مكتب / محمد جابر عيسى المحلمى
القبض في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
القَبْض في الشريعة الإسلامية
( الجزء الأول )
التّعريف :
من معاني القبض لغةً : تناول الشّيء بجميع الكفّ ، ومنه قبض السّيف وغيره ، ويقال : قبض المال ، أي أخذه ، وقبض اليد على الشّيء ، أي جمعها بعد تناوله .
ومن معانيه : الإمساك عن الشّيء ، يقال : قبض يده عن الشّيء أي جمعها قبل تناوله ، وذلك إمساك عنه ، ومنه قيل لإمساك اليد عن البذل والعطاء : قبض .
ويستعار القبض لتحصيل الشّيء وإن لم يكن فيه مراعاة الكفّ ، نحو : قبضت الدّار والأرض من فلان : أي حزتها ، ويقال : هذا الشّيء في قبضة فلان ، أي في ملكه وتصرّفه ، وقد يكنّى بالقبض عن الموت ، فيقال : قبض فلان ، أي مات ، فهو مقبوض . قال العزّ بن عبد السّلام : وأمّا قوله تعالى : { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } وقوله : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } فإنّه تجوز بالقبض عن الإعدام ، لأنّ المقبوض من مكان يخلو منه محلّه كما يخلو المحلّ عن الشّيء إذا عدم .
وفي الاصطلاح : هو حيازة الشّيء والتّمكّن منه ، سواء أكان ممّا يمكن تناوله باليد أم لم يمكن ، قال الكاسانيّ : معنى القبض هو التّمكين والتّخلّي وارتفاع الموانع عرفاً وعادةً حقيقةً ، وقال العزّ بن عبد السّلام : قولهم قبضت الدّار والأرض والعبد والبعير يريدون بذلك الاستيلاء والتّمكّن من التّصرّف .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّقد :
يطلق الفقهاء كلمة " النّقد " بمعنى الإقباض والتّسليم إذا كان الشّيء المعطى نقوداً ، ففي المصباح المنير : نقدت الرّجل الدّراهم ، بمعنى أعطيته ... فانتقدها ، أي قبضها . وقال القاضي عياض : النّقد خلاف الدّين والقرض .
وإنّما سمّي إقباض الدّراهم نقداً لتضمّنه - في الأصل - تمييزها وكشف حالها في الجودة وإخراج الزّيف منها من قبل المعطي والآخذ .
أمّا " بيع النّقد " فهو - كما قال ابن جزيّ - أن يعجّل الثّمن والمثمون .
فكلّ نقد قبض ولا عكس .
ب - الحيازة :
يقول أهل اللّغة : كلّ من ضمّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه حوزاً وحيازةً .
أمّا في الاصطلاح ، فأكثر ما تستعمل هذه الكلمة في مذهب المالكيّة ، وإنّهم ليستعملونها في كتبهم بمعنيين أحدهما أعمّ من الآخر :
أ - أمّا بالمعنى الأعمّ فهي إثبات اليد على الشّيء والتّمكّن منه ، وهو نفس معنى القبض عند سائر الفقهاء
قال القيروانيّ : لا تتمّ هبة ولا صدقة ولا حبس إلاّ بالحيازة ، أي إلاّ بالقبض ، وقال التّسوّليّ : الحوز وضع اليد على الشّيء المحوز ، وقال الحسن بن رحّال : الحوز والقبض شيء واحد .
ب - أمّا الحيازة بالمعنى الأخصّ عند المالكيّة فعرّفها أبو الحسن المالكيّ بقوله : الحيازة هي وضع اليد والتّصرّف في الشّيء المحوز كتصرّف المالك في ملكه بالبناء والغرس والهدم وغيره من وجوه التّصرّف ، وقال الحطّاب : الحيازة تكون بثلاثة أشياء ، أضعفها : السّكنى والازدراع ، ويليها : الهدم والبنيان والغرس والاستغلال ، ويليها : التّفويت بالبيع والهبة والصّدقة والنّحلة والعتق والكتابة والتّدبير والوطء وما أشبه ذلك ممّا لا يفعله الرّجل إلاّ في ماله .
والقبض مرادف للحيازة بالمعنى الأعمّ .
ج - اليد :
يستعمل الفقهاء كلمة " اليد " بمعنى حوز الشّيء والمكنة من استعماله والانتفاع به ، فيقولون : بيّنة ذي اليد في النّتاج مقدّمة على بيّنة الخارج ، ويريدون بذي اليد الحائز المنتفع ، جاء في المدوّنة : قلت : أرأيت لو أنّ سلعةً في يدي ادّعى رجل أنّها له ، وأقام البيّنة ، وادّعيت أنّها لي ، وهي في يدي ، وأقمت البيّنة ؟ قال لي مالك : هي للّذي في يده إذا تكافأت البيّنتان .
والصّلة أنّ اليد تدلّ على القبض .
الأحكام المتعلّقة بالقبض :
كيفيّة القبض :
تختلف كيفيّة قبض الأشياء بحسب اختلافها في نفسها ، وهي في الجملة نوعان : عقار ومنقول .
أ - كيفيّة قبض العقار :
اتّفق الفقهاء على أنّ قبض العقار يكون بالتّخلية والتّمكين من اليد والتّصرّف .
فإن لم يتمكّن منه بأن منعه شخص آخر من وضع يده عليه ، فلا تعتبر التّخلية قبضاً .
وقيّد الشّافعيّة : ذلك بما إذا كان العقار غير معتبر فيه تقدير ، أمّا إذا كان معتبراً فيه - كما إذا اشترى أرضاً مذارعةً - فلا تكفي التّخلية والتّمكين ، بل لا بدّ مع ذلك من الذّرع .
كما اشترط الحنفيّة أن يكون العقار قريباً ، فإن كان بعيداً فلا تعتبر التّخلية قبضاً ، وهو رأي الصّاحبين وظاهر الرّواية والمعتمد في المذهب ، خلافاً لأبي حنيفة ، فإنّه لم يعتبر القرب والبعد ، واستظهر ابن عابدين أنّ المراد بالقرب في الدّار بأن تكون في البلد ، ثمّ إنّهم نصّوا على أنّ العقار إذا كان له قفل ، فيكفي في قبضه تسليم المفتاح مع تخليته ، بحيث يتهيّأ له فتحه من غير تكلّف .
وقد ألحق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة الثّمر على الشّجر بالعقار في اعتبار التّخلية مع ارتفاع الموانع قبضاً له ، لحاجة النّاس إلى ذلك وتعارفهم عليه .
ب - كيفيّة قبض المنقول :
اختلف الفقهاء في كيفيّة قبض المنقول :
فذهب جمهور الفقهاء إلى التّفريق بين المنقولات فيما يعتبر قبضاً لها ، حيث إنّ بعضها يتناول باليد عادةً وبعضها الآخر لا يتناول ، وما لا يتناول باليد نوعان ، أحدهما : لا يعتبر فيه تقدير في العقد ، والثّاني : يعتبر فيه ، فتحصل لديهم في المنقول ثلاث حالات :
الحالة الأولى :
أن يكون ممّا يتناول باليد عادةً ، كالنّقود والثّياب والجواهر والحليّ وما إليها ، وقبضه يكون بتناوله باليد عند جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة .
الحالة الثّانية :
أن يكون ممّا لا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ ، إمّا لعدم إمكانه وإمّا مع إمكانه ، لكنّه لم يراع فيه ، كالأمتعة والعروض والدّوابّ والصّبرة جزافاً ، وفي هذه الحالة اختلف المالكيّة مع الشّافعيّة والحنابلة في كيفيّة قبضه على قولين :
أحدهما للمالكيّة : وهو أنّه يرجع في قبضه إلى العرف .
والثّاني للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ قبضه يكون بنقله وتحويله ، واستدلّوا على ذلك بالمنقول والعرف ، فأمّا المنقول فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : « كنّا نتلقّى الرّكبان فنشتري منهم الطّعام جزافاً ، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه » ، وقيس على الطّعام غيره وأمّا العرف ، فلأنّ أهله لا يعدّون احتواء اليد عليه قبضاً من غير تحويل ، إذ البراجم لا تصلح قراراً له .
الحالة الثّالثة :
أن يكون ممّا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ ، كمن اشترى صبرة حنطة مكايلةً أو متاعاً موازنةً أو ثوباً مذارعةً أو معدوداً بالعدد ، وفي هذه الحالة اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّ قبضه يكون باستيفائه بما يقدّر فيه من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ .
واشترط الشّافعيّة بالإضافة إلى ذلك نقله وتحويله .
ودليل جمهور الفقهاء على أنّ قبض المقدّرات من المنقولات إنّما يكون بتوفيتها بالوحدة القياسيّة العرفيّة المراعاة فيها من الكيل أو الوزن أو الذّرع أو العدّ فهو ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه : « نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان ، صاع البائع وصاع المشتري » وقوله صلى الله عليه وسلم : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يكتاله » ، فدلّ ذلك على أنّه لا يحصل فيه القبض إلاّ بالكيل ، فتعيّن فيما يقدّر بالكيل الكيل ، وقيس عليه الباقي .
وقال الحنفيّة : قبض المنقول يكون بالتّناول باليد أو بالتّخلية على وجه التّمكين . جاء في مجلّة الأحكام العدليّة : تسليم العروض يكون بإعطائها ليد المشتري أو بوضعها عنده أو بإعطاء الإذن له بالقبض مع إراءتها له .
وجاء في الفتاوى الهنديّة : رجل باع مكيلاً في بيت مكايلةً أو موزوناً موازنةً ، وقال : خلّيت بينك وبينه ، ودفع إليه المفتاح ، ولم يكله ولم يزنه ، صار المشتري قابضاً .
وتسليم المبيع هو أن يخلّي بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكّن المشتري من قبضه بغير حائل ، وكذا التّسليم في جانب الثّمن .
واستدلّ الحنفيّة على اعتبار التّخلية مع التّمكين في المنقولات قبضاً بأنّ تسليم الشّيء في اللّغة معناه جعله سالماً خالصاً لا يشاركه فيه غيره ، وهذا يحصل بالتّخلية ، وبأنّ من وجب عليه التّسليم لا بدّ وأن يكون له سبيل للخروج من عهدة ما وجب عليه ، والّذي في وسعه هو التّخلية ورفع الموانع ، أمّا الإقباض فليس في وسعه ، لأنّ القبض بالبراجم فعل اختياريّ للقابض ، فلو تعلّق وجوب التّسليم به لتعذّر عليه الوفاء بالواجب ، وهذا لا يجوز . وقد وافق أحمد في رواية عنه الحنفيّة على اعتبار التّخلية في المنقول قبضاً ، وذلك لحصول الاستيلاء بالتّخلية ، إذ هو المقصود بالقبض ، وقد حصل بها .
تقسيم القبض من حيث المشروعيّة :
قسّم العزّ بن عبد السّلام والقرافيّ القبض كتصرّف من تصرّفات المكلّفين من حيث مشروعيّته والإذن فيه إلى ثلاثة أضرب :
الضّرب الأوّل : قبض بمجرّد إذن الشّرع دون إذن المستحقّ ، وهو أنواع :
منها : قبض ولاة الأمور والحكّام الأعيان المغصوبة من الغاصب ، وقبضهم أموال المصالح والزّكاة وحقوق بيت المال ، وقبضهم أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يتمكّنون من حفظ أموالهم ، وقبضهم أموال المجانين والمحجور عليهم بسفه ونحوهم .
ومنها : قبض من طيّرت الرّيح ثوباً ، ثمّ ألقته في حجره أو داره .
ومنها : قبض المضطرّ من طعام الأجانب بغير إذنهم لما يدفع به ضرورته .
ومنها : قبض الإنسان حقّه إذا ظفر به بجنسه .
والضّرب الثّاني : قبض ما يتوقّف جواز قبضه على إذن مستحقّه ، كقبض المبيع بإذن البائع ، وقبض المستام ، والقبض بالبيع الفاسد ، وقبض الرّهون والهبات والصّدقات والعواريّ والودائع ، وقبض جميع الأمانات .
والضّرب الثّالث : قبض بغير إذن من الشّرع ولا من المستحقّ ، وهذا قد يكون مع العلم بتحريمه ، كقبض المغصوب ، فيأثم الغاصب ، ويضمن ما قبضه بغير حقّ ولا إذن ، وقد يكون بغير علم ، كمن قبض مالاً يعتقد أنّه ماله ، فإذا هو لغيره ، قال القرافيّ : فلا يقال إنّ الشّرع أذن له في قبضه ، بل عفا عنه بإسقاط الإثم ، وعلى ذلك فلا إثم عليه ، ولا إباحة فيه ، وهو في ضمانه .
القبض الحكميّ :
القبض الحكميّ عند الفقهاء يقام مقام القبض الحقيقيّ ، وإن لم يكن متحقّقاً حسّاً في الواقع ، وذلك لضرورات ومسوّغات تقتضي اعتباره تقديراً وحكماً ، وترتيب أحكام القبض الحقيقيّ عليه ، وذلك في حالات ثلاث :
الحالة الأولى : عند إقباض المنقولات بالتّخلية مع التّمكين في مذهب الحنفيّة ، ولو لم يقبضها الطّرف الآخر حقيقةً ، حيث إنّهم يعدّون تناولها باليد قبضاً حقيقيّاً ، والقبض بالتّخلية قبضاً حكميّاً ، بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة عليه كأحكام القبض الحقيقيّ .
الحالة الثّانية : إذا وجب الإقباض واتّحدت يد القابض والمقبض وقع القبض بالنّيّة ، قال القرافيّ : ومن الإقباض أن يكون للمديون حقّ في يد ربّ الدّين ، فيأمره بقبضه من يده لنفسه ، فهو إقباض بمجرّد الإذن ، ويصير قبضه له بالنّيّة ، كقبض الأب من نفسه لنفسه مال ولده إذا اشتراه منه .
الحالة الثّالثة : اعتبار الدّائن قابضاً حكماً وتقديراً للدّين إذا كانت ذمّته مشغولةً بمثله للمدين ، وذلك لأنّ المال الثّابت في الذّمّة إذا استحقّ المدين قبض مثله من دائنه بعقد جديد أو بأحد موجبات الدّين ، فإنّه يعتبر مقبوضاً حكماً من قبل ذلك المدين .
وشواهد ذلك من نصوص الفقهاء عديدة ، منها :
أ - اقتضاء أحد النّقدين من الآخر :
قال ابن قدامة : ويجوز اقتضاء أحد النّقدين من الآخر ، ويكون صرفاً بعين وذمّة في قول أكثر أهل العلم ، وقال الأبيّ المالكيّ : لأنّ المطلوب في الصّرف المناجزة ، وصرف ما في الذّمّة أسرع مناجزةً من صرف المعيّنات ، لأنّ صرف ما في الذّمّة ينقضي بنفس الإيجاب والقبول والقبض من جهة واحدة ، وصرف المعيّنات لا ينقضي إلاّ بقبضهما معاً ، فهو معرّض للعدول ، فصرف ما في الذّمّة أولى بالجواز .
واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير ، آخذ هذه من هذه ، وأعطي هذه من هذه ، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فقال : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء » .
قال الشّوكانيّ : فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثّمن الّذي في الذّمّة بغيره ، وظاهره أنّهما غير حاضرين جميعاً ، بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم ، فدلّ على أنّ ما في الذّمّة كالحاضر .
ب - المقاصّة :
إذا انشغلت ذمّة الدّائن بمثل ما له على المدين في الجنس والصّفة ووقت الأداء ، برئت ذمّة المدين مقابلةً بالمثل من غير حاجة إلى تقابض بينهما ، ويسقط الدّينان إذا كانا متساويين في المقدار ، لأنّ ما في الذّمّة يعتبر مقبوضاً حكماً ، فإن تفاوتا في القدر ، سقط من الأكثر بقدر الأقلّ ، وبقيت الزّيادة ، فتقع المقاصّة في القدر المشترك ، ويبقى أحدهما مديناً للآخر بما زاد .
ج - تطارح الدّينين صرفاً :
ذهب الحنفيّة والمالكيّة والسّبكيّ من الشّافعيّة وابن تيميّة من الحنابلة إلى أنّه لو كان لرجل في ذمّة آخر دنانير ، وللآخر عليه دراهم ، فاصطرفا بما في ذمّتيهما ، فإنّه يصحّ ذلك الصّرف ، ويسقط الدّينان من غير حاجة إلى التّقابض الحقيقيّ - مع أنّ التّقابض في الصّرف شرط لصحّته بإجماع الفقهاء - وذلك لوجود التّقابض الحكميّ الّذي يقوم مقام التّقابض الحسّيّ ، قالوا : لأنّ الذّمّة الحاضرة كالعين الحاضرة ، غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّينان قد حلاّ معاً ، فأقاموا حلول الأجلين في ذلك مقام النّاجز بالنّاجز ، أي اليد باليد .
قال ابن تيميّة : فإنّ كلاً منهما اشترى ما في ذمّته ، وهو مقبوض له بما في ذمّة الآخر ، فهو كما لو كان لكلّ منهما عند الآخر وديعة فاشتراها بوديعته عند الآخر .
وخالف في ذلك الشّافعيّة والحنابلة ، ونصّوا على عدم جواز صرف ما في الذّمّة إذا لم يحضر أحدهما أو كلاهما النّقد الوارد عليه عقد الصّرف ، لأنّه يكون من بيع الدّين بالدّين .
د - جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم :
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم ، لأنّ ذلك افتراق عن دين بدين وهو منهيّ عنه .
وذهب ابن تيميّة وابن القيّم إلى أنّه إذا كان لرجل في ذمّة آخر ديناراً ، فجعله سلماً في طعام إلى أجل ، فإنّه يصحّ السّلم من غير حاجة إلى قبض حقيقيّ لرأس مال السّلم - مع اتّفاق الفقهاء على وجوب تسليم رأس المال معجّلاً لصحّة السّلم - وذلك لوجود القبض الحكميّ لرأس مال السّلم ، وهو ما في ذمّة المدين المسلم إليه ، فكأنّ الدّائن بعد عقد السّلم قبضه منه ثمّ ردّه إليه ، فصار معجّلاً حكماً فارتفع المانع الشّرعيّ
قال ابن القيّم : لو أسلم إليه في كرّ حنطة بعشرة دراهم في ذمّته ، فقد وجب له عليه دين ، وسقط له عنه دين غيره ، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا ، ولا إجماع فيه ، قاله شيخنا ، واختار جوازه ، وهو الصّواب .
شروط صحّة القبض :
الشّرط الأوّل : أن يكون الشّخص أهلاً للقبض :
اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط لصحّة القبض صدوره من أهل له ، غير أنّهم اختلفوا فيمن يكون أهلاً له على ثلاثة أقوال :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة القبض صدوره من جائز التّصرّف ، وهو البالغ العاقل غير المحجور عليه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ أهليّة الشّخص للقبض هي نفسها أهليّة التّصرّفات القوليّة والعقود ، فيشترط لصحّة القبض أن يكون القابض عاقلاً ، فلا يصحّ قبض المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل ، أمّا البلوغ ، فيشترط لصحّة القبض في بعض التّصرّفات دون بعض ، وتصرّفات الصّبيّ المميّز غير البالغ ثلاثة أنواع :
النّوع الأوّل : التّصرّفات النّافعة نفعاً محضاً ، كما إذا وهب الصّبيّ ، أو تصدّق أحد عليه ، أو أوصى له ، وفي هذه الحالة لا يشترط لصحّة قبضه بلوغه إذا كان يعقل استحساناً . النّوع الثّاني : التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً كتبرّعاته وكفالته بالنّفس أو بالمال ، وفي هذه الحالة لا تصحّ تصرّفاته ، وما ينشأ عنها من قبوض لاشتراط البلوغ في صحّتها . النّوع الثّالث : التّصرّفات الدّائرة بين النّفع والضّرر ، كبيعه وشرائه وإجارته واستئجاره ونكاحه وما شاكل ذلك ، وهذه التّصرّفات وما ينشأ عنها من قبوض يتوقّف نفاذها على إجازة وليّ الصّغير ، فإن أجازها نفذت ، وإن ردّها بطلت .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يشترط لصحّة القبض صدوره ممّن يتمتّع بأهليّة المعاملة ، بل تكفي الصّفة الإنسانيّة مناطاً لاعتباره أهلاً للقبض ، فيصحّ قبض الصّغير والمحجور ، ويكون قبضاً تامّاً .
الشّرط الثّاني : صدور القبض ممّن له ولايته :
القبض نوعان : قبض بطريق الأصالة ، وقبض بطريق النّيابة .
أ - أمّا القبض بطريق الأصالة : فهو أن يقبض الشّخص بنفسه لنفسه ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ ولاية هذا القبض تكون لمن ثبتت له أهليّة القبض .
ب - وأمّا القبض بطريق النّيابة : فولايته تثبت إمّا بتولية المالك ، وإمّا بتولية الشّارع .
الحالة الأولى : ولاية النّائب في القبض بتولية المالك :
اتّفق الفقهاء على ثبوت ولاية الوكيل بالقبض ، لأنّ من ملك التّصرّف في شيء أصالةً ملك التّوكيل فيه ، والقبض ممّا يحتمل النّيابة ، فكان قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكّل ولا فرق ، ولا بدّ أن يكون كلّ من الوكيل والموكّل أهلاً للقبض .
وقال الحنفيّة : للوكيل بالقبض أن يوكّل غيره إن كان موكّله قد وكّله بوكالة عامّة ، بأن قال له وقت التّوكيل بالقبض : اصنع ما شئت ، أو ما صنعت من شيء فهو جائز عليّ ، أو نحو ذلك ، أمّا إذا كانت الوكالة خاصّةً ، بأن لم يقل ذلك عند التّوكيل بالقبض ، فليس للوكيل أن يوكّل غيره بالقبض ، وإن فعل فلا تكون لمن وكّله هذه الولاية ، لأنّ الوكيل إنّما يتصرّف بحدود تفويض الموكّل ، فيملك قدر ما فوّض إليه لا أكثر .
وقال الشّافعيّة : يصحّ الشّراء والقبض للموكّل ، ولا يصحّ قبضه لنفسه ، لأنّه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حقّ نفسه .
ونصّ الحنابلة على أنّ المدين بطعام إذا دفع للدّائن دراهم وقال له : اشتر لي بهذه الدّراهم مثل الطّعام الّذي لك عليّ ، واقبضه لي ، ثمّ اقبضه لنفسك ، ففعل ، صحّ القبض لكلّ منهما ، لأنّه وكّله في الشّراء والقبض ، ثمّ الاستيفاء من نفسه لنفسه ، فصار كما لو كان له وديعة من جنس الدّين عند الدّائن وأذن له في قبضها عن دينه
وفي هذا المقام تعرّض الفقهاء لأحكام ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : ولاية الوكيل بالبيع في قبض الثّمن وإقباض المبيع :
اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالبيع في أن يقبض الثّمن من المشتري ويسلّم المبيع إليه ، على أربعة أقوال :
أحدها : للحنفيّة : وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع للمشتري ، لأنّ في الوكالة بالبيع إذناً بالقبض والإقباض دلالةً .
والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع ما لم يكن هناك عرف بأنّ الوكيل بالبيع لا يفعل ذلك .
والثّالث : للشّافعيّة في الأصحّ عندهم : وهو أنّه إذا كان القبض شرطاً لصحّة العقد كالصّرف والسّلم ، فللوكيل عندئذ ولاية القبض والإقباض ، أمّا إذا لم يكن شرطاً كما في البيع المطلق ، فيملك الوكيل بالبيع قبض الثّمن الحالّ وتسليم المبيع بعده إن لم يمنعه الموكّل من ذلك ، لأنّ ذلك من حقوق العقد ومقتضياته ، فكان الإذن في البيع إذناً فيه دلالةً .
فإن نهاه الموكّل عن قبض الثّمن أو تسليم المبيع ، أو كان الثّمن مؤجّلاً ، فليس للوكيل شيء من ذلك .
والرّابع : للحنابلة : وهو أنّ للوكيل بالبيع تسليم المبيع ، لأنّ إطلاق الوكالة بالبيع يقتضي التّسليم ، لكونه من تمامه ، بخلاف قبض الثّمن ، فليس للوكيل أن يقبضه ، لأنّ البائع قد يوكّل بالبيع من لا يأتمنه على الثّمن .
واستثنى ابن القيّم من الحكم بسلب ولاية قبض الثّمن من الوكيل بالبيع ما إذا كانت العادة الجارية قبض الوكيل بالبيع أثمان المبيعات ، فقال : ولو وكّل غائباً أو حاضراً في بيع شيء ، والعرف قبض ثمنه ، ملك ذلك .
المسألة الثّانية : ولاية الوكيل بالخصومة في قبض الحقّ :
اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالخصومة وإثبات الحقّ في قبضه على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الشّافعيّة والحنابلة وزفر وهو القول المفتى به عند الحنفيّة وبه أخذت مجلّة الأحكام العدليّة : وهو أنّ الوكيل بالخصومة لا يكون وكيلاً بالقبض ، ولا تثبت له ولايته ، لأنّ المطلوب من الوكيل بالخصومة تثبيت الحقّ ، وليس كلّ من يرتضى لتثبيت حقّ يؤتمن عليه ، فقد يوثق على الخصومة من لا يوثق على المال .
وأيضاً فلأنّ الإذن في تثبيت الحقّ ليس إذناً في قبضه من جهة النّطق ولا من جهة العرف ، إذ الإثبات لا يتضمّن القبض ، وليس القبض من لوازمه أو متعلّقاته ، بخلاف مسألة الوكيل بالبيع ، فإنّ تسليم المبيع وقبض الثّمن من حقوق العقد ومقتضياته ، وقد أقامه الموكّل مقام نفسه فيها .
والثّاني : لأبي حنيفة وصاحبيه : وهو أنّ للوكيل بالخصومة أن يقبض الحقّ بعد إثباته ، لأنّه لمّا وكّله بالخصومة في مال ، فقد ائتمنه على قبضه ، لأنّ الخصومة فيه لا تنتهي إلاّ بالقبض ، فكان التّوكيل بها توكيلاً بالقبض .
المسألة الثّالثة : ولاية العدل في قبض المرهون :
إذا اتّفق الرّاهن والمرتهن على أن يجعل المرهون في يد عدل ، فهل يكون للعدل ولاية قبضه ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وهو أنّ للعدل أن يقبض المرهون ، ويكون قبضه بمنزلة قبض المرتهن ، ولا فرق ، لأنّ كلاً من الرّاهن والمرتهن قد لا يثق بصاحبه ، فاحتيج إلى العدل ، وكما يتولّى العدل الحفظ فإنّه يتولّى القبض ، وبهذا قال الحسن والشّعبيّ وعمرو بن دينار والثّوريّ وإسحاق وأبو ثور وعبد اللّه بن المبارك .
ولأنّ العدل نائب عن صاحب الحقّ ، فكان قبضه بمنزلة قبض الوكيل في سائر العقود .
ثمّ إنّ ممّا يدلّ على أنّ يد العدل كيد المرتهن ، وأنّه وكيله بالقبض : أنّ للمرتهن متى شاء أن يفسخ الرّهن ويبطل يد العدل ويردّه إلى الرّاهن ، وليس للرّاهن إبطال يد العدل ، فدلّ ذلك على أنّ العدل وكيل للمرتهن .
والثّاني : لابن شبرمة والأوزاعيّ وابن أبي ليلى وقتادة والحكم والحارث العكليّ : وهو أنّه ليس للعدل أن يقبضه ، وإن قبضه فلا يكون القبض معتبراً ، قال القرطبيّ : ورأوا ذلك تعبّداً .
الحالة الثّانية : ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع :
ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع هي ولاية من يلي مال المحجور في قبض ما يستحقّه المحجور ، وهذه الولاية ليست بتولية المستحقّ ، لانتفاء أهليّته ، وإنّما هي بتولية الشّارع باتّفاق الفقهاء .
وقد روى الشّافعيّ والبيهقيّ عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه أنّه يرى أنّ الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغاراً .
وقال الحنفيّة : ومن ذلك ولاية من يعول الصّغير ويكفله في قبض ما يوهب إليه ، سواء أكان الواهب هو أو غيره ، وسواء أكان قريباً أم غير قريب .
وقال ابن جزيّ : ويحوز للمحجور وصيّه ، ويحوز الوالد لولده الحرّ الصّغير ما وهبه له هو ما عدا الدّنانير والدّراهم ، وما وهبه له غيره مطلقاً .
ويلحق بهذه الحالة في الحكم ولاية الشّخص في قبض اللّقطة ، ومال اللّقيط ، والثّوب الّذي ألقته الرّيح في داره ، وحقّه إذا ظفر به ، وولاية الحاكم في قبض أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يقدرون على حفظها لتحفظ لهم ، وولايته في قبض المال المودع إذا مات المودع والمودَع وورثة المودع غائبون ، وولايته في قبض أموال المصالح العامّة والزّكوات ، وكذا ولاية المضطرّ أن يقبض من طعام الأجانب بغير إذنهم ما يدفع به ضرورته .
وممّا يتعلّق بولاية القبض للغير ما يأتي :
القبض في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
القَبْض في الشريعة الإسلامية
( الجزء الأول )
التّعريف :
من معاني القبض لغةً : تناول الشّيء بجميع الكفّ ، ومنه قبض السّيف وغيره ، ويقال : قبض المال ، أي أخذه ، وقبض اليد على الشّيء ، أي جمعها بعد تناوله .
ومن معانيه : الإمساك عن الشّيء ، يقال : قبض يده عن الشّيء أي جمعها قبل تناوله ، وذلك إمساك عنه ، ومنه قيل لإمساك اليد عن البذل والعطاء : قبض .
ويستعار القبض لتحصيل الشّيء وإن لم يكن فيه مراعاة الكفّ ، نحو : قبضت الدّار والأرض من فلان : أي حزتها ، ويقال : هذا الشّيء في قبضة فلان ، أي في ملكه وتصرّفه ، وقد يكنّى بالقبض عن الموت ، فيقال : قبض فلان ، أي مات ، فهو مقبوض . قال العزّ بن عبد السّلام : وأمّا قوله تعالى : { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } وقوله : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } فإنّه تجوز بالقبض عن الإعدام ، لأنّ المقبوض من مكان يخلو منه محلّه كما يخلو المحلّ عن الشّيء إذا عدم .
وفي الاصطلاح : هو حيازة الشّيء والتّمكّن منه ، سواء أكان ممّا يمكن تناوله باليد أم لم يمكن ، قال الكاسانيّ : معنى القبض هو التّمكين والتّخلّي وارتفاع الموانع عرفاً وعادةً حقيقةً ، وقال العزّ بن عبد السّلام : قولهم قبضت الدّار والأرض والعبد والبعير يريدون بذلك الاستيلاء والتّمكّن من التّصرّف .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّقد :
يطلق الفقهاء كلمة " النّقد " بمعنى الإقباض والتّسليم إذا كان الشّيء المعطى نقوداً ، ففي المصباح المنير : نقدت الرّجل الدّراهم ، بمعنى أعطيته ... فانتقدها ، أي قبضها . وقال القاضي عياض : النّقد خلاف الدّين والقرض .
وإنّما سمّي إقباض الدّراهم نقداً لتضمّنه - في الأصل - تمييزها وكشف حالها في الجودة وإخراج الزّيف منها من قبل المعطي والآخذ .
أمّا " بيع النّقد " فهو - كما قال ابن جزيّ - أن يعجّل الثّمن والمثمون .
فكلّ نقد قبض ولا عكس .
ب - الحيازة :
يقول أهل اللّغة : كلّ من ضمّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه حوزاً وحيازةً .
أمّا في الاصطلاح ، فأكثر ما تستعمل هذه الكلمة في مذهب المالكيّة ، وإنّهم ليستعملونها في كتبهم بمعنيين أحدهما أعمّ من الآخر :
أ - أمّا بالمعنى الأعمّ فهي إثبات اليد على الشّيء والتّمكّن منه ، وهو نفس معنى القبض عند سائر الفقهاء
قال القيروانيّ : لا تتمّ هبة ولا صدقة ولا حبس إلاّ بالحيازة ، أي إلاّ بالقبض ، وقال التّسوّليّ : الحوز وضع اليد على الشّيء المحوز ، وقال الحسن بن رحّال : الحوز والقبض شيء واحد .
ب - أمّا الحيازة بالمعنى الأخصّ عند المالكيّة فعرّفها أبو الحسن المالكيّ بقوله : الحيازة هي وضع اليد والتّصرّف في الشّيء المحوز كتصرّف المالك في ملكه بالبناء والغرس والهدم وغيره من وجوه التّصرّف ، وقال الحطّاب : الحيازة تكون بثلاثة أشياء ، أضعفها : السّكنى والازدراع ، ويليها : الهدم والبنيان والغرس والاستغلال ، ويليها : التّفويت بالبيع والهبة والصّدقة والنّحلة والعتق والكتابة والتّدبير والوطء وما أشبه ذلك ممّا لا يفعله الرّجل إلاّ في ماله .
والقبض مرادف للحيازة بالمعنى الأعمّ .
ج - اليد :
يستعمل الفقهاء كلمة " اليد " بمعنى حوز الشّيء والمكنة من استعماله والانتفاع به ، فيقولون : بيّنة ذي اليد في النّتاج مقدّمة على بيّنة الخارج ، ويريدون بذي اليد الحائز المنتفع ، جاء في المدوّنة : قلت : أرأيت لو أنّ سلعةً في يدي ادّعى رجل أنّها له ، وأقام البيّنة ، وادّعيت أنّها لي ، وهي في يدي ، وأقمت البيّنة ؟ قال لي مالك : هي للّذي في يده إذا تكافأت البيّنتان .
والصّلة أنّ اليد تدلّ على القبض .
الأحكام المتعلّقة بالقبض :
كيفيّة القبض :
تختلف كيفيّة قبض الأشياء بحسب اختلافها في نفسها ، وهي في الجملة نوعان : عقار ومنقول .
أ - كيفيّة قبض العقار :
اتّفق الفقهاء على أنّ قبض العقار يكون بالتّخلية والتّمكين من اليد والتّصرّف .
فإن لم يتمكّن منه بأن منعه شخص آخر من وضع يده عليه ، فلا تعتبر التّخلية قبضاً .
وقيّد الشّافعيّة : ذلك بما إذا كان العقار غير معتبر فيه تقدير ، أمّا إذا كان معتبراً فيه - كما إذا اشترى أرضاً مذارعةً - فلا تكفي التّخلية والتّمكين ، بل لا بدّ مع ذلك من الذّرع .
كما اشترط الحنفيّة أن يكون العقار قريباً ، فإن كان بعيداً فلا تعتبر التّخلية قبضاً ، وهو رأي الصّاحبين وظاهر الرّواية والمعتمد في المذهب ، خلافاً لأبي حنيفة ، فإنّه لم يعتبر القرب والبعد ، واستظهر ابن عابدين أنّ المراد بالقرب في الدّار بأن تكون في البلد ، ثمّ إنّهم نصّوا على أنّ العقار إذا كان له قفل ، فيكفي في قبضه تسليم المفتاح مع تخليته ، بحيث يتهيّأ له فتحه من غير تكلّف .
وقد ألحق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة الثّمر على الشّجر بالعقار في اعتبار التّخلية مع ارتفاع الموانع قبضاً له ، لحاجة النّاس إلى ذلك وتعارفهم عليه .
ب - كيفيّة قبض المنقول :
اختلف الفقهاء في كيفيّة قبض المنقول :
فذهب جمهور الفقهاء إلى التّفريق بين المنقولات فيما يعتبر قبضاً لها ، حيث إنّ بعضها يتناول باليد عادةً وبعضها الآخر لا يتناول ، وما لا يتناول باليد نوعان ، أحدهما : لا يعتبر فيه تقدير في العقد ، والثّاني : يعتبر فيه ، فتحصل لديهم في المنقول ثلاث حالات :
الحالة الأولى :
أن يكون ممّا يتناول باليد عادةً ، كالنّقود والثّياب والجواهر والحليّ وما إليها ، وقبضه يكون بتناوله باليد عند جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة .
الحالة الثّانية :
أن يكون ممّا لا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ ، إمّا لعدم إمكانه وإمّا مع إمكانه ، لكنّه لم يراع فيه ، كالأمتعة والعروض والدّوابّ والصّبرة جزافاً ، وفي هذه الحالة اختلف المالكيّة مع الشّافعيّة والحنابلة في كيفيّة قبضه على قولين :
أحدهما للمالكيّة : وهو أنّه يرجع في قبضه إلى العرف .
والثّاني للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ قبضه يكون بنقله وتحويله ، واستدلّوا على ذلك بالمنقول والعرف ، فأمّا المنقول فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : « كنّا نتلقّى الرّكبان فنشتري منهم الطّعام جزافاً ، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه » ، وقيس على الطّعام غيره وأمّا العرف ، فلأنّ أهله لا يعدّون احتواء اليد عليه قبضاً من غير تحويل ، إذ البراجم لا تصلح قراراً له .
الحالة الثّالثة :
أن يكون ممّا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ ، كمن اشترى صبرة حنطة مكايلةً أو متاعاً موازنةً أو ثوباً مذارعةً أو معدوداً بالعدد ، وفي هذه الحالة اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّ قبضه يكون باستيفائه بما يقدّر فيه من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ .
واشترط الشّافعيّة بالإضافة إلى ذلك نقله وتحويله .
ودليل جمهور الفقهاء على أنّ قبض المقدّرات من المنقولات إنّما يكون بتوفيتها بالوحدة القياسيّة العرفيّة المراعاة فيها من الكيل أو الوزن أو الذّرع أو العدّ فهو ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه : « نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان ، صاع البائع وصاع المشتري » وقوله صلى الله عليه وسلم : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يكتاله » ، فدلّ ذلك على أنّه لا يحصل فيه القبض إلاّ بالكيل ، فتعيّن فيما يقدّر بالكيل الكيل ، وقيس عليه الباقي .
وقال الحنفيّة : قبض المنقول يكون بالتّناول باليد أو بالتّخلية على وجه التّمكين . جاء في مجلّة الأحكام العدليّة : تسليم العروض يكون بإعطائها ليد المشتري أو بوضعها عنده أو بإعطاء الإذن له بالقبض مع إراءتها له .
وجاء في الفتاوى الهنديّة : رجل باع مكيلاً في بيت مكايلةً أو موزوناً موازنةً ، وقال : خلّيت بينك وبينه ، ودفع إليه المفتاح ، ولم يكله ولم يزنه ، صار المشتري قابضاً .
وتسليم المبيع هو أن يخلّي بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكّن المشتري من قبضه بغير حائل ، وكذا التّسليم في جانب الثّمن .
واستدلّ الحنفيّة على اعتبار التّخلية مع التّمكين في المنقولات قبضاً بأنّ تسليم الشّيء في اللّغة معناه جعله سالماً خالصاً لا يشاركه فيه غيره ، وهذا يحصل بالتّخلية ، وبأنّ من وجب عليه التّسليم لا بدّ وأن يكون له سبيل للخروج من عهدة ما وجب عليه ، والّذي في وسعه هو التّخلية ورفع الموانع ، أمّا الإقباض فليس في وسعه ، لأنّ القبض بالبراجم فعل اختياريّ للقابض ، فلو تعلّق وجوب التّسليم به لتعذّر عليه الوفاء بالواجب ، وهذا لا يجوز . وقد وافق أحمد في رواية عنه الحنفيّة على اعتبار التّخلية في المنقول قبضاً ، وذلك لحصول الاستيلاء بالتّخلية ، إذ هو المقصود بالقبض ، وقد حصل بها .
تقسيم القبض من حيث المشروعيّة :
قسّم العزّ بن عبد السّلام والقرافيّ القبض كتصرّف من تصرّفات المكلّفين من حيث مشروعيّته والإذن فيه إلى ثلاثة أضرب :
الضّرب الأوّل : قبض بمجرّد إذن الشّرع دون إذن المستحقّ ، وهو أنواع :
منها : قبض ولاة الأمور والحكّام الأعيان المغصوبة من الغاصب ، وقبضهم أموال المصالح والزّكاة وحقوق بيت المال ، وقبضهم أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يتمكّنون من حفظ أموالهم ، وقبضهم أموال المجانين والمحجور عليهم بسفه ونحوهم .
ومنها : قبض من طيّرت الرّيح ثوباً ، ثمّ ألقته في حجره أو داره .
ومنها : قبض المضطرّ من طعام الأجانب بغير إذنهم لما يدفع به ضرورته .
ومنها : قبض الإنسان حقّه إذا ظفر به بجنسه .
والضّرب الثّاني : قبض ما يتوقّف جواز قبضه على إذن مستحقّه ، كقبض المبيع بإذن البائع ، وقبض المستام ، والقبض بالبيع الفاسد ، وقبض الرّهون والهبات والصّدقات والعواريّ والودائع ، وقبض جميع الأمانات .
والضّرب الثّالث : قبض بغير إذن من الشّرع ولا من المستحقّ ، وهذا قد يكون مع العلم بتحريمه ، كقبض المغصوب ، فيأثم الغاصب ، ويضمن ما قبضه بغير حقّ ولا إذن ، وقد يكون بغير علم ، كمن قبض مالاً يعتقد أنّه ماله ، فإذا هو لغيره ، قال القرافيّ : فلا يقال إنّ الشّرع أذن له في قبضه ، بل عفا عنه بإسقاط الإثم ، وعلى ذلك فلا إثم عليه ، ولا إباحة فيه ، وهو في ضمانه .
القبض الحكميّ :
القبض الحكميّ عند الفقهاء يقام مقام القبض الحقيقيّ ، وإن لم يكن متحقّقاً حسّاً في الواقع ، وذلك لضرورات ومسوّغات تقتضي اعتباره تقديراً وحكماً ، وترتيب أحكام القبض الحقيقيّ عليه ، وذلك في حالات ثلاث :
الحالة الأولى : عند إقباض المنقولات بالتّخلية مع التّمكين في مذهب الحنفيّة ، ولو لم يقبضها الطّرف الآخر حقيقةً ، حيث إنّهم يعدّون تناولها باليد قبضاً حقيقيّاً ، والقبض بالتّخلية قبضاً حكميّاً ، بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة عليه كأحكام القبض الحقيقيّ .
الحالة الثّانية : إذا وجب الإقباض واتّحدت يد القابض والمقبض وقع القبض بالنّيّة ، قال القرافيّ : ومن الإقباض أن يكون للمديون حقّ في يد ربّ الدّين ، فيأمره بقبضه من يده لنفسه ، فهو إقباض بمجرّد الإذن ، ويصير قبضه له بالنّيّة ، كقبض الأب من نفسه لنفسه مال ولده إذا اشتراه منه .
الحالة الثّالثة : اعتبار الدّائن قابضاً حكماً وتقديراً للدّين إذا كانت ذمّته مشغولةً بمثله للمدين ، وذلك لأنّ المال الثّابت في الذّمّة إذا استحقّ المدين قبض مثله من دائنه بعقد جديد أو بأحد موجبات الدّين ، فإنّه يعتبر مقبوضاً حكماً من قبل ذلك المدين .
وشواهد ذلك من نصوص الفقهاء عديدة ، منها :
أ - اقتضاء أحد النّقدين من الآخر :
قال ابن قدامة : ويجوز اقتضاء أحد النّقدين من الآخر ، ويكون صرفاً بعين وذمّة في قول أكثر أهل العلم ، وقال الأبيّ المالكيّ : لأنّ المطلوب في الصّرف المناجزة ، وصرف ما في الذّمّة أسرع مناجزةً من صرف المعيّنات ، لأنّ صرف ما في الذّمّة ينقضي بنفس الإيجاب والقبول والقبض من جهة واحدة ، وصرف المعيّنات لا ينقضي إلاّ بقبضهما معاً ، فهو معرّض للعدول ، فصرف ما في الذّمّة أولى بالجواز .
واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير ، آخذ هذه من هذه ، وأعطي هذه من هذه ، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فقال : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء » .
قال الشّوكانيّ : فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثّمن الّذي في الذّمّة بغيره ، وظاهره أنّهما غير حاضرين جميعاً ، بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم ، فدلّ على أنّ ما في الذّمّة كالحاضر .
ب - المقاصّة :
إذا انشغلت ذمّة الدّائن بمثل ما له على المدين في الجنس والصّفة ووقت الأداء ، برئت ذمّة المدين مقابلةً بالمثل من غير حاجة إلى تقابض بينهما ، ويسقط الدّينان إذا كانا متساويين في المقدار ، لأنّ ما في الذّمّة يعتبر مقبوضاً حكماً ، فإن تفاوتا في القدر ، سقط من الأكثر بقدر الأقلّ ، وبقيت الزّيادة ، فتقع المقاصّة في القدر المشترك ، ويبقى أحدهما مديناً للآخر بما زاد .
ج - تطارح الدّينين صرفاً :
ذهب الحنفيّة والمالكيّة والسّبكيّ من الشّافعيّة وابن تيميّة من الحنابلة إلى أنّه لو كان لرجل في ذمّة آخر دنانير ، وللآخر عليه دراهم ، فاصطرفا بما في ذمّتيهما ، فإنّه يصحّ ذلك الصّرف ، ويسقط الدّينان من غير حاجة إلى التّقابض الحقيقيّ - مع أنّ التّقابض في الصّرف شرط لصحّته بإجماع الفقهاء - وذلك لوجود التّقابض الحكميّ الّذي يقوم مقام التّقابض الحسّيّ ، قالوا : لأنّ الذّمّة الحاضرة كالعين الحاضرة ، غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّينان قد حلاّ معاً ، فأقاموا حلول الأجلين في ذلك مقام النّاجز بالنّاجز ، أي اليد باليد .
قال ابن تيميّة : فإنّ كلاً منهما اشترى ما في ذمّته ، وهو مقبوض له بما في ذمّة الآخر ، فهو كما لو كان لكلّ منهما عند الآخر وديعة فاشتراها بوديعته عند الآخر .
وخالف في ذلك الشّافعيّة والحنابلة ، ونصّوا على عدم جواز صرف ما في الذّمّة إذا لم يحضر أحدهما أو كلاهما النّقد الوارد عليه عقد الصّرف ، لأنّه يكون من بيع الدّين بالدّين .
د - جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم :
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم ، لأنّ ذلك افتراق عن دين بدين وهو منهيّ عنه .
وذهب ابن تيميّة وابن القيّم إلى أنّه إذا كان لرجل في ذمّة آخر ديناراً ، فجعله سلماً في طعام إلى أجل ، فإنّه يصحّ السّلم من غير حاجة إلى قبض حقيقيّ لرأس مال السّلم - مع اتّفاق الفقهاء على وجوب تسليم رأس المال معجّلاً لصحّة السّلم - وذلك لوجود القبض الحكميّ لرأس مال السّلم ، وهو ما في ذمّة المدين المسلم إليه ، فكأنّ الدّائن بعد عقد السّلم قبضه منه ثمّ ردّه إليه ، فصار معجّلاً حكماً فارتفع المانع الشّرعيّ
قال ابن القيّم : لو أسلم إليه في كرّ حنطة بعشرة دراهم في ذمّته ، فقد وجب له عليه دين ، وسقط له عنه دين غيره ، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا ، ولا إجماع فيه ، قاله شيخنا ، واختار جوازه ، وهو الصّواب .
شروط صحّة القبض :
الشّرط الأوّل : أن يكون الشّخص أهلاً للقبض :
اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط لصحّة القبض صدوره من أهل له ، غير أنّهم اختلفوا فيمن يكون أهلاً له على ثلاثة أقوال :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة القبض صدوره من جائز التّصرّف ، وهو البالغ العاقل غير المحجور عليه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ أهليّة الشّخص للقبض هي نفسها أهليّة التّصرّفات القوليّة والعقود ، فيشترط لصحّة القبض أن يكون القابض عاقلاً ، فلا يصحّ قبض المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل ، أمّا البلوغ ، فيشترط لصحّة القبض في بعض التّصرّفات دون بعض ، وتصرّفات الصّبيّ المميّز غير البالغ ثلاثة أنواع :
النّوع الأوّل : التّصرّفات النّافعة نفعاً محضاً ، كما إذا وهب الصّبيّ ، أو تصدّق أحد عليه ، أو أوصى له ، وفي هذه الحالة لا يشترط لصحّة قبضه بلوغه إذا كان يعقل استحساناً . النّوع الثّاني : التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً كتبرّعاته وكفالته بالنّفس أو بالمال ، وفي هذه الحالة لا تصحّ تصرّفاته ، وما ينشأ عنها من قبوض لاشتراط البلوغ في صحّتها . النّوع الثّالث : التّصرّفات الدّائرة بين النّفع والضّرر ، كبيعه وشرائه وإجارته واستئجاره ونكاحه وما شاكل ذلك ، وهذه التّصرّفات وما ينشأ عنها من قبوض يتوقّف نفاذها على إجازة وليّ الصّغير ، فإن أجازها نفذت ، وإن ردّها بطلت .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يشترط لصحّة القبض صدوره ممّن يتمتّع بأهليّة المعاملة ، بل تكفي الصّفة الإنسانيّة مناطاً لاعتباره أهلاً للقبض ، فيصحّ قبض الصّغير والمحجور ، ويكون قبضاً تامّاً .
الشّرط الثّاني : صدور القبض ممّن له ولايته :
القبض نوعان : قبض بطريق الأصالة ، وقبض بطريق النّيابة .
أ - أمّا القبض بطريق الأصالة : فهو أن يقبض الشّخص بنفسه لنفسه ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ ولاية هذا القبض تكون لمن ثبتت له أهليّة القبض .
ب - وأمّا القبض بطريق النّيابة : فولايته تثبت إمّا بتولية المالك ، وإمّا بتولية الشّارع .
الحالة الأولى : ولاية النّائب في القبض بتولية المالك :
اتّفق الفقهاء على ثبوت ولاية الوكيل بالقبض ، لأنّ من ملك التّصرّف في شيء أصالةً ملك التّوكيل فيه ، والقبض ممّا يحتمل النّيابة ، فكان قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكّل ولا فرق ، ولا بدّ أن يكون كلّ من الوكيل والموكّل أهلاً للقبض .
وقال الحنفيّة : للوكيل بالقبض أن يوكّل غيره إن كان موكّله قد وكّله بوكالة عامّة ، بأن قال له وقت التّوكيل بالقبض : اصنع ما شئت ، أو ما صنعت من شيء فهو جائز عليّ ، أو نحو ذلك ، أمّا إذا كانت الوكالة خاصّةً ، بأن لم يقل ذلك عند التّوكيل بالقبض ، فليس للوكيل أن يوكّل غيره بالقبض ، وإن فعل فلا تكون لمن وكّله هذه الولاية ، لأنّ الوكيل إنّما يتصرّف بحدود تفويض الموكّل ، فيملك قدر ما فوّض إليه لا أكثر .
وقال الشّافعيّة : يصحّ الشّراء والقبض للموكّل ، ولا يصحّ قبضه لنفسه ، لأنّه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حقّ نفسه .
ونصّ الحنابلة على أنّ المدين بطعام إذا دفع للدّائن دراهم وقال له : اشتر لي بهذه الدّراهم مثل الطّعام الّذي لك عليّ ، واقبضه لي ، ثمّ اقبضه لنفسك ، ففعل ، صحّ القبض لكلّ منهما ، لأنّه وكّله في الشّراء والقبض ، ثمّ الاستيفاء من نفسه لنفسه ، فصار كما لو كان له وديعة من جنس الدّين عند الدّائن وأذن له في قبضها عن دينه
وفي هذا المقام تعرّض الفقهاء لأحكام ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : ولاية الوكيل بالبيع في قبض الثّمن وإقباض المبيع :
اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالبيع في أن يقبض الثّمن من المشتري ويسلّم المبيع إليه ، على أربعة أقوال :
أحدها : للحنفيّة : وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع للمشتري ، لأنّ في الوكالة بالبيع إذناً بالقبض والإقباض دلالةً .
والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع ما لم يكن هناك عرف بأنّ الوكيل بالبيع لا يفعل ذلك .
والثّالث : للشّافعيّة في الأصحّ عندهم : وهو أنّه إذا كان القبض شرطاً لصحّة العقد كالصّرف والسّلم ، فللوكيل عندئذ ولاية القبض والإقباض ، أمّا إذا لم يكن شرطاً كما في البيع المطلق ، فيملك الوكيل بالبيع قبض الثّمن الحالّ وتسليم المبيع بعده إن لم يمنعه الموكّل من ذلك ، لأنّ ذلك من حقوق العقد ومقتضياته ، فكان الإذن في البيع إذناً فيه دلالةً .
فإن نهاه الموكّل عن قبض الثّمن أو تسليم المبيع ، أو كان الثّمن مؤجّلاً ، فليس للوكيل شيء من ذلك .
والرّابع : للحنابلة : وهو أنّ للوكيل بالبيع تسليم المبيع ، لأنّ إطلاق الوكالة بالبيع يقتضي التّسليم ، لكونه من تمامه ، بخلاف قبض الثّمن ، فليس للوكيل أن يقبضه ، لأنّ البائع قد يوكّل بالبيع من لا يأتمنه على الثّمن .
واستثنى ابن القيّم من الحكم بسلب ولاية قبض الثّمن من الوكيل بالبيع ما إذا كانت العادة الجارية قبض الوكيل بالبيع أثمان المبيعات ، فقال : ولو وكّل غائباً أو حاضراً في بيع شيء ، والعرف قبض ثمنه ، ملك ذلك .
المسألة الثّانية : ولاية الوكيل بالخصومة في قبض الحقّ :
اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالخصومة وإثبات الحقّ في قبضه على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الشّافعيّة والحنابلة وزفر وهو القول المفتى به عند الحنفيّة وبه أخذت مجلّة الأحكام العدليّة : وهو أنّ الوكيل بالخصومة لا يكون وكيلاً بالقبض ، ولا تثبت له ولايته ، لأنّ المطلوب من الوكيل بالخصومة تثبيت الحقّ ، وليس كلّ من يرتضى لتثبيت حقّ يؤتمن عليه ، فقد يوثق على الخصومة من لا يوثق على المال .
وأيضاً فلأنّ الإذن في تثبيت الحقّ ليس إذناً في قبضه من جهة النّطق ولا من جهة العرف ، إذ الإثبات لا يتضمّن القبض ، وليس القبض من لوازمه أو متعلّقاته ، بخلاف مسألة الوكيل بالبيع ، فإنّ تسليم المبيع وقبض الثّمن من حقوق العقد ومقتضياته ، وقد أقامه الموكّل مقام نفسه فيها .
والثّاني : لأبي حنيفة وصاحبيه : وهو أنّ للوكيل بالخصومة أن يقبض الحقّ بعد إثباته ، لأنّه لمّا وكّله بالخصومة في مال ، فقد ائتمنه على قبضه ، لأنّ الخصومة فيه لا تنتهي إلاّ بالقبض ، فكان التّوكيل بها توكيلاً بالقبض .
المسألة الثّالثة : ولاية العدل في قبض المرهون :
إذا اتّفق الرّاهن والمرتهن على أن يجعل المرهون في يد عدل ، فهل يكون للعدل ولاية قبضه ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وهو أنّ للعدل أن يقبض المرهون ، ويكون قبضه بمنزلة قبض المرتهن ، ولا فرق ، لأنّ كلاً من الرّاهن والمرتهن قد لا يثق بصاحبه ، فاحتيج إلى العدل ، وكما يتولّى العدل الحفظ فإنّه يتولّى القبض ، وبهذا قال الحسن والشّعبيّ وعمرو بن دينار والثّوريّ وإسحاق وأبو ثور وعبد اللّه بن المبارك .
ولأنّ العدل نائب عن صاحب الحقّ ، فكان قبضه بمنزلة قبض الوكيل في سائر العقود .
ثمّ إنّ ممّا يدلّ على أنّ يد العدل كيد المرتهن ، وأنّه وكيله بالقبض : أنّ للمرتهن متى شاء أن يفسخ الرّهن ويبطل يد العدل ويردّه إلى الرّاهن ، وليس للرّاهن إبطال يد العدل ، فدلّ ذلك على أنّ العدل وكيل للمرتهن .
والثّاني : لابن شبرمة والأوزاعيّ وابن أبي ليلى وقتادة والحكم والحارث العكليّ : وهو أنّه ليس للعدل أن يقبضه ، وإن قبضه فلا يكون القبض معتبراً ، قال القرطبيّ : ورأوا ذلك تعبّداً .
الحالة الثّانية : ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع :
ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع هي ولاية من يلي مال المحجور في قبض ما يستحقّه المحجور ، وهذه الولاية ليست بتولية المستحقّ ، لانتفاء أهليّته ، وإنّما هي بتولية الشّارع باتّفاق الفقهاء .
وقد روى الشّافعيّ والبيهقيّ عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه أنّه يرى أنّ الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغاراً .
وقال الحنفيّة : ومن ذلك ولاية من يعول الصّغير ويكفله في قبض ما يوهب إليه ، سواء أكان الواهب هو أو غيره ، وسواء أكان قريباً أم غير قريب .
وقال ابن جزيّ : ويحوز للمحجور وصيّه ، ويحوز الوالد لولده الحرّ الصّغير ما وهبه له هو ما عدا الدّنانير والدّراهم ، وما وهبه له غيره مطلقاً .
ويلحق بهذه الحالة في الحكم ولاية الشّخص في قبض اللّقطة ، ومال اللّقيط ، والثّوب الّذي ألقته الرّيح في داره ، وحقّه إذا ظفر به ، وولاية الحاكم في قبض أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يقدرون على حفظها لتحفظ لهم ، وولايته في قبض المال المودع إذا مات المودع والمودَع وورثة المودع غائبون ، وولايته في قبض أموال المصالح العامّة والزّكوات ، وكذا ولاية المضطرّ أن يقبض من طعام الأجانب بغير إذنهم ما يدفع به ضرورته .
وممّا يتعلّق بولاية القبض للغير ما يأتي :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق