مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
الضَمَان في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
التّعريف :
يطلق الضّمان في اللّغة على معان :
أ - منها الالتزام ، تقول : ضمنت المال ، إذا التزمته ، ويتعدّى بالتّضعيف ، فتقول : ضمّنته المال ، إذا ألزمته إيّاه .
ب - ومنها : الكفالة ، تقول : ضمّنته الشّيء ضماناً ، فهو ضامن وضمين ، إذا كفله .
ج - ومنها التّغريم ، تقول : ضمّنته الشّيء تضميناً ، إذا غرّمته ، فالتزمه أمّا في اصطلاح الفقهاء فيطلق على المعاني التّالية :
أ - يطلق على كفالة النّفس وكفالة المال عند جمهور الفقهاء من غير الحنفيّة ، وعنونوا للكفالة بالضّمان .
ب - ويطلق على غرامة المتلفات والغصوب والتّعييبات والتّغييرات الطّارئة .
ج - كما يطلق على ضمان المال ، والتزامه بعقد وبغير عقد .
د - كما يطلق على وضع اليد على المال ، بغير حقّ أو بحقّ على العموم .
هـ – كما يطلق على ما يجب بإلزام الشّارع ، بسبب الاعتداءات : كالدّيات ضماناً للأنفس ، والأروش ضماناً لما دونها ، وكضمان قيمة صيد الحرم ، وكفّارة اليمين ، وكفّارة الظّهار ، وكفّارة الإفطار عمداً في رمضان .
وقد وضعت له تعاريف شتّى ، تتناول هذه الإطلاقات في الجملة ، أو تتناول بعضها ، منها :
أ - أنّه : عبارة عن ردّ مثل الهالك ، إن كان مثليّاً ، أو قيمته إن كان قيميّاً .
ب - وأنّه : عبارة عن غرامة التّالف .
ج - وبالمعنى الشّامل للكفالة - كما يقول القليوبيّ - : إنّه التزام دين أو إحضار عين أو بدن .
د - وفي مجلّة الأحكام العدليّة أنّه إعطاء مثل الشّيء إن كان من المثليّات وقيمته إن كان من القيميّات .
هـ - وعند المالكيّة : شغل ذمّة أخرى بالحقّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الالتزام :
الالتزام في اللّغة : الثّبوت والدّوام ، وفي الاصطلاح الفقهيّ : إلزام المرء نفسه ما لم يكن لازماً لها .
ب - العقد :
العقد : ارتباط أجزاء التّصرّف الشّرعيّ ، بالإيجاب والقبول ، وفي المجلّة : ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محلّه ، فإذا قلت : زوّجت ، وقال : قبلت ، وجد معنىً شرعيّ ، وهو النّكاح ، يترتّب عليه حكم شرعيّ ، وهو : ملك المتعة .
ج - العهدة :
العهدة في اللّغة : وثيقة المتبايعين ، لأنّه يرجع إليها عند الالتباس .
وهي كتاب الشّراء ، أو هي الدّرك أي ضمان الثّمن للمشتري إن استحقّ المبيع أو وجد فيه عيب .
وفي الاصطلاح تطلق عند جمهور الفقهاء على هذين المعنيين : الوثيقة والدّرك .
وعرّفها المالكيّة بأنّها : تعلّق ضمان المبيع بالبائع أي كون المبيع في ضمان البائع بعد العقد ، ممّا يصيبه في مدّة خاصّة .
والضّمان أعمّ ، والعهدة أخصّ .
د - التّصرّف :
التّصرّف هو التّقليب ، تقول : صرّفته في الأمر تصريفاً فتصرّف ، أي قلّبته فتقلّب . وفي الاصطلاح يفهم من كلام الفقهاء : أنّه ما يصدر من الشّخص من قول أو فعل ، ويرتّب عليه الشّارع حكماً ، كالعقد والطّلاق والإبراء والإتلاف .
وهو بهذا المعنى أعمّ من الضّمان .
مشروعيّة الضّمان :
شرع الضّمان ، حفظاً للحقوق ، ورعايةً للعهود ، وجبراً للأضرار ، وزجراً للجناة ، وحدّاً للاعتداء ، في نصوص كثيرة من القرآن الكريم ، والسّنّة النّبويّة ، وذلك فيما يلي :
أ - فيما يتّصل بمعنى الكفالة ، بقوله تعالى : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أي كفيل ضامن ، فقد ضمن يوسف عليه السلام لمن جاء بصواع الملك - وهو إناؤه الّذي كان يشرب به - قدر ما يحمله البعير من الطّعام .
ب - وفيما يتّصل بالإتلافات الماليّة ونحوها ، بحديث : أنس رضي الله تعالى عنه قال : » أهدت بعض أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : طعام بطعام ، وإناء بإناء « .
ج - وفيما يتّصل بضمان وضع اليد : حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « أي ضمانه .
د - وفيما يتّصل بالجنايات - بوجه عامّ - ونحوها قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ }
هـ – وفيما يتّصل بجنايات البهائم : حديث البراء بن عازب : » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهو على أهلها « .
وحديث النّعمان بن بشير قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين ، أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن « . وقد أجمع الفقهاء على أنّ الدّماء والأموال مصونة في الشّرع ، وأنّ الأصل فيها الحظر ، وأنّه لا يحلّ دم المسلم ولا يحلّ ماله إلاّ بحقّ
ما يتحقّق به الضّمان :
لا يتحقّق الضّمان إلاّ إذا تحقّقت هذه الأمور : التّعدّي ، والضّرر ، والإفضاء .
أوّلاً : التّعدّي :
التّعدّي في اللّغة : التّجاوز .
وفي الاصطلاح هو : مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه شرعاً أو عرفاً أو عادةً .
وضابط التّعدّي هو : مخالفة ما حدّه الشّرع أو العرف .
ومن القواعد المقرّرة في هذا الموضوع : أنّ كلّ ما ورد به الشّرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ، ولا في اللّغة ، يرجع فيه إلى العرف .
وذلك مثل : الحرز في السّرقة ، والإحياء في الموات ، والاستيلاء في الغصب ، وكذلك التّعدّي في الضّمان ، فإذا كان التّعدّي مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه ، رجع في ضابطه إلى عرف النّاس فيما يعدّونه مجاوزةً وتعدّياً ، سواء أكان عرفاً عامّاً أم خاصّاً .
ويشمل التّعدّي : المجاوزة والتّقصير ، والإهمال ، وقلّة الاحتراز ، كما يشتمل العمد والخطأ. ثانياً : الضّرر :
الضّرر في اللّغة : نقص يدخل على الأعيان .
وفي الاصطلاح : إلحاق مفسدة بالغير ، وهذا يشمل الإتلاف والإفساد وغيرهما .
والضّرر قد يكون بالقول ، كرجوع الشّاهدين عن شهادتهما ، بعد القضاء وقبض المدّعي المال ، فلا يفسخ الحكم ، ويضمنان ما أتلفاه على المشهود عليه ، سواء أكان ديناً أم عيناً. وقد ينشأ الضّرر عن الفعل كتمزيق الثّياب ، وقطع الأشجار ، وحرق الحصائد .
والضّرر قد يكون بالقول والفعل كما سبق ، وقد يكون بالتّرك ، ومثاله : امرأة تصرع أحياناً فتحتاج إلى حفظها ، فإن لم يحفظها الزّوج حتّى ألقت نفسها في النّار عند الصّرع ، فعليه ضمانها .
ودابّة غصبت فتبعها ولدها ، فأكله الذّئب يضمنه الغاصب ، مع أنّه لم يباشر فيه فعلاً .
ثالثاً : الإفضاء :
من معاني الإفضاء في اللّغة : الوصول يقال : أفضيت إلى الشّيء : وصلت إليه . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
ويشترط لاعتبار الإفضاء في الضّمان ما يلي :
أن لا يوجد للضّرر أو الإتلاف سبب آخر غيره ، سواء أكان هو مباشرةً أم تسبيباً .
وأن لا يتخلّل بين السّبب وبين الضّرر ، فعل فاعل مختار ، وإلاّ أضيف الضّمان إليه ، لا إلى السّبب ، وذلك لمباشرته .
تعدّد محدثي الضّرر :
إذا اعتدى جمع من الأشخاص ، وأحدثوا ضرراً : فإمّا أن يكون اعتداؤهم من نوع واحد ، بأن يكونوا جميعاً متسبّبين أو مباشرين ، وإمّا أن يختلف بأن يكون بعضهم مباشراً ، والآخر متسبّباً ، فهاتان حالان :
الحال الأولى :
أن يكونوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين : فإمّا أن يتّحد عملهم في النّوع ، أو يختلف.
أ - ففي الصّورة الأولى ، أي إذا كانوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين واتّحد عملهم نوعاً ، كان الضّمان عليهم بالسّويّة ، كما لو تعمّد جماعة إطلاق النّار على شخص واحد ، ولم تعلم إصابة واحد منهم ، يقتصّ منهم جميعاً ، وهذا محمل قول سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه " لو اشترك في قتله أهل صنعاء ، لقتلتهم جميعاً " .
ب - وإذا كانوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين ، واتّحد عملهم نوعاً ، لكن اختلف عملهم قوّةً وضعفاً ، كما لو حفر شخص حفرةً في الطّريق ، وجاء آخر فوسّع رأسها ، أو حفر الأوّل حفرةً وعمّق الآخر أسفلها ، فتردّى في الحفرة حيوان أو إنسان ، فالقياس عند الحنفيّة هو الاعتداد بالسّبب القويّ ، لأنّه كالعلّة ، عند اجتماعها مع السّبب ، وهذا رأي الإمام محمّد منهم .
والاستحسان عندهم ، هو الاعتداد بالأسباب الّتي أدّت إلى الضّرر جميعاً ، قلّت أو كثرت ، وتوزيع الضّمان عليها بحسب القوّة والضّعف ، فيجب الضّمان أثلاثاً ، وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف وآخرين من الحنابلة ، وإن لم يميّزوا بين القوّة والضّعف ، واعتبروا الاشتراك وربّما رجّح بعضهم السّبب الأوّل ، كحافر الحفرة وناصب السّكّين فيها .
الحال الثّانية :
أن يكون المعتدون مختلفين ، بعضهم مباشر ، وبعضهم متسبّب :
والأصل - عندئذ - تقديم المباشر على المتسبّب في التّضمين وذلك للقاعدة العامّة المعروفة عند جميع الفقهاء : إذا اجتمع المباشر والمتسبّب ، يضاف الحكم إلى المباشر . ومن أمثلة هذه القاعدة ما يلي :
أ - لو حفر شخص حفرةً في الطّريق ، فألقى آخر نفسه ، أو ألقى غيره فيها عمداً ، لا يضمن الحافر ، بل الملقي وحده ، لأنّه المباشر .
ب - لو دلّ سارقاً على مال إنسان ، فسرقه ، لا ضمان على الدّالّ .
ويستثنى من قاعدة تقديم المباشرة على التّسبيب صور ، يقدّم فيها السّبب على العلّة المباشرة ، وذلك إذا تعذّرت إضافة الحكم إلى المباشر بالكلّيّة فيضاف الحكم - وهو الضّمان هنا - إلى المتسبّب وحده ، كما إذا دفع رجل إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له ، فسقط من يده ، فجرحه ، ضمن الدّافع ، لأنّ السّبب هنا في معنى العلّة .
تتابع الأضرار :
إذا ترتّبت على السّبب الواحد أضرار متعدّدة ، فالحكم أنّ المتعدّي المتسبّب يضمن جميع الأضرار المترتّبة على تسبّبه ، ما دام أثر تسبّبه باقياً لم ينقطع ، فإن انقطع بتسبّب آخر لم يضمن .
فمن صور ذلك عند الحنفيّة :
أ - سقط حائط إنسان على حائط إنسان آخر ، وسقط الحائط الثّاني على رجل فقتله : كان ضمان الحائط الثّاني والقتيل على صاحب الحائط الأوّل لأنّ تسبّب حائطه لم ينقطع .
فإن عثر إنسان بأنقاض الحائط الثّاني ، فانكسر ، لم يضمن الأوّل ، لأنّ التّفريغ ليس عليه ، ولا يضمن صاحب الحائط الثّاني إلاّ إذا علم بسقوط حائطه ، ولم ينقل ترابه في مدّة تسع النّقل .
ب - لو أشهد على حائطه بالميل ، فلم ينقضه صاحبه حتّى سقط ، فقتل إنساناً ، وعثر بالأنقاض شخص فعطب ، وعطب آخر بالقتيل ، كان ضمان القتيل الأوّل وعطب الثّاني على صاحب الحائط الأوّل ، لأنّ الحائط وأنقاضه مطلوبان منه ، أمّا التّلف الحاصل بالقتيل الأوّل، فليس عليه ، لأنّ نقله ليس مطلوباً منه ، بل هو لأولياء القتيل .
إثبات السّببيّة :
الأصل في الشّريعة ، هو أنّ المعتدى عليه الّذي وقع عليه الضّرر ، أو وليّه إن قتل، هو المكلّف بإثبات الضّرر ، وإثبات تعدّي من ألحق به الضّرر ، وأنّ تعدّيه كان هو السّبب في الضّرر .
وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » لو يعطى النّاس بدعواهم ، لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم ، لكن البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر « .
وتثبت السّببيّة بإقرار المعتدي ، كما تثبت بالبيّنة إذا أنكر وتثبت بالقرائن ، وبيمين المدّعي وشاهد - على الجملة - ونحوها من طرق الإثبات .
شروط الضّمان :
يمكن تقسيم شروط الضّمان إلى قسمين :
شروط ضمان الجناية على النّفس ، وشروط ضمان الجناية على المال .
أوّلاً : شروط ضمان الجناية على النّفس : الجناية على النّفس إن كانت عمداً وكان الجاني مكلّفاً يجب فيها القصاص ، فإن كان الجاني غير مكلّف ، أو كانت الجناية خطأً وجبت فيها الدّية .
ثانياً : شروط ضمان الجناية على المال : تتلخّص هذه الشّروط في أن يكون الاعتداء ، واقعاً على مال متقوّم ، مملوك ، محترم ، كما يشترط أن يكون الضّرر الحادث دائماً - فلو نبتت سنّ الحيوان لم تضمن المكسورة - ، وأن يكون المعتدي من أهل الوجوب ، فلا تضمن البهيمة ، ولا مالكها إذا أتلفت مال إنسان وهي مسيّبة ، لأنّه جبار .
ولا يشترط كون الجاني على المال مكلّفاً ، فيضمن الصّبيّ ما أتلفه من مال على الآخرين ، ولا عدم اضطراره ، والمضطرّ في المخمصة ضامن ، لأنّ الاضطرار لا يبطل حقّ الغير .
أسباب الضّمان :
من أسباب الضّمان عند الشّافعيّة والحنابلة ما يلي :
1 - العقد ، كالمبيع والثّمن المعيّن قبل القبض والسّلم في عقد البيع .
2 - اليد ، مؤتمنةً كانت كالوديعة والشّركة إذا حصل التّعدّي ، أو غير مؤتمنة كالغصب والشّراء فاسداً .
ج - الإتلاف ، نفساً أو مالاً .
وزاد الشّافعيّة : الحيلولة ، كما لو نقل المغصوب إلى بلد آخر وأبعده ، فللمالك المطالبة بالقيمة في الحال ، للحيلولة قطعاً ، فإذا ردّه ردّها .
وجعل المالكيّة أسباب الضّمان ثلاثةً :
أحدها : الإتلاف مباشرةً ، كإحراق الثّوب .
وثانيها : التّسبّب للإتلاف ، كحفر بئر في موضع لم يؤذن فيه ممّا شأنه في العادة أن يفضي غالباً للإتلاف
وثالثها : وضع اليد غير المؤتمنة ، فيندرج فيها يد الغاصب ، والبائع يضمن المبيع الّذي يتعلّق به حقّ توفية قبل القبض .
الفرق بين ضمان العقد وضمان الإتلاف :
ضمان العقد : هو تعويض مفسدة ماليّة مقترنة بعقد .
وضمان الإتلاف : هو تعويض مفسدة ماليّة لم تقترن بعقد .
وبينهما فروق تبدو فيما يلي :
أ - من حيث الأهليّة ، ففي العقود : الأهليّة شرط لصحّة التّصرّفات الشّرعيّة ، والأهليّة - هنا - هي : أهليّة أداءً ، وهي : صلاحية الشّخص لممارسة التّصرّفات الشّرعيّة الّتي يتوقّف اعتبارها على العقل ، لأنّها منوطة بالإدراك والعقل ، فإذا لم يتحقّقا لا يعتدّ بها .
أمّا الإتلافات الماليّة ، والغرامات والمؤن والصّلات الّتي تشبه المؤن ، فالأهليّة المجتزأ بها هي أهليّة الوجوب فقط ، وهي صلاحيته لثبوت الحقوق له وعليه ، فحكم الصّغير غير المميّز فيها كحكم الكبير ، لأنّ الغرض من الوجوب - وهو الضّمان ونحوه - لا يختلف فيه حيّ عن آخر ، وأداء الصّغير يحتمل النّيابة .
ب - من حيث التّعويض ، ففي ضمان العقد ، لا يقوم التّعويض على اعتبار المماثلة ويكون التّعويض بناءً على ما تراضيا عليه .
أمّا الإتلافات الماليّة فإنّ التّعويض فيها يقوم على اعتبار المماثلة ، إذ المقصود فيها دفع الضّرر ، وإزالة المفسدة ، والضّرر محظور ، فتعتبر فيه المماثلة ، وذلك بعموم النّصّ الكريم ، وهو قوله تعالى : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } .
ج - من حيث الأوصاف والعوارض الذّاتيّة ، فقد فرّق الفقهاء في ضمانها في العقود وفي الإتلافات ، وقرّر الحنفيّة أنّ الأوصاف لا تضمن بالعقد ، وتضمن بالغصب ، وذلك لأنّ الغصب قبض ، والأوصاف تضمن بالفعل ، وهو القبض ، أمّا العقد فيرد على الأعيان ، لا على الأوصاف ، والغصب - وكذا الإتلاف - فعل يحلّ بالذّات بجميع أجزائها ، فكانت مضمونةً .
محلّ الضّمان :
محلّ الضّمان هو : ما يجب فيه الضّمان ، سواء أكان الضّمان ناشئاً عن عقد ، أم كان ناشئاً عن إتلاف ويد ، قال ابن رشد : فهو كلّ مال أتلفت عينه ، أو تلفت عند الغاصب عينه ، بأمر من السّماء ، أو سلّطت اليد عليه وتملّك .
وقال ابن القيّم : محلّ الضّمان هو ما كان يقبل المعاوضة .
ويمكن التّوسّع في محلّ الضّمان ، بحيث يشمل جميع المضمونات ، بأن يقسّم الفعل الضّارّ ، باعتبار محلّه ، إلى قسمين : فعل ضارّ واقع على الإنسان ، وفعل ضارّ واقع على ما سواه من الأموال ، كالحيوان والأشياء .
وقد اعتبر بعض الفقهاء الاعتداء على المال والحيوان ضرباً من الجنايات ، فقال الكاسانيّ : الجناية في الأصل نوعان : جناية على البهائم والجمادات وجناية على الآدميّ ، فهذه محالّ الضّمان ، فالآدميّ مضمون بالجناية عليه ، في النّفس ، أو الأطراف .
وأمّا الأموال فتقسم إلى : أعيان ، ومنافع ، وزوائد ، ونواقص ، وأوصاف .
ونبحثها فيما يلي :
أوّلاً : الأعيان :
وهي نوعان : أمانات ، ومضمونات .
فالأمانات : يجب تسليمها بذاتها ، وأداؤها فور طلبها ، بالنّصّ ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ، وتضمن حال التّعدّي ، وإلاّ فلا ضمان فيها ، ومن التّعدّي الموت عن تجهيل لها ، إلاّ ما استثني .
والمضمونات ، تضمن بالإتلاف ، وبالتّلف ولو كان سماويّاً .
والأعيان المضمونة نوعان :
الأوّل : الأعيان المضمونة بنفسها ، وهي الّتي يجب بهلاكها ضمان المثل أو القيمة ، كالمغصوب ، والمبيع بيعاً فاسداً ، والمهر في يد الزّوج ، وبدل الخلع - إذا كان عيناً معيّنةً- وبدل الصّلح عن دم العمد ، إذا كان عيناً .
الثّاني : الأعيان المضمونة بغيرها ، وهي الّتي يجب بهلاكها الثّمن أو الدّين ، كالمبيع إذا هلك قبل القبض ، سقط الثّمن ، والرّهن إذا هلك سقط الدّين ، وهذا عند الحنفيّة .
وعند المالكيّة : الأعيان المضمونة ، إمّا أن تكون مضمونةً بسبب العدوان ، كالمغصوبات ، وإمّا أن تكون مضمونةً بسبب قبض بغير عدوان ، بل بإذن المالك على وجه انتقال تملّكه إليه ، بشراء ، أو هبة ، أو وصيّة ، أو قرض ، فهو ضامن - أيضاً - سواء أكان البيع صحيحاً ، أم كان فاسداً .
وكذلك الأمر عند الحنابلة فقد عرّفوا الأعيان المضمونة ، بأنّها الّتي يجب ضمانها بالتّلف والإتلاف ، سواء أكان حصولها بيد الضّامن بفعل مباح ، كالعاريّة ، أو محظور كالمغصوب، والمقبوض بعقد فاسد ، ونحوهما .
وعدّ السّيوطيّ المضمونات ، وأوصلها إلى ستّة عشر ، وبيّن حكم كلّ ، ومنها : الغصب ، والإتلاف ، واللّقطة ، والقرض ، والعاريّة ، والمقبوض بسوم ...
وهل تشمل الأعيان المضمونة العقارات ؟
مذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ومحمّد من الحنفيّة ، أنّ العقار يضمن بالتّعدّي ، وذلك بغصبه ، وغصبه متصوّر ، لأنّ الغصب هو : إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه ، أو هو : الاستيلاء على حقّ الغير عدواناً ، أو إزالة يد المالك عن ماله – كما يقول محمّد من الحنفيّة – والفعل في المال ليس بشرط ، وهذا يتحقّق في العقار والمنقول .
وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن استولى على أرض غيره : » من ظلم قيد شبر من الأرض ، طوّقه من سبع أرضين « .
ومذهب أبي حنيفة : أنّ الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال ، ولهذا عرّفه في الكنز بأنّه إزالة اليد المحقّة ، بإثبات اليد المبطلة ، وهذا لا يوجد في العقار ، ولأنّه لا يحتمل النّقل والتّحويل ، فلم يوجد الإتلاف حقيقةً ولا تقديراً .
فلو غصب داراً فانهدم البناء ، أو جاء سيل فذهب بالبناء والأشجار ، أو غلب الماء على الأرض فبقيت تحت الماء فعليه الضّمان عند الجمهور ، ولا ضمان عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف .
ولو غصب عقاراً ، فجاء آخر فأتلفه ، فالضّمان على المتلف ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند الجمهور يخيّر المالك بين تضمين الغاصب أو المتلف .
وقالوا : لو أتلفه بفعله أو بسكناه ، يضمنه ، لأنّه إتلاف ، والعقار يضمن به ، كما إذا نقل ترابه .
ثانياً : المنافع :
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المنافع أموال متقوّمة في ذاتها فتضمن بالإتلاف ، كما تضمن الأعيان ، وذلك:
أ - لأنّها الغرض الأظهر من جميع الأموال .
ب - ولأنّ الشّارع أجاز أن تكون مهراً في النّكاح ، في قصّة موسى وشعيب - عليهما السلام - مع اشتراط كون المهر فيه مالاً بالنّصّ بقوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } .
ج - ولأنّ المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ، أو هو - كما يقول الشّاطبيّ - ما يقع عليه الملك ، ويستبدّ به المالك ، والمنافع منّا أو من غيرنا بهذه الصّفة ، وإنّما تعرف ماليّة الشّيء بالتّموّل والنّاس يعتادون تموّل المنافع بالتّجارة فيها ، فإنّ أعظم النّاس تجارةً الباعة ، ورأس مالهم المنفعة .
د - ولأنّ المنفعة - كما قال عزّ الدّين بن عبد السّلام - مباحة متقوّمة ، فتجبر في العقود الفاسدة والصّحيحة ، وبالفوات تحت الأيدي المبطلة ، والتّفويت بالانتفاع ، لأنّ الشّرع قد قوّمها ، ونزّلها منزلة الأموال ، فلا فرق بين جبرها بالعقود وبين جبرها بالتّفويت والإتلاف.
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المنافع لا تضمن بالغصب ، سواء استوفاها أم عطّلها أم استغلّها ، ولا تضمن إلاّ بالعقد ، وذلك :
أ - لأنّها ليست بمال متقوّم ، ولا يمكن ادّخارها لوقت الحاجة ، لأنّها لا تبقى وقتين ، ولكنّها أعراض كلّما تخرج من حيّز العدم إلى حيّز الوجود تتلاشى فلا يتصوّر فيها التّموّل . وفي ذلك يقول السّرخسيّ : المنافع لا تضمن بإتلاف بغير عقد ولا شبهة .
ب - ولأنّ المنفعة إنّما ورد تقويمها في الشّرع - مع أنّها ليست ذات قيمة في نفسها - بعقد الإجارة ، استثناءً على خلاف القياس ، للحاجة لورود العقد عليها ، وما ثبت على خلاف القياس يقتصر فيه على مورد النّصّ .
والمالكيّة يضمّنون الغاصب إذا غصب لغرض المنفعة بالتّعدّي ، كما لو غصب دابّةً أو داراً للرّكوب والسّكنى فقط ، فيضمنها بالاستعمال ، ولو كان استعماله يسيراً .
ولا يضمن الذّات في هذه الحال لو تلفت بسماويّ .
ثالثاً : الزّوائد :
وتتمثّل في زوائد المغصوب ونمائه .
أ - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها مضمونة ضمان الغصب ، لأنّها مال المغصوب منه ، وقد حصلت في يد الغاصب بالغصب ، فيضمنها بالتّلف كالأصل الّذي تولّدت منه .
ب - وعند الحنفيّة أنّ زوائد المغصوب - سواء أكانت متّصلةً كالسّمن ، أم منفصلةً كاللّبن والولد ، وثمرة البستان ، وصوف الغنم - أمانة في يد الغاصب ، لا تضمن إلاّ بالتّعدّي عليها ، بالأكل أو الإتلاف ، أو بالمنع بعد طلب المالك . وذلك لأنّ الغصب إزالة يد المالك ، بإثبات اليد عليه ، وذلك لا يتحقّق في الزّوائد ، لأنّها لم تكن في يد المالك .
ج - وللمالكيّة هذا التّفصيل :
أوّلاً : ما كان متولّداً من الأصل وعلى خلقته ، كالولد ، فهو مردود مع الأصل .
ثانياً : وما كان متولّداً من الأصل ، على غير خلقته مثل الثّمر ولبن الماشية ففيه قولان : أحدهما أنّه للغاصب ، والآخر أنّه يلزمه ردّه قائماً ، وقيمته تالفاً .
ثالثاً : وما كان غير متولّد ، ففيه خمسة أقوال :
1 - قيل : يردّ الزّوائد مطلقاً ، لتعدّيه ، من غير تفصيل .
2 - وقيل : لا يردّها مطلقاً من غير تفصيل ، لأنّها في مقابلة الضّمان الّذي عليه .
3 - وقيل : يردّ قيمة منافع الأصول والعقار ، لأنّه مأمون ولا يتحقّق الضّمان فيه ، ولا يردّ قيمة منافع الحيوان وشبهه ممّا يتحقّق فيه الضّمان .
4 - وقيل : يردّها إن انتفع بها ، ولا يردّها إن عطّلها .
5- وقيل : يردّها إن غصب المنافع خاصّةً ، ولا يردّها إن غصب المنافع والرّقاب .
رابعاً : النّواقص :
لا يختلف الفقهاء في ضمان نقص الأموال بسبب الغصب ، أو الفعل الضّارّ ، أو الإتلاف أو نحوها ، سواء أكان ذلك النّقص عمداً أم خطأً أم تقصيراً ، لأنّ ضمان الغصب - كما يقول الكاسانيّ - ضمان جبر الفائت ، فيتقدّر بقدر الفوات .
فمن نقص في يده شيء فعليه ضمان النّقصان ، وفيه تفصيل في المذاهب الفقهيّة :
أ - مذهب الحنفيّة أنّ النّقص إمّا أن يكون يسيراً ، وإمّا أن يكون فاحشاً .
والصّحيح عندهم - كما قال الزّيلعيّ - أنّ اليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة ، بل يدخل فيه نقصان في المنفعة ، كالخرق في الثّوب .
والفاحش : ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة ، ويبقى بعض العين وبعض المنفعة . وقيل اليسير : ما لم يبلغ ربع القيمة ، والفاحش ما يساوي ربع القيمة فصاعداً .
ففي النّقصان اليسير ليس للمالك إلاّ أخذ عين المغصوب ، لأنّ العين قائمة من كلّ وجه ، ويضمن الغاصب النّقصان .
وفي النّقص الفاحش ، يخيّر المالك بين أخذ العين ، وتضمين الغاصب النّقصان ، وبين ترك العين للغاصب وتضمينه قيمة العين .
فلو ذبح حيواناً لغيره مأكول اللّحم ، أو قطع يده ، كان ذلك إتلافاً من بعض الوجوه ، ونقصاً فاحشاً ، فيخيّر فيه المغصوب منه ، ولو كان غير مأكول اللّحم ، ضمن الغاصب الجميع ، لأنّه استهلاك مطلق من كلّ وجه ، وإتلاف لجميع المنفعة .
ولو غصب العقار ، فانهدم أو نقص بسكناه ، ضمنه ، لأنّه إتلاف بفعله ، والعقار يضمن بالإتلاف ، ولا يشترط لضمان الإتلاف أن يكون بيده .
وهذا بخلاف ما لو هلك العقار ، بعد أن غصبه وهو في يده فإنّه لا يضمنه ، لأنّه لم يتصرّف فيه بشيء ، فلا يجب الضّمان عند الشّيخين ، لأنّه غاصب للمنفعة ، وليست مالاً ، ولأنّه منع المالك عن الانتفاع ولا يضمن عينه .
ب - ومذهب المالكيّة في النّقص ، أنّه إمّا أن يكون من قبل الخالق ، أو من قبل المخلوق . فإن كان من قبل الخالق ، فليس للمغصوب منه إلاّ أن يأخذه ناقصاً - كما يقول ابن جنّيّ - أو يضمن الغاصب قيمة المغصوب يوم الغصب .
وقيل : إنّ له أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب .
وإن كان من قبل المخلوق وبجنايته فالمغصوب منه مخيّر :
1 - بين أن يضمّنه القيمة يوم الغصب ، ويتركه للغاصب ، وبين أن يأخذه ويأخذ قيمة النّقص ، يوم الجناية عند ابن القاسم ، أو يوم الغصب ، عند سحنون .
2 - وعند أشهب وابن الموّاز : هو مخيّر بين أن يضمّنه القيمة ، وبين أن يأخذه ناقصاً ، ولا شيء له في الجناية ، كالّذي يصاب بأمر من السّماء .
ولهم تفصيل في ضمان البناء أو الغرس في العقار ، نذكره في أحكام الضّمان الخاصّة ، إن شاء اللّه تعالى
ج - ومذهب الشّافعيّة والحنابلة : أنّ كلّ عين مغصوبة ، على الغاصب ضمان نقصها ، إذا كان نقصاً مستقرّاً تنقص به القيمة ، سواء كان باستعماله ، أم كان بغير استعماله ، كمرض الحيوان ، وكثوب تخرّق ، وإناء تكسّر ، وطعام سوّس ، وبناء تخرّب ، ونحوه فإنّه يردّها ، وللمالك على الغاصب أرش النّقص - مع أجرة المثل ، كما قال القليوبيّ - لأنّه نقص حصل في يد الغاصب ، فوجب ضمانه .
خامساً : الأوصاف وضمانها :
إذا نقصت السّلعة ، عند الغاصب ، بسبب فوات وصف ، فإمّا أن يكون ذلك بسبب هبوط الأسعار في السّوق ، وإمّا أن يكون بسبب فوات وصف مرغوب فيه :
أ - فإن كان النّقص بسبب هبوط الأسعار في الأسواق ، فليس على الغاصب أو المتعدّي ضمان نقص القيمة اتّفاقاً ، لأنّ المضمون نقصان المغصوب ، ونقصان السّعر ليس بنقصان المغصوب ، بل لفتور يحدثه اللّه في قلوب العباد ، لا صنع للعبد فيه ، فلا يكون مضموناً ولأنّه لا حقّ للمغصوب منه في القيمة ، مع بقاء العين ، وإنّما حقّه في العين ، وهي باقية ، كما كانت ، ولأنّ الغاصب إنّما يضمن ما غصب ، والقيمة لا تدخل في الغصب .
ب - وإن كان النّقص بسبب فوات وصف مرغوب فيه ، فهو مضمون باتّفاق الفقهاء كما لو سقط عضو الحيوان المغصوب ، وهو في يد الغاصب بآفة سماويّة ، أو حدث له عند الغاصب عرج أو شلل أو عمىً ، ونحو ذلك فإنّ المالك يأخذ المغصوب ، ويضمن الغاصب النّقصان ، لفوات جزء من البدن ، أو فوات صفة مرغوب فيها ، ولأنّه دخلت جميع أجزائه في ضمانه بالغصب ، فما تعذّر ردّ عينه ، يجب ردّ قيمته .
وطريق معرفة النّقصان أن يقوّم صحيحاً ، ويقوّم وبه العيب ، فيجب قدر ما بينهما .
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
الضَمَان في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول
التّعريف :
يطلق الضّمان في اللّغة على معان :
أ - منها الالتزام ، تقول : ضمنت المال ، إذا التزمته ، ويتعدّى بالتّضعيف ، فتقول : ضمّنته المال ، إذا ألزمته إيّاه .
ب - ومنها : الكفالة ، تقول : ضمّنته الشّيء ضماناً ، فهو ضامن وضمين ، إذا كفله .
ج - ومنها التّغريم ، تقول : ضمّنته الشّيء تضميناً ، إذا غرّمته ، فالتزمه أمّا في اصطلاح الفقهاء فيطلق على المعاني التّالية :
أ - يطلق على كفالة النّفس وكفالة المال عند جمهور الفقهاء من غير الحنفيّة ، وعنونوا للكفالة بالضّمان .
ب - ويطلق على غرامة المتلفات والغصوب والتّعييبات والتّغييرات الطّارئة .
ج - كما يطلق على ضمان المال ، والتزامه بعقد وبغير عقد .
د - كما يطلق على وضع اليد على المال ، بغير حقّ أو بحقّ على العموم .
هـ – كما يطلق على ما يجب بإلزام الشّارع ، بسبب الاعتداءات : كالدّيات ضماناً للأنفس ، والأروش ضماناً لما دونها ، وكضمان قيمة صيد الحرم ، وكفّارة اليمين ، وكفّارة الظّهار ، وكفّارة الإفطار عمداً في رمضان .
وقد وضعت له تعاريف شتّى ، تتناول هذه الإطلاقات في الجملة ، أو تتناول بعضها ، منها :
أ - أنّه : عبارة عن ردّ مثل الهالك ، إن كان مثليّاً ، أو قيمته إن كان قيميّاً .
ب - وأنّه : عبارة عن غرامة التّالف .
ج - وبالمعنى الشّامل للكفالة - كما يقول القليوبيّ - : إنّه التزام دين أو إحضار عين أو بدن .
د - وفي مجلّة الأحكام العدليّة أنّه إعطاء مثل الشّيء إن كان من المثليّات وقيمته إن كان من القيميّات .
هـ - وعند المالكيّة : شغل ذمّة أخرى بالحقّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الالتزام :
الالتزام في اللّغة : الثّبوت والدّوام ، وفي الاصطلاح الفقهيّ : إلزام المرء نفسه ما لم يكن لازماً لها .
ب - العقد :
العقد : ارتباط أجزاء التّصرّف الشّرعيّ ، بالإيجاب والقبول ، وفي المجلّة : ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محلّه ، فإذا قلت : زوّجت ، وقال : قبلت ، وجد معنىً شرعيّ ، وهو النّكاح ، يترتّب عليه حكم شرعيّ ، وهو : ملك المتعة .
ج - العهدة :
العهدة في اللّغة : وثيقة المتبايعين ، لأنّه يرجع إليها عند الالتباس .
وهي كتاب الشّراء ، أو هي الدّرك أي ضمان الثّمن للمشتري إن استحقّ المبيع أو وجد فيه عيب .
وفي الاصطلاح تطلق عند جمهور الفقهاء على هذين المعنيين : الوثيقة والدّرك .
وعرّفها المالكيّة بأنّها : تعلّق ضمان المبيع بالبائع أي كون المبيع في ضمان البائع بعد العقد ، ممّا يصيبه في مدّة خاصّة .
والضّمان أعمّ ، والعهدة أخصّ .
د - التّصرّف :
التّصرّف هو التّقليب ، تقول : صرّفته في الأمر تصريفاً فتصرّف ، أي قلّبته فتقلّب . وفي الاصطلاح يفهم من كلام الفقهاء : أنّه ما يصدر من الشّخص من قول أو فعل ، ويرتّب عليه الشّارع حكماً ، كالعقد والطّلاق والإبراء والإتلاف .
وهو بهذا المعنى أعمّ من الضّمان .
مشروعيّة الضّمان :
شرع الضّمان ، حفظاً للحقوق ، ورعايةً للعهود ، وجبراً للأضرار ، وزجراً للجناة ، وحدّاً للاعتداء ، في نصوص كثيرة من القرآن الكريم ، والسّنّة النّبويّة ، وذلك فيما يلي :
أ - فيما يتّصل بمعنى الكفالة ، بقوله تعالى : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أي كفيل ضامن ، فقد ضمن يوسف عليه السلام لمن جاء بصواع الملك - وهو إناؤه الّذي كان يشرب به - قدر ما يحمله البعير من الطّعام .
ب - وفيما يتّصل بالإتلافات الماليّة ونحوها ، بحديث : أنس رضي الله تعالى عنه قال : » أهدت بعض أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : طعام بطعام ، وإناء بإناء « .
ج - وفيما يتّصل بضمان وضع اليد : حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « أي ضمانه .
د - وفيما يتّصل بالجنايات - بوجه عامّ - ونحوها قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ }
هـ – وفيما يتّصل بجنايات البهائم : حديث البراء بن عازب : » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهو على أهلها « .
وحديث النّعمان بن بشير قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين ، أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن « . وقد أجمع الفقهاء على أنّ الدّماء والأموال مصونة في الشّرع ، وأنّ الأصل فيها الحظر ، وأنّه لا يحلّ دم المسلم ولا يحلّ ماله إلاّ بحقّ
ما يتحقّق به الضّمان :
لا يتحقّق الضّمان إلاّ إذا تحقّقت هذه الأمور : التّعدّي ، والضّرر ، والإفضاء .
أوّلاً : التّعدّي :
التّعدّي في اللّغة : التّجاوز .
وفي الاصطلاح هو : مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه شرعاً أو عرفاً أو عادةً .
وضابط التّعدّي هو : مخالفة ما حدّه الشّرع أو العرف .
ومن القواعد المقرّرة في هذا الموضوع : أنّ كلّ ما ورد به الشّرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ، ولا في اللّغة ، يرجع فيه إلى العرف .
وذلك مثل : الحرز في السّرقة ، والإحياء في الموات ، والاستيلاء في الغصب ، وكذلك التّعدّي في الضّمان ، فإذا كان التّعدّي مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه ، رجع في ضابطه إلى عرف النّاس فيما يعدّونه مجاوزةً وتعدّياً ، سواء أكان عرفاً عامّاً أم خاصّاً .
ويشمل التّعدّي : المجاوزة والتّقصير ، والإهمال ، وقلّة الاحتراز ، كما يشتمل العمد والخطأ. ثانياً : الضّرر :
الضّرر في اللّغة : نقص يدخل على الأعيان .
وفي الاصطلاح : إلحاق مفسدة بالغير ، وهذا يشمل الإتلاف والإفساد وغيرهما .
والضّرر قد يكون بالقول ، كرجوع الشّاهدين عن شهادتهما ، بعد القضاء وقبض المدّعي المال ، فلا يفسخ الحكم ، ويضمنان ما أتلفاه على المشهود عليه ، سواء أكان ديناً أم عيناً. وقد ينشأ الضّرر عن الفعل كتمزيق الثّياب ، وقطع الأشجار ، وحرق الحصائد .
والضّرر قد يكون بالقول والفعل كما سبق ، وقد يكون بالتّرك ، ومثاله : امرأة تصرع أحياناً فتحتاج إلى حفظها ، فإن لم يحفظها الزّوج حتّى ألقت نفسها في النّار عند الصّرع ، فعليه ضمانها .
ودابّة غصبت فتبعها ولدها ، فأكله الذّئب يضمنه الغاصب ، مع أنّه لم يباشر فيه فعلاً .
ثالثاً : الإفضاء :
من معاني الإفضاء في اللّغة : الوصول يقال : أفضيت إلى الشّيء : وصلت إليه . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
ويشترط لاعتبار الإفضاء في الضّمان ما يلي :
أن لا يوجد للضّرر أو الإتلاف سبب آخر غيره ، سواء أكان هو مباشرةً أم تسبيباً .
وأن لا يتخلّل بين السّبب وبين الضّرر ، فعل فاعل مختار ، وإلاّ أضيف الضّمان إليه ، لا إلى السّبب ، وذلك لمباشرته .
تعدّد محدثي الضّرر :
إذا اعتدى جمع من الأشخاص ، وأحدثوا ضرراً : فإمّا أن يكون اعتداؤهم من نوع واحد ، بأن يكونوا جميعاً متسبّبين أو مباشرين ، وإمّا أن يختلف بأن يكون بعضهم مباشراً ، والآخر متسبّباً ، فهاتان حالان :
الحال الأولى :
أن يكونوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين : فإمّا أن يتّحد عملهم في النّوع ، أو يختلف.
أ - ففي الصّورة الأولى ، أي إذا كانوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين واتّحد عملهم نوعاً ، كان الضّمان عليهم بالسّويّة ، كما لو تعمّد جماعة إطلاق النّار على شخص واحد ، ولم تعلم إصابة واحد منهم ، يقتصّ منهم جميعاً ، وهذا محمل قول سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه " لو اشترك في قتله أهل صنعاء ، لقتلتهم جميعاً " .
ب - وإذا كانوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين ، واتّحد عملهم نوعاً ، لكن اختلف عملهم قوّةً وضعفاً ، كما لو حفر شخص حفرةً في الطّريق ، وجاء آخر فوسّع رأسها ، أو حفر الأوّل حفرةً وعمّق الآخر أسفلها ، فتردّى في الحفرة حيوان أو إنسان ، فالقياس عند الحنفيّة هو الاعتداد بالسّبب القويّ ، لأنّه كالعلّة ، عند اجتماعها مع السّبب ، وهذا رأي الإمام محمّد منهم .
والاستحسان عندهم ، هو الاعتداد بالأسباب الّتي أدّت إلى الضّرر جميعاً ، قلّت أو كثرت ، وتوزيع الضّمان عليها بحسب القوّة والضّعف ، فيجب الضّمان أثلاثاً ، وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف وآخرين من الحنابلة ، وإن لم يميّزوا بين القوّة والضّعف ، واعتبروا الاشتراك وربّما رجّح بعضهم السّبب الأوّل ، كحافر الحفرة وناصب السّكّين فيها .
الحال الثّانية :
أن يكون المعتدون مختلفين ، بعضهم مباشر ، وبعضهم متسبّب :
والأصل - عندئذ - تقديم المباشر على المتسبّب في التّضمين وذلك للقاعدة العامّة المعروفة عند جميع الفقهاء : إذا اجتمع المباشر والمتسبّب ، يضاف الحكم إلى المباشر . ومن أمثلة هذه القاعدة ما يلي :
أ - لو حفر شخص حفرةً في الطّريق ، فألقى آخر نفسه ، أو ألقى غيره فيها عمداً ، لا يضمن الحافر ، بل الملقي وحده ، لأنّه المباشر .
ب - لو دلّ سارقاً على مال إنسان ، فسرقه ، لا ضمان على الدّالّ .
ويستثنى من قاعدة تقديم المباشرة على التّسبيب صور ، يقدّم فيها السّبب على العلّة المباشرة ، وذلك إذا تعذّرت إضافة الحكم إلى المباشر بالكلّيّة فيضاف الحكم - وهو الضّمان هنا - إلى المتسبّب وحده ، كما إذا دفع رجل إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له ، فسقط من يده ، فجرحه ، ضمن الدّافع ، لأنّ السّبب هنا في معنى العلّة .
تتابع الأضرار :
إذا ترتّبت على السّبب الواحد أضرار متعدّدة ، فالحكم أنّ المتعدّي المتسبّب يضمن جميع الأضرار المترتّبة على تسبّبه ، ما دام أثر تسبّبه باقياً لم ينقطع ، فإن انقطع بتسبّب آخر لم يضمن .
فمن صور ذلك عند الحنفيّة :
أ - سقط حائط إنسان على حائط إنسان آخر ، وسقط الحائط الثّاني على رجل فقتله : كان ضمان الحائط الثّاني والقتيل على صاحب الحائط الأوّل لأنّ تسبّب حائطه لم ينقطع .
فإن عثر إنسان بأنقاض الحائط الثّاني ، فانكسر ، لم يضمن الأوّل ، لأنّ التّفريغ ليس عليه ، ولا يضمن صاحب الحائط الثّاني إلاّ إذا علم بسقوط حائطه ، ولم ينقل ترابه في مدّة تسع النّقل .
ب - لو أشهد على حائطه بالميل ، فلم ينقضه صاحبه حتّى سقط ، فقتل إنساناً ، وعثر بالأنقاض شخص فعطب ، وعطب آخر بالقتيل ، كان ضمان القتيل الأوّل وعطب الثّاني على صاحب الحائط الأوّل ، لأنّ الحائط وأنقاضه مطلوبان منه ، أمّا التّلف الحاصل بالقتيل الأوّل، فليس عليه ، لأنّ نقله ليس مطلوباً منه ، بل هو لأولياء القتيل .
إثبات السّببيّة :
الأصل في الشّريعة ، هو أنّ المعتدى عليه الّذي وقع عليه الضّرر ، أو وليّه إن قتل، هو المكلّف بإثبات الضّرر ، وإثبات تعدّي من ألحق به الضّرر ، وأنّ تعدّيه كان هو السّبب في الضّرر .
وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » لو يعطى النّاس بدعواهم ، لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم ، لكن البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر « .
وتثبت السّببيّة بإقرار المعتدي ، كما تثبت بالبيّنة إذا أنكر وتثبت بالقرائن ، وبيمين المدّعي وشاهد - على الجملة - ونحوها من طرق الإثبات .
شروط الضّمان :
يمكن تقسيم شروط الضّمان إلى قسمين :
شروط ضمان الجناية على النّفس ، وشروط ضمان الجناية على المال .
أوّلاً : شروط ضمان الجناية على النّفس : الجناية على النّفس إن كانت عمداً وكان الجاني مكلّفاً يجب فيها القصاص ، فإن كان الجاني غير مكلّف ، أو كانت الجناية خطأً وجبت فيها الدّية .
ثانياً : شروط ضمان الجناية على المال : تتلخّص هذه الشّروط في أن يكون الاعتداء ، واقعاً على مال متقوّم ، مملوك ، محترم ، كما يشترط أن يكون الضّرر الحادث دائماً - فلو نبتت سنّ الحيوان لم تضمن المكسورة - ، وأن يكون المعتدي من أهل الوجوب ، فلا تضمن البهيمة ، ولا مالكها إذا أتلفت مال إنسان وهي مسيّبة ، لأنّه جبار .
ولا يشترط كون الجاني على المال مكلّفاً ، فيضمن الصّبيّ ما أتلفه من مال على الآخرين ، ولا عدم اضطراره ، والمضطرّ في المخمصة ضامن ، لأنّ الاضطرار لا يبطل حقّ الغير .
أسباب الضّمان :
من أسباب الضّمان عند الشّافعيّة والحنابلة ما يلي :
1 - العقد ، كالمبيع والثّمن المعيّن قبل القبض والسّلم في عقد البيع .
2 - اليد ، مؤتمنةً كانت كالوديعة والشّركة إذا حصل التّعدّي ، أو غير مؤتمنة كالغصب والشّراء فاسداً .
ج - الإتلاف ، نفساً أو مالاً .
وزاد الشّافعيّة : الحيلولة ، كما لو نقل المغصوب إلى بلد آخر وأبعده ، فللمالك المطالبة بالقيمة في الحال ، للحيلولة قطعاً ، فإذا ردّه ردّها .
وجعل المالكيّة أسباب الضّمان ثلاثةً :
أحدها : الإتلاف مباشرةً ، كإحراق الثّوب .
وثانيها : التّسبّب للإتلاف ، كحفر بئر في موضع لم يؤذن فيه ممّا شأنه في العادة أن يفضي غالباً للإتلاف
وثالثها : وضع اليد غير المؤتمنة ، فيندرج فيها يد الغاصب ، والبائع يضمن المبيع الّذي يتعلّق به حقّ توفية قبل القبض .
الفرق بين ضمان العقد وضمان الإتلاف :
ضمان العقد : هو تعويض مفسدة ماليّة مقترنة بعقد .
وضمان الإتلاف : هو تعويض مفسدة ماليّة لم تقترن بعقد .
وبينهما فروق تبدو فيما يلي :
أ - من حيث الأهليّة ، ففي العقود : الأهليّة شرط لصحّة التّصرّفات الشّرعيّة ، والأهليّة - هنا - هي : أهليّة أداءً ، وهي : صلاحية الشّخص لممارسة التّصرّفات الشّرعيّة الّتي يتوقّف اعتبارها على العقل ، لأنّها منوطة بالإدراك والعقل ، فإذا لم يتحقّقا لا يعتدّ بها .
أمّا الإتلافات الماليّة ، والغرامات والمؤن والصّلات الّتي تشبه المؤن ، فالأهليّة المجتزأ بها هي أهليّة الوجوب فقط ، وهي صلاحيته لثبوت الحقوق له وعليه ، فحكم الصّغير غير المميّز فيها كحكم الكبير ، لأنّ الغرض من الوجوب - وهو الضّمان ونحوه - لا يختلف فيه حيّ عن آخر ، وأداء الصّغير يحتمل النّيابة .
ب - من حيث التّعويض ، ففي ضمان العقد ، لا يقوم التّعويض على اعتبار المماثلة ويكون التّعويض بناءً على ما تراضيا عليه .
أمّا الإتلافات الماليّة فإنّ التّعويض فيها يقوم على اعتبار المماثلة ، إذ المقصود فيها دفع الضّرر ، وإزالة المفسدة ، والضّرر محظور ، فتعتبر فيه المماثلة ، وذلك بعموم النّصّ الكريم ، وهو قوله تعالى : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } .
ج - من حيث الأوصاف والعوارض الذّاتيّة ، فقد فرّق الفقهاء في ضمانها في العقود وفي الإتلافات ، وقرّر الحنفيّة أنّ الأوصاف لا تضمن بالعقد ، وتضمن بالغصب ، وذلك لأنّ الغصب قبض ، والأوصاف تضمن بالفعل ، وهو القبض ، أمّا العقد فيرد على الأعيان ، لا على الأوصاف ، والغصب - وكذا الإتلاف - فعل يحلّ بالذّات بجميع أجزائها ، فكانت مضمونةً .
محلّ الضّمان :
محلّ الضّمان هو : ما يجب فيه الضّمان ، سواء أكان الضّمان ناشئاً عن عقد ، أم كان ناشئاً عن إتلاف ويد ، قال ابن رشد : فهو كلّ مال أتلفت عينه ، أو تلفت عند الغاصب عينه ، بأمر من السّماء ، أو سلّطت اليد عليه وتملّك .
وقال ابن القيّم : محلّ الضّمان هو ما كان يقبل المعاوضة .
ويمكن التّوسّع في محلّ الضّمان ، بحيث يشمل جميع المضمونات ، بأن يقسّم الفعل الضّارّ ، باعتبار محلّه ، إلى قسمين : فعل ضارّ واقع على الإنسان ، وفعل ضارّ واقع على ما سواه من الأموال ، كالحيوان والأشياء .
وقد اعتبر بعض الفقهاء الاعتداء على المال والحيوان ضرباً من الجنايات ، فقال الكاسانيّ : الجناية في الأصل نوعان : جناية على البهائم والجمادات وجناية على الآدميّ ، فهذه محالّ الضّمان ، فالآدميّ مضمون بالجناية عليه ، في النّفس ، أو الأطراف .
وأمّا الأموال فتقسم إلى : أعيان ، ومنافع ، وزوائد ، ونواقص ، وأوصاف .
ونبحثها فيما يلي :
أوّلاً : الأعيان :
وهي نوعان : أمانات ، ومضمونات .
فالأمانات : يجب تسليمها بذاتها ، وأداؤها فور طلبها ، بالنّصّ ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ، وتضمن حال التّعدّي ، وإلاّ فلا ضمان فيها ، ومن التّعدّي الموت عن تجهيل لها ، إلاّ ما استثني .
والمضمونات ، تضمن بالإتلاف ، وبالتّلف ولو كان سماويّاً .
والأعيان المضمونة نوعان :
الأوّل : الأعيان المضمونة بنفسها ، وهي الّتي يجب بهلاكها ضمان المثل أو القيمة ، كالمغصوب ، والمبيع بيعاً فاسداً ، والمهر في يد الزّوج ، وبدل الخلع - إذا كان عيناً معيّنةً- وبدل الصّلح عن دم العمد ، إذا كان عيناً .
الثّاني : الأعيان المضمونة بغيرها ، وهي الّتي يجب بهلاكها الثّمن أو الدّين ، كالمبيع إذا هلك قبل القبض ، سقط الثّمن ، والرّهن إذا هلك سقط الدّين ، وهذا عند الحنفيّة .
وعند المالكيّة : الأعيان المضمونة ، إمّا أن تكون مضمونةً بسبب العدوان ، كالمغصوبات ، وإمّا أن تكون مضمونةً بسبب قبض بغير عدوان ، بل بإذن المالك على وجه انتقال تملّكه إليه ، بشراء ، أو هبة ، أو وصيّة ، أو قرض ، فهو ضامن - أيضاً - سواء أكان البيع صحيحاً ، أم كان فاسداً .
وكذلك الأمر عند الحنابلة فقد عرّفوا الأعيان المضمونة ، بأنّها الّتي يجب ضمانها بالتّلف والإتلاف ، سواء أكان حصولها بيد الضّامن بفعل مباح ، كالعاريّة ، أو محظور كالمغصوب، والمقبوض بعقد فاسد ، ونحوهما .
وعدّ السّيوطيّ المضمونات ، وأوصلها إلى ستّة عشر ، وبيّن حكم كلّ ، ومنها : الغصب ، والإتلاف ، واللّقطة ، والقرض ، والعاريّة ، والمقبوض بسوم ...
وهل تشمل الأعيان المضمونة العقارات ؟
مذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ومحمّد من الحنفيّة ، أنّ العقار يضمن بالتّعدّي ، وذلك بغصبه ، وغصبه متصوّر ، لأنّ الغصب هو : إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه ، أو هو : الاستيلاء على حقّ الغير عدواناً ، أو إزالة يد المالك عن ماله – كما يقول محمّد من الحنفيّة – والفعل في المال ليس بشرط ، وهذا يتحقّق في العقار والمنقول .
وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن استولى على أرض غيره : » من ظلم قيد شبر من الأرض ، طوّقه من سبع أرضين « .
ومذهب أبي حنيفة : أنّ الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال ، ولهذا عرّفه في الكنز بأنّه إزالة اليد المحقّة ، بإثبات اليد المبطلة ، وهذا لا يوجد في العقار ، ولأنّه لا يحتمل النّقل والتّحويل ، فلم يوجد الإتلاف حقيقةً ولا تقديراً .
فلو غصب داراً فانهدم البناء ، أو جاء سيل فذهب بالبناء والأشجار ، أو غلب الماء على الأرض فبقيت تحت الماء فعليه الضّمان عند الجمهور ، ولا ضمان عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف .
ولو غصب عقاراً ، فجاء آخر فأتلفه ، فالضّمان على المتلف ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند الجمهور يخيّر المالك بين تضمين الغاصب أو المتلف .
وقالوا : لو أتلفه بفعله أو بسكناه ، يضمنه ، لأنّه إتلاف ، والعقار يضمن به ، كما إذا نقل ترابه .
ثانياً : المنافع :
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المنافع أموال متقوّمة في ذاتها فتضمن بالإتلاف ، كما تضمن الأعيان ، وذلك:
أ - لأنّها الغرض الأظهر من جميع الأموال .
ب - ولأنّ الشّارع أجاز أن تكون مهراً في النّكاح ، في قصّة موسى وشعيب - عليهما السلام - مع اشتراط كون المهر فيه مالاً بالنّصّ بقوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } .
ج - ولأنّ المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ، أو هو - كما يقول الشّاطبيّ - ما يقع عليه الملك ، ويستبدّ به المالك ، والمنافع منّا أو من غيرنا بهذه الصّفة ، وإنّما تعرف ماليّة الشّيء بالتّموّل والنّاس يعتادون تموّل المنافع بالتّجارة فيها ، فإنّ أعظم النّاس تجارةً الباعة ، ورأس مالهم المنفعة .
د - ولأنّ المنفعة - كما قال عزّ الدّين بن عبد السّلام - مباحة متقوّمة ، فتجبر في العقود الفاسدة والصّحيحة ، وبالفوات تحت الأيدي المبطلة ، والتّفويت بالانتفاع ، لأنّ الشّرع قد قوّمها ، ونزّلها منزلة الأموال ، فلا فرق بين جبرها بالعقود وبين جبرها بالتّفويت والإتلاف.
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المنافع لا تضمن بالغصب ، سواء استوفاها أم عطّلها أم استغلّها ، ولا تضمن إلاّ بالعقد ، وذلك :
أ - لأنّها ليست بمال متقوّم ، ولا يمكن ادّخارها لوقت الحاجة ، لأنّها لا تبقى وقتين ، ولكنّها أعراض كلّما تخرج من حيّز العدم إلى حيّز الوجود تتلاشى فلا يتصوّر فيها التّموّل . وفي ذلك يقول السّرخسيّ : المنافع لا تضمن بإتلاف بغير عقد ولا شبهة .
ب - ولأنّ المنفعة إنّما ورد تقويمها في الشّرع - مع أنّها ليست ذات قيمة في نفسها - بعقد الإجارة ، استثناءً على خلاف القياس ، للحاجة لورود العقد عليها ، وما ثبت على خلاف القياس يقتصر فيه على مورد النّصّ .
والمالكيّة يضمّنون الغاصب إذا غصب لغرض المنفعة بالتّعدّي ، كما لو غصب دابّةً أو داراً للرّكوب والسّكنى فقط ، فيضمنها بالاستعمال ، ولو كان استعماله يسيراً .
ولا يضمن الذّات في هذه الحال لو تلفت بسماويّ .
ثالثاً : الزّوائد :
وتتمثّل في زوائد المغصوب ونمائه .
أ - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها مضمونة ضمان الغصب ، لأنّها مال المغصوب منه ، وقد حصلت في يد الغاصب بالغصب ، فيضمنها بالتّلف كالأصل الّذي تولّدت منه .
ب - وعند الحنفيّة أنّ زوائد المغصوب - سواء أكانت متّصلةً كالسّمن ، أم منفصلةً كاللّبن والولد ، وثمرة البستان ، وصوف الغنم - أمانة في يد الغاصب ، لا تضمن إلاّ بالتّعدّي عليها ، بالأكل أو الإتلاف ، أو بالمنع بعد طلب المالك . وذلك لأنّ الغصب إزالة يد المالك ، بإثبات اليد عليه ، وذلك لا يتحقّق في الزّوائد ، لأنّها لم تكن في يد المالك .
ج - وللمالكيّة هذا التّفصيل :
أوّلاً : ما كان متولّداً من الأصل وعلى خلقته ، كالولد ، فهو مردود مع الأصل .
ثانياً : وما كان متولّداً من الأصل ، على غير خلقته مثل الثّمر ولبن الماشية ففيه قولان : أحدهما أنّه للغاصب ، والآخر أنّه يلزمه ردّه قائماً ، وقيمته تالفاً .
ثالثاً : وما كان غير متولّد ، ففيه خمسة أقوال :
1 - قيل : يردّ الزّوائد مطلقاً ، لتعدّيه ، من غير تفصيل .
2 - وقيل : لا يردّها مطلقاً من غير تفصيل ، لأنّها في مقابلة الضّمان الّذي عليه .
3 - وقيل : يردّ قيمة منافع الأصول والعقار ، لأنّه مأمون ولا يتحقّق الضّمان فيه ، ولا يردّ قيمة منافع الحيوان وشبهه ممّا يتحقّق فيه الضّمان .
4 - وقيل : يردّها إن انتفع بها ، ولا يردّها إن عطّلها .
5- وقيل : يردّها إن غصب المنافع خاصّةً ، ولا يردّها إن غصب المنافع والرّقاب .
رابعاً : النّواقص :
لا يختلف الفقهاء في ضمان نقص الأموال بسبب الغصب ، أو الفعل الضّارّ ، أو الإتلاف أو نحوها ، سواء أكان ذلك النّقص عمداً أم خطأً أم تقصيراً ، لأنّ ضمان الغصب - كما يقول الكاسانيّ - ضمان جبر الفائت ، فيتقدّر بقدر الفوات .
فمن نقص في يده شيء فعليه ضمان النّقصان ، وفيه تفصيل في المذاهب الفقهيّة :
أ - مذهب الحنفيّة أنّ النّقص إمّا أن يكون يسيراً ، وإمّا أن يكون فاحشاً .
والصّحيح عندهم - كما قال الزّيلعيّ - أنّ اليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة ، بل يدخل فيه نقصان في المنفعة ، كالخرق في الثّوب .
والفاحش : ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة ، ويبقى بعض العين وبعض المنفعة . وقيل اليسير : ما لم يبلغ ربع القيمة ، والفاحش ما يساوي ربع القيمة فصاعداً .
ففي النّقصان اليسير ليس للمالك إلاّ أخذ عين المغصوب ، لأنّ العين قائمة من كلّ وجه ، ويضمن الغاصب النّقصان .
وفي النّقص الفاحش ، يخيّر المالك بين أخذ العين ، وتضمين الغاصب النّقصان ، وبين ترك العين للغاصب وتضمينه قيمة العين .
فلو ذبح حيواناً لغيره مأكول اللّحم ، أو قطع يده ، كان ذلك إتلافاً من بعض الوجوه ، ونقصاً فاحشاً ، فيخيّر فيه المغصوب منه ، ولو كان غير مأكول اللّحم ، ضمن الغاصب الجميع ، لأنّه استهلاك مطلق من كلّ وجه ، وإتلاف لجميع المنفعة .
ولو غصب العقار ، فانهدم أو نقص بسكناه ، ضمنه ، لأنّه إتلاف بفعله ، والعقار يضمن بالإتلاف ، ولا يشترط لضمان الإتلاف أن يكون بيده .
وهذا بخلاف ما لو هلك العقار ، بعد أن غصبه وهو في يده فإنّه لا يضمنه ، لأنّه لم يتصرّف فيه بشيء ، فلا يجب الضّمان عند الشّيخين ، لأنّه غاصب للمنفعة ، وليست مالاً ، ولأنّه منع المالك عن الانتفاع ولا يضمن عينه .
ب - ومذهب المالكيّة في النّقص ، أنّه إمّا أن يكون من قبل الخالق ، أو من قبل المخلوق . فإن كان من قبل الخالق ، فليس للمغصوب منه إلاّ أن يأخذه ناقصاً - كما يقول ابن جنّيّ - أو يضمن الغاصب قيمة المغصوب يوم الغصب .
وقيل : إنّ له أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب .
وإن كان من قبل المخلوق وبجنايته فالمغصوب منه مخيّر :
1 - بين أن يضمّنه القيمة يوم الغصب ، ويتركه للغاصب ، وبين أن يأخذه ويأخذ قيمة النّقص ، يوم الجناية عند ابن القاسم ، أو يوم الغصب ، عند سحنون .
2 - وعند أشهب وابن الموّاز : هو مخيّر بين أن يضمّنه القيمة ، وبين أن يأخذه ناقصاً ، ولا شيء له في الجناية ، كالّذي يصاب بأمر من السّماء .
ولهم تفصيل في ضمان البناء أو الغرس في العقار ، نذكره في أحكام الضّمان الخاصّة ، إن شاء اللّه تعالى
ج - ومذهب الشّافعيّة والحنابلة : أنّ كلّ عين مغصوبة ، على الغاصب ضمان نقصها ، إذا كان نقصاً مستقرّاً تنقص به القيمة ، سواء كان باستعماله ، أم كان بغير استعماله ، كمرض الحيوان ، وكثوب تخرّق ، وإناء تكسّر ، وطعام سوّس ، وبناء تخرّب ، ونحوه فإنّه يردّها ، وللمالك على الغاصب أرش النّقص - مع أجرة المثل ، كما قال القليوبيّ - لأنّه نقص حصل في يد الغاصب ، فوجب ضمانه .
خامساً : الأوصاف وضمانها :
إذا نقصت السّلعة ، عند الغاصب ، بسبب فوات وصف ، فإمّا أن يكون ذلك بسبب هبوط الأسعار في السّوق ، وإمّا أن يكون بسبب فوات وصف مرغوب فيه :
أ - فإن كان النّقص بسبب هبوط الأسعار في الأسواق ، فليس على الغاصب أو المتعدّي ضمان نقص القيمة اتّفاقاً ، لأنّ المضمون نقصان المغصوب ، ونقصان السّعر ليس بنقصان المغصوب ، بل لفتور يحدثه اللّه في قلوب العباد ، لا صنع للعبد فيه ، فلا يكون مضموناً ولأنّه لا حقّ للمغصوب منه في القيمة ، مع بقاء العين ، وإنّما حقّه في العين ، وهي باقية ، كما كانت ، ولأنّ الغاصب إنّما يضمن ما غصب ، والقيمة لا تدخل في الغصب .
ب - وإن كان النّقص بسبب فوات وصف مرغوب فيه ، فهو مضمون باتّفاق الفقهاء كما لو سقط عضو الحيوان المغصوب ، وهو في يد الغاصب بآفة سماويّة ، أو حدث له عند الغاصب عرج أو شلل أو عمىً ، ونحو ذلك فإنّ المالك يأخذ المغصوب ، ويضمن الغاصب النّقصان ، لفوات جزء من البدن ، أو فوات صفة مرغوب فيها ، ولأنّه دخلت جميع أجزائه في ضمانه بالغصب ، فما تعذّر ردّ عينه ، يجب ردّ قيمته .
وطريق معرفة النّقصان أن يقوّم صحيحاً ، ويقوّم وبه العيب ، فيجب قدر ما بينهما .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق