبر لحسن إدارة أموال القاصر وعديم الأهلية وخطوة في سبيل توحيد جهات القضاء.
على أن التشريع الأجنبي وهو أقدم عهدًا منا بالتقاليد وبالخبرة القضائية ينبئنا بأنه لا يصح ترك هذه المادة إلى المحاكم النظامية تنفرد في النظر فيها وقد أشرك الشارع هناك مجلس العائلة - المشكل من أفراد العائلة برئاسة قاضي المصالحات - اشتراكًا فعليًا مع تلك المحاكم.
وقد ظهرت في هذا العصر متاعب جمة في إيجاد هؤلاء الأعضاء لأسباب عديدة منها رحيل العائلة بعد وفاة عميدها وعدم استقرارها في مكان سعيًا وراء المعيشة ما حال دون قيام المجالس العائلة بأعمالها خير قيام.
هذا نظام البلاد الغربية أما نظام ديارنا المصرية فقد مرت عليه أطوار عديدة لنا في ذكرها ما ينير ظلام الطرق التي كانت سببًا في تلك العاصفة.
قد أنشئت المجالس الحسبية بأمر عالٍ صادر في 1873 بناءً على طلب نظارة المالية التي لاحظت بحق أن مأمورية بيت المال قاصرة على إدارة تركات القصر وعند بلوغهم تسلمهم أموالهم وكثيرًا ما رأت عدم تبصرهم في تصريف أمورهم وهم على جانب عظيم من الجهل وسرعان ما تندثر أموالهم فيصبحون في حالة يرثى لها لذلك طلبت تشكيل المجالس هذه لحفظ وإدارة التركات ولتقديم المشورة لبيت المال ليقوم بتنفيذها (يراجع قاموس الإدارة والقضاء جزء رابع صـ 25).
أنشئ المجلس الحسبي وانعقد برئاسة المدير أو المحافظ أو المأمور ومن حل محلهم من الموظفين وظلت مجالس إدارية حافظة صفتها هذه إلى أن أدخلت الحكومة تعديلاً قيمًا في سنة 1922 كان من شأنه تغيير الرئاسة وإسنادها إلى قاضٍ من قضاة المحاكم الأهلية ولا يخفي ما في هذا التغيير من المغزى الكبير وقد نمسك القلم عن تسطير ما لا يجهله أحد مكتفين ببيان وزارة الحقانية الآتي بعد.
قال دولة وزيرها (أنه قد أظهر الاختبار عيوبًا كثيرة في سير الأعمال بالمجالس الحسبية ولهذا تبحث النظارة في إصلاح حالها بحيث تكفل لذوي الشأن مصالحهم)
(ملحق الوقائع المصرية عدد 34 الصادر في 27 مارس سنة 1911, الصحيفة الخامسة منه).
وأورى جناب المستشار القضائي في تقريره لسنة 1914, (إن كثيرًا ما أشرت في تقاريري إلى سوء حال الأعمال في هذه المجالس وإلى الشكوى العامة منها ومما لا شك فيه أن السبب يرجع إلى العيوب اللاصقة بتشكيل هذه المجالس ونظامها)
(ملحق الوقائع المصرية عدد 54 الصادر في 4 مايو سنة 1914, الصحيفة التاسعة عشر منه).
ظهرت المجالس هذه في ثوبها الحقيقي من ذاك الحين ما حفظ لها حسن السمعة وجميل الثناء وكنا نتمنى أن يقدس القانون الجديد تلك الرئاسة وألا يعود إلى التبرع بها إلى رجال الإدارة في حالة غيبة القاضي.
أما أعضاء المجلس فهم في حقيقة الواقع خير عون يؤدي اشتراكهم مع الرئاسة إلى الحكم على أحسن حال فقد نرى عضو الأعيان يبدي من الملاحظات على ما يسمعه ويراه من حسن سير الوصي أو القيم في معاملاته مع أفراد الناس ولا يخفى أن الدين المعاملة، ويرشد فضيلة القاضي الشرعي أو من يحل محله من أهل الملة عملاً بقانون سنة 1925, إلى قواعد الشرع وإلى العرف الذي قدسته الملة.
وهذا التشكيل يقرب مجالس الحسبية من مجالس العائلة التي ما وجدت إلا للوقوف على حسن المعاملة ولعدم الخروج على العرف والمتبع.
كانت أحكام مجالس الحسبية نهائية لا يقبل عنها استئناف إلى أن سنت الحكومة في سنة 1896, درجة استئنافية هي مجلس الحسبي العالي ومحكمة الاستئناف الأهلية وجعلت لكل منهما اختصاصًا.
وكان المجلس العالي مشكلاً وأغلبية أعضائه من كبار الموظفين بما فيها الرئاسة وكان مختصًا بما يرفعه له ناظر الحقانية من القرارات الصادرة بعزل الأوصياء والقوامة وبإعادة فحص حساباتهم.
(المادة (7) من قانون سنة 1896).
وأما القرارات الصادرة في طلبات توقيع الحجر أو رفعه أو في استمرار الوصاية على القاصر الذي بلغ الثامنة عشر فيرفعها ذو الشأن أو النيابة العمومية إلى محكمة الاستئناف الأهلية.
(المادة (6) من القانون المحكي عنه).
ظلت هاتان الهيئتان تنظران الاستئنافات المرفوعة عن أحكام المجالس الحسبية إلى أن حل بالمجلس الحسبي العالي ما تضمن تشكيله من عيوب إذ أن وكيل مجلس حسبي مصر الذي له رأي في المسائل التي عرضت على المجلس الابتدائي نجده جالسًا في المجلس العالي وعضويته والحالة هذه كانت سببًا في عدم استئناف قرارات مجلس حسبي مصر وأما قرارات مجالس الأقاليم فما عرض منها كان تافهًا لذلك صدر الأمر العالي في 4 يونيه سنة 1900, بإلغاء المجلس العالي هذا وانفردت محكمة الاستئناف الأهلية في النظر في المسائل التي خصها بها قانون سنة 1896, وأصبحت المجالس الحسبية تحكم نهائيًا في المواد التي كانت قراراتها تستأنف أمام المجلس العالي إلى أن أحيته وزارة الحقانية في سنة 1911, لما رآه دولة وزيرها في طوافه في أقاليم الوجه القبلي من ضروب الخلل والإهمال في أقدس واجبات المجالس الحسبية.
أعيد المجلس العالي إلى عالم الوجود متحليًا بلباس عصري نابذًا ذلك الثوب القديم الذي تعودنا أن نراه به وتشكل لا من موظفين بل من ثلاث مستشارين أفاضل من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية برئاسة أحدهم ومن عضو محترم من المحكمة العليا الشرعية أو من أهل ملة الشخص عند النظر في المسائل الخاصة بغير المسلمين عملاً بقانون سنة 1925, ومن أحد الموظفين الموجودين في الخدمة أو المتقاعدين.
اختص هذا المجلس بما كان من اختصاصه في ماضي أيامه وما كان داخلاً في اختصاص محكمة الاستئناف الأهلية التي أصبحت والحالة هذه عنصرًا جديدًا في عضويته.
هذا نظام المجالس الحسبية وهي اليوم تختلف عن أمسها اختلافًا كليًا فبعد أن كانت محاكم إدارية يجلس الموظفون فيها أصبح يجلس فيها رجال القضاء الأهلي والشرعي ورجال القانون من أهل ملة الغير مسلم, وأصبح لها ما للمحاكم النظامية من الحقوق فالمواد (37) و(38) و(29) من القانون النظامي الجديد لهذه المجالس توافق المواد (85) وما بعدها من قانون المرافعات الأهلي الخاصة بالإجراءات والعقوبات والجنح والجرائم التي تقع في الجلسات.
ولنبحث الآن عمن يحق له أن يرفع الاستئناف عن كيفية رفعه.
نصت المادة (12) من القانون الجديد على أن لوزير الحقانية أن يرفع إلى المجلس الحسبي العالي أي قرار في الموضوع صادر من المجلس الحسبي وذلك بناءً على بلاغ من النيابة العمومية أو من أي شخص ذي شأن أو من تلقاء نفسه.
يحق لنا والحالة هذه أن نتساءل من أين يتسنى للنيابة العمومية استعمال حق البلاغ هذا وهي غائبة عن المحكمة ولم يشترط القانون ما اشترطه غيره من ضرورة استطلاع رأيها في هذه القضايا.
إن الشرائع الأجنبية ونظام المحاكم المختلطة في هذه الديار التي أقامت النيابة العمومية حارسة ومهيمنة على مصالح القصر وعديمي الأهلية أفسحت لها مجال الاطلاع والحضور في جلسات المحاكم ومدتها من السلطة ما سهل عليها القيام بمأموريتها هذه.
(المواد (68) وما بعدها من قانون المرافعات المختلط، و(72) وما بعدها منه).
لا يملك الوزير وحده رفع الاستئناف بل قضت المادة (13) من القانون الذي نحن بصدده أن للأوصياء المختارين أن يستأنفوا إلى المجلس الحسبي العالي القرارات الصادرة بعزلهم أو استبدال غيرهم بهم, وللأولياء الشرعيين هذا الحق أيضًا فيما يتعلق بالقرارات التي تسلبهم سلطتهم على أموال الأشخاص المشمولين بولايتهم أو تحظر عليهم إجراء بعض التصرفات في هذه الأموال بلا إذن سابق.
وسكت النص عن حق الأوصياء المعينين وقد كان لهم أن يستأنفوا القرارات الصادرة بعزلهم أمام مجلس الحسبي العالي:
(المادة (2) من قانون نمرة (5) سنة 1911) فأصبحوا لا يملكون إلا الالتماس من معالي وزير الحقانية أن يستعمل حقه في رفع الاستئناف ولم تذكر المذكرة الإيضاحية سببًا لسلب حق كان لهم بموجب ذلك القانون.
أما القرارات الصادرة من المجالس الحسبية في طلبات توقيع الحجر أو رفعه أو في رفع الوصاية أو استمرارها أو في منع القاصر الذي بلغ الثامنة عشرة من التصرف فاستئنافها حق لكل ذي شأن وللنيابة العمومية.
ويرفع من ذكروا الاستئناف بعريضة تقدم إلى وزير الحقانية وعلى الوزير تقديم هذا الاستئناف إلى المجلس الحسبي العالي (المادة (13) من القانون الجديد).
ولا نقف على قصد الشارع من اتباع هذه الطريقة ما دام الوزير ملزم بتقديم هذا الاستئناف ولو رأى ما لا يدعو إلى استئنافه, ألم يكن من المستحسن اختصار الطريق واتباع القاعدة المقررة في قانون تحقيق الجنايات من أن الاستئناف يرفع بتقرير في قلم كتاب المجلس.
إن المادة (13) المشار إليها يرجع أصلها إلى نص كان في مشروع قانون سنة 1911 الخاص بتشكيل المجلس الحسبي العالي ومن مقتضاه أقام وزير الحقانية رئيسًا لذلك المجلس ولما تعدل المشروع بناءً على مشورة مجلس شورى القوانين وجعل الرئاسة لأحد المستشارين الثلاث أبقى النص كما هو بعد ما زال عنه ما علله.
هذا من جهة ومن الأخرى فلم تنص المادة (13) من القانون المذكور على البيانات الواجب ذكرها في العريضة المرفوعة لوزير الحقانية بطلب رفع الاستئناف, على أن إيضاح الأسباب التي يبني عليها الاستئناف مما يجعل للتروميزان ويعدم الرعونة الملازمة للحالة العصبية التي يتواجد فيها من خسر دعواه.
ألم يكن من المستصوب اتباع القاعدة المقررة في المادة (231) من قانون تحقيق الجنايات التي تقضي بوجوب بيان الأسباب التي بني عليها الطعن في الميعاد المحدد لقبوله وإلا سقط الحق فيه أو على الأقل بيان بعضها كما قررت ذلك المادة (263) من قانون المرافعات في المواد المدنية.
على أن هذا الاستئناف لا يوقف تنفيذ قرار المجالس الحسبية إلا إذا استعمل الوزير حقه المخول له في المادة (14) من القانون الجديد ذلك الحق الذي قيدته المادة المذكورة بنصها (إذا رأى) أن يرفع قرارًا إلى المجلس الحسبي العالي، وقد بينا أن الأحوال المنصوص عنها في المادة (13) تلزم الوزير بتقديم عريضة الاستئناف المرفوعة إليه من ذي شأن إلى المجلس العالي، فهل يملك الوزير في تلك الأحوال إيقاف التنفيذ ؟
إن لفظة (إذا رأى أن يرفع قرارًا)، وهو في حقيقة الواقع لا يرفع قرارًا بل يقدم عريضة الاستئناف الواردة إليه إلى المجلس العالي لا تسمح له بإيقاف التنفيذ.
على أن هذا قيد ورد في القانون الجديد وأما ما كان متبعًا حتى الآن فوارد في المادة الرابعة من قانون سنة 1911, ونصها لناظر الحقانية (عند رفعه) قرارًا إلى المجلس العالي إلخ، ولما لم نرَ في المذكرة الإيضاحية تعليلاً لهذا التعديل رجعنا إلى النص الفرنسي للمادة (14) المحكي عنها لعلمنا أن القوانين تخرج من اللجنة التشريعية فرنسية العبارة فوجدنا نصها مطابقًا للنص الفرنسي للمادة الرابعة من قانون سنة 1911, المشار إليها فتحققنا أن التعديل لم يكن عملاً تشريعيًا بل آتٍ من طريق النقل إلى اللغة العربية ولو رجع الناقل إلى النص العربي للمادة الرابعة المذكورة لوفر عليه عناء التعريب وعلينا متاعب البحث والتنقيب.
على أننا نتساءل ألم يكن كافيًا الضمان الوارد في الفقرة الأولى من المادة (15) من قانون سنة 1925, وهو ويقضي بأن للمجلس الحسبي العالي أن يوقف تنفيذ قرار مجلس الحسبي المرفوع إليه عند الاقتضاء ؟
ألم يكن هذا الضمان أقرب إلى العدل من ضمان حق الوزير بما أن المجلس العالي لا يقرر بإيقاف التنفيذ إلا بعد سماع أقوال ذوي الشأن من الطرفين فهل لدى الوزير من الوقت ما يسمح له بسماعهم.
هذا نظام مجالسنا وهذا طريق الطعن في قراراتها أمام المجلس الحسبي العالي ولنا في عدله وفي نظره السامي ما يرفع التشريع إلى درجة الكمال كما لنا في الأسباب التي دعت إلى إنشاء محكمة استئناف أسيوط ما يشفع لدى وزارة الحقانية لإنشاء مجلس حسبي عالٍ لأقاليم الوجه القبلي.

إلياس روفائيل عباشي
المحامي بقسم قضايا المالية

مدى سيادة الدولة في المسائل الجنائية

مجلة المحاماة - العدد الثالث
السنة التاسعة1928

مدى سيادة الدولة في المسائل الجنائية
بحث في القانون الجنائي الدولي مع بعض تطبيقات بالنسبة لمصر

سيادة الدولة من الوجهة الخارجية:
سيادة الدولة بصفة عامة “ Souveraineté ” هي حقها في العمل داخل البلاد وخارجها بما تراه في صالح الوطن وذويه فبالنسبة للخارج أي بعلاقات الدولة مع غيرها من الدول تعتبر السيادة خارجية وتظهر في الوجود حيث التمثيل الخارجي للدولة وحتى إعلان الحرب وإجراء المفاوضات مع الدول الأجنبية.
من الوجهة الداخلية:
أما بالنسبة لأعمال الدولة داخل إقليمها فتعتبر السيادة داخلية فالدولة حرة في اختيار نظام الحكم الذي تسير عليه ووضع الأنظمة الداخلية التي تراها ومن مقتضيات هذه السيادة أن يكون للدولة الحق في وضع قوانينها وإنشاء المحاكم لتطبيق هذه القوانين ومجازاة من يخالف أحكامها ومنع الأجرام في إقليمها.
تحديد السيادة بإقليم الدولة:
كل هذا ناتج من السيادة الداخلية ولكن هذه السيادة محدودة بحدود إقليم الدولة - أي تنتهي هذه السيادة عند الحد الجغرافي لأرض الدولة - فإذا ارتكب مجرم جريمة على هذه الأرض وفرّ إلى خارج حدود البلاد فلا تستطيع رجال الدولة أن تتبعه لتقبض عليه ولكن لا يفيد هذا أنها تتركه وشأنه بل لها أن تطلب بالطرق السياسية تسليمه من الدولة التي لجأ إليها - ويتم التسليم طبقًا لقواعد يحددها القانون الدولي ويمكن بيان أهمها فيما يلي:
مقارنه التسليم بالأبعاد:
1 - تسليم المجرمين (Extradition)- هذا التسليم هو عبارة عن التخلي عن الشخص المتهم بارتكاب جريمة أو المحكوم عليه جنائيًا للدولة التي يحق لها محاكمته وتوقيع العقاب عليه وهو يخالف الطرد أو الأبعاد (Expulsion) وهو تخلص الدولة من أجنبي تجد في وجوده خطرًا على الأمن في إقليمها أو ترى أن بقاءه في أرضها يدعو لعدم الطمأنينة فتبعده إلى خارج الحدود دون أن تسلمه لأي دولة - ولا يهم في حالة الطرد أن تكون هناك دولة أخرى تطلب تسليم هذا الشخص بل قد يحدث أن يكون الشخص المبعد غير متهم بارتكاب جريمة في أي بلد من البلاد وإنما تطرده الدولة لأنها تجد أن مصلحتها تدعو لذلك - فالطرد أو الأبعاد هو عمل إداري لا تنظر فيه الدولة لصالح دولة أخرى أجنبية بل هي تراعي فيه صالحها الخاص.
معاهدات التسليم:
أما تسليم المجرمين فهو عمل له صبغة قضائية ويحصل بالطرق السياسية وينظم عادةً في معاهدات تعقدها الدول فيما بينها - وقد عرف التاريخ معاهدات عديدة من هذا القبيل ويقال إن أقدم معاهدة عقدت في سنة 1300 قبل الميلاد بين رمسيس الثاني فرعون مصر وبين ملك الحيثيين في ذاك الوقت وكان الغرض منها توثيق عرى المودة والتحالف بين الملكين ونص فيها على ضرورة تبادل تسليم المجرمين الذين يهربون من أحد البلدين إلى الآخر - وعقدت في القرون الوسطى معاهدات أخرى خاصة بتسليم المجرمين منها معاهدة في سنة 1174 ميلادية بين إنجلترا وأيقوسيا ومعاهدة في سنة 1303 بين إدوارد الثالث ملك إنجلترا، وفيليب الرابع ملك فرنسا - غير أن هذه المعاهدة هي في الواقع اتفاق خاص بإبعاد أشخاص خطرين معينين في مدة خمسة عشر يومًا من تاريخ طلب ذلك - وقد توالى عقد الاتفاقات الخاصة بالتسليم في العصور الحديثة وخصوصًا في القرن التاسع عشر.
قوانين التسليم:
وعقدت الحكومة المصرية اتفاقًا مؤقتًا مع حكومة فلسطين بشأن تسليم المجرمين بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1922 كما أن هناك اتفاق آخر بين حكومتي مصر والسودان بشأن تسليم المجرمين وتبادل إعلان الأوراق القضائية صدر به قرار مجلس الوزراء بتاريخ 17 مايو سنة 1902، وكذلك صدرت في كثير من البلاد قوانين لتحديد قواعد تسليم المجرمين وكانت بلجيكا أول الدول في سن مثل هذه القوانين في الأزمنة الحديثة إذ أصدرت قانونًا بهذا الشأن في سنة 1833، وتعدل على عدة مرات حتى سنة 1893، وكذلك أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والبرازيل واليابان والمكسيك وهولندا وغيرها قوانين خاصة بتسليم المجرمين ونصت بعد الدول على قواعد التسليم في قوانينها الجنائية من ذلك ألمانيا حيث جاء ذكر هذه القواعد في المادة التاسعة من قانون العقوبات الألماني وفنزويلا حيث نص عليها في القانون الجنائي الذي أصدرته سنة 1903.
القواعد العامة لتسليم المجرمين:
ولكن ليس من الضروري لإمكان تسليم المجرمين أن تكون هناك اتفاقات أو قوانين تنظم ذلك بل يقضي الرأي الراجح بجواز التسليم ولو لم يكن هناك اتفاق أو قانون إذ يرجع أساس تسليم المجرمين إلى التضامن العام الذي يجب أن ترتبط به الدول لمنع الإجرام وفي الواقع تقبل دول كثيرة تسليم مجرمين لدول أخرى دون أن تكون هناك معاهدات تنظم هذا التسليم وقد نص في اتفاقية جنيف التي عقدت في 30 سبتمبر سنة 1921 لمنع الاتجار بالرقيق الأبيض على إلزام الدول المتعاقدة بتسليم المتجرين به حتى ولو لم تكن هناك معاهدات خاصة بذلك ولكن لا يعني هذا أنه عند عدم وجود معاهدات أو قوانين لا تكون هناك قواعد لتنظيم تسليم المجرمين فأحكام القانون الدولي العام قد حددت كثيرًا من هذه القواعد العامة وهي تطبق في أحوال عديدة وكثيرًا ما أشير إليها في المعاهدات والقوانين الخاصة بالتسليم ويمكن تلخيص أهمها فيما يأتي:
عدم تسليم الوطنيين:
أولاً: لا يجوز تسليم الوطنيين الذين يرتكبون جرائم في الخارج - وهذا هو الرأي المتبع في البلاد الغربية ما عدا إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية إذ القانون الجنائي فيهما إقليمي محض أي يطبق على الجرائم التي ترتكب داخل الإقليم ويستند أنصار الرأي القائل بعدم تسليم رعايا الدولة على أن هؤلاء يجدون في دولتهم ضمانة قوية وعدلاً تامًا بعيدًا عن الهوى - وقد يكون في تسليمهم للقضاء الأجنبي تعريضهم لسلطة أجنبية تتحيز ضدهم بسبب جنسيتهم ويقولون أيضًا أن في تنازل الدولة عن شخص من رعاياها ليحاكم في دولة أخرى تنازل عن جزء من سيادتها وليس هناك ما يدعو لذلك إذ المتهم الوطني لن يفلت من العقاب على ما اقترفه في الخارج فهو سيحاكم أمام محاكم دولته أي أمام قضاته الطبيعيين [(1)].
أدلة الرأي القائل بتسليمهم:
ويقول أنصار الرأي العكسي القاضي بوجوب تسليم الوطنيين أنه لا يوجد في ذلك ما يمس سيادة الدولة أو كرامتها بل فيه مساس بالدولة الأجنبية للاعتقاد بأن محاكمها تتحيز ضد الأجانب وإذا كان هذا الاعتقاد صحيحًا فلا يجب إذن تسليم المجرمين كلية سواء أكانوا من الوطنيين أو من غيرهم ما دام يخشى تعريضهم لسلطة متحيزة ثم أن تسليم المجرم للدولة التي ارتكب جريمته في أرضها هو في الواقع تسليم للقضاة الطبيعيين الذين يحق لهم الحكم فيما وقع من الجرم إذ ليس قضاة الدولة التي يتبع المجرم جنسيتها بالقضاة الطبيعيين في هذه الحالة وإنما القضاة الطبيعيين هنا هم قضاة المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة حيث اختل النظام الاجتماعي وحيث يمكن إجراء التحقيق بدقة والحكم على ما وقع حكمًا عادلاً - ويظهر الضرر من رفض تسليم المجرم الوطني ظهورًا جليًا عندما يكون شريكًا لأجنبي في ارتكاب الجريمة فيسلم أحدهما للدولة التي ارتكبت الجريمة في بلادها ويحاكم الوطني أمام محاكم دولته فينتج من ذلك وجود قضيتين مختلفتين عن جريمة واحدة وقد يحدث أن يصدر حكمان متناقضان أو عقوبتان مختلفتان مع أن ذلك ليس في مصلحة العدل.
رأي وسط:
هذه هي أدلة الرأيين في مسألة تسليم الوطنيين ولكن الرأي المتبع للآن في أكثر الدول هو رأي القائلين بعدم التسليم ومحاكمة الوطنيين أمام دولتهم [(2)]، واعتقد أن كلا الرأيين فيه شيء من التطرف وأنه وإن كان يحسن الأخذ بنظرية عدم تسليم الوطنيين بصفة عامة إلا أنه من الأفضل عدم وضع قواعد جامدة لمثل هذه المسألة فيجاب مثلاً طلب تسليم الوطني إذا كان مشتركًا في الجريمة مع آخرين ستجري محاكمتهم في الدولة التي تطلب التسليم، وذلك حتى تتوحد محاكمة المتهمين في ارتكاب جرم واحد وكذلك يسلم الوطني إذا كانت محاكمته في الدولة الطالبة في مصلحته كأن يكون العقاب الذي ينص عليه قانونها أخف من العقاب الذي ينص عليه قانون الدولة المطلوب منها التسليم - وبعبارة أخرى يجاب طلب تسليم الوطني إذا كان في تسليمه مصلحة للعدل أو للمتهم أما إذا لم توجد هذه المصلحة فمن الأفضل محاكمة الوطني أمام محاكم دولته.
التجنس اللاحق:
أما التجنس اللاحق فلا يمنع من التسليم أي أن الأجنبي الذي يرتكب جريمة في الخارج ثم يقيم في إقليم الدولة ويتجنس بجنسيتها يجوز تسليمه لمحاكمته عن الجريمة التي ارتكبها قبل تجنسه وقد نص على هذا المبدأ في كثير من الاتفاقات الخاصة بالتسليم كالاتفاق الذي عقد بين إنجلترا والبرازيل في 18 نوفمبر سنة 1872 والاتفاق الذي عقد بين إنجلترا وفرنسا في 14 أغسطس سنة 1876، وهذا المبدأ وإن كان متفقًا مع القواعد العامة إلا أن الرأي عليه ليس إجماعيًا بل تقرر عنه في بعض القوانين من ذلك القانون البلجيكي الخاص بتسليم المجرمين الذي صدر في سنة 1874 إذ قرر أن التجنس يكون له أثر رجعي، وكذلك جاء أيضًا في المعاهدة التي عقدت في 5 فبراير سنة 1873 بين إيطاليا وبريطانيا والمعاهدة التي عقدت في 28 مارس سنة 1877 بين فرنسا والدانيمارك نص يبيح التسليم في هذه الحالة وإنما يشترط له مدة معينة.
عدم تسليم المجرمين السياسيين:
ثانيًا: لا يجوز تسليم المجرمين السياسيين وذلك مراعاة للإنسانية والشفقة فالدولة التي تطلبهم إنما تريد أن توقع بهم شر عقاب وفضلاً عن ذلك فالجرائم السياسية تتغير بتغير الأحوال والمجرم السياسي قد يصبح رئيسًا للدولة إذا نجح وقد اتفق على هذا المبدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر - أما قبل ذلك فلم يكن هناك مبدأ مسلم به بهذا الشأن بل كان كثيرًا ما يحصل التسليم لأسباب سياسية ولكن دون أن تكون هناك قاعدة لذلك إذ كان الأمر يتبع الميل الموجود في الدولة اللاجئ لها المجرم نحو الدولة الطالبة له فكان يحصل التسليم من باب المجاملة أو بسبب خوف الدولة من جراء رفضه أو بناءً على الضغط عليها من الدولة التي تطلب المجرم [(3)] أو غير ذلك من الأسباب - على أن الرأي القائل بعدم تسليم المجرمين السياسيين لم يعدم إذ ذاك أنصارًا يعترضون على حصوله - فمن ذلك ما وقع من بونابرت سنة 1801 إذ اعترض على ما فعله مجلس شيوخ هامبورج إذ ذاك من تسليم بعض أرلنديين متهمين بالثورة إلى إنجلترا التي طلبت تسليمهم لمحاكمتهم وقد كان اعتراض بونابرت قويًا إذ قال إن هذا العمل يخالف قواعد الضيافة بشكل تخجل منه القبائل الرحالة في الصحراء وهاك بعض ما كتبه بونابرت في ذلك

(….. la vertu et le courage sont le soutien des Etats, la servilité et la bassesse les ruinent, vous avez volé les lois de I’hospitalité d’une manière qui aurait fait rougir les tribus nomades du désert.)

أما الآن فلم يبقَ شك في أن عدم تسليم المجرمين السياسيين أصبح من القواعد المسلم بها في القانون الدولي العام وقد نص عليه في قوانين أكثر البلاد المتمدينة وفي كثير من الاتفاقات الدولية وهو وارد في الدستور المصري في المادة (151) التي تقضي بأن تسليم اللاجئين السياسيين محظور (وهذا مع عدم الإخلال بالاتفاقات الدولية التي يقصد بها المحافظة على النظام الاجتماعي)، وقد ورد أيضًا في الاتفاق المؤقت الذي عقد بين الحكومة المصرية وحكومة فلسطين بشأن تسليم المجرمين بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1922 إذ نص فيه على استثناء الجرائم السياسية من أحكام التسليم.
الجرائم السياسية - الجرائم المختلطة:
وليست هناك صعوبة في تمييز الجريمة السياسية البحتة إذ هي الجريمة التي يكون موضوعها سياسيًا صرفًا كالمؤامرات التي تدبر لتغيير نظام حكومة من الحكومات وإنما هناك صعوبة في تمييز الجرائم المختلطة أي التي تدخل ضمن جرائم القانون العام وإنما تقع لغرض سياسي كالقتل والتعدي على الملكية - ويرى بعض الكتاب أن هذه الجرائم لا تخرج عن كونها جرائم عادية [(4)]، وقد جاء في الاتفاق المؤقت الذي عقد بين الحكومة المصرية وحكومة فلسطين ما يفيد الأخذ بهذا الرأي إذ نص في المادة الثامنة منه أنه لا تعد من الجرائم السياسية الجرائم الآتية:
(جرائم الاعتداء والنهب والسرقة بإكراه والتعدي على شخص جلالة ملك مصر أو شخص المندوب السامي لحكومة بريطانيا في فلسطين).
آراء مختلفة:
وبعبارة أخرى اعتبر الاتفاق المشار إليه أن هذه الجرائم لا تخرج مطلقًا عن الجرائم العادية - ولكن هذا الرأي ليس متفقًا عليه إذا يرى البعض أن تعتبر جرائم القتل والتعدي على الملكية من الجرائم السياسية إذا وقعت لغرض سياسي وورد ذلك فعلاً في بعض المعاهدات كمعاهدة فرنسا مع سويسرا المعقودة سنة 1869، وفي بعض القوانين أيضًا كالقانون الإيطالي - ويرى البعض الآخر أن يفرق بين الجريمة السياسية وبين الجريمة العادية فيسلم المتهم ليحاكم عن الجريمة العادية فقط [(5)]، وهناك فريق آخر يبحث عن العنصر الأكبر في الجريمة فإذا كان هو العنصر السياسي كانت الجريمة سياسية وإذا كان غير ذلك كانت عادية [(6)]، وقد أخذ بهذا الرأي القانون السويسري الصادر في سنة 1862 إذ ورد في المادة العاشرة منه أنه يجوز التسليم حتى ولو ادعى المتهم وجود غرض أو قصد سياسي إذا كانت الجريمة تكون في الغالب جريمة عادية على أن يترك تقدير هذه الصفة للمحكمة المركزية السويسرية وعلى أن يشترط عدم التشديد على المتهم بسبب غرضه السياسي وها هو نص المادة

L’extradition ne sera pas accordée pour les infractions politiques = elle sera accordée, alors même que le coupable alléguerait un motif ou un but politiqe, si I’infraction pour laquelle elle est demandée constitue principalement un délit commun.
Le tribuna fédral appréciera, dans chaque cas particulier, le caractèr de I’ifraction selon les faits de la cause.
Lorsque l’extradition sera accordée, le Conseil fédéral y mettra la condition que Ia personne don’t l’extradition est demandée, ne sera pas traitée d’une facon plus rigoureuse à cause de son motif ou de son but politique.

وقد جاء في القانون البلجيكي الذي صدر في 22 مارس سنة 1856 وفي أكثر معاهدات التسليم نص خاص يقضي باستثناء الاعتداء بالقتل أو بالسم على شخص رئيس حكومة أجنبية أو أعضاء عائلته وعدم اعتبار هذا الاعتداء من الجرائم السياسية [(7)]، وقد انتقد بعض الكتاب هذا النص وقالوا بأن الواجب توسيع الاستثناء حتى يشمل جرائم الاعتداء على كل رجال الحكم في الدولة من أكبر الرؤساء إلى أبسط الجنود (راجع في ذلك كتاب الأستاذ لورنس المطول صفحة 242 من الطبعة السابعة
(Laurence, Principles of International Law p. 242).
أما الجرائم التي تقع أثناء ثورة داخلية أو حرب أهلية فالرأي الراجح بشأنها أنها تعتبر من الجرائم السياسية إذا كانت مما يقع عادةً في الحروب المنظمة وتسمح به قواعد الحرب وعاداتها وقد قرر المعهد الدولي الذي عقد في جنيف سنة 1892 بجواز التسليم في حالة ارتكاب أعمال متوحشة تمنعها قواعد الحرب وإنما يكون ذلك بعد انتهاء الثورة - وقرر هذا المعهد أيضًا أن لا يعتبر ضمن الجرائم السياسية الجرائم التي توجه ضد قواعد النظم الاجتماعية بصفة عامة دون أن تقصد بها دولة خاصة أو شكل حكومة معينة.

Ne sont point réputée délits politiques, au point de vue de l’application des règles qui précèdent, les faits délietueux qui sont dirigée contre les bases de toute organisation sociale et non pas seulement contre tel état déterminé ou contre une telle forme de gouvernment.

وعلى ذلك يمكن تطبيق هذا النص الآن على جرائم الشيوعية والجرائم التي يقصد بها هدم نظام الملكية فلا تعتبر من نوع الجرائم السياسية التي تعفي من التسليم.
ونفس الأسباب التي دعت لتقرير إعفاء المجرمين السياسيين من التسليم دعت أيضًا إلى تقرير إعفاء الفارين من الخدمة العسكرية فهم لا يسلمون للدولة التي فروا من خدمتها إذ لا يعدون من طبقة المجرمين العاديين الذين يجب على الدول أن تتضامن لمجازاتهم والدول ترفض عادةً تسليم هؤلاء الفارين إلا إذا كانت هناك معاهدات تقضي بعكس ذلك كما حصل أثناء الحرب العظمى بين بعض الدول [(8)]، ولكن لا تسري هذه القاعدة على الفارين من البحارة إذ يجاب دائمًا طلب تسليمهم سواء أكان فرارهم من سفينة بحرية أو سفينة تجارية، وذلك حرصًا على الملاحة ومنعًا لتعطيل السفن إذ فرار بحارة سفينة عند رسوها في ميناء دولة أجنبية قد يؤدي إلى الإضرار بالسفينة ويمنعها من متابعة سيرها.
وكذلك تعفى من التسليم الجنود المتهمين بجرائم عسكرية غير الفرار مثل عدم إطاعة الأوامر أو الخيانة أو التجسس أما الجرائم العادية التي يرتكبها الجنود فلا تعفى من التسليم بحجة وقوعها من عسكريين بل ينظر إليها كما ينظر للجرائم السياسية المختلطة التي سبقت الإشارة إليها وقد حصل فعلاً أثناء الحرب العظمى أن طلبت ألمانيا من حكومة هولندا تسليم بعض الفارين من الجيش الألماني الذين ارتكبوا جرائم عادية يجوز فيها التسليم طبقًا لمعاهدة تسليم المجرمين المعقودة بين هولندا وألمانيا فأجابت الحكومة الهولندية بأنها مستعدة لتسليم هؤلاء الجنود بشرط أن تؤكد لها ألمانيا بأن تعطي لهم الفرصة في ترك الأراضي الألمانية بعد انتهاء الإجراءات واستيفاء العقوبة المتعلقة بالجرائم التي طلب التسليم من أجلها - ولقد رفضت ألمانيا قبول هذا الشرط بصفة عامة ولم تعطَ التعهد الذي طلبته هولندا إلا في بعض أحوال استثنائية.
أما الأعمال التي يرتكبها الجنود في حرب من الحروب وتكون مخالفة لقواعد الحرب وعاداتها فالرأي الراجح أنه يجوز تسليم المتهمين بارتكابها لأنها بعيدة عن الجرائم السياسية التي يكون أساسها اختلاف في الرأي أو المذهب السياسي لأن الأعمال المخالفة لقواعد الحرب كالنهب والتخريب والسرقة هي كالجرائم العادية وليس هناك ما يبرر ارتكابها [(9)].
ثالثًا: من القواعد المتفق عليه بين جمهور العلماء أنه لا يجوز التسليم إلا إذا كان العمل المطلوب التسليم من أجله معاقبًا عليه في الدولة الطالبة وفي الدولة المطلوب منها التسليم وإذا كان التسليم مطلوبًا لتنفيذ حكم صادر على المتهم فيشترط أيضًا أن لا يكون الحكم نفذ بتمامه ويستثني بعض الكتاب الحالة التي يكون فيها العمل غير ممكن الوقوع في الدولة المطلوب منها التسليم بسبب أنظمتها الخاصة أو موقعها الجغرافي كأن يكون التسليم مطلوبًا عن تعدٍ وقع على السكك الحديدية ولم يكن هناك نص يعتبر مثل هذا العمل معاقبًا عليه في البلد المطلوب منها التسليم بسبب عدم وجود سكة حديدية فيها.
وهذه القاعدة من القواعد التي وضعها المعهد الدولي في اجتماعه باكسفورد سنة 1880 إذ قرر النص الآتي:

En règle, on doit exiger que les faits auxquels s’applique l’extradition soient punis par la législation des deux pays excepté dans le cas, où à cause des institutions particulières ou de la situation géographique du pays de refugé, Ies eirconstances de fait constituant le délit ne peuvent se produire.

ومتى سلم شخص فلا تجوز معاقبته عن عمل آخر خلاف العمل الذي اتهم بارتكابه والذي بني عليه طلب التسليم - فإذا سلم شخص لارتكابه جريمة سرقة مثلاً فلا تجوز محاكمته عن جريمة أخرى وقعت قبل التسليم كنصب أو قتل الأبناء على طلب تسليم آخر يقدم للدولة التي لجأ إليها - وتسمى هذه القاعدة بقاعدة التخصص [(10)] (Principe de la spécialite)
وقد توسع بعض الكتاب في ذلك فقالوا بضرورة تقديم طلب تسليم آخر حتى ولو قبل المتهم أن يحاكم على الجريمة الثانية وذلك خوفًا من أن يكون هذا القبول قد حصل بطريق الإكراه.
رابعًا: من المسلم به أيضًا في موضوع تسليم المجرمين أن للدولة التي يطلب منها التسليم الحق في فحص الموضوع ويحصل هذا الفحص في بعض البلاد بمعرفة السلطة التنفيذية كما في ألمانيا وفي البعض الآخر يحصل بمعرفة السلطة القضائية كما في فرنسا وإنجلترا، ويشترط بعض الدول تقديم مستندات تبرر إحالة المتهم على المحاكم الجنائية وتشدد كل من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية فتطلب تقديم الأدلة التي تثبت الجريمة المطلوب التسليم من أجلها - وهناك دول أخرى تكتفي بالاطلاع على أمر القبض على المتهم أو ما يماثله فتقرر التسليم دون حاجة لمستندات أخرى وهذه الطريقة مقررة في بعض المعاهدات كالمعاهدات التي عقدت بين فرنسا وبلجيكا في 15 أغسطس سنة 1874.
وقد نص الاتفاق المؤقت الذي عقد بين الحكومة المصرية وحكومة فلسطين في سنة 1922 في المادة الخامسة منه على ضرورة إرفاق طلب التسليم بجميع ما يتيسر من البيانات التي تكون من شأنها إثبات شخصية من يطلب تسليمه وتعيين محل وجوده وبالمستندات التي تثبت الجريمة كأصل أمر القبض أو صورة مصدق عليها منه، وكذلك صورة من شهادات الشهود التي أديت أمام القاضي أو أي شخص آخر مكلف بالتحقيق ومن أي دليل آخر بني عليه الاتهام وإذا كان هناك حكم صادر في غيبة المتهم في جنحة أو جناية وجب أن يصحب الطلب بصورة مصدق عليها من الحكم أو من أمر التنفيذ الصادر بناءً على هذا الحكم - وكذلك عندما يكون الطلب مبنيًا على حكم صادر في مواجهة المتهم يرفق الطلب بصورة مصدق عليها من الحكم أو من أمر التنفيذ الصادر بناءً عليه وشهادة من وزارة الحقانية أو أي سلطة أخرى مماثلة لها في القطر الصادر منه الطلب دالة على أن الحكم أصبح واجب التنفيذ - وقضت المادة السادسة من هذا الاتفاق على أن لكل من الحكومتين المتعاقدتين السلطة التامة في البت فيما إذا كان هناك وجه لقبول الطلب الصادر من الحكومة الأخرى بتسليم مجرم هارب بناءً على أحكام هذا الاتفاق ويتولى الحكم بذلك السلطة القضائية أو أية سلطة أخرى يكون ذلك من اختصاصها بناءً على القوانين السارية في القطر صاحب الشأن ونصت المادة السابعة على أن ترخص السلطة المختصة بتسليم المجرم الهارب إلا متى ثبت لديها.
( أ ) عندما يكون الطلب مبنيًا على أمر بالقبض أن الأدلة المقدمة كافية لمحاكمة المتهم.
(ب) عندما يكون التسليم مبنيًا على حكم أن الأدلة كافية لتبرير الحكم الصادر.
(ج) أن لا تكون الجريمة المنسوبة للمتهم أو التي حكم عليه من أجلها في جميع الأحوال من الجرائم السياسية وأن لا تكون الغاية من طلب التسليم هي محاكمة المجرم الهارب أو توقيع العقوبة عليه من أجل جريمة سياسية.
وقد قضى قرار مجلس الوزراء الصادر في 17 مايو سنة 1902 بشأن الوفاق بين حكومتي مصر والسودان بشأن تسليم المجرمين وتبادل إعلان الأوراق القضائية أن يرفق طلب التسليم المقدم من إحدى الحكومتين للأخرى بالمستندات القوية التي تثبت الجريمة أو تبرر الحكم على المتهم (المواد (11) و(12) و(13) و(14) و(15) إلخ…).
هذه هي خلاصة القواعد المهمة في موضوع تسليم المجرمين وهو موضوع يهم المشتغلين بالمسائل الجنائية أو الدولية إذ قد يحدث أن يتعدى أحد رجال الدولة سلطته فيقتص أثر مجرم هارب خارج حدود دولته أو يقبض عليه في إقليم الدولة الأجنبية دون أن يتبع في ذلك إجراءات طلب التسليم وقد يؤدي عمله هذا إلى وقوع مشاكل بين دولته وبين الدولة الأجنبية - كما أن القبض الذي يجريه في هذه الحالة يقع باطلاً ويجب رد المتهم إلى الدولة التي كان لاجئًا إليها - وكذلك قد يحدث من باب الخطأ أو عدم العلم بالقواعد المتبعة أن يسلم أحد رجال الدولة متهمًا هاربًا من دولة أجنبية إلى رجال هذه الدولة الأخيرة دون أن تتبع في ذلك إجراءات التسليم - والرأي الراجح في مثل هذه الحالة أنه إذا كان هذا العمل قد وقع بحسن نية فليس هناك ما يدعو لطلب إعادة المتهم الذي سلم خطأ - وقد وقعت حادثة من هذا القبيل في سنة 1910 حيث رست في ميناء مارسيليا الفرنسية سفينة إنجليزية تسمى موريا More، وكانت تحمل رجلاً هنديًا مقبوضًا عليه ومأخوذًا إلى الهند ليحاكم على جريمة قتل ارتكبها أثناء حركة ثورية ولكنه تمكن من الفرار من السفينة ولجأ إلى داخل الميناء فطلب ربان السفينة إعادته وفعلاً قبض عليه رجال البوليس الفرنسي وأعادوه بدون اتباع إجراءات التسليم اعتمادًا منهم على وجود تعليمات صادرة لهم بعدم تمكين هذا المتهم من الهرب إلا أن الحكومة الفرنسية تنبهت للأمر بعد إقلاع السفن وطلبت إعادة المتهم للأراضي الفرنسية بحجة أن تسليمه كان غير قانوني فعارضت إنجلترا في ذلك وعرض المسألة على محكمة التحكيم في الهاي ولكن هذه المحكمة قضت في 24 فبراير سنة 1911 بجواز بقاء هذا المتهم تحت يد السلطة الإنجليزية ما دام لم يقع منها غش ولم يقع منها اعتداء على حقوق السيادة الفرنسية.
وكانت مثل هذه المشكلة لا تقع لو تنبه رجال البوليس الفرنسي للقواعد الخاصة بتسليم المجرمين - ومسائل تسليم المجرمين من المسائل التي تعرض كثيرًا في القطر المصري وقد حدث مرارًا أن طلبت الحكومة المصرية تسليم بعض المجرمين الذين تمكنوا من الهرب إلى بلاد أجنبية كما حدث أيضًا أن طلبت بعض الدول الأجنبية تسليم أشخاص لجأوا للقطر المصري.
ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن وزارة الداخلية لاحظت أن بعض السلطات المحلية تسلم مجرمين من تلقاء نفسها بناءً على طلب حكومة أجنبية دون أن تتبع القواعد الخاصة بذلك فوضت في أوائل سنة 1927 منشورًا لمنع ذلك نذكر منه ما يأتي:
(ولما كانت الحكومة المصرية تقوم عادةً بتسليم المجرمين الأجانب إلى الدول التابعة لها على قاعدة التبادل إذا كان ما ارتكبوه من الجرائم يقع تحت طائلة القانون العام على شرط أن يصل أولاً إلى وزارة الخارجية من الحكومة الراغبة في تسليم المجرمين طلب رسمي بالطريق السياسي المتبع مصحوبًا بكافة الأوراق التي تثبت أنهم من رعاياها وأن جريمتهم تقع تحت طائلة القانون العام.
فنرجو التنبيه بالعمل على موجبه وعدم تسليم المجرمين الأجانب إلا بعد الحصول على موافقة وزارة الخارجية.

حدود السيادة داخل الإقليم

تبين لنا مما سبق أن سيادة الدولة تنتهي عند تخومها فرجل البوليس أو المحقق القضائي أو القائد العسكري لا يستطيع اللحاق بمجرم تعدى حدود دولته ولا القبض على جندي فرّ إلى ما ورائها…
ولكن هل هذه السيادة مطلقة غير محدودة داخل هذا الإقليم وبعبارة أخرى هل هي سارية على جميع سكان إقليم الدولة بدون استثناء ؟ الجواب على ذلك أن سيادة الدولة ليست مطلقة كل الإطلاق داخل إقليمها بل هناك قيود تقلل من هذه السيادة في أمور معينة، ولكن هذه القيود لا تخرج عن كونها استثناءات من حق السيادة الإقليمية إذ الأصل أن تكون سيادة الدولة كاملة في بلادها وسارية على كل السكان فإذا وجد استثناء خارج عنها فلا يكون من شأنه إعطاء حق من حقوق السيادة لدولة أجنبية إذ لا توجد أكثر من سيادة واحدة على الإقليم الواحد.
استثناءات من السيادة الإقليمية - الممثلون السياسيون:
ويمكن أن نذكر أهم هذه الاستثناءات فيما يلي:
1 - استثناء السفراء والممثلين السياسيين ومن هم في حكمهم من السيادة الإقليمية فهم يتمتعون بامتيازات خاصة تخرجهم من سلطة الدولة التي يقيمون فيها.
القوى الحربية الأجنبية:
2 - استثناء القوى الحربية لدولة أجنبية كالسفن الحربية الأجنبية الراسية في مياه الدولة الإقليمية إذ هي خارجة عن سلطتها وكذلك الجيوش الأجنبية التي توجد أثناء السلم في إقليم الدولة برضائها أو نتيجة لاتفاق خاص.
الأجانب المتمتعون بالامتيازات:
3 - رعايا بعض الدول الأجنبية في البلاد التي يتمتع فيها الأجانب بالامتيازات وسنتكلم على كل من هذه الاستثناءات فيما يلي:

1 - امتيازات الممثلين السياسيين

مهمة الممثل السياسي:
يتمتع الممثلون السياسيون بحقوق وامتيازات خاصة وضعت - لحمايتهم ولتمكنيهم من القيام بمهمتهم، وهذه الامتيازات قديمة يرجع بعضها إلى أقدم العصور إذ يذكر التاريخ أنه في العصور القديمة والعصور الوسطى كانت الدول تتبادل الممثلين وكانت تكرم وفادتهم في البلاد التي يبعثون إليها [(11)].
من يتمتع بالامتيازات السياسية - الممثلون السياسيون ومن يتصل بهم:
وهذه الامتيازات تجعل الممثل السياسي غير خاضع لسلطان الدولة التي توفد إليها إذ هو يمثل دولة أجنبية مستقلة ويجب أن يكون بمأمن من سلطة الدولة التي يقيم فيها حتى يتمكن من القيام بمهمته على الوجه الأكمل لا سيما وأن مهمته كبيرة دقيقة فهو يوثق العلاقات بين دولته والدولة المقيم لديها ويقوم بالمفاوضات اللازمة بينهما ويراقب سير الأحوال في الدولة التي يقيم فيها ويخطر دولته بما يهم منها ثم هو يحمي رعايا دولته ويشرف على أمورهم وبعبارة أخرى يمكن تلخيص مهمة الممثل السياسي في ثلاث كلمات وهي المفاوضة والمراقبة والحماية ولا يمكنه القيام بكل ذلك إذا كان مهددًا بأعمال السلطة التي يمكن أن تتخذها الدولة بناءً على سيادتها الإقليمية، لذلك كانت هذه الامتيازات متعلقة بالقائمين بأعمال التمثيل السياسي والأشخاص المتصلين بهم فهي تحمي رئيس الهيئة التمثيلية وزوجته وأفراد عائلتيه الذين يقيمون في دار السفارة دون أن يكون لهم عملاً آخر، وتحمي أيضًا رجال الحاشية الرسمية للمثل السياسي كمستشاري السفارة وسكرتيريها وقد جرى العرف من باب المجاملة على مد نطاق هذه الامتيازات إلى الحاشية الغير رسمية كالخدم والتابعين الخصوصيين، وذلك بشرط أن لا يكون من رعايا الدولة صاحبة الإقليم - إلا أنه يجوز للمثل السياسي أن يتنازل عن الحماية التي يتمتع بها أفراد حاشيته الغير رسمية ويتركه للقضاء المحلي إذا ارتكب جريمة تستدعي العقاب - أما امتيازات الممثل السياسي ذاته فلا يكفي في رأي كثير من الشراح أن يتنازل هو عنها إلا إذا كان قد فعل ذلك بأمر حكومته أو قبلت حكومته هذا التنازل ويسري هاذ الشرط على أفراد عائلة الممثل الذين يتمتعون معه بالامتيازات وقد حدث في سنة 1906 أن اتهم ابن القائم بأعمال سفارة شيلي في بروكسل المدعو كارلوس وادنجتون بارتكاب جريمة قتل ورضي المتهم ووالده باختصاص القضاء المحلي فلم تكتفِ حكومة بروكسل وانتظرت ورود قبول من حكومة شيلي، وقد قبلت فعلاً هذه الحكومة إجراء المحاكمة في بلجيكا فقدم المتهم لمحكمة جنايات بريان البلجيكية وقضت هذه المحكمة ببراءته، ولتعلق هذه الامتيازات أصلاً بالممثلين السياسيين أطلق عليها تعبير الامتيازات السياسية.
رؤساء الدول:
إلا أنها ليست قاصرة على الممثلين السياسيين وحدهم بل يتمتع بها أيضًا رؤساء الدول كالملوك ورؤساء الجمهوريات الذين يمرون بأرض دولة غير دولتهم أثناء توليهم الحكم لأن الملك أو رئيس الجمهورية هو الممثل الأعلى لدولته بل هو رمزها ويجب أن يتمتع بهذه الامتيازات احترامًا لسيادة دولته ولا تقتصر الحماية على شخصه بل تمتد إلى أفراد عائلته الذين يصحبونه وكذلك رجال حاشيته إذ لا يخضعون جميعًا لسلطة الدولة التي يمرون بأرضها - وإنما تسقط هذه الامتيازات عن رئيس الدولة إذا وجد في إقليم دولة أخرى ممنوع من الإقامة فيها أو أقام في إقليم دولة مشتبكة في حرب مع دولته ويرى فريق من الكتاب إن الامتيازات تسقط عنه إذا كان مسافرًا بحالة تنكر ineognito على أنه يستطيع في الواقع أن يظهر شخصيته ليحتمي بالامتيازات [(12)]، ويتمتع بالامتيازات السياسية أيضًا طبقات أخرى من الأشخاص الذين يقومون بأعمال تعتبر في حكم تمثيل الدول فيتمتع بها أعضاء لجنة التعويضات التي أنشئت طبقًا لمعاهدة فرساي (المادة (333) وما يليها) لتحديد الأضرار التي يجب دفع تعويض عنها من الدول المهزومة وأعضاء بعض لجان الدول الأخرى كلجنة نهر الدانوب التي تشرف على الملاحة فيه ويتمتع بها ممثلو الدول لدى عصبة الأمم وممثلو العصبة ذاتها وأعضاء محكمة العدل الدولية التي أنشئت طبقًا لعهد عصبة الأمم وأعضاء محكمة التحكيم التي أنشئت طبقًا لقرارات مؤتمر السلام الدولي الذي عقد في الهاي سنة 1907، ويتمتع بها أيضًا ممثلو البابا إذ يعتبر أن للبابا شخصية دولية تشبه شخصية الدول المستقلة وإنما من نوع شاذ إذ ليس له إقليم أو رعية.
مدى سريان الامتيازات:
ويبدأ سريان الامتيازات بالنسبة للممثل السياسي من الوجهة القانونية من وقت تقديم أوراق اعتماده وتنتهي بانتهاء وظيفته إذ هذه هي الفترة التي يقوم فيها الممثل السياسي بالمهمة التي وضعت الامتيازات من أجلها، ولكن قضت المجاملات بمد أثر الامتيازات وجعلها سارية من يوم وصول الممثل السياسي لمحل وظيفته إلى اليوم الذي يغادره فيه، وإنما يستثني كثير من الكتاب الممثلون الذين يكونون من جنسية الدولة التي يوجد بها مقر التمثيل السياسي فالوطني الذي تكلفه دولة أخرى بتمثيلها في بلاده لا يعتبر بذلك خارجًا عن اختصاص السيادة الإقليمية لدولته وقد نصت بعض الدول على ذلك في قوانينها فقضى بذلك مثلاً القانون الألماني الخاص بالترتيب القضائي (المادة الثامنة عشرة)، ويستند أصحاب هذا الرأي على أن الوظيفة لا تكفي وحدها لإخراج الشخص من سيادة الدولة التي يدين لها بالرعوية وإذا قيل بإخراجه منها فهناك صعوبات أخرى تحول دون إدخاله تحت سيادة الدولة التي يمثلها، وبذلك لا يكون خاضعًا لسيادة أي دولة وفضلاً عن ذلك فيقولون إن الدولة التي تعين سفيرًا لها من رعايا الدولة التي توجد بها دار السفارة تقبل بذلك إخراجه من دائرة الامتيازات السياسية ومع أن هذا الرأي هو الرأي الراجح إلا أنه غير متفق عليه إذ يقول آخرون بأن الممثل السياسي يخرج عن سلطة السيادة الإقليمية للدولة ولو كان من رعاياها ويستند أصحاب هذا الرأي على أن الامتيازات السياسية متعلقة بالوظيفة وعلى أن الدولة التي تقبل بدون تحفظ أن يكون أحد رعاياها سفيرًا لدولة أجنبية إنما تتنازل بذلك ضمنًا عن حقوق سيادتها عليه متى كانت تتناقض مع الامتيازات السياسية [(13)].
ولا تسري الامتيازات السياسية إلا في الدولة التي يباشر فيها الممثل السياسي وظيفته، فلا يتمتع بها في إقليم دولة أخرى ولو كان مارًا به في طريقه إلى مقر عمله وذلك لأن هذه الامتيازات إنما تقررت على سبيل الاستثناء فلا يجب التوسع فيها كما يجب أن لا تتعدى الحكمة التي وضعت من أجلها وهي تمكين الممثل السياسي من القيام بمهام وظيفته بعيدًا عن أي مؤثر في الدولة التي يعمل فيها وبما أن وظيفته قاصرة على الدولة التي يعتمد فيها فيجب أن تكون الامتيازات التي يتمتع بها قاصرة على إقليم هذه الدولة على أن بعض الكتاب يقولون بعكس ذلك ويقولون إن القبض على ممثل سياسي أثناء وجوده في إقليم دولة غير الدولة المعتمد لديها أو حرمانه من الامتيازات السياسية يمس بسيادة الدولة التي يمثلها وأن الدولة التي تقبل مروره في إقليمها تعترف ضمنًا بصفته وبذلك يجب عليها احترامه ولكن في هذا الرأي مغالاة في صفة التمثيل السياسي إذ هذه الصفة لا توجد في الحقيقة إلا في الإقليم الذي يعتمد فيه الممثل والذي أوفد له خصيصًا أما في غير هذا الإقليم فهو لا يخرج عن كونه شخصًا عاديًا وشأن التمثيل السياسي في شأن الوظائف الأخرى التي لا ينتج أثرها إلا في الدائرة المعينة لها - وهناك من الكتاب من يقول بأن الممثل السياسي تكون له حرمة في الأقاليم الأخرى التي يمر بها وإنما لا يعفي من قضائها المحلي إذا أتى عملاً يختص هذا القضاء بنظره [(14)] كما إذا ارتبط بدين في تلك الأقاليم أو ارتكب فيها جريمة - على أنه لا يوجد في الواقع ما يدعو للتفرقة بين حرمة الممثل السياسي وبين إعفائه من القضاء المحلي إذ كلاهما من الامتيازات السياسية فإذا قيل بأن الممثل يحتفظ بصفته السياسية حتى في البلاد التي لم يعتمد فيها فلا بد من منحه كل الامتيازات السياسية دون تمييز أما القول بأنه يتمتع بالحرية التي للسفراء ولكن يخضع للقضاء المحلي ففيه تناقض وكان أولى بالكتاب الذين يأخذون بهذا القول أن ينضموا للقائلين بحرمان الممثل من الامتيازات عند وجوده في بلاد ليس معتمدًا فيها.
بيان الامتيازات السياسية:
والآن وقد عرفنا الأشخاص الذين يتمتعون بالامتيازات السياسة ومعناها ننتقل إلى بيان هذه الامتيازات خصوصًا ما كان منها متعلقًا بسلطة الدولة في المسائل الجنائية - فهذه الامتيازات يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 - الحرمة الشخصية وحرمة المسكن.
2 - الإعفاء من القضاء المحلي.
3 - الإعفاء من الضرائب.
أولاً: الحرمة:
يتمتع الممثل بحرمة لشخصه ولمسكنه فالحرمة الشخصية تجعل ذات الممثل السياسي مصانة كما تجعل الحكومة المعتمد لديها مكلفة بحمايته من كل اعتداء وإذا وقع عليه أي تعدٍ وجب عليها أن تتخذ الإجراءات اللازمة للقبض على المعتدي وتقديمه للمحاكمة - وقد وضع في كثير من القوانين نصوص خاصة تقضي بعقاب من يعتدي على الممثلين السياسيين أو يقذف في حقهم ومن ذلك قانون العقوبات الأهلي إذ نص في المادة (161) على عقاب من يعتدي بسبب وكلاء الدول السياسيين والقناصل والافتراء عليهم بسبب يتعلق بوظائفهم، وذلك بإحدى طرق العلنية المنصوص عنها في باب الجنح والجنايات التي تقع بواسطة الصحف وإنما يشترط لحماية الممثل السياسي أن لا يتسبب بخطئه أو بعمله في حصول الاعتداء عليه كأن يشترك في نزاع أو ثورة أو يعتدي على أشخاص فيضطرهم إلى مقابلة عمله بمثله، وكذلك يشترط أن تكون العلاقات السياسية قائمة ومنتظمة بين دولته وبين الدولة التي يقيم فيها أو تكون هذه الدولة معترفة قانونًا بدولته وبصفته السياسية فإذا لم يكن هناك علاقات سياسية فلا توجد تلك الحرمة الخاصة وقد أثيرت هذه المسألة في بعض الدول الأوروبية فحدث في سنة 1921 إن اعتدى إيطالي بالقذف والتهديد على أحد أعضاء بعثة روسية اقتصادية في إيطاليا وبالرغم من أن حكومة إيطاليا كانت قد عقدت اتفاقًا مع حكومة السوفيت الروسية تقرر بمقتضاه تمتع أعضاء هذه البعثة بالامتيازات السياسية فإن محكمة الجنح في روما قضت بتاريخ 20 مايو سنة 1921 بأن هذه الجريمة تعتبر أنها ارتكبت ضد شخص عادي وليس ضد ممثل سياسي لأن إيطاليا لم تعترف بعد قانونًا بجمهورية السوفيت ولم تنشأ بينهما علاقات سياسية [(15)]، وكذلك وقع في سنة 1923 أن قتل المندوب الذي أرسلته حكومة السوفيت أثناء انعقاد مؤتمر لوزان فاحتجت الحكومة السوفيتية على ذلك باعتبار أن الحكومة السويسرية قصرت في واجبها نحو حماية الممثل الروسي، ولكن حكومة سويسرا أجابت بأنها لم تقصر مطلقًا إذ لم تكن تعلم بوجود ممثل رسمي للسوفيت حتى تتكفل بحمايته.
المسكن - إيواء المجرمين:
ولمسكن الممثل السياسي حرمة أيضًا فلا يجوز لرجال السلطة في الدولة أن يدخلوه بدون تصريح منه ولا أن يجروا فيه أي عمل رسمي كتحقيق أو تفتيش أو إعلان وقد كانت هذه الحرمة مقررة قديمًا لكل الحي الذي توجد فيه دار السفارة وفعلاً يوجد مثل هذا النص في بروتوكول بكين الصادر في سنة 1901 بالنسبة لحي السفارات في تلك المدينة - ولكن لا يحق للممثل السياسي بناءً على هذه الحرمة أن يحمي المجرمين أو يسمح بإيوائهم في دار السفارة فالمجرمون الذين يحتمون بهذه الدار يجب تسليمهم للسلطات المحلية التي تطلبهم سواء أكانوا من المجرمين السياسيين أو من المجرمين العاديين - ولا يعد هذا من نوع التسليم الذي ذكرناه آنفًا لأن دار السفارة لا تخرج عن كونها جزءًا من إقليم الدولة التي توجد بها [(16)] - ولذلك إذا أصر السفير على عدم تسليم مجرم احتمى بدار سفارته لرجال الدولة صاحبة السيادة الإقليمية كان لوزير خارجية هذه الدولة أن يطلب من حكومة السفير إصدار أمرها بتسليم المجرم فإذا امتنعت هي الأخرى كان لرجال السلطة المحلية أن يدخلوا عنوة في دار السفارة ويقبضوا على المجرم وللسلطة المحلية أن تحيط برجالها دار السفارة في أثناء هذه المفاوضات حتى تأمن هروب المجرم وقد حصل ذلك في الحادثة التي أشير إليها آنفًا وهي حادثة القتل التي ارتكبها نجل القائم بأعمال سفارة شيلي في بروكسل إذ حاصر رجال الدولة البلجيكية دار السفارة حتى انتهت المفاوضات بقبول حكومة شيلي بأن تتنازل عن الامتيازات بالنسبة للمتهم وتسليمه للسلطة المحلية - وفي الواقع لا يوجد من الوجهة القانونية ما يبرر إيواء مجرم بدار سفارة إذ لا يجوز للسفير أو الممثل السياسي أن ينتزع شخصًا من يد العدالة مستندًا في ذلك على حرمة مسكنه لأن هذه الحرمة استثنائية ولا توجد إلا بالقدر اللازم لتمكين الممثل السياسي من أداء وظيفته ولا يدخل في هذه الوظيفة مساعدة مجرم على الإفلات من العقاب الذي يجب على الدولة المختصة أن توقعه عليه جزاء ما قدمت يداه لا سيما وأن ذلك من الأمور الداخلية التي يجب أن لا يتداخل السفير الأجنبي فيها حتى لا يشجع المجرمين أو يساعد على انتشار الفوضى - على أنه أصبح من المسلم به الآن من الدول الأوروبية أن ليس للممثلين السياسيين حق إيواء المجرمين في دور السفارات، وذلك بدون تمييز بين المجرمين العاديين والمجرمين السياسيين [(17)]، ولكن هذا الحق لا يزال موجودًا للسفراء في أمريكا الجنوبية بالنسبة للمجرمين السياسيين، وذلك بسبب القلاقل والثورات المتعددة بل قد نظم هذا الحق في المعاهدة التي عقدت بشأن القانون الجنائي الدولي في مونتفيديو بتاريخ 23 يناير سنة 1889 بين الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وشيلي وبراجواي وبيرو وأراجواي وقد نص في المادة السابعة عشرة منها على احترام إيواء اللاجئين السياسيين في دور السفارات إنما يجب على رئيس السفارة أن يخطر الحكومة المعتمد لديها بكل حالة ولهذه الحكومة أن تطلب إخراج اللاجئ من الإقليم الوطني في أقرب وقت مع إعطائه كل الضمانات للمحافظة على حرمة شخصه، أما المجرم العادي الذي يلجأ لدار سفارة فقد قضت هذه المادة أيضًا بوجوب تسليمه للسلطات المحلية في الدولة الإقليمية إما فورًا أو بناءً على طلب وزير الخارجية فيها ولا تقضي حرمة المسكن بإعطاء السفير الحق في حبس أفراد داخل دار سفارته دون أن يكون للسلطة المحلية أن تتداخل لمنع ذلك لأن دار السفارة ليست جزءًا من إقليم الدولة التي يمثلها السفير كما سبق القول وقد حدث في سنة 1896 أن صينيًا يدعى سون بتن اتهم بالاشتراك في مؤامرة ضد ولي عهد كانتون وهرب إلى لوندرة فحدث أنه كان مارًا أمام السفارة الصينية في العاصمة الإنجليزية فقبض عليه بعض خدمها وأدخلوه فيها بالقوة وحبس هناك فتداخلت الحكومة البريطانية في الأمر وأخذت تراقب دار السفارة برجال من البوليس الإنجليزي وطلبت إطلاق سراح الصيني وانتهى الأمر فعلاً بإطلاق سراحه وكان تداخل الحكومة الإنجليزية في هذه الحالة تقصد به وضع حد للجريمة التي ارتكبها رجال السفارة بحبسهم ذلك الصيني بدون وجه حق على أرض الدولة الإنجليزية ولكن السلطة القضائية لم تتدخل في هذا الموضوع [(18)].
وليس للسفير أو الممثل السياسي اختصاص قضائي juridiction contentieuse على رجال سفارته فلا يمكنه أن يفصل في قضاياهم أو يحاكمهم أو يقضي عليهم بعقوبات مدنية ولكن نجد في بعض العصور السابقة أمثلة غريبة تدل على أن السفير كان يستعمل أحيانًا بعض حقوق السلطة القضائية والتنفيذية على موظفي سفارته فقد روي أن سفيرًا إسبانيًا في فينسيا شنق أحد خدمه على شباك دار السفارة - ولكن اتفق أكثر الشراح وجرى العمل على أن يكون للسفير إجراء بعض أعمال السلطة الولائية guridiction gracieuse كقبول الوصايا وكتحرير شهادات ميلاد أو وفاة والتصديق على العقود وغير ذلك.
ولا يفوتنا أن نقول إن لمراسلات الممثل السياسي مع دولته حرمة فهو حر في إرسال ما يشاء لدولته دون أن تمس مراسلاته أو تفضي سريتها، وكذلك لا تنتهك حرمة محفوظات السفارة ومسجلاتها بل يجب احترامها حتى في حالة قيام حرب بين الدولتين.
ثانيًا: الإعفاء من القضاء المحلي - القضاء المدني:
تقضي الامتيازات التي يتمتع بها الممثلون السياسيون بإعفائهم من القضاء المحلي ما دام معترفًا بدولتهم قانونًا [(19)] فلا يخضعون للقضاء المدني في البلاد التي يؤدون فيها وظائفهم فمثلاً إذا استدانوا فيها لا يمكن لدائنيهم أن يقاضوهم أمام المحاكم المحلية ولكن لا يفيد ذلك أن يفقد الدائن حقه بل له أن يقاضي الممثل السياسي في محاكم دولته إذ يعتبر أن محله القانوني Domécile legal لا يزال هناك كما أن له أن يلجأ لوزير الخارجية ليتخذ ما يراه من الوسائل السياسية حتى يدفع الممثل ديونه.
القضاء الجنائي:
وكذلك يعفى الممثل السياسي من القضاء الجنائي فلا يمكن اتخاذ إجراءات جنائية ضده أثناء قيامه بوظيفته ولو كانت خاصة بأعمال ارتكبها قبل تعيينه فيها وكذلك لا يمكن اتخاذ هذه الإجراءات بعد انتهاء وظيفته إذا كانت متعلقة بأعمال ارتكبت إبان تأديته لهذه الوظيفة ولكن لا يعني هذا الإعفاء أنه يفلت من العقاب إذ يمكن للحكومة المحلية التي ارتكب الممثل جريمته في أرضها أن تطلب من حكومته محاكمته لدى سلطتها المختصة وتوقيع الجزاء عليه ولا ترفض الدولة إجراء ذلك وإلا اعتبرت شريكة للممثل المجرم على أن للدولة أن تتخذ الإجراءات الشديدة لمنع الممثل السياسي المقيم على أرضها من الاستمرار في ارتكاب جرائم تخل بنظامها أو تمس الأمن فيها خصوصًا ما كان من نوع خطير كالمؤامرات وتدبير الفتن إذ يجوز لها في هذه الحالة أن تحاصر دار السفارة برجال البوليس وأن تراقبها مراقبة دقيقة كما يمكنها أن ترسل الممثل بحراس حوله إلى الحدود وتطلب من دولته معاقبته - وقلما يحدث أن يرتكب الممثلون السياسيون جرائم تدعو لمثل هذه الإجراءات ولكن حصل أثناء الحرب العظمى أن وقع من بعض الممثلين السياسيين في البلاد المحلية أعمالاً مخالفة للقانون فحدث في سنة 1915 أن البرنس دي روس سفير ألمانيا في طهران أخذ يجمع في إيران عصابات مسلحة لمحاربة الروسيين ودبر سفير النمسا في واشنطن قبل دخول أمريكا في الحرب بعض اعتصابات أراد بها منع صنع الأسلحة في المصانع الأمريكية وقام سفراء ألمانيا والنمسا وبلغاريا لدى الحكومة اليونانية ببعض أعمال التجسس ولكن انتهى الأمر في كل هذه الحالات بإخراج السفراء الذين ارتكبوا هذه الأفعال.
ولكن لا تتخذ هذه الإجراءات الشديدة إذا كانت الجريمة التي ارتكبها الممثل السياسي قليلة الأهمية إذ يكفي في هذه الحالة أن تنبهه الحكومة المحلية بصفة سرية أو تخابر حكومته بصفة خاصة ومن القواعد المسلم بها أنه يجب على الممثل السياسي أن يحترم تشريع البلد الذي يقيم فيه وأن يتبع أحكام لوائح البوليس والصحة وغيرها من الأنظمة الإدارية التي تضعها السلطة المحلية وإنما لا يمكن استعمال طرق إكراه ضده إلا إذا دعت إلى ذلك الضرورة كضبط ممثل سياسي أثناء تلبسه بجريمة معاقب عليها، وذلك لحمايته وحماية الجمهور إنما يجب الاقتصار في هذه الحالة على الضبط فلا تتخذ أية إجراءات جنائية بعد ذلك ضد الممثل كالتحقيق أو المحاكمة.
تأدية الشهادة:
وكذلك تقضي امتياز الإعفاء من القضاء المحلي بعدم إعلان الممثل السياسي لأداء الشهادة أمام السلطة المحلية ولا يمكن أن يكره على أداء شهادته ولكن يمكن أن يطلب منه إرسال شهادته كتابةً، ولا يجوز أن يطلب للحضور أمام المحقق في مكتبه بل على المحقق أن يذهب بنفسه لدار السفارة لأخذ المعلومات التي يريدها إذا وافق الممثل السياسي على ذلك [(20)].
وفي الواقع لا يحجم الممثلون السياسيون عن إنارة رجال التحقيق والسماح لهم بدخول دور السفارات لأخذ المعلومات التي يمكن أن ترشدهم للوصول إلى الحقيقة ما دام إبداء هذه المعلومات لا يضر بالمصالح الموكولة للممثلين أو يمس سر مهنتهم - إلا أن ذلك متروك لتقديرهم فلهم أن يمتنعوا عن مساعدة رجال السلطة المحلية ورفض إبداء أي معلومات وقد تشدد سفير إيطاليا في إنجلترا في سنة 1916 فمنع البوليس الإنجليزي من تحقيق حادثة موت السكرتير الأول للسفارة الإيطالية بعيار ناري في حجرته محتجًا في ذلك بإعفاء الممثلين السياسيين من القضاء المحلي.
ثالثًا: الإعفاء من الضرائب:
لا نُطيل كثيرًا في هذه النقطة إذ هي خارجة عن موضوع بحثنا في سلطة الدولة في المسائل الجنائية، ولكن نذكر عنها كلمة تكملة لبحث الامتيازات السياسية - إذ تقضي هذه الامتيازات بإعفاء الممثلين السياسيين من الضرائب الشخصية والمقررة وإنما لا يسري هذا الإعفاء على ما يمتلكه الممثل بصفة خاصة من عقارات في البلاد التي يقوم بأعماله الرسمية أما العقار الذي تملكه حكومته ليكون دارًا لسفارتها فيعفى من الضريبة - وقد جرى العرف من باب المجاملة على إعفاء لممثلين السياسيين أيضًا من رسوم الجمارك.

2 - خروج القوى الحربية الأجنبية من دائرة اختصاص السلطة المحلية

مقارنةً بالامتيازات السياسية:
وهناك استثناء ثانٍ من السيادة الإقليمية أو من اختصاص السلطة المحلية وهو استثناء القوى الحربية لدولة أجنبية كالجيوش والسفن الحربية وليس الغرض من هذا الاستثناء ضمان مركز أشخاص معينين وتمكينهم من تأدية وظائفهم باطمئنان واستقلال كما هو الحال في الامتيازات السياسية، وإنما الغرض منه تمكين الدولة الأجنبية مباشرةً من القيام ببعض وظائفها العامة إذ متى سمحت دولة الجيش أجنبي أو لسفينة حربية تابعة لدولة أجنبية بالدخول في إقليمها فقد قبلت بمقتضى ذلك أن تباشر تلك الدولة الأجنبية على الإقليم المذكور شيئًا من سلطتها العامة بالنسبة للجيش أو السفينة، ولا يجوز للدولة الإقليمية بعد ذلك أن تعطل استعمال هذه السلطة أو تشترك في مباشرتها فخروج القوى الحربية الأجنبية من سلطة الدولة الإقليمية إنما أريد به تمكين الدولة التي تتبعها هذه القوى من الانفراد بالسلطة بشكل فعالٍ على قواتها المسلحة التي تعتمد عليها في الدفاع عن كيانها.
وهذه القوى الحربية لا تدخل في إقليم أجنبي إلا برضاء الدولة صاحبة السيادة على الإقليم وهي إما أن تكون جيوشًا أو سفنًا حربية أو طائرات حربية وقد تحدد حقوقها وواجباتها أثناء إقامتها بذلك الإقليم بمقتضى اتفاقات خاصة على أن قواعد القانون الدولي تقرر لها مركزًا خاصًا ولو لم يوجد اتفاق بشأنها.
الجيوش:
فالجيش الأجنبي الذي يقيم أثناء السلم [(21)] في إقليم دولة أجنبية برضائها يعتبر خارجًا عن اختصاصها الجنائي طالما توفر فيه النظام العسكري وكون أعضاؤه وحدة كاملة مرتبطة بروابط درجات الرئاسة العسكرية فإذا وقع من أحد أفراده جريمة فليس لرجال السلطة المحلية أن يقوموا ضده بإجراءات جنائية وإنما يشترط لذلك أن تكون الجريمة قد وقعت داخل المنطقة التي يوجد بها الجيش وأن لا يكون رجال الجيش قاموا بأعمال عدائية ضد الدولة التي يقيمون بإقليمها، وكذلك لا يمكن إعلان بعض أفراد الجيش الأجنبي وطلبهم أمام السلطة المحلية إلا إذا أذن قائد الجيش بذلك - كما أنه لا يمكن لرجال هذه السلطة أن تدخل ثكنات هذا الجيش أو المكان الذي يقيم فيه بدون إذن قائده - وتبقى لهذا القائد السلطة التي يخولها له قانون بلاده العسكري إذ تستمر أحكام هذا القانون سارية على أفراد الجيش أثناء إقامته بالإقليم الأجنبي تبعًا للقاعدة التي تقضي بأن القانون يتبع العلم La loi suit le drapeau.
على أن أفراد الجيش الأجنبي لا يعفون من الاختصاص المدني إذ لا توجد فيه الإجراءات الكيدية التي يمكن أن توجد في حالة الاختصاص الجنائي.
السفن الحربية الأجنبية:
ويتمتع أيضًا بالإعفاء من القضاء المحلي السفن الحربية التي للدول الأجنبية عند رسوها بموانئ الدولة أو مياهها الإقليمية في حالة السلم وللدولة أن ترفض السماح لهذه السفن بدخول موانئها ولكن متى قبلت دخولها فلا تستطيع أن تخضعها لاختصاصها لأن هذه السفن تمثل دولة أجنبية وتكون جزءًا من قوتها المسلحة ولكن يجب أن تتبع السفينة اللوائح الإدارية للدولة الساحلية كلوائح الجمارك والصحة ولا تقوم بعمل عدائي ضد هذه الدولة.
ويقضي إعفاء هذه السفن من الاختصاص الوطني أن رجال السلطة المحلية لا يستطيعون دخول السفينة بدون إذن قائدها فإذا لجأ مجرم لسفينة حربية فليس لهم أن يتبعوه إلى داخلها وإنما يطلبون من القائد إخراجه وإعطائه لهم ولا يعد ذلك من قبيل تسليم المجرمين الذي تكلمنا عنه آنفًا ولكن جرى العمل على قبول إيواء المجرمين السياسيين في السفن الحربية وعدم تسليمهم إلى السلطة المحلية إذا كانت دواعي الإنسانية تقضي بذلك.
وكذلك تعفى السفينة الحربية من الاختصاص المدني المحلي فلا يمكن توقيع الحجز عليها ولا مقاضاة رجالها أمام المحكمة المدنية عن أمور متعلقة بأعمالهم الرسمية وقد قضت محكمة الاستئناف بسنتياجو في شيلي بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1907 بأن السفينة الحربية الأجنبية لا تخضع للقضاء الوطني وبذلك تكون المحاكم المحلية غير مختصة بنظر الدعاوى التي ترفع من التجار للمطالبة بأثمان أغذية قدموها لرجال السفينة ولم يدفع ثمنها.
وليس لرجال السلطة المحلية أن تتخذ إجراءات جنائية بشأن جريمة وقعت على سطح السفينة الحربية الأجنبية إذ يعتبر ذلك من اختصاص الدولة التي تمتلك السفينة، وكذلك لا يخضع رجالها للقضاء الجنائي إذا كانوا خارج السفينة بشرط أن يكونوا سائرين تحت قيادة رئيس ويؤدون خدمة أمروا بها إذ يعتبرون في هذه الحالة كأفراد الجيوش التي سبق الكلام عليها ولا يخضعون إلا لقضاء دولتهم أما إذا وجد بعض أفراد منفصلين من رجال السفينة أو غير قائمين بخدمة مكلفين بها فإنهم لا يتمتعون بأي امتياز شأنهم في ذلك شأن أفراد الجيش المنفصلين عنه.
السفن التجارية:
أما السفن التجارية الراسية في مياه الدولة فيقضي الرأي الراجح بعدم إعفائها من الاختصاص المحلي إذ تعتبر كالأشياء المنقولة التي تملكها الأجانب في إقليم الدولة وإنما يقول بعض الكتاب بأن مسائل النظام الداخلي البحت للسفينة تخرج من دائرة الاختصاص المحلي وتخضع لسلطة الربان.
الطائرات الحربية:
وتسري القواعد الخاصة بالسفن الحربية على الطائرات الحربية للدولة الأجنبية فإذا سمحت دولة بدخول طائرة حربية لدولة أخرى في إقليمها الجوي فإن ذلك يقتضي عدم خضوع هذه الطائرة للسلطة المحلية إذ هي ممثلة للدولة التي تحمل علمها وإنما يجب عليها أن تتبع القوانين واللوائح الداخلية التي وضعت لضمان أمن الملاحة الجوية أو صيانة المصالح الحربية أو الصحية أو المالية للدولة الإقليمية إذ في ذلك احترام لحقوق الغير، ويجب على كل دولة أن تحترم حقوق غيرها من الدول، وبذلك يجب على الطائرات الأجنبية أن تمتنع عن الاقتراب من الحصون أو الأماكن الخاصة الممنوع المرور فوقها كما يجب أن تمتنع عن كل عمل عدائي ضد الدولة التي تطير فوق إقليمها فإن خالفت ذلك كان للدولة الإقليمية أن تخابر الدولة المالكة للطائرة وتطالبها بتعويضات عما حدث.
ولا تخضع الطائرات الحربية الأجنبية ورجالها للقضاء المحلي فلا يمكن لعمال السلطة المحلية أن يدخلوها بدون إذن أو يجروا فيها عملاً من الأعمال الرسمية كما أن الجرائم التي ترتكب على سطحها لا تدخل في اختصاص السلطة الجنائية المحلية وإنما تختص بنظرها سلطة الدولة المالكة للطائرة وكذلك لا تخضع لطائرات الحربية للقضاء المدني ولا يمكن الحجز عليها.
وقد نصت على هذه الامتيازات المعاهدة الدولية التي عقدت في 13 أكتوبر سنة 1919 بشأن الملاحة الجوية، وإنما لا تتمتع بها إلا الطائرات الحربية المملوكة لدولة أجنبية أما الطائرات الخصوصية أو المملوكة للدولة دون أن تكون حربية فلا تتمتع بهذه الامتيازات.

3 - الأجانب المتمتعون بالامتيازات

بقي هناك استثناء ثالث من اختصاص السلطة الإقليمية وإنما ليس عامًا كالاستثناءات التي سبق ذكرها بل هو استثناء قاصر على بعض البلاد الشرقية بل يكاد الآن يكون قاصرًا على القطر المصري، وهو استثناء الأجانب المتمتعين بالامتيازات من السلطة المحلية وقد كانت هذه الامتيازات قبلاً عبارة عن منح أعطيت في البلاد العثمانية وبعض البلاد الشرقية للأجانب حتى لا تنطبق عليهم قواعد هذه البلاد فالدولة العثمانية عندما منحت هذه الامتيازات لرعايا بعض الدول الأجنبية لم تكن ضعيفة تخشى بأس الأجانب أو دولهم بل كانت قد بلغت ذرا مجدها وكان في هذه الامتيازات فوائد عديدة لرعايا الدول الأجنبية إذ بدونها كان يعامل الأجنبي طبقًا لقواعد الشريعة الإسلامية باعتبار أنه مستأمن والمستأمن لا يكون حرًا في أعماله إلا لمدد معينة ثم تطبق عليه بعد ذلك أحكام الشريعة كما أنه كان يدفع جزية للحكومة وقد يجبر على سلوك مخصوص فألغت الامتيازات هذه القيود وأعطت للأجانب الحق في دخول الأراضي العثمانية والسكني بها ومباشرة التجارة بدون أي قيد والتمتع بحرية الأديان وحرمة المسكن وتطبيق قوانينهم الشخصية في التوارث وإعفائهم من القضاء المحلي وغير ذلك، وكذلك كان الحال في القطر المصري إذ وجد ساكن الجنان محمد علي باشا أن يشجع الأجانب على الحضور لبلاده حتى تستفيد من متاجرهم وعلومهم وفنونهم بعد أن كانوا ولوا وجههم عنها أيام المماليك بسبب ما كانوا يلاقونه من عسف وجور لذلك فتح لهم أبواب البلاد ورفع عنهم القيود التي كانت تفرض عليهم قبل ذلك وكان ينصفهم إذا أصابهم حيف بل كان يعطي أوامر لموظفيه ومرؤوسيه لمساعدتهم وتوفير سبل الراحة لهم وكانت تسلم بعض هذه الأوامر للأجانب أنفسهم ليقدموها لحكام البلاد حتى يعاملوا معاملة خاصة [(22)]، وقد أريد بذلك تمكين الأجانب من الإقامة في البلاد باطمئنان.
وقد توسعت مصر في الحقوق التي منحتها للأجانب أكثر من الدولة العثمانية ففي الوقت الذي كان فيه اختصاص القناصل في تركيا قاصرًا على ما يقع من الجرائم بين الأجانب التابعين لدولة واحدة كان اختصاصهم في مصر واسعًا يشمل كل الجرائم التي يرتكبها الأجانب ولو كانت ضد وطنيين ثم تأيد ذلك بلائحة وضعت في سنة 1857 تقرر فيها إعفاء الأجنبي الذي يرتكب جريمة من القضاء المحلي إلا إذا كان غير تابع لإحدى القنصليات وفي غير هذه الحالة تبلغ الجريمة للقنصل
التابع له المتهم وهو الذي يتولى محاكمته وقد قضى التوسع في تطبيق الامتيازات في مصر بتفسير معنى السكن الذي يتمتع فيه الأجنبي بحرمة خاصة تفسيرًا واسعًا فلم يقتصر على المنزل وملحقاته الملاصقة كما كان الحال في تركيا بل شمل أيضًا كل مكان يستعمله الأجنبي في تجارة أو صناعة أو عمل أو مهنة إذ ما دام المكان يستعمله أجنبي فإن له حرمة خاصة تمنع رجال السلطة المحلية من دخوله بدون مندوب القنصلية التي يتبعها الأجنبي إلا في أحوال استثنائية كحصول استغاثة أو تلبس بالجناية.
وكذلك كان الحال في الدعاوى المدنية أيضًا إذ كانت ترفع في مصر للقنصل الذي كان الخصم تابعًا له مهما كان نوعها بخلاف الحال في الدولة العثمانية إذ كانت الدعاوى العقارية تنظر أمام المحاكم العثمانية وقضت الامتيازات التي منحتها تركية سنة 1675 أن القضايا التي تزيد قيمتها عن 4000 آسير - (والآسير عملة فضية تساوي ثلاثة سنتيمات) تنظر أمام القاضي الوطني بحضور ترجمان القنصلية أما القضايا التي تتجاوز هذه القيمة فتنظر أمام الباب العالي فقط ولما كانت مصر بعيدة عن الباب العالي اعتاد الناس على رفع قضاياهم أمام القنصل في القضايا الكبيرة، وكذلك اعتادوا رفعها أمامه في القضايا الصغيرة لكي يصلوا إلى حقهم بسرعة ويضمنوا مساعدة القنصل في التنفيذ.
وهكذا أخذت حقوق الأجانب تزيد في مصر عما كانت عليه في تركيا فأعطى لهم حق امتلاك العقارات في القطر المصري في الوقت الذي كان محظورًا عليهم امتلاكها في البلاد العثمانية إذ لم ينشأ لهم هذا الحق في تركيا إلا بقانون صدر في يونية سنة 1867 بناءً على الخط الهمايوني الصادر في 18 فبراير سنة 1856 الذي أجاز فيه السلطان تملك الأجانب للعقارات أما في مصر فقد أعطى لهم هذا الحق قبل صدور الخط الهمايوني بمدة فكان المغفور له محمد علي باشا يسمح لهم بامتلاك العقارات بل كان يهبهم بعض الأراضي أسوة بالوطنيين (مثل أراضي الأبعادية وهي أراضٍ غير مزروعة كان يهبها لبعض أشخاص لزراعتها ويعفيهم من الضريبة المقررة عليها ثم أصبحت هذه الأراضي تورث عنهم بمقتضى أمر عالٍ صدر في سنة 1836) - ولما تولى المغفور له عباس الأول أمر القضاة بأن لا يعطوا حجة للأجنبي الذي يشتري أملاكًا عقارية في مصر ولكن لم يستمر هذا لأن المغفور له سعيد باشا أصدر أمرًا في مارس سنة 1858 أعلن فيه بيع الأراضي الخراجية التي تركها واضعوا اليد عليها وأباح للأجانب شراء هذه الأراضي (وكان هذا أيضًا قبل القانون التركي الصادر في يونية سنة 1867) بل هناك ما هو أكثر من ذلك إذ أن الأجانب كانوا يدفعون كل الضرائب العقارية في تركيا ولكنهم كانوا في مصر يمتنعون عن دفعها حتى اضطر نوبار باشا إلى مفاوضة الدول في ذلك ومما يدل على أهمية ما يدفعه الأجانب أنه لما تقرر في مؤتمر لندرة سنة 1885 عدم إعفائهم من دفع ضرائب الأملاك المبنية وصدر أمر عالٍ بذلك في سنة 1887 ارتفع دخل هذه الضريبة في تلك السنة من 45000 جنيه إلى 110000 جنيه ولا تزال توجد للآن ضرائب لا يدفعها الأجانب فكثيرين منهم يمتنعون عن دفع ضريبة الخفر التي يدفعها المصريون، وكذلك لا يمكن للحكومة فرض ضرائب جديدة عليهم إلا بعد مصادقة دولهم [(23)]، وقد حصل ذلك فعلاً عندما أرادت الحكومة المصرية زيادة عوائد الأملاك المبنية في سنة 1909 بمناسبة إنشاء المجاري في القاهرة إذ ورد في ديباجة القانون أنه صدر بعد مصادقة الدول وجاء في المادة الثانية منه أنه يجوز تعميم الزيادة في سائر المدن الأخرى التي تباشر فيها الحكومة إنشاء مجارٍ أو أعمال صحية مماثلة لها ويكون هذا التعميم بمقتضى أوامر مخصوصة تصدر بعد مصادقة الدول.
يتضح لنا من ذلك أن الامتيازات الأجنبية كانت عبارة عن منح للأجانب وكان كرم مصر في إعطائها واسعًا حاتميًا فنشأ من ذلك أن اعتبرتها الدول حقوقًا ثابتة لرعاياها بل هي لا تزال تطمع في ذلك الكرم المصري إذ اتفقت على إلغائها في أكثر البلاد دون القطر المصري فألغيت هذه الامتيازات في أكثر بلاد البلقان بعد سنة 1878 وكان آخر العهد بها في بلغاريا في سنة 1919 حيث قررت الدول في معاهدة الصلح التي عقدت مع بلغاريا (معاهدة نولى Neuilly) في المادة (175) أن تعقد اتفاقات مع بلغاريا لإلغاء الامتيازات نهائيًا وألغيت الامتيازات في الجزائر وتونس وطرابلس ومراكش وألغيت في اليابان بين سنتي 1894 و1900، وفي كوريا في سنة 1910 وألغيت في تركيا بمقتضى معاهدة لوزان التي عقدت في 24 يولية سنة 1923 وبدئ بإلغائها في سيام في سنتي 1925 و1926 مع وجود بعض قيود تقرر إزالتها عندما تضع سيام قوانينها الجنائية والمدنية وها هي الصين تكاد تصل الآن إلى إلغائها وفعلاً قد تنازلت لها بعض الدول عن امتيازاتهم من ذلك ألمانيا التي صرحت بهذا التنازل في 20 مايو سنة 1921 وروسيا التي عقدت اتفاقًا يتضمن ذلك مع الصين في 31 مايو سنة 1925، وكذلك أيدت أغلبية الدول بمناسبة الحركة القائمة في الصين الآن رأيها بأن الامتيازات أصبحت غير لازمة وغير متفقة مع المدنية الحاضرة وصرح بعض كبار الساسة بذلك كالمستر أوستن تشامبرلن والمستر لويد جورج وغيرهما - أما في مصر فلا تزال تلك الامتيازات العتيقة باقية وهي تقف عقبة دون كل إصلاح.
ولقد خف شيء من أثر الامتيازات بإنشاء المحاكم المختلطة بموافقة الدول المتمتعة بالامتيازات [(24)]، وبدأت أعمالها في فبراير سنة 1876 إذ جعلت مختصة بنظر القضايا المدنية التي ترفع بين أجانب مختلفة الجنسية أو بين أجانب ومصريين وتنظر بعض المسائل الجنائية وهي قضايا المخالفات التي تقع من الأجانب وكذلك أنواع معينة من الجنح والجنايات وهي ما يوجه ضد رجال القضاء المختلط أو يقع منهم بسبب تأدية وظائفهم أو أثناء تأديتها والجرائم التي ترتكب ضد تنفيذ أحكام المحاكم المختلطة وأضاف الأمر العالي الصادر في 26 مارس سنة 1900 على اختصاص المحاكم المختلطة جرائم التفاليس ومع ذلك فتقضي لائحة ترتيب المحاكم المختلطة في المادة (13) بضرورة إخبار قنصل الدولة التابع لها المدعى عليه بالدعوى المقامة عليه بالجناية أو الجنحة كما أنها تقضي بأن إجراءات التحقيق مع أحد الأجانب وإدارة المرافعات الشفوية قبيل الحكم تناط بأحد القضاة الأجانب سواء كانت الدعوى متعلقة بمادة من مواد المخالفات أو الجنايات أو الجنح وإذا لم يكن للمتهم بجناية أو جنحة مدافع عنه يعين له مدافع بمعرفة المحكمة عند استجوابه وإلا كان التحقيق لاغيًا وكذلك تنص المادة (16) من هذه اللائحة بأن المتهم المسجون تحت الشبهة يسلم إلى قنصل الدولة التابع لها عقب استجوابه في ظرف أربعة وعشرين ساعة على الأكثر من وقت ضبطه إلى أن يثبت وجود محلات لائقة للسجن بالقطر المصري - ما لم يأذن القنصل بحجزه في سجن الحكومة وتقضي المادة (20) أنه إذا اقتضى الحال في أثناء التحقيق الدخول في محل المتهم فيخبر بذلك قنصل الدولة التابع لها ويحرر محضر بهذا الإخبار تسلم صورته إلى القنصلية، وكذلك لا يسوغ الدخول ليلاً في محل بدون حضور القنصل أو مندوبه أو تصريح منه بالدخول في غيبته إلا في حالة مشاهدة الجاني حين تلبسه بالجناية أو في حالة الاستغاثة من داخل المحل.
هذه هي الجرائم التي تخص المحاكم المختلطة أما فيما عدا ذلك مما ترتكبه رعايا الدول المتمتعة بالامتيازات فخارج عن اختصاص المحاكم المصرية أهلية ومختلطة وعن نطاق القانون المصري - وهناك نص صريح على ذلك في قانون العقوبات الأهلي إذ نصت المادة الأولى منه على أنه يستثنى من أحكامه من كان غير خاضع لقضاء المحاكم الأهلية بناءً على قوانين أو معاهدات أو عادات مرعية.
فهذا الاستثناء يُعد من حقوق السيادة المصرية ويخرج من سلطة القضاء المصري أشخاصًا يرتكبون جرائم على الأراضي المصرية ويخلون بنظام الأمن فيها فتحاكمهم محاكم أجنبية قد تكون قوانينها مخالفة للقوانين المصرية بل قد يحدث أن يرتكب الجريمة شخصان أحدهما خاضع لاختصاص القضاء المصري والآخر غير خاضع له فتنظر القضية أمام محكمتين مختلفتين ويطبق عليهما قانونان مختلفان كما حدث أخيرًا في قضية مقتل المسيو شيكوريل في شهر مارس سنة 1927 إذ كان أحد المتهمين بقتله خاضع للقضاء المصري فتم التحقيق بشأنه بمعرفة رجال البوليس والنيابة المصريين بشكل أعجب به الأجانب ذاتهم ثم قدم لمحكمة الجنايات المصرية فقضت عليه بالإعدام في شهر إبريل أمام المتهمين الآخرين فتركوا لقضائهم الأجنبي وعلى ذلك صدر في القضية أحكام مختلفة.
ومن النتائج المحزنة للامتيازات إفلات بعض طبقات من المجرمين من يد البوليس والقضاء المصري كالأجانب الذين يتجرون بالمواد المخدرة أو بالرقيق الأبيض وغير ذلك ومن المدهش أن أغلب الدول الغربية الممثلة في عصبة الأمم تبذل جهدها لوضع حد في مثل هذه المسائل أما الحكومة المصرية فتقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه الجرائم الخطيرة [(25)] - لهذا بدأت الحكومة المصرية بالسعي لإخضاع الذين يرتكبون جرائم على أرض مصرية للقوانين المصرية وقد قرر مجلس الوزراء فعلاً في 3 مارس سنة 1927 الترخيص لوزير الحقانية بوضع مشروع نصوص تشريعية يكون أساسًا لاقتراح تقدمه الحكومة إلى الدول يقضي بتوسيع سلطة المحاكم المختلطة في المواد الجنائية بحيث تشمل الجنح المنصوص عليها في قانون الاتجار بالمواد المخدرة وبعض الجرائم الأخرى، وذلك حرصًا على الآداب العامة ومحافظة على نظام المحال العمومية، والحكومة المصرية جادة في تنفيذ ذلك وإنا نرجو أن نتمكن من الوصول إلى إخضاع الأجانب المقيمين في القطر المصري إلى القوانين المصرية كما هو الحال في جميع الأمم المتمدينة ومنها ما يقل في المدنية والنظام عن الدولة المصرية - إذ ليست مصر بأقل درجة من سيام مثلاً التي وافقت الدول في سنتي 1925 و1926 أي في هذه السنين الأخيرة على إلغاء الامتيازات فيها والتي كتب عنها أحد أساتذة القانون في فرنسا تعليقًا على المعاهدات التي ألغت هذه الامتيازات أنه تتوفر في سيام الشروط اللازمة لتعامل من الآن كشخص بالغ (أي غير قاصر) في المجتمع الدولي

(Le Ciam remplit largement les conditions nécessaires pour être désormais traité en personne majeure dans la communauté internationale).

(انظر مقالة للمسيو مونكار فيل الأستاذ بكلية الحقوق باستراسيورج في مجلة القانون الدولي العام عن ديسمبر سنة 1926 صفحة 330.
“ M. Moncharville. Revue de Droit Int. Pub. - Sep. et Déc. 1926, P. 330 ”
فإذا قيل أن سيام أصبحت شخصًا دوليًا بالغًا في المجتمع الدولي فإن مصر قد تجاوزت دور البلوغ ووصلت إلى درجة الكمال بين أعضاء هذا المجتمع - ويقيننا أن الدول ستتنبه لهذه الحقيقة وتعترف بها قريبًا فتتنازل عن امتيازاتها العتيقة ويصبح الأجنبي والمصري سواء أمام القانون ما داموا يعيشون فوق أرض واحدة ويستظلون بسماء واحدة.

محمد رياض عبد المنعم

محاولة لوضع نظرية عامة لجرائم الاشتباه المنصوص عنها في المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945

مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الرابعة والثلاثون1954

محاولة لوضع نظرية عامة لجرائم الاشتباه
المنصوص عنها في المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945
بحث للسيد الأستاذ طاهر شاش وكيل نيابة بور سعيد

دفعني إلى هذا البحث ما نلاقيه نحن المشتغلين بالقانون من صعوبات كثيرة في تطبيق أحكام المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945 فيما يتعلق بجرائم الاشتباه، فلقد ذهبت المحاكم المختلفة في تفسيره وتطبيقه مذاهب شتى يختلف كل منها عن الآخر تمام الاختلاف ولا تربط أحكامه روابط معينة يمكن تجميعها لاستخلاص قواعد محددة يُعتمد عليها في تفسير نصوص هذا المرسوم بقانون اللهم إلا أحكام مفرقة أصدرتها محكمة النقض المصرية وضمنتها مبادئ معينة يجوز الاعتماد عليها في وضع نظرية عامة لجريمة الاشتباه في القانون المصري.
وبعد، فقد نصت المادة (5) من هذا المرسوم بقانون على أنه:
(يعد مشتبهًا فيه كل شخص يزيد سنه على خمس عشرة سنة حُكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم الآتية أو اشتهر عنه لأسباب مقبولة بأنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم:
1 - الاعتداء على النفس أو المال أو التهديد بذلك.
2 - الوساطة في إعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة.
3 - تعطيل وسائل المواصلات أو المخابرات ذات المنفعة العامة.
4 - الاتجار بالمواد السامة أو المخدرة أو تقديمها للغير.
5 - تزييف النقود أو تزوير أوراق النقد الحكومية أو أوراق البنكنوت الجائز تداولها قانونًا في البلاد أو تقليد أو ترويج شيء مما ذُكر).
وواضح من هذا النص أن المشرع قد قصد أن يضع تعريفًا للشخص الذي يُعتبر مشتبهًا فيه فحدد جرائم معينة ظاهر من المادة أنه ذكرها على سبيل الحصر واعتبر الشخص (مشتبهًا فيه) في أحد حالين:
أولاً: إذا حُكم عليه أكثر من مرة في إحدى هذه الجرائم.
ثانيًا: إذا اشتهر عنه لأسباب مقبولة أنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم.
وتثور الصعوبة لأول وهلة عند هذا التعريف، فالمعتاد أن يكون الركن المادي لأية جريمة فعلاً محددًا سواء كان فعلاً إيجابيًا أو فعلاً سلبيًا (امتناعًا) فيقال مثلاً السرقة هي اختلاس مال منقول مملوك للغير بقصد امتلاكه، وجريمة الامتناع عن الشهادة تقوم بامتناع الشاهد عن الحضور للأداء بشهادته أمام القاضي.
أما في تعريف المشرع للشخص المشتبه فيه أو بمعنى آخر تعريفه لجريمة الاشتباه فقد أورد النص حالين هما:
1 - الحكم على الشخص أكثر من مرة.
2 - الشهرة باعتياده ارتكاب بعض هذه الجرائم المحددة.
وليس (الحكم) أو (الشهرة) فعلاً محددًا يرتكبه المجرم فيعاقب عليه، هذه الصعوبة في رأينا هي الصعوبة الأساسية التي تتفرع منها وتقوم عليها الصعوبات العملية في تطبيق هذا التشريع.
فمن الأسئلة التي يثيرها هذا النص…
متى تقوم هذه الجريمة ؟.. هل بمجرد أن يُحكم على شخص أكثر من مرة في إحدى هذه الجرائم المعينة.. وهل تقوم الجريمة إذا حُكم عليه مرة في جريمة من المنصوص عليها في البند الأول مثلاً وفي أخرى من المبينة في البند الرابع من المادة الخامسة.
- هل تشترط مدة معينة يُحكم على الشخص خلالها أكثر من مرة لكي يُعتبر مشتبهًا فيه ؟
- متى تسقط هذه الجريمة بمضي المدة ؟
- أي المحاكم تختص محليًا بنظر الدعوى عن هذه الجريمة ؟ هل المحكمة التي أصدرت أيًا من الأحكام التي سبق صدورها ضد المتهم أم المحكمة التي أصدرت آخر حكم عليه أم هل هي المحكمة التي يقيم المتهم بدائرتها ؟
- هل تقوم الجريمة إذا كان الحكم الأول الصادر ضد هذا الشخص قد صدر ضده قبل صدور هذا المرسوم بقانون.
- في أية صورة يتحقق العود لحالة الاشتباه إن كانت الجريمة نفسها لا تقوم إلا بصدور أكثر من حكم على المشتبه فيه ؟
- ما معيار هذه الشهرة وما المقصود بالأسباب المقبولة المنصوص عليها في تلك المادة ؟
هل هي شيء آخر يختلف عن صدور أحكام كثيرة على هذا الشخص المراد نسبة الجريمة إليه ؟
… وأسئلة أخرى كثيرة لا نجد الإجابة الشافية لها عند مجرد النظر إلى هذا النص سالف الذكر.
واعتقد أنه من الممكن أن نهتدي إلى إجابة لكل من هذه الأسئلة وغيرها لو أمكن تحديد نوع جريمة الاشتباه أي لو استطعنا وضعها في فصيلة من الفصائل التي جرى شراح القانون الجنائي على أن يقسموا الجرائم إليها فإن نوع كل جريمة هو الذي يحدد وضعها من القانون الجنائي ومن قانون الإجراءات الجنائية.
يقسم فقهاء القانون الجنائي الجرائم بالنظر إلى ركنها المادي إلى:
1 - جرائم إيجابية وجرائم سلبية.
2 - جرائم وقتية وجرائم مستمرة.
3 - جرائم بسيطة وجرائم عادية.
4 - جرائم مادية وجرائم شكلية.
فما وضع جريمة الاشتباه بالنسبة لهذا التقسيم ؟
يُحسن قبل أن نحاول إدراج جريمة الاشتباه في إحدى الأنواع السابقة أن نبين أهمية هذه المحاولة في حل المشكلات التي تصادفنا عند تطبيق مواد الاشتباه في العمل والتي أشرنا إلى بعض منها فيما سبق.
فالقول بأن جريمة الاشتباه من الجرائم الوقتية أو المستمرة يضع لنا حدًا للمشكلات التي تصادفنا عند بحث انقضاء الدعوى الجنائية فيها بالتقادم إذ في الجريمة الوقتية تبدأ مدة سقوط الدعوى من وقت ارتكاب الجريمة أما في الجريمة المستمرة فلا يبدأ سريان المدة إلا من وقت انتهاء حالة الاستمرار وكذلك بالنسبة للاختصاص المقرر فإن المحكمة المختصة بنظر الدعوى في الجريمة الوقتية هي التي وقعت هذه الجريمة في دائرتها دون غيرها أما في الجريمة المستمرة فالأصل أن تختص بنظرها جميع المحاكم التي قامت في دائرتها حالة الاستمرار - كما تهم هذه التفرقة في بحث قاعدة قوة الشيء المحكوم فيه فالحكم الصادر في جريمة وقتية لا يمنع من إعادة المحاكمة عن واقعة أخرى من نفس النوع الذي حُكم فيه تكون قد وقعت قبل رفع الدعوى أما الحكم الصادر في جريمة مستمرة فهو يحوز قوة الشيء المحكوم فيه بالنسبة لجميع الوقائع التي شملتها حالة الاستمرار قبل رفع الدعوى.
وكذلك الحال عند القول بأن جريمة الاشتباه من الجرائم البسيطة أو من جرائم العادة إذ تشبه جريمة الاعتياد الجريمة المستمرة في القواعد المقررة بالنسبة للاختصاص والتقادم وحجية الشيء المحكوم فيه.
فهل من الممكن أن نضع جريمة الاشتباه في نوع معين من أنواع الجرائم التي أشرنا إليها ؟
أن تقسيم الجرائم كما أسلفنا يتصل بركنها المادي والركن المادي لجريمة ما يستخلص من صياغة النص بها ولذا يتعين الرجوع إلى نص المادة الخامسة من قانون الاشتباه لاستخلاص هذا الركن المادي.
تُعرف المادة الخامسة المشتبه فيه بأنه الشخص الذي حُكم عليه أكثر من مرة… والشخص الذي اشتهر عنه أنه اعتاد… إلخ.
والحكم والشهرة أمران لا دخل لنشاط الجاني مباشرةً فيهما فالحكم يصدر من القاضي والشهرة تقوم لدى الناس ولا دخل للجاني في إذاعتها - فكأن الجاني يعاقب عن أمر لا يقوم مباشرةً بارتكابه وإنما يرتكب نوعًا معينًا من الجرائم فيحكم عليه فيها أو لا يحكم عليه وإنما يذيع عنه أنه معتاد ارتكابها - ففي الحالة الأولى يلقى الجاني جزاءين - جزاء يوقع عليه بالحكم عليه في الجرائم التي يرتكبها وجزء آخر يوقع عليه باعتباره مشتبهًا فيه بسبب صدور تلك الأحكام ضده - وفي الحالة الثانية يكون الجاني قد أفلت من العقاب على الجرائم التي ارتكبها لسبب ما فيلحقه عقاب الاشتباه.
غير أننا نلاحظ أنه في الحالة الأولى يلقى الجاني جزاءين عن فعل واحد ارتكبه وهو أمر غريب في باب التجريم إذ القاعدة ألا يحاكم الشخص جنائيًا مرتين عن فعل واحد ارتكبه قد يعاقب الشخص جنائيًا ومدنيًا أو جنائيًا وتأديبيًا لارتكابه فعلاً مجرمًا ولكن أن يعاقب مرتين بعقوبتين جنائيتين لارتكابه فعلاً واحدًا فهو أمر يدعو إلى التساؤل.
ينبغي إذا أن نفسر هذا الأمر تفسيرًا يفصل بين جريمته الأولى وجريمته الأخيرة فلا يكون الركن المادي في الجريمة التي ارتكبها الجاني في أول الأمر هو بذاته الركن المادي لجريمة الاشتباه فلا نقول مثلاً إن الركن المادي في جريمة الاشتباه هو بذاته فعل السرقة الذي ارتكبه الجاني مرتين فُحكم عليه مرتين فصار مشتبهًا فيه.
ويتعين علينا عندئذٍ ألا نخوض فيما هو أبعد من النص للوصول إلى النشاط الغير مباشر التي قام به الجاني ولكن يجب أن نعترف بأن المشرع قد خالف القاعدة العامة المتعارف عليها في تعريف الجريمة وهو وإن اختلفت الصيغ التي وضعها فقهاء القانون ينحصر في القول بأن الجريمة (كل عمل خارجي إيجابي أو سلبي نص عليه القانون وقرر له عقوبة جنائية إذا صدر بغير حق يبيحه عن إنسان مسؤول أخلاقيًا).
فالمشرع لم يحرم هذه المرة عملاً ارتكبه الجاني سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا بل حرم صفة قامت لديه هي صفة الاشتباه.
ولكن ما هي صفة الاشتباه، ما تعريفها، ما حدودها وعناصرها وأركانها ؟
تعرفها المادة (5) بأنه الحكم على الشخص أكثر من مرة لارتكابه جرائم معينة أو اشتهار هذا الشخص بأنه اعتاد ارتكاب هذه الجرائم.
وأول ما يثور من الأسئلة بصدد هذا التعريف السؤال عما إذا كان مجرد الحكم على شخص مرتين يجعله مشتبهًا فيه - حُكم على شخص مثلاً عام 1920 في جريمة سرقة ثم حُكم عليه 1945 في جريمة سرقة أيضًا فهل يعد مشتبهًا فيه رغم مضي المدة الطويلة بين هذين الحكمين ؟
للإجابة على هذا السؤال ينبغي ألا نقف عند النص لتفسيره بما يظهر من عبارته وإلا كان تفسيرنا تحكميًا مجحفًا بالنسبة للمتهم - خاصةً وأن المشرع قد أورد في قانون الإجراءات الجنائية نصوصًا تقضي بأن المحكوم عليه بعقوبة ما يرد اعتباره قانونًا وبغير حكم من المحكمة إذا مضت مدة معينة تختلف بحسب الأحوال ويترتب على رد اعتباره محو الحكم القاضي بالإدانة بالنسبة للمستقبل وزوال ما يترتب عليه من انعدام الأهلية والحرمان من الحقوق وسائر الآثار الجنائية (المواد من 550 إلى 553 إجراءات جنائية) وإن كان الأمر كذلك فليس مستساغًا أن يعتد بحكم صدر على المتهم من مدة طويلة مضت.
وعلى ذلك ينبغي أن نتعرف على حكمة الشارع من سن نصوص خاصة بالاشتباه واهتمامه بتعريف الشخص المشتبه فيه ويبدو من استقراء الحالتين اللذين اعتبر المشرع الشخص مشتبهًا فيه عند قيام إحداهما أنه أراد حصر طائفة من المجرمين رأى بسبب خطورتهم أن يسن لهم أحكامًا خاصة بمعاملتهم وعقابهم، فالمعيار عنده إذا هو خطورة الشخص على المجتمع وهذه الخطورة تعرف في شخص ما إذا حُكم عليه أكثر من مرة لارتكابه هذا النوع المعين من الجرائم أو إذا اشتهر عنه أنه اعتاد أن يرتكبها وكانت الشهرة مبنية على أسباب مقبولة.
ولقد كانت المادة الثانية من القانون (24) لسنة 1923 بشأن المتشردين والأشخاص المشتبه فيهم تحدد فئات الأشخاص الذين يجوز اعتبارهم من المشتبه فيهم في ست فقرات وهم:
أولاً: الأشخاص المحكوم عليهم للقتل عمدًا أو الذين حُكم عليهم أكثر من مرة واحدة لارتكاب جريمة من جرائم التبديد وخطف الأشخاص والحريق عمدًا وتعطيل المواصلات والسرقة والنصب وتزييف النقود وإتلاف المزروعات وإعدام المواشي وانتهاك حرمة المساكن بقصد ارتكاب جريمة أو الشروع في ارتكاب هذه الجرائم إلا إذا كان مضى خمس سنين على عقوبته أو كانت تلك العقوبة قد سقطت بالتقادم.
ثانيًا: من تولت النيابة أكثر من مرة عمل تحقيق ضدهم أو إقامة الدعوى عليهم لجريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفقرة السابقة أو لشروع في إحدى تلك الجرائم ولكن بسبب عدم كفاية الأدلة حفظت القضية أو صدر قرار بأن لا وجه لإقامتها أو حُكم فيها بالبراءة إلا إذا كان قد مضى خمس سنين على حفظ القضية أو إصدار القرار بأن لا وجه لإقامتها أو الحكم فيها بالبراءة أو كانت الدعوى العمومية قد سقطت بالتقادم.
ثالثًا: من صدر عليهم مرة واحدة حكم مما نص عليه في الفقرة الأولى من هذه المادة وكانوا مرة واحدة أيضًا محلاً لتحقيق أو لدعوى مما نص عليه في الفقرة الثانية إلا إذا أمكنهم الانتفاع بالمواعيد المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين.
رابعًا: من يوجدون أكثر من مرة بين غروب الشمس وبين شروقها جائسين أو مختبئين في جوار قرية أو عزبة أو ضاحية أو أي مكان آخر يدعو إلى الشبهة ومن غير أن يكون لوجودهم سبب ما.
خامسًا: من اشتهر عنهم لأسباب جدية الاعتياد على الاعتداء على النفس أو على المال أو الاعتياد على التهديد بالاعتداء على النفس أو على المال أو الاعتياد على الاشتغال كوسطاء لإعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة.
سادسًا: من اعتادوا الاتجار بطريقة غير مشروعة بالمواد السامة أو بالمغيبات كالحشيش والأفيون والداتورة والكوكايين وغير ذلك.
وهذه المادة كما هو ظاهر قد أراد منها المشرع أن يحصر الفئات التي يعتبرها خطرة على المجتمع فنظم لها وضعًا معينًا وترك للبوليس والنيابة تطبيق هذا الوضع والمادة قد تعاوننا في تفهم غرض الشارع من تعريف الأشخاص المشتبه فيهم - فالفقرتان الثانية والثالثة من المادة سالفة الذكر تجعلان من بين الأشخاص المشتبه فيهم أشخاصًا لم يُقدموا للمحاكمة بالرغم من اتهامهم فهم وإن كانوا قد تمكنوا من الإفلات من العقوبة بسبب عدم كفاية الأدلة التي قامت ضدهم إلا أن هذا الأمر لا ينفي أنهم أشخاص خطرون بحيث يجوز اعتبارهم من المشتبه فيهم الذين يجب تمييزهم عن غيرهم بأوضاع قانونية خاصة.
فالأمر إذن أمر خطورة على المجتمع قبل أي شيء وليس أمر أحكام تصدر ضد أشخاص ما لمجرد صدورها ضدهم أكثر من مرة ما لم تدل هذه الأحكام على الخطورة.
ونلاحظ أن المادة الثانية من قانون الاشتباه القديم تحدد مدة معينة لإمكان الاعتماد على الأحكام أو قرارات الحفظ أو الأوامر بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى خلالها مما يدل على أن الشارع لم يشأ في ذلك الوقت أن يترك تقدير الخطورة التي يتهم بها الشخص بغير رابط بل حاول أن يضع لها حدًا معينًا وهذا لا يعني أن المشرع قد أراد استبعاد هذا القيد أن يترك الأمر للفصل فيه كمسألة حسابية مجردة باعتبار الشخص مشتبهًا فيه عند الحكم عليه أكثر من مرة وإنما أراد أن يضع تقدير خطورة المتهم في يد القضاء حسبما يراه من أوراق الدعوى وهو إذ رفع الجزاء الذي كان يوقعه رجل البوليس أو رجل النيابة على المشتبه فيه ووضعه في يد القاضي قد اطمأن إلى حُسن تقديره لهذه الصفة لدى المتهم ووضع له قرينة يعتمد عليها في تقدير خطورة المتهم هي أن يحكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم المعينة - فكأن هذه القرينة لم تُوضع للقاضي لتحد من حريته في التقدير وإنما وضعت لتهديه فله أن يطرحها إذا رأى من بعد البون بين هذه الأحكام مثلاً أنها غير دالة على خطورة المتهم.. هي إذن قرينة قابلة لإثبات العكس وليست قاطعة ملزمة للقاضي.
هذا هو التفسير الذي يبدو لنا سليمًا لجريمة الاشتباه (الاشتباه صفة تقوم لدى أحد الأشخاص مؤداها أنه خطر على المجتمع بسبب ارتكابه جرائم معينة أو اشتهاره بأنه اعتاد ارتكابها - يدل عليها الحكم عليه أكثر من مرة فيها أو أسباب أخرى مقبولة).
فكأن الذي يطرح أمام القضاء هو (اتصاف شخص ما بأنه خطر على المجتمع لارتكابه أو اشتهاره بأنه اعتاد ارتكاب جرائم معينة).
ولنعد بعد هذا إلى ما سبق أن حاولناه من إدراج هذه الجريمة تحت نوع معين من الأنواع التي ذكرناها.
يبدو لنا لأول وهلة أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل أن ننجح في هذه المحاولة لأنه كما قلنا ليس لهذه الجريمة الركن المادي المعتاد من ارتكاب فعل أو الامتناع عن فعل بل هو صفة لدى الجاني نعاقبه عليها، وليس ممكنًا أن نقول إن هذه الصفة تكون جريمة وقتية أو جريمة مستمرة، جريمة بسيطة أو جريمة عادية.
فهي إذن جريمة من نوع خاص، جريمة غير محددة في التشريع وإنما متروك تحديدها لتقدير القاضي يقدر قيامها أو عدم قيامها فإن رأى أن الأحكام التي حكم بها على المتهم لا تكفي للدلالة على خطورته بسبب طول المدة التي تفصل بين كل منها أو التي تفصل بين الحكم الأخير وتاريخ رفع دعوى على المتهم أو بسبب تفاهة الجرائم التي ارتكبها أو عدم تماثل النشاط الإجرامي لدى المتهم أو إذا رأى أن الشهرة التي ذاعت عنه بأنه معتاد ارتكاب هذه الجرائم غير قائمة على سبب مقبول إذا رأى هذا الأمر أو ذاك قضى ببراءة المتهم.
ويبدو من الأحكام التي أصدرتها محكمة النقض المصرية في هذا الصدد أن هذا هو الرأي الذي تدين به فهي تقول (إن السوابق لا تُنشئ الاتجاه الخطر الذي هو مبنى الاشتباه والذي يريد الشارع الاحتياط منه لمصلحة الجماعة بل هي تكشف عن وجوده وتدل عليه فهي والشهرة بمنزلة سواء) (مجموعة القواعد القانونية الجزء السابع صـ 243 في القضية 8 سنة 17 قضائية).
كما تقول (إن الشارع إنما أراد بالمرسوم بقانون (98) لسنة 1945 أن يوسع في سلطة القاضي بعد أن انتقل إليه ما كان قد عهد به في القانون السابق للبوليس والنيابة من سلطة الإنذار وتقدير حالة الاشتباه وذلك زيادة منه في تقرير الضمانات للمتهمين.. وإذن فإذا ما استقرأ القاضي من حال الشخص وسوابقه ما يقنعه بقيام الحال الخطرة والاتجاه الإجرامي اللذين يجعلان من صاحبهما مشبوهًا يخشى شره عجل بمراقبته أو اكتفى بإنذاره تبعًا لدرجة خطورته وإن استبان بأنه برغم الحكم عليه أكثر من مرة لم يندمج في ذمرة الأشرار الخطيرين أو اندمج ولكن أقلع واستقام بعد عثراته الماضية أخلى سبيله كما هو الشأن فيمن يعد مشبوهًا بناءً على الاشتهار لأن الاشتهار والسوابق قسيمان إبراز حالة واحدة ويتعادلان في الاستدلال على وجودها) (الكتاب السابق صـ 175 القضية 1415 سنة 16 قضائية).
وتقدير القاضي لخطورة المتهم كما قلنا غير محدد وليس يحكمه ضابط معين وإنما قد يعتمد القاضي على أن الأحكام الصادرة ضد المتهم (من الجسامة أو الخطرة أو التعاقب أو التعاصر أو التماثل.. إلخ تكفي لإقناع القاضي بأن صاحبها ما زال خطرًا يجب التحذر منه) (نقض المجموعة السابقة في القضية رقم 8 سنة 17 قضائية).
وهذا الفهم لجريمة الاشتباه يضع لنا حلولاً مقبولة للمشكلات العديدة التي تصادقنا أثناء تطبيق نصوص القانون.
فقد تساءلنا في بداية هذا البحث عن المدة اللازم مضيها بين كل حكم صادر ضد المتهم - أو بين الحكم الصادر أخيرًا ضده وبين تاريخ رفع الدعوى عليه أو بعبارة أخرى تساءلنا عن المدة اللازم مضيها لانقضاء الدعوى الجنائية عن هذه الجريمة بالتقادم.
وتطبيق النظرية العامة التي فصلناها فيما سبق نضع إجابات مقبولة لهذه الأسئلة فالقانون لا يشترط مضي مدة معينة بين كل حكم صادر ضد المتهم كما أنه لا يمكن القول بأن هذه الجريمة تسقط بالتقادم لمضي مدة معينة أيضًا - إذ ما دمنا نعاقب المتهم على صفة فيه فالعبرة بالاقتناع بوجود هذه الصفة لديه أو بعدم وجودها أيًا كانت المدة التي تمضي بين هذه الأحكام وبين تاريخ رفع الدعوى الجنائية ضده أو بين الأحكام بعضها البعض فما الأحكام كما قلنا إلا قرينة على خطورة المتهم فإذا كانت قاطعة في الدلالة على هذا الأمر فإنه يستحق العقاب وإلا فيتعين الحكم ببراءته.
ولقد ذهب رأي إلى أن جريمة الاشتباه من جرائم العادة التي يجب طبقًا لما ذهب إليه الفقه الجنائي ألا تنقضي أكثر من ثلاث سنوات بين كل فعل من الأفعال التي تتكون بها هذه الجريمة كما أنه يجب ألا تنقضي أكثر من ثلاث سنوات على آخر فعل تتم به الجريمة وبين تاريخ رفع الدعوى وقد أسس أصحاب هذا الرأي رأيهم على ما ظهر لهم من عبارة المادة الخامسة من قانون الاشتباه من أنها تشير إلى (الحكم أكثر من مرة).. و(الاشتهار باعتياد ارتكاب بعض هذه الجرائم) ولكن هذا الرأي يصطدم كما قلنا بطبيعة جريمة الاشتباه التي لا يتفق ركنها (أنها صفة لدى الشخص) مع ركن جريمة العادة (وهي أفعال يلزم أن تنبئ عن العادة) وهذا الأمر وحده يكفي لإهدار هذا الرأي فإن كل المقصود من التشريع هو عقاب من توافرت لديهم صفة الخطورة فلا معنى لوضع حدود زمنية تحكمية وإنما الأمر متروك للقاضي تقديره - وقد يصلح عنصر الزمن إلى جانب العناصر الأخرى كأساس يقيم عليه القاضي اقتناعه أو عدم اقتناعه بخطورة المتهم الذي يحاكمه.
وتضع لنا النظرية العامة التي أشرنا إليها كذلك حدًا لمشكلة الاختصاص إذ أن معاقبة المتهم على صفة فيه تجعل المحكمة المختصة بنظر الدعوى هي المحكمة التي يقيم المتهم بدائرتها لأن هذه الصفة لاحقة به ويسهل إثباتها في المحيط الذي يقيم فيه.
كما تضع لنا أيضًا حدًا للمشكلة التي قد تثور عما إذا كانت الجرائم التي حددتها المادة الخامسة تستقل كل منها عن الأخرى بمعنى أنه يشترط لكي يعتبر الشخص مشتبهًا فيه أن يحكم عليه في نوع معين من الجرائم - جرائم الاعتداء على المال وحدها مثلاً أو جرائم الاتجار بالمخدرات..
ففي إلقاء نظرة على هذا النص نجد أن المشرع وإن كان قد رتب كل نوع من الجرائم في فقرات مختلفة إلا أن النص خالٍ مما يدل على وجوب أن يكون النوع الذي دأب المتهم على ارتكابه واحدًا بل هو تنظيم من لدى الشارع في الإمكان غض النظر عنه كأن لم تكن هذه الجرائم مقسمة إلى فقرات مختلفة - وذلك لأنه ما دام المقصود هو البحث فيما إذا كان المتهم متصفًا بصفة الخطورة على المجتمع فإن هذه الخطورة قد تستفاد من ارتكابه جرائم من أنواع مختلفة مما نص عليه الشارع، فقد يحكم عليه لجريمة قتل ويحكم عليه أيضًا لجريمة سرقة وجريمة الاتجار بالمخدرات ومع ذلك يرى القاضي نفسه إزاء متهم خطير على المجتمع نظرًا لتقارب هذه الأحكام وجسامة الجرائم التي ارتكبها فيحكم عليه باعتباره مشتبهًا فيه.
وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن المتهم قد يعتبر مشتبهًا فيه إذا حكم عليه مرة لسرقة وأخرى للاتجار بالمخدرات وقالت في حكمها إنه (لا أهمية لكون المتهم لم يحكم عليه إلا مرة واحدة في جنحة مخدر ما دام القانون قد ذكر جريمتي السرقة والاتجار بالمخدرات بصدد تكوين حالة الاشتباه ولم ينص على وجوب أن تكون الجرائم التي ذكرها من نوع واحد بالنسبة إلى المتهم) (القضية 2105 سنة 17 قضائية جلسة 22/ 12/ 1947 - المجموعة السابقة صـ 431).
كذلك قد يثور التساؤل عما إذا كانت جميع الجرائم التي تتدرج تحت نوع معين مما نصت عليه المادة الخامسة تكون جريمة الاشتباه - مثلاً نصت المادة على جرائم الاعتداء على النفس فهل تعتبر جريمة الإصابة الخطأ مما يشمله هذا النص ؟
النظرية التي ذكرنا أساسها تضع حلاً لهذا السؤال - فالأمر ليس تطبيقًا مجردًا للنص كما قلنا وإنما يلزم أن تدل الجريمة على أن المتهم قد اتسم بالخطورة وفي أغلب الأحيان مثلاً لا تكون جريمة الإصابة الخطأ مما يدل على ذلك، وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن جرائم الغش والتدليس لا تعتبر بصفة عامة من جرائم الاعتداء على المال فيجب للاعتداد بها في مقام الاشتباه أن يبين الحكم ما يبرر عدها اعتداءً على المال (القضية رقم 1951 سنة 18 قضائية جلسة 28 فبراير سنة 1949 المجموعة السابقة صـ 783).
بقي سؤال آخر قد يثور عنه تطبيق نص المادة الخامسة - سؤال عن حجية الشيء المحكوم فيه - متهم قُدم للمحاكمة في جريمة اشتباه بسبب الحكم عليه عام 1945 مثلاً لسرقة وعام 1950 لضرب ولكن المحكمة رأت أن هذين الحكمين لا يدلان على خطورة المتهم فقضت ببراءته وأصبح حكم البراءة نهائيًا ثم حكم على هذا المتهم عام 1951 لسرقة فهل من الممكن أن يُقدم للمحاكمة في جريمة اشتباه من جديد ؟
الصعوبة الظاهرة لأول وهلة مرجعها إلى أن الحكمين الأولين قد طرحا أمام المحكمة فقضت ببراءة المتهم فهل يعتمد عليها من جديد بالرغم من كونهما من عناصر الدعوى المحكوم فيها.
ولكن تطبيق النظرية التي فصلنا أحكامها والتي تقضي بأن الأحكام الصادرة ضد المتهم ما هي إلا قرائن على الخطورة لا تمنع القاضي من الاستدلال بها بالإضافة إلى عناصر أخرى على أن المتهم قد أصبح خطرًا يجب التحرز منه، وعلى ذلك فمن الجائز للقاضي أن يعتمد عليها في تكوين اقتناعه بخطورة المتهم.
وقد جرى قضاء محكمة النقض المصرية على أنه من الممكن الاستعانة بالأحكام السابقة على صدور المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 في تكوين القاضي عقيدته عن خطورة المتهم والحكم عليه في جريمة الاشتباه وأوضحت أنها ترى أن السوابق لا تُنشئ الاتجاه الخطر بل هي تكشف عن وجوده فقط كما سبق أن ذكرنا.
ونتعرض الآن للشهرة باعتياد ارتكاب الجرائم الواردة في الفقرة الثانية من المادة الخامسة سالفة الذكر ولا أظن أننا في حاجة إلى تفصيل في شرحها بعد أن اعترضنا لتفصيل النظرية التي نأخذ بها في جريمة الاشتباه فشأنها شأن الأحكام الصادرة ضد المشتبه فيه - هي دليل على خطورته يستشفها القاضي من أوراق الدعوى وله كامل الحرية في تقدير قيامها وإنما يشترط الشارع أن تكون هذه الشهرة مبنية على أسباب مقبولة، وعلى القاضي أن يبين هذه الأسباب في حكمه - وقد يعتمد القاضي على شهادة رجال الحفظ كما قد يعتمد على شهادة أشخاص آخرين إنما يجب أن تدل هذه الشهادة بوضوح على أن المتهم قد ذاع عنه هذا الأمر حتى بلغ حد الشهرة - كذلك من الممكن أن يهتدي القاضي بما ورد في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة الثانية من القانون (24) لسنة 1923 من تحديد للأشخاص الخطرين كأن يكون المتهم قد سبق اتهامه عدة مرات بارتكاب هذه الجرائم وحفظت الدعوى الجنائية فيها لعدم كفاية الدليل أو بُرئ منها لبطلان شاب إجراءات التحقيق كبطلان التفتيش في قضايا الاتجار بالمخدرات أو بطلان الاعتراف المنسوب للمتهم وهكذا.
والمناط في كل هذا الأمر أن يقوم لدى القاضي الاقتناع بأن المتهم قد اتصف بالخطورة لاشتهاره بأنه اعتاد ارتكاب هذه الجرائم التي حددها القانون.
وأخيرًا، وبعد أن فصلنا النظرية السابقة وحاولنا تطبيقها فيما يتعلق بجريمة الاشتباه المنصوص عنها في المادة الخامسة من المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 - هل تسعفنا هذه النظرية في تفهم الجريمتين الأخريين المنصوص عنهما في المادتين السادسة والسابعة من هذا المرسوم بقانون ؟
تنص المادة السادسة على أنه (يعاقب المشتبه فيه بوضعه تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنين، وفي حالة العود تكون العقوبة الحبس والوضع تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنين).
كما تنص المادة السابعة على أنه (يجوز للقاضي بدلاً من توقيع العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة السابقة أن يصدر حكمًا غير قابل للطعن بإنذار المشتبه فيه بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا فإذا وقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه فيه في خلال السنوات الثلاث التالية للحكم وجب توقيع العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة السابقة).
وظاهر من نص هاتين المادتين أنهما تشيران إلى جريمتين مختلفتين:
الأولى: العود للاشتباه بعد الحكم بمراقبته.
الثانية: وقوع عمل من المشتبه فيه من شأنه تأييد حالة الاشتباه وذلك خلال ثلاث سنوات من الحكم بإنذاره.
ويبدو لنا أنه من المستحسن أن نحاول شرح المقصود من هاتين المادتين معًا ولنبدأ بالجريمة الثانية.
أعطى المشرع للقاضي الحق في أن يمهد للمتهم الطريق للعدول عن الميول الإجرامية التي بدت لديه بأن يصدر عليه حكمًا بالإنذار بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا بدلاً من توقيع عقوبة المراقبة عليه كما أعطى للمتهم فرصة ثلاث سنوات يصلح فيها من شأنه ويتبع الطريق المستقيم بحيث إنه إذا نقضت هذه الفترة دون أن يتجه بنشاطه اتجاهًا إجراميًا فإن هذا الحكم بالإنذار يسقط عنه - وإلا فإذا وقع منه عمل يؤيد حالة الاشتباه لديه فإنه يستحق العقاب.
فما هو العمل الذي قد يقع من المشتبه فيه ويؤيد حالة الاشتباه لديه ؟
طبقًا للنظرية التي ذكرنا أساسها - يكون هذا العمل هو الذي يدل على أن المتهم لا يزال يتصف بالخطورة على المجتمع لارتكابه جرائم معينة، فإن حكم على هذا المشتبه فيه في جريمة من هذه الجرائم فالأمر واضح ولكن هل مجرد اتهامه يدل على توافر حالة الاشتباه لديه من جديد ؟
النظرية التي اعتنقناها تجعل التقدير للقاضي فهو الذي يضع أمام بصره هذا الاتهام ليرى مدى جديته فإن ثبت لديه أنه اتهام جدي فقد توافرت أركان الجريمة.
كذلك إذا اُتهم هذا الشخص وحُفظت القضية ضده لعدم كفاية الأدلة أو اُتهم وقُدم للمحاكمة ولكنه بُرئ بسبب بطلان في إجراءات التحقيق أو لعدم كفاية الدليل.. كل هذه الأمور يمكن أن يعتمد عليها للحكم على المتهم في هذه الجريمة.
وإنما يجب أن يكون هذا العمل الذي يعتمد عليه القاضي في إدانة المتهم قد وقع خلال ثلاث سنين من الحكم بإنذار، فالعبرة بتاريخ الفعل نفسه وليس بالحكم أو التصرف القانوني الصادر فيه.
وكما قلنا يجب أن يتثبت القاضي من أن الاتهام الموجه للمتهم اتهام جدي وهذا ما حكمت به محكمة النقض المصرية (القضية رقم 1645 سنة 18 قضائية جلسة 4/ 1/ 1949 المجموعة السابقة).
لا صعوبة إذن فيما يتعلق بالجريمة السابقة الذكر وإنما تثور الصعوبة فيما يتعلق بجريمة العود للاشتباه - فالعود قد نظمت أحكامه في الباب السابق من الكتاب الأول من قانون العقوبات وقد نصت المادة العاشرة من المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 على أنه (تعتبر عقوبة الوضع تحت مراقبة البوليس المحكوم بها طبقًا لأحكام هذا المرسوم بقانون مماثلة لعقوبة الحبس فيما يتعلق بتطبيق أحكام قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات أو أي قانون آخر) - فإذا اعتبرنا عقوبة المراقبة المنصوص عنها في المادة السادسة من قانون الاشتباه في حكم الحبس المنصوص عنه في المادة (49) من قانون العقوبات نجد أنه لا ينطبق على حالة العود للاشتباه سوى نص الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (49) عقوبات لأن الفقرة الأولى خاصة بحالة ما إذا كانت السابقة عقوبة جناية.
وعلى ذلك نجد أن العود يتحقق في حالتين:
1 - إذا حُكم على شخص في جريمة اشتباه بالمراقبة مدة سنة أو أكثر وثبت أنه ارتكب جريمة اشتباه قبل مضي خمس سنين من تاريخ انقضاء هذه العقوبة أو من تاريخ سقوطها بمضي المدة.
2 - إذا حُكم على شخص في جريمة اشتباه بالمراقبة مدة أقل من سنة واحدة وثبت أنه ارتكب جنحة اشتباه مماثلة للجريمة الأولى قبل مضي خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة.
وقد كان بحثنا السابق عن الركن الأول للعود (أي السابقة) وبعبارة أخرى كان كلامنا عن جريمة الاشتباه والآن لنبحث في الركن الثاني أو الجريمة اللاحقة التي يتكون بها ظرف العود للاشتباه.
هل يشترط أن تتوافر جريمة اشتباه جديدة بعناصرها من الحكم على المتهم أكثر من مرة لارتكابه جرائم من المبينة في المادة الخامسة أو تقوم لديه شهرة جديدة بأنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم ؟
صعوبة الأمر ناتجة من أن جريمة الاشتباه كما قلنا صفة وليست فعلاً أو امتناعًا محددًا حتى يمكن تعيين مبدئه ونهائيته فيستحيل إذن أن يكون الشارع قد قصد بالعود للاشتباه المعنى المقصود في المادة (49) عقوبات وإلا كان من المستحيل تطبيقها إذ كيف نصل إلى معرفة أن الشهرة قد توافرت لدى المتهم من جديد خلال خمس سنين من تاريخ انقضاء عقوبة المراقبة أو من تاريخ سقوطها بمضي المدة، كما تنص المادة (49) فقرة (2) عقوبات أو قبل مضي خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة كما تنص المادة (49) فقرة (3) عقوبات.
وما معنى أن يغير المشرع طبيعة الجريمة في حالة الحكم بالإنذار عنه في حالة الحكم بالمراقبة ؟
لا شك أن الشارع لم يقصد أن العود للاشتباه هو بذاته العود المنصوص عليه في المادة (49) عقوبات كما أنه لم يقصد أن يغير الحكم في حالة الإنذار عنه في حالة المراقبة، فكل اختلاف بين جريمتي ارتكاب فعل من شأنه تأييد الاشتباه والعود للاشتباه هو أن الجريمة الأولى تقع بارتكاب الفعل في خلال ثلاث سنين من تاريخ الحكم بالإنذار في حين أن الثانية تقع بارتكابه في خلال خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة، وهذا هو ما قضت به محكمة النقض المصرية إذ قالت (إنه يبين من مقارنة نص المادتين (6) و(7) من المرسوم بقانون رقم (98) سنة 1945 أن المراد بما ذكرته الفقرة الثانية من المادة السادسة من عبارة (حالة العود) ليس هو العود بالمعنى الوارد في المادة (49) من قانون العقوبات وإنما المراد به هو أن يقع من المشتبه فيه بعد الحكم عليه بالاشتباه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه السابق الحكم بها عليه وذلك وفقًا لما جاء في الفقرة الثانية من المادة (7) من المرسوم المذكور - إذ لا يوجد أي مبرر للقول باختلاف معنى العود في حالة سبق الحكم بالإنذار وحالة سبق الحكم بالمراقبة) (القضية 893 سنة 19 قضائية جلسة 7/ 6/ 1949 المجموعة السابقة صـ 918. وحكم في القضية 1112 سنة 22 قضائية جلسة 30 ديسمبر سنة 1952 مجموعة الأحكام الصادرة من الدائرة الجنائية بمحكمة النقض - السنة الرابعة - العدد الأول صـ 295).
وقد يبدو لأول وهلة أن المشرع عندما ميز جريمة ارتكاب فعل من شأنه تأييد حالة الاشتباه لدى الجاني عن جريمة الاشتباه بأن حدد ركن الجريمة الأولى بفعل مادي تقع به هذه الجريمة قد قصد أن يخالف النظرية المفهومة من نص المادة الخامسة من قانون الاشتباه إلا أن تطبيق هذه النظرية التي استخلصناها كما سبق من روح التشريع والحكمة منه وتطور التقنين يدعو إلى القول بأن المشرع قصد العقاب على خطورة المتهم التي يدل على وقوع هذا الفعل منه من جديد ومن ثم يخضع لتقدير القاضي شأنه شأن الأحكام الصادرة ضد المتهم (السوابق) أو الشهرة في جريمة الاشتباه المنصوص عنها في المادة الخامسة، غير أنه بالرغم من تطبيق هذه النظرية يتعين علينا القول بأنه ما دام الركن المادي في جريمة (وقوع فعل يؤيد حالة الاشتباه) وتبعًا في جريمة (العود للاشتباه) قد تحدد بفعل معين فقد أصبحت الجريمة شأنها شأن بقية الجرائم ومن ثم تخضع للتقسيم الذي يقول به الشراح.
فما موضع هاتين الجريمتين من هذا التقسيم ؟
ظاهر من أن المشرع في المادة السابعة قد عبر عن الجريمة بقوله (.. فإذا وقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد الاشتباه..)، قد جعل ركنها المادي هو وقوع هذا العمل وبذلك تكون هذه الجريمة جريمة وقتية لا جريمة مستمرة لأنها تقوم بوقوع هذا العمل كما تعتبر جريمة بسيطة لا جريمة عادةً لأن القانون يعاقب على وقوع هذا العمل لا على تكراره، وبذلك يكون وضع هذه الجريمة من القانون قد تحدد فتسري عليها أحكام الجريمة الوقتية والجريمة البسيطة.
وكما سبق أن ذكرنا يجب أن يضع القاضي أمام عينيه على الدوام أن المشرع لا يعاقب الشخص لمجرد ارتكابه هذا الفعل - كما أنه لا يعاقبه لسوابقه أو لاشتهاره - وإنما يعاقبه على ميوله الإجرامية الخطرة ولذا يجب أن يتثبت من أن هذا العمل الذي ارتكبه الجاني بالنسبة للجريمة المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة من قانون الاشتباه يدل دلالة كافية على خطورة هذا الشخص.
وبعد، فإن محكمة النقض المصرية قد كفتنا مشقة البحث في جرائم الاشتباه فلم نكن أكثر من جامعين لهذه الأحكام الكثيرة التي صدرت منها في هذا الشأن وقد استخلصنا منها ما نعتقد أن محكمتنا العليا قد اعتنقته من قواعد لهذه الجرائم ووضعنا هذه القواعد كلاً بجانب الآخر ثم حاولنا استخلاص نظرية عامة هي التي حاولنا فيما سبق بيانها.
ولعلي قد وفقت في عرض هذه النظرية.
وما توفيقي إلا بالله رب العالمين.