مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الخامس
أحكام الضّمان :
أحكام الضّمان - بوجه عامّ - تقسّم إلى هذه الأقسام :
1 - ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - .
2 - ضمان العقود .
3 - ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال ، كالإتلافات ، والغصوب .
وحيث تقدّم القول في ضمان العقود في أنواع الضّمان ومحلّه ، فنقصر القول على ضمان الدّماء ، وضمان الأفعال الضّارّة بالأموال .
ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - :
ضمان الدّماء أو الأنفس هو : الجزاء المترتّب على الضّرر الواقع على النّفس فما دونها .
ويشمل القصاص والحدود ، وهي مقدّرة ، كما يشمل التّعزير و حكومة العدل وهي غير مقدّرة من جهة الشّارع .
ويقسّم الضّمان - بحسب الجناية - إلى ثلاثة أقسام :
أ - ضمان الجناية على النّفس .
ب - ضمان الجناية على ما دون النّفس ، من الأطراف والجراح .
ج - ضمان الجناية على الجنين ، وهي : الإجهاض .
وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : ضمان الجناية على النّفس :
يتمثّل فيما يلي ، باعتبار أنواعها :
القتل العمد :
القتل العمد ، إذا تحقّقت شروطه ، فضمانه بالقصاص .
وأوجب الشّافعيّة وآخرون الكفّارة فيه أيضاً .
فإن امتنع القصاص ، أو تعذّر أو صالح عنه ، كان الضّمان بالدّية أو بما صولح عنه .
ويوجب المالكيّة حينئذ التّعزير ، كما يوجبون في القتل غيلةً - القتل على وجه المخادعة والحيلة - قتل القاتل تعزيراً ، إن عفا عنه أولياء المقتول .
كما يحرم القاتل من ميراث المقتول ووصيّته .
القتل الشّبيه بالعمد :
هو : القتل بما لا يقتل في الغالب - عند الجمهور - وبالمثقلات كذلك - عند أبي حنيفة ، من غير الحديد والمعدن - وإن كان المالكيّة يرون هذا من العمد .
وهو مضمون بالدّية المغلّظة في الحديث : » ألا وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد ، ما كان بالسّوط والعصا ، مائة من الإبل ، أربعون في بطونها أولادها « .
القتل الخطأ :
وهو مضمون بالدّية على العاقلة اتّفاقاً بالنّصّ الكريم ، وفيه كذلك الكفّارة والحرمان من الإرث والوصيّة وهذا لعموم النّصّ .
والضّمان كذلك في القتل الشّبيه بالخطأ في اصطلاح الحنفيّة ، ويتمثّل بانقلاب النّائم على شخص فيقتله ، أو انقلاب الأمّ على رضيعها فيموت بذلك .
القتل بسبب :
قال به الحنفيّة ، ويتمثّل بما لو حفر حفرةً في الطّريق ، فتردّى فيها إنسان فمات . وهو مضمون بالدّية فقط ، عندهم ، فلا كفّارة فيه ، ولا حرمان ، لانعدام القتل فيه حقيقةً ، وإنّما أوجبوا الدّية صوناً للدّماء عن الهدر .
والجمهور من الفقهاء ، يلحقون هذا النّوع من القتل بالخطأ في أحكامه ، ديةً ، وكفّارةً ، وحرماناً ، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل .
ثانياً : ضمان الجناية على ما دون النّفس :
وتتحقّق في الأطراف ، والجراح في غير الرّأس ، وفي الشّجاج .
أ - أمّا الأطراف : فحدّدت عقوبتها بالقصاص بالنّصّ ، في قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } .
وزاد مالك على ذلك التّعزير بالتّأديب ، ليتناهى النّاس .
فإذا امتنع القصاص ، بسبب العفو أو الصّلح أو لتعذّر المماثلة ، كان الضّمان بالدّية والأرش، وهو : اسم للواجب من المال فيما دون النّفس .
ب - وأمّا الجراح : فخاصّة بما كان في غير الرّأس ، فإذا كانت جائفةً ، أي بالغة الجوف ، فلا قصاص فيها اتّفاقاً ، خشية الموت .
وإذا كانت غير جائفة ، ففيها القصاص عند جمهور الفقهاء في الجملة خلافاً للحنفيّة الّذين منعوا القصاص فيها مطلقاً لتعذّر المماثلة .
فإن امتنع القصاص في الجراح ، وجبت الدّية : ففي الجائفة يجب ثلث الدّية ، لحديث : » في الجائفة ثلث العقل « .
وفي غير الجائفة حكومة عدل ، وفسّرت بأنّها أجرة الطّبيب وثمن الأدوية .
ج - وأمّا الشّجاج : وهي ما يكون من الجراح في الوجه والرّأس فإن تعذّر القصاص فيها : ففيه الأرش مقدّراً ، كما في الموضحة ، لحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، خمس من الإبل « .
وقد يكون غير مقدّر ، فتجب الحكومة .
ومذهب الجمهور : أنّ ما دون الموضحة ، ليس فيه أرش مقدّر ، لما روي : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء « . فتجب فيه الحكومة .
ومذهب أحمد أنّه ورد التّقدير في أرش الموضحة ، وفيما دونها ، كما ورد فيما فوقها فيعمل به .
ثالثاً : ضمان الجناية على الجنين :
وهي الإجهاض ، فإذا سقط الجنين ميّتاً بشروطه ، فضمانه بالغرّة اتّفاقاً ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان ، بغرّة عبد أو أمة « .
وتجب عند الجمهور في مال العاقلة خلافاً للمالكيّة والحنابلة الّذين أوجبوها في مال الجاني . ولا كفّارة فيها عند الحنفيّة ، وإنّما تندب ، وأوجبها الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الجنين آدميّ معصوم ، وإذا لم توجد الرّقبة ، انتقلت العقوبة إلى بدلها مالاً ، وهو : نصف عشر دية الرّجل ، وعشر دية المرأة .
ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :
تتمثّل الأفعال الضّارّة بالأموال في الإتلافات الماليّة ، والغصوب ، ونحوها .
ولضمان هذا النّوع من الأفعال الضّارّة ، أحكام عامّة ، وأحكام خاصّة :
أوّلاً : الأحكام العامّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :
تقوم فكرة هذا النّوع من الضّمان - خلافاً لما تقدّم في ضمان الأفعال الضّارّة بالأنفس - على مبدأ جبر الضّرر المادّيّ الحائق بالآخرين ، أمّا في تلك فهو قائم على مبدأ زجر الجناة وردع غيرهم .
والتّعبير بالضّمان عن جبر الضّرر وإزالته ، هو التّعبير الشّائع في الفقه الإسلاميّ ، وعبّر بعض الفقهاء من المتأخّرين بالتّعويض ، كما فعل ابن عابدين .
وتوسّع الفقهاء في هذا النّوع في أنواع الضّمان وتفصيل أحكامه ، حتّى أفرده البغداديّ بالتّصنيف في كتابه : مجمع الضّمانات .
ومن أهمّ قواعد الضّمان قاعدة : الضّرر يزال .
وإزالة الضّرر الواقع على الأموال يتحقّق بالتّعويض الّذي يجبر فيه الضّرر .
وقد عرّف الفقهاء الضّمان بهذا المعنى ، بأنّه : ردّ مثل الهالك أو قيمته .
وعرّفه الشّوكانيّ بأنّه : عبارة عن غرامة التّالف .
وكلا التّعريفين يستهدف إزالة الضّرر ، وإصلاح الخلل الّذي طرأ على المضرور ، وإعادة حالته الماليّة إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضّرر .
طريقة التّضمين :
القاعدة العامّة في تضمين الماليّات هي : مراعاة المثليّة التّامّة بين الضّرر ، وبين العوض ، كلّما أمكن ، قال السّرخسيّ : " ضمان العدوان مقدّر بالمثل بالنّصّ " يشير إلى قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } .
والمثل وإن كان به يتحقّق العدل ، لكن الأصل أن يردّ الشّيء الماليّ المعتدى فيه نفسه ، كلّما أمكن ، ما دام قائماً موجوداً ، لم يدخله عيب ينقص من منفعته ، وهذا الحديث الحسن، عن سمرة رضي الله تعالى عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « .
بل هذا هو الموجب الأصليّ في الغصب ، الّذي هو أوّل صور الضّرر وأهمّها .
فإذا تعذّر ردّ الشّيء بعينه ، لهلاكه أو استهلاكه أو فقده ، وجب حينئذ ردّ مثله ، إن كان مثليّاً ، أو قيمته إن كان قيميّاً .
والمثليّ هو : ما له مثل في الأسواق ، أو نظير ، بغير تفاوت يعتدّ به ، كالمكيلات ، والموزونات ، والمذروعات ، والعدديّات المتقاربة .
والقيميّ هو : ما ليس له مثل في الأسواق ، أو هو ما تتفاوت أفراده ، كالكتب المخطوطة ، والثّياب المفصّلة المخيطة لأشخاص بأعيانهم .
والمثل أعدل في دفع الضّرر ، لما فيه من اجتماع الجنس والماليّة .
والقيمة تقوم مقام المثل ، في المعنى والاعتبار الماليّ .
وقت تقدير التّضمين :
تناول الفقهاء هذه المسألة ، في المغصوب - على التّخصيص - إذا كان مثليّاً ، وفقد من السّوق ، وقد اختلفت أنظارهم فيها على الوجه التّالي :
ذهب أبو يوسف : إلى اعتبار القيمة يوم الغصب ، لأنّه لمّا انقطع من السّوق التحق بما لا مثل له ، فتعتبر قيمته يوم انعقاد السّبب ، وهو الغصب ، كما أنّ القيميّ تعتبر قيمته كذلك يوم الغصب .
وذهب محمّد : إلى اعتبار القيمة يوم الانقطاع ، لأنّ الواجب هو المثل في الذّمّة وإنّما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع ، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع .
ومذهب أبي حنيفة : اعتبار القيمة يوم القضاء ، لأنّ الواجب هو المثل ، ولا ينتقل إلى القيمة بمجرّد الانقطاع ، لأنّ للمغصوب منه أن ينتظر حتّى يوجد المثل ، بل إنّما ينتقل بالقضاء ، فتعتبر القيمة يوم القضاء .
أمّا القيميّ إذا تلف ، فتجب قيمته يوم الغصب اتّفاقاً .
أمّا في الاستهلاك : فكذلك عند الإمام وعندهما يوم الاستهلاك .
ومذهب المالكيّة : أنّ ضمان القيمة يعتبر يوم الغصب والاستيلاء على المغصوب سواء أكان عقاراً ، أم غيره ، لا يوم حصول المفوّت ، ولا يوم الرّدّ ، وسواء أكان التّلف بسماويّ أم بجناية غيره عليه .
وفي الإتلاف والاستهلاك - في غير المثليّات - كالعروض والحيوان ، تعتبر يوم الاستهلاك والإتلاف .
والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ المثليّ إذا تعذّر وجوده ، في بلده وحواليه تعتبر أقصى قيمة ، من وقت الغصب إلى تعذّر المثل ، وفي قول إلى التّلف ، وفي قول إلى المطالبة .
وإذا كان المثل مفقوداً عند التّلف ، فالأصحّ وجوب أكثر القيم من وقت الغصب إلى التّلف ، لا إلى وقت الفقد .
وأمّا المتقوّم فيضمن في الغصب بأقصى قيمة من الغصب إلى التّلف .
وأمّا الإتلاف بلا غصب ، فتعتبر قيمته يوم التّلف ، لأنّه لم يدخل في ضمانه قبل ذلك ، وتعتبر في موضع الإتلاف ، إلاّ إذا كان المكان لا يصلح لذلك كالمفازة ، فتعتبر القيمة في أقرب البلاد .
ومذهب الحنابلة : أنّه يجب ردّ قيمة المغصوب ، إن لم يكن مثليّاً ، يوم تلفه في بلد غصبه من نقده ، لأنّ ذلك زمن الضّمان وموضع الضّمان ومنصرف اللّفظ عند الإطلاق – كالدّينار- كما يقول البهوتيّ إن لم تختلف قيمة التّالف ، من حين الغصب إلى حين الرّدّ . فإن اختلفت لمعنىً في التّالف من كبر وصغر وسمن وهزال - ونحوها - ممّا يزيد في القيمة وينقص منها ، فالواجب ردّ أكثر ما تكون عليه القيمة من حين الغصب إلى حين الرّدّ، لأنّها مغصوبة في الحال الّتي زادت فيها ، والزّيادة مضمونة لمالكها .
وإن كان المغصوب مثليّاً يجب ردّ مثله ، فإن فقد المثل ، فتجب القيمة يوم انقطاع المثل ، لأنّ القيمة وجبت في الذّمّة حين انقطاع المثل ، فاعتبرت القيمة حينئذ ، كتلف المتقوّم . وقال القاضي : تجب قيمته يوم قبض البدل ، لأنّ الواجب هو المثل ، إلى حين قبض البدل ، بدليل أنّه لو وجد المثل بعد فقده ، لكان الواجب هو المثل دون القيمة ، لأنّه الأصل ، قدر عليه قبل أداء البدل ، فأشبه القدرة على الماء بعد التّيمّم
تقادم الحقّ في التّضمين :
التّقادم - أو مرور الزّمان - هو : مضيّ زمن طويل ، على حقّ أو عين في ذمّة إنسان ، لغيره دون مطالبة بهما ، مع قدرته عليها .
والشّريعة - بوجه عامّ - اعتبرت التّقادم مانعاً من سماع الدّعوى ، في الملك وفي الحقّ ، مع بقائهما على حالهما السّابقة ، ولم تعتبره مكسباً لملكيّة أو قاطعاً لحقّ .
فيقول الحصكفيّ : القضاء مظهر لا مثبت ، ويتخصّص بزمان ومكان وخصومة حتّى لو أمر السّلطان بعدم سماع الدّعوى ، بعد خمس عشرة سنةً ، فسمعها القاضي ، لم ينفذ .
ونقل ابن عابدين عن الأشباه وغيرها ، أنّ الحقّ لا يسقط بتقادم الزّمان .
فبناءً على هذا يقال : إذا لم يرفع الشّخص المضرور دعوى ، يطالب فيها بالضّمان أو التّعويض عن الضّرر ، ممّن ألحقه به ، مدّة خمسة عشر عاماً ، سقط حقّه ، قضاءً فقط لا ديانةً ، في إقامة الدّعوى من جديد ، إلاّ إذا كان المضرور غائباً ، أو كان مجنوناً أو صبيّاً وليس له وليّ ، أو كان المدّعى عليه حاكماً جائراً ، أو كان ثابت الإعسار خلال هذه المدّة ، ثمّ أيسر بعدها ، فإنّه يبقى حقّه في إقامة الدّعوى قائماً ، مهما طال الزّمن بسبب العذر ، الّذي ينفي شبهة التّزوير .
وكذلك إذا أمر السّلطان العادل نفسه بسماع هذه الدّعوى ، بعد مضيّ خمسة عشر عاماً أو سمعها بنفسه - كما يقول ابن عابدين - حفظاً لحقّ المضرور ، إذا لم يظهر منه ما يدلّ على التّزوير .
وكذلك إذا أقرّ الخصم بحقّ المضرور في الضّمان ، والتّعويض عن الضّرر ، بعد مضيّ هذه المدّة ، فإنّه يتلاشى بذلك مضيّ الزّمن ويسقط لظهور الحقّ بإقراره وهذا كما جاء في كتب الحنفيّة .
الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الخامس
أحكام الضّمان :
أحكام الضّمان - بوجه عامّ - تقسّم إلى هذه الأقسام :
1 - ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - .
2 - ضمان العقود .
3 - ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال ، كالإتلافات ، والغصوب .
وحيث تقدّم القول في ضمان العقود في أنواع الضّمان ومحلّه ، فنقصر القول على ضمان الدّماء ، وضمان الأفعال الضّارّة بالأموال .
ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - :
ضمان الدّماء أو الأنفس هو : الجزاء المترتّب على الضّرر الواقع على النّفس فما دونها .
ويشمل القصاص والحدود ، وهي مقدّرة ، كما يشمل التّعزير و حكومة العدل وهي غير مقدّرة من جهة الشّارع .
ويقسّم الضّمان - بحسب الجناية - إلى ثلاثة أقسام :
أ - ضمان الجناية على النّفس .
ب - ضمان الجناية على ما دون النّفس ، من الأطراف والجراح .
ج - ضمان الجناية على الجنين ، وهي : الإجهاض .
وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : ضمان الجناية على النّفس :
يتمثّل فيما يلي ، باعتبار أنواعها :
القتل العمد :
القتل العمد ، إذا تحقّقت شروطه ، فضمانه بالقصاص .
وأوجب الشّافعيّة وآخرون الكفّارة فيه أيضاً .
فإن امتنع القصاص ، أو تعذّر أو صالح عنه ، كان الضّمان بالدّية أو بما صولح عنه .
ويوجب المالكيّة حينئذ التّعزير ، كما يوجبون في القتل غيلةً - القتل على وجه المخادعة والحيلة - قتل القاتل تعزيراً ، إن عفا عنه أولياء المقتول .
كما يحرم القاتل من ميراث المقتول ووصيّته .
القتل الشّبيه بالعمد :
هو : القتل بما لا يقتل في الغالب - عند الجمهور - وبالمثقلات كذلك - عند أبي حنيفة ، من غير الحديد والمعدن - وإن كان المالكيّة يرون هذا من العمد .
وهو مضمون بالدّية المغلّظة في الحديث : » ألا وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد ، ما كان بالسّوط والعصا ، مائة من الإبل ، أربعون في بطونها أولادها « .
القتل الخطأ :
وهو مضمون بالدّية على العاقلة اتّفاقاً بالنّصّ الكريم ، وفيه كذلك الكفّارة والحرمان من الإرث والوصيّة وهذا لعموم النّصّ .
والضّمان كذلك في القتل الشّبيه بالخطأ في اصطلاح الحنفيّة ، ويتمثّل بانقلاب النّائم على شخص فيقتله ، أو انقلاب الأمّ على رضيعها فيموت بذلك .
القتل بسبب :
قال به الحنفيّة ، ويتمثّل بما لو حفر حفرةً في الطّريق ، فتردّى فيها إنسان فمات . وهو مضمون بالدّية فقط ، عندهم ، فلا كفّارة فيه ، ولا حرمان ، لانعدام القتل فيه حقيقةً ، وإنّما أوجبوا الدّية صوناً للدّماء عن الهدر .
والجمهور من الفقهاء ، يلحقون هذا النّوع من القتل بالخطأ في أحكامه ، ديةً ، وكفّارةً ، وحرماناً ، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل .
ثانياً : ضمان الجناية على ما دون النّفس :
وتتحقّق في الأطراف ، والجراح في غير الرّأس ، وفي الشّجاج .
أ - أمّا الأطراف : فحدّدت عقوبتها بالقصاص بالنّصّ ، في قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } .
وزاد مالك على ذلك التّعزير بالتّأديب ، ليتناهى النّاس .
فإذا امتنع القصاص ، بسبب العفو أو الصّلح أو لتعذّر المماثلة ، كان الضّمان بالدّية والأرش، وهو : اسم للواجب من المال فيما دون النّفس .
ب - وأمّا الجراح : فخاصّة بما كان في غير الرّأس ، فإذا كانت جائفةً ، أي بالغة الجوف ، فلا قصاص فيها اتّفاقاً ، خشية الموت .
وإذا كانت غير جائفة ، ففيها القصاص عند جمهور الفقهاء في الجملة خلافاً للحنفيّة الّذين منعوا القصاص فيها مطلقاً لتعذّر المماثلة .
فإن امتنع القصاص في الجراح ، وجبت الدّية : ففي الجائفة يجب ثلث الدّية ، لحديث : » في الجائفة ثلث العقل « .
وفي غير الجائفة حكومة عدل ، وفسّرت بأنّها أجرة الطّبيب وثمن الأدوية .
ج - وأمّا الشّجاج : وهي ما يكون من الجراح في الوجه والرّأس فإن تعذّر القصاص فيها : ففيه الأرش مقدّراً ، كما في الموضحة ، لحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، خمس من الإبل « .
وقد يكون غير مقدّر ، فتجب الحكومة .
ومذهب الجمهور : أنّ ما دون الموضحة ، ليس فيه أرش مقدّر ، لما روي : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء « . فتجب فيه الحكومة .
ومذهب أحمد أنّه ورد التّقدير في أرش الموضحة ، وفيما دونها ، كما ورد فيما فوقها فيعمل به .
ثالثاً : ضمان الجناية على الجنين :
وهي الإجهاض ، فإذا سقط الجنين ميّتاً بشروطه ، فضمانه بالغرّة اتّفاقاً ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان ، بغرّة عبد أو أمة « .
وتجب عند الجمهور في مال العاقلة خلافاً للمالكيّة والحنابلة الّذين أوجبوها في مال الجاني . ولا كفّارة فيها عند الحنفيّة ، وإنّما تندب ، وأوجبها الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الجنين آدميّ معصوم ، وإذا لم توجد الرّقبة ، انتقلت العقوبة إلى بدلها مالاً ، وهو : نصف عشر دية الرّجل ، وعشر دية المرأة .
ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :
تتمثّل الأفعال الضّارّة بالأموال في الإتلافات الماليّة ، والغصوب ، ونحوها .
ولضمان هذا النّوع من الأفعال الضّارّة ، أحكام عامّة ، وأحكام خاصّة :
أوّلاً : الأحكام العامّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :
تقوم فكرة هذا النّوع من الضّمان - خلافاً لما تقدّم في ضمان الأفعال الضّارّة بالأنفس - على مبدأ جبر الضّرر المادّيّ الحائق بالآخرين ، أمّا في تلك فهو قائم على مبدأ زجر الجناة وردع غيرهم .
والتّعبير بالضّمان عن جبر الضّرر وإزالته ، هو التّعبير الشّائع في الفقه الإسلاميّ ، وعبّر بعض الفقهاء من المتأخّرين بالتّعويض ، كما فعل ابن عابدين .
وتوسّع الفقهاء في هذا النّوع في أنواع الضّمان وتفصيل أحكامه ، حتّى أفرده البغداديّ بالتّصنيف في كتابه : مجمع الضّمانات .
ومن أهمّ قواعد الضّمان قاعدة : الضّرر يزال .
وإزالة الضّرر الواقع على الأموال يتحقّق بالتّعويض الّذي يجبر فيه الضّرر .
وقد عرّف الفقهاء الضّمان بهذا المعنى ، بأنّه : ردّ مثل الهالك أو قيمته .
وعرّفه الشّوكانيّ بأنّه : عبارة عن غرامة التّالف .
وكلا التّعريفين يستهدف إزالة الضّرر ، وإصلاح الخلل الّذي طرأ على المضرور ، وإعادة حالته الماليّة إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضّرر .
طريقة التّضمين :
القاعدة العامّة في تضمين الماليّات هي : مراعاة المثليّة التّامّة بين الضّرر ، وبين العوض ، كلّما أمكن ، قال السّرخسيّ : " ضمان العدوان مقدّر بالمثل بالنّصّ " يشير إلى قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } .
والمثل وإن كان به يتحقّق العدل ، لكن الأصل أن يردّ الشّيء الماليّ المعتدى فيه نفسه ، كلّما أمكن ، ما دام قائماً موجوداً ، لم يدخله عيب ينقص من منفعته ، وهذا الحديث الحسن، عن سمرة رضي الله تعالى عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « .
بل هذا هو الموجب الأصليّ في الغصب ، الّذي هو أوّل صور الضّرر وأهمّها .
فإذا تعذّر ردّ الشّيء بعينه ، لهلاكه أو استهلاكه أو فقده ، وجب حينئذ ردّ مثله ، إن كان مثليّاً ، أو قيمته إن كان قيميّاً .
والمثليّ هو : ما له مثل في الأسواق ، أو نظير ، بغير تفاوت يعتدّ به ، كالمكيلات ، والموزونات ، والمذروعات ، والعدديّات المتقاربة .
والقيميّ هو : ما ليس له مثل في الأسواق ، أو هو ما تتفاوت أفراده ، كالكتب المخطوطة ، والثّياب المفصّلة المخيطة لأشخاص بأعيانهم .
والمثل أعدل في دفع الضّرر ، لما فيه من اجتماع الجنس والماليّة .
والقيمة تقوم مقام المثل ، في المعنى والاعتبار الماليّ .
وقت تقدير التّضمين :
تناول الفقهاء هذه المسألة ، في المغصوب - على التّخصيص - إذا كان مثليّاً ، وفقد من السّوق ، وقد اختلفت أنظارهم فيها على الوجه التّالي :
ذهب أبو يوسف : إلى اعتبار القيمة يوم الغصب ، لأنّه لمّا انقطع من السّوق التحق بما لا مثل له ، فتعتبر قيمته يوم انعقاد السّبب ، وهو الغصب ، كما أنّ القيميّ تعتبر قيمته كذلك يوم الغصب .
وذهب محمّد : إلى اعتبار القيمة يوم الانقطاع ، لأنّ الواجب هو المثل في الذّمّة وإنّما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع ، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع .
ومذهب أبي حنيفة : اعتبار القيمة يوم القضاء ، لأنّ الواجب هو المثل ، ولا ينتقل إلى القيمة بمجرّد الانقطاع ، لأنّ للمغصوب منه أن ينتظر حتّى يوجد المثل ، بل إنّما ينتقل بالقضاء ، فتعتبر القيمة يوم القضاء .
أمّا القيميّ إذا تلف ، فتجب قيمته يوم الغصب اتّفاقاً .
أمّا في الاستهلاك : فكذلك عند الإمام وعندهما يوم الاستهلاك .
ومذهب المالكيّة : أنّ ضمان القيمة يعتبر يوم الغصب والاستيلاء على المغصوب سواء أكان عقاراً ، أم غيره ، لا يوم حصول المفوّت ، ولا يوم الرّدّ ، وسواء أكان التّلف بسماويّ أم بجناية غيره عليه .
وفي الإتلاف والاستهلاك - في غير المثليّات - كالعروض والحيوان ، تعتبر يوم الاستهلاك والإتلاف .
والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ المثليّ إذا تعذّر وجوده ، في بلده وحواليه تعتبر أقصى قيمة ، من وقت الغصب إلى تعذّر المثل ، وفي قول إلى التّلف ، وفي قول إلى المطالبة .
وإذا كان المثل مفقوداً عند التّلف ، فالأصحّ وجوب أكثر القيم من وقت الغصب إلى التّلف ، لا إلى وقت الفقد .
وأمّا المتقوّم فيضمن في الغصب بأقصى قيمة من الغصب إلى التّلف .
وأمّا الإتلاف بلا غصب ، فتعتبر قيمته يوم التّلف ، لأنّه لم يدخل في ضمانه قبل ذلك ، وتعتبر في موضع الإتلاف ، إلاّ إذا كان المكان لا يصلح لذلك كالمفازة ، فتعتبر القيمة في أقرب البلاد .
ومذهب الحنابلة : أنّه يجب ردّ قيمة المغصوب ، إن لم يكن مثليّاً ، يوم تلفه في بلد غصبه من نقده ، لأنّ ذلك زمن الضّمان وموضع الضّمان ومنصرف اللّفظ عند الإطلاق – كالدّينار- كما يقول البهوتيّ إن لم تختلف قيمة التّالف ، من حين الغصب إلى حين الرّدّ . فإن اختلفت لمعنىً في التّالف من كبر وصغر وسمن وهزال - ونحوها - ممّا يزيد في القيمة وينقص منها ، فالواجب ردّ أكثر ما تكون عليه القيمة من حين الغصب إلى حين الرّدّ، لأنّها مغصوبة في الحال الّتي زادت فيها ، والزّيادة مضمونة لمالكها .
وإن كان المغصوب مثليّاً يجب ردّ مثله ، فإن فقد المثل ، فتجب القيمة يوم انقطاع المثل ، لأنّ القيمة وجبت في الذّمّة حين انقطاع المثل ، فاعتبرت القيمة حينئذ ، كتلف المتقوّم . وقال القاضي : تجب قيمته يوم قبض البدل ، لأنّ الواجب هو المثل ، إلى حين قبض البدل ، بدليل أنّه لو وجد المثل بعد فقده ، لكان الواجب هو المثل دون القيمة ، لأنّه الأصل ، قدر عليه قبل أداء البدل ، فأشبه القدرة على الماء بعد التّيمّم
تقادم الحقّ في التّضمين :
التّقادم - أو مرور الزّمان - هو : مضيّ زمن طويل ، على حقّ أو عين في ذمّة إنسان ، لغيره دون مطالبة بهما ، مع قدرته عليها .
والشّريعة - بوجه عامّ - اعتبرت التّقادم مانعاً من سماع الدّعوى ، في الملك وفي الحقّ ، مع بقائهما على حالهما السّابقة ، ولم تعتبره مكسباً لملكيّة أو قاطعاً لحقّ .
فيقول الحصكفيّ : القضاء مظهر لا مثبت ، ويتخصّص بزمان ومكان وخصومة حتّى لو أمر السّلطان بعدم سماع الدّعوى ، بعد خمس عشرة سنةً ، فسمعها القاضي ، لم ينفذ .
ونقل ابن عابدين عن الأشباه وغيرها ، أنّ الحقّ لا يسقط بتقادم الزّمان .
فبناءً على هذا يقال : إذا لم يرفع الشّخص المضرور دعوى ، يطالب فيها بالضّمان أو التّعويض عن الضّرر ، ممّن ألحقه به ، مدّة خمسة عشر عاماً ، سقط حقّه ، قضاءً فقط لا ديانةً ، في إقامة الدّعوى من جديد ، إلاّ إذا كان المضرور غائباً ، أو كان مجنوناً أو صبيّاً وليس له وليّ ، أو كان المدّعى عليه حاكماً جائراً ، أو كان ثابت الإعسار خلال هذه المدّة ، ثمّ أيسر بعدها ، فإنّه يبقى حقّه في إقامة الدّعوى قائماً ، مهما طال الزّمن بسبب العذر ، الّذي ينفي شبهة التّزوير .
وكذلك إذا أمر السّلطان العادل نفسه بسماع هذه الدّعوى ، بعد مضيّ خمسة عشر عاماً أو سمعها بنفسه - كما يقول ابن عابدين - حفظاً لحقّ المضرور ، إذا لم يظهر منه ما يدلّ على التّزوير .
وكذلك إذا أقرّ الخصم بحقّ المضرور في الضّمان ، والتّعويض عن الضّرر ، بعد مضيّ هذه المدّة ، فإنّه يتلاشى بذلك مضيّ الزّمن ويسقط لظهور الحقّ بإقراره وهذا كما جاء في كتب الحنفيّة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق