مكتب / محمد جابر عيسى المحلمى
القبض في الشريعة الإسلامية - الجزء الثاني
القَبْض في الشريعة الإسلامية
( الجزء الثاني )
ولاية قبض المهر :
فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الزّوجة إذا كانت صغيرةً فولاية قبض مهرها لمن ينظر في مالها من الأولياء ، سواء أكانت بكراً أم ثيّباً ، ومتى قبضه برئت ذمّة الزّوج منه ، فليس للزّوجة مطالبته به ثانيةً ولو بعد البلوغ ، بل تأخذه ممّن قبضه من زوجها ، لأنّ الزّوج قد دفعه لمن له الولاية شرعاً في قبضه ، فيكون هذا الدّفع صحيحاً معتبراً تبرأ به ذمّته ، ومتى برئت ذمّة شخص من دين ، فلا يعود مديناً به ، إذ السّاقط لا يعود .
أمّا إذا كانت الزّوجة بالغةً رشيدةً : فإمّا أن تكون ثيّباً وإمّا أن تكون بكراً ، فإن كانت ثيّباً ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ لها أن تقبض مهرها بنفسها بدون معارضة لها من أحد ، لأنّ الولاية على أموالها ثابتة لها في هذه الحالة ، فإن شاءت تولّت هي قبض المهر بنفسها ، وإن شاءت وكّلت من تختاره في قبض مهرها ، وليس لأحد قبضه إلاّ بتوكيل صريح منها . أمّا إذا كانت بكراً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة : وهو أنّه ليس لأحد أن يقبض مهرها ، بل تقبضه هي بنفسها ، أو توكّل من يقبضه لها ، لأنّها رشيدة تلي مالها ، فليس لغيرها أن يقبض صداقها أو أيّ عوض تملكه بغير إذنها ، كثمن مبيعها وأجرة دارها ونحو ذلك .
والثّاني : للحنفيّة : وهو أنّ لوليّها أن يقبض مهرها إذا لم يحصل منها نهي صريح عن قبضه . فإن نهته فلا يملك القبض ، ولا يبرأ الزّوج إن سلّمه له ، والفرق بين البكر والثّيّب أنّ البكر تستحيي من قبض صداقها بخلاف الثّيّب ، فيقوم وليّها مقامها ، ولأنّ العادة جارية على ذلك ، فكان مأذوناً بالقبض من جهتها بدلالة العرف - بخلاف الثّيّب - والإذن العرفيّ كالإذن اللّفظيّ .
ولاية عيال المعير في قبض العاريّة عند ردّها :
لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المستعير ينقضي التزامه بردّ العاريّة ، ويبرأ من ضمانها إذا سلّمها لصاحبها أو وكيله بقبضها .
غير أنّ المستعير لو قام بردّها إلى أحد من عيال المعير كزوجته وولده ونحوهم فقد اختلف الفقهاء في براءة ذمّته على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة : وهو أنّه لا تبرأ ذمّة المستعير بردّ العاريّة وتسليمها إلى زوجة المعير أو ولده .. ولو ضاعت العاريّة بعد قبضهما فالمعير بالخيار : إن شاء ضمّن المستعير ، وإن شاء غرّم الزّوجة أو الولد ، فإن غرّم المستعير ، رجع عليهما ، وإن غرّمهما ، لم يرجعا على المستعير .
والثّاني : للحنابلة : وهو أنّ المستعير إذا ردّ العاريّة إلى عيال المعير الّذين لا عادة لهم بقبض ماله لم يبرأ من الضّمان ، لأنّه لم يردّها إلى مالكها ولا نائبه في قبضها ، فكأنّه سلّمها لأجنبيّ ، فلا يبرأ ، أمّا إذا ردّها إلى من جرت عادته بالرّدّ إليه كزوجة متصرّفة في ماله وخازن إذا ردّ إليهما ما جرت عادتهما بقبضه ، فيصحّ الرّدّ وينقضي التزام المستعير وتبرأ ذمّته من الضّمان ، لأنّه مأذون في ذلك عرفاً ، أشبه ما لو أذن له فيه نطقاً .
الشّرط الثّالث : الإذن :
اختلف الفقهاء في اشتراط الإذن لصحّة القبض على ثلاثة مذاهب :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى التّفريق بين ما إذا كان للمقبوض منه الحقّ في حبسه كالمرهون في يد الرّاهن ، والموهوب في يد الواهب ، والمبيع في يد البائع بثمن حالّ قبل نقد الثّمن ، وبين ما إذا لم يكن له الحقّ في حبسه كالمبيع في يد البائع بعد نقد المشتري ثمنه ، أو قبله إن كان الثّمن مؤجّلاً ، فذهبوا في الحالة الأولى إلى أنّه يشترط في صحّة القبض أن يكون بإذن من له الحقّ في حبسه ، وذهبوا في الحالة الثّانية إلى أنّه لا يشترط ، وصحّحوا القبض بدون إذنه .
وعلّلوا اشتراط الإذن في الأولى بأنّ من كان له الحقّ في حبس الشّيء ، فلا يجوز إسقاط حقّه بغير إذنه ، بخلاف من لم يكن له الحقّ في حبسه ، وتعلّق حقّ الغير به ، واستحقّ قبضه ، فله أن يقبضه سواء أذن المقبوض منه أم لم يأذن .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط الإذن لصحّة القبض في الرّهن ، ولا يشترط في سائر العطايا كالهبة والصّدقة والوقف ، لبقاء ملك الرّاهن في الرّهن دونها .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يشترط الإذن لصحّة القبض في الرّهن وفي العطايا كالهبة والصّدقة . فإن تعدّى المرتهن أو الموهوب أو المتصدّق عليه فقبضه بغير إذن الرّاهن أو الواهب أو المتصدّق ، فسد القبض ، ولم تترتّب عليه أحكامه .
نوعا الإذن :
الإذن عند الفقهاء نوعان : صريح ، ودلالة ، أمّا الصّريح ، فنحو أن يقول : اقبض ، أو أذنت لك بالقبض ، أو رضيت به ، وما يجري هذا المجرى ، وأمّا الدّلالة ، فنحو أن يقبض الموهوب الهبة بحضرة الواهب فيسكت ولا ينهاه ، وكسكوت البائع حين يرى المشتري يقبض المبيع ، وكسكوت الرّاهن عند قبض المرتهن العين المرهونة أمامه .
الرّجوع في الإذن :
حيثما اشترط الإذن لصحّة القبض فقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ لمن أذن بالقبض الرّجوع في الإذن قبل القبض ، فإن رجع قبله بطل الإذن ، وإن رجع عن الإذن بعد القبض لم يؤثّر رجوعه .
أمّا بطلان الإذن برجوعه قبل القبض ، فلقوّة حقّه في العين ببقاء يده عليها ، ولأنّه لمّا كان له أن لا يأذن بقبضها ، كان له أن يرجع عن إذنه قبل حصول القبض ، وأمّا عدم تأثير رجوعه على صحّة الإذن بعد القبض ، فلأنّ من سعى في نقض ما تمّ من قبله فسعيه مردود عليه .
اشتراط بقاء أهليّة الآذن حتّى يحصل القبض :
نصّ الشّافعيّة على بطلان الإذن بالقبض إذا جنّ الآذن أو أغمي عليه أو حجر عليه قبل القبض .
ووافقهم الحنابلة على أنّه لو مات الآذن أو المأذون له قبل القبض ، بطل الإذن بالقبض .
الشّرط الرّابع : أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره :
اختلف الفقهاء في اشتراط كون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره على ثلاثة أقوال : أحدها : للحنفيّة والشّافعيّة وهو أنّه يشترط لصحّة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره ، فلو كان المبيع داراً مشغولةً بمتاع للبائع ، فلا يصحّ القبض حتّى يسلّمها فارغةً .
والثّاني : للمالكيّة وهو أنّه لا يشترط في صحّة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره إلاّ في دار السّكنى ، فيشترط لصحّة قبضها إخلاؤها .
والثّالث : للحنابلة وهو أنّه لا يشترط ذلك ، ويصحّ قبض الشّيء المشغول بحقّ غيره ، فلو خلّى البائع بين المشتري وبين الدّار المباعة ، وفيها متاع للبائع صحّ القبض ، لأنّ اتّصالها بملك البائع لا يمنع صحّة القبض .
الشّرط الخامس : أن يكون المقبوض منفصلاً متميّزاً :
هذا الشّرط قال به الحنفيّة ، وهو أن يكون المقبوض منفصلاً متميّزاً عن حقّ الغير ، فإن كان متّصلاً به اتّصال الأجزاء ، فلا يصحّ القبض .
وعلى هذا : فلو رهن أو وهب الأرض بدون البناء أو بدون الزّرع والشّجر ، أو الزّرع والشّجر بدون الأرض ، أو الشّجر بدون الثّمر ، أو الثّمر بدون الشّجر ، فلا يصحّ القبض ولو سلّم الكلّ ، لأنّ المرهون أو الموهوب المراد قبضه متّصل بغيره اتّصال الأجزاء ، وهذا يمنع من صحّة القبض .
وسبب اشتراطهم هذا الشّرط أنّ اتّصال الشّيء بحقّ الغير يمنع من التّمكّن منه ويحول دونه ، ومن أجل ذلك لا يصحّ قبضه وهو بهذه الحال .
الشّرط السّادس : أن لا يكون المقبوض حصّةً شائعةً :
اختلف الفقهاء في اشتراط عدم الشّيوع لصحّة القبض على قولين :
أحدهما للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّه يصحّ قبض الحصّة الشّائعة ، لأنّ الشّيوع لا ينافي صحّة القبض ، إذ لو كان القبض غير متحقّق في الحصّة الشّائعة لعدم تمكّن كلّ واحد من الشّريكين من التّصرّف في حصّته ، لكان كلّ شريكين في ملك شائع غير قابضين له ، ولو كانا غير قابضين له لكان مهملاً لا يد لأحد عليه ، وهذا أمر ينكره الشّرع والعيان ، أمّا الشّرع ، فلأنّه جعل تصرّفهما فيه تصرّف ذي الملك في ملكه ، وأمّا العيان ، فلكونه عند كلّ واحد منهما مدّةً يتّفقان عليها ، أو عندهما معاً ينتفعان به ويستغلانه .
غير أنّ جمهور الفقهاء مع اتّفاقهم على صحّة قبض الحصّة الشّائعة ، وعدم منافاة الشّيوع لصحّة القبض اختلفوا في كيفيّة قبض الحصّة الشّائعة :
أ - فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ قبض الحصّة الشّائعة يكون بقبض الكلّ .
فإذا قبضه كان ما عدا حصّته أمانةً في يده لشريكه ، لأنّ قبض الشّيء يعني وضع اليد عليه والتّمكّن منه ، وفي قبضه للكلّ وضع ليده على حصّته وتمكّن منها .
قالوا : ولا يشترط لذلك إذن الشّريك إذا كان الشّيء ممّا يقبض بالتّخلية .
أمّا إذا كان ممّا يقبض بالنّقل والتّحويل ، فيشترط إذن الشّريك ، لأنّ قبضه بنقله ، ونقله لا يتأتّى إلاّ بنقل حصّة شريكه مع حصّته ، والتّصرّف في مال الغير بدون إذنه لا يجوز .
فإن أبى الشّريك الإذن ، فلمستحقّ قبضه أن يوكّل شريكه في قبض حصّته ، فيصحّ القبض ، فإن لم يوكّله قبض له الحاكم ، أو نصب من يقبض لهما ، فينقله ليحصل القبض ، لأنّه لا ضرر على الشّريك في ذلك ، ويتمّ به عقد شريكه .
ب - وقال المالكيّة : قبض الحصّة الشّائعة يكون بوضع يده عليها كما كان صاحبها يضع يده عليها مع شريكه ، إلاّ في المرهون الّذي يكون الشّريك فيه الرّاهن ، فيشترط قبض الكلّ كي لا تجتمع يد الرّاهن ويد المرتهن معاً ، سواء أذن الشّريك الرّاهن أو لم يأذن ، فلو وهب رجل نصف داره ، وهو ساكن فيها ، فدخل الموهوب له فساكنه فيها ، وصار حائزاً بالسّكنى والارتفاق بمنافع الدّار ، والواهب معه في ذلك على حسب ما يفعله الشّريكان في السّكنى ، فذلك قبض تامّ ، وكذلك كلّ من وهب جزءاً من مال أو دار ، وتولّى احتياز ذلك مع واهبه ، وشاركه في الاغتلال والارتفاق ، فهو قبض .
لكن لو رهن شخص نصف داره شائعاً لم يتمّ القبض إلاّ بقبض المرتهن جميعها لئلاّ تجول يد الرّاهن فيها ، أمّا لو كان النّصف غير المرهون لغير الرّاهن فيحصل القبض بحلوله في حصّة الرّاهن مع الشّريك في السّكنى والارتفاق .
والثّاني للحنفيّة ، وهو أنّه يشترط في صحّة القبض ألا يكون المقبوض حصّةً شائعةً ، وذلك لأنّ معنى القبض إثبات اليد والتّمكّن من التّصرّف في الشّيء المقبوض ، وتحقّق ذلك في الجزء الشّائع وحده لا يتصوّر ، فإنّ سكنى بعض الدّار شائعاً ولبس بعض الثّوب شائعاً محال ، وإن قابضه لا يتمكّن من التّصرّف فيه ولو حاز الكلّ ، نظراً لتعلّق حقّ الشّريك به .
ما يحلّ محلّ القبض :
الشّيء المستحقّ قبضه بالعقد ، إمّا أن يكون بيد الشّخص قبل أن يستحقّه بالعقد ، وإمّا أن يكون بيد صاحبه .
الحالة الأولى :
إن كان المقبوض بيد الشّخص قبل أن يستحقّ قبضه بالعقد ، كما لو باع شيئاً أو وهبه أو رهنه عند غاصب أو مستعير أو مودع أو مستأجر أو غيره ، فهل ينوب القبض السّابق على العقد عن القبض الّذي يقتضيه ذلك العقد ويقوم مقامه أم لا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأوّل : للمالكيّة والحنابلة : وهو أنّه ينوب القبض السّابق مناب القبض المستحقّ بالعقد مطلقاً سواء أكانت يده عليه يد ضمان أم يد أمانة ، وسواء أكان القبض المستحقّ قبض أمانة أم قبض ضمان ، ولا يشترط الإذن ولا مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض .
أمّا نيابته مناب القبض المستحقّ بالعقد ، فلأنّ استدامة القبض قبض حقيقةً ، لوجود الحيازة مع التّمكّن من التّصرّف ، فقد وجد القبض المستحقّ ، ولا دليل على أنّه ينبغي وقوعه ابتداءً بعد العقد .
وأمّا عدم اشتراط كون القبضين متماثلين أو كون القبض السّابق أقوى ، بما ينشأ عنه من ضمان اليد ، حتّى ينوب عن القبض المستحقّ بالعقد ، فلأنّ المراد بالقبض في العقد : إثبات اليد والتّمكّن من التّصرّف في المقبوض ، فإذا وجد هذا الأمر ، وجد القبض ، أمّا ما ينشأ عنه من كون المقبوض مضموناً أو أمانةً في يد القابض ، فليس لذلك أيّة علاقة أو تأثير في حقيقة القبض .
وأمّا عدم الحاجة للإذن ، فلأنّ إقراره له في يده بمنزلة إذنه في القبض ، كما أنّ إجراءه العقد مع كون المال في يده يكشف عن رضاه بالقبض ، فاستغني عن الإذن المشترط في الابتداء ، إذ يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء .
وأمّا عدم الحاجة إلى مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض ، فلأنّ مضيّ هذا الزّمان ليس من توابع القبض ، وليس له مدخل في حقيقته ، نعم لو كان القبض متأخّراً عن العقد لاعتبر مضيّ الزّمان الّذي يمكن فيه القبض ، لضرورة امتناع حصول القبض بدونه ، أمّا مع كونه سابقاً للعقد فلا .
القول الثّاني : للحنفيّة : وهو أنّ الأصل في ذلك أنّ القبض الموجود وقت العقد ، إذا كان مثل المستحقّ بالعقد ، فإنّه ينوب منابه ، يعني أن يكون كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان ، لأنّه إذا كان مثله أمكن تحقيق التّناوب ، لأنّ المتماثلين غير أن ينوب كلّ واحد منهما مناب صاحبه ويسدّ مسدّه ، وقد وجد القبض المحتاج إليه .
أمّا إذا اختلف القبضان ، بأن كان أحدهما قبض أمانة ، والآخر قبض ضمان ، فينظر : إن كان القبض السّابق أقوى من المستحقّ ، بأن كان السّابق قبض ضمان والمستحقّ قبض أمانة ، فينوب عنه ، لأنّ به يوجد القبض المستحقّ وزيادة ، وإن كان دونه ، فلا ينوب عنه ، وذلك لانعدام القبض المحتاج إليه ، إذ لم يوجد فيه إلاّ بعض المستحقّ ، فلا ينوب عن كلّه .
وبيان ذلك : أنّ الشّيء إذا كان في يد المشتري بغصب أو مقبوضاً بعقد فاسد ، فاشتراه من المالك بعقد صحيح ، فينوب القبض الأوّل عن الثّاني ، حتّى لو هلك الشّيء قبل أن يذهب المشتري إلى بيته ، ويصل إليه ، أو يتمكّن من أخذه ، كان الهلاك عليه ، لتماثل القبضين من حيث كون كلّ منهما يوجب كون المقبوض مضموناً بنفسه .
وكذا لو كان الشّيء في يده وديعةً أو عاريّةً فوهبه منه مالكه ، فلا يحتاج إلى قبض آخر ، وينوب القبض الأوّل عن الثّاني ، لتماثلهما من حيث كونهما أمانةً .
ولو كان الشّيء في يده بغصب أو بعقد فاسد ، فوهبه المالك منه ، فكذلك ينوب ذلك عن قبض الهبة ، لوجود المستحقّ بالعقد ، وهو أصل القبض ، وزيادة ضمان .
أمّا إذا كان المبيع في يد المشتري بعاريّة أو وديعة أو رهن ، فلا ينوب القبض الأوّل عن الثّاني ، ولا يصير المشتري قابضاً بمجرّد العقد ، لأنّ القبض السّابق قبض أمانة ، فلا يقوم مقام قبض الضّمان في البيع ، لعدم وجود القبض المحتاج إليه .
القول الثّالث : للشّافعيّة : وهو أنّه ينوب القبض السّابق مناب القبض المستحقّ بالعقد ، سواء أكانت يد القابض السّابقة بجهة ضمان أم بجهة أمانة ، وسواء أكان القبض المستحقّ قبض أمانة أم قبض ضمان ، غير أنّه يشترط لصحّة ذلك أمران :
أحدهما : الإذن من صاحبه في الأظهر إن كان له في الأصل الحقّ في حبسه ، كالمرهون ، والمبيع إذا كان الثّمن حالاً ، ولم يوفه ، أمّا إذا لم يكن له هذا الحقّ كالمبيع بثمن مؤجّل ، أو حالّ بعد نقد ثمنه ، فلا يشترط عند ذلك الإذن .
وسبب اشتراط الإذن من مستحقّ حبسه في الأصل ، هو عدم جواز إسقاط حقّه بغير إذنه ، كما لو كانت العين في يده .
والثّاني : مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض ، إذا كان الشّيء غائباً عن مجلس العقد ، لأنّه لو لم يكن في يده ، لاحتاج إلى مضيّ هذا الزّمان ليحوزه ويتمكّن منه ، ولأنّا جعلنا دوام اليد كابتداء القبض ، فلا أقلّ من مضيّ زمان يتصوّر فيه ابتداء القبض ، ولكن لا يشترط ذهابه ومصيره إليه فعلاً .
ويعتبر ابتداء زمان إمكان القبض ، من وقت الإذن فيه ، لا من وقت العقد .
الحالة الثّانية :
إذا كان الشّيء بيد صاحبه ، كالمبيع في يد بائعه ، أو الموهوب في يد واهبه ، فقد فرّق الفقهاء - في قضيّة ما ينوب مناب القبض - بين حالة المبيع في يد البائع ، وبين حالة الموهوب في يد الواهب ، وبيان ذلك :
أ - أنّ المبيع إذا كان بيد البائع ، فللفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : للحنفيّة : وهو أن ينوب مناب قبض المبيع من يد بائعه ، أن يتصرّف فيه المشتري بإتلاف أو تعييب أو تغيير صورة أو استعمال ، لأنّ القبض يكون بإثبات اليد والتّمكين من التّصرّف ، والإتلاف والتّعييب وتغيير الصّورة والاستعمال تصرّف فيه حقيقةً ، فكان قبضاً من باب أولى ، لأنّ التّمكين من التّصرّف دون حقيقة التّصرّف ، كما أنّ صدور هذه التّصرّفات من المشتري ينطوي على إثبات اليد فعلاً ، إذ لا يتصوّر صدورها منه مع تخلّف هذا المعنى ، فكانت تلك التّصرّفات بمنزلة القبض ضرورةً .
ومثل ذلك في الحكم ما لو فعل البائع شيئاً من ذلك بأمر المشتري ، لأنّ فعله بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه .
ولو أعار المشتري المبيع أو أودعه أجنبيّاً ، صار بذلك قابضاً لأنّه بالإعارة والإيداع أثبت يد النّيابة لغيره فيه ، فصار قابضاً ، وكذا لو وهبه أجنبيّاً ، فقبضه الموهوب .
أمّا إذا أعاره المشتري للبائع ، أو أودعه إيّاه ، أو آجره إيّاه لم يكن شيء من ذلك قبضاً ، لأنّ هذه التّصرّفات لا تصحّ من المشتري ، لأنّ يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع ، فلا يتصوّر إثبات يد النّيابة له بهذه التّصرّفات ، فلم تصحّ ، والتحقت بالعدم .
والثّاني : للشّافعيّة : وهو أنّ المشتري إذا أتلف المبيع حسّاً أو شرعاً قبل قبضه ، كان إتلافه قبضاً إن علم أنّه يتلف المبيع ، أمّا إذا لم يعلم فوجهان ، والأصحّ اعتباره قبضاً . وإذا أتلفت الزّوجة الصّداق ، وهو بيد الزّوج ، صارت بذلك قابضةً ، وبرئ الزّوج .
والثّالث : للحنابلة : وهو أنّ المشتري إذا أتلف المبيع ، وهو في يد البائع ، فيعتبر ذلك قبضاً له ، ويستقرّ عليه الثّمن ، لأنّه ماله وقد أتلفه ، سواء أكان الإتلاف عن عمد أم خطأ ، ويكون على المشتري أن ينقد الثّمن للبائع إن لم يكن دفعه ، وإن كان دفعه ، فلا رجوع له به .
ب - أمّا إذا كانت العين الموهوبة بيد الواهب ، فقال الشّافعيّة : لا يعتبر إتلاف الموهوب للعين الموهوبة قبضاً ، لعدم استحقاقه القبض بدون إذن الواهب .
وقال الحنابلة : إذا أتلف المتّهب الموهوب ، وهو في يد الواهب ، فإن كان ذلك بإذن الواهب ، اعتبر قبضاً وإلاّ فلا .
القبض في الشريعة الإسلامية - الجزء الثاني
القَبْض في الشريعة الإسلامية
( الجزء الثاني )
ولاية قبض المهر :
فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الزّوجة إذا كانت صغيرةً فولاية قبض مهرها لمن ينظر في مالها من الأولياء ، سواء أكانت بكراً أم ثيّباً ، ومتى قبضه برئت ذمّة الزّوج منه ، فليس للزّوجة مطالبته به ثانيةً ولو بعد البلوغ ، بل تأخذه ممّن قبضه من زوجها ، لأنّ الزّوج قد دفعه لمن له الولاية شرعاً في قبضه ، فيكون هذا الدّفع صحيحاً معتبراً تبرأ به ذمّته ، ومتى برئت ذمّة شخص من دين ، فلا يعود مديناً به ، إذ السّاقط لا يعود .
أمّا إذا كانت الزّوجة بالغةً رشيدةً : فإمّا أن تكون ثيّباً وإمّا أن تكون بكراً ، فإن كانت ثيّباً ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ لها أن تقبض مهرها بنفسها بدون معارضة لها من أحد ، لأنّ الولاية على أموالها ثابتة لها في هذه الحالة ، فإن شاءت تولّت هي قبض المهر بنفسها ، وإن شاءت وكّلت من تختاره في قبض مهرها ، وليس لأحد قبضه إلاّ بتوكيل صريح منها . أمّا إذا كانت بكراً ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة : وهو أنّه ليس لأحد أن يقبض مهرها ، بل تقبضه هي بنفسها ، أو توكّل من يقبضه لها ، لأنّها رشيدة تلي مالها ، فليس لغيرها أن يقبض صداقها أو أيّ عوض تملكه بغير إذنها ، كثمن مبيعها وأجرة دارها ونحو ذلك .
والثّاني : للحنفيّة : وهو أنّ لوليّها أن يقبض مهرها إذا لم يحصل منها نهي صريح عن قبضه . فإن نهته فلا يملك القبض ، ولا يبرأ الزّوج إن سلّمه له ، والفرق بين البكر والثّيّب أنّ البكر تستحيي من قبض صداقها بخلاف الثّيّب ، فيقوم وليّها مقامها ، ولأنّ العادة جارية على ذلك ، فكان مأذوناً بالقبض من جهتها بدلالة العرف - بخلاف الثّيّب - والإذن العرفيّ كالإذن اللّفظيّ .
ولاية عيال المعير في قبض العاريّة عند ردّها :
لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المستعير ينقضي التزامه بردّ العاريّة ، ويبرأ من ضمانها إذا سلّمها لصاحبها أو وكيله بقبضها .
غير أنّ المستعير لو قام بردّها إلى أحد من عيال المعير كزوجته وولده ونحوهم فقد اختلف الفقهاء في براءة ذمّته على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة : وهو أنّه لا تبرأ ذمّة المستعير بردّ العاريّة وتسليمها إلى زوجة المعير أو ولده .. ولو ضاعت العاريّة بعد قبضهما فالمعير بالخيار : إن شاء ضمّن المستعير ، وإن شاء غرّم الزّوجة أو الولد ، فإن غرّم المستعير ، رجع عليهما ، وإن غرّمهما ، لم يرجعا على المستعير .
والثّاني : للحنابلة : وهو أنّ المستعير إذا ردّ العاريّة إلى عيال المعير الّذين لا عادة لهم بقبض ماله لم يبرأ من الضّمان ، لأنّه لم يردّها إلى مالكها ولا نائبه في قبضها ، فكأنّه سلّمها لأجنبيّ ، فلا يبرأ ، أمّا إذا ردّها إلى من جرت عادته بالرّدّ إليه كزوجة متصرّفة في ماله وخازن إذا ردّ إليهما ما جرت عادتهما بقبضه ، فيصحّ الرّدّ وينقضي التزام المستعير وتبرأ ذمّته من الضّمان ، لأنّه مأذون في ذلك عرفاً ، أشبه ما لو أذن له فيه نطقاً .
الشّرط الثّالث : الإذن :
اختلف الفقهاء في اشتراط الإذن لصحّة القبض على ثلاثة مذاهب :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى التّفريق بين ما إذا كان للمقبوض منه الحقّ في حبسه كالمرهون في يد الرّاهن ، والموهوب في يد الواهب ، والمبيع في يد البائع بثمن حالّ قبل نقد الثّمن ، وبين ما إذا لم يكن له الحقّ في حبسه كالمبيع في يد البائع بعد نقد المشتري ثمنه ، أو قبله إن كان الثّمن مؤجّلاً ، فذهبوا في الحالة الأولى إلى أنّه يشترط في صحّة القبض أن يكون بإذن من له الحقّ في حبسه ، وذهبوا في الحالة الثّانية إلى أنّه لا يشترط ، وصحّحوا القبض بدون إذنه .
وعلّلوا اشتراط الإذن في الأولى بأنّ من كان له الحقّ في حبس الشّيء ، فلا يجوز إسقاط حقّه بغير إذنه ، بخلاف من لم يكن له الحقّ في حبسه ، وتعلّق حقّ الغير به ، واستحقّ قبضه ، فله أن يقبضه سواء أذن المقبوض منه أم لم يأذن .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط الإذن لصحّة القبض في الرّهن ، ولا يشترط في سائر العطايا كالهبة والصّدقة والوقف ، لبقاء ملك الرّاهن في الرّهن دونها .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يشترط الإذن لصحّة القبض في الرّهن وفي العطايا كالهبة والصّدقة . فإن تعدّى المرتهن أو الموهوب أو المتصدّق عليه فقبضه بغير إذن الرّاهن أو الواهب أو المتصدّق ، فسد القبض ، ولم تترتّب عليه أحكامه .
نوعا الإذن :
الإذن عند الفقهاء نوعان : صريح ، ودلالة ، أمّا الصّريح ، فنحو أن يقول : اقبض ، أو أذنت لك بالقبض ، أو رضيت به ، وما يجري هذا المجرى ، وأمّا الدّلالة ، فنحو أن يقبض الموهوب الهبة بحضرة الواهب فيسكت ولا ينهاه ، وكسكوت البائع حين يرى المشتري يقبض المبيع ، وكسكوت الرّاهن عند قبض المرتهن العين المرهونة أمامه .
الرّجوع في الإذن :
حيثما اشترط الإذن لصحّة القبض فقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ لمن أذن بالقبض الرّجوع في الإذن قبل القبض ، فإن رجع قبله بطل الإذن ، وإن رجع عن الإذن بعد القبض لم يؤثّر رجوعه .
أمّا بطلان الإذن برجوعه قبل القبض ، فلقوّة حقّه في العين ببقاء يده عليها ، ولأنّه لمّا كان له أن لا يأذن بقبضها ، كان له أن يرجع عن إذنه قبل حصول القبض ، وأمّا عدم تأثير رجوعه على صحّة الإذن بعد القبض ، فلأنّ من سعى في نقض ما تمّ من قبله فسعيه مردود عليه .
اشتراط بقاء أهليّة الآذن حتّى يحصل القبض :
نصّ الشّافعيّة على بطلان الإذن بالقبض إذا جنّ الآذن أو أغمي عليه أو حجر عليه قبل القبض .
ووافقهم الحنابلة على أنّه لو مات الآذن أو المأذون له قبل القبض ، بطل الإذن بالقبض .
الشّرط الرّابع : أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره :
اختلف الفقهاء في اشتراط كون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره على ثلاثة أقوال : أحدها : للحنفيّة والشّافعيّة وهو أنّه يشترط لصحّة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره ، فلو كان المبيع داراً مشغولةً بمتاع للبائع ، فلا يصحّ القبض حتّى يسلّمها فارغةً .
والثّاني : للمالكيّة وهو أنّه لا يشترط في صحّة القبض أن يكون المقبوض غير مشغول بحقّ غيره إلاّ في دار السّكنى ، فيشترط لصحّة قبضها إخلاؤها .
والثّالث : للحنابلة وهو أنّه لا يشترط ذلك ، ويصحّ قبض الشّيء المشغول بحقّ غيره ، فلو خلّى البائع بين المشتري وبين الدّار المباعة ، وفيها متاع للبائع صحّ القبض ، لأنّ اتّصالها بملك البائع لا يمنع صحّة القبض .
الشّرط الخامس : أن يكون المقبوض منفصلاً متميّزاً :
هذا الشّرط قال به الحنفيّة ، وهو أن يكون المقبوض منفصلاً متميّزاً عن حقّ الغير ، فإن كان متّصلاً به اتّصال الأجزاء ، فلا يصحّ القبض .
وعلى هذا : فلو رهن أو وهب الأرض بدون البناء أو بدون الزّرع والشّجر ، أو الزّرع والشّجر بدون الأرض ، أو الشّجر بدون الثّمر ، أو الثّمر بدون الشّجر ، فلا يصحّ القبض ولو سلّم الكلّ ، لأنّ المرهون أو الموهوب المراد قبضه متّصل بغيره اتّصال الأجزاء ، وهذا يمنع من صحّة القبض .
وسبب اشتراطهم هذا الشّرط أنّ اتّصال الشّيء بحقّ الغير يمنع من التّمكّن منه ويحول دونه ، ومن أجل ذلك لا يصحّ قبضه وهو بهذه الحال .
الشّرط السّادس : أن لا يكون المقبوض حصّةً شائعةً :
اختلف الفقهاء في اشتراط عدم الشّيوع لصحّة القبض على قولين :
أحدهما للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّه يصحّ قبض الحصّة الشّائعة ، لأنّ الشّيوع لا ينافي صحّة القبض ، إذ لو كان القبض غير متحقّق في الحصّة الشّائعة لعدم تمكّن كلّ واحد من الشّريكين من التّصرّف في حصّته ، لكان كلّ شريكين في ملك شائع غير قابضين له ، ولو كانا غير قابضين له لكان مهملاً لا يد لأحد عليه ، وهذا أمر ينكره الشّرع والعيان ، أمّا الشّرع ، فلأنّه جعل تصرّفهما فيه تصرّف ذي الملك في ملكه ، وأمّا العيان ، فلكونه عند كلّ واحد منهما مدّةً يتّفقان عليها ، أو عندهما معاً ينتفعان به ويستغلانه .
غير أنّ جمهور الفقهاء مع اتّفاقهم على صحّة قبض الحصّة الشّائعة ، وعدم منافاة الشّيوع لصحّة القبض اختلفوا في كيفيّة قبض الحصّة الشّائعة :
أ - فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ قبض الحصّة الشّائعة يكون بقبض الكلّ .
فإذا قبضه كان ما عدا حصّته أمانةً في يده لشريكه ، لأنّ قبض الشّيء يعني وضع اليد عليه والتّمكّن منه ، وفي قبضه للكلّ وضع ليده على حصّته وتمكّن منها .
قالوا : ولا يشترط لذلك إذن الشّريك إذا كان الشّيء ممّا يقبض بالتّخلية .
أمّا إذا كان ممّا يقبض بالنّقل والتّحويل ، فيشترط إذن الشّريك ، لأنّ قبضه بنقله ، ونقله لا يتأتّى إلاّ بنقل حصّة شريكه مع حصّته ، والتّصرّف في مال الغير بدون إذنه لا يجوز .
فإن أبى الشّريك الإذن ، فلمستحقّ قبضه أن يوكّل شريكه في قبض حصّته ، فيصحّ القبض ، فإن لم يوكّله قبض له الحاكم ، أو نصب من يقبض لهما ، فينقله ليحصل القبض ، لأنّه لا ضرر على الشّريك في ذلك ، ويتمّ به عقد شريكه .
ب - وقال المالكيّة : قبض الحصّة الشّائعة يكون بوضع يده عليها كما كان صاحبها يضع يده عليها مع شريكه ، إلاّ في المرهون الّذي يكون الشّريك فيه الرّاهن ، فيشترط قبض الكلّ كي لا تجتمع يد الرّاهن ويد المرتهن معاً ، سواء أذن الشّريك الرّاهن أو لم يأذن ، فلو وهب رجل نصف داره ، وهو ساكن فيها ، فدخل الموهوب له فساكنه فيها ، وصار حائزاً بالسّكنى والارتفاق بمنافع الدّار ، والواهب معه في ذلك على حسب ما يفعله الشّريكان في السّكنى ، فذلك قبض تامّ ، وكذلك كلّ من وهب جزءاً من مال أو دار ، وتولّى احتياز ذلك مع واهبه ، وشاركه في الاغتلال والارتفاق ، فهو قبض .
لكن لو رهن شخص نصف داره شائعاً لم يتمّ القبض إلاّ بقبض المرتهن جميعها لئلاّ تجول يد الرّاهن فيها ، أمّا لو كان النّصف غير المرهون لغير الرّاهن فيحصل القبض بحلوله في حصّة الرّاهن مع الشّريك في السّكنى والارتفاق .
والثّاني للحنفيّة ، وهو أنّه يشترط في صحّة القبض ألا يكون المقبوض حصّةً شائعةً ، وذلك لأنّ معنى القبض إثبات اليد والتّمكّن من التّصرّف في الشّيء المقبوض ، وتحقّق ذلك في الجزء الشّائع وحده لا يتصوّر ، فإنّ سكنى بعض الدّار شائعاً ولبس بعض الثّوب شائعاً محال ، وإن قابضه لا يتمكّن من التّصرّف فيه ولو حاز الكلّ ، نظراً لتعلّق حقّ الشّريك به .
ما يحلّ محلّ القبض :
الشّيء المستحقّ قبضه بالعقد ، إمّا أن يكون بيد الشّخص قبل أن يستحقّه بالعقد ، وإمّا أن يكون بيد صاحبه .
الحالة الأولى :
إن كان المقبوض بيد الشّخص قبل أن يستحقّ قبضه بالعقد ، كما لو باع شيئاً أو وهبه أو رهنه عند غاصب أو مستعير أو مودع أو مستأجر أو غيره ، فهل ينوب القبض السّابق على العقد عن القبض الّذي يقتضيه ذلك العقد ويقوم مقامه أم لا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأوّل : للمالكيّة والحنابلة : وهو أنّه ينوب القبض السّابق مناب القبض المستحقّ بالعقد مطلقاً سواء أكانت يده عليه يد ضمان أم يد أمانة ، وسواء أكان القبض المستحقّ قبض أمانة أم قبض ضمان ، ولا يشترط الإذن ولا مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض .
أمّا نيابته مناب القبض المستحقّ بالعقد ، فلأنّ استدامة القبض قبض حقيقةً ، لوجود الحيازة مع التّمكّن من التّصرّف ، فقد وجد القبض المستحقّ ، ولا دليل على أنّه ينبغي وقوعه ابتداءً بعد العقد .
وأمّا عدم اشتراط كون القبضين متماثلين أو كون القبض السّابق أقوى ، بما ينشأ عنه من ضمان اليد ، حتّى ينوب عن القبض المستحقّ بالعقد ، فلأنّ المراد بالقبض في العقد : إثبات اليد والتّمكّن من التّصرّف في المقبوض ، فإذا وجد هذا الأمر ، وجد القبض ، أمّا ما ينشأ عنه من كون المقبوض مضموناً أو أمانةً في يد القابض ، فليس لذلك أيّة علاقة أو تأثير في حقيقة القبض .
وأمّا عدم الحاجة للإذن ، فلأنّ إقراره له في يده بمنزلة إذنه في القبض ، كما أنّ إجراءه العقد مع كون المال في يده يكشف عن رضاه بالقبض ، فاستغني عن الإذن المشترط في الابتداء ، إذ يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء .
وأمّا عدم الحاجة إلى مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض ، فلأنّ مضيّ هذا الزّمان ليس من توابع القبض ، وليس له مدخل في حقيقته ، نعم لو كان القبض متأخّراً عن العقد لاعتبر مضيّ الزّمان الّذي يمكن فيه القبض ، لضرورة امتناع حصول القبض بدونه ، أمّا مع كونه سابقاً للعقد فلا .
القول الثّاني : للحنفيّة : وهو أنّ الأصل في ذلك أنّ القبض الموجود وقت العقد ، إذا كان مثل المستحقّ بالعقد ، فإنّه ينوب منابه ، يعني أن يكون كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان ، لأنّه إذا كان مثله أمكن تحقيق التّناوب ، لأنّ المتماثلين غير أن ينوب كلّ واحد منهما مناب صاحبه ويسدّ مسدّه ، وقد وجد القبض المحتاج إليه .
أمّا إذا اختلف القبضان ، بأن كان أحدهما قبض أمانة ، والآخر قبض ضمان ، فينظر : إن كان القبض السّابق أقوى من المستحقّ ، بأن كان السّابق قبض ضمان والمستحقّ قبض أمانة ، فينوب عنه ، لأنّ به يوجد القبض المستحقّ وزيادة ، وإن كان دونه ، فلا ينوب عنه ، وذلك لانعدام القبض المحتاج إليه ، إذ لم يوجد فيه إلاّ بعض المستحقّ ، فلا ينوب عن كلّه .
وبيان ذلك : أنّ الشّيء إذا كان في يد المشتري بغصب أو مقبوضاً بعقد فاسد ، فاشتراه من المالك بعقد صحيح ، فينوب القبض الأوّل عن الثّاني ، حتّى لو هلك الشّيء قبل أن يذهب المشتري إلى بيته ، ويصل إليه ، أو يتمكّن من أخذه ، كان الهلاك عليه ، لتماثل القبضين من حيث كون كلّ منهما يوجب كون المقبوض مضموناً بنفسه .
وكذا لو كان الشّيء في يده وديعةً أو عاريّةً فوهبه منه مالكه ، فلا يحتاج إلى قبض آخر ، وينوب القبض الأوّل عن الثّاني ، لتماثلهما من حيث كونهما أمانةً .
ولو كان الشّيء في يده بغصب أو بعقد فاسد ، فوهبه المالك منه ، فكذلك ينوب ذلك عن قبض الهبة ، لوجود المستحقّ بالعقد ، وهو أصل القبض ، وزيادة ضمان .
أمّا إذا كان المبيع في يد المشتري بعاريّة أو وديعة أو رهن ، فلا ينوب القبض الأوّل عن الثّاني ، ولا يصير المشتري قابضاً بمجرّد العقد ، لأنّ القبض السّابق قبض أمانة ، فلا يقوم مقام قبض الضّمان في البيع ، لعدم وجود القبض المحتاج إليه .
القول الثّالث : للشّافعيّة : وهو أنّه ينوب القبض السّابق مناب القبض المستحقّ بالعقد ، سواء أكانت يد القابض السّابقة بجهة ضمان أم بجهة أمانة ، وسواء أكان القبض المستحقّ قبض أمانة أم قبض ضمان ، غير أنّه يشترط لصحّة ذلك أمران :
أحدهما : الإذن من صاحبه في الأظهر إن كان له في الأصل الحقّ في حبسه ، كالمرهون ، والمبيع إذا كان الثّمن حالاً ، ولم يوفه ، أمّا إذا لم يكن له هذا الحقّ كالمبيع بثمن مؤجّل ، أو حالّ بعد نقد ثمنه ، فلا يشترط عند ذلك الإذن .
وسبب اشتراط الإذن من مستحقّ حبسه في الأصل ، هو عدم جواز إسقاط حقّه بغير إذنه ، كما لو كانت العين في يده .
والثّاني : مضيّ زمان يتأتّى فيه القبض ، إذا كان الشّيء غائباً عن مجلس العقد ، لأنّه لو لم يكن في يده ، لاحتاج إلى مضيّ هذا الزّمان ليحوزه ويتمكّن منه ، ولأنّا جعلنا دوام اليد كابتداء القبض ، فلا أقلّ من مضيّ زمان يتصوّر فيه ابتداء القبض ، ولكن لا يشترط ذهابه ومصيره إليه فعلاً .
ويعتبر ابتداء زمان إمكان القبض ، من وقت الإذن فيه ، لا من وقت العقد .
الحالة الثّانية :
إذا كان الشّيء بيد صاحبه ، كالمبيع في يد بائعه ، أو الموهوب في يد واهبه ، فقد فرّق الفقهاء - في قضيّة ما ينوب مناب القبض - بين حالة المبيع في يد البائع ، وبين حالة الموهوب في يد الواهب ، وبيان ذلك :
أ - أنّ المبيع إذا كان بيد البائع ، فللفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : للحنفيّة : وهو أن ينوب مناب قبض المبيع من يد بائعه ، أن يتصرّف فيه المشتري بإتلاف أو تعييب أو تغيير صورة أو استعمال ، لأنّ القبض يكون بإثبات اليد والتّمكين من التّصرّف ، والإتلاف والتّعييب وتغيير الصّورة والاستعمال تصرّف فيه حقيقةً ، فكان قبضاً من باب أولى ، لأنّ التّمكين من التّصرّف دون حقيقة التّصرّف ، كما أنّ صدور هذه التّصرّفات من المشتري ينطوي على إثبات اليد فعلاً ، إذ لا يتصوّر صدورها منه مع تخلّف هذا المعنى ، فكانت تلك التّصرّفات بمنزلة القبض ضرورةً .
ومثل ذلك في الحكم ما لو فعل البائع شيئاً من ذلك بأمر المشتري ، لأنّ فعله بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه .
ولو أعار المشتري المبيع أو أودعه أجنبيّاً ، صار بذلك قابضاً لأنّه بالإعارة والإيداع أثبت يد النّيابة لغيره فيه ، فصار قابضاً ، وكذا لو وهبه أجنبيّاً ، فقبضه الموهوب .
أمّا إذا أعاره المشتري للبائع ، أو أودعه إيّاه ، أو آجره إيّاه لم يكن شيء من ذلك قبضاً ، لأنّ هذه التّصرّفات لا تصحّ من المشتري ، لأنّ يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع ، فلا يتصوّر إثبات يد النّيابة له بهذه التّصرّفات ، فلم تصحّ ، والتحقت بالعدم .
والثّاني : للشّافعيّة : وهو أنّ المشتري إذا أتلف المبيع حسّاً أو شرعاً قبل قبضه ، كان إتلافه قبضاً إن علم أنّه يتلف المبيع ، أمّا إذا لم يعلم فوجهان ، والأصحّ اعتباره قبضاً . وإذا أتلفت الزّوجة الصّداق ، وهو بيد الزّوج ، صارت بذلك قابضةً ، وبرئ الزّوج .
والثّالث : للحنابلة : وهو أنّ المشتري إذا أتلف المبيع ، وهو في يد البائع ، فيعتبر ذلك قبضاً له ، ويستقرّ عليه الثّمن ، لأنّه ماله وقد أتلفه ، سواء أكان الإتلاف عن عمد أم خطأ ، ويكون على المشتري أن ينقد الثّمن للبائع إن لم يكن دفعه ، وإن كان دفعه ، فلا رجوع له به .
ب - أمّا إذا كانت العين الموهوبة بيد الواهب ، فقال الشّافعيّة : لا يعتبر إتلاف الموهوب للعين الموهوبة قبضاً ، لعدم استحقاقه القبض بدون إذن الواهب .
وقال الحنابلة : إذا أتلف المتّهب الموهوب ، وهو في يد الواهب ، فإن كان ذلك بإذن الواهب ، اعتبر قبضاً وإلاّ فلا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق