بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

18 يونيو 2010

 مكتب / محمد جابر عيسى المحامى


الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الثامن








انتفاء الضّمان :



ينتفي الضّمان - بوجه عامّ - بأسباب كثيرة ، من أهمّها :



أ - دفع الصّائل :



يشترط في دفع الصّائل ، لانتفاء الإثم وانتفاء الضّمان - بوجه عامّ - ما يلي :



1 - أن يكون الصّول حالاً ، والصّائل شاهراً سلاحه أو سيفه ، ويخاف منه الهلاك ، بحيث لا يمكن المصول عليه ، أن يلجأ إلى السّلطة ليدفعه عنه .



2 - أن يسبقه إنذار وإعلام للصّائل ، إذا كان ممّن يفهم الخطاب كالآدميّ ، وذلك بأن يناشده اللّه ، فيقول : ناشدتك اللّه إلاّ ما خلّيت سبيلي ، ثلاث مرّات ، أو يعظه ، أو يزجره لعلّه ينكفّ ، فأمّا غيره ، كالصّبيّ والمجنون - وفي حكمهما البهيمة - فإنّ إنذارهم غير مفيد ، وهذا ما لم يعاجل بالقتال ، وإلاّ فلا إنذار ، قال الخرشيّ : والظّاهر أنّ الإنذار مستحبّ ، وهو الّذي قاله الدّردير : بعد الإنذار ندباً .



وقال الغزاليّ : ويجب تقديم الإنذار ، في كلّ دفع ، إلاّ في مسألة النّظر إلى حرم الإنسان من كوّة .



3 - كما يشترط أن يكون الدّفع على سبيل التّدرّج : فما أمكن دفعه بالقول لا يدفع بالضّرب، وما أمكن دفعه بالضّرب لا يدفع بالقتل ، وذلك تطبيقاً للقواعد الفقهيّة المقرّرة في نحو هذا ، كقاعدة الضّرر الأشدّ يزال بالضّرر الأخفّ .



4 - وشرط المالكيّة أن لا يقدر المصول عليه على الهروب ، من غير مضرّة تحصل له ، فإن كان يقدر على ذلك بلا مضرّة ولا مشقّة تلحقه ، لم يجز له قتل الصّائل ، بل ولا جرحه، ويجب هربه منه ارتكاباً لأخفّ الضّررين .



الضّمان في دفع الصّائل :



ذهب الجمهور إلى أنّه إن أدّى دفع الصّائل إلى قتله ، فلا شيء على الدّافع .



ب - حال الضّرورة :



الضّرورة : نازلة لا مدفع لها ، أو كما يقول أهل الأصول : نازلة لا مدفع لها إلاّ بارتكاب محظور يباح فعله لأجلها .



ومن النّصوص الواردة في أحوال الضّرورة :



1 - حريق وقع في محلّة ، فهدم رجل دار غيره ، بغير أمر صاحبه ، وبغير إذن من السّلطان ، حتّى ينقطع عن داره ، ضمن ولم يأثم .



قال الرّمليّ : وفيه دليل على أنّه لو كان بأمر السّلطان لا يضمن ، ووجهه : أنّ له ولايةً عامّةً ، يصحّ أمره لدفع الضّرر العامّ . وبه صرّح في الخانيّة .



2 - يجوز أكل الميتة كما يجوز أكل مال الغير مع ضمان البدل إذا اضطرّ .



3 - لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ، ينظر إلى أكثرهما قيمةً ، فيضمن صاحب الأكثر قيمة الأقلّ .



4 - إذا مضت مدّة الإجارة ، والزّرع بقل ، لم يحصد بعد ، فإنّه يترك بالقضاء أو الرّضى ، بأجر المثل إلى إدراكه رعايةً للجانبين ، لأنّ له نهايةً .



ج - حال تنفيذ الأمر :



يشترط لانتفاء الضّمان عن المأمور وثبوته على الآمر ، ما يلي :



1 - أن يكون المأمور به جائز الفعل ، فلو لم يكن جائزاً فعله ضمن الفاعل لا الآمر ، فلو أمر غيره بتخريق ثوب ثالث ضمن المخرّق لا الآمر .



2 - أن تكون للآمر ولاية على المأمور ، فإن لم تكن له ولاية عليه ، وأمره بأخذ مال غيره فأخذه ، ضمن الآخذ لا الآمر ، لعدم الولاية عليه أصلاً ، فلم يصحّ الأمر ، وفي كلّ موضع لم يصحّ الأمر كان الضّمان على المأمور ، ولم يضمن الآمر .



وإذا صحّ الأمر بالشّرطين السّابقين ، وقع الضّمان على الآمر ، وانتفى عن المأمور ولو كان مباشراً ، لأنّه معذور لوجوب طاعته لمن هو في ولايته ، كالولد إذا أمره أبوه ، والموظّف إذا أمره رئيسه .



قال الحصكفيّ : الآمر لا ضمان عليه بالأمر ، إلاّ إذا كان الآمر سلطاناً أو أباً أو سيّداً ، أو كان المأمور صبيّاً أو عبداً .



وكذا إذا كان مجنوناً ، أو كان أجيراً للآمر .



د - حال تنفيذ إذن المالك وغيره :



الأصل أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرّف في ملك الغير بلا إذنه ، فإن أذن وترتّب على الفعل المأذون به ضرر انتفى الضّمان ، لكن ذلك مشروط : بأن يكون الشّيء المأذون بإتلافه مملوكاً للآذن ، أو له ولاية عليه .



وأن يكون الآذن بحيث يملك هو التّصرّف فيه ، وإتلافه ، لكونه مباحاً له .



وعبّر المالكيّة عن ذلك بأن يكون الإذن معتبراً شرعاً .



وقال الشّافعيّة : ممّن يعتبر إذنه ، فلو انتفى الإذن أصلاً ، كما لو استخدم سيّارة غيره بغير إذنه ، أو قاد دابّته ، أو ساقها ، أو حمل عليها شيئاً ، أو ركبها فعطبت ، فهو ضامن .



أو انتفى الملك - كما لو أذن شخص لآخر بفعل ترتّب عليه إتلاف ملك غيره - ضمن المأذون له ، لأنّه لا يجوز التّصرّف في مال غيره بلا إذنه ولا ولايته .



ولو أذن الآخر بإتلاف ماله ، فأتلفه فلا ضمان ، كما لو قال له : أحرق ثوبي ففعل ، فلا يغرم ، إلاّ الوديعة إذا أذن له بإتلافها يضمنها ، لالتزامه حفظها ، ولو داوى الطّبيب صبيّاً بإذن من الصّبيّ نفسه ، فمات أو عطب ، ضمن الطّبيب ، ولو كان الطّبيب عالماً ، ولو لم يقصّر ، ولو أصاب وجه العلم والصّنعة لأنّ إذن الصّبيّ غير معتبر شرعاً .



وكذا لو أذن الرّشيد لطبيب في قتله ففعل ، لأنّ هذا الإذن غير معتبر شرعاً ، وهذا عند المالكيّة .



وقال الحنفيّة : لو قال له اقتلني فقتله ، ضمن ديته ، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفس ، لأنّ الإنسان لا يملك إتلاف نفسه ، لأنّه محرّم شرعاً ، لكن يسقط القصاص ، لشبهة الإذن ، كما يقول الحصكفيّ ، وهو قول للشّافعيّة .



وفي قول للحنفيّة : لا تجب الدّية أيضاً ، وهو قول سحنون من المالكيّة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، فهو هدر للإذن ، وفي قول ابن قاسم : يقتل ، وهو قول الحنفيّة .



هـ – حال تنفيذ أمر الحاكم أو إذنه :



إذا ترتّب على تنفيذ أمر الحاكم ، أو إذنه بالفعل ضرر ، ففيه خلاف وتفصيل .



فلو حفر حفرةً في طريق المسلمين العامّ ، أو في مكان عامّ لهم ، كالسّوق والمنتدى والمحتطب والمقبرة ، أو أنشأ بناءً ، أو شقّ ترعةً ، أو نصب خيمةً ، فعطب بها رجل ، أو تلف بها إنسان ، فديته على عاقلة الحافر ، وإن تلف بها حيوان ، فضمانه في ماله ، لأنّ ذلك تعدّ وتجاوز ، وهو محظور في الشّرع صيانةً لحقّ العامّة لا خلاف في ذلك .



فإن كان ذلك بإذن الحاكم أو أمره أو أمر نائبه : فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يضمن ، لأنّه غير متعدّ حينئذ ، فإنّ للإمام ولايةً عامّةً على الطّريق ، إذ ناب عن العامّة ، فكان كمن فعله في ملكه .



وقال المالكيّة : لو حفر بئراً في طريق المسلمين فتلف فيها آدميّ أو غيره ضمن الحافر لتسبّبه في تلفه ، أذن السّلطان أو لم يأذن ويمنع من ذلك البناء .



وقال الشّافعيّة : لو حفر بطريق ضيّق يضرّ المارّة فهو مضمون وإن أذن فيه الإمام ، إذ ليس له الإذن فيما يضرّ ، ولو حفر في طريق لا يضرّ المارّة وأذن فيه الإمام فلا ضمان ، سواء حفر لمصلحة نفسه أو لمصلحة المسلمين ، وإن لم يأذن فإن حفر لمصلحته فقط فالضّمان فيه ، أو لمصلحة عامّة فلا ضمان في الأظهر لجوازه ، ومقابل الأظهر : فيه الضّمان ، لأنّ الجواز مشروط بسلامة العاقبة .



وفصّل الحنابلة ناظرين إلى الطّريق : فإن كان الطّريق ضيّقاً ، فعليه ضمان من هلك به ، لأنّه متعدّ ، سواء أذن الإمام أو لم يأذن ، فإنّه ليس للإمام الإذن فيما يضرّ بالمسلمين ، ولو فعل ذلك الإمام ، يضمن ما تلف به ، التّعدية .



وإن كان الطّريق واسعاً ، فحفر في مكان يضرّ بالمسلمين ، فعليه الضّمان كذلك .



وإن حفر في مكان لا ضرر فيه ، نظرنا : فإن حفر لنفسه ، ضمن ما تلف بها ، سواء حفرها بإذن الإمام ، أو بغير إذنه وإن حفرها لنفع المسلمين - كما لو حفرها لينزل فيها ماء المطر ، أو لتشرب منه المارّة - فلا يضمن ، إذا كان بإذن الإمام ، وإن كان بغير إذنه، ففيه روايتان :



إحداهما : أنّه لا يضمن .



والأخرى : أنّه يضمن ، لأنّه افتات على الإمام .



الضّمان في الزّكاة :



في ضمان زكاة المال ، إذا هلك النّصاب حالتان :



الحالة الأولى :



لو هلك المال بعد تمام الحول ، والتّمكّن من الأداء :



فذهب الجمهور ، إلى أنّ الزّكاة تضمن بالتّأخير ، وعليه الفتوى عند الحنفيّة .



وذهب بعض الحنفيّة كأبي بكر الرّازيّ ، إلى عدم الضّمان في هذه الحال ، لأنّ وجوب الزّكاة على التّراخي ، وذلك لإطلاق الأمر بالزّكاة ، ومطلق الأمر لا يقتضي الفور ، فيجوز للمكلّف تأخيره ، كما يقول الكمال .



الحالة الثّانية :



لو أتلف المالك المال بعد الحول ، قبل التّمكّن من إخراج الزّكاة ، فإنّها مضمونة عند الجمهور أيضاً ، وهو الّذي أطلقه النّوويّ ، وأحد قولين عند الحنفيّة ، لأنّها كما قال البهوتيّ استقرّت بمضيّ الحول ، وعلّله الحنفيّة بوجود التّعدّي منه .



والقول الآخر عند الحنفيّة : أنّه لا يضمن .



لو دفع المزكّي زكاته بتحرّ ، إلى من ظنّ أنّه مصرفها ، فبان غير ذلك ففي الإجزاء أو عدمه أي الضّمان خلاف .



الضّمان في الحجّ عن الغير :



ذهب جمهور الفقهاء ، إلى جواز الاستئجار على الحجّ ، وفي تضمين من يحجّ عن غيره التّفصيل التّالي :



أ - إذا أفسد الحاجّ عن غيره حجّه متعمّداً ، بأن بدا له فرجع من بعض الطّريق أو جامع قبل الوقوف ، فإنّه يغرم ما أنفق على نفسه من المال ، لإفساده الحجّ ، ويعيده من مال نفسه عند الحنفيّة .



وقال النّوويّ : إذا جامع الأجير فسد حجّه ، وانقلب له ، فتلزمه الكفّارة ، والمضيّ في فاسده ، هذا هو المشهور .



وصرّح الجمل بأنّه لا شيء له على المستأجر ، لأنّه لم ينتفع بما فعله ، وأنّه مقصّر .



وقال المقدسيّ : ويردّ ما أخذ من المال ، لأنّ الحجّة لم تجزئ عن المستنيب ، لتفريطه وجنابته .



ب - إذا أحصر الحاجّ عن غيره ، فله التّحلّل وفي دم الإحصار خلاف :



فعند أبي حنيفة ومحمّد ، وهو أحد وجهين عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة : أنّه على الآمر ، لأنّه للتّخلّص من مشقّة السّفر ، فهو كنفقة الرّجوع ولوقوع النّسك له ، مع عدم إساءة الأجير .



وعند أبي يوسف ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة أنّه في ضمان الأجير ، كما لو أفسده .



ج - إذا فاته الحجّ ، بغير تقصير منه بنوم ، أو تأخّر عن القافلة ، أو غيرهما ، من غير إحصار ، بل بآفة سماويّة ، لا يضمن عند الحنفيّة النّفقة ، لأنّه فاته بغير صنعه ، وعليه الحجّ من قابل ، لأنّ الحجّة وجبت عليه بالشّروع ، فلزمه قضاؤها .



قال النّوويّ : ولا شيء للأجير في المذهب .



دم القران والتّمتّع :



اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه دم القران والتّمتّع في الحجّ عن الغير :



قال الحنفيّة : دم القران والتّمتّع على الحاجّ - أي المأمور بالحجّ عن غيره - إن أذن له الآمر بالقران والتّمتّع ، وإلاّ فيصير مخالفاً ، فيضمن النّفقة .



وللشّافعيّة تفصيل وتفرقة بين ما إذا كانت الإجارة على الذّمّة أو العين ، وكان قد أمره بالحجّ ، فقرن أو تمتّع .



وقال الحنابلة : دم التّمتّع والقران على المستنيب ، إن أذن له فيهما ، وإن لم يؤذن فعليه .



أمّا ما يلزم من الدّماء بفعل المحظورات فعلى الحاجّ وهو المأمور لأنّه لم يؤذن له في الجناية ، فكان موجبها عليه ، كما لو لم يكن نائباً .



وكلّ ما لزمه بمخالفته ، فضمانه منه كما يقول البهوتيّ .



الضّمان في الأضحيّة :



لو مضت أيّام الأضحيّة ، ولم يذبح أو ذبح شخص أضحيّة غيره بغير إذنه



ضمان صيد الحرم :



نهى الشّارع عن صيد المحرم ، بحجّ أو عمرة ، حيواناً برّيّاً ، إذا كان مأكول اللّحم - عند الجمهور - من طير أو دابّة ، سواء أصيد من حرم أم من غيره ، وذلك بقوله تعالى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } .



وأطلق المالكيّة عدم جواز قتل شيء من صيد البرّ ، ما أكل لحمه وما لم يؤكل ، لكنّهم أجازوا - كالجمهور - قتل الحيوانات المضرّة : كالأسد ، والذّئب ، والحيّة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور ، بل استحبّ الحنابلة قتلها ، ولا يقتل ضبّ ولا خنزير ولا قرد ، إلاّ أن يخاف من عاديته .



وأوجب الشّارع في الصّيد المنهيّ عنه بالحرم وبالنّسبة للمحرم ضمان مثل الحيوان المصيد من الأنعام ، فيذبحه في الحرم ويتصدّق به ، أو ضمان قيمته من الطّعام - إن لم يكن له مثل - فيتصدّق بالقيمة ، أو صيام يوم عن طعام كلّ مسكين ، وهو المدّ عند الشّافعيّة ، ونصف الصّاع من البرّ ، أو الصّاع من الشّعير عند الحنفيّة .



وهذا التّخيير في الجزاء ، لقوله تعالى : { فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } ... الآية .



ضمان الطّبيب ونحوه :



مثل الطّبيب : الحجّام ، والختّان ، والبيطار ، وفي ضمانهم خلاف :



يقول الحنفيّة : في الطّبيب إذا أجرى جراحةً لشخص فمات ، إذا كان الشّقّ بإذن ، وكان معتاداً ، ولم يكن فاحشاً خارج الرّسم ، لا يضمن .



وقالوا : لو قال الطّبيب : أنا ضامن إن مات لا يضمن ديته لأنّ اشتراط الضّمان على الأمين باطل ، أو لأنّ هذا الشّرط غير مقدور عليه ، كما هو شرط المكفول به .



وقال ابن نجيم : قطع الحجّام لحماً من عينه ، وكان غير حاذق ، فعميت ، فعليه نصفا الدّية.



وقال المالكيّة : في الطّبيب والبيطار والحجّام ، يختن الصّبيّ ، ويقلع الضّرس ، فيموت صاحبه لا ضمان على هؤلاء ، لأنّه ممّا فيه التّعزير ، وهذا إذا لم يخطئ في فعله ، فإن أخطأ فالدّية على عاقلته .



وينظر : فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه ، وإن كان غير عارف ، وغرّ من نفسه ، فيؤدّب بالضّرب والسّجن ، وقالوا : الطّبيب إذا جهل أو قصّر ضمن ، والضّمان على العاقلة، وكذا إذا داوى بلا إذن ، أو بلا إذن معتبر ، كالصّبيّ .



وقال الشّافعيّ : في الحجّام والختّان ونحوهما : إن كان فعل ما يفعله مثله ، ممّا فيه الصّلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصّناعة ، فلا ضمان عليه ، وله أجره .



وإن كان فعل ما لا يفعله مثله ، كان ضامناً ، ولا أجر له في الأصحّ .



وللشّافعيّة في الختان تفصيل بين الوليّ وغيره : فمن ختنه في سنّ لا يحتمله ، لزمه القصاص ، إلاّ الوالد وإن احتمله ، وختنه وليّ ختان ، فلا ضمان عليه في الأصحّ .



ضمان المعزّر :



قال الحنفيّة : من عزّره الإمام فهلك ، فدمه هدر ، وذلك لأنّ الإمام مأمور بالتّعزير، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة في التّعزير الواجب ، وقيّده جمهور المالكيّة بأن يظنّ الإمام سلامته ، وإلاّ ضمن ، وكذلك الشّافعيّة يرون التّعزير مقيّداً بسلامة العاقبة .



ومعنى هذا : أنّ التّعزير إذا أفضى إلى التّلف لا يضمن عند الجمهور بشرط ظنّ سلامة العاقبة ، لأنّه مأذون فيه ، فلا يضمن ، كالحدود ، وهذا ما لم يسرف ، كما نصّ عليه الحنابلة بأن يجاوز المعتاد ، أو ما يحصل به المقصود ، أو يضرب من لا عقل له من صبيّ أو مجنون أو معتوه ، فإنّه يضمن حينئذ ، لأنّه غير مأذون بذلك شرعاً .



ضمان المؤدّب والمعلّم :



ذهب الفقهاء إلى منع التّأديب والتّعليم بقصد الإتلاف وترتّب المسئوليّة على ذلك ، واختلفوا في حكم الهلاك من التّأديب المعتاد .



ضمان قطّاع الطّريق :



اختلف الفقهاء في تضمين قطّاع الطّريق ما أخذوه من الأموال أثناء الحرابة ، وذلك بعد إقامة الحدّ عليهم فذهب جمهور الفقهاء إلى تضمينهم .



ضمان البغاة :



لا خلاف في أنّ العادل إذا أصاب من أهل البغي ، من دم أو جراحة ، أو مال استهلكه أنّه لا ضمان عليه ، وذلك في حال الحرب وحال الخروج ، لأنّه ضرورة ، ولأنّا مأمورون بقتالهم ، فلا نضمن ما تولّد منه .



أمّا إذا أصاب الباغي من أهل العدل شيئاً من نفس أو مال فمذهب الجمهور - وهو الرّاجح عند الشّافعيّة - أنّه موضوع ، ولا ضمان فيه .



وفي قول للشّافعيّة : أنّه مضمون ، يقول الرّمليّ من الشّافعيّة : لو أتلفوا علينا نفساً أو مالاً ضمنوه ، وعلّق عليه الشّبراملّسي بقوله : أي بغير القصاص ، وعلّله الشّربينيّ بأنّهما فرقتان من المسلمين ، محقّة ومبطلة ، فلا يستويان في سقوط الغرم ، كقطّاع الطّريق ، لشبهة تأويلها .



واستدلّ الجمهور بما روي عن الزّهريّ ، أنّه قال : وقعت الفتنة ، وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فاتّفقوا على أنّ كلّ دم استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع، وكلّ مال استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع .



قال الكاسانيّ : ومثله لا يكذب ، فوقع الإجماع من الصّحابة - رضي الله عنهم - على ذلك، وهو حجّة قاطعة .



ولأنّ الولاية من الجانبين منقطعة ، لوجود المنعة ، فلم يكن وجوب الضّمان مفيداً لتعذّر الاستيفاء ، فلم يجب .



ولأنّ تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم من الرّجوع إلى الطّاعة فسقط ، كأهل الحرب ، أو كأهل العدل .



هذا الحكم في حال الحرب ، أمّا في غير حال الحرب ، فمضمون .



ضمان السّارق للمسروق :



لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المسروق إن كان قائماً فإنّه يجب ردّه إلى من سرق منه .



ضمان إتلاف آلات اللّهو :



آلة اللّهو : كالمزمار ، والدّفّ ، والبربط ، والطّبل ، والطّنبور ، وفي ضمانها بعض الخلاف :



فمذهب الجمهور ، والصّاحبين من الحنفيّة ، أنّها لا تضمن بالإتلاف وذلك : لأنّها ليست محترمةً ، لا يجوز بيعها ولا تملّكها ، ولأنّها محرّمة الاستعمال ، ولا حرمة لصنعتها . ومذهب أبي حنيفة أنّه يضمن بكسرها قيمتها خشباً منحوتاً صالحاً لغير اللّهو لا مثلها ، ففي الدّفّ يضمن قيمته دفّاً يوضع فيه القطن ، وفي البربط يضمن قيمته قصعة ثريد .



ويصحّ بيعها ، لأنّها أموال متقوّمة لصلاحيّتها بالانتفاع بها في غير اللّهو ، فلم تناف الضّمان ، كالأمة المغنّية ، بخلاف الخمر فإنّها حرام لعينها ، والفتوى على مذهب الصّاحبين، أنّه لا يضمنها ، ولا يصحّ بيعها .



قالوا : وأمّا طبل الغزاة والصّيّادين والدّفّ الّذي يباح ضربه في العرس ، فمضمون اتّفاقاً ، كالأمة المغنّية ، والكبش النّطوح ، والحمامة الطّيّارة ، والدّيك المقاتل .



حيث تجب قيمتها غير صالحة لهذا الأمر .



وذكر ابن عابدين ، أنّ هذا الاختلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه إنّما هو : في الضّمان ، دون إباحة إتلاف المعازف ، وفيما يصلح لعمل آخر ، وإلاّ لم يضمن شيئاً اتّفاقاً ، وفيما إذا فعل بغير إذن الإمام ، وإلاّ لم يضمن اتّفاقاً .



وفي غير عود المغنّي وخابية الخمّار ، لأنّه لو لم يكسرها لعاد لفعله القبيح ، وفيما إذا كان لمسلم ، فلو لذمّيّ ضمن اتّفاقاً قيمته بالغاً ما بلغ ، وكذا لو كسر صليبه ، لأنّه مال متقوّم في حقّه .



ضمان ما يترتّب على ترك الفعل :



لمال المسلم حرمة كما لنفسه ، وقد اختلف الفقهاء في تضمين من يترك فعلاً من شأنه إنقاذ مال المسلم من الضّياع ، أو نفسه من الهلاك .



ترك الشّهادة والرّجوع عنها :



ذهب الفقهاء إلى أنّ من يترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ الّذي طلبت من أجله آثم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .



ونصّ المالكيّة على أنّ من ترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ يضمن .



قطع الوثائق :



نصّ المالكيّة على أنّه إذا قطع وثيقةً ، فضاع ما فيها من الحقوق ، فهو ضامن ، لتسبّبه في الإتلاف وضياع الحقّ ، سواء أفعل ذلك عمداً أم خطأً ، لأنّ العمد أو الخطأ في أموال النّاس سواء - كما يقول الدّسوقيّ - وكذا إذا أمسك الوثيقة بمال ، أو عفو عن دم . ولو قتل شاهدي الحقّ ، أو قتل أحدهما وهو لا يثبت إلاّ بشهادتهما ، فالأظهر أنّه يغرم جميع الحقّ ، وجميع المال وفي قتله تردّد .



تضمين السّعاة :



إذا سعى لدى السّلطان لدفع أذاه عنه ، ولا يرتفع أذاه إلاّ بذلك ، أو سعى بمن يباشر الفسق ولا يمتنع بنهيه فلا ضمان في ذلك ، عند الحنفيّة .



وإذا سعى لدى السّلطان ، وقال : إنّ فلاناً وجد كنزاً ، فغرّمه السّلطان ، فظهر كذبه ، ضمن، إلاّ إن كان السّلطان عدلاً ، أو قد يغرم أو لا يغرم ، لكن الفتوى اليوم - كما نقل ابن عابدين عن المنح - بوجوب الضّمان على السّاعي مطلقاً .



والسّعاية الموجبة للضّمان : أن يتكلّم بكذب يكون سبباً لأخذ المال من شخص ، أو كان صادقاً لكن لا يكون قصده إقامة الحسبة كما لو قال : وجد مالاً وقد وجد المال ، فهذا يوجب الضّمان ، إذ الظّاهر أنّ السّلطان يأخذ منه المال بهذا السّبب .



ولو كان السّلطان يغرم ألبتّة بمثل هذه السّعاية ، ضمن .



وكذا يضمن لو سعى بغير حقّ - عند محمّد - زجراً للسّاعي ، وبه يفتى ويعزّر ولو مات السّاعي فللمسعى به أن يأخذ قدر الخسران من تركته ، وهو الصّحيح ، وذلك دفعاً للفساد وزجراً للسّاعي ، وإن كان غير مباشر ، فإنّ السّعي سبب محض لإهلاك المال ، والسّلطان يغرّمه اختياراً لا طبعاً .



ونقل الرّمليّ عن القنية : شكا عند الوالي بغير حقّ ، فضرب المشكوّ عليه ، فكسر سنّه أو يده ، يضمن الشّاكي أرشه ، كالمال .



وتعرّض المالكيّة لمسألة الشّاكي للحاكم ممّن ظلمه ، كالغاصب وقالوا : إذا شكاه إلى حاكم ظالم ، مع وجود حاكم منصف ، فغرّمه الحاكم زائداً عمّا يلزمه شرعاً ، بأن تجاوز الحدّ الشّرعيّ ، قالوا : يغرم .



وفي فتوى : أنّه يضمن الشّاكي جميع ما غرّمه السّلطان الظّالم للمشكوّ .



وفي قول ثالث : أنّه لا يضمن الشّاكي شيئاً مطلقاً ، وإن ظلم في شكواه ، وإن أثم وأدّب . ونصّ الحنابلة على أنّه لو غرم إنسان ، بسبب كذب عليه عند وليّ الأمر ، فللغارم تغريم الكاذب عليه لتسبّبه في ظلمه ، وله الرّجوع على الآخذ منه ، لأنّه المباشر .



إلقاء المتاع من السّفينة :



قال الحنفيّة : إذا أشرفت سفينة على الغرق ، فألقى بعضهم حنطة غيره في البحر، حتّى خفّت السّفينة ، يضمن قيمتها في تلك الحال ، أي مشرفةً على الغرق ، ولا شيء على الغائب الّذي له مال فيها ، ولم يأذن بالإلقاء ، فلو أذن بالإلقاء ، بأن قال : إذا تحقّقت هذه الحال فألقوا ، اعتبر إذنه .



وقالوا : إذا خشى على الأنفس ، فاتّفقوا على إلقاء الأمتعة فالغرم بعدد الرّءوس إذا قصد حفظ الأنفس خاصّةً - كما يقول ابن عابدين - لأنّها لحفظ الأنفس ، وهذا اختيار الحصكفيّ وهو أحد أقوال ثلاثة ، ثانيها : أنّه على الأملاك مطلقاً ، ثالثها عكسه .



ولو خشى على الأمتعة فقط - بأن كانت في موضع لا تغرق فيه الأنفس - فهي على قدر الأموال ، وإذا خشى عليهما ، فهي على قدرهما ، فمن كان غائباً ، وأذن بالإلقاء ، اعتبر ماله ، لا نفسه .



ومن كان حاضرًا بماله اعتبر ماله ونفسه فقط .



ومن كان بنفسه فقط اعتبر نفسه .



وقال المالكيّة : إذا خيف على السّفينة الغرق ، جاز طرح ما فيها من المتاع ، أذن أربابه أو لم يأذنوا ، إذا رجا بذلك نجاته ، وكان المطروح بينهم على قدر أموالهم ، ولا غرم على من طرحه .



وقال الشّافعيّة : إذا أشرفت سفينة فيها متاع وركاب على غرق ، وخيف هلاك الرّكاب ، جاز إلقاء بعض المتاع في البحر ، لسلامة البعض الآخر : أي لرجائها ، وقال البلقينيّ : بشرط إذن المالك .



وقال النّوويّ : ويجب لرجاء نجاة الرّاكب .



وقالوا - أيضاً - ويجب إلقاؤه - وإن لم يأذن مالكه - إذا خيف الهلاك لسلامة حيوان محترم ، بخلاف غير المحترم ، كحربيّ ومرتدّ .



ويجب إلقاء حيوان ، ولو محترماً ، لسلامة آدميّ محترم ، إن لم يمكن دفع الغرق بغير إلقائه .



وقال الأذرعيّ : ينبغي أن يراعي في الإلقاء تقديم الأخسّ فالأخسّ قيمةً من المتاع إن أمكن، حفظاً للمال ما أمكن ، قالوا : وهذا إذا كان الملقي غير المالك .



وقالوا : يجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي روح ، وإلقاء الدّوابّ لإبقاء الآدميّين .



وإذا اندفع الغرق بطرح بعض المتاع اقتصر عليه .



قال النّوويّ في منهاجه : فإن طرح مال غيره بلا إذن ضمنه ، وإلاّ فلا ، كأكل المضطرّ طعام غيره بغير إذنه .



قالوا : ولو قال : ألق متاعك عليّ ضمانه ، أو على أنّي ضامن ضمن ، ولو اقتصر على : ألق ، فلا ، على المذهب - لعدم الالتزام - .



والحنابلة قالوا بهذه الفروع :



أ - إذا ألقى بعض الرّكبان متاعه ، لتخفّ السّفينة وتسلم من الغرق ، لم يضمّنه أحد ، لأنّه أتلف متاع نفسه باختياره ، لصلاحه وصلاح غيره .



ب - وإن ألقى متاع غيره بغير أمره ، ضمنه وحده .



ج - وإن قال لغيره : ألق متاعك فقبل منه ، لم يضمنه له ، لأنّه لم يلتزم ضمانه .



د - وإن قال : ألق وأنا ضامن له ، أو : وعليّ قيمته ، لزمه ضمانه ، لأنّه أتلف ماله بعوض لمصلحته ، فوجب له العوض على ما التزمه .



هـ – وإن قال : ألقه وعليّ وعلى ركبان السّفينة ضمانه ، فألقاه ، ففيه وجهان :



أحدهما : يلزمه ضمانه وحده ، لأنّه التزم ضمانه جميعه ، فلزمه ما التزمه ، وقال القاضي: إن كان ضمان اشتراك ، مثل أن يقول : نحن نضمن لك أو على كلّ واحد منّا ضمان قسطه لم يلزمه إلاّ ما يخصّه من الضّمان لأنّه لم يضمن إلاّ حصّته ، وإنّما أخبر عن الباقين بالضّمان ، فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان .



وإن التزم ضمان الجميع ، وأخبر عن كلّ واحد منهم بمثل ذلك ، لزمه ضمان الكلّ .



منع المالك عن ملكه حتّى يهلك :



مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، في مسألة منع المالك عن ملكه حتّى يهلك ، وإزالة يده عنه ، هو عدم الضّمان .



قال الحنفيّة : لو منع المالك عن أمواله حتّى هلكت ، يأثم ، ولا يضمن .



نقل هذا ابن عابدين عن ابن نجيم في البحر ، وعلّله بأنّ الهلاك لم يحصل بنفس فعله ، كما لو فتح القفص فطار العصفور ، فإنّه لا يضمن ، لأنّ الطّيران بفعل العصفور ، لا بنفس فتح الباب .



والمنصوص في مسألة فتح القفص ، أنّه قول أبي حنيفة ، وفي قول محمّد يضمن ، وبه كان يفتي أبو القاسم الصّفّار .



واستدلّ بهذه المسألة صاحب البحر ، على أنّه لا يلزم من الإثم الضّمان .



وقال الشّافعيّة : إن حبس المالك عن الماشية لا ضمان فيه ، وكذا لو منع مالك زرع أو دابّة من السّقي ، فهلك لا ضمان في ذلك .



ويبدو أنّ مذهب المالكيّة في مسألة منع المالك ، هو الضّمان ، للتّسبّب في الإتلاف .



وهو أيضاً مذهب الحنابلة ، إذ علّلوا الضّمان بأنّه لتسبّبه بتعدّيه .



ومن فروعهم في ذلك : أنّه لو أزال يد إنسان عن حيوان فهرب يضمنه ، لتسبّبه في فواته، أو أزال يده الحافظة لمتاعه حتّى نهبه النّاس ، أو أفسدته النّار ، أو الماء ، يضمنه .



وقالوا : لربّ المال تضمين فاتح الباب لتسبّبه في الإضاعة ، والقرار على الآخذ لمباشرته . فإن ضمّن ربّ المال الآخذ لم يرجع على أحد ، وإن ضمّن الفاتح رجع على الآخذ .



تضمين المجتهد والمفتي :



قال المالكيّة : لا شيء على مجتهد أتلف شيئاً بفتواه .



أمّا غير المجتهد ، فيضمن إن نصّبه السّلطان أو نائبه للفتوى ، لأنّها كوظيفة عمل قصّر فيها .



وإن لم يكن منتصباً للفتوى ، وهو مقلّد ، ففي ضمانه قولان ، مبنيّان على الخلاف في الغرور القوليّ : هل يوجب الضّمان ، أو لا ؟ والمشهور عدم الضّمان .



والظّاهر – كما نقل الدّسوقيّ – أنّه إن قصّر في مراجعة النّقول ، ضمن ، وإلاّ فلا ، ولو صادف خطؤه ، لأنّه فعل مقدوره ، ولأنّ المشهور عدم الضّمان بالغرور القوليّ .



ونصّ السّيوطيّ على أنّه : لو أفتى المفتي إنساناً بإتلاف ، ثمّ تبيّن خطؤه كان الضّمان على المفتي .



تفويت منافع الإنسان وتعطيلها :



تعطيل المنفعة : إمساكها بدون استعمال ، أمّا استيفاؤها فيكون باستعمالها ، والتّفويت تعطيل ، ويفرّق جمهور الفقهاء بين استيفاء منافع الإنسان ، وبين تفويتها ، بوجه عامّ في تفصيل :



فنصّ المالكيّة على أنّ تعطيل منافع الإنسان وتفويتها ، لا ضمان فيه ، كما لو حبس امرأةً حتّى منعها من التّزوّج ، أو الحمل من زوجها ، أو حبس الحرّ حتّى فاته عمل من تجارة ونحوها ، لا شيء عليه .



أمّا لو استوفى المنفعة ، كما لو وطئ البضع أو استخدم الحرّ فإنّه يضمن ذلك ، فعليه في وطء الحرّة صداق مثلها ، ولو كانت ثيّباً ، وعليه في وطء الأمة ما نقصها ، ونصّ الشّافعيّة على أنّ منفعة البضع لا تضمن إلاّ بالتّفويت بالوطء ، وتضمن بمهر المثل ، ولا تضمن بفوات ، لأنّ اليد لا تثبت عليها ، إذ اليد في بضع المرأة لها ، وكذا منفعة بدن الحرّ لا تضمن إلاّ بتفويت في الأصحّ ، كأن قهره على عمل .



وفي قول ثان لهم : تضمن بالفوات أيضاً ، لأنّها لتقوّيها في عقد الإجارة الفاسدة تشبه منفعة المال .



ودليل القول الأوّل : أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، فمنفعته تفوت تحت يده .



ونصّ الحنابلة على أنّ الحرّ لا يضمن بالغصب ، ويضمن بالإتلاف ، فلو أخذ حرّاً فحبسه ، فمات عنده لم يضمنه ، لأنّه ليس بمال .



وإن استعمله مكرهاً ، لزمه أجر مثله ، لأنّه استوفى منافعه ، وهي متقوّمة ، فلزمه ضمانها، ولو حبسه مدّةً لمثلها أجر ، ففيه وجهان :



أحدهما : أنّه يلزمه أجر تلك المدّة ، لأنّه فوّت منفعته ، وهي مال فيجوز أخذ العوض عنها. والثّاني : لا يلزمه لأنّها تابعة لما لا يصحّ غصبه .



ولو منعه العمل من غير حبس ، لم يضمن منافعه وجهاً واحداً .



أمّا الحنفيّة فلا يقولون بالضّمان بتفويت منافع الإنسان ، لأنّه لا يدخل تحت اليد ، فليس بمال ، فلا تضمن منافع بدنه .



ضَمَان الدَّرَك

الدّرك : بفتحتين ، وسكون الرّاء لغةً ، اسم من أدركت الرّجل أي لحقته ، وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أنّه كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشّقاء « أي من لحاق الشّقاء .



قال الجوهريّ : الدّرك التّبعة ، قال أبو سعيد المتولّي : سمّي ضمان الدّرك لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحقّ عين ماله ويستعمل الفقهاء كذلك هذا اللّفظ بمعنى التّبعة أي المطالبة والمؤاخذة .



فقد عرّف الحنفيّة ضمان الدّرك : بأنّه التزام تسليم الثّمن عند استحقاق المبيع .



وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : هو أن يضمن شخص لأحد العاقدين ما بذله للآخر إن خرج مقابله مستحقّاً أو معيباً أو ناقصاً لنقص الصّنجة ، سواء أكان الثّمن معيّناً أم في الذّمّة .



ولا يخرج تعريف الفقهاء الآخرين لضمان الدّرك عمّا قاله الحنفيّة والشّافعيّة في تعريفه . ويعبّر عنه الحنابلة بضمان العهدة ، كما يعبّر عنه الحنفيّة في الغالب بالكفالة بالدّرك .



الحكم الإجماليّ :



ضمان الدّرك جائز عند جمهور الفقهاء ، ومنع بعض الشّافعيّة ضمان الدّرك لكونه ضمان ما لم يجب .



ألفاظ ضمان الدّرك :



من ألفاظ هذا الضّمان عند جمهور الفقهاء أن يقول الضّامن : ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه ، أو يقول للمشتري : ضمنت خلاصك منه .



قال ابن قدامة : إنّ العهدة صارت في العرف عبارةً عن الدّرك وضمان الثّمن ، والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفيّة دون اللّغويّة .



ويرى الحنفيّة أنّ ضمان العهدة باطل لاشتباه المراد بها ، لإطلاقها على الصّكّ وعلى العقد ، وعلى حقوقه وعلى الدّرك ، فبطل للجهالة ، بخلاف ضمان الدّرك ، قال ابن نجيم : ولا يقال ينبغي أن يصرف إلى ما يجوز الضّمان به وهو الدّرك تصحيحاً لتصرّف الضّامن لأنّا نقول : فراغ الذّمّة أصل فلا يثبت الشّغل بالشّكّ والاحتمال .



كما أنّ ضمان الخلاص باطل عند أبي حنيفة ، لأنّه يفسّره بتخليص المبيع لا محالة ولا قدرة للضّامن عليه ، لأنّ المستحقّ لا يمكّنه منه ، ولو ضمن تخليص المبيع أو ردّ الثّمن جاز ، لإمكان الوفاء به وهو تسليمه إن أجاز المستحقّ ، أو ردّه إن لم يجز ، فالخلاف راجع إلى التّفسير .



ويرى الجمهور ومنهم أبو يوسف ومحمّد أنّ ضمان الخلاص بمنزلة ضمان الدّرك ، وفسّروا ضمان الخلاص بتخليص المبيع إن قدر عليه وردّ الثّمن إن لم يقدر عليه وهو ضمان الدّرك في المعنى ، فالخلاف لفظيّ فقط .



أمّا ضمان خلاص المبيع بمعنى أن يشترط المشتري أنّ المبيع إن استحقّ من يده يخلّصه ويسلّمه بأيّ طريق يقدر عليه فهذا باطل ، لأنّه شرط لا يقدر على الوفاء به إذ المستحقّ ربّما لا يساعده عليه .



متعلّق ضمان الدّرك :



يقول الشّافعيّة : إنّ متعلّق ضمان الدّرك هو عين الثّمن أو المبيع إن بقي وسهل ردّه ، وبدله أي قيمته إن عسر ردّه ، ومثل المثليّ وقيمة المتقوّم إن تلف ، وتعلّقه بالبدل أظهر . ويرى الحنابلة أنّ متعلّق ضمان الدّرك - ضمان العهدة - هو الثّمن أو جزء منه ، سواء كان الضّمان عن البائع للمشتري أو عن المشتري للبائع ، حيث يقولون : ويصحّ ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع ، فضمانه عن المشتري : هو أن يضمن الثّمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ، وإن ظهر فيه عيب أو استحقّ رجع بذلك على الضّامن ، وضمانه عن البائع للمشتري : هو أن يضمن عن البائع الثّمن متى خرج المبيع مستحقّاً أو ردّ بعيب أو أرش العيب ، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثّمن أو جزء منه .



ويؤخذ من عبارات فقهاء الحنفيّة والمالكيّة أنّ متعلّق ضمان الدّرك عندهم هو الثّمن أيضاً ، إلاّ أنّه يختلف مذهب الحنابلة عن مذهب الحنفيّة والمالكيّة في أنّ الحنابلة يعتبرون ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن المشتري للبائع من قبيل ضمان الدّرك - ضمان العهدة - في حين يختصّ ضمان الدّرك عند الحنفيّة والمالكيّة بالكفالة بأداء ثمن المبيع إلى المشتري وتسليمه إليه إن استحقّ المبيع وضبط من يده ، أمّا ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن المشتري للبائع فهو يتحقّق ضمن الكفالة بالمال بشروطها .



شروط صحّة ضمان الدّرك :



من شروط صحّة ضمان الدّرك أن يكون المضمون ديناً صحيحاً ، والدّين الصّحيح : هو ما لا يسقط إلاّ بالأداء أو الإبراء ، فلا يصحّ بغيره كبدل الكتابة فإنّه يسقط بالتّعجيز . ويشترط الشّافعيّة لصحّة ضمان الدّرك قبض الثّمن ، فلا يصحّ ضمان الدّرك عندهم قبل قبض الثّمن ، لأنّ الضّامن إنّما يضمن ما دخل في يد البائع ، ولا يدخل الثّمن في ضمانه إلاّ بقبضه .



حكم ضمان الدّرك في حالتي الإطلاق والتّقييد :



إذا أطلق ضمان الدّرك أو العهدة اختصّ بما إذا خرج الثّمن المعيّن مستحقّاً إذ هو المتبادر ، لا ما خرج فاسداً بغير الاستحقاق ، فلو انفسخ البيع بما سوى الاستحقاق مثل الرّدّ بالعيب أو بخيار الشّرط أو بخيار الرّؤية لا يؤاخذ به الضّامن ، لأنّ ذلك ليس من الدّرك.



أمّا إذا قيّده بغير استحقاق المبيع كخوف المشتري فساد البيع بدعوى البائع صغراً أو إكراهاً، أو خاف أحدهما كون العوض معيباً ، أو شكّ المشتري في كمال الصّنجة الّتي تسلّم بها المبيع ، أو شكّ البائع في جودة جنس الثّمن فضمن الضّامن ذلك صريحاً صحّ ضمانه كضمان العهدة .



وتجدر الإشارة إلى أنّ الكفيل بالدّرك يضمن المكفول به فقط ، ولا يضمن مع المكفول به ضرر التّغرير لأنّه ليس للكفيل كفالة بذلك .



ما يترتّب على ضمان الدّرك :



أ - حقّ المشتري في الرّجوع بالثّمن :



يترتّب على ضمان الدّرك حقّ المشتري في الرّجوع بالثّمن عند استحقاق المبيع ، ويحقّ له مطالبة الضّامن والأصيل به .



إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا في وقت مطالبة الضّامن بالثّمن :



ذهب الجمهور ومنهم أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ مجرّد القضاء بالاستحقاق يكفي لمؤاخذة ضامن الدّرك والرّجوع بالثّمن عليه .



وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يؤاخذ ضامن الدّرك إن استحقّ المبيع ما لم يقض بالثّمن على البائع ، لأنّ البيع لا ينتقض بمجرّد الاستحقاق ، ولهذا لو أجاز المستحقّ البيع قبل الفسخ جاز ولو بعد قبضه وهو الصّحيح ، فما لم يقض بالثّمن على البائع لا يجب ردّ الثّمن على الأصيل فلا يجب على الكفيل .



وذهب المالكيّة إلى أنّ الضّامن يغرم الثّمن حين الدّرك في غيبة البائع وعدمه .



ب - منع دعوى التّملّك والشّفعة :



ضمان الدّرك للمشتري عند البيع تسليم من الضّامن بأنّ المبيع ملك البائع فيكون مانعاً لدعوى التّملّك والشّفعة بعد ذلك ، لأنّ هذا الضّمان لو كان مشروطاً في البيع فتمامه بقبول الضّامن فكأنّه هو الموجب له ثمّ بالدّعوى يسعى في نقض ما تمّ من جهته ، وإن لم يكن مشروطاً فالمراد به إحكام البيع وترغيب المشتري في الابتياع ، إذ لا يرغب فيه دون الضّمان فنزل التّرغيب منزلة الإقرار بملك البائع ، فلا تصحّ دعوى الضّامن الملكيّة لنفسه بعد ذلك للتّناقض .



وذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّه إن ضمن الشّفيع العهدة للمشتري لم تسقط شفعته ، لأنّ هذا سبب سبق وجوب الشّفعة فلم تسقط به الشّفعة كالإذن في البيع والعفو عن الشّفعة قبل تمام البيع .





















ليست هناك تعليقات: