بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

في السندات تحت إذن التجارية

مجلة المحاماة - العدد السابع
السنة الحادية والعشرون 1941

في السندات تحت إذن التجارية

لم تعرف قوانين التجارة الأهلي والمختلط والفرنسي السندات تحت إذن وإنما نصت على الشروط الشكلية الواجب توافرها فيها لصحتها واعتبارها كسندات تحت إذن تنتج آثارها التي رتبها لها القانون، ويمكن تعريف السند تحت إذن من مراجعة نصوص هذه القوانين بأنه صك مكتوب مؤرخ يشتمل على تعهد يلتزم فيه موقعه بدفع مبلغ من المال لآخر لأمره وإذنه في زمن معين أو بعد مرور وقت محدد على تاريخ تحريره أو بمجرد الاطلاع على السند أو بعد مرور وقت على الاطلاع، وذلك في مقابل شيء حصل عليه منه وقت التوقيع على السند أو قبل ذلك، ويسمى المتعهد في السند تحت إذن Soueur والمحرر لصالحه السند الدائن المستفيد Bénificiaire du billet.

أوجه الاختلاف بين السند تحت إذن والكمبيالة

ويختلف السند تحت إذن عن الكمبيالة في الأمور الآتية:
أولاً: تحتوي الكمبيالة على ثلاثة أشخاص ساحب الكمبيالة tireur والمسحوب عليه الكمبيالة tire والمسحوب لصالحه الكمبيالة ويسمى المستفيد bénéficiaire، وليس الحال كذلك في السند تحت إذن حيث يحتوي على طرفين المتعهد في السند والمستفيد منه فقط.
ثانيًا: لا يشتمل السند تحت إذن على وكالة بالدفع صادرة من المحرر عليه السند كما هو الحال في الكمبيالة إذ تتضمن الأخيرة وكالة أو أمر أو حوالة من الساحب للغير بدفع مبلغ معين لآخر.
ثالثًا: يتضمن السند تحت إذن بمجرد إتمامه:
1 - اعترافًا من المتعهد فيه بمديونيته للمحرر لصالحه السند في مبلغ من المال حصل على مقابله منه وقت تحرير السند أو قبل إذن.
2 - تعهده بدفع هذا المبلغ للمستفيد أو لأي شخص آخر يرى الأول تحويل السند إليه أي لأمره بخلاف الكمبيالة فإنه لا يشترط لسحبها وصحتها أن يكون المسحوب عليه الكمبيالة تحت يده مقابل الوفاء ومدينًا للساحب وقت تاريخ السحب وإنما يكفي في ذلك أن يكون مقابل الوفاء موجودًا تحت يده وقت قبول الكمبيالة أو وقت استحقاقها لا قبلها، وعلى ذلك يجوز لساحب الكمبيالة تقديم مقابل الوفاء للمسحوب عليه حتى تاريخ الاستحقاق ويكون المقابل إما دين في ذمة المسحوب عليه للساحب أو قيمة بضاعة اشتراها الأول من الثاني أو أشياء ذات قيمة حصل عليها منه. رابعًا: لا يشترط في السند تحت إذن إجراء بروتستو عدم القبول كما هو في الكمبيالة لانتفاء الضرورة التي تستوجب ذلك.
خامسًا: يُشترط لاعتبار السند تحت إذن عملاً تجاريًا أن يكون سببه تجاريًا بخلاف الحال في الكمبيالة كما سيأتي الكلام على ذلك.

أوجه الاختلاف بين السند تحت إذن والشيك

ويختلف السند تحت إذن عن الشيك فيما يأتي:
أولاً: يحتوي الشيك على وكالة من ساحب الشيك لآخر (المسحوب عليه) أو أمر له بالدفع بخلاف السند تحت إذن فلا يشمل شيئًا من ذلك كما تقدم.
ثانيًا: يجوز الاتفاق في السند تحت إذن على الدفع في تاريخ معين أو شهر معين أو بعد مرور وقت معين على تاريخ تحريره أو بمجرد الاطلاع عليه أو بعد مرور وقت على الاطلاع عليه بخلاف الحال في الشيك إذ يشترط لصحته وقيامه أن يكون الدفع فيه بمجرد الاطلاع عليه.
ثالثًا: السند تحت إذن كالكمبيالة تعتبر سندًا للمديونية instrument de crédit، وسندًا للدفع بخلاف الشيك فإنه يعتبر في العادة من أوراق النقد.
رابعًا: في السند تحت إذن يعرف الموقع عليه بالتزامه ومداه بمجرد التوقيع على السند ويمكن بذلك من تدبير أمره والحصول على المال الواجب دفعه بمقتضى هذا السند بخلاف الحال في المسحوب عليه الشيك فإنه لا يعرف بملزوميته بالدفع بمجرد تحرير الشيك وإنما من وقت تقديمه إليه ويجب عليه دفع المبلغ بمجرد التقديم والاطلاع على الشيك وبغير أن يكون لديه من الوقت ما يسمح له بجمع المال اللازم لوفاء قيمته أو سداده.
خامسًا: لا يجوز توقيع الحجز التحفظي على منقولات التاجر الساحب للشيك.
سادسًا: لا يشترط ذكر مقابل القيمة في الشيك بخلاف السند تحت إذن.

أوجه الشبه العامة بين السند تحت إذن وبين الكمبيالة والشيك

توجد أوجه شبه عامة بين السند تحت إذن وبين الكمبيالة والشيك وهذه الأوجه هي: أولاً: يشترط القانون في تحرير السند تحت إذن توافر شروط شكلية معينة هي نفس الشروط الواجب توافرها في الكمبيالة والشيك مع الفوارق المتقدمة.
ثانيًا: يجوز اشتراط الدفع بمجرد الاطلاع في السند تحت إذن والكمبيالة كما هو الحال في الشيك.
ثالثًا: تنتقل الملكية في السند تحت إذن بطريق التظهير كما هو الحال في الكمبيالة والشيك.
رابعًا: يشترط لصحة التحاويل الناقلة للملكية في السند تحت إذن نفس الشروط الواجب قيامها في التحاويل الناقلة للملكية في الكمبيالة والشيك.
خامسًا: يتضمن كل من السند تحت إذن والكمبيالة والشيك اعتراف بدين.
سادسًا: يضمن المحيل في السند تحت إذن والكمبيالة والشيك وفاء الدين ويسر المدين في الحال والاستقبال.
سابعًا: لا يجوز للمدين في السند تحت إذن التمسك في مواجهة المحال إليه الحسن النية بالدفوع التي يجوز له التمسك بها ضد المستفيد الأصلي والمحيلين السابقين كما هو الحال في الكمبيالة والشيك.
ثامنًا: يضمن الموقعين على السند تحت إذن والكمبيالة والشيك وكذا المحيلين وفاء الدين لحامل هذه الأوراق بالتضامن.
تاسعًا: لا يجوز للقضاء عند الحكم في دعاوى تتضمن منازعات بسند تحت إذن أو كمبيالة أو شيك أن يعطي مهلة للمدين لسداد الدين أو يقسطه عليه.
عاشرًا: يثبت عدم الدفع في السند تحت إذن بنفس الإجراء Acte الذي يثبت عدم الدفع في الكمبيالة والشيك وهذا الإجراء هو بروتستو عدم الدفع.
حادي عشر: يشترط لرجوع حامل السند تحت إذن على المحيل له أو المحيلين السابقين والمستفيد الأصلي نفس الشروط الواجب توافرها لرجوع حامل الكمبيالة أو الشيك.
ثاني عشر: تسري قواعد الضمان الاحتياطي المنصوص عنها في القانون في باب الكمبيالات على الضمان الاحتياطي في السند تحت إذن والشيك.
ثالث عشر: تسري قواعد الفوائد والمصاريف الأخرى كرسم البروتستو ومصاريف البنك وخلافه المنصوص عنها في باب الكمبيالات على السند تحت إذن.
رابع عشر: يسقط الحق في المطالبة بالسند تحت إذن بنفس المدة المقررة لسقوط الحق في المطالبة بالكمبيالة أو الشيك وتسري عليها نفس القواعد التي قررها القانون في ذلك.

السند تحت إذن والسند الذي يدفع لحامله

يجوز أن يكون السند لحامله au porteur وفي هذه الحالة تنتقل ملكية السند بمجرد التسليم من يد إلى أخرى، ولا يشترط لذلك حصول التحويل بطريق التظهير كما هو الحال في السند تحت إذن والكمبيالة والشيك المتفق فيه على الدفع لأمر شخص معين وتحرير السند لحامله نادر الوقوع في المعاملات التجارية بين التجار وبعضهم أو بين البيوتات التجارية وأقرب مثل على ذلك أوراق البنكنوت التي تدفع لحاملها فهي تتضمن سندًا لحامله بشروط خاصة.

أهمية الأوراق التجارية

وتلعب الأوراق التجارية من سندات تحت إذن وكمبيالات وشيكات وحوالات دورين مهمين في التجار (الدور الأول) التعامل بها بدلاً من النقد بين التجار في معاملاتهم اقتصادًا في الوقت وتمشيًا مع السرعة التي تصحب كل عمل تجاري واجتنابًا للمتاعب والمصاعب التي تحوط بنقل النقود الفضية أو الذهبية أو الأوراق المالية من بلدة إلى أخرى ومن مملكة إلى ثانية (الدور الثاني) أنها تتضمن اعترافًا بدين أي تعتبر كسند لإثبات الدين.

الشروط الشكلية الواجب توافرها في السندات تحت إذن

ولو أن القانون لم ينص على اعتبار السندات تحت إذن من الأوراق الشكلية أي التي يلزم تحريرها في شكل معين وبعبارات خاصة إلا أنه يشترط لصحتها وإحداث أثرها القانوني استيفاء شروط وذكر بيانات مخصوصة ولازمة يترتب على إغفالها كلها أو بعضها وجود عيب جوهري في شكل السندات وعدم اعتبارها كسندات تحت إذن بل مجرد سندات عادية تتضمن إقرارًا أو اعترافًا بدين.
وبطلان السندات تحت إذن لوجود عيب شكلي فيها بطلان مطلق ويترتب على ذلك النتيجتين الآتيتين:
الأولى: أنه يجوز لكل ذي مصلحة التمسك بالدفع بالبطلان فيجوز ذلك للمدين في السند تحت إذن والمحيل والمستفيد الأصلي والضامن الاحتياطي فيه كما يجوز للمحكمة مراعاة ذلك من تلقاء نفسها أثناء الفصل في الدفاع والحكم على مقتضى ما رتبه القانون من آثار لهذا البطلان.
الثانية: أنه يجوز التمسك به في مواجهة حامل السند الحسن النية - أي ضد الشخص المالك للسند بطريق التظهير الناقل للملكية والذي لا يعلم وقت تحويل السند إليه بالعيوب التي يتضمنها السند أو الدفوع التي يجوز الدفع بها في مواجهة المستفيد الأصلي أو المحيلين السابقين.
والبيانات التي يشترط القانون وجودها في السندات تحت إذن هي:
أولاً: وضع تاريخ للسند أي ذكر الشهر واليوم والسنة التي حرر فيها.
ثانيًا: ذكر القيمة المراد دفعها.
ثالثًا: ذكر تاريخ الاستحقاق.
رابعًا: ذكر اسم المستفيد من السند.
خامسًا: ذكر عبارة لأمر وإذن أو ما يفيد ذلك.
سادسًا: ذكر عبارة القيمة.
سابعًا: التوقيع على السند.
ولا يؤثر على صحة السندات تحت إذن اشتمالها على بيانات أخرى إضافية خلاف البيانات الجوهرية التي يلزمها القانون كذكر مبلغ معين كتعويض في حالة عدم وفاء المحرر عليه السند للقيمة في الميعاد أو التوقيع على السند من آخرين كشهود أو ذكر شرط في السند على ضرورة إثبات التخالص عنه بكتابة صادرة من الدائن المالك للسند أو باستلامه أصل السند موقعًا عليه بالتخالص وغير ذلك من البيانات الأخرى التي قد يضعها المتعاقدان على السند تحت إذن وقت تحريره والتي لا تؤثر على ماهيته وكيانه كسند تحت إذن. [(1)]

الفرق بين السندات تحت إذن والسندات العادية التي تضمن اعترافًا بدين [(2)]

ويختلف السند تحت إذن عن السند العادي الذي يتضمن اعترافًا بدين فقط في الأمور الآتية:
أولاً: يجوز للمدين في السند العادي المتضمن اعترافًا بالدين الدفع في مواجهة حامل السند الحسن النية بجميع الدفوع التي يجوز له الدفع بها في مواجهة الدائن الأصلي والمحيلين السابقين من تخالص وبطلان السند لتحريره بطريق التدليس أو لعدم وجود سبب صحيح قانوني له وغير ذلك من الدفوع بخلاف الحال في السند تحت إذن.
ثانيًا: يجوز للقاضي إعطاء مهلة قضائية للدفع أو تقسيط المبلغ في السند العادي بخلاف السند تحت إذن حيث يمنعه القانون من ذلك عملاً بنص المواد (156) تجاري أهلي، و(163) مختلط، و(157) فرنسي.
ثالثًا: عدم تضامن المحيلين أو الموقعين على السند العادي المتضمن اعترافًا بدين بخلاف الحال في السند تحت إذن.
رابعًا: لا يترتب على إجراء بروتستو عدم الدفع المعمول في الميعاد بدء سريان الفائدة عند عدم الاتفاق عن سريانها من تاريخ الاستحقاق كما هو الشأن في السند تحت إذن.
خامسًا: لا يجوز توقيع الحجز التحفظي على منقولات المدين التاجر بالسند العادي المشتمل على اعتراف بدين حتى ولو عمل عنه بروتستو عدم الدفع في الميعاد.
سادسًا: لا يجوز تحويل السند العادي بطريق التظهير إذا لم يذكر فيه عبارة لأمر وإذن أو أية عبارة أخرى تفيد ذلك.
سابعًا: لا يجوز اختصام الضامن الغير تاجر وحده أمام المحكمة التجارية في السند العادي بخلاف الحال في السند تحت إذن حيث يجوز اختصام الضامن الاحتياطي أمام المحكمة المدنية حتى ولو يختم معه المدين الأصلي في السند.
ثامنًا: لا يسقط الحق في المطالبة بالسندات العادية التي تتضمن اعترافًا بدين بمضي خمس سنوات هجرية كما هو الحال في السندات تحت إذن التجارية بل يسقط الحق بالمطالبة بالأولى بحسب الرأي الراجح بمضي خمس عشرة سنة كما سيأتي الكلام عليه بعد.
تاسعًا: عدم أحقية حامل السند العادي في الرجوع على المستفيد الأصلي والمستفيدين السابقين. [(3)]

أوجه الشبه بين السندات تحت إذن والسندات العادية المتضمنة اعترافًا بدين

وتتشابه السندات تحت إذن مع السندات العادية فيما يأتي:
أولاً: يجوز تحويل السندات العادية المشتملة على أمر وإذن أو على أية عبارة أخرى تفيد ذلك بطريق التظهير كما هو الحال في السندات تحت إذن.
ثانيًا: يتضمن كلا النوعين على اعتراف من المحرر عليه السند بالدين الوارد فيه والتزامه بوفائه.
ثالثًا: تختص المحكمة التجارية في القانون الأهلي بنظر الدعوى المرفوعة بسند تحت إذن أو بسند عادي متى كان سبب الدين تجاريًا في كلتا الحالتين وذلك إما بترتبه على معاملة تجارية أو بالتوقيع عليه من تاجر [(4)] أما في القانون المختلط فالرأي المعمول به هناك - ولو أننا لا نوافق عليه كما سيذكر بعد - هو اختصاص المحكمة التجارية بنظر الدعوى المرفوعة بسند تحت إذن مهما كان سبب تحرير السند مدنيًا كان أو تجاريًا بخلاف الحال في السند العادي فإنه يشترط لاختصاص المحكمة التجارية بنظر الدعوى عنه أن يكون سببه تجاريًا.
رابعًا: تسري سعر الفائدة التجاري في السند تحت إذن والسند العادي من كان سببًا تجاريًا.

الشروط الشكلية الواجب توافرها في السندات تحت إذن

أولاً: تحرير تاريخ السند:
يشترط القانون لصحة السندات تحت إذن ذكر تاريخ تحرير السند ويكون بذكر تاريخ اليوم والشهر والسنة الحاصل فيها تحرير السند ولا يشترط في ذلك أن يكون التحرير بالكتابة بل يكفي أن يكون بالأرقام.
وذكر اليوم والشهر والسنة ضروري لصحة التاريخ ولا يكفي في ذلك ذكر السنة أو الشهر فقط ولا يلزم لصحة التاريخ إعطائه تاريخًا ثابتًا أو تسجيله بل يكفي بيانه على السند، ويعتبر هذا البيان كافيًا لإثبات صحته حتى يُقام الدليل على العكس وذلك بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة وقرائن الأحوال.
ولا يغني عن ذكر تاريخ السند تحت إذن إجراء أي عمل قضائي آخر يذكر فيه التاريخ كالبروتستو أو إعلان صحيفة الدعوى وكذلك لا يغني عن ذلك ذكر تاريخ الاستحقاق في السند وانعدام تاريخ تحرير السند يترتب عليه بطلانه كسند تحت إذن واعتباره سندًا عاديًا متضمنًا اعترافًا بدين فقط. [(5)]
ولا يصحح عيب إغفال تاريخ تحرير السند إثبات هذا التاريخ في دفاتر التاجر المحرر لصالحه السند أو في المكاتبات التي تدور بينه وبين المدين فيه وكذلك لا يصحح هذا العيب تحويل السند في نفس تاريخ التحرير وذكر تاريخ التحويل أو الإشارة إلى السند في عقد رسمي أو عرفي ذي تاريخ ثابت عمل بين الدائن والمدين في السند. [(6)]
14 - وتقديم تاريخ السند تحت إذن أي ذكر تاريخ للسند مقدم عن تاريخه الحقيقي l’antidate يبطل السند حتى باعتباره سندًا عاديًا إذا كان المقصود من تقديم التاريخ إخفاء عدم أهلية أحد المتعاقدين أو الموقعين على السند.
إنما لا يجوز لعديم الأهلية في هذه الحالة التمسك بالبطلان في مواجهة حامل السند حسن النية إذا كان له شأن في إجراء التقديم لأنه يعتبر في هذه الحالة مدلس وغاش والقانون لا يحمي الغاش أو المدلس.
15 - وتغيير تاريخ تحرير السند لا يترتب عليه أصلاً بطلانه كما هو الحال في إغفال ذكر التاريخ أصالة إذا كان التغيير عمل باتفاق الطرفين - المدين والدائن الأصلي - بشرط ألا يكون الغرض منه إخفاء عيب متعلق بالأهلية وعدمها وبشرط ألا يؤثر على تاريخ الاستحقاق الملحوظ وقت التعاقد. [(7)]
16 - والأصل أن الدفع ببطلان السند لصدوره من غير ذي أهلية يجوز التمسك به ضد حامل السند الحسن النية لتعلقه بالنظام العام وبأحد أركان صحة التعاقد إنما لا يجوز التمسك بمثل هذا الدفع في مواجهة حامل السند إذا بنى الدفع على حصول تغيير في تاريخ السند إذا كان التاريخ الثابت والظاهر في السند يجعل المدين في حالة أهلية للتعامل والتعاقد وكان حامل السند يجهل التغيير الحاصل في التاريخ لإخفاء عيب عدم الأهلية - أي متى كان حسن النية. [(8)]
17 - ولا يعتبر تغيير تاريخ تحرير السند تحت إذن أو تقديمه تزويرًا كما هو الحال في التحاويل.
18 - ويجوز إثبات عدم صحة تاريخ تحرير السند بكافة أوجه الثبوت العادية بغير حاجة للطعن بطريق التزوير.
ثانيًا: ذكر قيمة المبلغ الواجب أداؤه:
19 - يُشترط لصحة السند تحت إذن ذكر قيمة المبلغ الواجب أداؤه ولا يلزم لذلك بيانه بالحروف والأرقام بل يكفي إثباته بالأرقام فقط ولو أن العمل جرى على ذكره بالأرقام والحروف. [(9)]
وإذا وجد خلاف بين مقدار المبلغ المبين بالحروف والمقدار المبين بالأرقام فيؤخذ بالأول دون الثاني. [(10)]
ويجب أن يكون محل التعهد مبلغًا من المال وعلى ذلك فلا يعتبر سندًا تحت إذن تعهد شخص بتوريد مقدار من القطن في وقت معين ولا يصحح من التعهد في هذه الحالة اتفاق الطرفين على التزام المتعهد بدفع مبلغ معين بصفة تعويض في حالة التقصير في الوفاء أو التأخير فيه. [(11)]
ولا يشترط ذكر نوع النقود الواجب دفعها إذ في هذه الحالة يحصل الوفاء من نوع النقود المعمول بها في زمان ومكان محل الدفع.
وإذا اتفق على الوفاء من نقود من نوع آخر خلاف نوع نقود محل الدفع ففي هذه الحالة يتعين النص على نوع النقود الواجب الوفاء بها. [(12)]
20 - ويشترط وحدة المبلغ الواجب دفعه l’unité de la detté أي تعيين مبلغ الدين الواجب دفعه وعدم ذكره مجزءًا فإذا خلا السند من وحدة المبلغ زالت عنه صفة الإذنية وأضحى سندًا عاديًا مثبتًا لاعتراف بدين. [(13)]
ولا يؤثر على وحدة المبلغ ذكر المبلغ الواجب دفعه مع الاتفاق على الفوائد بسعر معين في حالة الاستحقاق إذ يسهل في هذه الحالة احتساب الفوائد الواجب المطالبة بها بعملية حسابية بسيطة ويكون لذلك الإنفاق عليها لم يؤثر على وحدة المبلغ الواجب المطالبة به وتعيينه تعيينًا كافيًا. [(14)]
21 - ويجوز للطرفين الاتفاق على احتساب الفوائد مقدمًا وضمها إلى قيمة الدين المطالب به واتفاقهما في هذه الحالة مشروع ولا يُخالف القانون ولا يؤثر على وحدة المبلغ المطالب به. [(15)]
ثالثًا: تاريخ الاستحقاق:
22 - يشترط لصحة السند تحت إذن ذكر تاريخ الاستحقاق ويجب أن يكون هذا التاريخ معينًا ومحددًا وغير معلق على شرط توقيفي. [(16)]
فإذا علق الاستحقاق على شرط توقيفي ضاعت عن السند صفة الإذنية وأضحى سندًا عاديًا وعلى ذلك يعتبر سندًا عاديًا تعهد شخص بدفع مبلغ من المال لأمر وإذن آخر في حالة وفاة شخص معين أو في حالة قيامه بعمل عهد إليه به أو في حالة رجوعه من سياحة أو في حالة نجاحه في مشروع خاص وهكذا. [(17)]
23 - ويجب أن يكون تاريخ الاستحقاق معينًا تعيينًا نافيًا للجهالة يساعد على انتشار التداول بالسندات تحت إذن بطريق التظهير باعتبارها من أوراق التعامل التجارية ولا يعتبر تاريخ الاستحقاق معينًا تعيينًا كافيًا إذا اتفق في السند تحت إذن على أن للمدين الحق في تجديد السند عند الاستحقاق بدلاً من القيام بالوفاء ودفع قيمته [(18)]، وكذلك إذا ذكر المدين في السند أنه يتعهد بدفع المبلغ في كل مرة إذا ما toutefois et quand لعدم دلالة هذه العبارة على التعيين ولا تؤدي بجلاء إلى التعهد بالدفع عند الاطلاع أو بمجرد تقديم السند.
24 - ويشترط أن يكون تاريخ الاستحقاق واحدًا لا تواريخ متعددة ويترتب على ذلك أنه لا يجوز في السندات تحت إذن الاتفاق على دفع المبلغ مجزءًا أو على أقساط فإذا اتفق فيها على التقسيط انمحت عنها [(19)] لازمة الإذنية وأصبحت سندًا عاديًا، ولا يؤثر على ماهية السند تحت إذن المتضمن على تاريخ معين للسداد قيام المدين في السند بدفع مبلغ الدين بعد تحرير السند على أقساط باتفاق الدائن واستنزال المبلغ المدفوع من تحت الحساب على ظهر السند. [(20)]
25 - ويمكن ذكر التاريخ طبقًا لأي تقويم فيجوز ذكره على اعتبار التاريخ العبري أو الإفرنجي أو القبطي وكل ذلك بشرط أن يوضح بطريقة جلية واضحة لا تقبل الشك ولا التأويل. [(21)]
ويكون ذكر التاريخ معينًا إما بذكر تاريخ معين أو ذكر عبارة الدفع بمجرد الاطلاع على السند أو بعد مرور أيام أو أشهر معينة على الاطلاع على السند أو الدفع في عيد معين.
26 - ولا يشترط لتحديد تاريخ الاستحقاق المتفق على إجرائه في زمن معين ذكر تاريخ اليوم بل يكفي في ذلك ذكر الشهر والسنة المتفق على القيام بالسداد فيها ويكون الاستحقاق في هذه الحالة ممتدًا إلى آخر الشهر المبين في السند، ويصح بروتستو عدم الدفع إذا عمل في أول اليوم من الشهر التالي [(22)] أما إذا عمل قبل ذلك فلا يعتبر ولا يترتب عليه أي أثر قانوني لحصوله قبل تاريخ الاستحقاق.
27 - وإذا وافق حلول ميعاد دفع قيمة السند يوم عيد رسمي فدفعه يكون مستحقًا في اليوم السابق للعيد.
ولا يتعارض ذلك مع نص المادة (162) تجاري أهلي، و(169) تجاري مختلط التي تقول بضرورة إجراء بروتستو عدم الدفع في اليوم التالي لتاريخ الاستحقاق لحفظ حقوق حامل السند التي رتبها له القانون وكل ما هنالك أن السند يكون واجبًا الدفع في اليوم السابق ليوم العيد أو العطلة والبروتستو يعمل في اليوم اللاحق ليوم العيد أو العطلة. [(23)]
28 - واختلف في ميعاد الاستحقاق في السندات تحت إذن المستحقة الدفع بمجرد الاطلاع على السند حيث يقول البعض إنه يندمج في تاريخ تحريرها ويقول البعض الآخر أنه يكون في تاريخ تقديمها والمطالبة بها ونرى التمييز بين حالتين:
الحالة الأولى: مبدأ تاريخ الاستحقاق في حالة التمسك بسقوط الحق بالمطالبة بقيمة السند المستحق الدفع وقت الاطلاع أو بمجرد الطلب.
الحالة الثانية: مبدأ تاريخ الاستحقاق في حالة المطالبة بقيمة السند وأحقية حامل السند في المطالبة به من عدمه ففي الحالة الأولى يعتبر تاريخ الاستحقاق مندمجًا في تاريخ تحرير السند وتبدأ مدة السقوط من اليوم التالي لهذا التاريخ وهو اليوم الواجب فيه عمل بروتستو عدم الدفع أما في الحالة الثانية فيعتبر تاريخ الاستحقاق من تاريخ تقديم السند للمطالبة بقيمته [(24)]، وهناك حالة أخرى وهي الخاصة بتعيين ميعاد الاستحقاق في هذه السندات ضد التحاويل وما يترتب على ذلك من اعتبار التحاويل ناقلة للملكية من عدمه وسنتكلم عليها بعد شرح التحاويل.
29 - وعبارات مجرد الاطلاع à vue أو عند تقديم السند a présentation ليست لازمة sacramentelles في السندات تحت إذن المستحقة الدفع عند الاطلاع بل يكفي لاعتبار ذلك كل عبارة يُستفاد منها هذه الرغبة كالنص في السند على الدفع بمجرد المطالبة بقيمته أو بمجرد أول مطالبة بقيمته أو على عبارة تحت الطلب وغير ذلك من العبارات التي تؤدي إلى دفع السند بمجرد تقديمه للمدين. [(25)]
30 - وإذا نص في السند على ميعاد دفع القيمة بعد يوم أو أكثر أو شهر أو أكثر من وقت الاطلاع عليه فيعتبر هذا الميعاد من تاريخ تأشير المدين على السند بما يفيد الاطلاع عليه والتوقيع على ذلك من جديد أو من تاريخ بروتستو يعمل للمدين في هذه الحالة. [(26)]
31 - والأصل كما تقدم أن تاريخ الاستحقاق يكون طبقًا للقوانين المعمول بها في البلد المستحق دفع المبلغ فيه وطبقًا للتقويم المعمول به هناك إلا إذا اتفق على عكس ذلك. [(27)]
32 - وعدم ذكر تاريخ الاستحقاق ولو أنه يترتب عليه اعتبار الدين حالاً وواجب الأداء وأحقية حامل السند في المطالبة بقيمته بمجرد تقديمه ثم استصدار حكم به في حالة التقصير في الوفاء إلا أنه يعيب السند ويترتب على ذلك اعتباره كسند دين عادي لفقدانه بيان من البيانات الجوهرية التي ألزمها القانون لصحة السند تحت إذن من حيث الشكل. [(28)]
رابعًا: ذكر اسم المستفيد من السند:
33 - يُشترط لصحة السند تحت إذن ذكر اسم المستفيد من السند أي الدائن الأصلي فيه أو الإشارة إلى أن الدفع يكون لحامله.
والمستفيد إما أن يكون شخصًا طبيعيًا أو اعتباريًا، وذكر الشخص الاعتباري يكفي لتعيين اسم المستفيد من السند.
وعدم ذكر اسم المستفيد في السند تحت إذن يترتب عليه بطلان السند واعتباره كسند عادي ولا يرد على ذلك أن الإغفال عن ذكر الاسم معناه أن يكون السند لحامله.
خامسًا: ذكر عبارة لأمر وإذن:
34 - عبارة لأمر وإذن لازمة لصحة السندات تحت إذن ويترتب على إغفالها وجود عيب جهري في السند واعتباره كسند عادي كما تقدم وعلى ذلك فيعتبر سندًا عاديًا السند الذي ثبت به أن الدفع يكون لشخص يعين بالذات[(29)].

محمد علي راتب
مفتش لجنة المراقبة القضائية


[(1)] استئناف مختلط في 23 ديسمبر 1912 الجازيت 3 صـ 1364، و19 يناير 916 الجازيت 6 صـ 73 - 228.
[(2)] استئناف مختلط في 31 يناير 934 المجموعة 46 صـ 146.
[(3)] استئناف مختلط في 1 فبراير سنة 910 المجموعة 22 صـ 142.
[(4)] مصر تجاري جزئي أهلي في 3 أكتوبر سنة 940 في القضية رقم (2282) سنة 94 المرفوعة من صمويل كوهين ضد حافظ وعثمان مصطفى ولم ينشر بعد.
[(5)] ليون كان ورينو جزء 4 صـ 343 نبذة (بواسيل 725)، وبيرسيل صـ 33، وبيداريد جزء 1 صـ 6 وفوجويه جزء 4 نبذة 1234.
[(6)] يراجع عكس ذلك حكم منم في 5 يوليه 1819 سيريه 1819 ويقول بأن إغفال ذكر التاريخ لا يعيب السند تحت إذن إذا كانت ظروف تحرير السند لا يترتب عليها تغيير في الحق الثابت في السند وهذا الحكم مرجوح وغير معمول به.
[(7)] استئناف مختلط في 28 نوفمبر 1928 المجموعة 40 صـ49.
[(8)] استئناف مختلط في 21 ديسمبر 904 المجموعة 17 صـ 42.
[(9)] بيرسيل 231 بارديسيه 334 وليون كان جزء 4 نبذة 80 دالوز 2 جزء 4 نبذة 1235.
[(10)] بيرسيل 331 وفوجيه جزء 1 نبذة 122 وليون كان جزء 4 صـ60.
[(11)] استئناف مختلط في 4 يناير سنة 905 المجموعة 17 صـ 55 في 18 يناير سنة 1905 المجموعة 18 صـ 9.
[(12)] دالوز جزء 4 نبذة 1235 وفوجيه جزء 1 نبذة 127.
[(13)] استئناف مختلط في 27 مارس 1889 المجموعة السنة الأولى صـ 113 و14 نوفمبر سنة 1889 المجموعة السنة الأولى صـ 320 و4 ديسمبر سنة 1939 المجموعة 42 صـ 67 و18 نوفمبر سنة 912 المجموعة 25 صـ 28.
[(14)] النقض الفرنسي في 5 فبراير سنة 1868 دالوز 68 جزء 1 صـ 386.
[(15)] حكم محكمة بورج في 27 يناير سنة 1857 دالوز 57 جزء 2 صـ 68.
[(16)] استئناف مختلط في 4 يناير سنة 1905 المجموعة 17 صـ 55 و4 ديسمبر سنة 1929 المجموعة 42 صـ 67.
[(17)] ريوم أول يونيه سنة 1846 دالوز 47 جزء 2 صـ 47.
[(18)] باريس في 2 فبراير سنة 1830 سيريه 1830.
[(19)] استئناف مختلط في 18 ديسمبر سنة 929 المجموعة 42 صـ 111 و4 ديسمبر سنة 929 المجموعة 42 صـ 67، ومصر جزئي أهلي تجاري في 18 إبريل 940 المحاماة.
[(20)] استئناف مختلط في 7 نوفمبر سنة 934 المجموعة 47 صـ10.
[(21)] إسكندرية جزئي مختلط في 30 نوفمبر سنة 1916 الجازيت 7 صـ 150052.
[(22)] استئناف مختلط في 29 إبريل 924 الجازيت 14 صحائف 231 - 327.
[(23)] استئناف مختلط في 22 مارس 1887 r. o. xxi 814.
[(24)] استئناف مختلط دوائر مجتمعة في 22 يناير سنة 1930 المجموعة 42 صـ 206 و30 يناير سنة 1935 المجموعة 27 صـ 137.
[(25)] بيزانسون في 8 ديسمبر 1897 دالوز 1899 جزء 2 صـ 421.
[(26)] باريس في 10 يناير 1893 الباندكت 93 جزء 2 صـ 124.
[(27)] ليون كان ورينو جزء 4 نبذة 655 وبراتيل نبذة 723.
[(28)] ليون كان ورينو تجاري جزء 4 صـ 422، واستئناف مختلط في 3 يناير 935 المجموعة 47 صـ 87.
[(29)] بارديسة pardesuss جزء 2 نبذة 339 وتوجيه جزء 2 نبذة 195 وليون كان ورينو جزء 4 نبذة 27 وبرافاررديجا نحياه جزء 3 صـ 71.

قضاء الأمور المستعجلة

مجلة المحاماة – العدد العاشر
السنة السابعة عشرة1937

قضاء الأمور المستعجلة [(1)]

سادتي وأخواني،
دفعني إلى اختيار هذا الموضوع عاملان قويان:
الأول: أهمية القضاء المستعجل في ذاته ثم بالنسبة لما يعرض عليه في كل يوم من القضايا العديدة وكثير منها مبتكر حديث.
الثاني: الإبهام والغموض اللذان يحوطان بهذا القضاء في المحاكم الأهلية ويجعلان اختصاصه محل جدل ومناقشة ومحل خلاف في الرأي أيضًا من جانب من يتولونه من القضاة.
والخلاف القائم بشأن تحديد دائرة القضاء المستعجل أمام المحاكم الأهلية يرجع إلى سببين أحدهما عام والثاني خاص:
أما الأول: فهو إجمال النص التشريعي المنشئ للقضاء المستعجل فالمادة (806) من قانون المرافعات الفرنسي تقول:

(Dans tous les cas d’urgence où lorsqu’il s’agira de statuer provisoirement sur les difficutltés relatives à l’exécution d’un titre exécutoire ou d’un jugement, il sera procédé ainsi qu’il va être réglé ci - après).

والمادة (34) من قانون المرافعات المختلط تقول:

(Le Tribunal des référes………….. statuera… tant en matière civile que commerciale sur les mesures urgentes à prendre sans préjudice du fond et sur l’exécution des jugements sans préjudice des questions d’interprétation.

والمادة (28) من قانون المرافعات الأهلي تقول:
(يحكم قاضي الأمور المستعجلة……. في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ………. ويحكم أيضًا في الأمور المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت).
وهذه النصوص لم تحدد المسائل المستعجلة ولا المنازعات الخاصة بالتنفيذ تحديدًا يجعلها بعيدة عن النزاع أو على الأقل يقلل من النزاع الذي يقوم بشأنها.
أما الثاني: وهو خاص بالتشريع المصري الأهلي فهو أن المشرع المصري عندما وضع نظام القضاء أمام المحاكم الأهلية لم يجعل (كما فعل أمام المحاكم المختلطة) الفصل في الأمور المستعجلة من اختصاص قاضٍ خاص بها بل جعلها من اختصاص القاضي الجزئي علاوة على اختصاص العادي وتظهر أهمية هذا السبب الثاني وتأثيره في حقوق المتقاضين عندما يتفق المتخاصمان على اختصاص قاضي الأمور المستعجلة بالفصل في المنازعات الموضوعية ويدفع المدعي عليه بعدم الاختصاص بناءً على أن اختصاص قاضي الأمور المستعجلة من النظام العام ويترتب على ذلك بطلان الاتفاق على تحكيمه في المسائل الموضوعية فيرد المدعي على هذا الدفع بأنه تحصيل حاصل لأنه ما دام القانون قد سمح بتحكيم القاضي الجزئي وجعله مختصًا باتفاق الخصوم بالفصل نهائيًا في المنازعات مهما كانت قيمتها وما دام أن القاضي الجزئي هو قاضي الأمور المستعجلة فلا تكون للمدعي عليه أية مصلحة من دفعه، وكثير من القضاة يتبع هذا الرأي ويقولون بتحكيم الذوق السليم في المسألة وهذا الذوق السليم في نظرهم يقضي بعدم التفرقة بين قاضي الأمور المستعجلة والقاضي الجزئي.
والحق يقال إني لا أستطيع أن أفهم كيف تهمل نصوص القانون الصريحة ويعمل بالذوق السليم.
أنا أفهم أن الذوق السليم يستخدم في تقدير الوقائع وتكييفها وفي تطبيق نصوص القانون على الوقائع، أما الحكم بالذوق السليم وحده مع وجود النص القانوني فمعناه أن القاضي يشرع لنفسه، وهذه الطريقة لو انتشر استعمالها يكون لها نتائج في غاية الخطورة على النظام القضائي لأن أمور الناس تصبح تحت رحمة ذوق القاضي وهو شيء مجهول وغير خاضعة لأحكام القانون المعروفة ويترتب عليها أيضًا أن تسقط قيمة القانون في عيون الناس وتنعدم في نفوس المشتغلين به ملكة البحث والاجتهاد.
ما هو قضاء الأمور المستعجلة؟
لم يعطِ له تعريف ما لا في القانون الفرنسي ولا في القانون المصري وفي اعتقادي أن التعريف الجامع المانع هو:
(القضاء المستعجل هو الفصل قضائيًا بإجراءات سريعة في طلب اتخاذ إجراء وقتي لمنع وقوع ضرر يتعذر إصلاحه بفوات الوقت بشرط أن لا يمس هذا الإجراء أصل الحق المتنازع بشأنه، وفي طلب الفصل في الإشكالات المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ بشرط عدم التعرض لتفسيرها).
حكمة وضع هذا النظام:
والحكمة من وضع هذا النظام هي ضرورة إيجاد قضاء مؤقت ذي إجراءات سريعة لحماية الحقوق المهددة بالخطر العاجل ولضمان عدم تعطيل تنفيذ الأحكام ذلك التنفيذ الذي بدونه لا تكون هناك قيمة للأحكام والسندات الواجبة التنفيذ وتضيع على أصحابها مجهوداتهم وما صرفوه في سبيل الحصول عليها.
ما يترتب على أحكام القضاء المستعجل:
كل ما يصح أن يترتب على هذه الأحكام هو إجراء مؤقت يأمر به القضاء لحماية الحقوق المتنازع بشأنها من الأخطار التي تتهددها إذا تركت من غير هذا الإجراء أو يأمر به لإخلاء طريق التنفيذ من العقبات أو لوقف التنفيذ متى كان غير واجب.
ولا يصح أن يترتب على الحكم المستعجل أي مساس بأصل الحق المتنازع بشأنه أو أي تفسير للأحكام والسندات الواجبة التنفيذ.
ومعنى ذلك أن يكون للخصوم دائمًا حق الالتجاء إلى قاضي الموضوع وعرض موضوع النزاع عليه ليفصل فيه ويكون حكمه ملغيًا أو مؤيدًا لما قضى به القاضي المستعجل من الإجراءات الوقتية والمثل الظاهر لهذه القاعدة هو الدعوى المستعجلة بطلب إيقاف التنفيذ والدعوى الموضوعية بطلب بطلان إجراءات التنفيذ فإذا حكم برفض طلب إيقاف فلا يترتب على ذلك الحكم بعدم قبول دعوى البطلان وإذا حكم بإيقاف التنفيذ فلا يترتب على ذلك حتمًا الحكم ببطلان الإجراءات.
كذلك الحال في الدعوى المستعجلة بوقف البناء فالحكم بوقف البناء بناءً على حق ظاهر لا يمنع قاضي الموضوع من الحكم بعدم وجود الحق ولا غرابة في ذلك كله لأن قاضي الأمور المستعجلة ليس له في دائرة الاختصاص القضائي ما لقاضي الموضوع من سلطة ووقت غير محدودين لتحري حقيقة الواقع فيما يدعيه الخصوم.
كيف أدخل الشارع المصري هذا النظام في مصر؟
عندما وضع الشارع المصري قانون المحاكم المختلط أدخل فيه نظام القضاء المستعجل مأخوذًا عن القانون الفرنسي، فبالرجوع إلى قانون المرافعات الفرنسي نجد ما يأتي.
(فالمادة (806) تقول:
في جميع الأحوال المستعجلة أو في حالة طلب الحكم بصفة مؤقتة في المنازعات المتعلقة بتنفيذ السندات الواجبة التنفيذ أو بتنفيذ حكم يتبع ما يأتي من الإجراءات والمادة (807) تقول:
يقدم الطلب في جلسة يعقدها لهذا الغرض رئيس المحكمة الابتدائية أو القاضي الذي ينوب عنه في اليوم والساعة المحددين من المحكمة).
والمادة (808) تقول:
(إذا كانت الحالة تدعو إلى الاستعجال يجوز لرئيس المحكمة أو من يقوم مقامه أن يرخص بحضور الأخصام في الجلسة أو في منزله في الساعة التي يحددها ولو كان ذلك في أيام الأعياد).
والمادة (809) تقول:
(لا تمس الأحكام الصادرة في المواد المستعجلة أصل الحق وتكون قابلة للنفاذ العاجل بلا كفالة إذا كان القاضي لم يأمر بتقديمها، ولا تقبل المعارضة في هذه الأحكام ويجوز استئنافها قبل مضي ثمانية أيام من تاريخها ولا يكون استئنافها مقبولاً إذا رفع بعد مضي خمسة عشر يومًا من تاريخ إعلانها).
والمادة (810) تقول:
(تودع أصول الأوامر المستعجلة بقلم الكتاب).
والمادة (811) تقول:
(يجوز للقاضي في حالة الضرورة القصوى أن يأمر بتنفيذ أمره بنسخته الأصلية) ثم بمراجعة قانون المرافعات أمام المحاكم المختلطة نجد.
(المادة (26) منه تقول:
المحاكم التي تحكم ابتدائيًا هي:
1 - المحاكم الجزئية.
2 - المحاكم المدنية.
3 - المحاكم التجارية.
4 - محكمة الأمور المستعجلة.
والمادة (34) منه تقول:
(تتشكل محكمة الأمور المستعجلة من قاضٍ تعينه المحكمة ويفصل بموجهة الأخصام في المسائل المدنية والتجارية في طلب اتخاذ الإجراءات المستعجلة بدون مساس بأصل الحق وفي المسائل المتعلقة بتنفيذ الأحكام بدون تعرض لتفسيرها).
والمادة (136) تقول:
(يعقد رئيس محكمة الأمور المستعجلة في الأيام والساعات التي ستحدد في اللائحة جلسات يعرض عليه فيها أمر الفصل في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ وفي طلب اتخاذ إجراءات وقتية بدون مساس بأصل الحق).
والمادة (137) تقول:
تعلن طلبات الحضور قبل ميعاد الجلسة بيوم كامل.
والمادة (140) تقول:
(في الأحوال الأخرى التي تستوجب استعجالاً مطلقًا يكون للقاضي أن يأمر بإجراء الإعلان لحضور الأخصام بالجلسة أو في منزله بميعاد ساعة ولو كان ذلك في أيام الأعياد).
والمادة (142) تقول:
(لا تمس الأوامر المستعجلة مطلقًا بأصل الحق).
والمادة (143) تقول:
(تكون واجبة التنفيذ تنفيذا مؤقتًا بلا كفالة إلا إذا أمر بها القاضي)
والمادة (144) تقول:
(لا يجوز الطعن فيها بطريق المعارضة).
والمادة (145) تقول:
(يجوز للقاضي أن يأمر بأن يكون تنفيذ الأمر بنسخته الأصلية إذا رأى ضرورة لذلك)
والمادة (146) تقول:
(تودع أصول الأوامر المستعجلة بقلم الكتاب)
والمادة (407) تقول:
(يقصر الميعاد (ميعاد الاستئناف) إلى خمسة عشر يومًا في الأمور المستعجلة).
وبالرجوع إلى قانون المرافعات الأهلي نجد:
المادة (28) تقول:
(وكذلك يحكم قاضي الأمور الجزئية بمواجهة الأخصام في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ بشرط أن لا يتعرض في حكمه لتفسير تلك الأحكام ويحكم أيضًا في الأمور المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت بحيث لا يكون لحكمه تأثير في أصل الدعوى).
المادة (36) تقول:
(يجوز تكليف المدعى عليه بالحضور أمام قاضي المواد الجزئية بمقتضى علم خبر في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ وكذلك في الأمور المبينة في المادة (28))
والمادة (39) تقول:
(إذا حصلت المنازعات المذكورة في المادة (36) في وقت التنفيذ وجب على المحضر أن يكلف المدعى عليه بالحضور في ميعاد قصير ولو بميعاد ساعة واحدة ويكتب ذلك في محضر التنفيذ).
والمادة 49/ 2 تقول:
(وكذلك يجوز تكليف المدعى عليه بالحضور أمام المحكمة في ميعاد ساعة واحدة في المواد التجارية والجزئية في حالة شدة الضرورة على حسب ما يرى القاضي).
والمادة (355) تقول:
(يكون ميعاد الاستئناف خمسة عشر يومًا في الأحكام الصادرة في المنازعات المتعلقة بالتنفيذ وفي الأمور المستعجلة المبينة في المادة (28)).
والمادة (395) تقول:
(التنفيذ المؤقت يكون واجبًا لكافة الأحكام الصادرة من محاكم المواد الجزئية في المنازعات والأمور المذكورة في المادة (28).
والمادة (396) تقول:
(وفي الأحوال المستوجبة للاستعجال أو التي يخشى من تأخيرها حصول ضرر يجوز للمحكمة أو لقاضي المواد الجزئية الأمر بأن التنفيذ يكون بموجب نسخة الحكم الأصلية).
وبمقارنة نصوص هذه القوانين الثلاثة يتضح ما يأتي:
1 - إن قاضي الأمور المستعجلة في فرنسا هو رئيس المحكمة المدنية أو من ينوب عنه وفي المحاكم المختلطة هو القاضي الذي تندبه المحكمة الابتدائية وفي المحاكم الأهلية هو قاضي المواد الجزئية.
2 - في فرنسا والمحاكم المختلطة لقاضي الأمور المستعجلة دائرة خاصة وفي المحاكم الأهلية تدخل القضايا المستعجلة في دائرة المواد الجزئية.
3 - في فرنسا والمحاكم المختلطة لا تجوز المعارضة في الأحكام الغيابية الصادرة من قاضي الأمور المستعجلة أما في المحاكم الأهلية فهي قابلة للمعارضة لعدم وجود نص على الحرمان منها.
4 - في فرنسا والمحاكم المختلطة تستأنف الأحكام المستعجلة أمام محكمة الاستئناف وفي المحاكم الأهلية تستأنف أمام المحكمة الابتدائية كباقي الأحكام الجزئية.
ومما تقدم يتبين أن نظام المحاكم المختلطة يكاد يكون مطابقًا في كلياته وجزئياته لنظام المحاكم الفرنسية أما المحاكم الأهلية فلها نظام خاص شاذ هو دائمًا مثار للتردد والحيرة.
الفرق بين القضاء العادي والقضاء المستعجل:
من مقارنة النصوص السالفة الذكر الخاصة بالأمور المستعجلة بالنصوص الأخرى الخاصة بالأمور الموضوعية نتبين الفروق الآتية (في التشريع الأهلي).
1 - قصر مواعيد الإعلان بالحضور، فهي في القضاء المستعجل أقصر من مثلها أمام المحاكم الموضوعية.
2 - في النفاذ، فإن الأحكام المستعجلة واجبة النفاذ المعجل ولو لم ينص فيها على ذلك بخلاف الأحكام الأخرى فإنها لا تكون واجبة النفاذ معجلاً إلا في أحوال مخصوصة كما أن الأحكام المستعجلة يصح تنفيذها بنسختها الأصلية وهذا أمر غير جائز بالنسبة للأحكام الأخرى.
3 - ميعاد الاستئناف، هو خمسة عشر يومًا بالنسبة للأحكام المستعجلة مع أنه ثلاثون يومًا بالنسبة للأحكام الجزئية وستون يومًا بالنسبة للأحكام الابتدائية.
يضاف إلى هذه الفوارق فارق عظيم وهو أن الأحكام المستعجلة لا تحوز قوة الشيء المحكوم فيه بالمعنى المعروف بالنسبة للأحكام الأخرى كما أن الأحكام المستعجلة تفقد مفعولها بزوال توقيتها أو بصدور حكم نهائي في الموضوع.
الدعوى المستعجلة هي دعوى ككل الدعاوى الأخرى:
يجب أن يتوفر في الدعوى المستعجلة ما يجب أن يتوفر في كل دعوى أخرى من أركان ثلاثة:
1 - الحق Droit.
2 - الصفة Qualité.
3 - المصلحة Intérêt .
ومن حق القاضي المستعجل بل من واجبه أن يتحقق قبل الحكم في الدعوى من توفر هذه الأركان فإذا وجدها متوفرة حكم في موضوع الطلب وإذا وجدها غير متوفرة كلها أو بعضها يقضي بعدم قبول الدعوى أو برفضها.
ويجب أن تتوفر هذه الأركان حتى في دعوى إثبات الحالة التي يقصد بها مجرد الحصول على دليل في الدعوى الموضوعية المزمع رفعها فيما بعد.
ولا يصح القول بأن بحث قاضي الأمور المستعجلة في توفر ركن الحق هو بحث موضوعي خارج عن اختصاصه ذلك لأن القاضي المذكور عند تعرضه للبحث في الحق لا يتعمق في بحثه بل يكتفي بقيام الدليل على احتمال وجود الحق ولنضرب لهذه المسألة مثلاً.
إذا جاء شخص وطلب إثبات حالة زراعة لحقها ضرر من فعل شخص آخر ولم تكن هذه الزراعة مملوكة له ولا له أي حق عليها فالقاضي يحكم في هذه الحالة بعدم قبول دعواه أو برفضها أما إذا ادعى أن له حقًا عليها ونازعه خصمه في دعواه فإن القاضي ينظر في حجج الطرفين وأدلتهما فإذا استخلص من ظاهرها ما يدل على احتمال وجود الحق يقبل الدعوى ويفصل فيها، أما إذا وجدها لا تؤيد هذا الاحتمال فإنه يقضي برفضها.
وكذلك يكون الحال بالنسبة للبحث في توفر ركني الصفة والمصلحة.
تحديد اختصاص قاضي الأمور المستعجلة:
يجب أن يلاحظ أن القاعدة العامة Tout tribunal est juge de sa competence) تنطبق أيضًا على قاضي الأمور المستعجلة.
فهو إذا صاحب السلطة في تحديد اختصاصه وحكمه خاضع لرقابة المحكمة الاستئنافية بطبيعة الحال، ولقد تبين مما تقدم بأن نصوص التشريعين الفرنسي والمصري جعلت اختصاص القاضي المستعجل محصورًا في أمرين.
1 - المسائل المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت.
2 - المنازعات المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ.
وأنها قيدت الأمر الأول بعدم المساس بأصل الحق وقيدت الأمر الثاني بعدم تفسير الأحكام ويتضح من ذلك أن المنازعات المتعلقة بتنفيذ الأحكام تعتبر في ذاتها وبطبيعتها من اختصاص القاضي المستعجل.
أما المسائل الأخرى التي يخشى عليها من فوات الوقت فيجب أن يتوفر فيها شرط الاستعجال وهذا الاستعجال معناه الخطر من فوات الوقت وهذا الخطر يجب أن يكون محققًا ومهددًا بالوقوع في أقرب وقت.
فإذا لم يكن هناك خطر أو كان الخطر غير محقق أو كان وقوعه غير منتظم في الحال أو في وقت قريب خرجت المسألة عن اختصاص القاضي المستعجل.
ولقد كان قضاء المحاكم المختلطة صريحًا حاسمًا في هذه المسألة فإذا وصفت الدعوى بصفة الاستعجال وقبل المدعي تأجيلها أجلاً واسعًا اعتبرها القاضي غير مستعجلة.
وكذلك الحال إذا سكت المدعي عن رفع الدعوى مدة طويلة من الزمن واحتمل خطر الانتظار اعتبرت دعواه غير مستعجلة.
وبكل أسف أقول إن في القضاء الأهلي في كثير من الأحيان لا يشعر القاضي الجزئي بحكمة الاستعجال فيؤجل الدعوى عدة جلسات للمرافعة ويؤجلها عدة جلسات للحكم.
وأعرف قضية حراسة كنت أترافع فيها عن المدعى عليه مكثت أمام القاضي تسعة شهور تقريبًا ثم صدر فيها حكم تمهيدي بتعيين خبير لمراجعة الحساب، واسمحوا لي أن أسرد لكم على سبيل التمثيل بعض المسائل الداخلة بلا خلاف في اختصاص القاضي المستعجل.
1 - المسائل المستعجلة:
1/ المنازعات الخاصة بإجراء الإصلاحات الوقتية وتمكين المالك من فعلها رغمًا من ممانعة المستأجر.
2/ إيقاف البناء على أرض ليس للباني عليها حق البقاء أو للغير عليها حق ارتفاق ثابت يقضي بتركها بلا بناء.
3/ هدم البناء الآيل للسقوط والمهدد لحياة الغير بالخطر أو اتخاذ الاحتياط اللازم لمنع سقوطه.
4/ إيقاف البناء الذي يقوم به المقاول مخالفًا للشروط.
5/ إخراج المستأجر من المنزل لإجراء إصلاحات مستعجلة أو هدم محكوم به.
6/ إخراج المستأجر من العين المؤجرة بعد نهاية الإيجار أو بعد أن أصبح العقد مفسوخًا بحكم أو بنص العقد بدون حاجة إلى حكم.
7/ تسليم العين لصاحب الصفة في إدارتها أو لمالكها بعد الحكم له بذلك.
8/ إثبات الحالة وتقدير التعويض بمعرفة خبير.
9/ بيع المنقولات المحجوز عليها وإيداع ثمنها بالخزينة.
10/ تعيين الحارس القضائي وتحديد مأموريته.
2 - المسائل المتعلقة بالتنفيذ:
1/ إيقاف تنفيذ الأحكام أو السندات الواجبة التنفيذ.
2/ رفع الحجز الباطل.
3/ إيداع ثمن المبيع بخزانة المحكمة.
ولا يفوتني أن أقول إن المنازعات المتعلقة بالتنفيذ يدخل فيها ما هو متعلق بالشكل وما هو متعلق بالموضوع فالأولى كتحدي المحكوم عليه بعدم توافر شروط التنفيذ لانعدام التنبيه السابق مثلاً أو لعيب في إجراءاته كالتنفيذ على عقار (ماكينة ري ملتصقة بأرض مملوكة للمدين) بطريق التنفيذ على منقول والثانية كأن يدعى المحكوم عليه براءة ذمته من الدين بالتخالص أو كان يثير نزاعًا بشأن حقيقة ما قصدته المحكمة من حكمها.
فالمنازعات المتعلقة بإجراءات التنفيذ الشكلية هي وحدها التي تدخل في اختصاص قاضي الأمور المستعجلة وأما المنازعات الموضوعية فتكون من اختصاص المحكمة الموضوعية التي أصدرت الحكم (مادة (386) مرافعات) أو أي محكمة أخرى تنظر في النزاع الجديد.
ويجب على قاضي الأمور المستعجلة أن يبتعد عن المساس بقوة الشيء المحكوم فيه وعن تفسير الاتفاقات وعن التعرض لأصل الحق المتنازع فيه.
ويخرج عن اختصاصه:
1 - تصحيح الخطأ المادي الواقع بالحكم أو التعرض لتفسيره.
2 - اعتبار العقد مفسوخًا في حالة ما إذا كان هذا الفسخ غير متفق على حصوله بدون حاجة إلى حكم قضائي.
3 - إثبات مخالفة المتعهد لالتزاماته إذا كانت المخالفة تستدعي أبحاثًا ومناقشات موضوعية.
4 - الفصل في صحة العقود أو بطلانها.
5 - الحكم بتقديم كفالة إذا كان الحكم مشمولاً بالنفاذ بغيرها.
6 - إعطاء مهلة للمحكوم عليه لدفع المبلغ.
7 - الأمر بتنفيذ الحكم على شخص غير محكوم عليه.
8 - الحكم ببطلان إجراءات التنفيذ.

هل يزول اختصاص القاضي المستعجل إذا كانت هناك دعوى موضوعية منظورة في الوقت نفسه؟

المسألة خلافية:
ولكن الرأي الواجب العمل به هو أنه متى كان هناك خطر يدعو للسرعة والاستعجال فإن القاضي المستعجل يكون مختصًا رغمًا من قيام دعوى موضوعية أمام محكمة أخرى.
هل هذا الاختصاص من النظام العام؟
هو بلا جدال كذلك
والمسألة ليست خلافية في التشريع الفرنسي والتشريع المختلط ولكن بكل أسف فإن بعض المحاكم الأهلية لا يعتبره كذلك ويعتمد على أن الاختصاص المعتبر من النظام العام هو المنصوص عنه في المادة (15) والمادة (16) من لائحة الترتيب كما تقضي بذلك المادة 134/ 2 مرافعات أهلي.
وهذا خطأ ظاهر لأن اختصاص القاضي المستعجل هو من النظام العام بحكم تحديده في المادة ((28) مرافعات) التي تقول:
(……. بشرط أن لا يتعرض في حكمه لتفسير تلك الأحكام…… وبحيث لا يكون لحكمه تأثير في أصل الدعوى).
ومتى كان التشريع الفرنسي والمختلط يعتبران هذا الاختصاص من النظام العام وجب اعتباره كذلك في التشريع الأهلي لأنها كلها متفقة في تحديد هذا الاختصاص.
وكون القاضي الجزئي هو المختص أيضًا بالأمور المستعجلة لا يحمل مطلقًا على الخلط بين الاختصاصين.
مثل القاضي الجزئي وهو يعمل كقاضي للأمور المستعجلة كطبيب الإسعافات الوقتية هو في ذاته يستطيع أن يقوم بعمل العمليات الجراحية ولكنه باعتباره طبيب إسعاف لا يستطيع أن يفعل أكثر من ثم يرسل المصاب إلى المستشفى لعمل العملية اللازمة له.
هو مثل الآلة التي تستطيع أن تدور مائة دورة في الدقيقة مثلاً ولكنها تربط لتدور خمسين فقط هو كالممثل الذي يستطيع أن يمثل دورين مختلفين ولكنه متى لبس ثياب أحدهما لا يستطيع أن يمثل بها الدور الآخر.
ويجب أن لا يفهم من قول الشارع في المادة (28) مرافعات أهلي (وكذلك يحكم قاضي المواد الجزئية في المنازعات المستعجلة) أن الشارع قصد أن يخلط بين القضاء في الأمور المستعجلة والقضاء في المواد الجزئية، كلا، بل أنه قصد مجرد إحالة أمر الفصل في الأمور المستعجلة إلى القاضي الجزئي بطريق الندب القانوني.
ماذا يترتب على اعتباره من النظام العام؟
يترتب على هذا الاعتبار:
1 - عدم جواز اتفاق الخصوم على ما يخالفه فإن اتفقوا على مخالفته كان اتفاقهم باطلاً وكان لأي طرف منهم حق التحدي بهذا البطلان.
2 - جواز حكم القاضي من تلقاء نفسه بعدم اختصاصه.
3 - حق التمسك بعدم الاختصاص في أي حالة كانت عليها الدعوى وفي جميع أدوار التقاضي.
سادتي وإخواني،
أرجو أن أكون قد وفقت إلى أن أقدم لكم صورة صحيحة مصغرة عن القضاء المستعجل ومدى اختصاصه وإلى تنبيه الأذهان إلى أهمية هذا الاختصاص ووجوب وضعه في دائرته الحقيقية وإني أشكر لكم تفضلكم بالاستماع إلى هذا الحديث القانوني، والسلام عليكم ورحمة الله.


[(1)] محاضرة ألقاها حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد بك زكي علي المحامي (والمستشار بمحكمة استئناف مصر الأهلية حالاً) على المحامين تحت التمرين في يوم 5 مارس سنة 1926 بقاعة محكمة الاستئناف الأهلية، طلب منا نشرها بمناسبة العناية الموجهة إلى القضاء المستعجل في الوقت الحاضر، وما أضحى له من مكانة في المحيط القضائي، ومعلوم أنه قد استحدث الآن وبقرار من وزير الحقانية أمام محكمتي مصر وإسكندرية الأهليتين نظام القضاء المستعجل مستقلاً عن القاضي الجزئي فكانت له مميزاته وثمراته.

سقوط الحكم الغيابي

مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة التاسعة 1929

سقوط الحكم الغيابي
Péremption du jugement par défaut

المؤلف : عبد العزيز محمد

النصوص ومشروعيتها - الأحكام التي يسري عليها النص - ما هو التنفيذ المقصود في (م 344) - تعدد المحكوم عليهم - قبول الحكم - أثر سقوط الحكم - التنازل عن التمسك بالسقوط - حساب المدة
1 - تنص المادة (344) من قانون المرافعات على أن الحكم الصادر في غيبة الخصم يبطل ويعتبر كأنه لم يكن إذا لم يحصل تنفيذه في ظرف ستة أشهر من تاريخه. وكذلك تنص المادة (389) مرافعات مختلط المعدلة بقانون نمرة (83) سنة 1913.
(تُبطل الأحكام الغيابية بقوة القانون إذا لم يبدأ في تنفيذها في بحر ستة أشهر من تاريخ صدورها إلا إذا استحال ماديًا إجراء هذا التنفيذ وكانت هذه الاستحالة ثابتة بمحضر محرر على وجه صحيح). أما القانون الفرنسي فإنه يفرق بين نوعين من الأحكام الغيابية: الأحكام الغيابية لعدم الحضور (faute de comparaitre) والأحكام الغيابية لعدم إبداء الطلبات (faute de conclure) فالأولى يجب تنفيذها في بحر ستة شهور وإلا اعتبرت كأن لم تكن (م 156 مرافعات فرنسي) أما الثانية فيصح تنفيذها كالأحكام الحضورية في بحر ثلاثين سنة.
وهذا النص الذي يقضي بسقوط الحكم إذا لم يُنفذ في بحر الستة شهور يجب أن يُقرأ مع النص الذي يقضي بأن الأحكام الغيابية تجوز فيها المعارضة لحين علم الغائب بالتنفيذ، وذلك لأن الشراح يقولون إن بين النصين رابطة السبب بالمسبب وبعبارة أخرى لما كان المشرع قد أجاز المعارضة في الأحكام الغيابية حتى علم الغائب بالتنفيذ فقد خشي أن يطول أمدها إلى زمن بعيد قد ينسى بعده الغائب أوجه دفاعه ويصعب عليه إيراد حججه ومستنداته فنص على أن من صدر لمصلحته حكم غيابي يجب عليه أن يسعى في تنفيذه في بحر الستة شهور حتى يعارض الغائب وبذلك لا تُنظر المعارضة بعد أمد بعيد. وهذا التعليل لا يخلو من النقد فكما يقول جارسونيه ما عسى أن تكون هذه الأدلة وهذا الدفاع الذي لا يستطيع أن يثبت في ذهن المحكوم عليه إلا ستة شهور ؟ وإذا كان هذا النص يرمي إلى إلزام الحاضر بتنفيذ الحكم في بحر الستة شهور حتى يستطيع الغائب أن يعارض في هذه المدة، لو كان هذا هو السبب الوحيد لوجب أن يكون التنفيذ الذي يقي الحكم الغيابي من السقوط هو التنفيذ الذي يضع حدًا للمعارضة مع أنه من المجمع عليه فقهًا وقضاءً أن التنفيذ المقصود بمادة (344) هو غير التنفيذ المقصود في مادة (329) (البند 3 من هذا المقال).
2 - الأحكام التي تسري عليها مادة (344):
لا فرق بين الأحكام الفاصلة في الموضوع والأحكام الفرعية كالحكم القاضي بالإحالة على التحقيق أو بتعيين خبير فكلها تسقط إذا لم تُنفذ في بحر الستة شهور (راجع استئناف مختلط 31 ديسمبر سنة 1911 مجموعة رسمية 27 صـ 9) وقد قضت بعض المحاكم (عابدين في أول ديسمبر سنة 1918 حقوق س 24 صـ 4) بأن أوامر تقدير الأتعاب هي بمثابة الأحكام الغيابية (بدليل الطعن فيها بطريق المعارضة) ولذا تسقط إذا لم تُنفذ في مدة ستة شهور من يوم صدورها.
على أننا لا نرى هذا الرأي (فالأمر الصادر من القاضي ليس حكمًا) وشتان ما بين الاثنين. أما الاستناد على أنه ما دامت المعارضة جائزة في الأمر فقد صار حكمًا فحجة غير مقبولة لأن المعارضة في الأمر مؤقتة بإعلان الأمر لا بتنفيذه فضلاً على أنه من الثابت أن (م 344) لا تُطبق على الأحكام التي هي بمثابة قرارات قضائية أكثر منها أحكام (plutôt des actes judiciaires que de jugement جارسونيه بند 2220).
ولكن لا محل لسريان النص على الأحكام التي لا تقبل المعارضة فالحكم في مسائل الشفعة والحكم الصادر بعد إثبات الغيبة والحكم بنزع الملكية إذا لم يقدم طالب التعجيل في بحر ستة شهور عريضة إلى قاضي البيوع لتحديد يوم للبيع (م 558) ولا على الحكم الغيابي القاضي بمُرسي المزاد فضلاً عن أن حكم مُرسي المزاد أو نزع الملكية لا تعتبر أحكامًا بالمعنى الصحيح.
كذلك لا محل لتطبيق المادة على الأحكام التي لا تقبل بطبيعتها التنفيذ كالحكم النهائي الصادر برفض دعوى المدعي وإلزامه بالمصاريف فهو غير قابل للتنفيذ لا من جهة المدعي - ولا من جهة المدعى عليه ولذلك يحفظ آثاره كالأحكام الحضورية (س م 3 ديسمبر سنة 1891 مج ت م 4 صـ 36 وجازيت 5 صـ 106 وشرائع 2 صـ 317 نمرة 354) كذلك الحكم القاضي بصحة الإمضاء فيكفي فيه بالإعلان. كذلك الحكم القاضي بأمر سلبي كعدم البناء.
أما المحاكم التي يسري هذا النص على أحكامها فهي في فرنسا محاكم أول درجة والمحاكم الاستئنافية وذلك لأن المشرع الفرنسي جعل ميعاد المعارضة في الحالتين مؤقتًا بالتنفيذ (158 فرنسي) أما في مصر فقد فرق الشارع بين الأحكام الغيابية الصادرة من أول درجة وثاني درجة فجعل ميعاد المعارضة في الأولى مؤقتًا بالتنفيذ أما في الثانية فجعل المعارضة جائزة لعشرة أيام من الإعلان ولذلك لا محل لما ذهبت إليه بعض المحاكم من سريان المادة على الأحكام الاستئنافية الأهلية فإن المعارضة فيها مؤقتة بالإعلان لا بالتنفيذ فضلاً عن أنه إذا أعلن الحكم ومضت عشرة أيام صار نهائيًا.
3 - ما هو التنفيذ:
ربما كانت أعمال التنفيذ التي تحول دون سقوط الحكم الغيابي هي أهم ما في هذا البحث ويجدر بنا قبل أن نعالج هذا البحث أن نشير إلى اختلاف بين النصوص الفرنسية والمصرية فالقانون الفرنسي ينص في (م 156) على سقوط الحكم الغيابي إذا لم يُنفذ في بحر ستة شهور و(م 157) تنص على المعارضة في الأحكام الغيابية. و(م 158) تنص على المعارضة في الحكم الغيابي الصادر ضد خصم لم يعين وكيلاً (avoué) وأنها تقبل حتى تنفيذ الحكم.
ثم جاء في (م 159) وذكر (أن الحكم يعتبر أنه نفذ إذا بيعت المنقولات المحجوز عليها أو حُبس المحكوم عليه أو أعلن إليه حجز على عقاراته أو دُفعت المصاريف وعلى العموم لو وقع عمل يستنتج منه حتمًا أن الغائب قد علم بالتنفيذ… والمعارضة المرفوعة في المواعيد المحددة آنفًا وبالشكل المذكور فيما بعد توقف التنفيذ….) وهذه المادة لا مقابل لها في مصر.
والواقع أنه لا أهمية لإهمال المشرع المصري إيراد مادة تقابل (م 159) فرنسي، لأن هذه المادة خاصة بالتنفيذ الذي يضع حدًا للمعارضة ومن المجمع عليه في فرنسا أن (م 159) لا تسري على التنفيذ الذي يمنع سقوط الحكم الغيابي، إذ أن التنفيذ الذي يضع حدًا للمعارضة غير التنفيذ الذي يقي الحكم الغيابي من السقوط فهناك تنفيذ يقي الحكم الغيابي من السقوط ولا يضع حدًا للمعارضة ومثل ذلك في أحوال التضامن فعلى الرأي الراجع تنفيذ الحكم الغيابي ضد أحد المحكوم عليهم بالتضامن في بحر ستة شهور كافٍ لمنع سقوط الحكم ضد الباقين ولكن ميعاد المعارضة يظل مفتوحًا لهم، وبالعكس قد يوجد هناك تنفيذ يضع حدًا للمعارضة ولكنه لا يقي الحكم من السقوط كمحضر عدم الوجود متى وصل إلى علم المدين فإنه لا يكفي لوقاية الحكم من السقوط إذا كان الدائن يستطيع أن يسلك طرقًا أخرى للتنفيذ (راجع جارسونيه بند 2215 حاشية 6).
كذلك إعلان الحكم للنيابة في حالة استحالة التنفيذ على المدين لعدم وجود محل له كافٍ لمنع سقوط الحكم ولكنه لا يضع حدًا للمعارضة (تعليقات دالوز).
ومجمل القول إن التنفيذ المقصود بمادة (344) له معنى خاص.

(Exécuter au sens de l’art 156 c’est faire un acte d’exécution caracterisé Garsonnet 2215).

وتعليقات دالوز على مادة (156) فقرة (206).
واستئناف مختلط 18 يونيه سنة 1913 مج ت (م 25) صـ 455.
وعلى كل حال يجب على الدائن أن يقوم بتنفيذ الحكم فعلاً في بحر الستة شهور ولا يغني عن ذلك إظهار نيته في التنفيذ مهما كان سطوع هذه النية ولا إثبات أنه لم يكن مهملاً ولا متوانيًا فلا يكفي مثلاً أن يكون قد كلف المُحضر بالتنفيذ قبل مضي الستة شهور (راجع المجموعة الرسمية السنة الثامنة عدد 47).
أما البدء في التنفيذ فهو كافٍ على رأي بعض الشراح ولكن المحاكم الفرنسية تسير على أنه وإن يك ليس من الضروري أن يكون التنفيذ تامًا إلا أنه لا بد أن يقع جزء كامل منه فإعلان حجز ما للمدين لدى الغير غير كافٍ بل لا بد من إخبار المدين (راجع حكم متز 21 يونيه سنة 1892 والأحكام المنشورة في تعليقات دالوز فقرة 69) ويرى القضاء المختلط أن البدء في التنفيذ كافٍ (استئناف 18 يونيه سنة 1913 مج ت م 25 - 255) وعلى كل حال لا يشترط أن يكون التنفيذ شاملاً فإذا حكم على شخص بالدين والمصاريف فنفذه المحكوم له بالمصاريف فقط لكفى.
هل يشترط علم الغائب بالتنفيذ ؟ مسألة مختلف فيها. فجارسونيه يرى أن علم الغائب غير لازم إلا إذا حصل ذلك عن غش وسوء قصد أي أن يكون التنفيذ قد أُخفي عن الغائب عمدًا أما الأحكام فبعضها على الرأي المخالف (راجع الأحكام المنشورة في تعليقات دالوز فقرة 217 و218 و219).
وأرى أن علم المحكوم عليه ليس بلازم إذ لا محل لاشتراط هذا مع خلو النصوص القانونية منه.
وإعلان الحكم والتنبيه على المدين بالوفاء في غير أحوال الاستحالة لا يعتبر تنفيذًا وكذلك حق الاختصاص الذي يؤخذ بناءً على ذلك الحكم (استئناف مختلط 10 فبراير سنة 909 مج ت م 21 - 179) إلا أنه لما كان الحكم القاضي بصحة الإمضاء يجيز في فرنسا أخذ رهن قضائي فقد قالوا إن أخذ هذا الرهن يعتبر تنفيذًا إذا لم يحتوِ الحكم على غير القضاء بصحة الورقة ولما كان مذهب بعض الأحكام وجوب علم الغائب بالتنفيذ فقد قالوا إن هذا الرهن القضائي يجب أن يعلن للمدين ولا يقوم تسجيله مقام العلم.
والحجز تحت يد الغير يعتبر تنفيذًا… ولكن ما هي الإجراءات التي تمنع سقوط الحكم الغيابي القاضي بصحة الحجز التحفظي تحت يد الغير… أهو إعلان هذا الحكم… أم طلب التقرير بما في الذمة… أو غير ذلك من الإجراءات.
يُستنتج مما كتبه الأستاذ أبو هيف بك أنه يعتبر إعلان الحكم بصحة الحجز تنفيذًا، لأن الحكم بصحة الحجز يغير صفة الحجز من تحفظي إلى تنفيذي فإعلان الحكم النهائي أو المشمول بالنفاذ المعجل يعتبر تنفيذًا، ويعتبر إخبار المدين بهذا الإعلان إعلانًا له بالتنفيذ يجرى ميعاد المعارضة من وقت إعلانه به (التنفيذ والتحفظ بند 441 و442).
وتنص (م 159) فرنسي أن دفع المصاريف يمنع السقوط كذلك إذا دفعها الغير إذا كان ذلك حسب الطريقة المنصوص عليها في (م 1236) كما إذا دفعها ولم يحل محل الدائن ويرى جارسونيه أن دفع المصاريف يمنع سقوط الحكم لا لأن ذلك من إجراءات التنفيذ بل لأن دفعها يعتبر قبولاً للحكم.
أما عند استحالة التنفيذ على الغائب لعدم وجود ما يصح التنفيذ عليه فيكتفي بمحضر عدم وجود (procés verbal de carence) (استئناف مختلط 8 ديسمبر سنة 915 مج ت م 28 - 49) ويعتبر محضر عدم الوجود قانونيًا إذا كانت الأشياء التي في محل المدين غير قابلة للحجز أو ذات قيمة تافهة تستغرقها مصاريف الحجز وهي مسألة متروكة لتقدير المُحضر تحت رقابة القضاء وعدم وجود شيء في محل المدين يجب أن يكون ثابتًا بمعرفة المُحضر فيعتبر المحضر باطلاً إذا ذكر المُحضر عدم وجود شيء بناءً على بيانات قدمها له الجار (انظر حكم ليموج 18 مايو سنة 1822 تعليقات دالوز فقرة 131).
وعلى ذلك نستطيع القول إن محضر عدم الوجود يجب أن يجمع شروطًا ثلاثة:
1 - يجب أن يكون صحيح الشكل أي مستوفٍ للبيانات المعتادة في أوراق المحضرين.
2 - يجب أن يذكر أن ليس للمدين محل إقامة معلوم.. أو لا يملك حسب علم الدائن شيئًا يصح التنفيذ عليه. فإذا كان للغائب محل إقامة فيجب أن يعمل فيه فيعتبر باطلاً إذا عمل في محل الإقامة الذي تركه المدين.
3 - يجب أن لا يكون هناك طرق أخرى للتنفيذ فإن محضر عدم الوجود ما شرع إلا تيسيرًا للدائن الذي يُرى عاجزًا عن تنفيذ حكمه على أن بعض الأحكام الفرنسية لا تشترط ذلك فقضت أن المحضر يعتبر قانونيًا ولو كان الدائن يستطيع التنفيذ بطريق الحجز العقاري (راجع تعليقات دالوز فقرة 272).
ويقع هنا الخلاف الذي ذكرناه بوجه عام من وجوب علم الغائب بالتنفيذ فالرأي القائل بوجوب العلم يستلزم إعلان محضر عدم الوجود في بحر ستة شهور وإلا اعتبر باطلاً.
ما الحكم إذا كان التنفيذ الذي أجراه الدائن قد حكم ببطلانه ؟ قد رأينا أن نية المدين في تنفيذ الحكم لا تكفي مهما كان مبلغ هذه النية من الوضوح والظهور ولذلك يشترط القانون وجوب التنفيذ فعلاً، وعلى ذلك إذا أُلغي التنفيذ اعتبر كأن لم يكن فإذا أُلغي حجز ما للمدين لعيب في الشكل سقط وزالت كل آثاره (راجع النقض الفرنسي 11 ديسمبر سنة 1834 تعليقات دالوز فقرة 115).
4 - ما العمل إذا استحال إجراء التنفيذ لعقبة مادية أو قانونية ؟ الرأي أن لا سقوط فقد رأينا مثلاً من العقبات المادية عدم وجود شيء يصح التنفيذ عليه وعلمنا أن محضر عدم الوجود كافٍ. ولكن ما الحكم إذا بحث الدائن عن محل الغائب ولكن بدون جدوى، الرأي على أن الإعلان في النيابة كافٍ ويقي الحكم من السقوط وإن كان لا يضع حدًا للمعارضة (راجع حكم باريس 22 يونيه سنة 1814).
ويعتبر من الموانع القانونية للتنفيذ ما إذا رفع الغائب معارضة في الحكم قبل مضي ستة شهور (راجع الأحكام في تعليقات دالوز فقرة 85).
وقد اختلف في فرنسا في شأن المعارضة إذا كانت غير مقبولة شكلاً فقال بعضهم إن المعارضة وإن كانت غير مقبولة شكلاً إلا أنها على كل حال دليل قاطع على العلم بالحكم (بهذا المعنى حكم ليون 4 فبراير سنة 1825 ومتز 7 ديسمبر سنة 1830 تعليقات دالوز فقرة 86 و87).
وقال بعضهم إن المعارضة إذا ألغيت شكلاً فلا توقف ولا تقطع مدة الستة شهور (ليون 11 يوليه سنة 1872 دالوز دوري 9102073 وكذلك الأحكام العديدة المنشورة في فقرة 89).
وقد حكم بأن معارضة الغائب في تسليم نسخة تنفيذية ثانية من الحكم تعتبر مانعًا من السقوط ودليلاً على العلم بالحكم (كولمار 10 نوفمبر سنة 1833).
5 - وقبول الحكم (Acquisement) يعتبر كالتنفيذ مانعًا من السقوط (راجع مجموعة س 12 عدد 73 وم مج س 13 عدد 27).
فإذا أراد المُحضر التنفيذ فكتب له المدين أنه أفلس وأنه سيتفق مع الدائن لإيقاف الإجراءات أو دفع قسطًا من الدين المحكوم به أو طلب من الدائن الذين أعلن إليه التنفيذ تأجيل الدفع وإجابة لطلبه كانت كل هذه موانع تقي الحكم من السقوط ولكن إذا أنكر المحكوم عليه أنه قام بدفع قسط من الدين بغية التمسك بسقوط الحكم جاز له ذلك وعلى الدائن أن يسلك طرق الإثبات العادية لإثبات العكس.
6 - تعدد المحكوم عليهم - إن لم يكونوا متضامنين فلا نزاع في أن التنفيذ على أحدهم لا يعتبر تنفيذًا على الباقين اللهم في أحوال عدم التجزئة - أما في حالة التضامن قد اختلف فيها فقال بعضهم إنه لا يعتبر تنفيذًا خصوصًا إذا حكم على بعض المدعى عليهم حضوريًا والبعض غيابيًا ونفذ الحكم في بحر ستة شهور ضد من حكم عليهم حضوريًا فإن ذلك لا يمنع السقوط لصالح من كان غائبًا ولكن الرأي الراجح على عكس ذلك اعتمادًا على مادة (1026) فرنسي التي تنص على أن التقادم إذا انقطع ضد أحد المتضامنين ينقطع ضد الباقين.
ويرى القضاء المختلط أن تحرير محضر عدم وجود لأحد المدينين المتضامنين يمنع السقوط ضد الجميع كذلك قبول أحدهم للحكم (27 إبريل سنة 915 مج ت م 27 - 295 23 يونيه سنة 905 مج ت م 28 - 389).
7 - أثر سقوط الحكم:
تنص (م 344) على أن الحكم (يبطل ويعتبر كأنه لم يكن) وفي النص الفرنسي (de plein droit) وعلى ذلك إذا مضت الستة شهور ولم يُنفذ يسقط بقوة القانون… وليس معنى ذلك أن الحكم يصير بمضي هذه المدة في حكم العدم وأن المحضر بناءً على ذلك لا يستطيع تنفيذه بل وعليه أن يمتنع عن ذلك كما ذهب إلى ذلك البعض (راجع كتاب التنفيذ والتحفظ للأستاذ أبو هيف بك في باب الإشكالات القانونية صـ 116).
بل معنى ذلك أن الغائب أو صاحب المصلحة يصح له التمسك بهذا السقوط بصفة إشكال في التنفيذ أو بصفة دفع من الدفوع بدون حاجة لرفع دعوى فليس معنى (de plein droit) أن السقوط محتم وأنه من النظام العام إذ لو كان الأمر كذلك لجاز للمدعي الحاضر الذي رُفضت بعض طلباته أو المدعي الذي رُفضت دعواه غيابيًا أن يتمسك بالسقوط وهذا غير جائز.
ويلاحظ أن الإجراءات اللاحقة على الستة شهور لا ترفع البطلان كما هو الحال في بطلان المرافعة.
على أن السقوط لا يلحق إلا الحكم وما يتفرع منه. فيسقط هو وما يترتب عليه من الآثار كحكم الإفلاس مثلاً إذا سقط صارت أعمال المفلس صحيحة كذلك يسقط إعلان الحكم والتنبيه وحق الاختصاص الذي أخذ بمقتضاه فيصح لمن يمتلك العقار أن يتمسك بسقوط حق الاختصاص الذي أخذ بمقتضى حكم غيابي ساقط.
ولكن الإجراءات السابقة على الحكم تبقى قائمة صحيحة، فالتكليف بالحضور يبقى قاطعًا للتقادم والحجز لدى الغير الذي كان متوقعًا يبقى قائمًا صحيحًا (استئناف مختلط) 8 مارس سنة 1899 مجموعة التشريع والقضاء مج 11 و143 وتعتبر الدعوى الأولى قائمة يجب الرجوع إليها، ولا يصح رفع دعوى جديدة أمام محكمة أخرى وإلا جاز الدفع بالإحالة، ويترتب على قيام الدعوى أن المدعى عليه إذا غير محل إقامته بعد الحكم الساقط فلا تأثير لذلك على اختصاص المحكمة وأن الدائن إذا صدر له حكم غيابي فباع الدين المحكوم به ثم سقط الحكم لعدم تنفيذه في بحر الستة شهور فإن البيع يصير بيع حق متنازع فيه ويجوز للمدين أن يعرض قيمة المبلغ الذي دفع ويتخلص من الدين طبقًا لمادة (354) مدني (Retrait litigièux) (انظر جارسونيه بند 2218 حاشية).
والعود للدعوى بعد سقوط الحكم يكون بإعلان للخصم، هل يصح للخصم الغائب إن حضر أن يطلب بطلان التكليف الأول ولو أن الإعلان الذي حضر بمقتضاه كان صحيحًا وذلك كي يزيل كل أثر قانوني ترتب عليه ؟
أظن أن ذلك جائز وقد حكمت فعلاً المحاكم بذلك في مسألة مماثلة (راجع حكم محكمة مصر 15 يناير سنة 907 حقوق س 23 عدد 5 مجموعة حمدي بك السيد صـ 31).
8 - التنازل عن التمسك بالسقوط بعد انقضاء الستة شهور:
على الرأي الراجح أن هذا التنازل صحيح وجائز، وأن ذلك قد يكون صراحةً كما يكون ضمنيًا فيكون ضمنيًا إذا لم يقدم بصفة إشكال في التنفيذ أو يبدِ في أول الدفاع وإذا رفع الغائب معارضة اعتبر متنازلاً عن التمسك بالسقوط أما إن رفع استئنافًا فإن كان ميعاد المعارضة لا يزال مفتوحًا فالاستئناف يعتبر سابقًا لأوانه ولا قيمة له، وإن كان في ميعاده اعتبر رفع الاستئناف تنازلاً صحيحًا عن الدفع بسقوط الحكم لأنه اعتراف أنه حكم عليه ابتدائيًا.
ما أثر هذا التنازل على الغير؟ يرى جارسونيه أنه لا أثر على الغير تطبيقًا للقواعد العامة التي تقضي بيان العقود لا يمكن أن يكون لها أثر إلا بين طرفيها.
على أن الرأي الشائع أن التنازل يصح التمسك به على الغير إذا كان ذا تاريخ ثابت سابق على الستة شهور.
والغير الذين يصح لهم التمسك بالتاريخ الثابت السابق على الستة شهور هم الدائنين الذين اكتسبوا حقوقهم فعلاً في ذلك الوقت ضد المدين.
حساب المدة:
تحسب الستة شهور من يوم صدور الحكم، ويدخل فيه اليوم الذي صدر فيه الحكم ولا توقف هذه المدة لأي سبب من أسباب الإيقاف القانونية اللهم إلا في حالة القوة القاهرة كعدم وجود محاكم سبب الحرب مثلاً.
وقد اختلف في هل هي هلالية أم شمسية (انظر بالمعنى الأول 10 يناير مج 12 صـ 98 وأول نوفمبر سنة 1916 مج 18 صـ 1525 وبالمعنى الثاني جازيت 5 صـ 74 وحقوق 10 صـ 19).
وقد حكم أنه صدر الحكم ببطلان البيع وكان حضوريًا بالنسبة للبائع وغيابي ضد شخص ثالث أدخله البائع ليحكم له ضده احتياطيًا وحكم له فعلاً. فمدة الستة شهور توقف حتى يفصل في الاستئناف الأصلي المرفوع من البائع ولا تبدأ إلا من الحكم الاستئنافي الصادر بتأييد الحكم الابتدائي (استئناف مختلط 26 نوفمبر سنة 1912 مج م 15 صـ 13).

مزايا المحامي

مزايا المحامي [(1)]

كفى المحامي شرفًا تعريفه بأنه الكفيل بالدفاع لأبناء وطنه عن الشرف والنفس والحرية أو المال، ويقينًا أن مهنته تجعله أمام مواطنيه من أكبر رجال الشرف وأكثرهم حرية وهي لذاتها معدودة من أهم الطبقات الضرورية في الهيئة الاجتماعية ذات النظامات القويمة الدستورية.
مما يؤثر عن العلامة ماريون دي بانسيه من طيب القول فيما دونه عن المحامي كلمات هن أم الكتاب فقد نعته بأنه (حر من القيود التي تأسر غيره من الناس، فخور بأنه يكتنف من يحميهم، وأنه لا سيد ولا مسود، وهو الإنسان بكرامته الأصلية إذا كان في الوجود بين الناس من يمثل معنى الإنسان) وإليكم نص كلماته.

L’ illustre président Henrion de Pensey a racé de l’avoct dans ces magnifiques paroles: Libre des entraves qui captivent les autres hommes, trop fier pour avoir des protégés, sans esclave et sans maitre, ce serait l’homme dans sa dignité originelle, si un tel homme pouvait encore exister sur la terre.

شرف يتعالى مع عزة النفس ويترفع عن الألقاب فأنعم به من امتياز وسمو مقام بلا مظاهر خارجية فالمعنى أرقى والمراتب أسمى (وأني لتعروني هزة عند هذا المقال ولا يتاح لي خلع تلك النعال - (الحكومية)).
ولهذه الصناعة تاريخ مجيد في كل الأزمان قد يضيق المقام عن سرد ماضيها ففي حاضرها ما يغني عن غابرها فحيثما كان القضاء كانت المحاماة وإني وجدت العدالة وجد المحامي وليس ذلك بغريب على من كان شعاره الأدب وحليته العلم وقد تسمو به مداركه لقصر جهاده على تنقيح العلوم كما وصل إليه أبناء هذه المهنة في تخصيص أنفسهم لخدمة العلم بسلامة الذوق ومتانة الرأي (Avocat consultant) مما قد يقضي به تقدم السن وكثرة التجارب وقد ينتهي بهم حب العلم والعمل به إلى التدريس فقط.
ولما كان موضوع محاضرتي في بيان مزايا المحامي فقصر القول على ما ينبغي لصناعة المرافعة من المعدات لمن تيسرت له أسبابها وكملت فيه صفاتها كافٍ حتى تكون أعماله جارية على النهج المطلوب وافية بالغرض المقصود.
وهذه المعدات وتلك الأسباب منها ما يكون فطريًا في بعض الناس يمنحه الله له بلا معاناة اكتساب ولا تجشم استعداد، ومنها ما يكون كسبيًا لا يحصل عليه الإنسان إلا بواسطة الاكتساب والأخذ في الأسباب.

في المعدات الفطرية

ينبغي لطالب هذا الفن كي ما يقدم عليه أن تكون المعدات المهيئة له حاضرة لديه وهي أمور ثلاثة:
الأمر الأول: في القوى الجسدية.
الأمر الثاني: في القوى العقلية.
الأمر الثالث: القوى الخلقية.
1 - في القوى الجسدية:
إذا لم يكن الإنسان جيد الصحة سليم البنية خليًا من الأمراض المؤلمة فلا تبلغ قوة الفكر حد كمالها ولا يكون لأعماله نظام مضبوط ولا تأثير حسن لأن قوة الجسد أساس كل القوى وقلما ينفع البناء إذا لم يقوِ الأساس فلا بد للمشتغل بصناعة المرافعة أن تكون أطرافه سليمة وأعضاؤه نشيطة حتى يسهل عليه التردد على دوائر القضاء المختلفة والانتقال إلى مراكزه المتعددة ويؤدي أعماله بسرعة وخفة حركة ولطف إشارة وأن يكون بصره قويًا (إلا من وهب الله الفطنة وحدة الذهن في المدركة….) لأنه لا يستغني عن مراجعة كتب الشرائع ونصوص القوانين ومؤلفات الشراح وقراءة أوراق القضايا - (دوسيهات الجنايات من قلم النسخ) والسهر في تجهيز المدافعة فيها وتحضير مذكراتها وتحرير ما لا بد من كتابته، وأن تكون أدوات نطقه كالحنجرة واللسان والأسنان والشفتين صحيحة وصوته معتدلاً حتى تخرج الحروف من مخارجها ويميز الكلمات بعضها من بعض ويؤدي العبارات صريحة بإلقاء محسن مؤثر في نفوس السامعين لأن المدار في المحاكم على الخطابة وحسن الإلقاء.
وربما يدرك المرافع بعذوبة خطابته وجودة تأديته ما لا يدركه غيره بكثرة البراهين وسرد القوانين إذا كان في حروفه اختلال وفي صوته بشاعة، وأن يكون صدوره ورئتاه في سلامة من العلل حتى لا يحول ضيق نفسه عن استرساله في الكلام ولا تعوقه العلل عن إظهار صوته بكيفيات مختلفة من جهر وتخافت وشدة ولين وتوسط حسبما تقتضيه المقامات وما لم يكن الصدر سليمًا فلا سبيل إلى حسن الإلقاء، وبالجملة متى كان الإنسان متمتعًا بقوة جسده لم يكن له اهتمام إلا فيما هو بصدده من إحكام العمل وضبطه بخلاف ما إذا كان متألمًا بالأمراض فإنه يكون دائمًا مفكرًا في نفسه مشغولاً بأمره وهيهات أن يحسن ما يعهد إليه من أعمال هذه الصناعة، والخلاصة أن العقل السليم في الجسم السليم وواجب الرياضة البدنية وتنظيم أوقات الأعمال العقلية موجب للرياضة النفسية.
2 - في القوى العقلية:
القوى العقلية هي التي يترتب عليها نجاح المرافعة الشفهية مباشرةً وإصابة الغرض إصالة وإنما القوى الجسدية مهاد لها ومتكأ تتكئ عليه كالجسم تقوم به الروح المدبرة لشؤون الحياة وهو بدونها لا يقصد، وأنواع القوى العقلية عديدة والمهم منها في هذا المقام ثلاث:
القوى الحافظة:
حاجة المرافع إلى القوة الحافظة شديدة إذ كثير ما يطلب منه سرد نصوص القوانين والأحكام الشرعية وقد يرجع أحيانًا إلى الأوامر العالية واللوائح والقرارات استشهادًا على مدعاه وتأييدًا لما يراه فيلزمه أن يكون حافظًا لتلك النصوص وتواريخ صدورها ليعلم الناسخ منها والمنسوخ لأن القول قد يجر بعضه بعضًا فربما انتقل الكلام إلى ما يحتاج بعض الأمر إلى الاستشهاد بنص لائحة مثلاً.
فإن لم يكن لديه من قوة الحافظة ما يجعل ذهنه حاضرًا وقع في الارتباك، لا سيما وعلمكم بمواعيد قانون المرافعات مما لا يخلو الحال من حفظه (صم) ويحتاج أيضًا أن يذكر أمام المحكمة على التعاقب مجمل ما في أوراق القضايا التي استعد للمرافعة فيها، فإذا لم يكن حفظه جيدًا وقع لا محالة في المكاره:
أولاً: أن يضطر في كل قضية إلى التقلب والنظر في مفردات الأوراق مرة أو مرارًا والبحث عما يحتاج إليه منها ليتلوه بحروفه على القضاء، ولا يخفى ما يستوجبه هذا الصنع من إضاعة الزمن وإيقاع السامعين في الملل.
ثانيًا: أنه يقع في الاضطراب إذا كانت هذه القضايا متشابهة وينقل نظره من قضية لأخرى فيختلط عليه الأمر لا سيما في قضايا الحساب.
ثالثًا: أنه يضطر إلى استعداد جديد كلما أخرت هذه القضايا لنسيانه مدة ما بين الأجلين ما كان أعده أولاً وكذلك يحتاج لأن يحفظ إثبات الخصم أو أوجه دفعه وجهًا فوجهًا فيمكنه بعد انتهاء كلامه أن يرد عليها على الترتيب ولو علق عليها بمذكرة يدون فيها الدفوع، وربما يلزم الرد على عدة خصوم كل منهم يأتي بجملة أو وجه فإذا لم يكن واعيًا كل ما أتوا به من الدلائل كانت مرافعته ناقصة وحجته ضعيفة ولا يكفي أن يأتي على وجه أو وجهين ويقول ليس في باقي الكلام ما يوجب الرد كما يقع من كثير لأن هذا يدل على ضيق الفطن ومثله لا يعد حجة عند العقلاء بل لا بد من التعرض إجمالاً أو تفصيلاً لكل وجه بالإفساد إن كان قابلاً وإلا فالسكوت يعد تسليمًا.
وعلى المرافع إذا آنس من نفسه النسيان أن يكتب أثناء مرافعة الخصم رؤوس المسائل وإشارات الدلائل ليتذكر منها باقيها فلا تغرب عنه إذا أراد المناقشة فيها.
القوة المذكرة:
أقوى سلاح يتقي به الإنسان عاديات المرافعة الفجائية هو القوة المفكرة لأن ما يرتبه بقوة فكره ويقيده بقوة حفظه إنما يظهر أثره إذا كانت المرافعة في موضوع الدعوى ومن الدور الأول منها.
أما إذا كانت دفوع فرعية خارجة عن الموضوع أو في الموضوع وبعد انتهاء الدور الأول من الكلام فلا يجديه ذلك الاستعداد نفعًا، والمدار إذا ذاك على ما يتذكره المرافع من حوادث وإجراءات ربما بعد العهد بها ومن دلائل نقلية أو عقلية ربما لم يكن في حسبانه الاستناد عليها في ذلك الوقت.
فإذا كان ضعيف الذاكرة عجز عن تسديد الدليل ولزمته الحجة وقد قيل ليس الخطيب بأول كلام يلقيه بل بما يليه.
القوة المفكرة:
إذا اتسع فكر المرافع وانفسح مجال تصرفه في المعقولات برع في الجدال وترتيب الأقوال ومهر في تنسيق الأدلة وانتزاعها من أقوال الخصوم وأوراق القضايا وعبارات القوانين.
وتفاضل أرباب هذه الصناعة ذاتيًا إنما هو بالقوى المفكرة، إذ بها يكون تطبيق الحوادث على النصوص القانونية، وليس كل من حفظ القانون أو فهمه يجيد ذلك ولنا في القضايا التي ترفع إلى محكمة الاستئناف أو إلى النقض والإبرام شواهد عديدة على خطأ التطبيق الأول أو نقص الإجراءات ومخالفة روح القانون وإهمال بعض الطلبات في قضايا الالتماس ما يدل على الخطأ الواقع من القضاة أو المرافعين (من أعضاء النيابة أو منا نحن المحامين) وبها يهتدي إلى طريق العدل والاتصاف إذا كان الحكم المطلوب ليس له نص في القانون كما يكثر ذلك في الدعاوى المدنية المحتاجة للصرف وبها يختار الأصلح والأوفق إذا أمكن سلوك طريقين أو طرق نتائجها متفاوتة كما إذا صلحت الحادثة للانطباق على مادتين مؤداهما مختلف فترويج إيقاع الحكم على مقتضى إحداهما يحتاج إلى استعمال قوة الفكر، وكما إذا أمكن أن تؤول المادة الواحدة تأويلين متغايرين فترجيح أحدهما على الآخر لا يكون إلا لمرجحات ينتزعها الفكر الصائب وبها يمكن التوفيق بين النصوص المتضاربة والمواد المتناقضة وحملها على ما يوافق المصلحة وبها ننتزع الحجج الإلزامية والإقناعات الجدلية من أقوال الخصوم توصلاً إلى إفحامهم ونقض كلامهم وأكثر ما تمس الحاجة إلى ذلك إذا ألجأ الإنسان للمرافعة قبل أن يستعد لها أو بوغت في أثناء المرافعة بما لم يحط به خبرًا أو إذا لم يكن له في الواقع برهان حقيقي لينتج مطلوبه، والمرافع النبيه لا يعدم طريقة للمناقشة في أدلة الأخصام وإلزامهم من كلامهم ولو بعض الإلزام.
الأمر الثالث: القوى الخلقية:
الخُلق ملكة في الإنسان تصدر عنها الأفعال بلا تكلف وبدون تصنع وهو بحسب هذه الأفعال يكون حسنًا وسيئًا، ولا ريب أن التعويد التدريجي على عادات مخصوصة والتربية على صفات معينة وملاحظتها من عهد الصغر مما يجعل هذه الصفات خُلقًا في الإنسان وقد قيل الإنسان ابن عوائده لا ابن طبيعته إلا أنه لا ينكر أن الناس يتفاوتون في قبول التربية والتخلق فمنهم سريع التأثر ومنهم بطيئه ومتوسطه كما يدل عليه اتفاق أشخاص في درجة التربية واختلافهم في الأخلاق فلا بد أن يكون في الطباع أصول جبلية الأخلاق عنها ينشأ الاختلاف في قبول التربية بالسرعة والبطء والذي يريد أن ينتظم في سلك المرافعة ينبغي أن يكون متخلقًا بالأخلاق الحسنة عمومًا وبأربعة منها خصوصًا وهي:
الإنصاف، والجرأة، والأدب، والثبات.
بأن يكون في طبعه أصول لها في تربية تعود عليها.

الإنصاف

الإنصاف هو التمسك بالعدل والميل مع الحق فإذا اتخذه المرافع شعارًا وجعله له ديدنًا في مرافعاته اطمأن لكلامه السامعون وارتاح لبيانه الحاضرون وإذا كان للإنسان مذهب معروف ومشرب معلوم آلت إليه جميع أحواله وأبت الشكوك أن تتطرق إلى شيء من أقواله وأفعاله لأن مقاصده تقررت في الأذهان وعرف بها بين العموم فإذا صدر منه ما يحتمل لذاته مخالفة ذلك المذهب حمل على المحمل الحسن وزال الإبهام وكفى صاحبه مؤونة التأويل واستراح من زعم إساءة الظنون به وتضارب الأوهام في أمره بخلاف ما إذا كان مجهول المذهب فإن كل ما يصدر عنه تعرف له التهم ويذهب الناس فيه مذاهب شتى بعدم اطمئنان النفوس إليه وثقتها بأمره.
وأليق مذهب تدور عليه أعمال المرافع هو الإنصاف ولذا نجد لأقل أقواله تأثير في القلوب فلم يحتج في تصديق الناس له إلى طويل معاناة، وإنصافه يكون بإذعانه للحق وتركه التشبث بالمحاولات إذا ظهر بالأدلة القاطعة أن الحق ما رآه الخصم ولا يعز عليه بعد طول الجدال أن يتنازل عن طلباته والتسليم لمناظره بحجته فإنه في الحقيقة لم يسلم إلا للحق - لا للخصم ولم يرجع إلا إلى العدل، والحق لم يكن خاصًا به حتى يحجر على الأذهان اعتقاده لغيره فهو أحق بالاتباع حيثما وجد وعلى أي لسان ظهر، وليعلم أن الإنسان عرضة للخطأ ومرمى للغلط ففخره إنما يكون بقلة الأغلاط لا بالعصمة منها ومن يحاول غير ذلك فهو يحاول أن لا يكون إنسانًا ولم تزل فحول العلماء قديمًا وحديثًا يقرون بالخطأ ويعترفون بالزلل ويرجعون بأنفسهم عن كثير من آرائهم معتذرين بأن العاقل عليه أن يتحرى الصواب لا أن يصيب بالفعل، وليحذر المرافع إذا انصاع إلى الحق واعترف بقوة دليل الخصم أن يتعدى إلى الاعتراف بحقيقة ما أودع لديه من المعلومات ويتطرف بإفشاء ما أؤتمن عليه من الأسرار، ولهذه الصناعة من الدقة في هذه النقطة ما هو معلوم لديكم من سر الصناعة والحرص على الأمانة (Secret professionel) فإن ذلك ذنب لا يغتفر وسيئة لا تمحى قد يلومونا على عدم الإنصاف بين ذوي القربى ومن تجمعهم أواصر الصلة في إصلاح شقاق الأهل ولو كان منا المنصف الذي يرفض قضية الولد ضد أبيه كي لا يكون لسان العقوق في مجلس القضاء وهدم قواعد البر بالوالدين أو قد يستعصي على المحامي منع شقاق الأخوين ولا يدري اللائمون أنهم في ذلك مغالون غير عالمين بحقيقة النفوس البشرية فقد يتطاير شرر الشر بين الأقربين بما لا يتفق في خصومة بين من لا تجمعهم أدنى صلة ولعله على قدر الوفاق يكون الشقاق وبنسبة العشم يكون الألم، اللهم إلا أن يكون بعرض الصلح أو التحكيم للتوصل لفض الخلاف وحسم النزاع بالحسنى.
من الإنصاف أن يكون المرافع معتدلاً في طلبه مراعيًا المقام فلا ينبغي له أن يحتد في شرح وقائع المخالفات وصغائر الجنح ويشتد في الطلب كما لو كان في كبائر الجنايات، والمثل الظاهر في هذا المعنى موظف النيابة الذي يظن أن واجباته منحصرة في طلب العقاب لكل متهم وإن كان بريئًا وأنه إن لم يفعل ذلك يكون مقصرًا في أداء واجباته متراخيًا عن القيام بها والعبرة بصون اللسان بحسن البيان عن الابتذال.
كما لا ينبغي للمحامي أن يشط عن مواقع الحقائق ويتغالى في مطالبه ويتبسط في مسالكه بمحاولة ما لا يمكنه من الظاهر كأن يعمد إلى من عظم اجتراؤه وفحشت جريمته وعاين الشهود العدول فعله وأقر بذنبه أو كاد يقر به وقامت الأدلة الظاهرة على ارتكابه للجناية فيجحد كل ما اُتهم به، ويطلب براءته فيضيع الزمن عبثًا بل خير له لو نازع في ثبوت ركن من أركان الجناية قانونًا وأولى له ثم أولى أن بحث توفر شرط من شرائطها ليمكن تخفيف العقوبة والمعاملة بالرأفة أو كأن يطلب في تعويض شيء حقير مما يقع التسامح في مثله عادةً أموالاً غزيرة ويقدر في التضمينات مبالغ باهظة بينها وبين القيمة الحقيقية مراحل زاعمًا أنه إن لم يسلم في الكل لسلم له فيما دونه مما يقرب منه وبذلك يكون قد حصل على قيمة ما هو مطلوب له في الواقع أو بالأقل على قيمة تامة، متمسكًا بما اشتهر على بعض الألسنة (ادعى الباطل حتى يسلم لك الحق)، ولكن تلك خدعة ومن طلب أخذ الحق زائدًا أعوزه نيله ناقصًا وما أقدر من قدر الأشياء قدرها ووقف عند حدها أن يذعن لقوله ويصدق في خبره ويقنع بإشارته فضلاً على صريح عبارته وما أحق من تجاوز الحدود أن يُساء به الظن ويرمي بالتلبيس والتغرير ويكذب حتى في الصدق ويخطئ في الصواب ألا ترى كيف تجد في نفسك ارتياحًا إذا اشتريت شيئًا ممن عرف أن يبيع سلعه بقيم محدودة ولا تجد ذلك الارتياح إذا اشتريته ممن اعتاد المساومة ولو كنت في الحالة الأولى مغبونًا وفي الثانية رابحًا وما ذلك إلا لاطمئنان النفس إلى من اعتاد الحق وعدم اطمئنانها إلى من لم يعتده، ويكون الإنصاف بتخير القضايا الحقة التي لا تمس المرافعة فيها بجانب الذمة ولا بجانب الفضيلة فإن الإشارة إلى درجة المحامي في طبقات الهيئة الاجتماعية أدعى إلى سلوك هذا السبيل من الإنصاف قيامًا بالخدمة العامة المفروضة على كل فرد في مهنته للجماعة وتطالب بها الأمة كل طائفة في أداء الحقوق المقدسة للوطن، فلا يذهب بالمحامي حب الربح وطلب الكسب إلى أن يقبل كل ما يعرض عليه من القضايا أيًا كانت بل عليه أن ينتقي منها ما لا تؤدي المحاماة فيه إلى اهتضام حق أو استلاب مال ولا يقضي الاهتمام به إلى خذل فضيلة أو نصر رذيلة حتى لا يجلب بالسعي في مصلحة شخصه ضررًا على الهيئة الاجتماعية عملاً بحديث (حب لأخيك ما تحب لنفسك)، فليس له أن يدخل في الخصومة إذا علم أن موكله يريد أخذ ما ليس له أو يلتهم حقًا للغير قبله وهو بعد معرفة ذلك منه إذا سهل له بلوغ مأربه واحتال لدرك أمنيته يكون قد رضي بمشاركته في الخيانة ولا فرق حينئذٍ بينه وبين من يشترك في جريمة، ولا إذا علم ممن انتدبه للدفاع عنه أنه ممن يعيثون في الأرض فسادًا ويكدرون صفو النظام الإنساني لأن تعضيد مثل هؤلاء للسعي في تخليصهم من العقاب موجب لتماديهم في الإضرار بالناس وحسبك بذلك خلة في خلائق المحامي لا تعد من مزاياه ونحن في مقام بيانها للدلالة بالاقتضاء على تجنب ضدها من المساوئ وما دمنا في ذكر المحاسن أطلقنا العنان لحسن البيان.

الجرأة

المراد بالجرأة هنا قوة القلب وثبات الجأش في المواقف الخطيرة وقد برهنت المشاهدات على أن كل عمل عظم شأنه في العالم وسار ذكره بين الناس أساسه قوة القلب ولولا ثبات الجأش لما انتقل من حيز الفكر إلى الخارج ولما أمكن بقاؤه في الوجود مرعى النظام محمود الأثر.
وإنما كانت الجرأة من الصفات الضرورية التحقيق في المرافع لأنه حين يقوم في مجلس القضاء وبالخطابة القانونية يكون قد أخذ على نفسه عهدة أمر خطير وقبل تحمل عبء عظيم تنتظر الناس نتيجته وتتشوف لعاقبته إذ وراء خطابته هذه حكم قاطع وقضاء محتوم بعده مستقبل سعيد أو شقي، ومن المتعين أن تنجلي هذه الخطابة إما عن دم بريء بحقن ونفس زكية تسلم وحق ضائع يثبت وضرر واقع يزال فتكون النتيجة خيرًا حصل بالأمة وإما أن تنجلى عن دم بطل يهرق ونفس طاهرة تعذب وحق مقرر يضيع وضرر مريع يبقى فتكون العاقبة شرًا حل بالأمة فيلزمه لأجل أن يظفر بالنتيجة الحسنة وينجو من العاقبة السيئة ويؤدي ما عهد إليه وافيًا أن يثبت في هذا الموقف العظيم مدافعًا بسلاح القانون معتصمًا بحصن الحكمة مبرزًا من الإقدام والجرأة ما تستدعيه الحال، وأما إذا طاش لبه من الهول ومنعه الخجل أو الوجل عن إجادة القول فإن عبارته تقصر عن الوفاء بالغرض ولا تقوم بإبراز ما في النفس من المعاني ويلحق كلامه العي واختلال الإلقاء وينبني على ذلك عجزه عن العبء الذي أقدم على حمله وذهاب الثقة به ورجوعه بالخيبة والخسران فالهيبة كما قيل خيبة نعوذ بالله منها.
وعروض الهيبة لطالب الخطابة إما أن يكون منشؤه خور طبع وضعف قلب كما يحصل لكثير يحاولون القيام في مواقف الخطابة فتأبى عليهم طباعهم ويدركهم من الخوف ما ترتجف منه القلوب وتسارع له الأنفاس وتتقطع عنده الأصوات فلا تسمع ما يعقل ولا تعقل ما يسمع وهذا لا علاج له والأجدر بصاحبه أن يطلب له عملاً غير الخطابة، وإما أن يكون منشؤه وساوس تعرض له وقت ما يهم بالكلام ملاحظتها تمنع الفكر واللسان عن سرعة الحركة ولكن طروؤها غير متأصل وملاحظتها غير لازمة فهذا يمكن علاجه بقلع تلك الوساوس وإزالة تلك الأوهام، والممارسة وطول الزمن أكبر معين على محوها، ومحوها يكون بتنبيه الفكر إلى أنها في غير محلها وتدبر أنها لا وجه لها، لأنها إن كانت ناشئة عن التفكر فيما يبديه من الأقوال ومخافة أن لا يسعفه منطقه بالبيان فيرتج عليه في الخطابة وينفذ القول والناس ينتظرون فلا يجدون ويستمعون فلا يسمعون وهنالك الخجل الفاضح والخزي الواضح فالأمر هين ولا وجه للمخافة لأن حصول ذلك في الغالب يكون لأحد اثنين رجل دعي بغتة للكلام فيما لم يكن أعلم بحقيقته من قبل فيبتدئ التكلم قبل استحضار أجزاء الموضوع إجمالاً فترتيب المبادئ والخواتيم ومواضع انتقالات المعاني فينفذ منه الكلام ويقف دون الإتمام، ورجل قيد فكره بحفظ عبارة معينة يتلوها وقت الحاجة بحروفها وحظر على نفسه التصرف فيها فإذا شذت منه كلمة واحدة انسد عليه سبيل الكلام ووقع في الخطر.
والمرافع ليس واحدًا منهما لأنه لا يحضر لمجلس القضاء إلا بعد أن يطلع على أوراق القضية التي أخذ على عهدته المرافعة فيها ويبحث عما يمكن أن يكون حجة له فيها يستند به وما يمكن أن يكون حجة عليه ليتبصر في دفعه عند الضرورة فهو لا يقوم بالكلام إلا وعنده فكر ومعانٍ قائمة غاية الأمر أنه يريد أن يعبر عنها وليس في ذلك شيء من الصعوبة لأن كل ناطق يمكنه أن يقول ما شاء من العبارات ما دام عنده فكر يريد أن يبرزه إلى غيره، كل إنسان يعرف عن نفسه أنه يتكلم مع من يدعو الأمر إلى كلامه الأزمنة الطويلة والأوقات العديدة لا يعتريه ملل أو وجل كما نشاهد في عملنا اليومي مع من نقف أمامهم وقد جمعتنا بهم رابطة المنبت والعلم واتحاد المشارب واتفاق المآرب.

الأدب

وهو صفة في الخلائق تبعث في النفس حب التواضع فنقر بها إلى من علاها وتسمو بها إلى من دونها وخليق بالمحامي أن يجعل شعاره الأدب في القول باختيار الألفاظ المؤدية للمعاني المقصودة بلا خشونة وتوخى إلقاءها بلا غلط كما يهذب قلمه في التحرير على النمط الذي تزين ألفاظه معانيه وألفاظه زائنات المعاني.
وحلية الأدب فضيلة أليق بالمحامي التخلق بها في معاشرته ومعاملته فإن له بين الناس قدرًا يزداد بالأب ويكمل بالمحاسنة وقد يأخذ باللين ما لا يأخذ بالشدة وغلبة المحامي على خصمه إنما تكون بآداب المناظرة فيقرن الدليل بالدليل ويقرع الحجة بالحجة وكلما لأن جانبه وظهرت مزاياه عرف بين الناس بالخلق الحسن فتسلك معه سبيل المجاملة ورد النظير بنظير فلا يؤاخذ زميلاً إن بدرت منه كلمة خارجة عن حدود اللياقة أو استعمل لفظًا جارحًا فحسن الجواب أبلغ في النوال، ادفع بالتي هي أحسن، وناهيك بخزي من يعتدي فيرد عليه اعتداؤه بالملاطفة وأبلغ حديث شريف يؤدي أرقى معنى في هذا الباب من مكارم الأخلاق (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).
حاجة المرافع ماسة لسلوك الأدب مع القاضي فيحترمه ويعتني بطلبه فتكون موعظة حسنة ومثلاً يقاس عليه - قد تكون علاقة المحامي بزملائه أكثر أدبًا وبموكله أظهر في حسن المعاملة واستنباط المجهولات بالمحاسنة فقد يكون بين أرباب القضايا من يظنون المحامي حاكمًا كما يسمعون العامة ويخشون بأسه فلا يفضون إليه بسر أمرهم ولا يدلون إليه بحججهم وأولئك خير لهم حلم الحليم وأدب الأديب للوصول للحق وإبداء الرأي بسلامة ذوق، يتوهم بعض الجهلاء إن واجب المحامي تقمص جلابيب موكله والاتصاف بخصاله واتخاذ مظهر العداء لخصمه ويغالبون في ذلك إلى حد الإساءة للإخوان ونقض الرعاية الواجبة للزملاء فلا يأخذ الغرور ناشئًا في الصناعة الاقتداء بتلك الخصال الذميمة ومناوأة زملائه بل حسن التفاهم قاعدة التعامل والمودة رابطة متينة في العمل قوامها الأدب والتآلف بحسن المؤازرة والتضامن بين أبناء الطائفة بالتناصر والتعاون (وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

الثبات

وهو إحكام الرأي وتأسيسه على التؤدة والتروي ثم التمسك به والحرص عليه وعدم التذبذب في الفكرة للعدول عنها من غير بحث وما دام الأمر مبناه علم يقين وحكمه ظاهر جلي لا يحتاج إلى التردد فلا مفر من الاعتصام به والاستمرار عليه وهي من الخلال الشريفة التي يتصف بها المحامي المنصف الجريء الأديب لتكمل الصفات ويمتاز بحسن المزايا وأجل المحاسن، قيل إن الرجوع للحق فضيلة ولا تنافي بين هذا وذاك اللهم إن الثبات على الرأي والدأب على العمل فرضته حسن العقيدة وقاعدته بناء الرأي على فكرة سديدة فمتى ما انكشف غامض أمرها وظهر الحق بخلافها فإن التمسك بالحق هو الثبات ولا خلاف بين الصدر والعجز إذ المقرر في الأذهان وتوافر فيه الإجماع هو الثبات على الحق وعدم نقض العهد إن العهد كان مسؤولاً.

في الأسباب الكسبية

تحصيل العلوم واقتناء المعارف وتقوية المدارك بالدرس والمطالعة والكد في العمل بالمثابرة وهي أهم الأسباب الكسبية، فمتى أتم الشاب دراسته ونال جائزة لم يكن مثله إلا كمثل طارق باب بيده المفتاح يسوغ له الدخول ويباح له الانتفاع (كلمة مأثورة عن المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ عبده مفتي الديار المصرية).
وما دامت تلك الأسباب في نمو وازدياد هيأ الإنسان نفسه بها للمحافظة على مقامه والحرص على ما ادخره لمستقبله منها وكلكم ولا فخر رجال من ذوي الكرامة وأهل العلم فلا شك أن تعلو بمثلكم تلك الصناعة وتطبيق العلم على العمل هو منتهى المهارة ومبلغ الاجتهاد في تدوين المسائل القانونية وتقريرها على التوسع ببحث المؤلفات ومراجعة الموسوعات في مقارنة الأحكام وإسنادها لمختلف الآراء فيما ذهب إليه الشراح يؤدي للنهوض بالمهنة وبلوغها الشأو الأنسب لها من الرفعة فلا تضيق أوقاتكم بالاطلاع والأخذ بتلك الأسباب فإن لنا فيكم منتهى الآمال وما مذهب الحرية وأنتم ناصروه إلا حلية للفضيلة وقد تمسكتم بها، وقد يتناول موضوعنا من الإسهاب في كل باب ما يضيق المقام عن سرده كالإشارة إلى ما لا ينبغي للمحامي الاشتغال به مع مهنته مما قد يؤثر في شرفها ودرجتها من الاعتبار وكذلك الحقوق والواجبات بتوسع يفوق هذا المقال بالإيجاز، نم الكلام عن الاستفتاء والاستشارة والأتعاب بما يقتضي المحافظة على الكرامة وعلو النفس بما يزيد عن المساعدة القضائية المجانية - طبعًا - في نجدة المسكين وإعانة الفقير وإعانة الملهوف وكل ما في كرم الأخلاق من المزايا الإنسانية وإنما هي نبذة يسيرة في تجارب مدة قصيرة قضيتها أثناء التمرين بمكتب صديقي الأستاذ عبد العزيز بك فهمي حياه الله وبياه ونجح الله مسعاه ولا بد أن عنايتنا بتلك المزايا والتوسع فيها يستوجب حتمًا بلوغ مهنتنا أسمى درجات الشرف وغاية النوال بتمام الاستقلال.

أحمد مصطفى


[(1)] محاضرة ألقاها الأستاذ أحمد بك مصطفى المحامي على المحامين تحت التمرين في يوم الجمعة 12 إبريل سنة 1920.

تأثير اعتماد خط التنظيم في الملكية

مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة الخامسة - أكتوبر سنة 1924

تأثير اعتماد خط التنظيم في الملكية
بحث في قانون التنظيم ولائحته

مسألة مهمة ومشكلة من مشاكل القانون العديدة التي تُعرض في كل يوم على المحاكم فتقضي فيها كل محكمة بحسب ما تتوجه إليه فكرتها ويوحيه إليها ضميرها.
وكثيرًا ما رأينا المحاكم تتخبط في آرائها ورأينا من العباد شكوى مرّة من قسوة أحكامها، وكم قُدم للمحاكمة شخص متهم بترميم منزل له خارج عن خط تنظيم اعتُمد بديكريتو ولم تُتخذ الإجراءات اللازمة لنزع ملكيته، فيقف المخالف أمام المحكمة مكتوف اليدين أمام قسوة المشرع الذي سن قوانين التنظيم ولوائحه، وقسوة القاضي الذي يتشدد في تطبيق حرفيات النصوص، ولا حيلة له في نقض أقوال الإدارة لحجية محاضر المخالفات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بندب خبير قد يتقاضى أجرًا باهظًا، وكثيرًا ما ترفض المحاكم ندبه وبعد ذلك كله يُقضَى عليه بالعقوبة، وليتها الغرامة فقط بل تشفعها المحكمة بإزالة ما حصل من الترميم البسيط إزالة قد تؤدي إلى تلف المنزل وخرابه.
والقاعدة العامة أن الملكية وهي أثبت الحقوق وأهمها وأوسعها نطاقًا حق من أهم صفاته صفة الإطلاق، فهي حق مطلق يجيز للمالك الانتفاع والتصرف بكافة أوجههما.
ولكن المشرع في جميع الأزمان وفي جميع القوانين رأى أن يقيد هذا الإطلاق بقيود، منها ما وضعه للمنفعة العامة التي تستلزمها مصالح البلاد، ومنها ما هو للمنفعة الخاصة وهي منفعة الأفراد مستنيرًا في ذلك بنور التطورات العمرانية والتقلبات المختلفة التي تؤول إليها حال البلاد من وقتٍ لآخر، على أن القاعدة العامة هي أن ما ورد على خلاف القياس فلا يقاس عليه، فهذه القيود التي قيد بها الشارع حق الملكية قيود استثنائية وردت على خلاف القياس فلا يقاس عليها غيرها بل يجب التحرز وعدم التوسع في تطبيقها متخذين في ذلك العدالة إمامًا والرحمة سبيلاً.
نصت المادة الأولى من الأمر العالي الصادر في 26 أغسطس سنة 1889 على أنه (لا يجوز مطلقًا لأحد أن يبني في المدن والقرى منازل أو عمارات أو أسوار أو بلكونات أو سلالم خارجة مكشوفة أو غير ذلك من الأبنية التي تقام على جانبي الطريق العمومية ولا يسوغ أيضًا توسيع تلك الأبنية أو تعليتها أو تقويتها أو ترميمها أو هدمها بأي صفة كانت أو في أي حد كان من الحدود إلا بعد حصوله من مصلحة التنظيم على الرخصة وخط التنظيم) وجاء في المادة العاشرة من اللائحة الصادرة من وزارة الأشغال في 8 سبتمبر سنة 1889 بتنفيذ الأمر العالي المذكور أن (مجرد الإقرار على رسم خط التنظيم من ناظر الأشغال العمومية وصدور أمر عالٍ باعتماده يسوغان للحكومة أن تنزع شيئًا فشيئًا وبالطريقة القانونية الأراضي المبينة بالرسم لزومها لإنشاء الشوارع المعمول عنها الرسم المذكور، ومن تاريخ صدور الأمر العالي المشار إليه لا يجوز إقامة أي بناء على الأراضي اللازم نزع ملكيتها)، والذي يؤخذ من هاتين المادتين ثلاثة أحكام وهي:
أولاً: يجب لإجراء أي عمل من أعمال البناء أو الترميم أو التعديل أو الزيادة أو النقصان في بناء مجاور للطريق العمومي الحصول على رخصة ومراعاة خط التنظيم.
ثانيًا: إذا عُين خط تنظيم جديد لطريق من الطرق العمومية وأقرته وزارة الأشغال وصدر أمر عالٍ باعتماده ودخلت بعض المباني أو الأراضي التي على جانبي الطريق في هذا الخط جاز للإدارة أن تنزع ملكيتها شيئًا فشيئًا بغير حاجة إلى اتباع نصوص قانون نزع الملكية الصادر في سنة 1906.
ثالثًا: إذا كان الحال كما في الحالة السابقة فلا تجوز إقامة أي بناء على الأراضي المراد نزع ملكيتها.
والذي يهمنا وما هو محل بحثنا هو الحكم الثالث الذي قاسى منه الناس كثيرًا بلا رحمة ولا شفقة.
ويحسن بنا للاهتداء في هذا البحث أن نُرجع البصر إلى مأخذ تشريعنا الذي أخذنا ولا نزال نأخذ عنه قوانيننا وهو التشريع الفرنسي، ثم نعود إلى ما عليه تشريعنا المصري وبعد ذلك نفحص أقوال الشراح والمحاكم ونرد حججهم وأقوالهم ثم نبدي رأينا الخاص.

الشراح والمحاكم في فرنسا

لقد اختلف الشراح والمحاكم في فرنسا في آرائهم ولكن يمكن حصر هذا الاختلاف في رأيين:
الرأي الأول:
يرى أصحاب هذا الرأي من الشراح والمحاكم أنه منذ صدور الدكريتو باعتماد خط التنظيم لا يجوز إقامة مبانٍ على الأرض المعدة لنزع ملكيتها ولا يجوز ترميم أو تقوية أو تعديل الأبنية القائمة على هذه الأرض.
ومن الشراح الذين ذهبوا هذا المذهب (بلانيول) في شرحه للقانون المدني جزء أول بند (2334) و(كولان) و(كابتان) جزء أول صـ (745) و(فيجييه) في شرحه للقانون المدني جزء أول صـ (531)، ومما قاله (بلانيول) عن ذلك في صحيفة (720) بند (2334) أنه إذا دخل جزء من البناء في خط التنظيم ولو لم تُنزع ملكيته بالطرق المعتادة أصبح هذا الجزء خاصًا لشبه حق ارتفاق لمصلحة الطريق العام، فلا يمكن إقامة مبانٍ جديدة عليه ولا ترميم المباني القائمة من قبل حتى لا تدفع الإدارة إلا قيمة الأرض المجردة.
ومن المحاكم الفرنسية التي أخذت بهذا الرأي محاكم جزئية كثيرة أهم أحكامها الحكم الوارد في (مجلة سيري 93 – 3 – 97)، وفي ذلك حكم من محكمة النقض الفرنسية صادر في 7 إبريل 1911 منشور في (مجلة سيري 1912 – 1 – 179)، واستندت هذه الأحكام إلى أن إباحة البناء والترميم ينتفي معها الغرض من تعيين خط التنظيم ويعوق سرعة إنشاء الطرق بإقامة المباني وترميمها وتقويتها.
الرأي الثاني:
أما أصحاب هذا الرأي من الشراح والمحاكم فيوجهون إلى الرأي السابق من النقد أشده ويرى أصحابه أن اعتماد خط التنظيم لا يؤثر في ملكية المالك ولا يحرمه من حق البناء على الأرض المراد نزع ملكيتها أو ترميم ما عليها من الأبنية أو تقويتها حتى تنزع ملكيتها بالطرق القانونية، ويرون أن اعتماد خط التنظيم لا يكون إلا بمثابة مشروع لا يحرم الملاك من الانتفاع بملكهم حتى تُنزع ملكيتهم. وأهم أنصار هذا الرأي مسيو (هيريو) وهو رئيس الوزارة الفرنسية الآن، فلقد وجه إلى الرأي القائل بعدم جواز الترميم والبناء والتقوية نقدًا مرًا في تعليقه على حكم منشور في (مجلة سيري 1903 -3 - 97) ولقد بيّن هذا العالم مخاطر خط التنظيم ومضاره وانتقد جمود المحاكم في الأخذ بمباني النصوص دون مقاصدها.
ومن الشراح الذين أخذوا بهذا الرأي أيضًا (أوبري) و(رو) في شرحهما للقانون المدني جزء (4) صـ (47)، و(لوران) جزء (6) صـ (47)، و(داللوز) في موسوعاته جزء (23) صـ (16).
ومن المحاكم الفرنسية التي أخذت بهذا الرأي محكمة النقض في حكمها الصادر بدوائرها المجتمعة في 24 نوفمبر 1837 بعدم توقيع العقوبة على من بنى داخل خط التنظيم قبل نزع ملكيته ودفع التعويض له. وحكم آخر من هذه المحكمة في 30 إبريل 1886 يقضي بإباحة البناء في الأرض المعدة لنزع ملكيتها وترميم ذلك البناء وتقويته.

الشراح والمحاكم في مصر

أما الشراح في مصر فلم نجد منهم من حلل النصوص القانونية في هذا الصدد تحليلاً يسير مع التطورات العمرانية مراعيًا في ذلك مصالح العدد الكثير من الملاك الفقراء الذين تدخل بيوتهم ضمن خط التنظيم، وأول هؤلاء الشراح (مسيو لامبا) فقد قال في كتابه في القانون الإداري المصري 474، 475 (بعد أن عرّف خط التنظيم في صـ (473) بأنه تعبير يراد به الحد المجاور) إنه منذ صدور الأمر العالي يحرم البناء على الأرض المعدة لنزع ملكيتها، ولا يشترط في ذلك أن يكون الطريق قد وُجد فعلاً بل يكفي أن يكون هناك تصميم اعتُمد بدكريتو حتى يصبح خط التنظيم إلزاميًا وإن اعتماد خط التنظيم هو قيد لا يسمح للملاك المجاورين أن يعدلوا أو يزيدوا في حالة أملاكهم الخارجة عن هذا الخط.
كذلك قال الدكتور محمد كامل مرسي بك (الآن السكرتير الثاني للسفارة المصرية بلندن) في رسالته التي قدمها في الدكتوراة القانونية المسماة (نطاق حق الملكية في مصر) صـ (180) إنه لا يجوز إجراء عمل من أعمال الترميم والصيانة في البناء القائم على الأرض المراد نزع ملكيتها للطريق العمومي متى اعتُمد خط التنظيم، وما ذلك الحظر إلا لئلا يطول أمد المباني القائمة على الأرض حتى إذا أُهملت تداعت من نفسها ولا تدفع الإدارة إلا ثمن الأرض.
أما المحاكم المصرية: فنوعان المختلطة والأهلية.
أما المحاكم المختلطة فمنها ما يميل إلى إباحة البناء وتقويته وربما كان ذلك الميل الأغلب منها، وفي ذلك أحكام كثيرة من محكمة الاستئناف المختلطة أهمها حكم صادر في 25 إبريل 1894 مجموعة التشريع والأحكام س (6) صـ (321) وأول مارس 1905 المجموعة المذكورة س (17) صـ (139).
ولكن من المحاكم المختلطة ما قضى بعكس ذلك وحظر البناء والترميم وفي ذلك أحكام قليلة من محكمة الاستئناف المختلطة وأهمها حكم 11 يناير 1891 المجموعة المذكورة س (6) صـ (108)، 2 فبراير 1906 المجموعة المذكورة س (14) صـ (125)، 15 نوفمبر 1893 المجموعة المذكورة س (6) صـ (43)، 4 ديسمبر 1890 المجموعة المذكورة س (3) صـ (45).
أما القضاء الأهلي وعلى رأسه محكمة الاستئناف الأهلية فقد خطا خطوة حسنة في تحليل النصوص القانونية. وتنحصر آراء المحاكم الأهلية في ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
يرى هذا الرأي أغلب المحاكم الجزئية ومحكمة الاستئناف في بعض أحكامها، ومقتضى هذا الرأي هو حظر البناء في الأراضي المعدة لنزع ملكيتها أو ترميم البناء القائم عليها أو تقويته متى اعتمد خط التنظيم، ومن الأحكام الصادرة في هذا الصدد (وجميعها لم تُنشر) الحكم الصادر من محكمة مخالفات مصر في 5 يناير 1914 (وألغاه حكم الاستئناف الصادر في 5 إبريل 1914) وكذلك الحكم الصادر من محكمة مخالفات المنصورة في 20 أغسطس 1916 (وألغاه الحكم الصادر من الاستئناف في 21 نوفمبر سنة 1916) وحكم محكمة العطف في 24 مارس 1924.
وأهم أحكام محكمة الاستئناف في هذا الصدد الحكم الصادر في 26 مارس سنة 1917 (المجموعة الرسمية س (18) عدد (32) صـ (52)) ومجموعة الأحكام لحمدي بك السيد (القسم المدني) صـ (99).
الرأي الثاني:
قضت أحكام عديدة من المحاكم الجزئية ومن محكمة الاستئناف بعكس الرأي السابق وإباحة البناء على الأرض اللازم نزع ملكيتها وجواز تقوية البناء القائم عليها وترميمه كما يشاء المالك (حكم محكمة أسيوط الجزئية 17 مايو 1915 المجموعة الرسمية س (16) صـ (118) عدد (103)) وحكم لم يُنشر صادر من محكمة فوه في 20 يناير 1922 في القضية نمرة (231) سنة 1922، ولقد استأنفت النيابة هذا الحكم فأيدته محكمة الاستئناف في 18 يونية 1922 في القضية نمرة (2132) سنة 39 قضائية. وحكم محكمة سنورس (الذي لم يُنشر) في 6 فبراير 1917.
الرأي الثالث:
يفرق أصحاب هذا الرأي من المحاكم بين حالتين:
الأولى: إذا كان المراد إجراؤه بناءً جديدًا أو ترميمًا يزيد من قيمة الأبنية القائمة.
الثانية: إذا كان ما أُجري ترميمًا أريد به الانتفاع بالبناء القائم واستعماله.
فإن كان من النوع الأول فلا يجوز إجراؤه وإن كان من الثاني جاز.
ومن هذا الرأي محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 15 إبريل 1914 المجموعة الرسمية س (18) صـ (53) عدد (20) وآخر في 21 نوفمبر 1916 المجموعة الرسمية س (18) صـ (55) عدد (31). مجموعة الأحكام لحمدي بك السيد صـ (99) (القسم المدني).

خلاصة حجج الآراء السابقة

1 - الرأي القائل بالحظر:
تتلخص حجج الرأي القائل بحظر البناء والتقوية والترميم متى اعتُمد خط التنظيم فيما يأتي:
أولاً: نصت المادة الأولى من الأمر العالي الصادر في 26 أغسطس 1886 على أنه لا يجوز بناء منازل أو عمارات أو سلالم أو بلكونات أو سلالم خارجة مكشوفة أو غير ذلك من الأبنية القائمة على جانبي الطريق العمومي، ولا يسوغ أيضًا توسيع تلك الأبنية أو تعليتها أو تقويتها أو ترميمها أو هدمها بأي صفة كانت أو في أي حد من الحدود إلا بعد الحصول من مصلحة التنظيم على الرخصة وخط التنظيم.
ونصت الفقرة الأولى من المادة (11) من الأمر العالي المذكور على أن إجراء أعمال بدون رخصة خارج خط التنظيم يستوجب توقيع العقوبة المدونة بالمادة (328)، وذلك فضلاً عن هدم الأعمال المذكورة على مصاريف المخالف.
وهذه الحجة قوية في ظاهرها إذا أُخذت بمفردها، ولكنها إذا فُسرت مع بقية النصوص الأخرى الواردة في هذا الصدد وجد أنه لا يصح الأخذ بها على إطلاقها لأنها من القيود المقيدة للملكية الواردة على خلاف القياس فيجب تضييق تفسيرها حتى تلاءم مصالح العباد.
ولكن محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 26 مارس 1917 أبت إلا أن تقول إن حكم هذه المادة عام ويشمل المباني والأعمال الخاصة بها من ترميم ونحوه سواء كانت هذه المباني واقعة على خط التنظيم أو على غير خط التنظيم، على أن في هذا الحكم مطعنين:
1 - إذا راجعنا هذا القول وجدنا الشطر الأول منه مبهمًا لأننا لو راجعنا المادة العاشرة من لائحة التنفيذ الصادرة من وزارة الأشغال عقب صدور الأمر العالي المذكور وجدنا أنها لا تمنع إلا البناء ولم تتكلم عن الترميم أو التقوية الواردين بالمادة الأولى من الأمر العالي وهذا النقص ووجوب تضييق التفسير يقضيان بالقول بإباحة ترميم الأبنية القائمة وتقويتها.
2 - وقد أجمع المحاكم والشراح على أن الأعمال التي تُجرَى في البناء الداخل عن خط التنظيم لا تستلزم رخصة (انظر نطاق حق الملكية لكامل مرسي بك صـ (179) وحكم محكمة الاستئناف المختلطة 25 إبريل 1894 مجموعة التشريع والأحكام (6) صـ (321) و17 إبريل 1895 المجموعة المذكورة (7) صـ (229) و11 مارس 1896 المجموعة المذكورة (8) صـ (163)).
وإذا رجعنا إلى المادة (10) من لائحة التنفيذ وجدناها تنص على حكمين:
أولهما: أن اعتماد خط التنظيم بدكريتو يسوغ للإدارة شيئًا فشيئًا أن تنزع ملكية الأراضي المبينة بالرسم بغير حاجة في ذلك لاتباع نصوص قانون نزع الملكية الصادر في 1906.
وثانيهما: أنه لا يجوز البناء على هذه الأراضي.
فيؤخذ من هذه المادة أنها وردت لتسهيل أعمال الإدارة فيما يتعلق بنزع الملكية وعدم إطالة الوقت باتباع الإجراءات المعتادة، وما لم تنزع الملكية فهي باقية وإن هذه المادة لا تسري إلا على الأراضي التي أُعدت لنزع ملكيتها وإدخالها في الطريق العام.
أما المادة الأولى من الأمر العالي والمادة (11) منه فما أريد بهما إنما هو خط التنظيم الذي يفصل طريقًا عموميًا مستعملاً بالفعل عن الأملاك المجاورة، وذلك حفظًا للطرق المستعملة من قبل واستبقاءً لرونقها ونظامها وما لم يكن الطريق مستعملاً بالفعل بأن كان لا يزال مشروعًا فلا تسري عليه المادة الأولى من الأمر العالي بل المادة (10) من لائحة التنفيذ.
ثانيًا: استندوا إلى أن الحكمة في حظر البناء والتقوية والترميم هي زوال المباني الخارجة عن خط التنظيم متى تداعت أو هدمها أصحابها، وبذلك لا تدفع الإدارة إلا ثمن الأرض مجردة والرد على ذلك هو القول بأن في ذلك اعتداءً كبيرًا على الملكية لا تبرره القوانين بل يقضي بعكسه ورود هذه المواد باعتبارها قيودًا على سبيل الاستثناء وحماية حرية الأفراد في التمتع بأملاكهم حتى تُنزع ملكيتهم قانونًا ويعطوا التعويض عن ذلك وإلا لو سلمنا بهذا الاعتداء لكان فيه حرمان الأهالي من أملاكهم حرمانًا قد يكون لأجل غير مسمى فقد يصدر الديكريتو ولا تنزع الإدارة الملكية إلا بعد خمسين أو ستين سنة من صدوره وهذا يتنافى مع العدالة التي ما شرعت القوانين إلا لحمايتها.
ثالثًا: قالوا إن إباحة البناء والترميم والتقوية تبقي المباني الخارجة عن خط التنظيم قائمة وتعوق نفاذ الطرق العمومية بالسرعة المطلوبة، ولكن هذا القول مردود على قائله لأن الإدارة إذا شرعت في نزع الملكية فلا يعوقها قيام البناء أو عدمه وكل ما هناك إنما هو النزاع في التعويض، وسنتكلم على مشكلة التعويض عند الكلام على رأينا الخاص في هذه المسألة.
2 - حجج الرأي القائل بإباحة البناء:
أولاً: قالوا إن الأراضي والمباني التي لم تُنزع ملكيتها لا تزال باقية على ملكية أصحابها ولهم حق الانتفاع بها إلى أن تُنزع هذه الملكية (حكم محكمة فوه السابق ذكره) وإن اعتماد خط التنظيم ليس إلا بمثابة إخطار للملاك بعزم الحكومة على نزع ملكية أراضيهم في المستقبل القريب أو البعيد (حكم محكمة أسيوط السابق).
ثانيًا: أن المادة العاشرة من لائحة (8) سبتمبر سنة 1889 لا يمكنها أن تنشئ جرائم أو تقرر عقوبة لأن ذلك من حق السلطة التشريعية نفسها (حكم محكمة أسيوط ) ولكن لنا على ذلك الحكم اعتراض وهو أنه يتنافى مع نظام الحكومة عندنا سابقًا لأن السلطة التنفيذية عندنا كانت هي السلطة التشريعية، ولأن كثيرًا من اللوائح أصدرتها وزارات مختلفة وأتت فيها بعقوبات طبقتها المحاكم منذ صدورها، من ذلك لائحة عربات النقل في 7 يناير 1891 مادة (12)، ولائحة الفلايكية في 16 مارس 1891 مادة (46)، ولائحة المترجمين في 28 ديسمبر 1895 مادة (10) ولائحة نقاشي الأختام، ولائحة القبانية والكيالين ولائحة عربات الركوب والسيارات والكتبة العمومية… إلخ، وجميع هذه اللوائح صادرة بعقوبات أمرت بتوقيعها السلطة التنفيذية التي كانت في الواقع السلطة التشريعية.
3 - حجج الرأي القائل بجواز الترميم ومنع البناء الجديد:
وهو الرأي الثالث الذي اتخذته محكمة الاستئناف الأهلية فقالت بعدم جواز البناء الجديد وبجواز ترميم وتقوية البناء القائم من قبل لأجل استعماله، وحجج هذا الرأي تتلخص فيما يأتي:
أولاً: أن الأمر العالي الخاص بالتنظيم إنما يسري على الأراضي والمنازل الواقعة على جانبي الطريق العمومية الجاري استعمالها أما اللائحة فقاصرة على الأراضي التي قررت الحكومة نزع ملكيتها بناءً على مشروع طريق عمومية جديدة تنوي الحكومة عملها.
ثانيًا: أن نص المادة (10) من اللائحة اقتصر على منع البناء ولم ينص على شيء من الأعمال اللازمة للمحافظة على المنازل التي تقرر نزع ملكيتها.
ثالثًا: أن الملكية التي لا تزال باقية لأصحابها حتى تُنزع تستلزم انتفاع الملاك بأملاكهم وأن عكس ذلك يقضي بمنع التمتع لمدة لا تعلم نهايتها (راجع أحكام محكمة الاستئناف السابق إيرادها).

رأينا الخاص

والرأي عندي أننا إذا حللنا النصوص القانونية الواردة في ذلك وهي المادة الأولى من دكريتو التنظيم والمادة (11) منه والمادة (10) من لائحة وزارة الأشغال نجد بها الأحكام الآتية:
أولاً: أن الأمر العالي الخاص بالتنظيم لا تنطبق المادة الأولى منه إلا على الأراضي والمباني القائمة على جانبي الطريق العمومي المستعمل فعلاً، أما لائحة التنفيذ فلا تنطبق إلا على الطرق المراد إنشاؤها والمبينة بالرسم المعتمد.
ثانيًا: لا يجوز بناء أو ترميم أو تقوية أو تعديل أو زيادة أو نقصان مبانٍ على جانبي الطريق العمومي المستعمل فعلاً إلا بعد الحصول على رخصة وخط التنظيم.
ثالثًا: إذا اعتمد خط التنظيم لطريق عمومي بدكريتو ودخلت بعض المباني فيه ولم تنزع الإدارة ملكية هذه المباني لنفاذ الطريق جاز للمالك ترميم هذه المباني أو تقويتها أو إصلاحها سواء كان ذلك لأجل استعمال ملكه والانتفاع به أو لأجل الاتجار.
رابعًا: إذا دخلت بعض الأراضي المجاورة الفضاء ضمن الخط المعتمد فليس لأربابها أن يبنوا فيها بناءً جديدًا.
خامسًا: لا تدفع الإدارة عند نزع الملكية قيمة الإصلاحات أو الترميمات أو الزيادات التي يجريها المالك بل كل ما تدفعه هي قيمة الأرض والمباني القائمة وقت اعتماد الرسم المبين به خط التنظيم بدكريتو.
أما الحكم الأول والثاني فقد سبق الكلام عليهما وأما الثالث فإننا نخالف فيه محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 15 إبريل 1914 و21 نوفمبر 1916 (المجموعة الرسمية س (18) صـ (53) و(55)) الذي فرق بين الترميمات التي عملت بقصد استعمال المباني والتي عملت بقصد المتاجرة وقضى بإباحة الأولى ومنع الثانية ونحن نرى أنه لا أثر لمثل هذه التفرقة في لائحة التنفيذ، وكل ما هناك أن المادة العاشرة منها منعت البناء منذ صدور الدكريتو باعتماد خط التنظيم ولم تذكر شيئًا عن الترميمات وما يشابهها.
وأما فيما يتعلق بالتعويض الذي يُعطَى للملاك عند نزع ملكيتهم فإن دكريتو اعتماد خط التنظيم الذي يسوغ للإدارة نزع ملكية الأراضي والمباني اللازمة يعتبر بدلاً عن الدكريتو الذي استلزم صدوره قانون نزع الملكية الصادر سنة 1906 (المادة 1). ونصت المادة (15) من هذا القانون على أنه لا تراعى في تقدير الثمن التحسينات والترميمات التي عملت بقصد الحصول على ثمن أزيد وتكون كذلك إذا حصلت بعد نشر الدكريتو وإني أرى أن دكريتو اعتماد خط التنظيم وإن جاز معه إجراء ترميمات إلا أنها لا تقدر عند نزع الملكية. [(1)].

عبد العزيز عبد الهادي
المحامي بدمنهور


[(1)] راجع بهذا الخصوص الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الأهلية بتاريخ أول يناير سنة 1921 ومنشور بمجلة المحاماة بالعدد العاشر من السنة الثالثة صـ (502) نمرة (407)، وراجع كذلك حكم محكمة أسيوط الأهلية الصادر بتاريخ 26 فبراير سنة 1921 ومنشور كذلك بالمحاماة عدد (2) س (2) صـ (94) نمرة (35)، وراجع كذلك الحكم الصادر من محكمة أسيوط الجزئية الأهلية بتاريخ 31 فبراير سنة 1924 ومنشور بهذا العدد ضمن أحكام المحاكم الجزئية).

هل للأحكام الإدارية قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية

مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الحادية عشرة - شهر يونيه سنة 1931

بحث في هل للأحكام الإدارية قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية

عبد المجيد سليمان المحامي

مقدمة:
أنشأ المشرع المصري نوعين من المحاكم الجنائية:
1 - المحاكم العادية.
2 - والمحاكم الإدارية.
وتنقسم محاكمنا الإدارية إلى أربعة أقسام:
1/ قسم روعي في إنشائه بعد الجهة التي أوجد فيها وتطرفها مثل محاكم العريش وسيوا والقصير والداخلة والخارجة والصحراء.
2/ وقسم آخر أنشئ لأن الطبيعة النوعية للجريمة ونتائجها تقتضي وجوده مثل لجان الجمارك.
3/ وقسم ثالث أوجد مراعاة لأمور خاصة مثل محاكم الجرائم التي ترتكب ضد رجال جيش الاحتلال ومحكمة جرائم الرقيق.
4/ والقسم الرابع وضع للمحافظة على نظم الزراعة والري، وهما مصدر حياة هذه البلاد ومورد الرزق الأساسي للسواد الأعظم من أهلها، وقد رأى الشارع في تشكيلها ضمانًا أوفى للعناية بمرافق القطر الأساسية بالفصل في الجرائم التي تمسها بطريقة أسرع وهذا القسم اختص بالفصل في الجرائم المنصوص عنها في القوانين الخاصة بفيضان النيل والترع والجسور وري الشراقي والسكك الزراعية وإعدام الجراد وزراعة الدخان.
موضوع بحثنا:
إنا نقصر كلامنا على القسم الرابع من محاكمنا الإدارية، فهل للأحكام التي تصدرها اللجان المشكلة بناءً على قوانين فيضان النيل والترع والجسور وري الشراقي إلخ… قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية مثل ما للأحكام التي تصدرها المحاكم الجنائية العادية.
إن الإجابة على ذلك تقتضي الوقوف على القيمة القانونية لتلك الأحكام.
إن اللجان الإدارية المذكورة مشكلة بناءً على أوامر عالية نص فيها على كيفية تشكيلها وعلى العقوبات التي لها أن توقعها.
فلجان فيضان النيل صدر في شأنها الأمر العالي المؤرخ في 9 سبتمبر سنة 1887، ونصت المادة الرابعة منه على أنها تشكل من المدير أو وكيله ومن اثنين من عمد البلاد ومن مأمور المركز ومن باشمهندس المديرية أو وكيله وتشكل في المحافظات برئاسة المحافظ أو وكيله ومن اثنين من أعيان المدينة ومن مهندس التنظيم أو وكيله، وتنص المادة الثالثة منه على أن للجنة حق الحكم بالحبس من عشرين يومًا إلى ثلاثة أشهر أو بغرامة من مائة قرش إلى ألف قرش، ويجوز استئناف أحكام الحبس أمام لجنة تشكل بمعرفة وزير الداخلية تحت رئاسته أو رئاسة وكيله.
ولجان مخالفات الري صدر بشأنها الأمر العالي في 22 فبراير سنة 1894 الشهير بلائحة الترع والجسور وتقضي المادة (38) بتشكيلها من المدير والباشمهندس أو من ينوب عنه وثلاثة من عمد المديرية تعينهم وزارة الداخلية، وتقضي المواد (32) و(33) و(34) و(35) من اللائحة بعقوبة غرامة تتراوح بين عشرة قروش إلى عشرين جنيهًا وحبس يتراوح بين أربع وعشرين ساعة إلى شهرين، ويجوز استئناف هذه الأحكام إذا كانت صادرة بالحبس أمام لجنة مشكلة من وكيل وزارة الداخلية ومن مستشار ملكي ومن مندوب من وزارة الأشغال العمومية.
ولجان إعدام الجراد صدر عنها الأمر العالي في 16 يونيه سنة 1891 وخول لها حق الحكم بالحبس من عشرة أيام إلى ثلاثين يومًا أو بغرامة من عشرين قرشًا إلى مائتي قرش، وهي مشكلة من المدير أو وكيله ومن مندوب الزراعة واثنين من أعضاء مجلس المديرية، وفي المحافظات من المحافظ أو وكيله والباشمهندس أو مندوبه ومن اثنين من الأعيان يعينهما المحافظ.
أما لجان ري الشراقي فصدر عنها الأمر العالي الرقيم 15 مايو سنة 1903 ويقضي بعقوبة الحبس فيها من خمسة عشر يومًا إلى شهرين أو بغرامة قدرها جنيه مصري واحد إلى عشرين جنيهًا نفس اللجان المنصوص عنها في لائحة الترع والجسور السابق ذكرها.
ثم هنالك الأمر العالي الصادر في 3 نوفمبر سنة 1890 وخاص بالسكك الزراعية ويقضي فيها بغرامة أقصاها خمسة جنيهات ويقضي فيها بغير استئناف مدير المديرية وحده.
ثم الأمر العالي الصادر في 25 يونيه سنة 1890 الخاص بزراعة الدخان ويقضي في جرائمها المدير أو المحافظ وحده.
وإذا كان من خالف ما هو منصوص في تلك الأوامر العالية عمدة أو شيخًا فإنه لا يحاكم أمام اللجان المذكورة بل أمام لجنة الشياخات المشكلة من المدير أو وكيله ومن مندوب عن وزارة الداخلية وأحد وكلاء النيابة وأربعة من أعيان المديرية أو عمدها ينتخبهم المدير بشكل نص عنه في القانون (راجع المادتين (2) و(6) من الأمر العالي الصادر في 16 مارس سنة 1895).
والقاعدة المقررة في الفقه الجنائي أن العقوبة التي ينص عنها الشارع في القانون هي التي تكيف نوع الجريمة المرتكبة والمعاقب عليها فإذا كانت الجريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام أو الأشغال الشاقة أو السجن فهي جناية وإن كان معاقبًا عليها بالحبس الذي لا يزيد أقصى مدته عن أسبوع أو بالغرامة التي لا يزيد أقصى مقدارها عن جنيه مصري فهي جنحة وإن كان معاقبًا عليها بالحبس الذي لا يزيد أقصى مدته عن أسبوع أو بالغرامة التي لا يزيد أقصى مقدارها عن جنيه مصري فهي مخالفة.
تلك قاعدة عامة نص عنها قانون العقوبات صراحةً ولا يؤثر فيها نقل الشارع الاختصاص من محكمة إلى أخرى فإن تكييف الجريمة لا يبني إلا على العقوبة التي نص الشارع على توقيعها بصرف النظر عن السلطة التي توقعها.
فجرائم الصحف التي تقضي فيها محاكم الجنايات استثناءً لم تخرج عن كونها جنحًا إذ العقوبة المقررة هي عقوبة جنحة - كما أن الجنايات (المجنحة) التي تقضي فيها محاكم الجنح لم تخرج أيضًا عن كونها جنايات ما دامت المادة المطبقة تقضي بعقوبة الجناية.
فلا تأثير إذًا للمحكمة التي نص الشارع بأنها هي توقع العقوبة، إنما العبرة هي بالعقوبة التي نص الشارع في المادة على توقيعها وبها تتكيف الجريمة الواقعة.
هذا هو المبدأ القانوني على أبسط مظاهره.
وقد رأينا أن الأحكام الإدارية السابق ذكرها تقضي بعقوبتي الغرامة التي يزيد أقصى مقدارها عن جنيه مصري واحد وبالحبس الذي يزيد أقصى مدته عن أسبوع فهي إذًا تقضي في جرائم جنح ولا جدال، وتكون تلك الأحكام أحكامًا جنائية بالمعنى القانوني الصحيح.
ويقول العلامة بارتيلمي في كتابه في القانون الإداري صفحة 441 عن اللجان الإدارية الفرنسية التي تشابه لجاننا الإدارية ما يأتي:

C’est au Conseil de préfecture aec appel au Conseil d’Etat, qu’il appartient de connaitre des contraventions de grande voirie. Les Juridictions deviennent par là, dans une certaine mesure, des juridictions répressives.

وقد قررت محكمة النقض الفرنسية هذا المبدأ أيضًا وبنت عليه نتيجة طبيعية له إذ قضت بأن جرائم الطرق الكبرى (Grande Voirie) لها صفة الجنح ولا تسقط إلا بمضي ثلاث سنوات (نقض 18/ 3/ 1895 - داللوز 95/ 1/ 156).
فأحكام اللجان الإدارية هي بناءً على ما تقدم أحكام جنائية حقيقية وتعتبر بالتخصيص صادرة في مواد الجنح.
وبما أنه من المقرر قانونًا أن لما صدر الحكم به جنائيًا قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية فلا يجوز لهذه المحاكم إلا أن تأخذ بما قضت به المحكمة الجنائية فيما يختص بحصول ارتكاب الجريمة واعتبار شخص معين مرتكبًا لها ووصف الجريمة الذي ورد في الحكم الابتدائي.
ذلك هو المبدأ العام ولا سبيل للخروج عليه ويبرره - على ما هو معلوم ولا نتوسع فيه الآن - مجموع نصوص القانون ومتانة نظام الأحكام الجنائية لقيام السلطة العامة التي لديها من وسائل البحث أوسع مما لدى الأفراد بتقديم المجرمين للمحاكمة كما يبرره الغرض المقصود من هذا المبدأ وهو منع التناقض بين الأحكام بصدور أحكام مدنية تقضي في معناها ببراءة أشخاص قضى عليهم جنائيًا إذ أن في ذلك تأثير سيئ على الأحكام الجنائية يثير حولها الريب والشكوك وهي التي يجب أن تكون فوق كل احترام.
وقد أجمع شراح القوانين والمحاكم عامة على هذا المبدأ.
ولنضرب مثلاً صغيرًا عن ذلك من المسائل العادية، فالسارق الذي قضي عليه من المحكمة الجنائية بالعقوبة لا يمكنه أن يقيم الدليل أمام المحاكم المدنية على ملكيته لما حكم عليه جنائيًا لسرقته.
فإذا قضت لجنة الترع والجسور على شخص لأنه بنى مثلاً على جسر من الأملاك العامة بعقوبة ما فهذا الحكم لم تصدره المحكمة الإدارية إلا لما ثبت لها من قيام أركان الجريمة وهي أن هناك:
1 - جسر عام.
2 - أنه قد حصل الاعتداء عليه بالبناء.
و3 - أن المعتدي هو الشخص المعين الذي حكمت عليه المحكمة الإدارية بالعقوبة.
أنه من غير الممكن قانونًا للمحاكم المدنية أن تعيد النظر في تلك النقط الثلاث في حالة ما إذا أدعى المحكوم عليه ملكية ما عوقب من أجل اعتدائه عليه - فلا مندوحة للمحكمة المدنية من التسليم بما قضى به الحكم الجنائي الإداري واعتبار أن الجسر المعتدى عليه هو من الأملاك العامة كما لا سبيل لإثبات عكس ذلك أمام المحكمة المدنية ومحاولة إقامة الدليل على أن الجريمة لم تحصل وأن الجسر ليس من الأملاك العامة لأن ذلك قد تقرر بصفة نهائية بالحكم الإداري الجنائي المذكور.
ولا حاجة للقول بأن القواعد العامة في هذا الباب تقضي بأن سلطة الأحكام الجنائية نافذة على الناس كافة.
لقد طرح مثل هذا الأمر على المحاكم الفرنسية فانتهت بالرأي الذي انتهينا إليه فيما تقدم:
إن عربة للمسيو روزي محملة قمحًا ويقودها المسيو مونيه كانت تخترق جسرًا عامًا فإذا الجسر ينقض تحت ثقل العربة - فتحرر محضر مخالفة ضد صاحبها فقضت اللجنة الإدارية المختصة (Conseil de préfecture) ببراءته لأن حمولة العربة وقت الحادثة لم تكن إلا حمولة قانونية، ولكن أصحاب التزام الجسر Les concessionnaires du pont زعموا أن الحادثة نشأت من أن حمولة العربة كانت زائدة ورفعوا الدعوى المدنية أمام محكمة (انجيه) ضد مالك العربة وسائقها بطلب التعويض فدفع المالك الدعوى بقوة الشيء المحكوم به فقبلت المحكمة المدنية الدفع وقضت بعدم قبول طلب أصحاب الالتزام إثبات أن الحمولة كانت زائدة عن المقرر للعربة.
رفع أصحاب الالتزام استئنافًا عن هذا الحكم وقال لسان الدفاع عنهم إن أحكام اللجان الإدارية ليست في الحقيقة أحكامًا جنائية وأن الدعوى العمومية فيها لا تقام بناءً على طلب النيابة العمومية وأن وظيفة اللجان إنما هي حماية ملكية الحكومة ضد الأضرار المادية التي يمكن أن تصيبها وأن حكم الغرامة ليس هو إلا تعويضًا إلخ…، ولكن محكمة استئناف (انجيه) اعتبرت أن اللجان الإدارية عندما تقضي في مادة الطرق العامة ومرور العربات عليها إنما تقضي كمحاكم قضائية جنائية تحكم في دعوى عمومية action publique وأيدت الحكم الابتدائي بحكمها الصادر في 26 مايو سنة 1864 (يراجع كتاب لاكوست Chose jugée) Lacoste)، نمرة 1389 و1390 و1391).
وقد قال العلامة لاكوست بعد أن ذكر هذه القضية بأن أحكام اللجان الإدارية التي تقضي بالغرامة إنما هي أحكام جنائية وبالتالي فلأحكامها تأثير ضد الغير أمام المحاكم المدنية لأن الغرامة المقضي بها هي عقوبة والدعوى التي تقام لتوقيع عقوبة الغرامة هي دعوى عمومية وأن الأسباب التي تقضي بسلطة الشيء المحكوم به من المحاكم الجنائية العادية أمام المحاكم المدنية متوفرة ويمكن الارتكان عليها في سلطة الأحكام الإدارية ويجب لكليهما نفس النتائج - وفي النهاية يجب التسليم بأن ليس للمحاكم المدنية أن تخالف القرارات التي بنيت على أساسها الأحكام الإدارية إلخ… (يراجع لاكوست نمرة 1392 و1393 و1396).
وقد قرر الأستاذ جيز أيضًا في كتابه في القانون الإداري بأن الأحكام الجنائية الإدارية تربط المحاكم المدنية لأن القاعدة الأساسية لسلطة الشيء المحكوم به تنطبق عليها أيضًا.

La chose jugée par le juge répressif administratif lie le juge civil judiciaire. La règle fondamentale de l’autorité absolue de la chose jugée s’applique aux jugements répressifs. Par exemple la constatiion faite par un conseil de préfecture statuant sur une contravention de grande Voirie a force de vérité légale pour les juges civils judiciaires. (V. Gaston Jèze Page 2326).

ثم لخص الأستاذ القضية التي ذكرها الأستاذ لاكوست وانتهى مؤيدًا حكم محكمة انجيه بقوله:
Cette solution est parfaitement correcte.
فالرأي الفرنسي يتفق مع ما نذهب إليه ويجب بناءً على ذلك التسليم بأن الأحكام الصادرة من اللجان والسلطات الإدارية لها قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية لأنها أحكام جنائية بالمعنى القانوني فإذا قضى على شخص ما مثلاً بعقوبة لاعتدائه بالبناء على جسر عام ورفع ذلك الشخص دعوى الملكية أمام المحاكم المدنية فيجب أن ترفض دعواه عملاً بسلطة الشيء المحكوم به جنائيًا وقد أخذ بهذا الرأي حكم صدر من المحاكم المصرية وهي محكمة أسيوط الابتدائية الأهلية في 11 مايو سنة 1918 فقضى بأن اللجان الإدارية وهي تقضي في مخالفة تصبح في الواقع محكمة تقضي في المخالفات ويجب احترام حكمها من المحاكم المدنية.
قد يعترض على ذلك بأن اللجان الإدارية أو المديرين أو المحافظين ليسوا محل الثقة الكافية في أحكامهم لضعف تشكيلها لأنها مكونة من رجل إداري وهو المدير أو المحافظ وحده أو معه شخص شبيه بالخصم وهو باشمهندس المديرية ومندوب الزراعة أو من ينوب عنها وبعض العمد الذين تعينهم وزارة الداخلية أو المدير.
على أن العبرة ليست بكفاءة الأشخاص الذين يحكمون بل بالقوة التي أعطاها الشارع لأحكامهم والشارع الذي أنشأ المحاكم المدنية والمحاكم الجنائية العادية هو طبعًا نفس الشارع الذي خلق المحاكم الإدارية، فقوة كلاهما سواء لأنها مستمدة من مصدر واحد وهو الشارع ولذلك لا يمكن القول مثلاً بأن ليس لمحاكم الأخطاط وهي مشكلة من الأعيان نفس السلطة القانونية التي لأكبر هيئة قضائية في البلاد.
فبناءً على ما تقدم ينتج أن ليس من شك في أن للأحكام الإدارية قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية ويجب عليها الأخذ بها وعدم القضاء بما يخالفها.