مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الرابع
يد الأمانة ويد الضّمان :
المشهور تقسيم اليد إلى قسمين : يد أمانة ، ويد ضمان .
ويد الأمانة : حيازة الشّيء أو المال ، نيابةً لا تملّكاً ، كيد الوديع ، والمستعير ، والمستأجر، والشّريك ، والمضارب وناظر الوقف ، والوصيّ .
ويد الضّمان : حيازة المال للتّملّك أو لمصلحة الحائز ، كيد المشتري والقابض على سوم الشّراء ، والمرتهن ، والغاصب والمالك ، والمقترض .
وحكم يد الأمانة ، أنّ واضع اليد أمانةً ، لا يضمن ما هو تحت يده ، إلاّ بالتّعدّي أو التّقصير، كالوديع فإنّه إذا أودع الوديعة عند من لا يودع مثلها عند مثله يضمنها .
وحكم يد الضّمان ، أنّ واضع اليد على المال ، على وجه التّملّك أو الانتفاع به لمصلحة نفسه ، يضمنه في كلّ حال ، حتّى لو هلك بآفة سماويّة ، أو عجز عن ردّه إلى صاحبه ، كما يضمنه بالتّلف والإتلاف .
فالمالك ضامن لما يملكه وهو تحت يده ، فإذا انتقلت اليد إلى غيره بعقد البيع ، أو بإذنه ، كالمقبوض على سوم الشّراء ، أو بغير إذنه كالمغصوب ، فالضّمان في ذلك على ذي اليد . ولو انتقلت اليد إلى غيره ، بعقد وديعة أو عاريّة ، فالضّمان - أيضاً - على المالك .
أهمّ الأحكام والفوارق بين هاتين اليدين :
أ - تأثير السّبب السّماويّ :
إذا هلك الشّيء بسبب لا دخل للحائز فيه ولا لغيره ، انتفى الضّمان في يد الأمانة ، لا في يد الضّمان ، فلو هلكت العاريّة في يد المستعير بسبب الحرّ أو البرد ، لا يضمن المستعير ، لأنّ يده يد أمانة .
بخلاف يد البائع قبل تسليم المبيع إلى المشتري ، فإنّه لا ينتفي الضّمان بهلاكه بذلك ، بل يفسخ العقد ، ويسقط الثّمن ، لعدم الفائدة من بقائه ، لعجز البائع عن تسليم المبيع كلّما طالب بالثّمن ، فامتنعت المطالبة ، وارتفع العقد كأن لم يكن .
والمذهب عند مالك ، انتقال الضّمان إلى المشتري بنفس العقد .
ب - تغيّر صفة وضع اليد :
تتغيّر صفة يد الأمين وتصبح يد ضمان بالتّعدّي ، فإذا تلف الشّيء بعد ذلك ضمنه ، مهما كان سبب التّلف ، ولو سماويّاً .
أ - ففي الإجارة ، يعتبر الأجير المشترك أميناً - عند أبي حنيفة - والمتاع في يده أمانة ، لا يضمن إن هلك بغير عمله ، إلاّ إن قصّر في حفظه ، كالوديع إذا قصّر في حفظ الوديعة ، أو تعمّد الإتلاف ، أو تلف المتاع بفعله ، كتمزّق الثّوب من دقّه .
ب - وفي الوديعة ، يضمن إذا ترك الحفظ الملتزم ، كأن رأى إنساناً يسرق الوديعة ، فتركه وهو قادر على المنع ، أو خالف في كيفيّة الحفظ ، أو أودعها من ليس في عياله ، أو عند من لا تودع عند مثله ، أو سافر بها ، أو جحدها كما تقدّم .
ج - وفي العاريّة ، وهي أمانة عند الجمهور ، ما عدا الحنابلة ، لا تضمن إن هلكت بالانتفاع المعتاد ، وتضمن بالتّعدّي ، كأن يدلّ عليها سارقاً أو يتلفها أو يمنعها من المعير بعد الطّلب ، على تفصيل بين ما يغاب وما لا يغاب عند المالكيّة .
ج - الموت عن تجهيل :
معنى التّجهيل : أن لا يبيّن حال الأمانة الّتي عنده ، وهو يعلم أنّ وارثه لا يعلم حالها، كذلك فسّرها ابن نجيم ، فالوديع إذا مات مجهلاً حال الوديعة الّتي عنده ، ووارثه لا يعلم حالها ، يضمنها بذلك .
ومعنى ضمانها - كما يقول ابن نجيم - صيرورتها ديناً في تركته .
وكذلك ناظر الوقف ، إذا مات مجهلاً لحال بدل الوقف ، فإنّه يضمنه .
وكذا كلّ شيء أصله أمانة يصير ديناً في التّركة بالموت عن تجهيل .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ ترك الإيصاء في الوديعة يستوجب الضّمان ، وقالوا : إذا مرض المودع مرضاً مخوفاً ، أو حبس ليقتل لزمه أن يوصي ، فإن سكت عن ذلك لزمه الضّمان ، لأنّه عرّضها للفوات ، لأنّ الوارث يعتمد ظاهر العين ، ولا بدّ في الوصيّة من بيان الوديعة ، حتّى لو قال : عندي لفلان ثوب ، ولم يوجد في تركته ، ضمن لعدم بيانه .
د - الشّرط :
لا أثر للشّرط في صفة اليد المؤتمنة عند الأكثرين .
قال البغداديّ : اشتراط الضّمان على المستعير باطل ، وقيل : تصير مضمونةً .
وقال التّمرتاشيّ : واشتراط الضّمان على الأمين باطل ، به يفتى ، فلو شرط المؤجّر على المستأجر ضمان العين المؤجّرة ، فالشّرط فاسد .
ولو شرط المودع على الوديع ضمان الوديعة فالشّرط باطل ، ولا ضمان لو تلفت وكذا الحكم في سائر الأمانات .
وعلّله المالكيّة ، بأنّه لما فيه من إخراجها عن حقيقتها الشّرعيّة .
وقال الحنابلة : لأنّه شرط ينافي مقتضى العقد ، ولو قال الوديع : أنا ضامن لها لم يضمن ما تلف بغير تعدّ ولا تقصير ، لأنّ ضمان الأمانات غير صحيح .
ونصّ القليوبيّ على أنّ شرط الأمانة في العاريّة - وهي مضمونة عند الشّافعيّة إذا هلكت بغير الاستعمال - هو شرط مفسد على المعتمد ، وشرط أن لا ضمان فيها فاسد لا مفسد . وجاء في نصوص الحنابلة : كلّ ما كان أمانةً لا يصير مضموناً بشرطه ، لأنّ مقتضى العقد كونه أمانةً ، فإذا شرط ضمانه ، فقد التزم ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه ، فلم يلزمه ، كما لو اشترط ضمان الوديعة ، أو ضمان مال في يد مالكه .
وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه ، لأنّ مقتضى العقد الضّمان ، فإذا شرط نفي ضمانه لا ينتفي مع وجود سببه ، كما لو اشترط نفي ضمان ما يتعدّى فيه .
وعن أحمد أنّه ذكر له ذلك ، فقال : " المؤمنون على شروطهم " ، وهذا يدلّ على نفي الضّمان بشرطه ، والأوّل ظاهر المذهب ، لما ذكرناه .
القواعد الفقهيّة في الضّمان :
القواعد في الضّمان كثيرة ، نشير إلى أهمّها ، باختصار في التّعريف بها ، والتّمثيل لها ، كلّما دعت الحاجة مرتّبةً بحسب أوائل حروفها :
القاعدة الأولى :
الأجر والضّمان لا يجتمعان :
الأجر هو : بدل المنفعة . والضّمان - هنا - هو : الالتزام بقيمة العين المنتفع بها ، هلكت أو لم تهلك ، وهذه القاعدة من قواعد الحنفيّة ، المتّصلة برأيهم في عدم ضمان منافع المغصوب ، خلافاً للجمهور .
فلو استأجر دابّةً أو سيّارةً ، لحمل شيء معيّن ، فحمّلها شيئاً آخر أو أثقل منه بخلاف جنسه ، كأن حمل مكان القطن حديداً فتلفت ، ضمن قيمتها ، ولا أجر عليه ، لأنّها هلكت بغير المأذون فيه .
وكذا لو استأجرها ، ليركبها إلى مكان معيّن ، فذهب بها إلى مكان آخر فهلكت ، ضمن قيمتها ، ولا أجر عليه ، لأنّ الأجر والضّمان لا يجتمعان ، عند الحنفيّة .
لكن القاعدة مشروطة عندهم ، بعدم استقرار الأجر في ذمّة الضّامن ، كما لو استوفى منفعة الدّابّة - مثلاً - فعلاً ، ثمّ تجاوز فصار غاصباً ، وضمن ، يلزمه أجر ما سمّى عندهم ، إذا سلمت الدّابّة ولم تهلك .
والجمهور يوجبون الأجر كلّما كان للمغصوب أجر ، لأنّ المنافع متقوّمة كالأعيان ، فإذا تلفت أو أتلفها فقد أتلف متقوّماً ، فوجب ضمانه كالأعيان وإذا ذهب بعض أجزاء المغصوب في مدّة الغصب ، وجب مع الأجرة أرش نقصه لانفراد كلّ بإيجاب .
وللمالكيّة أقوال : وافقوا في بعضها الحنفيّة ، وفي بعضها الجمهور وانفردوا بتفصيل في بعضها .
القاعدة الثّانية :
إذا اجتمع المباشر والمتسبّب يضاف الحكم إلى المباشر .
المباشر للفعل : هو الفاعل له بالذّات ، والمتسبّب هو المفضي والموصّل إلى وقوعه، ويتخلّل بين فعله وبين الأثر المترتّب عليه فعل فاعل مختار ، والمباشر يحصل الأثر بفعله من غير تخلّل فعل فاعل مختار .
وإنّما قدّم المباشر لأنّه أقرب لإضافة الحكم إليه من المتسبّب ، قال خليل : وقدّم عليه المردي فلو حفر رجل بئراً في الطّريق العامّ ، بغير إذن من وليّ الأمر ، فألقى شخص حيوان غيره في تلك البئر ، ضمن الّذي ألقى الحيوان ، لأنّه العلّة المؤثّرة ، دون حافر البئر، لأنّ التّلف لم يحصل بفعله .
ولو وقع الحيوان فيه بغير فعل أحد ، ضمن الحافر ، لتسبّبه بتعدّيه بالحفر بغير إذن . وكذلك لو دلّ سارقاً على متاع ، فسرقه المدلول ، ضمن السّارق لا الدّالّ .
ولذا لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ، فوجأ به نفسه ، لا يضمن الدّافع ، لتخلّل فعل فاعل مختار . ولو وقع السّكّين على رجل الصّبيّ فجرحها ضمن الدّافع .
القاعدة الثّالثة :
الاضطرار لا يبطل حقّ الغير .
تطّرد هذه القاعدة سواء أكان الاضطرار فطريّاً كالجوع ، أم غير فطريّ كالإكراه ، فإنّه يسقط الإثم ، وعقوبة التّجاوز ، أمّا حقّ الآخرين فلا يتأثّر بالاضطرار ، ويبقى المال مضموناً بالمثل إن كان مثليّاً ، والقيمة إن كان قيميّاً .
فلو اضطرّ في مخمصة إلى أكل طعام غيره ، جاز له أكله ، وضمن قيمته ، لعدم إذن المالك، وإنّما الّذي وجد هو إذن الشّرع الّذي أسقط العقوبة فقط .
القاعدة الرّابعة :
الأمر بالتّصرّف في ملك الغير باطل .
الأمر : هو طلب الفعل جزماً ، فإذا أمر شخص غيره بأخذ مال شخص آخر أو بإتلافه عليه فلا عبرة بهذا الأمر ، ويضمن الفاعل .
وهذه القاعدة مقيّدة : بأن يكون المأمور عاقلاً بالغاً ، فإذا كان صغيراً ، كان الضّمان على الآمر .
وأن لا يكون الآمر ذا ولاية وسلطان على المأمور .
فلو كان الآمر هو السّلطان أو الوالد ، كان الضّمان عليهما .
القاعدة الخامسة :
جناية العجماء جبار .
هذه القاعدة مقتبسة من حديث شريف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » العجماء جرحها جبار « .
والعجماء : البهيمة ، لأنّها لا تفصح ، ومعنى جبار : أنّه هدر وباطل .
والمراد أنّها إذا كانت مسيّبةً حيث تسيّب الحيوانات ، ولا يد عليها ، أمّا لو كان معها راكب فيضمن ، فلو اصطادت هرّته طائراً لغيره لم يضمن .
القاعدة السّادسة :
الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان .
يعني إذا ترتّب على الفعل الجائز المباح شرعاً ، ضرر للآخرين ، لا يضمن الضّرر . فلو حفر حفرةً في ملكه ، أو في الطّريق ، بإذن الحاكم ، فتردّى فيها حيوان أو إنسان ، لا يضمن الحافر شيئاً .
وهذا مقيّد بشرطين :
1 - أن لا يكون المباح مقيّداً بشرط السّلامة ، فيضمن - مثلاً - راكب السّيّارة وقائد الدّابّة أو راكبها في الطّريق .
2 - أن لا يكون في المباح إتلاف الآخرين وإلاّ كان مضموناً .
فيضمن ما يتلفه من مال غيره للمخمصة ، مع أنّ أكله لأجلها جائز ، بل واجب .
القاعدة السّابعة :
الخراج بالضّمان .
الخراج : هو غلّة الشّيء ومنفعته ، إذا كانت منفصلةً عنه ، غير متولّدة منه . كسكنى الدّار ، وأجرة الدّابّة
والضّمان : هو التّعويض الماليّ عن الضّرر المادّيّ .
والمعنى : أنّ منافع الشّيء يستحقّها من يلزمه ضمانه لو هلك ، فتكون المنفعة في مقابل تحمّل خسارة هلاكه ، فما لم يدخل في ضمانه لا يستحقّ منافعه وقد » نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن « .
القاعدة الثّامنة :
الغرم بالغنم .
هذه القاعدة معناها أنّ التّكلّفات والغرامات الّتي تترتّب على الشّيء ، تجب على من استفاد منه وانتفع به ، مثال ذلك :
1 - نفقة ردّ العاريّة على المستعير ، لأنّه هو الّذي انتفع بها .
2 - ونفقة ردّ الوديعة على المودع ، لأنّه هو الّذي استفاد من حفظها .
3 - وأجرة كتابة عقد الملكيّة على المشتري ، لأنّها توثيق لانتقال الملكيّة إليه ، وهو المستفيد من ذلك .
القاعدة التّاسعة :
لا يجوز لأحد أخذ مال أحد بلا سبب شرعيّ .
هذه القاعدة مأخوذة من حديث : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه « .
فيحرم أخذ أموال الآخرين بالباطل كالغصب والسّرقة ونحوهما .
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الرابع
يد الأمانة ويد الضّمان :
المشهور تقسيم اليد إلى قسمين : يد أمانة ، ويد ضمان .
ويد الأمانة : حيازة الشّيء أو المال ، نيابةً لا تملّكاً ، كيد الوديع ، والمستعير ، والمستأجر، والشّريك ، والمضارب وناظر الوقف ، والوصيّ .
ويد الضّمان : حيازة المال للتّملّك أو لمصلحة الحائز ، كيد المشتري والقابض على سوم الشّراء ، والمرتهن ، والغاصب والمالك ، والمقترض .
وحكم يد الأمانة ، أنّ واضع اليد أمانةً ، لا يضمن ما هو تحت يده ، إلاّ بالتّعدّي أو التّقصير، كالوديع فإنّه إذا أودع الوديعة عند من لا يودع مثلها عند مثله يضمنها .
وحكم يد الضّمان ، أنّ واضع اليد على المال ، على وجه التّملّك أو الانتفاع به لمصلحة نفسه ، يضمنه في كلّ حال ، حتّى لو هلك بآفة سماويّة ، أو عجز عن ردّه إلى صاحبه ، كما يضمنه بالتّلف والإتلاف .
فالمالك ضامن لما يملكه وهو تحت يده ، فإذا انتقلت اليد إلى غيره بعقد البيع ، أو بإذنه ، كالمقبوض على سوم الشّراء ، أو بغير إذنه كالمغصوب ، فالضّمان في ذلك على ذي اليد . ولو انتقلت اليد إلى غيره ، بعقد وديعة أو عاريّة ، فالضّمان - أيضاً - على المالك .
أهمّ الأحكام والفوارق بين هاتين اليدين :
أ - تأثير السّبب السّماويّ :
إذا هلك الشّيء بسبب لا دخل للحائز فيه ولا لغيره ، انتفى الضّمان في يد الأمانة ، لا في يد الضّمان ، فلو هلكت العاريّة في يد المستعير بسبب الحرّ أو البرد ، لا يضمن المستعير ، لأنّ يده يد أمانة .
بخلاف يد البائع قبل تسليم المبيع إلى المشتري ، فإنّه لا ينتفي الضّمان بهلاكه بذلك ، بل يفسخ العقد ، ويسقط الثّمن ، لعدم الفائدة من بقائه ، لعجز البائع عن تسليم المبيع كلّما طالب بالثّمن ، فامتنعت المطالبة ، وارتفع العقد كأن لم يكن .
والمذهب عند مالك ، انتقال الضّمان إلى المشتري بنفس العقد .
ب - تغيّر صفة وضع اليد :
تتغيّر صفة يد الأمين وتصبح يد ضمان بالتّعدّي ، فإذا تلف الشّيء بعد ذلك ضمنه ، مهما كان سبب التّلف ، ولو سماويّاً .
أ - ففي الإجارة ، يعتبر الأجير المشترك أميناً - عند أبي حنيفة - والمتاع في يده أمانة ، لا يضمن إن هلك بغير عمله ، إلاّ إن قصّر في حفظه ، كالوديع إذا قصّر في حفظ الوديعة ، أو تعمّد الإتلاف ، أو تلف المتاع بفعله ، كتمزّق الثّوب من دقّه .
ب - وفي الوديعة ، يضمن إذا ترك الحفظ الملتزم ، كأن رأى إنساناً يسرق الوديعة ، فتركه وهو قادر على المنع ، أو خالف في كيفيّة الحفظ ، أو أودعها من ليس في عياله ، أو عند من لا تودع عند مثله ، أو سافر بها ، أو جحدها كما تقدّم .
ج - وفي العاريّة ، وهي أمانة عند الجمهور ، ما عدا الحنابلة ، لا تضمن إن هلكت بالانتفاع المعتاد ، وتضمن بالتّعدّي ، كأن يدلّ عليها سارقاً أو يتلفها أو يمنعها من المعير بعد الطّلب ، على تفصيل بين ما يغاب وما لا يغاب عند المالكيّة .
ج - الموت عن تجهيل :
معنى التّجهيل : أن لا يبيّن حال الأمانة الّتي عنده ، وهو يعلم أنّ وارثه لا يعلم حالها، كذلك فسّرها ابن نجيم ، فالوديع إذا مات مجهلاً حال الوديعة الّتي عنده ، ووارثه لا يعلم حالها ، يضمنها بذلك .
ومعنى ضمانها - كما يقول ابن نجيم - صيرورتها ديناً في تركته .
وكذلك ناظر الوقف ، إذا مات مجهلاً لحال بدل الوقف ، فإنّه يضمنه .
وكذا كلّ شيء أصله أمانة يصير ديناً في التّركة بالموت عن تجهيل .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ ترك الإيصاء في الوديعة يستوجب الضّمان ، وقالوا : إذا مرض المودع مرضاً مخوفاً ، أو حبس ليقتل لزمه أن يوصي ، فإن سكت عن ذلك لزمه الضّمان ، لأنّه عرّضها للفوات ، لأنّ الوارث يعتمد ظاهر العين ، ولا بدّ في الوصيّة من بيان الوديعة ، حتّى لو قال : عندي لفلان ثوب ، ولم يوجد في تركته ، ضمن لعدم بيانه .
د - الشّرط :
لا أثر للشّرط في صفة اليد المؤتمنة عند الأكثرين .
قال البغداديّ : اشتراط الضّمان على المستعير باطل ، وقيل : تصير مضمونةً .
وقال التّمرتاشيّ : واشتراط الضّمان على الأمين باطل ، به يفتى ، فلو شرط المؤجّر على المستأجر ضمان العين المؤجّرة ، فالشّرط فاسد .
ولو شرط المودع على الوديع ضمان الوديعة فالشّرط باطل ، ولا ضمان لو تلفت وكذا الحكم في سائر الأمانات .
وعلّله المالكيّة ، بأنّه لما فيه من إخراجها عن حقيقتها الشّرعيّة .
وقال الحنابلة : لأنّه شرط ينافي مقتضى العقد ، ولو قال الوديع : أنا ضامن لها لم يضمن ما تلف بغير تعدّ ولا تقصير ، لأنّ ضمان الأمانات غير صحيح .
ونصّ القليوبيّ على أنّ شرط الأمانة في العاريّة - وهي مضمونة عند الشّافعيّة إذا هلكت بغير الاستعمال - هو شرط مفسد على المعتمد ، وشرط أن لا ضمان فيها فاسد لا مفسد . وجاء في نصوص الحنابلة : كلّ ما كان أمانةً لا يصير مضموناً بشرطه ، لأنّ مقتضى العقد كونه أمانةً ، فإذا شرط ضمانه ، فقد التزم ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه ، فلم يلزمه ، كما لو اشترط ضمان الوديعة ، أو ضمان مال في يد مالكه .
وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه ، لأنّ مقتضى العقد الضّمان ، فإذا شرط نفي ضمانه لا ينتفي مع وجود سببه ، كما لو اشترط نفي ضمان ما يتعدّى فيه .
وعن أحمد أنّه ذكر له ذلك ، فقال : " المؤمنون على شروطهم " ، وهذا يدلّ على نفي الضّمان بشرطه ، والأوّل ظاهر المذهب ، لما ذكرناه .
القواعد الفقهيّة في الضّمان :
القواعد في الضّمان كثيرة ، نشير إلى أهمّها ، باختصار في التّعريف بها ، والتّمثيل لها ، كلّما دعت الحاجة مرتّبةً بحسب أوائل حروفها :
القاعدة الأولى :
الأجر والضّمان لا يجتمعان :
الأجر هو : بدل المنفعة . والضّمان - هنا - هو : الالتزام بقيمة العين المنتفع بها ، هلكت أو لم تهلك ، وهذه القاعدة من قواعد الحنفيّة ، المتّصلة برأيهم في عدم ضمان منافع المغصوب ، خلافاً للجمهور .
فلو استأجر دابّةً أو سيّارةً ، لحمل شيء معيّن ، فحمّلها شيئاً آخر أو أثقل منه بخلاف جنسه ، كأن حمل مكان القطن حديداً فتلفت ، ضمن قيمتها ، ولا أجر عليه ، لأنّها هلكت بغير المأذون فيه .
وكذا لو استأجرها ، ليركبها إلى مكان معيّن ، فذهب بها إلى مكان آخر فهلكت ، ضمن قيمتها ، ولا أجر عليه ، لأنّ الأجر والضّمان لا يجتمعان ، عند الحنفيّة .
لكن القاعدة مشروطة عندهم ، بعدم استقرار الأجر في ذمّة الضّامن ، كما لو استوفى منفعة الدّابّة - مثلاً - فعلاً ، ثمّ تجاوز فصار غاصباً ، وضمن ، يلزمه أجر ما سمّى عندهم ، إذا سلمت الدّابّة ولم تهلك .
والجمهور يوجبون الأجر كلّما كان للمغصوب أجر ، لأنّ المنافع متقوّمة كالأعيان ، فإذا تلفت أو أتلفها فقد أتلف متقوّماً ، فوجب ضمانه كالأعيان وإذا ذهب بعض أجزاء المغصوب في مدّة الغصب ، وجب مع الأجرة أرش نقصه لانفراد كلّ بإيجاب .
وللمالكيّة أقوال : وافقوا في بعضها الحنفيّة ، وفي بعضها الجمهور وانفردوا بتفصيل في بعضها .
القاعدة الثّانية :
إذا اجتمع المباشر والمتسبّب يضاف الحكم إلى المباشر .
المباشر للفعل : هو الفاعل له بالذّات ، والمتسبّب هو المفضي والموصّل إلى وقوعه، ويتخلّل بين فعله وبين الأثر المترتّب عليه فعل فاعل مختار ، والمباشر يحصل الأثر بفعله من غير تخلّل فعل فاعل مختار .
وإنّما قدّم المباشر لأنّه أقرب لإضافة الحكم إليه من المتسبّب ، قال خليل : وقدّم عليه المردي فلو حفر رجل بئراً في الطّريق العامّ ، بغير إذن من وليّ الأمر ، فألقى شخص حيوان غيره في تلك البئر ، ضمن الّذي ألقى الحيوان ، لأنّه العلّة المؤثّرة ، دون حافر البئر، لأنّ التّلف لم يحصل بفعله .
ولو وقع الحيوان فيه بغير فعل أحد ، ضمن الحافر ، لتسبّبه بتعدّيه بالحفر بغير إذن . وكذلك لو دلّ سارقاً على متاع ، فسرقه المدلول ، ضمن السّارق لا الدّالّ .
ولذا لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ، فوجأ به نفسه ، لا يضمن الدّافع ، لتخلّل فعل فاعل مختار . ولو وقع السّكّين على رجل الصّبيّ فجرحها ضمن الدّافع .
القاعدة الثّالثة :
الاضطرار لا يبطل حقّ الغير .
تطّرد هذه القاعدة سواء أكان الاضطرار فطريّاً كالجوع ، أم غير فطريّ كالإكراه ، فإنّه يسقط الإثم ، وعقوبة التّجاوز ، أمّا حقّ الآخرين فلا يتأثّر بالاضطرار ، ويبقى المال مضموناً بالمثل إن كان مثليّاً ، والقيمة إن كان قيميّاً .
فلو اضطرّ في مخمصة إلى أكل طعام غيره ، جاز له أكله ، وضمن قيمته ، لعدم إذن المالك، وإنّما الّذي وجد هو إذن الشّرع الّذي أسقط العقوبة فقط .
القاعدة الرّابعة :
الأمر بالتّصرّف في ملك الغير باطل .
الأمر : هو طلب الفعل جزماً ، فإذا أمر شخص غيره بأخذ مال شخص آخر أو بإتلافه عليه فلا عبرة بهذا الأمر ، ويضمن الفاعل .
وهذه القاعدة مقيّدة : بأن يكون المأمور عاقلاً بالغاً ، فإذا كان صغيراً ، كان الضّمان على الآمر .
وأن لا يكون الآمر ذا ولاية وسلطان على المأمور .
فلو كان الآمر هو السّلطان أو الوالد ، كان الضّمان عليهما .
القاعدة الخامسة :
جناية العجماء جبار .
هذه القاعدة مقتبسة من حديث شريف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » العجماء جرحها جبار « .
والعجماء : البهيمة ، لأنّها لا تفصح ، ومعنى جبار : أنّه هدر وباطل .
والمراد أنّها إذا كانت مسيّبةً حيث تسيّب الحيوانات ، ولا يد عليها ، أمّا لو كان معها راكب فيضمن ، فلو اصطادت هرّته طائراً لغيره لم يضمن .
القاعدة السّادسة :
الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان .
يعني إذا ترتّب على الفعل الجائز المباح شرعاً ، ضرر للآخرين ، لا يضمن الضّرر . فلو حفر حفرةً في ملكه ، أو في الطّريق ، بإذن الحاكم ، فتردّى فيها حيوان أو إنسان ، لا يضمن الحافر شيئاً .
وهذا مقيّد بشرطين :
1 - أن لا يكون المباح مقيّداً بشرط السّلامة ، فيضمن - مثلاً - راكب السّيّارة وقائد الدّابّة أو راكبها في الطّريق .
2 - أن لا يكون في المباح إتلاف الآخرين وإلاّ كان مضموناً .
فيضمن ما يتلفه من مال غيره للمخمصة ، مع أنّ أكله لأجلها جائز ، بل واجب .
القاعدة السّابعة :
الخراج بالضّمان .
الخراج : هو غلّة الشّيء ومنفعته ، إذا كانت منفصلةً عنه ، غير متولّدة منه . كسكنى الدّار ، وأجرة الدّابّة
والضّمان : هو التّعويض الماليّ عن الضّرر المادّيّ .
والمعنى : أنّ منافع الشّيء يستحقّها من يلزمه ضمانه لو هلك ، فتكون المنفعة في مقابل تحمّل خسارة هلاكه ، فما لم يدخل في ضمانه لا يستحقّ منافعه وقد » نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن « .
القاعدة الثّامنة :
الغرم بالغنم .
هذه القاعدة معناها أنّ التّكلّفات والغرامات الّتي تترتّب على الشّيء ، تجب على من استفاد منه وانتفع به ، مثال ذلك :
1 - نفقة ردّ العاريّة على المستعير ، لأنّه هو الّذي انتفع بها .
2 - ونفقة ردّ الوديعة على المودع ، لأنّه هو الّذي استفاد من حفظها .
3 - وأجرة كتابة عقد الملكيّة على المشتري ، لأنّها توثيق لانتقال الملكيّة إليه ، وهو المستفيد من ذلك .
القاعدة التّاسعة :
لا يجوز لأحد أخذ مال أحد بلا سبب شرعيّ .
هذه القاعدة مأخوذة من حديث : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه « .
فيحرم أخذ أموال الآخرين بالباطل كالغصب والسّرقة ونحوهما .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق