مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء السادس
الأحكام الخاصّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :
قد ذكرنا أنّ القاعدة في الضّمان ، هي ردّ العين أصلاً ، وإذا تعذّر ردّ العين ، وجب الضّمان بردّ المثل في المثليّات ، ودفع القيمة في القيميّات .
ونذكر - هنا - التّضمين في أحوال خاصّة مستثناة من الأصل ، إذ يحكم فيها بالتّعويض الماليّ أحياناً ، وبالتّخيير بينه وبين ضمان المثل في أحيان أخرى ، وهي : قطع الشّجر ، وهدم المباني ، والبناء على الأرض المغصوبة ، أو الغرس فيها ، وقلع عين الحيوان ، وتفصيل القول فيها كما يلي :
أ - قطع الشّجر :
لو قطع شخص لآخر ، شجر حديقته ، ضمن قيمة الشّجر ، لأنّه ليس بمثليّ . وطريق معرفته : أن تقوّم الحديقة مع الشّجر القائم ، وتقوّم بدونه فالفضل هو قيمته ، فالمالك مخيّر بين أن يضمّنه تلك القيمة ، ويدفع له الأشجار المقطوعة ، وبين أن يمسكها ، ويضمّنه نقصان تلك القيمة .
ولو كانت قيمة الأشجار مقطوعةً وغير مقطوعة سواء ، برئ .
ولو أتلف شجرةً من ضيعة ، ولم يتلف به شيء ، قيل : تجب قيمة الشّجرة المقطوعة ، وقيل تجب قيمتها نابتةً ، ولو أتلف شجرةً ، قوّمت مغروسةً وقوّمت مقطوعةً ، ويغرم ما بينهما .
ولو أتلف ثمارها ، أو نفضها لمّا نوّرت ، حتّى تناثر نورها ، قوّمت الشّجرة مع ذلك ، وقوّمت بدونها فيغرم ما بينهما ، وكذا الزّرع .
ب - هدم المباني :
إذا هدم إنسان بناءً أو جداراً لغيره ، يجب عليه بناء مثله ، وهذا عند أبي حنيفة والشّافعيّ ، فإن تعذّرت المماثلة رجع إلى القيمة ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » كان رجل في بني إسرائيل يقال له : جريج ، يصلّي ، فجاءته أمّه فدعته ، فأبى أن يجيبها ، فقال : أجيبها أو أصلّي ؟ ثمّ أتته فقالت : اللّهمّ لا تمته حتّى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعته فقالت امرأة : لأفتننّ جريجاً ، فتعرّضت له ، فكلّمته ، فأبى . فأتت راعياً فأمكنته من نفسها . فولدت غلاماً ، فقالت : هو من جريج . فأتوه كسروا صومعته وأنزلوه وسبّوه ، فتوضّأ وصلّى ، ثمّ أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : الرّاعي . قالوا : نبني صومعتك من ذهب ، قال : لا، إلاّ من طين «
والأصل : أنّ الحائط والبناء من القيميّات ، فتضمن بالقيمة .
وقد نقل الرّمليّ الحنفيّ أنّه لو هدم جدار غيره ، تقوّم داره مع جدرانها ، وتقوّم بدون هذا الجدار فيضمن فضل ما بينهما .
وفي القنية عن محمّد بن الفضل : إذا هدم حائطاً متّخذاً من خشب أو عتيقاً متّخذاً من رهص - طين - يضمن قيمته ، وإن كان حديثاً يؤمر بإعادته كما كان .
وقال ابن نجيم : من هدم حائط غيره فإنّه يضمن نقصانها - أي قيمتها مبنيّةً - ولا يؤمر بعمارتها ، إلاّ في حائط المسجد ، كما في كراهة الخانيّة .
لكن المذهب ، ما قاله العلامة قاسم في شرحه للنّقاية : وإذا هدم الرّجل حائط جاره فللجار الخيار : إن شاء ضمّنه قيمة الحائط ، والنّقض للضّامن ، وإن شاء أخذ النّقض ، وضمّنه النّقصان ، لأنّ الحائط قائم من وجه ، وهالك من وجه ، فإن شاء مال إلى جهة القيام ، وضمّنه النّقصان ، وإن شاء مال إلى جهة الهلاك وضمّنه قيمة الحائط ، وليس له أن يجبره على البناء ، كما كان ، لأنّ الحائط ليس من ذوات الأمثال .
وطريق تقويم النّقصان : أن تقوّم الدّار مع حيطانها ، وتقوّم بدون هذا الحائط فيضمن فضل ما بينهما .
والضّمان في هذه الحال مقيّد بما إذا لم يكن الهدم للضّرورة ، كمنع سريان الحريق ، بإذن الحاكم ، فإن كان كذلك فلا ضمان ، وإن لم يكن بإذن الحاكم ، ضمن الهادم قيمتها معرّضةً للحريق .
ج - البناء على الأرض المغصوبة أو الغرس فيها :
إذا غرس شخص شجراً ، أو أقام بناءً على أرض غصبها ، فمذهب جمهور الفقهاء، وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة أنّه يؤمر بقلع الشّجر ، وهدم البناء ، وتفريغ الأرض من كلّ ما أنشأ فيها ، وإعادتها كما كانت
قال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافاً وذلك : لحديث عروة بن الزّبير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له ، وليس لعرق ظالم حقّ « ، قال : فلقد أخبرني الّذي حدّثني هذا الحديث : » أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النّخل أن يخرج نخله منها ، قال : فلقد رأيتها ، وإنّها لتضرب أصولها بالفؤوس ، وإنّها لنخل عمّ « أي طويلة .
ولأنّه شغل ملك غيره ، فيؤمر بتفريغه ، دفعاً للظّلم ، وردّاً للحقّ إلى مستحقّه .
قال الشّافعيّة والحنابلة : عليه أرش نقصها إن كان ، وتسويتها ، لأنّه ضرر حصل بفعله ، مع أجرة المثل إلى وقت التّسليم .
وقال القليوبيّ : وللغاصب قلعهما قهراً على المالك ، ولا يلزمه إجابة المالك لو طلب الإبقاء بالأجر ، أو التّملّك بالقيمة ، وللمالك قلعهما جبراً على الغاصب ، بلا أرش لعدم احترامهما عليه .
والمالكيّة خيّروا المالك بين قلع الشّجر وهدم البناء ، وبين تركهما ، على أن يعطى المالك الغاصب ، قيمة أنقاض الشّجر والبناء ، مقلوعاً ، بعد طرح أجرة النّقض والقلع ، لكنّهم قيّدوا قلع الزّرع بما إذا لم يفت ، أي لم يمض وقت ما تراد الأرض له فله عندئذ أخذه بقيمته مقلوعاً مطروحاً منه أجرة القلع . فإن فات الوقت ، بقي الزّرع للزّارع ، ولزمه الكراء إلى انتهائه .
ونصّ على مثل هذا الحنفيّة .
د - قلع عين الحيوان :
الحيوان وإن كان من الأموال ، وينبغي أن تطبّق في إتلافه - كلّيّاً أو جزئيّاً - القواعد العامّة ، إلاّ أنّه ورد في السّمع تضمين ربع قيمته ، بقلع عينه ، ففي الحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عين الدّابّة ربع ثمنها « .
وروي ذلك عن عمر وشريح رضي الله تعالى عنهما ، وكتب عمر إلى شريح ، لمّا كتب إليه يسأله عن عين الدّابّة : إنّا كنّا ننزلها منزلة الآدميّ ، إلاّ أنّه أجمع رأينا أنّ قيمتها ربع الثّمن .
قال ابن قدامة : هذا إجماع يقدّم على القياس .
وهذا ممّا جعل الحنفيّة - وهو رواية عند الحنابلة عن أحمد - يعدلون عن القياس ، بالنّظر إلى ضمان العين فقط .
فعملوا بالحديث ، وتركوا فيه القياس ، لكنّهم خصّوه بالحيوان الّذي يقصد للّحم ، كما يقصد للرّكوب والحمل والزّينة أيضاً ، كما في عين الفرس والبغل والحمار ، وكذا في عين البقرة والجزور .
أمّا غيره ، كشاة القصّاب المعدّة للذّبح ، ممّا يقصد منه اللّحم فقط ، فيعتبر ما نقصت قيمته. وطرد المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة القياس ، فضمّنوا ما يتلف من سائر أجزاء الحيوان ، بما ينقص من قيمته ، بفقد عينه وغيرها ، بالغاً ما بلغ النّقص بلا تفرقة بين أنواع الحيوان.
قال المحلّيّ : ويضمن ما تلف أو أتلف من أجزائه بما نقص من قيمته .
وقال الغزاليّ : ولا يجب في عين البقرة والفرس إلاّ أرش النّقص .
وعلّل ذلك ابن قدامة : بأنّه ضمان مال من غير جناية ، فكان الواجب ما نقص ، كالثّوب ، ولأنّه لو فات الجميع لوجبت قيمته ، فإذا فات منه شيء ، وجب قدره من القيمة ، كغير الحيوان .
ضمان الشّخص الضّرر النّاشئ عن فعل غيره وما يلتحق به :
الأصل أنّ الشّخص مسئول عن ضمان الضّرر الّذي ينشأ عن فعله لا عن فعل غيره لكن الفقهاء استثنوا من هذا الأصل ضمان أفعال القصّر الخاضعين لرقابته ، وضمان أفعال تابعيه : كالخدم والعمّال وكالموظّفين ، وضمان ما يفسده الحيوان ، وضمان الضّرر الحادث بسبب سقوط الأبنية ، وضمان التّلف الحادث بالأشياء الأخرى ، وتفصيله فيما يلي :
أوّلاً : ضمان الإنسان لأفعال الأشخاص الخاضعين لرقابته :
ويتمثّل هذا النّوع من الضّمان ، في الأفعال الضّارّة ، الصّادرة من الصّغار القصّر ، الّذين هم في ولاية الأب والوصيّ ، والتّلاميذ حينما يكونون في المدرسة ، تحت رقابة النّاظر والمعلّم ، أو في رعاية أيّ رقيب عليهم وهم صغار ، ومثلهم المجانين والمعاتيه . ولمّا كان الأصل المقرّر في الشّريعة ، كما تقدّم آنفاً ، هو ضمان الإنسان لأفعاله كلّها ، دون تحمّل غيره عنه لشيء من تبعاتها ، مهما كان من الأمر .
فقد طرد الفقهاء قاعدة تضمين الصّغار ، وأوجبوا عليهم الضّمان في مالهم ، ولم يوجبوا على أوليائهم والأوصياء عليهم ضمان ما أتلفوه ، إلاّ في أحوال مستثناة ، منها :
أ - إذا كان إتلاف الصّغار للمال ، ناشئاً من تقصير الأولياء ونحوهم ، في حفظهم ، كما لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له ، فوقع السّكّين من يده عليه أو على شخص آخر ، أو عثر به ، فإنّ الدّافع يضمن .
ب - إذا كان بسبب إغراء الآباء والأوصياء الصّغار بإتلاف المال ، كما لو أمر الأب ابنه بإتلاف مال أو إيقاد نار ، فأوقدها ، وتعدّت النّار إلى أرض جاره ، فأتلفت شيئاً ، يضمن الأب ، لأنّ الأمر صحّ ، فانتقل الفعل إليه ، كما لو باشره الأب .
فلو أمر أجنبيّ صبيّاً بإتلاف مال آخر ، ضمن الصّبيّ ، ثمّ رجع على آمره .
ج - إذا كان بسبب تسليطهم على المال ، كما لو أودع صبيّاً وديعةً بلا إذن وليّه فأتلفها ، لم يضمن الصّبيّ ، وكذا إذا أتلف ما أعير له ، وما اقترضه وما بيع منه بلا إذن ، للتّسليط من مالكها .
ثانياً : ضمان الشّخص لأفعال التّابعين له :
ويتمثّل هذا في الخادم في المنزل ، والطّاهي في المطعم ، والمستخدم في المحلّ ، والعامل في المصنع ، والموظّف في الحكومة ، وفي سائق السّيّارة لمالكها كلّ في دائرة عمله .
والعلاقة هنا عقديّة ، وفيما تقدّم من الرّقابة على عديمي التّمييز : هي : دينيّة أو أدبيّة . والفقهاء بحثوا هذا في باب الإجارة ، في أحكام الأجير الخاصّ ، وفي تلميذ الأجير المشترك عند الحنفيّة ، وهو الّذي يعمل لواحد عملاً مؤقّتاً بالتّخصيص ، ويستحقّ أجره بتسليم نفسه في المدّة ، وإن لم يعمل .
والمعقود عليه هو منفعته ، ولا يضمن ما هلك في يده بغير صنعه ، لأنّ العين أمانة في يده، لأنّه قبض بإذنه ، ولا يضمن ما هلك من عمله المأذون فيه ، لأنّ المنافع متى صارت مملوكةً للمستأجر ، فإذا أمره بالتّصرّف في ملكه ، صحّ ، ويصير نائباً منابه ، فيصير فعله منقولاً إليه ، كأنّه فعله بنفسه ، فلهذا لا يضمنه وإنّما الضّمان في ذلك على مخدومه .
ثالثاً : ضمان الشّخص فعل الحيوان :
هناك نوعان من الحيوان :
أحدهما الحيوان العاديّ ، والآخر الحيوان الخطر ، وفي تضمين جناية كلّ منهما ، خلاف بين الفقهاء ، ونوضّحه فيما يلي :
أ - ضمان جناية الحيوان العاديّ غير الخطر :
اختلف الفقهاء في ضمان ما يتلفه الحيوان العاديّ ، غير الخطر :
فذهب جمهورهم إلى ضمان ما تفسده الدّابّة من الزّرع والشّجر ، إذا وقع في اللّيل ، وكانت وحدها إذا لم تكن يد لأحد عليها .
وأمّا إذا وقع ذلك في النّهار ، ولم تكن يد لأحد عليها - أي الدّابّة - فلا ضمان فيه . واستدلّوا بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه : » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهوعلى أهلها « قال ابن قدامة : ولأنّ العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي ، وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون اللّيل ، فإذا ذهبت ليلاً كان التّفريط من أهلها ، بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ .
وإن أتلفت نهاراً ، كان التّفريط من أهل الزّرع ، فكان عليهم ، وقد فرّق النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى على كلّ إنسان بالحفظ في وقت عادته .
وقال - أيضاً - : قال بعض أصحابنا : إنّما يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً ، إذا فرّط بإرسالها ليلاً أو نهاراً أو لم يضمّها باللّيل ، أو ضمّها بحيث يمكنها الخروج ، أمّا لو ضمّها فأخرجها غيره بغير إذنه ، أو فتح عليها بابها ، فالضّمان على مخرجها ، أو فاتح بابها ، لأنّه المتلف.
وقيّد المالكيّة عدم ضمان الإتلاف نهاراً بشرطين :
أوّلهما : أن لا يكون معها راع .
والآخر : أن تسرح بعيداً عن المزارع ، وإلاّ فعلى الرّاعي الضّمان .
وإن أتلفت البهيمة غير الزّرع والشّجر من الأنفس والأموال ، لم يضمنه مالكها ، ليلاً كان أو نهاراً ، ما لم تكن يده عليها ، واستدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » العجماء جبار « ويروى » العجماء جرحها جبار « ومعنى جبار : هدر .
وقيّد المالكيّة ، عدم ضمان ذلك ليلاً ، بما إذا لم يقصّر في حفظها ، ولم يكن من فعل من معها ، ففي المدوّنة : من قاد قطاراً فهو ضامن لما وطئ البعير ، في أوّل القطار أو آخره ، وإن نفحت رجلاً بيدها أو رجلها ، لم يضمن القائد إلاّ أن يكون ذلك من شيء فعله بها . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحيوان إذا أتلف مالاً أو نفساً ، فلا ضمان على صاحبه مطلقاً ، سواء أوقع ذلك في ليل أم في نهار .
وذلك لحديث : » العجماء جبار « المتقدّم آنفاً .
لكن قيّدها محمّد بن الحسن ، بالمنفلتة المسيّبة حيث تسيّب الأنعام ، كما هو الشّأن في البراري ، فهذه الّتي جرحها هدر وهذا ما ذكره الطّحاويّ فقد فرّق بين ما إذا كان معها حافظ فيضمن ، وبين ما إذا لم يكن معها حافظ ، فلا يضمن ، وروى في ذلك آثاراً .
ولأنّه لا صنع له في نفارها وانفلاتها ، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها ، فالمتولّد منه لا يكون مضموناً .
وأثار المالكيّة - هنا - مسألة ما لو كان الحيوان ممّا لا يمكن الاحتراز منه ، ولا حراسته كحمام ، ونحل ، ودجاج يطير .
فذهب ابن حبيب - وهو رواية مطرّف عن مالك - إلى أنّه يمنع أربابها من اتّخاذه ، إن آذى النّاس .
وذهب ابن القاسم وابن كنانة وأصبغ إلى أنّهم لا يمنعون من اتّخاذه ، ولا ضمان عليهم فيما أتلفته من الزّرع ، وعلى أرباب الزّرع والشّجر حفظها .
وصوّب ابن عرفة الأوّل ، لإمكان استغناء ربّها عنها ، وضرورة النّاس للزّرع والشّجر . ويؤيّده - كما قال الدّسوقيّ - قاعدة ارتكاب ، أخفّ الضّررين عند التّقابل ، لكن قال : ولكن المعتمد - كما قال شيخنا - قول ابن قاسم .
والاتّجاهان كذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة .
شروط ضمان جناية الحيوان :
بدا ممّا تقدّم اتّفاق الفقهاء على تضمين جناية الحيوان ، كلّما كان معها راكب أو حافظ ، أو ذو يد ، ولا بدّ حينئذ من توفّر شروط الضّمان العامّة المتقدّمة : من الضّرر والتّعدّي والإفضاء .
فالضّرر يستوي فيه الواقع على النّفوس أو الأموال ، وصرّح العينيّ بأنّ حديث : » العجماء جبار « المتقدّم ، محتمل لأن تكون الجناية على الأبدان أو الأموال ، وذكر أنّ الأوّل أقرب إلى الحقيقة ، لما ورد في الصّحيحين بلفظ : » العجماء جرحها جبار « .
والتّعدّي بمجاوزة ذي اليد في استعمال الدّابّة ، فحيث استعملها في حدود حقّه ، في ملكه ، أو المحلّ المعدّ للدّوابّ أو أدخلها ملك غيره بإذنه ، فأتلفت نفساً أو مالاً ، لا ضمان عليه إذ لا ضمان مع الإذن بخلاف ما لو كان ذلك بغير إذن المالك أو أوقفها في محلّ لم يعدّ لوقوف الحيوانات ، أو في طريق المسلمين ، فإنّه يكون ضامناً لما تتلفه حينئذ إذ كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه ضمن ما تولّد منه .
والأصل في هذا حديث النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل ، فهو ضامن « .
وعلّله الرّمليّ ، نقلاً عن القاضي ، بأنّ الرّبط جناية ، فما تولّد منه ضمنه .
وأمّا الإفضاء ، وهو وصول الضّرر مباشرةً أو تسبّباً ، فإنّ فعل الحيوان لا يوصف بمباشرة أو تسبيب ، لأنّه ليس ممّا يصحّ إضافة الحكم إليه ، وإنّما يوصف بذلك صاحبه ، فتطبّق القاعدة العامّة : أنّ المباشر ضامن وإن لم يتعدّ ، والمتسبّب لا يضمن إلاّ بالتّعدّي . ويعتبر ذو اليد على الحيوان ، وصاحبه مباشراً إذا كان راكباً في ملكه أو في ملك غيره ، ولو بإذنه أو في طريق العامّة ، فيضمن ما يحدثه بتلفه ، وإن لم يتعدّ .
فراكب الدّابّة يضمن ما وطئته برجلها ، أو يدها - كما يقول الكاسانيّ - أي ومات لوجود الخطأ في هذا القتل ، وحصوله على سبيل المباشرة لأنّ ثقل الرّاكب على الدّابّة ، والدّابّة آلة له ، فكان القتل الحاصل بثقلها مضافاً إلى الرّاكب ، والرّديف والرّاكب سواء ، وعليهما الكفّارة ، ويحرمان من الميراث والوصيّة ، لأنّ ثقلهما على الدّابّة ، والدّابّة آلة لهما ، فكانا قاتلين على طريق المباشرة .
ولو كدمت أو صدمت ، فهو ضامن ، ولا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل بسبب .
ولو أصابت ومعها سائق وقائد ، فلا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل تسبيباً لا مباشرةً ، بخلاف الرّاكب والرّديف .
وهذا خلاف ما في مجمع الأنهر ، حيث نصّ على أنّ الرّاكب في ملكه لا يضمن شيئاً ، لأنّه غير متعدّ ، بخلاف ما إذا كان في طريق العامّة ، فيضمن للتّعدّي .
ومثال ما لو أتلفت شيئاً بتسبيب صاحبها : ما لو أوقفها في ملك غيره ، فجالت في رباطها، حيث طال الرّسن فأتلفت شيئاً ، ضمن ، لأنّه ممسكها في أيّ موضع ذهبت ، ما دامت في موضع رباطها .
فقد وجد شرط الضّمان بالتّسبيب بالتّعدّي ، وهو الرّبط في ملك غيره .
ومثال اجتماع المباشرة والتّسبيب ، حيث تقدّم المباشرة ، ما لو ربط بعيراً إلى قطار ، والقائد لا يعلم ، فوطئ البعير المربوط إنساناً ، فقتله ، فعلى عاقلة القائد الدّية ، لعدم صيانة القطار عن ربط غيره ، فكان متعدّياً - مقصّراً - لكن يرجع على عاقلة الرّابط ، لأنّه هو الّذي أوقعه في هذه العهدة .
وإنّما لم يجب الضّمان عليه ابتداءً ، وكلّ منهما متسبّب ، لأنّ الرّبط ، من القود ، بمنزلة التّسبيب من المباشرة ، لاتّصال التّلف بالقود دون الرّبط .
ومثال ما إذا لم يكن مباشراً ولا متسبّباً ، حيث لا يضمن ، ما إذا قتل سنّوره حمامةً فإنّه لا يضمن ، لحديث : » العجماء جرحها جبار « المتقدّم آنفاً .
والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الهرّة إن أتلفت طيراً أو طعاماً ليلاً أونهاراً ضمن مالكها إن عهد ذلك منها ، وإلاّ فلا يضمن في الأصحّ .
ومن مشمولات الإفضاء : التّعمّد ، كما لو ألقى هرّةً على حمامة أو دجاجة ، فأكلتها ضمن لو أخذتها برميه وإلقائه ، لا لو بعده .
ويضمن بإشلاء كلبه ، لأنّه بإغرائه يصير آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بسيفه .
ومن مشمولاته التّسبّب بعدم الاحتراز : فالأصل : أنّ المرور بطريق المسلمين مباح ، بشرط السّلامة ، فيما يمكن الاحتراز منه ، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه ، فلو أوقف دابّته في الطّريق ضمن ما نفحته ، لأنّ بإمكانه الاحتراز من الإيقاف ، وإن لم يمكن الاحتراز من النّفحة ، فصار متعدّياً بالإيقاف وشغل الطّريق به .
بخلاف ما لو أصابت بيدها أو رجلها حصاةً ، أو أثارت غباراً ، ففقأت الحصاة عين إنسان ، أو أفسد الغبار ثوب إنسان فإنّه لا يضمن لأنّه لا يمكن الاحتراز منه ، لأنّ سير الدّوابّ لا يخلو عنه .
وللحنابلة والشّافعيّة تفصيل وخلاف في الطّريق الواسع .
والضّامن لجناية الحيوان ، لم يقيّد في النّصوص الفقهيّة ، بكونه مالكاً أو غيره ، بل هو ذو اليد ، القابض على زمامه ، القائم على تصريفه ، ولو لم يكن مالكاً ، ولو لم يحلّ له الانتفاع به ، ويشمل هذا السّائس والخادم .
قال النّوويّ : إنّ الضّمان يجب في مال الّذي هو معها ، سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً ، أو غاصباً أو مودعاً ، أو وكيلاً أو غيره .
ويقول الشّرقاويّ في جناية الدّابّة : لا تتعلّق برقبتها ، بل بذي اليد عليها .
ولو تعدّد واضعو اليد على الحيوان ، فالضّمان - فيما يبدو من النّصوص - على الأقوى يداً ، والأكثر قدرةً على التّصرّف ، وعند الاستواء يكون الضّمان عليهما .
قال الكاسانيّ : وإن كان أحدهما سائقاً ، والآخر قائداً ، فالضّمان عليهما لأنّهما اشتركا في التّسبيب ، فيشتركان في الضّمان ، وكذلك إذا كان أحدهما سائقاً والآخر راكباً أو كان أحدهما قائداً والآخر راكباً ، فالضّمان عليهما ، لوجود سبب الضّمان من كلّ واحد منهما ، إلاّ أنّ الكفّارة تجب على الرّاكب وحده ، فيما لو وطئت دابّته إنساناً فقتلته ، لوجود القتل منه وحده مباشرةً ، وإن كان الحصكفيّ صحّح عدم تضمين السّائق ، لأنّ الإضافة إلى المباشر أولى ، لكن السّبب - هنا - ممّا يعمل بانفراده ، فيشتركان كما حقّقه ونقله ابن عابدين .
وقال ابن قدامة : فإن كان على الدّابّة راكبان ، فالضّمان على الأوّل منهما ، لأنّه المتصرّف فيها ، القادر على كفّها ، إلاّ أن يكون الأوّل منهما صغيراً أو مريضاً أو نحوهما ، ويكون الثّاني المتولّي لتدبيرها ، فيكون الضّمان عليه .
وإن كان مع الدّابّة قائد وسائق ، فالضّمان عليهما ، لأنّ كلّ واحد منهما لو انفرد ضمن ، فإذا اجتمعا ضمنا ، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ، ففيه وجهان :
أحدهما : أنّ الضّمان عليهما جميعاً ، لذلك .
والآخر : أنّه على الرّاكب ، لأنّه أقوى يداً وتصرّفاً .
ويحتمل أن يكون على القائد لأنّه لا حكم للرّاكب على القائد .
ب - ضمان جناية الحيوان الخطر :
ويتمثّل في الكبش النّطوح ، والجمل العضوض ، والفرس الكدوم ، والكلب العقور ، كما يتمثّل في الحشرات المؤذية ، والحيّة والعقرب ، والحيوانات الوحشيّة المفترسة ، وسباع البهائم ، كالأسد والذّئب ، وسباع الطّير كالحدأة والغراب ، وفيها مذاهب للفقهاء : مذهب الحنفيّة هو ضمان ما يتلفه الحيوان الخطر ، من مال أو نفس إذا وجد من مالكه إشلاء أو إغراء أو إرسال ، وهو قول أبي يوسف ، الّذي أوجب الضّمان في هذا كلّه ، احتياطاً لأموال النّاس خلافاً لأبي حنيفة ، والّذي أفتوا به هو : الضّمان بعد الإشلاء كالحائط المائل ، في النّفس والمال كما في الإغراء .
وعلّل الضّمان بالإشلاء ، بأنّه بالإغراء . يصير الكلب آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بحدّ سيفه . وفي مذهب مالك تفصيل ذكره الدّسوقيّ ، وهو : إذا اتّخذ الكلب العقور ، بقصد قتل إنسان معيّن وقتله فالقود ، أنذر عن اتّخاذه أو لا .
وإن قتل غير المعيّن فالدّية ، وكذلك إن اتّخذه لقتل غير المعيّن ، وقتل شخصاً فالدّية ، أنذر أم لا .
وإن اتّخذه لوجه جائز فالدّية إن تقدّم له إنذار قبل القتل ، وإلاّ فلا شيء عليه .
وإن اتّخذه لا لوجه جائز ضمن ما أتلف ، تقدّم له فيه إنذار أم لا ، حيث عرف أنّه عقور ، وإلاّ لم يضمن ، لأنّ فعله حينئذ كفعل العجماء .
وذهب الحنابلة إلى أنّ الحيوان الخطر ينبغي أن يربط ويكفّ شرّه ، كالكلب العقور ، وكالسّنّور إذا عهد منه إتلاف الطّير أو الطّعام ، فإذا أطلق الكلب العقور أو السّنّور ، فعقر إنساناً ، أو أتلف طعاماً أو ثوباً ، ليلاً أو نهاراً ، ضمن ما أتلفه ، لأنّه مفرّط باقتنائه وإطلاقه إلاّ إذا دخل داره إنسان بغير إذنه ، فعقره ، فلا ضمان عليه ، لأنّه متعدّ بالدّخول ، متسبّب بعدم الاستئذان لعقر الكلب له ، فإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه ، لأنّه تسبّب إلى إتلافه .
وكذلك إذا اقتنى سنّوراً ، يأكل أفراخ النّاس ، ضمن ما أتلفه كالكلب العقور ، وهذا - هو الأصحّ - عند الشّافعيّة ، كلّما عهد ذلك منه ليلاً أو نهاراً ، قال المحلّيّ : لأنّ هذه الهرّة ينبغي أن تربط ويكفّ شرّها .
أمّا ما يتلفه الكلب العقور لغير العقر ، كما لو ولغ في إناء ، أو بال ، فلا يضمن ، لأنّ هذا لا يختصّ به الكلب العقور .
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء السادس
الأحكام الخاصّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :
قد ذكرنا أنّ القاعدة في الضّمان ، هي ردّ العين أصلاً ، وإذا تعذّر ردّ العين ، وجب الضّمان بردّ المثل في المثليّات ، ودفع القيمة في القيميّات .
ونذكر - هنا - التّضمين في أحوال خاصّة مستثناة من الأصل ، إذ يحكم فيها بالتّعويض الماليّ أحياناً ، وبالتّخيير بينه وبين ضمان المثل في أحيان أخرى ، وهي : قطع الشّجر ، وهدم المباني ، والبناء على الأرض المغصوبة ، أو الغرس فيها ، وقلع عين الحيوان ، وتفصيل القول فيها كما يلي :
أ - قطع الشّجر :
لو قطع شخص لآخر ، شجر حديقته ، ضمن قيمة الشّجر ، لأنّه ليس بمثليّ . وطريق معرفته : أن تقوّم الحديقة مع الشّجر القائم ، وتقوّم بدونه فالفضل هو قيمته ، فالمالك مخيّر بين أن يضمّنه تلك القيمة ، ويدفع له الأشجار المقطوعة ، وبين أن يمسكها ، ويضمّنه نقصان تلك القيمة .
ولو كانت قيمة الأشجار مقطوعةً وغير مقطوعة سواء ، برئ .
ولو أتلف شجرةً من ضيعة ، ولم يتلف به شيء ، قيل : تجب قيمة الشّجرة المقطوعة ، وقيل تجب قيمتها نابتةً ، ولو أتلف شجرةً ، قوّمت مغروسةً وقوّمت مقطوعةً ، ويغرم ما بينهما .
ولو أتلف ثمارها ، أو نفضها لمّا نوّرت ، حتّى تناثر نورها ، قوّمت الشّجرة مع ذلك ، وقوّمت بدونها فيغرم ما بينهما ، وكذا الزّرع .
ب - هدم المباني :
إذا هدم إنسان بناءً أو جداراً لغيره ، يجب عليه بناء مثله ، وهذا عند أبي حنيفة والشّافعيّ ، فإن تعذّرت المماثلة رجع إلى القيمة ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » كان رجل في بني إسرائيل يقال له : جريج ، يصلّي ، فجاءته أمّه فدعته ، فأبى أن يجيبها ، فقال : أجيبها أو أصلّي ؟ ثمّ أتته فقالت : اللّهمّ لا تمته حتّى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعته فقالت امرأة : لأفتننّ جريجاً ، فتعرّضت له ، فكلّمته ، فأبى . فأتت راعياً فأمكنته من نفسها . فولدت غلاماً ، فقالت : هو من جريج . فأتوه كسروا صومعته وأنزلوه وسبّوه ، فتوضّأ وصلّى ، ثمّ أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : الرّاعي . قالوا : نبني صومعتك من ذهب ، قال : لا، إلاّ من طين «
والأصل : أنّ الحائط والبناء من القيميّات ، فتضمن بالقيمة .
وقد نقل الرّمليّ الحنفيّ أنّه لو هدم جدار غيره ، تقوّم داره مع جدرانها ، وتقوّم بدون هذا الجدار فيضمن فضل ما بينهما .
وفي القنية عن محمّد بن الفضل : إذا هدم حائطاً متّخذاً من خشب أو عتيقاً متّخذاً من رهص - طين - يضمن قيمته ، وإن كان حديثاً يؤمر بإعادته كما كان .
وقال ابن نجيم : من هدم حائط غيره فإنّه يضمن نقصانها - أي قيمتها مبنيّةً - ولا يؤمر بعمارتها ، إلاّ في حائط المسجد ، كما في كراهة الخانيّة .
لكن المذهب ، ما قاله العلامة قاسم في شرحه للنّقاية : وإذا هدم الرّجل حائط جاره فللجار الخيار : إن شاء ضمّنه قيمة الحائط ، والنّقض للضّامن ، وإن شاء أخذ النّقض ، وضمّنه النّقصان ، لأنّ الحائط قائم من وجه ، وهالك من وجه ، فإن شاء مال إلى جهة القيام ، وضمّنه النّقصان ، وإن شاء مال إلى جهة الهلاك وضمّنه قيمة الحائط ، وليس له أن يجبره على البناء ، كما كان ، لأنّ الحائط ليس من ذوات الأمثال .
وطريق تقويم النّقصان : أن تقوّم الدّار مع حيطانها ، وتقوّم بدون هذا الحائط فيضمن فضل ما بينهما .
والضّمان في هذه الحال مقيّد بما إذا لم يكن الهدم للضّرورة ، كمنع سريان الحريق ، بإذن الحاكم ، فإن كان كذلك فلا ضمان ، وإن لم يكن بإذن الحاكم ، ضمن الهادم قيمتها معرّضةً للحريق .
ج - البناء على الأرض المغصوبة أو الغرس فيها :
إذا غرس شخص شجراً ، أو أقام بناءً على أرض غصبها ، فمذهب جمهور الفقهاء، وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة أنّه يؤمر بقلع الشّجر ، وهدم البناء ، وتفريغ الأرض من كلّ ما أنشأ فيها ، وإعادتها كما كانت
قال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافاً وذلك : لحديث عروة بن الزّبير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له ، وليس لعرق ظالم حقّ « ، قال : فلقد أخبرني الّذي حدّثني هذا الحديث : » أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النّخل أن يخرج نخله منها ، قال : فلقد رأيتها ، وإنّها لتضرب أصولها بالفؤوس ، وإنّها لنخل عمّ « أي طويلة .
ولأنّه شغل ملك غيره ، فيؤمر بتفريغه ، دفعاً للظّلم ، وردّاً للحقّ إلى مستحقّه .
قال الشّافعيّة والحنابلة : عليه أرش نقصها إن كان ، وتسويتها ، لأنّه ضرر حصل بفعله ، مع أجرة المثل إلى وقت التّسليم .
وقال القليوبيّ : وللغاصب قلعهما قهراً على المالك ، ولا يلزمه إجابة المالك لو طلب الإبقاء بالأجر ، أو التّملّك بالقيمة ، وللمالك قلعهما جبراً على الغاصب ، بلا أرش لعدم احترامهما عليه .
والمالكيّة خيّروا المالك بين قلع الشّجر وهدم البناء ، وبين تركهما ، على أن يعطى المالك الغاصب ، قيمة أنقاض الشّجر والبناء ، مقلوعاً ، بعد طرح أجرة النّقض والقلع ، لكنّهم قيّدوا قلع الزّرع بما إذا لم يفت ، أي لم يمض وقت ما تراد الأرض له فله عندئذ أخذه بقيمته مقلوعاً مطروحاً منه أجرة القلع . فإن فات الوقت ، بقي الزّرع للزّارع ، ولزمه الكراء إلى انتهائه .
ونصّ على مثل هذا الحنفيّة .
د - قلع عين الحيوان :
الحيوان وإن كان من الأموال ، وينبغي أن تطبّق في إتلافه - كلّيّاً أو جزئيّاً - القواعد العامّة ، إلاّ أنّه ورد في السّمع تضمين ربع قيمته ، بقلع عينه ، ففي الحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عين الدّابّة ربع ثمنها « .
وروي ذلك عن عمر وشريح رضي الله تعالى عنهما ، وكتب عمر إلى شريح ، لمّا كتب إليه يسأله عن عين الدّابّة : إنّا كنّا ننزلها منزلة الآدميّ ، إلاّ أنّه أجمع رأينا أنّ قيمتها ربع الثّمن .
قال ابن قدامة : هذا إجماع يقدّم على القياس .
وهذا ممّا جعل الحنفيّة - وهو رواية عند الحنابلة عن أحمد - يعدلون عن القياس ، بالنّظر إلى ضمان العين فقط .
فعملوا بالحديث ، وتركوا فيه القياس ، لكنّهم خصّوه بالحيوان الّذي يقصد للّحم ، كما يقصد للرّكوب والحمل والزّينة أيضاً ، كما في عين الفرس والبغل والحمار ، وكذا في عين البقرة والجزور .
أمّا غيره ، كشاة القصّاب المعدّة للذّبح ، ممّا يقصد منه اللّحم فقط ، فيعتبر ما نقصت قيمته. وطرد المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة القياس ، فضمّنوا ما يتلف من سائر أجزاء الحيوان ، بما ينقص من قيمته ، بفقد عينه وغيرها ، بالغاً ما بلغ النّقص بلا تفرقة بين أنواع الحيوان.
قال المحلّيّ : ويضمن ما تلف أو أتلف من أجزائه بما نقص من قيمته .
وقال الغزاليّ : ولا يجب في عين البقرة والفرس إلاّ أرش النّقص .
وعلّل ذلك ابن قدامة : بأنّه ضمان مال من غير جناية ، فكان الواجب ما نقص ، كالثّوب ، ولأنّه لو فات الجميع لوجبت قيمته ، فإذا فات منه شيء ، وجب قدره من القيمة ، كغير الحيوان .
ضمان الشّخص الضّرر النّاشئ عن فعل غيره وما يلتحق به :
الأصل أنّ الشّخص مسئول عن ضمان الضّرر الّذي ينشأ عن فعله لا عن فعل غيره لكن الفقهاء استثنوا من هذا الأصل ضمان أفعال القصّر الخاضعين لرقابته ، وضمان أفعال تابعيه : كالخدم والعمّال وكالموظّفين ، وضمان ما يفسده الحيوان ، وضمان الضّرر الحادث بسبب سقوط الأبنية ، وضمان التّلف الحادث بالأشياء الأخرى ، وتفصيله فيما يلي :
أوّلاً : ضمان الإنسان لأفعال الأشخاص الخاضعين لرقابته :
ويتمثّل هذا النّوع من الضّمان ، في الأفعال الضّارّة ، الصّادرة من الصّغار القصّر ، الّذين هم في ولاية الأب والوصيّ ، والتّلاميذ حينما يكونون في المدرسة ، تحت رقابة النّاظر والمعلّم ، أو في رعاية أيّ رقيب عليهم وهم صغار ، ومثلهم المجانين والمعاتيه . ولمّا كان الأصل المقرّر في الشّريعة ، كما تقدّم آنفاً ، هو ضمان الإنسان لأفعاله كلّها ، دون تحمّل غيره عنه لشيء من تبعاتها ، مهما كان من الأمر .
فقد طرد الفقهاء قاعدة تضمين الصّغار ، وأوجبوا عليهم الضّمان في مالهم ، ولم يوجبوا على أوليائهم والأوصياء عليهم ضمان ما أتلفوه ، إلاّ في أحوال مستثناة ، منها :
أ - إذا كان إتلاف الصّغار للمال ، ناشئاً من تقصير الأولياء ونحوهم ، في حفظهم ، كما لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له ، فوقع السّكّين من يده عليه أو على شخص آخر ، أو عثر به ، فإنّ الدّافع يضمن .
ب - إذا كان بسبب إغراء الآباء والأوصياء الصّغار بإتلاف المال ، كما لو أمر الأب ابنه بإتلاف مال أو إيقاد نار ، فأوقدها ، وتعدّت النّار إلى أرض جاره ، فأتلفت شيئاً ، يضمن الأب ، لأنّ الأمر صحّ ، فانتقل الفعل إليه ، كما لو باشره الأب .
فلو أمر أجنبيّ صبيّاً بإتلاف مال آخر ، ضمن الصّبيّ ، ثمّ رجع على آمره .
ج - إذا كان بسبب تسليطهم على المال ، كما لو أودع صبيّاً وديعةً بلا إذن وليّه فأتلفها ، لم يضمن الصّبيّ ، وكذا إذا أتلف ما أعير له ، وما اقترضه وما بيع منه بلا إذن ، للتّسليط من مالكها .
ثانياً : ضمان الشّخص لأفعال التّابعين له :
ويتمثّل هذا في الخادم في المنزل ، والطّاهي في المطعم ، والمستخدم في المحلّ ، والعامل في المصنع ، والموظّف في الحكومة ، وفي سائق السّيّارة لمالكها كلّ في دائرة عمله .
والعلاقة هنا عقديّة ، وفيما تقدّم من الرّقابة على عديمي التّمييز : هي : دينيّة أو أدبيّة . والفقهاء بحثوا هذا في باب الإجارة ، في أحكام الأجير الخاصّ ، وفي تلميذ الأجير المشترك عند الحنفيّة ، وهو الّذي يعمل لواحد عملاً مؤقّتاً بالتّخصيص ، ويستحقّ أجره بتسليم نفسه في المدّة ، وإن لم يعمل .
والمعقود عليه هو منفعته ، ولا يضمن ما هلك في يده بغير صنعه ، لأنّ العين أمانة في يده، لأنّه قبض بإذنه ، ولا يضمن ما هلك من عمله المأذون فيه ، لأنّ المنافع متى صارت مملوكةً للمستأجر ، فإذا أمره بالتّصرّف في ملكه ، صحّ ، ويصير نائباً منابه ، فيصير فعله منقولاً إليه ، كأنّه فعله بنفسه ، فلهذا لا يضمنه وإنّما الضّمان في ذلك على مخدومه .
ثالثاً : ضمان الشّخص فعل الحيوان :
هناك نوعان من الحيوان :
أحدهما الحيوان العاديّ ، والآخر الحيوان الخطر ، وفي تضمين جناية كلّ منهما ، خلاف بين الفقهاء ، ونوضّحه فيما يلي :
أ - ضمان جناية الحيوان العاديّ غير الخطر :
اختلف الفقهاء في ضمان ما يتلفه الحيوان العاديّ ، غير الخطر :
فذهب جمهورهم إلى ضمان ما تفسده الدّابّة من الزّرع والشّجر ، إذا وقع في اللّيل ، وكانت وحدها إذا لم تكن يد لأحد عليها .
وأمّا إذا وقع ذلك في النّهار ، ولم تكن يد لأحد عليها - أي الدّابّة - فلا ضمان فيه . واستدلّوا بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه : » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهوعلى أهلها « قال ابن قدامة : ولأنّ العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي ، وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون اللّيل ، فإذا ذهبت ليلاً كان التّفريط من أهلها ، بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ .
وإن أتلفت نهاراً ، كان التّفريط من أهل الزّرع ، فكان عليهم ، وقد فرّق النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى على كلّ إنسان بالحفظ في وقت عادته .
وقال - أيضاً - : قال بعض أصحابنا : إنّما يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً ، إذا فرّط بإرسالها ليلاً أو نهاراً أو لم يضمّها باللّيل ، أو ضمّها بحيث يمكنها الخروج ، أمّا لو ضمّها فأخرجها غيره بغير إذنه ، أو فتح عليها بابها ، فالضّمان على مخرجها ، أو فاتح بابها ، لأنّه المتلف.
وقيّد المالكيّة عدم ضمان الإتلاف نهاراً بشرطين :
أوّلهما : أن لا يكون معها راع .
والآخر : أن تسرح بعيداً عن المزارع ، وإلاّ فعلى الرّاعي الضّمان .
وإن أتلفت البهيمة غير الزّرع والشّجر من الأنفس والأموال ، لم يضمنه مالكها ، ليلاً كان أو نهاراً ، ما لم تكن يده عليها ، واستدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » العجماء جبار « ويروى » العجماء جرحها جبار « ومعنى جبار : هدر .
وقيّد المالكيّة ، عدم ضمان ذلك ليلاً ، بما إذا لم يقصّر في حفظها ، ولم يكن من فعل من معها ، ففي المدوّنة : من قاد قطاراً فهو ضامن لما وطئ البعير ، في أوّل القطار أو آخره ، وإن نفحت رجلاً بيدها أو رجلها ، لم يضمن القائد إلاّ أن يكون ذلك من شيء فعله بها . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحيوان إذا أتلف مالاً أو نفساً ، فلا ضمان على صاحبه مطلقاً ، سواء أوقع ذلك في ليل أم في نهار .
وذلك لحديث : » العجماء جبار « المتقدّم آنفاً .
لكن قيّدها محمّد بن الحسن ، بالمنفلتة المسيّبة حيث تسيّب الأنعام ، كما هو الشّأن في البراري ، فهذه الّتي جرحها هدر وهذا ما ذكره الطّحاويّ فقد فرّق بين ما إذا كان معها حافظ فيضمن ، وبين ما إذا لم يكن معها حافظ ، فلا يضمن ، وروى في ذلك آثاراً .
ولأنّه لا صنع له في نفارها وانفلاتها ، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها ، فالمتولّد منه لا يكون مضموناً .
وأثار المالكيّة - هنا - مسألة ما لو كان الحيوان ممّا لا يمكن الاحتراز منه ، ولا حراسته كحمام ، ونحل ، ودجاج يطير .
فذهب ابن حبيب - وهو رواية مطرّف عن مالك - إلى أنّه يمنع أربابها من اتّخاذه ، إن آذى النّاس .
وذهب ابن القاسم وابن كنانة وأصبغ إلى أنّهم لا يمنعون من اتّخاذه ، ولا ضمان عليهم فيما أتلفته من الزّرع ، وعلى أرباب الزّرع والشّجر حفظها .
وصوّب ابن عرفة الأوّل ، لإمكان استغناء ربّها عنها ، وضرورة النّاس للزّرع والشّجر . ويؤيّده - كما قال الدّسوقيّ - قاعدة ارتكاب ، أخفّ الضّررين عند التّقابل ، لكن قال : ولكن المعتمد - كما قال شيخنا - قول ابن قاسم .
والاتّجاهان كذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة .
شروط ضمان جناية الحيوان :
بدا ممّا تقدّم اتّفاق الفقهاء على تضمين جناية الحيوان ، كلّما كان معها راكب أو حافظ ، أو ذو يد ، ولا بدّ حينئذ من توفّر شروط الضّمان العامّة المتقدّمة : من الضّرر والتّعدّي والإفضاء .
فالضّرر يستوي فيه الواقع على النّفوس أو الأموال ، وصرّح العينيّ بأنّ حديث : » العجماء جبار « المتقدّم ، محتمل لأن تكون الجناية على الأبدان أو الأموال ، وذكر أنّ الأوّل أقرب إلى الحقيقة ، لما ورد في الصّحيحين بلفظ : » العجماء جرحها جبار « .
والتّعدّي بمجاوزة ذي اليد في استعمال الدّابّة ، فحيث استعملها في حدود حقّه ، في ملكه ، أو المحلّ المعدّ للدّوابّ أو أدخلها ملك غيره بإذنه ، فأتلفت نفساً أو مالاً ، لا ضمان عليه إذ لا ضمان مع الإذن بخلاف ما لو كان ذلك بغير إذن المالك أو أوقفها في محلّ لم يعدّ لوقوف الحيوانات ، أو في طريق المسلمين ، فإنّه يكون ضامناً لما تتلفه حينئذ إذ كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه ضمن ما تولّد منه .
والأصل في هذا حديث النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل ، فهو ضامن « .
وعلّله الرّمليّ ، نقلاً عن القاضي ، بأنّ الرّبط جناية ، فما تولّد منه ضمنه .
وأمّا الإفضاء ، وهو وصول الضّرر مباشرةً أو تسبّباً ، فإنّ فعل الحيوان لا يوصف بمباشرة أو تسبيب ، لأنّه ليس ممّا يصحّ إضافة الحكم إليه ، وإنّما يوصف بذلك صاحبه ، فتطبّق القاعدة العامّة : أنّ المباشر ضامن وإن لم يتعدّ ، والمتسبّب لا يضمن إلاّ بالتّعدّي . ويعتبر ذو اليد على الحيوان ، وصاحبه مباشراً إذا كان راكباً في ملكه أو في ملك غيره ، ولو بإذنه أو في طريق العامّة ، فيضمن ما يحدثه بتلفه ، وإن لم يتعدّ .
فراكب الدّابّة يضمن ما وطئته برجلها ، أو يدها - كما يقول الكاسانيّ - أي ومات لوجود الخطأ في هذا القتل ، وحصوله على سبيل المباشرة لأنّ ثقل الرّاكب على الدّابّة ، والدّابّة آلة له ، فكان القتل الحاصل بثقلها مضافاً إلى الرّاكب ، والرّديف والرّاكب سواء ، وعليهما الكفّارة ، ويحرمان من الميراث والوصيّة ، لأنّ ثقلهما على الدّابّة ، والدّابّة آلة لهما ، فكانا قاتلين على طريق المباشرة .
ولو كدمت أو صدمت ، فهو ضامن ، ولا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل بسبب .
ولو أصابت ومعها سائق وقائد ، فلا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل تسبيباً لا مباشرةً ، بخلاف الرّاكب والرّديف .
وهذا خلاف ما في مجمع الأنهر ، حيث نصّ على أنّ الرّاكب في ملكه لا يضمن شيئاً ، لأنّه غير متعدّ ، بخلاف ما إذا كان في طريق العامّة ، فيضمن للتّعدّي .
ومثال ما لو أتلفت شيئاً بتسبيب صاحبها : ما لو أوقفها في ملك غيره ، فجالت في رباطها، حيث طال الرّسن فأتلفت شيئاً ، ضمن ، لأنّه ممسكها في أيّ موضع ذهبت ، ما دامت في موضع رباطها .
فقد وجد شرط الضّمان بالتّسبيب بالتّعدّي ، وهو الرّبط في ملك غيره .
ومثال اجتماع المباشرة والتّسبيب ، حيث تقدّم المباشرة ، ما لو ربط بعيراً إلى قطار ، والقائد لا يعلم ، فوطئ البعير المربوط إنساناً ، فقتله ، فعلى عاقلة القائد الدّية ، لعدم صيانة القطار عن ربط غيره ، فكان متعدّياً - مقصّراً - لكن يرجع على عاقلة الرّابط ، لأنّه هو الّذي أوقعه في هذه العهدة .
وإنّما لم يجب الضّمان عليه ابتداءً ، وكلّ منهما متسبّب ، لأنّ الرّبط ، من القود ، بمنزلة التّسبيب من المباشرة ، لاتّصال التّلف بالقود دون الرّبط .
ومثال ما إذا لم يكن مباشراً ولا متسبّباً ، حيث لا يضمن ، ما إذا قتل سنّوره حمامةً فإنّه لا يضمن ، لحديث : » العجماء جرحها جبار « المتقدّم آنفاً .
والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الهرّة إن أتلفت طيراً أو طعاماً ليلاً أونهاراً ضمن مالكها إن عهد ذلك منها ، وإلاّ فلا يضمن في الأصحّ .
ومن مشمولات الإفضاء : التّعمّد ، كما لو ألقى هرّةً على حمامة أو دجاجة ، فأكلتها ضمن لو أخذتها برميه وإلقائه ، لا لو بعده .
ويضمن بإشلاء كلبه ، لأنّه بإغرائه يصير آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بسيفه .
ومن مشمولاته التّسبّب بعدم الاحتراز : فالأصل : أنّ المرور بطريق المسلمين مباح ، بشرط السّلامة ، فيما يمكن الاحتراز منه ، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه ، فلو أوقف دابّته في الطّريق ضمن ما نفحته ، لأنّ بإمكانه الاحتراز من الإيقاف ، وإن لم يمكن الاحتراز من النّفحة ، فصار متعدّياً بالإيقاف وشغل الطّريق به .
بخلاف ما لو أصابت بيدها أو رجلها حصاةً ، أو أثارت غباراً ، ففقأت الحصاة عين إنسان ، أو أفسد الغبار ثوب إنسان فإنّه لا يضمن لأنّه لا يمكن الاحتراز منه ، لأنّ سير الدّوابّ لا يخلو عنه .
وللحنابلة والشّافعيّة تفصيل وخلاف في الطّريق الواسع .
والضّامن لجناية الحيوان ، لم يقيّد في النّصوص الفقهيّة ، بكونه مالكاً أو غيره ، بل هو ذو اليد ، القابض على زمامه ، القائم على تصريفه ، ولو لم يكن مالكاً ، ولو لم يحلّ له الانتفاع به ، ويشمل هذا السّائس والخادم .
قال النّوويّ : إنّ الضّمان يجب في مال الّذي هو معها ، سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً ، أو غاصباً أو مودعاً ، أو وكيلاً أو غيره .
ويقول الشّرقاويّ في جناية الدّابّة : لا تتعلّق برقبتها ، بل بذي اليد عليها .
ولو تعدّد واضعو اليد على الحيوان ، فالضّمان - فيما يبدو من النّصوص - على الأقوى يداً ، والأكثر قدرةً على التّصرّف ، وعند الاستواء يكون الضّمان عليهما .
قال الكاسانيّ : وإن كان أحدهما سائقاً ، والآخر قائداً ، فالضّمان عليهما لأنّهما اشتركا في التّسبيب ، فيشتركان في الضّمان ، وكذلك إذا كان أحدهما سائقاً والآخر راكباً أو كان أحدهما قائداً والآخر راكباً ، فالضّمان عليهما ، لوجود سبب الضّمان من كلّ واحد منهما ، إلاّ أنّ الكفّارة تجب على الرّاكب وحده ، فيما لو وطئت دابّته إنساناً فقتلته ، لوجود القتل منه وحده مباشرةً ، وإن كان الحصكفيّ صحّح عدم تضمين السّائق ، لأنّ الإضافة إلى المباشر أولى ، لكن السّبب - هنا - ممّا يعمل بانفراده ، فيشتركان كما حقّقه ونقله ابن عابدين .
وقال ابن قدامة : فإن كان على الدّابّة راكبان ، فالضّمان على الأوّل منهما ، لأنّه المتصرّف فيها ، القادر على كفّها ، إلاّ أن يكون الأوّل منهما صغيراً أو مريضاً أو نحوهما ، ويكون الثّاني المتولّي لتدبيرها ، فيكون الضّمان عليه .
وإن كان مع الدّابّة قائد وسائق ، فالضّمان عليهما ، لأنّ كلّ واحد منهما لو انفرد ضمن ، فإذا اجتمعا ضمنا ، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ، ففيه وجهان :
أحدهما : أنّ الضّمان عليهما جميعاً ، لذلك .
والآخر : أنّه على الرّاكب ، لأنّه أقوى يداً وتصرّفاً .
ويحتمل أن يكون على القائد لأنّه لا حكم للرّاكب على القائد .
ب - ضمان جناية الحيوان الخطر :
ويتمثّل في الكبش النّطوح ، والجمل العضوض ، والفرس الكدوم ، والكلب العقور ، كما يتمثّل في الحشرات المؤذية ، والحيّة والعقرب ، والحيوانات الوحشيّة المفترسة ، وسباع البهائم ، كالأسد والذّئب ، وسباع الطّير كالحدأة والغراب ، وفيها مذاهب للفقهاء : مذهب الحنفيّة هو ضمان ما يتلفه الحيوان الخطر ، من مال أو نفس إذا وجد من مالكه إشلاء أو إغراء أو إرسال ، وهو قول أبي يوسف ، الّذي أوجب الضّمان في هذا كلّه ، احتياطاً لأموال النّاس خلافاً لأبي حنيفة ، والّذي أفتوا به هو : الضّمان بعد الإشلاء كالحائط المائل ، في النّفس والمال كما في الإغراء .
وعلّل الضّمان بالإشلاء ، بأنّه بالإغراء . يصير الكلب آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بحدّ سيفه . وفي مذهب مالك تفصيل ذكره الدّسوقيّ ، وهو : إذا اتّخذ الكلب العقور ، بقصد قتل إنسان معيّن وقتله فالقود ، أنذر عن اتّخاذه أو لا .
وإن قتل غير المعيّن فالدّية ، وكذلك إن اتّخذه لقتل غير المعيّن ، وقتل شخصاً فالدّية ، أنذر أم لا .
وإن اتّخذه لوجه جائز فالدّية إن تقدّم له إنذار قبل القتل ، وإلاّ فلا شيء عليه .
وإن اتّخذه لا لوجه جائز ضمن ما أتلف ، تقدّم له فيه إنذار أم لا ، حيث عرف أنّه عقور ، وإلاّ لم يضمن ، لأنّ فعله حينئذ كفعل العجماء .
وذهب الحنابلة إلى أنّ الحيوان الخطر ينبغي أن يربط ويكفّ شرّه ، كالكلب العقور ، وكالسّنّور إذا عهد منه إتلاف الطّير أو الطّعام ، فإذا أطلق الكلب العقور أو السّنّور ، فعقر إنساناً ، أو أتلف طعاماً أو ثوباً ، ليلاً أو نهاراً ، ضمن ما أتلفه ، لأنّه مفرّط باقتنائه وإطلاقه إلاّ إذا دخل داره إنسان بغير إذنه ، فعقره ، فلا ضمان عليه ، لأنّه متعدّ بالدّخول ، متسبّب بعدم الاستئذان لعقر الكلب له ، فإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه ، لأنّه تسبّب إلى إتلافه .
وكذلك إذا اقتنى سنّوراً ، يأكل أفراخ النّاس ، ضمن ما أتلفه كالكلب العقور ، وهذا - هو الأصحّ - عند الشّافعيّة ، كلّما عهد ذلك منه ليلاً أو نهاراً ، قال المحلّيّ : لأنّ هذه الهرّة ينبغي أن تربط ويكفّ شرّها .
أمّا ما يتلفه الكلب العقور لغير العقر ، كما لو ولغ في إناء ، أو بال ، فلا يضمن ، لأنّ هذا لا يختصّ به الكلب العقور .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق