مكتب / محمد جابر عيسى المحلمى
القبض في الشريعة الإسلامية - الجزء الثالث
القَبْض في الفقه الإسلامي
( الجزء الثالث )
اشتراط القبض في العقود وآثاره :
دلّت النّصوص والقواعد العامّة في الشّريعة على اشتراط القبض في كثير من العقود ، وإن كان ذلك الاشتراط مختلفاً في مداه بين عقد وآخر ، وبين رأي فقيه أو مذهب وبين رأي غيره من الفقهاء والمجتهدين .
فتارةً يكون القبض شرطاً في صحّة العقد ، بحيث يبطل العقد إذا تفرّق العاقدان قبله ، وتارةً يكون شرطاً في انتقال ملكيّة محلّ العقد واستقرارها ، كما أنّه أحياناً يكون شرطاً في لزوم العقد ، بحيث يكون جائزاً قبله .
وبيان ذلك فيما يأتي :
أ - العقود الّتي يشترط القبض فيها لنقل الملكيّة :
العقود الّتي يشترط - في الجملة - القبض لنقل ملكيّة محلّ العقد فيها خمسة :
أوّلاً : الهبة :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض لنقل ملكيّة العين الموهوبة إلى الموهوب على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّه يشترط القبض لانتقال الملكيّة إلى الموهوب ، وأنّ الهبة لا يملكها الموهوب إلاّ بقبضها .
واشترط الشّافعيّة إذن الواهب في القبض .
الثّاني : للمالكيّة وابن أبي ليلى : وهو أنّه لا يشترط القبض لانتقال الملكيّة إلى الموهوب بل تثبت له بالعقد وعلى الواهب إقباضه وفاءً بالعقد ، لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } حتّى إنّ المالكيّة نصّوا على إجبار الواهب على تسليم الموهوب إن امتنع .
واستدلّوا على عدم اشتراط القبض في الهبة بالقياس على البيع ، حيث إنّ المشتري يملك ما اشتراه بالعقد ، ولو لم يقبضه .
كما استدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه أهدى إلى النّجاشيّ أواقاً من مسك ، ثمّ قال لأمّ سلمة : إنّي لا أراه إلاّ قد مات ، ولا أرى الهديّة الّتي أهديت إليه إلاّ ستردّ ، فإذا ردّت إليّ ، فهو لك أم لكم ، فكان كما قال » فدلّ ذلك على أنّ الهديّة لا تملك إلاّ بالقبض .
وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : إنّ أبا بكر الصّدّيق نحلها جادّ عشرين وسقاً من ماله بالغابة ، فلمّا حضرته الوفاة ، قال : واللّه يا بنيّة ما من النّاس أحد أحبّ إليّ غنىً بعدي منك ، ولا أعزّ عليّ فقراً بعدي منك ، وإنّي كنت نحلتك جادّ عشرين وسقاً ، فلو كنت جَدَدْتيه واحتَزْتِيه كان لك ذلك ، وإنّما هو اليوم مال وارث ، وإنّما هما أخواك وأختاك ، فاقتسموه على كتاب اللّه تعالى ، قالت عائشة : يا أبت ، واللّه لو كان كذا وكذا لتركته ، وإنّما هي أسماء ، فمن الأخرى ؟ فقال أبو بكر : ذو بطن بنت خارجة ، أراها جاريةً ، قالوا : فلولا توقّف الملك في الموهوب على القبض لما قال إنّه مال وارث .
وبما روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قضى في الأنحال : أنّ ما قبض منها فهو جائز ، وما لم يقبض فهو ميراث ، وروي مثل ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عبّاس وأنس وعائشة رضي الله عنهم ، ولا يعرف لهم في الصّحابة مخالف فكان إجماعاً ، ولأنّ انتفاء العوض في الهبة يضعّف من سببيّة العقد لإضافة الملك للموهوب ، فمن أجل ذلك يتأخّر الملك إلى أن يتقوّى العقد بالقبض .
ثانياً : الوقف :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض لتمام الوقف :
فذهب الشّافعيّة في المذهب عندهم ، والحنابلة في الصّحيح من المذهب ، أبو يوسف ، إلى أنّ الوقف إذا صحّ زال به ملك الواقف عنه ، ولا يشترط فيه القبض ويرى المالكيّة ، وأحمد ابن حنبل في رواية عنه ، ومحمّد بن الحسن ، وابن أبي ليلى ، اشتراط القبض في الجملة لتمام الوقف وزوال ملكيّة الوقف عن الواقف .
وأمّا عند أبي حنيفة ، فإنّ العين الموقوفة باقية على ملك الواقف حقيقةً ، ولا يزول ملكه عنه إلاّ بحكم الحاكم أو يعلّقه بموته .
وقال الحنفيّة : إن بنى شخص سقايةً للمسلمين ، أو خاناً ليسكنه أبناء السّبيل ، أو رباطاً للمجاهدين ، أو خلّى أرضاً مقبرةً للمسلمين ، أو بنى مسجداً للمصلّين ، زال ملكه بقوله عند أبي يوسف ، وقال محمّد : إذا استقى النّاس من السّقاية وسكنوا الخان والرّباط ودفنوا في المقبرة وصلّى في المسجد مسلم زال ملكه عن الموقوف ، ولا يزال ملكه عند أبي حنيفة حتّى يحكم به الحاكم .
ثالثاً : القرض :
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض في القرض لنقل الملكيّة إلى المستقرض على ثلاثة أقوال :
أحدها : ذهب أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة في القول الأصحّ والحنابلة وغيرهم ، إلى أنّ المقترض إنّما يملك المال المقرض بالقبض .
واستدلّوا بأنّ المستقرض بنفس القبض صار بسبيل من التّصرّف في القرض من غير إذن المقرض بيعاً وهبةً وصدقةً وسائر التّصرّفات ، وإذا تصرّف فيه نفذ تصرّفه ، ولا يتوقّف على إجازة المقرض ، وتلك أمارات الملك ، إذ لو لم يملكه لما جاز له التّصرّف فيه ، وبأنّ القرض عقد اجتمع فيه جانب المعاوضة وجانب التّبرّع ، أمّا المعاوضة : فلأنّ المستقرض يجب عليه ردّ بدل مماثل عوضاً عمّا استقرضه ، وأمّا التّبرّع : فلأنّه ينطوي على تبرّع من المقرض للمستقرض بالانتفاع بالمال المستقرض بسائر التّصرّفات ، غير أنّ جانب التّبرّع في هذا العقد أرجح ، لأنّ غايته وثمرته إنّما هي بذل منافع المال المقرض للمستقرض مجّاناً ، ألا ترى أنّه لا يقابله عوض في الحال ، ولا يملكه من لا يملك التّبرّع ، ولهذا كان كباقي التّبرّعات من هبات وصدقات ، فتنتقل الملكيّة فيه بالقبض ، لا بمجرّد العقد ، ولا بالتّصرّف .
والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّ المقترض يملك المال المقرض ملكاً تامّاً بالعقد وإن لم يقبضه ، ويصير مالاً من أمواله ، ويقضى له به .
والثّالث : لأبي يوسف من الحنفيّة ، وللشّافعيّة في قول عندهم : وهو أنّ المقترض إنّما يملك المال المقرض بالتّصرّف ، فإذا تصرّف فيه تبيّن ثبوت ملكه قبله ، والمراد بالتّصرّف : كلّ عمل يزيل الملك ، كالبيع والهبة والإعتاق والإتلاف ، ولا يكفي الرّهن والتّزويج والإجارة وطحن الحنطة وخبز الدّقيق وذبح الشّاة ونحو ذلك .
وتظهر ثمرة الخلاف بين ما ذهب إليه المالكيّة ، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء فيما إذا هلكت العين المقرضة بعد العقد وقبل القبض ، ففي هذه الحالة يكون ضمانها عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على المقرِض ، ويكون هلاكها في عهدته ، لأنّها لم تزل في ملكه ، ولم يملكها المقترض بعد ، فلا تنشغل ذمّته بعوضها أصلاً ، بينما يكون ضمانها عند المالكيّة على المقترض ، وهو الّذي يتحمّل تبعة هلاكها ، وعليه ردّ بدلها لأنّها هلكت في ملكه .
كما تظهر ثمرة الخلاف بين ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وما ذهب إليه أبو يوسف والشّافعيّة في قول ، فيما إذا استقرض شخص من رجل كرّاً من حنطة وقبضه ، ثمّ اشترى ذلك الكرّ بعينه من المقرض ، فإنّه لا يجوز ذلك على قول الجمهور ، لأنّ المقترض ملكه بنفس القبض ، فيصير بعقد الشّراء التّالي مشترياً ملك نفسه ، أمّا على القول الآخر فالكرّ باق على ملك المقرض ، ويصير المستقرض مشترياً ملك غيره ، فيصحّ
رابعاً : العاريّة :
ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ منافع العين المعارة لا تنتقل إلى ملك المستعير ، لا بالقبض ولا بغيره .
لأنّ العاريّة عندهم تفيد إباحة المنافع للمستعير لا تمليكها .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط القبض لانتقال منافع العين المعارة إلى ملك المستعير ، لأنّ الإعارة تبرّع بتمليك منافع الشّيء المعار ، فلا تملك إلاّ بالقبض ، كالهبة .
خامساً : المعاوضات الفاسدة :
اختلف الفقهاء في كون القبض ناقلاً للملكيّة في عقود المعاوضات الماليّة الفاسدة أو غير ناقل :
فذهب جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ العقد الفاسد كالباطل ، لا ينعقد أصلاً ، ولا يفيد الملك بتاتاً ، سواء قبض العاقد البدل المعقود عليه أو لم يقبضه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ ملكيّة المعقود عليه تنتقل في عقد المعاوضة الفاسد بقبضه برضا صاحبه ، ويكون مضموناً على القابض بقيمته يوم قبضه .
العقود الّتي يشترط القبض في صحّتها :
أوّلاً : الصّرف :
اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في صحّة عقد الصّرف التّقابض في البدلين قبل التّفرّق ، قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أنّ الصّرف فاسد .
واستدلّوا على ذلك بما روى عبادة بن الصّامت رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » .
وبما روى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما أنّه قال : « لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تبيعوا الذّهب بالورق أحدهما غائب والآخر ناجز ، وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا تنظره ، إنّي أخاف عليكم الرّماء » أي الرّبا .
لهذا إذا تعذّر على المتصارفين التّقابض في المجلس وأرادا الافتراق ، لزمهما ديانةً أن يتفاسخا العقد بينهما قبل التّفرّق كي لا يأثما بتأخير العوضين أو أحدهما ، لأنّ الشّارع نهى عن هذا العقد إلاّ يداً بيد ، وحكم عليه أنّه رباً إلاّ هاء وهاء ، فمتى لم يحصل هذا الشّرط حصل المنهيّ عنه ، وهو ربا النّساء ، وهو حرام ، وفي التّفاسخ قبل التّفرّق رفع للعقد ، فلا تلزمهما شروطه .
لكنّ فريقاً من المالكيّة استثنى من هذا الأصل المتّفق عليه - هو اشتراط التّقابض قبل التّفرّق لصحّة الصّرف - ما لو تفرّقا قبل التّقابض غلبةً ، أي بما يغلبان عليه أو أحدهما ، كنسيان أو غلط أو سرقة من الصّرّاف ونحو ذلك ، وقال الشّيخ عليش : وقد تكون الغلبة بحيلولة سيل أو نار أو عدوّ قبل التّقابض وقالوا بعدم بطلان الصّرف في هذه الحالة .
ثانياً : بيع الأموال الرّبويّة ببعضها :
اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في صحّة بيع الأموال الرّبويّة بجنسها الحلول وانتفاء النّسيئة ، وكذا إذا بيعت بغير جنسها ، وكان المالان الرّبويّان تجمعهما علّة واحدة ، إلاّ أن يكون أحد العوضين ثمناً والآخر مثمّناً ، كبيع الموزونات بالدّراهم والدّنانير .
واستدلّوا على ذلك بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » .
غير أنّ الفقهاء مع اتّفاقهم هذا على اشتراط الحلول وانتفاء النّسيئة ، اختلفوا في اشتراط التّقابض قبل التّفرّق من مجلس العقد في بيع جميع الأموال الرّبويّة ببعضها على قولين : أحدهما : للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو أنّه يشترط التّقابض قبل التّفرّق من المجلس في الصّرف وغيره ، فلو تفرّقا قبل التّقابض بطل العقد ، وذلك لأنّ النّهي عن النّسيئة ثبت في الصّرف وغيره من بيع الرّبويّات ببعضها ، وتحريم النّساء ووجوب التّقابض متلازمان ، إذ من المحال أن يشترط الشّارع انتفاء الأجل في بيع جميع الأموال الرّبويّة ، ويكون تأجيل التّقابض في بعضها جائزاً ، ولا يخفى أنّ قوله صلى الله عليه وسلم : « يداً بيد وهاء وهاء » في شأن بيع الأموال الرّبويّة السّتّة بالكيفيّة المبيّنة في الحديث إنّما يفهم منه اشتراط التّقابض فيها جميعاً .
الثّاني : للحنفيّة ، وهو أنّه لا يشترط التّقابض قبل التّفرّق إلاّ في الصّرف ، أمّا في غيره - كبيع حنطة بشعير أو تمر أو حنطة - فيشترط لصحّته التّعيين دون التّقابض ، لأنّ البدل في غير الصّرف يتعيّن بمجرّد التّعيين قبل القبض ، ويتمكّن مشتريه بمجرّد التّعيّن من التّصرّف فيه ، ولذلك لا يشترط قبضه لصحّة العقد ، بخلاف البدل في الصّرف فإنّه لا يتعيّن بدون القبض ، إذ القبض شرط في تعيينه ، حيث إنّ الأثمان لا تتعيّن مملوكةً إلاّ به ، ولذلك كان لكلّ من العاقدين تبديلها بمثلها قبل تسليمها .
ثالثاً : السّلم :
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة عقد السّلم قبض المسلم إليه رأس المال قبل الافتراق ، فإن تفرّقا قبل قبضه فسد العقد .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط في صحّة السّلم قبض رأس المال قبل تفرّقهما أو بعده بمدّة يسيرة كاليومين والثّلاثة ، سواء أكان هذا التّأخير بشرط أم بغير شرط ، عملاً بالقاعدة الفقهيّة الكلّيّة " ما قارب الشّيء يعطى حكمه " ، فإن تأخّر قبضه أكثر من ذلك بطل العقد .
رابعاً : إجارة الذّمّة :
قسّم جمهور الفقهاء الإجارة باعتبار محلّ تعلّق الحقّ في المنفعة المعقود عليها إلى قسمين : إجارة واردة على العين ، وإجارة واردة على الذّمّة .
أ - فالإجارة الواردة على العين : يكون الحقّ في المنفعة المعقود عليها متعلّقاً بنفس العين ، كما إذا استأجر شخص داراً أو أرضاً أو سيّارةً معيّنةً ، أو استأجر شخصاً بعينه لخياطة ثوب أو بناء حائط ، ونحو ذلك .
وهذا النّوع من الإجارة لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يشترط فيه قبض الأجرة في المجلس لصحّة العقد أو لزومه أو انتقال ملكيّة المنافع فيه ، وذلك لأنّ إجارة العين كبيعها - إذ الإجارة بيع للمنفعة في مقابلة عوض معلوم - وبيع العين يصحّ بثمن حالّ ومؤجّل ، فكذلك الإجارة .
ب - أمّا الإجارة الواردة على الذّمّة : فيكون الحقّ في المنفعة المعقود عليها متعلّقاً بذمّة المؤجّر ، كما إذا استأجر دابّةً موصوفةً للرّكوب أو الحمل بأن قال : استأجرت منك دابّةً صفتها كذا لتحملني إلى موضع كذا ، أو قال : ألزمت ذمّتك خياطة هذا الثّوب أو بناء جدار صفته كذا ، فقبل المؤجّر .
وقد اختلف الفقهاء في وجوب تسليم الأجرة فيها في مجلس العقد على أربعة أقوال :
الأوّل : للحنفيّة ، فالأصل عندهم أنّ الأجر لا يلزم بالعقد ولا يملك ، فلا يجب تسليمه به ، بل بتعجيله أو شرطه في الإجارة المنجّزة أو الاستيفاء للمنفعة أو تمكّنه منه ، وعلى ذلك لا يشترط قبض الأجر عندهم في صحّة الإجارة ، قال ابن عابدين : لا يملك الأجر بالعقد ، لأنّه وقع على المنفعة ، وهي تحدث شيئاً فشيئاً ، وشأن البدل أن يكون مقابلاً للمبدل ، وحيث لا يمكن استيفاؤها حالاً لا يلزم بدلها حالاً ، إلاّ إذا شرطه ولو حكماً ، بأن عجّله لأنّه صار ملتزماً له بنفسه وأبطل المساواة الّتي اقتضاها العقد .
والثّاني : للمالكيّة ، وهو أنّه يجب لصحّة إجارة الذّمّة تعجيل الأجرة ، لاستلزام التّأخير تعمير الذّمّتين وبيع الكالئ بالكالئ ، وهو منهيّ عنه إلاّ إذا شرع المستأجر باستيفاء المنفعة ، كما لو ركب المستأجر الدّابّة الموصوفة في طريقه إلى المكان المشترط أن تحمله إليه ، فيجوز عندئذ تأخير الأجرة ، لانتفاء بيع المؤخّر بالمؤخّر ، حيث إنّ قبض أوائل المنفعة كقبض أواخرها ، فارتفع المانع من التّأخير .
وقد اعتبر المالكيّة أنّ في حكم تعجيل الأجرة تأخيرها يومين أو ثلاثةً ، لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ، كما في السّلم ، ولا فرق بين عقدها بلفظ الإجارة أو السّلم .
والثّالث : للشّافعيّة ، وهو أنّه يشترط في صحّة إجارة الذّمّة قبض المؤجّر الأجرة في مجلس العقد ، كما اشترط قبض المسلم إليه رأس مال السّلم في المجلس ، فإن تفرّقا قبل القبض بطلت الإجارة ، لأنّ إجارة الذّمّة سلم في المنافع ، فكانت كالسّلم في الأعيان ، سواء عقدت بلفظ الإجارة أو السّلم .
والرّابع : للحنابلة ، وهو أنّ إجارة الموصوف في الذّمّة إذا جرت بلفظ " سلم " أو " سلف " - كأسلمتك هذا الدّينار في منفعة دابّة صفتها كذا وكذا لتحملني إلى مكان كذا ، أو في منفعة آدميّ صفته كذا وكذا لبناء حائط صفته كذا مثلاً - وقبل المؤجّر ، فإنّه يشترط لصحّة إجارة الذّمّة عندئذ تسليم الأجرة في مجلس العقد ، لأنّها بذلك تكون سلماً في المنافع ، ولو لم تقبض قبل تفرّق العاقدين لآل الأمر إلى بيع الدّين بالدّين ، وهو منهيّ عنه ، أمّا إذا لم تجر إجارة الذّمّة بلفظ " سلم " ولا " سلف " ، فلا يشترط تعجيل الأجرة في هذه الحالة ، لأنّها لا تكون سلماً ، فلا يلزم فيها شرطه .
خامساً : المضاربة :
ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة عقد المضاربة تسليم رأس المال إلى العامل ، لأنّ المضاربة انعقدت على أن يكون رأس المال من أحد الطّرفين والعمل من الطّرف الآخر ، ولا يتحقّق العمل إلاّ بعد خروج رأس المال من يد ربّ المال إلى العامل ، وليس المراد بذلك اشتراط تسليم رأس المال إليه حال العقد أو في مجلسه ، وإنّما المراد أن يستقلّ العامل باليد عليه والتّصرّف فيه بالتّخلية بينه وبين رأس المال ، وعلى ذلك : لو شرط المالك أن يكون المال بيده ليوفّي منه ثمن ما اشتراه العامل فسدت المضاربة .
وذهب الحنابلة على الرّاجح عندهم إلى أنّه لا يشترط لصحّة عقد المضاربة قبض العامل لرأس المال ، قال البهوتيّ : فتصحّ وإن كان بيد ربّه ، لأنّ مورد العقد العمل .
سادساً : المزارعة :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط في صحّة المزارعة تسليم الأرض إلى العامل مخلاةً ، أي أن توجد التّخلية من صاحب الأرض بين أرضه وبين العامل ، حتّى لو شرط في العقد العمل على ربّ الأرض أو شرط عملهما معاً ، فلا تصحّ المزارعة لانعدام التّخلية .
سابعاً : المساقاة :
نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه يشترط في صحّة المساقاة تسليم الأشجار إلى العامل ، فلو شرط كونها في يد المالك أو مشاركته في اليد لم يصحّ العقد لعدم حصول التّخلية بين الشّجر وبين العامل .
العقود الّتي يشترط القبض في لزومها :
وهي أربعة ، بيانها فيما يلي :
أوّلاً : الهبة :
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض للزوم الهبة :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط القبض في لزوم الهبة ، ويكون للواهب قبل القبض الرّجوع فيها ، فإذا قبضها الموهوب له لزمت ، لكنّ الشّافعيّة قالوا : للأب الرّجوع في هبة ولده ، وكذلك لسائر الأصول على المشهور عندهم .
غير أنّهم اختلفوا في حكم العقد إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل قبضها .
فقال الشّافعيّة : إن مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض لم ينفسخ العقد ، لأنّه يئول إلى اللّزوم ، ويقوم الوارث مقام مورّثه .
وقال الحنابلة : إذا مات الموهوب له قبل القبض بطل العقد ، أمّا إذا مات الواهب فلا تبطل الهبة ، ويقوم وارثه مقامه في الإقباض أو الرّجوع في الهبة .
واستدلّ جمهور الفقهاء على اشتراط القبض في لزوم الهبة بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لأمّ سلمة : « إنّي أهديت إلى النّجاشيّ أواقاً من مسك ، وإنّي لا أراه إلاّ قد مات ، ولا أرى الهديّة الّتي أهديت إليه إلاّ ستردّ فإذا ردّت إليّ فهو لك أم لكم » وبما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يقول ابن آدم مالي مالي .. وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت » فقد شرط رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّدقة الإمضاء ، والإمضاء هو الإقباض .
وقال الحنفيّة : لا تلزم الهبة بالقبض إلاّ إذا كانت لأصول الواهب أو فروعه أو لأخيه أو لأخته أو أولادهما أو لعمّه وعمّته أو كانت بين الزّوجين حال قيام الزّوجيّة ، وللواهب أن يرجع عن هبته في غير الحالات المذكورة برضا الموهوب له أو برجوع الواهب للحاكم فيفسخ الهبة .
وذهب المالكيّة : إلى أنّ الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول ، لكنّها لا تتمّ ولا تلزم إلاّ بالقبض ، ويجبر الواهب على إقباضها ما دام العاقدان على قيد الحياة ، فإذا مات الواهب قبل القبض بطلت الهبة ، وكانت ميراثاً ، أمّا إذا مات الموهوب له قبل القبض فلا تبطل ، ويكون لورثته مطالبة الواهب بها ، لأنّها صارت حقّاً لمورّثهم قبل موته .
ثانياً : الوقف :
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض في الوقف على ثلاثة أقوال :
أحدها : ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة - وقوله هو المفتى به في المذهب - إلى أنّ الوقف لا يفتقر إلى القبض ، بل يلزم ويتمّ بدونه .
واستدلّوا بما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أمر عمر بن الخطّاب أن يسبّل ثمرة أرضه ويحبس أصلها » ولم يأمره أن يخرجها من يده إلى يد أحد يحوزها دونه ، فدلّ ذلك على أنّ الوقف يتمّ بحبس الأصل وتسبيل الثّمرة دون اشتراط أن يقبضه أحد ، ولو كان القبض شرطاً لأمره به ، وبقول الشّافعيّ : أخبرني غير واحد من آل عمر وآل عليّ رضي الله عنهم أنّ عمر رضي الله عنه ولي صدقته حتّى مات ، وجعلها بعده إلى حفصة رضي الله عنها ، وولي عليّ رضي الله عنه صدقته حتّى مات ، ووليها بعده الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ، وأنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وليت صدقتها حتّى ماتت ، وبلغني عن غير واحد من الأنصار أنّه ولي صدقته حتّى مات ، وبقياس الوقف على العتق ، ذلك أنّ الرّجل إذا وقف أرضه أو داره ، فإنّما يملك الموقوف عليه منافعها ، ولا يملك من رقبتها شيئاً ، لأنّ الواقف أخرجها من ملكه إلى اللّه عزّ وجلّ ، فكان ذلك شبيهاً بما أخرجه عن ملكه بالعتق للّه عزّ وجلّ ، فكما أنّ العتق يلزم بالقول ولا يحتاج فيه إلى القبض مع القول ، فكذلك الوقف لا يحتاج فيه إلى القبض مع القول ، ولأنّنا لو أوجبنا القبض فيه ، فإنّ القابض يقبض ما لم يملكه بالوقف ، فيكون قبضه وعدمه سواءً .
والثّاني : لابن أبي ليلى ومحمّد بن الحسن الشّيبانيّ وأحمد في رواية عنه : وهو أنّ الوقف لا يلزم إلاّ بقبضه وإخراج الواقف له عن يده ، ويكون القبض بأن يجعل له قيّماً ويسلّمه إليه ، وفي المسجد بأن يخلّيه ويصلّي النّاس فيه ، وفي المقبرة بدفن شخص واحد فيها فما فوق ، واستدلّوا على ذلك بأنّ الوقف تصدّق بالمنافع ، والهبات والصّدقات لا تلزم إلاّ بالقبض ، فينبغي أن يشترط القبض للزومه .
والثّالث : للمالكيّة : وهو أنّه يشترط القبض لتمام الوقف ، فإن مات الواقف أو مرض أو أفلس قبل قبض الموقوف بطل الوقف ، ويكون القبض في نحو المسجد والطّاحون بالتّخلية بين الموقوف وبين النّاس .
ثالثاً : القرض :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض في ملك القرض أو لزومه على أقوال :
الأوّل للمالكيّة : وهو أنّه لا يشترط في لزوم عقد القرض أن يقبضه المقترض ، بل يلزم بالقول .
والثّاني للشّافعيّة ، قالوا : يملك بالقبض .
والثّالث للحنابلة ، قالوا : يلزم بالقبض .
رابعاً : الرّهن :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض في لزوم الرّهن :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على الرّاجح عندهم إلى أنّه يشترط القبض في لزوم الرّهن ، وعلى ذلك يكون للرّاهن قبل القبض أن يرجع عنه أو يسلّمه .
واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } حيث إنّ المصدر المقرون بحرف الفاء في جواب الشّرط يراد به الأمر ، والأمر بالشّيء الموصوف يقتضي أن يكون ذلك الوصف شرطاً فيه ، إذ المشروع بصفة لا يوجد بدون تلك الصّفة ، ولأنّ الرّهن عقد تبرّع إذ لا يستوجب الرّاهن بمقابلته على المرتهن شيئاً ، ولهذا لا يجبر عليه ، فلا بدّ من الإمضاء بعدم الرّجوع ، والإمضاء يكون بالقبض .
وقالوا : إنّ اللّه عزّ وجلّ وصف الرّهان بكونها مقبوضةً ، فيقتضي ذلك أن يكون القبض فيها شرطاً ، ولو لزمت بدون القبض لما كان للتّقييد به فائدة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الرّهن يلزم بالعقد ، لكنّه لا يتمّ إلاّ بالقبض ، وللمرتهن حقّ المطالبة بالإقباض ، ويجبر الرّاهن عليه .
قالوا : أمّا لزومه بالعقد ، فلأنّ قوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أثبتها رهاناً قبل القبض ، وأمّا إلزام الرّاهن بالإقباض ، فلأنّ قوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } دليل على إلزام الرّاهن بتسليم المرهون للمرتهن وفاءً بالعقد .
قال الدّسوقيّ : لا خلاف في المذهب أنّ القبض ليس من حقيقة الرّهن ولا شرطاً في صحّته ولا لزومه بل ينعقد ويصحّ ويلزم بمجرّد القول .
وذهب بعض الحنابلة إلى أنّ المرهون إذا كان مكيلاً أو موزوناً فلا يلزم رهنه إلاّ بالقبض ، وفيما عدا ذلك روايتان عن أحمد ، إحداهما : لا يلزم إلاّ بالقبض ، والأخرى : يلزم بمجرّد العقد كالبيع .
استدامة القبض في الرّهن :
اختلف الفقهاء في حكم استدامة القبض في الرّهن على ثلاثة أقوال :
أحدها : للحنفيّة والشّافعيّة : وهو أنّه لا يشترط استدامة القبض في الرّهن ، فلو استرجعه الرّاهن بعاريّة أو وديعة صحّ ، لأنّه عقد يعتبر القبض في ابتدائه ، فلم يشترط استدامته كالهبة ، وللمرتهن الحقّ في استرداده متى شاء ، والقاعدة الفقهيّة تقول : " يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء " .
والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّه يشترط في صحّة الرّهن استدامة القبض ، فإذا قبض المرتهن المرهون ، ثمّ ردّه إلى الرّاهن بعاريّة أو وديعة أو كراء بطل الرّهن ، لأنّ المعنى الّذي لأجله اشترط قبض المرهون في الابتداء هو أن تحصل وثيقة للمرتهن بقبضه ، فكانت استدامة القبض شرطاً فيه .
والثّالث : للحنابلة : وهو أنّه يشترط في لزوم الرّهن استدامة قبض المرهون ، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الرّاهن أو غيره زال لزوم الرّهن ، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض ، سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك ، فإذا عاد فردّه إليه عاد اللّزوم بحكم العقد السّابق ، ولا يحتاج إلى تجديد عقد ، لأنّ العقد الأوّل لم يطرأ عليه ما يبطله ، أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد أوّل مرّة ، وإن أزيلت يد المرتهن عنه بغير حقّ كالغصب والسّرقة وإباق العبد وضياع المتاع ونحوه ، فلزوم العقد باق ، لأنّ يده ثابتة عليه حكماً ، فكأنّها لم تزل .
واستدلّوا على ذلك بأنّ الرّهن يراد للوثيقة ، ليتمكّن من بيعه واستيفاء دينه ، فإذا لم يدم في يده زال ذلك المعنى ، فكان بقاء اللّزوم منوطاً بدوام القبض .
القبض في الشريعة الإسلامية - الجزء الثالث
القَبْض في الفقه الإسلامي
( الجزء الثالث )
اشتراط القبض في العقود وآثاره :
دلّت النّصوص والقواعد العامّة في الشّريعة على اشتراط القبض في كثير من العقود ، وإن كان ذلك الاشتراط مختلفاً في مداه بين عقد وآخر ، وبين رأي فقيه أو مذهب وبين رأي غيره من الفقهاء والمجتهدين .
فتارةً يكون القبض شرطاً في صحّة العقد ، بحيث يبطل العقد إذا تفرّق العاقدان قبله ، وتارةً يكون شرطاً في انتقال ملكيّة محلّ العقد واستقرارها ، كما أنّه أحياناً يكون شرطاً في لزوم العقد ، بحيث يكون جائزاً قبله .
وبيان ذلك فيما يأتي :
أ - العقود الّتي يشترط القبض فيها لنقل الملكيّة :
العقود الّتي يشترط - في الجملة - القبض لنقل ملكيّة محلّ العقد فيها خمسة :
أوّلاً : الهبة :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض لنقل ملكيّة العين الموهوبة إلى الموهوب على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّه يشترط القبض لانتقال الملكيّة إلى الموهوب ، وأنّ الهبة لا يملكها الموهوب إلاّ بقبضها .
واشترط الشّافعيّة إذن الواهب في القبض .
الثّاني : للمالكيّة وابن أبي ليلى : وهو أنّه لا يشترط القبض لانتقال الملكيّة إلى الموهوب بل تثبت له بالعقد وعلى الواهب إقباضه وفاءً بالعقد ، لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } حتّى إنّ المالكيّة نصّوا على إجبار الواهب على تسليم الموهوب إن امتنع .
واستدلّوا على عدم اشتراط القبض في الهبة بالقياس على البيع ، حيث إنّ المشتري يملك ما اشتراه بالعقد ، ولو لم يقبضه .
كما استدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه أهدى إلى النّجاشيّ أواقاً من مسك ، ثمّ قال لأمّ سلمة : إنّي لا أراه إلاّ قد مات ، ولا أرى الهديّة الّتي أهديت إليه إلاّ ستردّ ، فإذا ردّت إليّ ، فهو لك أم لكم ، فكان كما قال » فدلّ ذلك على أنّ الهديّة لا تملك إلاّ بالقبض .
وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : إنّ أبا بكر الصّدّيق نحلها جادّ عشرين وسقاً من ماله بالغابة ، فلمّا حضرته الوفاة ، قال : واللّه يا بنيّة ما من النّاس أحد أحبّ إليّ غنىً بعدي منك ، ولا أعزّ عليّ فقراً بعدي منك ، وإنّي كنت نحلتك جادّ عشرين وسقاً ، فلو كنت جَدَدْتيه واحتَزْتِيه كان لك ذلك ، وإنّما هو اليوم مال وارث ، وإنّما هما أخواك وأختاك ، فاقتسموه على كتاب اللّه تعالى ، قالت عائشة : يا أبت ، واللّه لو كان كذا وكذا لتركته ، وإنّما هي أسماء ، فمن الأخرى ؟ فقال أبو بكر : ذو بطن بنت خارجة ، أراها جاريةً ، قالوا : فلولا توقّف الملك في الموهوب على القبض لما قال إنّه مال وارث .
وبما روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قضى في الأنحال : أنّ ما قبض منها فهو جائز ، وما لم يقبض فهو ميراث ، وروي مثل ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عبّاس وأنس وعائشة رضي الله عنهم ، ولا يعرف لهم في الصّحابة مخالف فكان إجماعاً ، ولأنّ انتفاء العوض في الهبة يضعّف من سببيّة العقد لإضافة الملك للموهوب ، فمن أجل ذلك يتأخّر الملك إلى أن يتقوّى العقد بالقبض .
ثانياً : الوقف :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض لتمام الوقف :
فذهب الشّافعيّة في المذهب عندهم ، والحنابلة في الصّحيح من المذهب ، أبو يوسف ، إلى أنّ الوقف إذا صحّ زال به ملك الواقف عنه ، ولا يشترط فيه القبض ويرى المالكيّة ، وأحمد ابن حنبل في رواية عنه ، ومحمّد بن الحسن ، وابن أبي ليلى ، اشتراط القبض في الجملة لتمام الوقف وزوال ملكيّة الوقف عن الواقف .
وأمّا عند أبي حنيفة ، فإنّ العين الموقوفة باقية على ملك الواقف حقيقةً ، ولا يزول ملكه عنه إلاّ بحكم الحاكم أو يعلّقه بموته .
وقال الحنفيّة : إن بنى شخص سقايةً للمسلمين ، أو خاناً ليسكنه أبناء السّبيل ، أو رباطاً للمجاهدين ، أو خلّى أرضاً مقبرةً للمسلمين ، أو بنى مسجداً للمصلّين ، زال ملكه بقوله عند أبي يوسف ، وقال محمّد : إذا استقى النّاس من السّقاية وسكنوا الخان والرّباط ودفنوا في المقبرة وصلّى في المسجد مسلم زال ملكه عن الموقوف ، ولا يزال ملكه عند أبي حنيفة حتّى يحكم به الحاكم .
ثالثاً : القرض :
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض في القرض لنقل الملكيّة إلى المستقرض على ثلاثة أقوال :
أحدها : ذهب أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة في القول الأصحّ والحنابلة وغيرهم ، إلى أنّ المقترض إنّما يملك المال المقرض بالقبض .
واستدلّوا بأنّ المستقرض بنفس القبض صار بسبيل من التّصرّف في القرض من غير إذن المقرض بيعاً وهبةً وصدقةً وسائر التّصرّفات ، وإذا تصرّف فيه نفذ تصرّفه ، ولا يتوقّف على إجازة المقرض ، وتلك أمارات الملك ، إذ لو لم يملكه لما جاز له التّصرّف فيه ، وبأنّ القرض عقد اجتمع فيه جانب المعاوضة وجانب التّبرّع ، أمّا المعاوضة : فلأنّ المستقرض يجب عليه ردّ بدل مماثل عوضاً عمّا استقرضه ، وأمّا التّبرّع : فلأنّه ينطوي على تبرّع من المقرض للمستقرض بالانتفاع بالمال المستقرض بسائر التّصرّفات ، غير أنّ جانب التّبرّع في هذا العقد أرجح ، لأنّ غايته وثمرته إنّما هي بذل منافع المال المقرض للمستقرض مجّاناً ، ألا ترى أنّه لا يقابله عوض في الحال ، ولا يملكه من لا يملك التّبرّع ، ولهذا كان كباقي التّبرّعات من هبات وصدقات ، فتنتقل الملكيّة فيه بالقبض ، لا بمجرّد العقد ، ولا بالتّصرّف .
والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّ المقترض يملك المال المقرض ملكاً تامّاً بالعقد وإن لم يقبضه ، ويصير مالاً من أمواله ، ويقضى له به .
والثّالث : لأبي يوسف من الحنفيّة ، وللشّافعيّة في قول عندهم : وهو أنّ المقترض إنّما يملك المال المقرض بالتّصرّف ، فإذا تصرّف فيه تبيّن ثبوت ملكه قبله ، والمراد بالتّصرّف : كلّ عمل يزيل الملك ، كالبيع والهبة والإعتاق والإتلاف ، ولا يكفي الرّهن والتّزويج والإجارة وطحن الحنطة وخبز الدّقيق وذبح الشّاة ونحو ذلك .
وتظهر ثمرة الخلاف بين ما ذهب إليه المالكيّة ، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء فيما إذا هلكت العين المقرضة بعد العقد وقبل القبض ، ففي هذه الحالة يكون ضمانها عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على المقرِض ، ويكون هلاكها في عهدته ، لأنّها لم تزل في ملكه ، ولم يملكها المقترض بعد ، فلا تنشغل ذمّته بعوضها أصلاً ، بينما يكون ضمانها عند المالكيّة على المقترض ، وهو الّذي يتحمّل تبعة هلاكها ، وعليه ردّ بدلها لأنّها هلكت في ملكه .
كما تظهر ثمرة الخلاف بين ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وما ذهب إليه أبو يوسف والشّافعيّة في قول ، فيما إذا استقرض شخص من رجل كرّاً من حنطة وقبضه ، ثمّ اشترى ذلك الكرّ بعينه من المقرض ، فإنّه لا يجوز ذلك على قول الجمهور ، لأنّ المقترض ملكه بنفس القبض ، فيصير بعقد الشّراء التّالي مشترياً ملك نفسه ، أمّا على القول الآخر فالكرّ باق على ملك المقرض ، ويصير المستقرض مشترياً ملك غيره ، فيصحّ
رابعاً : العاريّة :
ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ منافع العين المعارة لا تنتقل إلى ملك المستعير ، لا بالقبض ولا بغيره .
لأنّ العاريّة عندهم تفيد إباحة المنافع للمستعير لا تمليكها .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط القبض لانتقال منافع العين المعارة إلى ملك المستعير ، لأنّ الإعارة تبرّع بتمليك منافع الشّيء المعار ، فلا تملك إلاّ بالقبض ، كالهبة .
خامساً : المعاوضات الفاسدة :
اختلف الفقهاء في كون القبض ناقلاً للملكيّة في عقود المعاوضات الماليّة الفاسدة أو غير ناقل :
فذهب جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ العقد الفاسد كالباطل ، لا ينعقد أصلاً ، ولا يفيد الملك بتاتاً ، سواء قبض العاقد البدل المعقود عليه أو لم يقبضه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ ملكيّة المعقود عليه تنتقل في عقد المعاوضة الفاسد بقبضه برضا صاحبه ، ويكون مضموناً على القابض بقيمته يوم قبضه .
العقود الّتي يشترط القبض في صحّتها :
أوّلاً : الصّرف :
اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في صحّة عقد الصّرف التّقابض في البدلين قبل التّفرّق ، قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أنّ الصّرف فاسد .
واستدلّوا على ذلك بما روى عبادة بن الصّامت رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » .
وبما روى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما أنّه قال : « لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تبيعوا الذّهب بالورق أحدهما غائب والآخر ناجز ، وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا تنظره ، إنّي أخاف عليكم الرّماء » أي الرّبا .
لهذا إذا تعذّر على المتصارفين التّقابض في المجلس وأرادا الافتراق ، لزمهما ديانةً أن يتفاسخا العقد بينهما قبل التّفرّق كي لا يأثما بتأخير العوضين أو أحدهما ، لأنّ الشّارع نهى عن هذا العقد إلاّ يداً بيد ، وحكم عليه أنّه رباً إلاّ هاء وهاء ، فمتى لم يحصل هذا الشّرط حصل المنهيّ عنه ، وهو ربا النّساء ، وهو حرام ، وفي التّفاسخ قبل التّفرّق رفع للعقد ، فلا تلزمهما شروطه .
لكنّ فريقاً من المالكيّة استثنى من هذا الأصل المتّفق عليه - هو اشتراط التّقابض قبل التّفرّق لصحّة الصّرف - ما لو تفرّقا قبل التّقابض غلبةً ، أي بما يغلبان عليه أو أحدهما ، كنسيان أو غلط أو سرقة من الصّرّاف ونحو ذلك ، وقال الشّيخ عليش : وقد تكون الغلبة بحيلولة سيل أو نار أو عدوّ قبل التّقابض وقالوا بعدم بطلان الصّرف في هذه الحالة .
ثانياً : بيع الأموال الرّبويّة ببعضها :
اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في صحّة بيع الأموال الرّبويّة بجنسها الحلول وانتفاء النّسيئة ، وكذا إذا بيعت بغير جنسها ، وكان المالان الرّبويّان تجمعهما علّة واحدة ، إلاّ أن يكون أحد العوضين ثمناً والآخر مثمّناً ، كبيع الموزونات بالدّراهم والدّنانير .
واستدلّوا على ذلك بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » .
غير أنّ الفقهاء مع اتّفاقهم هذا على اشتراط الحلول وانتفاء النّسيئة ، اختلفوا في اشتراط التّقابض قبل التّفرّق من مجلس العقد في بيع جميع الأموال الرّبويّة ببعضها على قولين : أحدهما : للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو أنّه يشترط التّقابض قبل التّفرّق من المجلس في الصّرف وغيره ، فلو تفرّقا قبل التّقابض بطل العقد ، وذلك لأنّ النّهي عن النّسيئة ثبت في الصّرف وغيره من بيع الرّبويّات ببعضها ، وتحريم النّساء ووجوب التّقابض متلازمان ، إذ من المحال أن يشترط الشّارع انتفاء الأجل في بيع جميع الأموال الرّبويّة ، ويكون تأجيل التّقابض في بعضها جائزاً ، ولا يخفى أنّ قوله صلى الله عليه وسلم : « يداً بيد وهاء وهاء » في شأن بيع الأموال الرّبويّة السّتّة بالكيفيّة المبيّنة في الحديث إنّما يفهم منه اشتراط التّقابض فيها جميعاً .
الثّاني : للحنفيّة ، وهو أنّه لا يشترط التّقابض قبل التّفرّق إلاّ في الصّرف ، أمّا في غيره - كبيع حنطة بشعير أو تمر أو حنطة - فيشترط لصحّته التّعيين دون التّقابض ، لأنّ البدل في غير الصّرف يتعيّن بمجرّد التّعيين قبل القبض ، ويتمكّن مشتريه بمجرّد التّعيّن من التّصرّف فيه ، ولذلك لا يشترط قبضه لصحّة العقد ، بخلاف البدل في الصّرف فإنّه لا يتعيّن بدون القبض ، إذ القبض شرط في تعيينه ، حيث إنّ الأثمان لا تتعيّن مملوكةً إلاّ به ، ولذلك كان لكلّ من العاقدين تبديلها بمثلها قبل تسليمها .
ثالثاً : السّلم :
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة عقد السّلم قبض المسلم إليه رأس المال قبل الافتراق ، فإن تفرّقا قبل قبضه فسد العقد .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط في صحّة السّلم قبض رأس المال قبل تفرّقهما أو بعده بمدّة يسيرة كاليومين والثّلاثة ، سواء أكان هذا التّأخير بشرط أم بغير شرط ، عملاً بالقاعدة الفقهيّة الكلّيّة " ما قارب الشّيء يعطى حكمه " ، فإن تأخّر قبضه أكثر من ذلك بطل العقد .
رابعاً : إجارة الذّمّة :
قسّم جمهور الفقهاء الإجارة باعتبار محلّ تعلّق الحقّ في المنفعة المعقود عليها إلى قسمين : إجارة واردة على العين ، وإجارة واردة على الذّمّة .
أ - فالإجارة الواردة على العين : يكون الحقّ في المنفعة المعقود عليها متعلّقاً بنفس العين ، كما إذا استأجر شخص داراً أو أرضاً أو سيّارةً معيّنةً ، أو استأجر شخصاً بعينه لخياطة ثوب أو بناء حائط ، ونحو ذلك .
وهذا النّوع من الإجارة لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يشترط فيه قبض الأجرة في المجلس لصحّة العقد أو لزومه أو انتقال ملكيّة المنافع فيه ، وذلك لأنّ إجارة العين كبيعها - إذ الإجارة بيع للمنفعة في مقابلة عوض معلوم - وبيع العين يصحّ بثمن حالّ ومؤجّل ، فكذلك الإجارة .
ب - أمّا الإجارة الواردة على الذّمّة : فيكون الحقّ في المنفعة المعقود عليها متعلّقاً بذمّة المؤجّر ، كما إذا استأجر دابّةً موصوفةً للرّكوب أو الحمل بأن قال : استأجرت منك دابّةً صفتها كذا لتحملني إلى موضع كذا ، أو قال : ألزمت ذمّتك خياطة هذا الثّوب أو بناء جدار صفته كذا ، فقبل المؤجّر .
وقد اختلف الفقهاء في وجوب تسليم الأجرة فيها في مجلس العقد على أربعة أقوال :
الأوّل : للحنفيّة ، فالأصل عندهم أنّ الأجر لا يلزم بالعقد ولا يملك ، فلا يجب تسليمه به ، بل بتعجيله أو شرطه في الإجارة المنجّزة أو الاستيفاء للمنفعة أو تمكّنه منه ، وعلى ذلك لا يشترط قبض الأجر عندهم في صحّة الإجارة ، قال ابن عابدين : لا يملك الأجر بالعقد ، لأنّه وقع على المنفعة ، وهي تحدث شيئاً فشيئاً ، وشأن البدل أن يكون مقابلاً للمبدل ، وحيث لا يمكن استيفاؤها حالاً لا يلزم بدلها حالاً ، إلاّ إذا شرطه ولو حكماً ، بأن عجّله لأنّه صار ملتزماً له بنفسه وأبطل المساواة الّتي اقتضاها العقد .
والثّاني : للمالكيّة ، وهو أنّه يجب لصحّة إجارة الذّمّة تعجيل الأجرة ، لاستلزام التّأخير تعمير الذّمّتين وبيع الكالئ بالكالئ ، وهو منهيّ عنه إلاّ إذا شرع المستأجر باستيفاء المنفعة ، كما لو ركب المستأجر الدّابّة الموصوفة في طريقه إلى المكان المشترط أن تحمله إليه ، فيجوز عندئذ تأخير الأجرة ، لانتفاء بيع المؤخّر بالمؤخّر ، حيث إنّ قبض أوائل المنفعة كقبض أواخرها ، فارتفع المانع من التّأخير .
وقد اعتبر المالكيّة أنّ في حكم تعجيل الأجرة تأخيرها يومين أو ثلاثةً ، لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ، كما في السّلم ، ولا فرق بين عقدها بلفظ الإجارة أو السّلم .
والثّالث : للشّافعيّة ، وهو أنّه يشترط في صحّة إجارة الذّمّة قبض المؤجّر الأجرة في مجلس العقد ، كما اشترط قبض المسلم إليه رأس مال السّلم في المجلس ، فإن تفرّقا قبل القبض بطلت الإجارة ، لأنّ إجارة الذّمّة سلم في المنافع ، فكانت كالسّلم في الأعيان ، سواء عقدت بلفظ الإجارة أو السّلم .
والرّابع : للحنابلة ، وهو أنّ إجارة الموصوف في الذّمّة إذا جرت بلفظ " سلم " أو " سلف " - كأسلمتك هذا الدّينار في منفعة دابّة صفتها كذا وكذا لتحملني إلى مكان كذا ، أو في منفعة آدميّ صفته كذا وكذا لبناء حائط صفته كذا مثلاً - وقبل المؤجّر ، فإنّه يشترط لصحّة إجارة الذّمّة عندئذ تسليم الأجرة في مجلس العقد ، لأنّها بذلك تكون سلماً في المنافع ، ولو لم تقبض قبل تفرّق العاقدين لآل الأمر إلى بيع الدّين بالدّين ، وهو منهيّ عنه ، أمّا إذا لم تجر إجارة الذّمّة بلفظ " سلم " ولا " سلف " ، فلا يشترط تعجيل الأجرة في هذه الحالة ، لأنّها لا تكون سلماً ، فلا يلزم فيها شرطه .
خامساً : المضاربة :
ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة عقد المضاربة تسليم رأس المال إلى العامل ، لأنّ المضاربة انعقدت على أن يكون رأس المال من أحد الطّرفين والعمل من الطّرف الآخر ، ولا يتحقّق العمل إلاّ بعد خروج رأس المال من يد ربّ المال إلى العامل ، وليس المراد بذلك اشتراط تسليم رأس المال إليه حال العقد أو في مجلسه ، وإنّما المراد أن يستقلّ العامل باليد عليه والتّصرّف فيه بالتّخلية بينه وبين رأس المال ، وعلى ذلك : لو شرط المالك أن يكون المال بيده ليوفّي منه ثمن ما اشتراه العامل فسدت المضاربة .
وذهب الحنابلة على الرّاجح عندهم إلى أنّه لا يشترط لصحّة عقد المضاربة قبض العامل لرأس المال ، قال البهوتيّ : فتصحّ وإن كان بيد ربّه ، لأنّ مورد العقد العمل .
سادساً : المزارعة :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط في صحّة المزارعة تسليم الأرض إلى العامل مخلاةً ، أي أن توجد التّخلية من صاحب الأرض بين أرضه وبين العامل ، حتّى لو شرط في العقد العمل على ربّ الأرض أو شرط عملهما معاً ، فلا تصحّ المزارعة لانعدام التّخلية .
سابعاً : المساقاة :
نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه يشترط في صحّة المساقاة تسليم الأشجار إلى العامل ، فلو شرط كونها في يد المالك أو مشاركته في اليد لم يصحّ العقد لعدم حصول التّخلية بين الشّجر وبين العامل .
العقود الّتي يشترط القبض في لزومها :
وهي أربعة ، بيانها فيما يلي :
أوّلاً : الهبة :
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض للزوم الهبة :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط القبض في لزوم الهبة ، ويكون للواهب قبل القبض الرّجوع فيها ، فإذا قبضها الموهوب له لزمت ، لكنّ الشّافعيّة قالوا : للأب الرّجوع في هبة ولده ، وكذلك لسائر الأصول على المشهور عندهم .
غير أنّهم اختلفوا في حكم العقد إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل قبضها .
فقال الشّافعيّة : إن مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض لم ينفسخ العقد ، لأنّه يئول إلى اللّزوم ، ويقوم الوارث مقام مورّثه .
وقال الحنابلة : إذا مات الموهوب له قبل القبض بطل العقد ، أمّا إذا مات الواهب فلا تبطل الهبة ، ويقوم وارثه مقامه في الإقباض أو الرّجوع في الهبة .
واستدلّ جمهور الفقهاء على اشتراط القبض في لزوم الهبة بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لأمّ سلمة : « إنّي أهديت إلى النّجاشيّ أواقاً من مسك ، وإنّي لا أراه إلاّ قد مات ، ولا أرى الهديّة الّتي أهديت إليه إلاّ ستردّ فإذا ردّت إليّ فهو لك أم لكم » وبما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يقول ابن آدم مالي مالي .. وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت » فقد شرط رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّدقة الإمضاء ، والإمضاء هو الإقباض .
وقال الحنفيّة : لا تلزم الهبة بالقبض إلاّ إذا كانت لأصول الواهب أو فروعه أو لأخيه أو لأخته أو أولادهما أو لعمّه وعمّته أو كانت بين الزّوجين حال قيام الزّوجيّة ، وللواهب أن يرجع عن هبته في غير الحالات المذكورة برضا الموهوب له أو برجوع الواهب للحاكم فيفسخ الهبة .
وذهب المالكيّة : إلى أنّ الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول ، لكنّها لا تتمّ ولا تلزم إلاّ بالقبض ، ويجبر الواهب على إقباضها ما دام العاقدان على قيد الحياة ، فإذا مات الواهب قبل القبض بطلت الهبة ، وكانت ميراثاً ، أمّا إذا مات الموهوب له قبل القبض فلا تبطل ، ويكون لورثته مطالبة الواهب بها ، لأنّها صارت حقّاً لمورّثهم قبل موته .
ثانياً : الوقف :
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط القبض في الوقف على ثلاثة أقوال :
أحدها : ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة - وقوله هو المفتى به في المذهب - إلى أنّ الوقف لا يفتقر إلى القبض ، بل يلزم ويتمّ بدونه .
واستدلّوا بما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أمر عمر بن الخطّاب أن يسبّل ثمرة أرضه ويحبس أصلها » ولم يأمره أن يخرجها من يده إلى يد أحد يحوزها دونه ، فدلّ ذلك على أنّ الوقف يتمّ بحبس الأصل وتسبيل الثّمرة دون اشتراط أن يقبضه أحد ، ولو كان القبض شرطاً لأمره به ، وبقول الشّافعيّ : أخبرني غير واحد من آل عمر وآل عليّ رضي الله عنهم أنّ عمر رضي الله عنه ولي صدقته حتّى مات ، وجعلها بعده إلى حفصة رضي الله عنها ، وولي عليّ رضي الله عنه صدقته حتّى مات ، ووليها بعده الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ، وأنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وليت صدقتها حتّى ماتت ، وبلغني عن غير واحد من الأنصار أنّه ولي صدقته حتّى مات ، وبقياس الوقف على العتق ، ذلك أنّ الرّجل إذا وقف أرضه أو داره ، فإنّما يملك الموقوف عليه منافعها ، ولا يملك من رقبتها شيئاً ، لأنّ الواقف أخرجها من ملكه إلى اللّه عزّ وجلّ ، فكان ذلك شبيهاً بما أخرجه عن ملكه بالعتق للّه عزّ وجلّ ، فكما أنّ العتق يلزم بالقول ولا يحتاج فيه إلى القبض مع القول ، فكذلك الوقف لا يحتاج فيه إلى القبض مع القول ، ولأنّنا لو أوجبنا القبض فيه ، فإنّ القابض يقبض ما لم يملكه بالوقف ، فيكون قبضه وعدمه سواءً .
والثّاني : لابن أبي ليلى ومحمّد بن الحسن الشّيبانيّ وأحمد في رواية عنه : وهو أنّ الوقف لا يلزم إلاّ بقبضه وإخراج الواقف له عن يده ، ويكون القبض بأن يجعل له قيّماً ويسلّمه إليه ، وفي المسجد بأن يخلّيه ويصلّي النّاس فيه ، وفي المقبرة بدفن شخص واحد فيها فما فوق ، واستدلّوا على ذلك بأنّ الوقف تصدّق بالمنافع ، والهبات والصّدقات لا تلزم إلاّ بالقبض ، فينبغي أن يشترط القبض للزومه .
والثّالث : للمالكيّة : وهو أنّه يشترط القبض لتمام الوقف ، فإن مات الواقف أو مرض أو أفلس قبل قبض الموقوف بطل الوقف ، ويكون القبض في نحو المسجد والطّاحون بالتّخلية بين الموقوف وبين النّاس .
ثالثاً : القرض :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض في ملك القرض أو لزومه على أقوال :
الأوّل للمالكيّة : وهو أنّه لا يشترط في لزوم عقد القرض أن يقبضه المقترض ، بل يلزم بالقول .
والثّاني للشّافعيّة ، قالوا : يملك بالقبض .
والثّالث للحنابلة ، قالوا : يلزم بالقبض .
رابعاً : الرّهن :
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض في لزوم الرّهن :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على الرّاجح عندهم إلى أنّه يشترط القبض في لزوم الرّهن ، وعلى ذلك يكون للرّاهن قبل القبض أن يرجع عنه أو يسلّمه .
واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } حيث إنّ المصدر المقرون بحرف الفاء في جواب الشّرط يراد به الأمر ، والأمر بالشّيء الموصوف يقتضي أن يكون ذلك الوصف شرطاً فيه ، إذ المشروع بصفة لا يوجد بدون تلك الصّفة ، ولأنّ الرّهن عقد تبرّع إذ لا يستوجب الرّاهن بمقابلته على المرتهن شيئاً ، ولهذا لا يجبر عليه ، فلا بدّ من الإمضاء بعدم الرّجوع ، والإمضاء يكون بالقبض .
وقالوا : إنّ اللّه عزّ وجلّ وصف الرّهان بكونها مقبوضةً ، فيقتضي ذلك أن يكون القبض فيها شرطاً ، ولو لزمت بدون القبض لما كان للتّقييد به فائدة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الرّهن يلزم بالعقد ، لكنّه لا يتمّ إلاّ بالقبض ، وللمرتهن حقّ المطالبة بالإقباض ، ويجبر الرّاهن عليه .
قالوا : أمّا لزومه بالعقد ، فلأنّ قوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } أثبتها رهاناً قبل القبض ، وأمّا إلزام الرّاهن بالإقباض ، فلأنّ قوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } دليل على إلزام الرّاهن بتسليم المرهون للمرتهن وفاءً بالعقد .
قال الدّسوقيّ : لا خلاف في المذهب أنّ القبض ليس من حقيقة الرّهن ولا شرطاً في صحّته ولا لزومه بل ينعقد ويصحّ ويلزم بمجرّد القول .
وذهب بعض الحنابلة إلى أنّ المرهون إذا كان مكيلاً أو موزوناً فلا يلزم رهنه إلاّ بالقبض ، وفيما عدا ذلك روايتان عن أحمد ، إحداهما : لا يلزم إلاّ بالقبض ، والأخرى : يلزم بمجرّد العقد كالبيع .
استدامة القبض في الرّهن :
اختلف الفقهاء في حكم استدامة القبض في الرّهن على ثلاثة أقوال :
أحدها : للحنفيّة والشّافعيّة : وهو أنّه لا يشترط استدامة القبض في الرّهن ، فلو استرجعه الرّاهن بعاريّة أو وديعة صحّ ، لأنّه عقد يعتبر القبض في ابتدائه ، فلم يشترط استدامته كالهبة ، وللمرتهن الحقّ في استرداده متى شاء ، والقاعدة الفقهيّة تقول : " يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء " .
والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّه يشترط في صحّة الرّهن استدامة القبض ، فإذا قبض المرتهن المرهون ، ثمّ ردّه إلى الرّاهن بعاريّة أو وديعة أو كراء بطل الرّهن ، لأنّ المعنى الّذي لأجله اشترط قبض المرهون في الابتداء هو أن تحصل وثيقة للمرتهن بقبضه ، فكانت استدامة القبض شرطاً فيه .
والثّالث : للحنابلة : وهو أنّه يشترط في لزوم الرّهن استدامة قبض المرهون ، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الرّاهن أو غيره زال لزوم الرّهن ، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض ، سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك ، فإذا عاد فردّه إليه عاد اللّزوم بحكم العقد السّابق ، ولا يحتاج إلى تجديد عقد ، لأنّ العقد الأوّل لم يطرأ عليه ما يبطله ، أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد أوّل مرّة ، وإن أزيلت يد المرتهن عنه بغير حقّ كالغصب والسّرقة وإباق العبد وضياع المتاع ونحوه ، فلزوم العقد باق ، لأنّ يده ثابتة عليه حكماً ، فكأنّها لم تزل .
واستدلّوا على ذلك بأنّ الرّهن يراد للوثيقة ، ليتمكّن من بيعه واستيفاء دينه ، فإذا لم يدم في يده زال ذلك المعنى ، فكان بقاء اللّزوم منوطاً بدوام القبض .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق