بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

16 أبريل 2012

من الفقه الدستوري

ما أقصده بالفقه الدستوري هو المحاولات العلمية للتمعن والتدبر في مفاهيم ومصطلحات وقيم الدستور من أجل المساهمة في تأسيس نظام الحكم في الدولة، وسدّ النقص، وإدراك العيب فيه. فالدستور هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الدولة. وهوالعمود الفقري لنظام الحكم في الوطن. وهوالوثيقة التي تبين وتحدد العلاقات بين الحاكم والمحكوم. وعند الحديت عن الدستور. لعل من أهم الأسئلة التي يجب على كل المثقفين والسياسيين والنخب الوطنية الإجابة عليها هي الآتي:
1. ما هي ظروف وضع الدستور؟
2. ما هي أهم أنواع الدساتير؟
3. ما هي أهم طرق (أو أساليب) وضع الدستور؟
4. ما هي أهم القضايا التي يجب على الذين سيكتبون الدستور التعامل معها؟

أولا: ظروف وضع الدستور؟
بمعنى ما هو سبب (أو أسباب) وضع الدستور في دولة ما؟ لا شك أن أي دستور - سواء في قيمه، أو قواعده، أو طريقة وضعه، هو في الأصل نتاج للظروف العملية والموضوعية التي تحيط به. بمعنى أن دستور الدولة - أي دولة - في العادة هو انعكاس لفلسفتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وفي العادة فإن قضية وضع الدستور يحددها مجموعة من الظروف لعل من أهمها:
(1) حدوث إنقلاب أوثورة في الدولة مما يؤذي إلى الإطاحة بالدستور القديم.
(2) نشأة دولة جديدة، أو تحصلها على استقلالها بعد أن كانت غير مستقلة.
(3) هزيمة دولة في حرب، وخضوعها لإرادة الدولة (أو الدول) المنتصرة، كما حدت على سبيل المثال لليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والعراق بعد هزيمتها فيما عرف بحرب الخليج الثانية عام 2003.

ثانيا : أنواع الدساتير
1. مكتوب .. و .. غيرمكتوب
والسؤال هنا هو: هل لا بد أن يكون الدستور مكتوبا؟ والإجابة بالطبع لا. ولكن يستحب أن تكون دساتير اليوم مكتوبة، وذلك لأنه في العادة، الدساتير الغير مكتوبة تكون أكثر مرونة، وأقل استقرارا. وأيضا لأن الدساتير غير المكتوبة هي دساتيرعرفية (بمعنى أنه يغلب على قواعدها أن يكون العرف مصدرها). والدساتير العرفية لا توضع وضعا، ولا تدون في وثيقة واحدة، وفي العادة تكون نتاج لمرحلة تاريخية طويلة. ولعل من أهم وأشهر الدساتير الغير مكتوبة هو الدستور البريطاني؛ لأن غالبية قواعدة غير مدونة في وثيقة دستورية واحدة. وحتى قواعده الدستورية المدونة صدرت في شكل قوانين عادية عن طريق البرلمان، فهي قوانين دستورية من حيث مضمونها، ولكنها قوانين عادية من حيث شكلها.
2. شكلي .. و .. موضوعي
المعنى الشكلي للدستور ينصرف إلى الوثيقة الدستورية داتها ولايعدوها. فمفهوم الدستور وفقا لهذا المعنى هو أنه عبارة عن القواعد والمواد القانونية الواردة في الوثيقة التي تحوي النصوص الدستورية. بمعنى أن كل مبدأ أو قاعدة لا تتضمنها هذه الوثيقة لا يمكن اعتبارها قاعدة دستورية. أما المعنى الموضوعي للدستور فهو الذي ينظر إلى موضوع القاعدة لا إلى شكلها. ووفقا للمعنى الموضوعي فإن موضوع القاعدة هو الذي يحدد طبيعتها، وليس شكلها هو الذي يحدد ما إذا كانت القاعدة من طبيعه دستورية أم لا. والمشكلة الأساسية هنا هي أن أصحاب هذا الفهم للدستور لا يتفقون تمام الاتفاق على ماهية الموضوعات الدستورية، وإلى أي مدى يمكن تفسير القواعد القانونية.
3. مرن .. و .. غيرمرن
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الدساتير الجامدة ليس بالضروري أن تكون مناقضة للتقدم والتطور، وإنما تعني مجرد صعوبة إدخال تعديلات عليها. أما الدساتير المرنة فهي التي يمكن تعديلها بسهولة. وفي العادة يتم تعديل نصوصها بذات الطريقة التي تعدل بها القوانين العادية، وبذات الأغلبية اللازمة لتعديل تلك القوانين.

ثالثاً : طرق (أو أساليب) وضع الدستور
1. المنحة :
تتم هذة العملية في العادة في الأنظمة الشمولية، أو في حالة سيطرة دولة على أخرى، كما حدث عندما سيطرت أمريكا على اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. ففي الأنظمة الشمولية - على سبيل المثال - يقوم الدكتاتور أوالملك بتنظيم سلطاته ليضفي على حكمه الصبغة الدستورية، والسلطات التي تصدرعلى هذا النحو يحرص "مانحوها" على أن يحتفظوا لأنفسهم بأغلب السلطات، وأن ينقلوا بعضها الآخر (وخصوصا الغير مهم أو السلبي) إلى ممثلي الشعب. والأمثلة على هذا النوع كثيرة. وما يقوم به الملوك العرب اليوم (وما يصرح به سيف القداافى للإعلام هذه الأيام) من محاولة إعطاء هامشا ديمقراطيا إلا نموذجا على ذلك. ولعل خير مثال على هذا الإجراء هو ما قامت به أمريكا عند سيطرتها على اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. إذ قام الجنرال دقلس ماكرتي القائد العام لقوات الحلفاء في المحيط الهادي خلال الحرب العالمة الثانية عندما أمر مساعدية عام 1946 بكتابة دستور جديد لليابان. وبالفعل قاموا بكتابته وأجبروا الشعب الياباني على الموافقة عليه عام 1947.(1)
ولعل من الطريف في هذا الدستورهوالمادة التاسعة فيه، والتي تنص على منع اليابان من الاشتراك في أي حرب إلى الأبد!!! إذ تنص هذة المادة على الآتي : "تأكيدا للسلام الدولي المؤسس على النظام والعدل، يدين الشعب الياباني الحرب إلى الأبد، ويتنازل عن حقه الوطني في التهديد باستخدام القوة كأذاة لحل النزعات الدولية."(2)
والعجيب أن أمريكا التي فرضت هذة المادة على الشعب الياباني عام 1947، ها هي اليوم تستجدي اليابان لمساعدتها في حفظ السلام العالمي !!

2. التعاقد :
وهذه الطريقة لوضع الدساتير تفترض أن السلطة التأسيسية تعبر عنها إرادتان: إرادة الحاكم أوالسلطة الحاكمة من جهة، وإرادة الشعب أو القوى السياسية في المجتمع من جهة أخرى. والذي يحدث في هذه العملية هو أن ممثلي الشعب وقواه السياسية يقومون بوضع مشروع دستور، ثم يعرضونه على السلطة الحاكمة التي توافق عليه بعد تعديله. وعند التقاء الإرادتين يتم وضع الدستور، ويعرض على الشعب للاستفتاء عليه. فعلى سبيل المثال في جنوب إفريقيا تم الاتفاق عام 1994 بين الأقلية الحاكمة، والأكثرية، على صياغة دستور لحكم البلاد. وهذا الاتفاق تم التوصل إليه بعد سنتين من التفاوض بين جميع الأطراف.(3)

3. الجمعية التأسيسية أو المؤتمرالدستوري (معينة أم مختارة)
وهي عبارة عن لقاء ممثلي الولايات أو المناطق أو القوى السياسية والاجتماعية التي ترغب في صياغة
الدستور. وهذه الطريقة تعني أن ممثلي الشعب المختارين مباشرة (أو المعينين) لغرض وضع الدستور، هم الذين قاموا بوضعه فعلاً. وأنه بمجرد إقرارهم للدستور في صياغته النهائية، يصبح الدستور بذاته نافذا دون أن يتوقف ذلك على إقرار من أحد. وتنتهي مهمة الجمعية التاسيسية (أو المؤتمر الدستوري) بانتهاء وضع وإقرار وإصدار الدستور.
والحقيقة أنه قد تم وضع أغلبية الدساتير بهذه الطريقة. ولعل الدستور الأمريكي الذي وضع فيما عرف بمؤتمر فيلادلفيا عام 1787 يعتير من أهم هذه الدساتير. لقد كان المؤتمر الدستوري لكتابة الدستور الأمريكي عام 1787 هو أطول المؤتمرات الدستورية في التاريخ. إذ استمر لمدة 116 يوما (من 25 مايو إلى 17 سبتمبر من عام 1787). وشارك في هذا المؤتمر 55 مندوبا من مجموع 74 مندوبا تم دعوتهم، يمثلون 12 ولاية من مجموع 13 ولاية – إذ أن ولاية رودارلند رفضت الحضور والمشاركة في هذا المؤتمر. والحقيقة أن المشاركين في هذا المؤتمر لم يكن واردا عند بدء اجتماعهم، ولا عند دعوتهم للاجتماع، أنهم سيضعون دستورا جديد للاتحاد. ولم يكونوا بالتالي مفوضين لوضع ذلك الدستور الذي يحكم أمريكا الآن. ولعل هذا ما دعا بعض المؤرخين إلى القول بأن الدستور الأمريكي وضع بطريقة غير شرعية.
لقد تم في هذا المؤتمر مناقشة مشروعين للدستور. المشروع (أو الورقة) الأولى قدمتها الولايات الكبيرة بقيادة ولاية فرجينيا، وقد تم رفض هذا المشروع من قبل الولايات الصغيرة. وكنتيجة لهذا؛ فقد قامت الولايات الصغيرة بقيادة ولاية نيوجرزي بتقديم مشروع مضاد، والذي تم رفضه أيضاً من قبل الولايات الكبيرة. مما أدى إلى استمرار النقاش والجدال بين الفريقين لأسابيع عديدة. وبعد فترة من النقاش والجدال، تم التوصل إلى حل وسط، عرف في التاريخ الأمريكي بمشروع كنيتكت أو "الحل العظيم"، والذي أدى إلى موافقة الجميع عليه، وأصبح دستور البلاد الذي يحكمها حتى يومنا هذا.

4. الدائرة المستديرة (أو لقاء المعارضة والحكومة)
هو أداة توفر لكل من المعارضة ونظام الحكم فرصة التفاوض والحوار البناء، من أجل الاتفاق على مشروع دستور جديد لكيف يتم حكم البلاد. وهذا التفاوض والحوار البناء يتم في شكل دائرة مستديرة للمفاوضات بين كل الفرقاء، كما حدث في أوروبا الشرقية وجنوب إفريقيا في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات. فقد قام الحزب الحاكم في بولندا - على سبيل المثال - بدعوة كل القوى السياسية في المجتمع، والتفاوض معها لصياغة دستور جديد، وقد استمرت هذه العملية حوالي تسع سنوات. بدأت عمليات التفاوض والإصلاح التدريجي للحكم الماركسي في بولندا عام 1989. وفي هذة السنة نجحت المفاوضات في القيام بإجراء تعديلات في الدستور، وكنتيجة لهذه التعديلات تم الاتفاق على أن تكون السلطة التنفيدية مشاركة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.
ونتيجة لزيادة الضغط من القوى المعارضة، قام رئيس الجمهورية عام 1990 باقتراح تعديل جديد للدستور، وذلك بأن يتم انتخاب الرئيس عن طريق الشعب بدلاً من انتخابه عن طريق البرلمان؛ وكنتيجة لهذا التعديل استطاع مرشح المعارضة الفوز في انتخابات الرئاسة. وفي عام 1991 قام البرلمان - الذي سيطرت عليه المعارضة - بتشكيل لجنتين دستوريتين: واحدة في مجلس الشيوخ، والثانية في مجلس النواب. وفي عام 1992 نجحت المعارضة في إقناع البرلمان بالموافقة على ما أطلق علية بـ "الدستور الصغير"، وتم أيضاً اعتماد إجراءات من أجل كتابة دستور دائم للبلاد. وكنتيجة لهذه الإجراءات تم الموافقة على الدستورالدائم في استفتاء شعبي عام 1997.(4)
أما في جنوب إفريقيا، فلقد قام الحزب الحاكم (الحزب العنصري) بدعوة كل القوى السياسية الأساسية في المجتمع للجلوس على دائرة مستديرة، لصياغة دستور جديد. وقد أخدت عملية صياغة الدستور أكثر من سبع سنوات (من 1989 إلى 1996). فقد مرت أربع سنوات ما بين أول اجتماع بين زعيم المعارضة نلسن مانديلا زعيم المؤتمرالوطني الإفريقي، ورئيس الحكومة "بوثن" عام 1989. لقد تم في هذا اللقاء الاتفاق على كتابة دستور مؤقت، وإجراء أول انتخابات غيرعنصرية عام 1994. وفي عام 1993 اجتمعت كل القوى السياسية الرئيسية في البلاد (26 مجموعة سياسية) من أجل الاتفاق على صياغة دستور جديد لإنهاء العنصرية. ونظراً لأن هذة المجموعات كانت غير منتخبة من الشعب، فقد اتفقوا على أن يكون الدستور الذي وافقوا عليه بعد مفاوضات دامت ستة شهور هو مجرد "دستورا مؤقت". وقد اتفقوا أيضا على أن يكون هذا الدستور المؤقت هو الأساس والموازنة التي يجب اعتبارها والإلتزام بمبادئها عند كتابة الدستور الجديد. وبالفعل فقد تم في عام 1994 إجراء أول انتخابات برلمانية شارك فيها كل أبناء الشعب، وكانت نسبة المشاركة قد فاقت 86%. هذا وقد تم تكليف البرلمان الجديد بأن يقوم بدور الجمعية الدستورية التي ستكتب الدستور وفقا للمبادئ التي نص عليها الدستور المؤقت.(5)
وفي نوفمبر 1995 نجحت اللجنة الخاصة بكتابة الدستور في الاتفاق على الصباغه الأولى وفقا لشروط الدستور المؤقت الصادرعام 1994. وبعد نقاش طويل قامت الجمعية الدستورية بتقديمه إلى المحكمة العليا - كما اشترط الدستور المؤقت - لمراجعته. وفي المدة ما بين يوليو إلى سبتمبر 1996 قامت المحكمة العليا بمراجعة مواد الدستور المقترح، وأرجعتة إلى الجمعية الدستورية من أجل تعديله، وبالفعل قامت الجمعية بذلك.
وفي نوفمبر تم إرجاعه إلى المحكمة العليا بعد إجراء التعديلات عليه. وبالفعل قامت المحكمة العليا بالموافقة
على المشروع في ديسمبر من نفس السنة، واعتمده الرئيس نلسن مانديلا، وتم اعتماده كدستور دائم للبلاد.

رابعا: أهم القضايا الدستورية التي يجب التعامل معها :
(1) تحديد حريات وحقوق وواجبات المواطن.
(2). الفصل بين السلطات.
(3) علاقة الحاكمية بالمشروعية الدستورية
(4) علاقة السيادة القانونية بالرقابة الدستورية
(5) شكل الحكومة (برلمانية أم رئاسية).
(6) علاقة الدستور بالدستورية.

(1) تحديد حريات وحقوق وواجبات المواطن
القضية الاولى التي يجب على الذين سيكتبون الدستور التعامل معها هي قضية " تحديد حريات وحقوق وواجبات المواطن." بمعنى ما هي أهم القضايا التي يجب الاتفاق عليها وتعريفها هي قضية الحريات ومجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها والواجبات التي يجب ان يقوم بها كل انسان في الدوله. بمعنى ما هي أهم الحريات التي يجب الا تخضع لآي سلطة؟ وهل يحق للانسان ان يعمل ما يشي متى شاء واينما شاء. وما هي الحقوق التي يجب على السلطة توفيرها لكل مواطن؟ بمعنى هل التعليم المجاني - على سبيل المثال - حق لكل مواطن؟ وهل توفير العلاج لكل انسان من واجبات الدوله؟ وهل توفير السكن اللائق لكل محتاج من مهام المجتمع؟.
(2) الفصل بين السلطات
القضية الثانية التي يجب على الذين سيكتبون الدستورالتعامل معها هي قضية "الفصل بين السلطات"، والغرض الأساسي من الفصل بين السلطات هو منع الاستبداد، وتركز السلطة في يد مجموعة صغيرة من الأشخاص. ولعل من أشهر أنواع الفصل بين السلطات هو الفصل بين الوظائف في الحكومة الواحدة، وخصوصا الفصل بين الوظائف الرئيسية الثلات: التشريعية والتنفيدية والقضائية. بمعنى أن المسؤولين الذين يصنعون القوانين يجب ألا يكونوا هم الذين ينفذونها، والذين لهم حق تفسيرهذه القوانين يجب أن يكونوا مجموعة ثالثة. والسؤال المهم في هذا الصدد هو: إلى أي مدى يمكن فصل هذه السلطات؟ وهل يتعم الاكتفاء بمجرد الفصل بين هذه السلطات؟ والإجابة بالطبع لا، وذلك لأن فكرة الفصل بين السلطات يجب ألا يكون غاية في حدّ ذاتها. ولا بد لهذا الفصل لكي يكون ناجحا ومؤثرا أن يرتبط ببعضه البعض. ويمكن تحقيق ذلك بتطبيق مبدأ "المراقبة والاتزان"، وذلك بإعطاء كل سلطة الأدوات الدستورية الضرورية لمراقبة السلطات الأخرى، والمشاركة معها في اتخاد القرارات من أجل تحقيق التوازن.
ولعل أحسن مثال على ذلك هو ما أعطاه الدستور الأمريكي لرئيس الجمهورية من نقض قرارات مجلس التشريع (الكونجرس). وفي نفس الوقت إعطاء الحق لمجلس التشريع لإلغاء "حق النقض" إذا وافق المجلس بأغلبية الثلثين على القرار. ومن جهة أخرى أعطى الحق للمحكمة العليا لمراجعة كل القرارات لتأكد من دستوريتها. والحقيقة أنه إلى جانب مبدأ الفصل بين الوظائف، هناك العديد من الأساليب لتحقيق هذا الهدف. ولعل من أشهرها الأساليب التالية:
(أ) تعدد المجالس (ازدواج مجلسي البرلمان).
(ب) تعدد وسائل الاختيار (أساليب مختلفة لاختيار المسؤولين السياسيين).
(ج) اختلاف الفترات الانتخابية (أو التعيين).
(د) توزيع السلطات بين سلطاتين أوأكثر.
(أ) ازدواج مجلسي البرلمان : قد يتم لاغراض عدة لعل من أهمها: التمثيل الجغرافي، أوالتمثيل العددي، أو تمثيل الأجيال (العمر). ففي بعض الدول يتكون البرلمان من مجلس واحد، وفي البعض الآخر يتكون من مجلسين. وفي الحالة الأخيرة، يقال أن الدولة "تأخد بمبدا ازدواج مجلسي البرلمان. ويعد ازدواج مجلسي البرلمان - كما يرى بعض علماء الفقه الدستوري الفرنسي - أحد ضمانات الحريات في المجتمع".(6)
والحقيقة أن فكرة المجالس التشريعية من مجلسين لم تتكون اعتباطاً، ولا للرغبة في تأليف هيئات مختلفة العناصر. ففي العادة حينما تتكون الهيئة التشريعية من مجلسين، فإن أحد المجلسين يتكون من الأعضاء الأصغر سناً، ويسمى مجلس النواب، والمجلس الثاني يتكون من الأعضاء الأكبر سنا ويسمى عادة بمجلس الشيوخ. أو كما هو الحال في برلمان بريطانيا، فإن أحد المجلسين يضم أعضاء من الشعب، بينما الثاني يضم أعضاء من ذوي الثراء والنفوذ، والذين في الدولة. لقد نشأ البرلمان ذو المجلسين في انجلترا بسبب النزاع الذي كان قائما بين الملك وأمراء الأقاليم، وكان الملك هو صاحب السلطة المطلقة في البلاد، ولكن أمراء الأقاليم كانوا أصحاب سيادة على أقاليمهم، وكذلك كانت سلطة هؤلاء الأمراء قيدا على سلطة الملك..".(7)
(ب) أساليب مختلفة لاختيار المسؤولين السياسيين: وهذا الأسلوب لتحقيق الفصل بين السلطات، يقوم على أساس التركيز على الكيفية التي يتم بها حصول المسؤولين على وظائفهم، كأن يتم تعيين بعضهم، وانتخاب بعضهم الآخر.
(ج) اختلاف الفترات الانتخابية (أو التعيين): وهذا الأسلوب لتحقيق الفصل بين السلطات، يقوم على أساس اختلاف الفترات الزمنية التي يحق لكل مسؤول أن يبقى في منصبه بعد انتخابة أو تعيينه. فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة يتم انتخاب عضو مجلس النواب لمدة سنتين، ويتم انتخاب رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات، ويتم انتخاب عضو مجلس الشيوخ لمدة ست سنوات، ويتم تعيين عضو (قاضي) المحكمة العليا مدى الحياة. وهذا الاختلاف في الفترات الانتخابية (أو التعيين) يقود في العادة إلى الاستقرار في الحكم، ومنع السيطرة بسهولة من قبل أي مجموعة على السلطه.
(د) توزيع السلطات بين حكومتين أو أكثر: وهذا باختصار يعني وجود نظام حكم فدرالي تتم فيه توزيع السلطات بين الحكومة الفدرالية (المركزية)، والمحافظات (أو الولايات) بحيت تكون السلطة مشاركة بين كل الحكومات في الدولة.
(3) علاقة الحاكمية بالمشروعية الدستورية
القضية الثالتة التي يجب على الذين سيكتبون الدستور التعامل معها هي قضية "علاقة الحاكمية بالمشروعية الدستورية." والمشروعية تعني ببساطة ان كل القوانيين لابد ان تكون مقبولة من قبل الشعب ولكي تكون مقبولة لابد ان تكون وفقا للدستور. بمعنى ان كل قانون يجب ان يكون موضع احترام من الجميع حتى من السلطة التي أصدرته وحتى من الذين لايتفقون مع غرضه أوهدفه. أما الحاكمية فاقصد بها هنا هي المرجعية التي نلجى لها عند الاختلاف في شي ما. وهذا يعني أحترام ما يطلق عليه "بالمشروعية الكلية،" أي احترام قاعدة التسلسل (أوالتدرج) في التصرفات القانونية وأحترام ما أفره الدستور. ومن جهة اخرى تعني ضرورة مطابقة
كل القوانين الصادرة عن الدولة ومؤساستها لنص الدستور.
(4) علاقة السيادة القانونية بالرقابة الدستورية
القضية الرابعة التي يجب على الذين سيكتبون الدستور التعامل معها هي قضية "علاقة السيادة القانونية بالرقابة الدستورية". هذا يعني أن رقابة الدستور وسيادة القانون، هما أمران متلازمان. إذ بغير رقابة دستورية تفقد فكرة سمو الدستور معناها. والذي أعنيه بالرقابة القضائية هنا هو التأكيد على دستورية كل القوانين.
وعليه فلا بد من وضع ضمانات لتحقيق سيادة الدستور، وذلك بفرض رقابة دستورية على القوانين لمنع كل محاولات الاستبداد والطغيان، وتنظيم الرقابة الدستورية يمكن أن يتم بالآتي:
أ. المرجعية القضائية :
يعني حق السلطات القضائية في مراجعة القوانين والقرارات التنفيدية، لمعرفة مدى دستوريتها. فعلى سبيل المثال: في أمريكا أعطى الدستورالأمريكي المحكمة العليا الحق في النظر في أي قانون أو قرار إداري، والتأكد من دستوريته. وفي الهند أعطى الدستور الهندي المحكمة الدستورية العليا الحق في مراجعة (وإلغاء) حتى التعديلات الدستورية للدستور نفسه (هيجو 2002، 156).
ب. المرجعية السياسية :
وهذه الرقابة تفترض أن الدستور قد عهد إلى هيئة معينة لمباشرة هذه المهمة مثل: (أ) لجنة متخصصة منبتقة عن المجلس التشريعي كما هو الحال في بريطانيا. أو (ب) عن طريق إنشاء مجلس دستوري (خبراء) كما هو الحال في فرنسا وإيران.
(5) شكل الحكومة (برلمانية أو رئاسية أو ملكية)
القضية الخامسة التي يجب على الذين سيكتبون الدستور التعامل معها هي قضية "شكل الحكومة".
وهذا يعني : كيف يتم تطبيق الديمقراطية؟ وما هي أهم المؤسسات والآليات الانتخابية التي يمكن استخدامها من أجل إنجاح النظام السياسي؟ وكيف يتم التمثيل؟ وباختصار كيف يتم الربط بين الحاكم والمحكوم؟ بمعنى ما هو شكل الحكم الذي يمكن تطبيقه؟ والحقيقة أن هناك نمادج عديدة لعل من أهمها الآتي:
أولا: النموذج الملكي الذي يقوم فيه الشعب بتنصيب شخص منهم كملك عليهم. ويقوم هذا الملك ومساعدوه بتمثيل الشعب، وإدارة شؤون البلاد نيابة عنهم. ويقوم النظام الملكي على أساس أن هناك شخصا أو عائلة لها الحق الذاتي في تولي الحكم. يمتد حكم الملك مدى الحياة، وتنتقل السلطة من بعده إلى أحد أولاده أو بناته جيلاً بعد جيل، بمقتضى قانون التوريث المنصوص عليه في الدستور. ولهذا النموذج من الحكم عدة أنواع كالملكية الاستبدادية، وتتميز بأن حكم الملك هو القانون. والملكية المطلقة، وتتميز بأن السلطة العليا تتجمع في يد الملك الذي يخضع للقانون، ولكن له أن يغيره بإرادته. والملكية الدستورية المقيدة، وتتميز بالتسليم بحق الشعب في مشاركة الملك مهمة الحكم والتشريع.
ثانيا: النموذج البرلماني، وهو الذي يقوم على أساس أن الشعب يختار ممثليه في المجلس التشريعي. ومن ثم يقوم المجلس التشريعي باختيار الحكومة ورئيس الوزراء. وهذا النمودج هو أكثر أنواع الحكم انتشارا في العالم. ولعل من أهم مزاياه الآتي: (أ) الشعب يختار المجلس التشريعي. (ب) المجلس التشريعي يختار ويوافق على الحكومة. (ج) في هذا النظام لا يوجد فصل بين السلطات. بمعنى أن البرلمان يملك حق التشريع، وحق التنفيذ للقرارات التي يشرعها. (د) على الحكومة أن تقدم سياساتها، وتتحمل مسئولياتها أمام المجلس. (هـ) من حق المجلس أن يسحب الثقة من الحكومة متى شاء.
ثالثا: أما النموذج الثالث، فهو النموذج الرئاسي الذي ترجح فيه كفة الرئيس، ولكن يوجد فصل واضح ما بين السلطات الثلات: التشريعية، والتنفيدية، والقضائية. بمعنى أن الرئيس في هذا النموذج لا يعتمد على البرلمان، لأن الرئيس يتم انتخابه عن طريق الشعب مباشرة. ومن جهة أخرى لا يستطيع البرلمان عزل الرئيس إلا إذا نص الدستور على ذلك. ولهذا يمكن اعتبار النظام الرئاسي أكثر استقرارا من النظام البرلماني. ولكن من أهم عيوب النظام الرئاسي في بعض الأحيان هو تصادم الرئيس مع البرلمان، خصوصاً عندما يكون الرئيس من كتلة
سياسية تختلف عن الكتلة السياسية المسيطرة على البرلمان.
(6) علاقة الدستور بالدستورية :
القضية السادسة التي يجب على الذين سيكتبون الدستور التعامل معها هي قضية "علاقة الدستور بالدستورية". والدستورية تعني ضرورة أن تكون كل القواعد القانونية التي يسنها الجهاز التشريعي في الدولة متفقة مع أحكام الدستور وغير مخالفة له. كذلك يجب على الجهاز التنفيذي أن يكون دائما في حدود الأطر الدستورية. والدستورية هي العقيدة السياسية التي تقوم عليها الدولة، والفكرة التي يقوم عليها الحكم الدستوري. وبمعنى آخر هي مجموعة المثاليات والقيم التي تؤكد محدودية الحكومة، وحماية حقوق الإنسان في الدولة.
والدستورية هي أعم وأشمل من الدستور. فهي ليست كل ما هو مكتوب في الدستور فقط، وإنما تشمل كل ما لا يتعارض مع الدستور. بمعنى أنه قد توجد في المجتمع أشياء كثيرة سكت عنها الدستور، ولكنها دستورية. وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود الدستور في بلد ما، لا يعني وجود الدستورية، بل قد يكون العكس هو الصحيح. وبمعنى أن الدول التي بها دساتير سيئة - في تصوري - هي أسوأ من الدول التي ليس بها دستور؛ وعليه فجوهر الدستورية هو أن سلطات الدولة لا بد أن تكون محدودة. والامتحان الدستوري الذي يجب استخدامه للحكم على صلاحية أي دستور، هو الذي يشترط توفر أربعة شروط لكي تتحقق الدستورية. هذه الشروط هي:
1. شرط التكوين أو التاسيس (بمعنى تأسيس السلطات).
2. شرط التنظيم (بمعنى تنظيم السلطات).
3. شرط التوزيع (بمعنى توزيع السلطات).
4. شرط التحديد (بمعنى تحديد السلطات).

الخاتمة
في اعتقادي أنه بالرغم من كل التحديات التي ستواجه الشعب، إلا أنه لا بديل عن الدستور في أي مجتمع يريد أن يعيش في أمن وأمان. وذلك لأن الدستور هو الميثاق الذي يمنح السلطة للسياسيين، وعن طريقه يمكن سحب هذه السلطة منهم. والدولة التي لا تملك دستورا، يملك السلطة فيها الأقوياء، وبدون حق. ولكي يكون الدستور دستورياً، لابد أن يقوم على أساس العدل، ومن أجل تحقيق إرادة الشعب، وهذا يتطلب إشراك كل المواطنين في العملية الدستورية، ولكي يتم إشراك الجميع، لا بد من إيجاد وعي وثقافة دستورية عالية. ولا بد من بذل كل الجهود التعليمية والتثقيفية، واستخدام كل أساليب وأدوات الإعلام والصحافة، وخصوصا الصحف والمجلات والإذاعات المرئية والمسموعة والإنترنت من أجل تحقيق هذا الهدف.