كتاب الإقرار
وهو إخبار عن حق ثابت على المخبر أو نفي حق له على غيره. وينفذ في حق المقر على نحو لا تسمع منه الدعوى على خلافه، ويقدم على جميع الحجج حتى البينة. ويقع الكلام في شروط نفوذه وأحكامه.
(مسألة 1): يشترط في المقر البلوغ والعقل بالنحو المناسب للرشد في الجهة التي أقر بها من مال أو غيره، فإذا كان رشيداً في جهة دون اُخرى نفذ إقراره في الجهة التي هو رشيد فيها دون الجهة التي ليس رشيداً فيها. فإذا كان رشيداً في الماليات إلا أنه سفيه فيما يتعلق ببدنه لقصور في إدراكه، فلا يهمه مثلاً إتلاف عضو من أعضائه، فأقر بأنه قد قطع يد رجل، لم ينفذ إقراره بنحو يستحق عليه القصاص، بل تثبت الدية لا غير. وقد تقدم في كتاب الحجر تحديد السفه في الماليات بنحو يجري نظيره في غيرها. فراجع.
(مسألة 2): يشترط في المقر أيضاً القصد، فلا ينفذ إقرار النائم والسكران، والساهي والغالط. نعم لما كان السهو والغلط على خلاف الأصل فلابد له من إثباتهما، فإذا لم يثبتهما يحكم بعدمهما ظاهراً فينفذ الإقرار في حق الشاك في تحقق أحدهما، ولا ينفذ في حق العالم بوجوده.
(مسألة 3): يشترط في المقر أيضاً الاختيار فلا ينفذ الإقرار من المكره، ولا من المضطر، كما إذا عطش وخاف على نفسه التلف فطلب ماء فامتنع صاحب الماء من أن يعطيه حتى يقر له بأنه قد باعه الدار، فأقر له بها، فإن إقراره حينئذٍ لا ينفذ. نعم لما كان الإكراه والاضطرار على خلاف الأصل فلابد له من إثباتهما، على نحو ما تقدم في المسألة السابقة.
(مسألة 4): لا يشترط في الإقرار صيغة خاصة، بل يكفي كل ما يدل على ثبوت الحق على المقر للمقر له، أو نفي حقه عليه، ولا يشترط صراحته فيه، بل يكفي ظهوره فيه عرفاً. بل يكفي الاعتراف بلازم ذلك في ثبوت الملزوم، فإذا ادّعى رجل على آخر مالاً، فادّعى الآخر الوفاء، كانت دعواه الوفاء إقراراً منه بسبق استحقاق المدعي للمال عليه، فيلزم بأدائه ما لم يثبت الوفاء. وكذا إذا ادّعى الرجل زوجية امرأة فادعت الطلاق، فإن دعواها الطلاق منه إقرار منها بسبق زوجيته لها، وهكذا.
(مسألة 5): إذا لم يتضمن الكلام الإخبار بثبوت الحق أو بلازمه، بل تضمن طلب تصرف يلازم ثبوته، فالظاهر عدم صدق الإقرار عليه بمجرد ذلك، كما إذا رأى في يد زيد عيناً فقال: بعنيها، فإن البيع وإن كان لا يتحقق إلا من المالك إلا أن طلب البيع قد يبتني على كونه صاحب يد محكوم بأنه المالك ظاهراً، فلا يقتضي الإقرار بملكيته واقعاً بحيث ليس له بعد ذلك دعوى ملكيته تكذيباً لليد. نعم إذا قامت القرينة على ابتناء طلب البيع على تصديقه في ملكيته مع قطع النظر عن اليد كان ذلك إقراراً. بل يجري ذلك حتى في الإخبار بملكية صاحب اليد، فإنه لا يكون إقراراً إلا إذا قامت القرينة على رجوعه إلى الإخبار بالملكية واقعاً مع قطع النظر عن اليد.
(مسألة 6): لا يشترط في الإقرار اللفظ، بل يكفي كل ما يدل على الإخبار بثبوت الحق أو نفيه من إشارة أو كتابة أو غيرهما.
(مسألة 7): يشترط في المقر به أن يكون حقاً للمقر له، بحيث له مطالبة المقر وإلزامه به، كالأعيان والمنافع الخارجية والذمية المملوكة والحقوق كحق الخيار والاستمتاع والإنفاق ونحوها. فلو لم يكن كذلك فلا أثر للإقرار به، كما لو أقر أنه قد حلف أن يدفع لزيد عشرة دنانير أو نذر أن يكسوه كسوة الشتاء، لأن اليمين والنذر إنما يجب الوفاء بهما لله تعالى، من دون أن يثبت بهما حق للشخص الذي ينتفع بمضمونهما. وكذا إذا أقر أن عليه حق شرعي، فإن ذلك لا يصحح للفقير المطالبة به، لأن الحق ليس ملكاً للفقير، بل هو مصرف له، فليس له المطالبة به إذا لم يدفع له. نعم لو تمت ولاية الحاكم الشرعي على الحق كان له المطالبة به نيابة عن صاحبه.
(مسألة 8): إذا أقر بثبوت الحق عليه بسبب باطل لم يثبت شيء، كما لو قال: لزيد علي ألف دينار من ثمن خمر أو خنزير أو دين ربوي أو نحو ذلك. نعم لو أطلق الإقرار بثبوت الحق، ثم ادّعى أن ثبوته كان بسبب باطل، ثبت الحق كما أقر، ولم تسمع منه دعوى بطلان السبب. وهكذا الحال في الإقرار بنفي حقه، كما لو قال: ليس لي عليه شيء بسبب إبرائي لذمته من الدين قبل بلوغي.
(مسألة 9): لو أقر بدين مؤجل ثبت ما أقر به، ولم يستحق المقر له المطالبة قبل الأجل، إلا أن يثبت المقر له عدم التأجيل في الدين. بخلاف ما لو أقر بالدين وأطلق ثم ادّعى التعجيل، فإن مقتضى الأصل في الحق التعجيل إلا أن يثبت من عليه الحق تعجيله.
(مسألة 10): المتبع في تحديد الحق المقر به ظاهر كلام المقر المستفاد من إطلاقه أومن القرائن الحالية والمقالية المحيطة بكلامه، فإن ادّعى خلاف ذلك لم يسمع منه. إلا أن يقر المقر له بما يشهد بمخالفة ظاهر كلام المقر الأول للواقع. كما لو أقر زيد لعمرو بألف دينار، فإنه يحمل على عملة البلد عملاً بظاهر الكلام ما لم يقر عمرو بأن سبب الاستحقاق عقد قد تضمن التقييد بعملة اُخرى غير عملة البلد، وكذا إذا ادّعى وجود القرينة الصارفة عن مقتضى الظهور الأولي، فإن الدعوى المذكورة تسمع منه ويطالب بإثباتها.
(مسألة 11): إذا أقر بعين تحت يده محكومة بأنها ملكه لشخصين في كلامين لا تعلق لأحدهما بالآخر حكم بأنها لمن أقر له أولاً. وحينئذٍ إن كذبه الثاني في إقراره بها للأول كان له أن يقيم الدعوى على الأول وإثبات أنها له فينتزعها من الأول إن تيسر له ذلك، وإن لم يتيسر له ذلك كان له أن يقيم الدعوى على المقر بأنه قد تعمد حرمانه منها بإقراره بها للأول، بنحو يكون مفرطاً فيها، فيضمنها له وكذا إذا كان المقر قد سلمها للأول اختياراً، حيث يضمنها بعدم تسليمها للثاني الذي هو مالكها بمقتضى إقراره له. أما إذا لم يتيسر له أحد الأمرين فلا شيء له على المقر، كما إذا كان إقراره الأول عن خطأ منه أو ادّعى هو ذلك من دون أن يتيسر للثاني تكذيبه فيه، وكان دفع العين للأول بإلزام من الحاكم الشرعي أو كان الأول قد انتزعها منه إرغاماً من دون أن يكون هو قد فرط بتسليمها له.
(مسألة 12): إذا أقر بعين تحت يده لشخصين في كلام واحد، فإن كان بنحو يظهر في العدول من الإقرار بها للأول إلى الإقرار بها للثاني كان بحكم المسألة السابقة، كما إذا قال: هذا الثوب لزيد، كلا قد نسيت هذا لعمرو. وإن كان بنحو الإضراب الظاهر في الغلط وسبق اللسان حكم بها لمن أقر له بها ثانياً، كما إذا قال: هذه الدنانير لزيد، بل لعمرو. وحينئذٍ إن كذبه الأول في إقراره بها للثاني كان له أن يقيم الدعوى على الثاني وإثبات أنها له فينتزعها منه إن تيسر له ذلك، وإن لم يتيسر له كان له أن يقيم الدعوى على أن المقر قد تعمد الإقرار بها له أولاً حقيقة ثم عدل للإقرار بها للثاني ليحرمه منها، وليس ما صدر منه من الخطأ وسبق اللسان، كما هو ظاهر الكلام، فإن تم له إثبات ذلك حكم بها للمقر له أولاً وجرى حكم المسألة السابقة، وإن لم يتم له إثبات ذلك أيضاً فلا شيء له.
(مسألة 13): لو أقر بما يتردد بين الأقل والأكثر ثبت الأقل وألزم به، دون الأكثر.
(مسألة 14): لو أقر لشخص بأمر مبهم كلف الخروج عنه بدفع ما يصلح تفسيراً له، فإذا قال: له علي مائة، وترددت المائة بين اُمور، كلف بدفع مائة مما يصلح لأن يملك ويفسر به إقراره.
(مسألة 15): لو أقر لشخص مبهم فإن كان مردداً بين أشخاص بعضهم لا يصلح للمطالبة بالحق لغيبة أو لكونه تحت ولاية المقر أو غير ذلك، فلا يلزم بإقراره. وإن كان مردداً بين أشخاص كلهم يصلح للمطالبة بالحق فإن فسر المبهم وعينه قبل منه، وإن لم يفسره لم يكن لكل منهم المطالبة بالأمر المقر به ولا بالتفسير. نعم لهم أن يوكلوا شخصاً واحداً ـ منهم أو من غيرهم ـ بالمطالبة بإيصال الأمر المقر به لصاحبه الواقعي، فله أن يلزمه بذلك، ولا يتسنى له ذلك إلا بتفسير المبهم وتعيين صاحب الحق.
ثم إن فسر صاحب الحق وعينه بشخص خاص حينئذٍ أو من أول الأمر، فإن لم يعترض غيره أخذ ذلك الشخص الأمر المقر به، وإن اعترض غيره كان خصماً له لا للمقر، فإن أقام البينة على أنه صاحبه انتزعه منه، وإلا كان له على ذلك الشخص اليمين، فله أن يحلف اعتماداً على الإقرار، إلا أن يعلم بخطأ الإقرار أو كذبه فلا يحق له التعويل عليه في أخذ الأمر المقر به فضلاً عن اليمين عليه.
(مسألة 16): إذا أقر إقراراً يلزم شرعاً بظاهر الحال ثم ادّعى أن إقراره لم يكن بداعي بيان الواقع، فإن رجع ذلك إلى خلل في شروط الإقرار، كما لو ادّعى الإكراه أو الاضطرار أو الغلط، سمعت دعواه وكان عليه الإثبات، فإن لم يثبت نفذ الإقرار في حقه. وإن رجع إلى كذب الإقرار من دون خلل في شروطه لم تسمع دعواه، كما إذا أقر بالبيع أو بقبض الثمن وأشهد على إقراره، ثم ادّعى ابتناء إقراره على المواطأة مع الطرف الآخر من أجل تنظيم المعاملة رسمياً وتثبيت شهادة الشهود عليها من دون أن يتحقق المقر به بعد في الواقع. ومجرد تعارف ذلك بين الناس وكثرة وقوعه لا يكفي في سماع الدعوى بعد رجوعها إلى تكذيب الإقرار.
(مسألة 17): الإقرار حجة في حق كل أحد، ولا تختص حجيته بالحاكم الشرعي، ولا يتوقف نفوذه في حق غيره على حكمه.
(مسألة 18): الإقرار حجة ظاهرية إنما ينفذ مع احتمال الصدق، فلو علم بكذبه لم ينفذ ولم يجز ترتيب الأثر عليه. نعم هو مقدم على جميع الحجج الظاهرية.، بل لا تسمع معه الدعوى على خلافه من المقر، كما تقدم.
(مسألة 19): إذا أقر لشخص بشيء فإن صدقه المقر له أو قال: لا أعلم، نفذ الإقرار. وإن كذبه لم ينفذ لتعارض الإقرارين المسقط لهما عن الحجية، وحينئذٍ يرجع للحجج الاُخرى المتأخرة عن الإقرار، كالبينة واليد والأصل.
تتميم..
يقبل الإخبار من بعض الأشخاص في بعض الموارد كحجة معتبرة، وقد يطلق عليه في كلماتهم الإقرار. لكنه ليس إقراراً بالمعنى المتقدم، لعدم ابتناء قبوله على تضمنه الاعتراف بحق على المقر..
منها: إخبار الإنسان عما تحت يده مما ليس ملكاً له كالأمانة والمغصوب، فإنه يرجع إليه في أمره ويقبل قوله فيه، فإذا أقر بأنه ملك لإنسان حكم له به، وكذا إذا أخبر بأنه وقف أو حق شرعي أو نحو ذلك. بل لو أخبر بأنه محقوق لغير المالك قبل منه، كما لو ادّعى أنه رهن على دين أو مستأجر إلى أجل أو نحوهما. وكذا إذا ادّعى أنه عارية أو وديعة إلى غير ذلك. نعم إذا كذبه المالك أو من أقر هو بأنه المالك كان قوله مقدماً. كما أن حجية خبره فيه ليس كحجية الإقرار الذي سبق أنه يقدم على جميع الحجج، بل تقدم البينة عليه، كما يقدم عليه قول من ثبت سبق يده عليه.
ومنها: أن من كان له السلطنة على شيء يقبل منه إخباره به في الظاهر، كإخبار الزوج بطلاق زوجته، وإخبار الولي أو الوكيل بفعل ما له الولاية عليه أو وكل فيه، وإخبار الأجير على تفريغ ذمة الغير بإتيانه بالعمل المستأجر عليه، إلى غير ذلك. وهو المعروف عند الفقهاء (رضوان الله عليهم) بأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به. نعم يمكن رفع اليد عنه بحجة منافية، كالبينة.
ومنها: الإقرار بالنسب، حيث يقبل في بعض الموارد على ما تقدم في فصل أحكام الأولاد من كتاب النكاح، مع أنه قد يستلزم أحكاماً ليست من سنخ الحقوق الثابتة على المقر، كميراث المقر ومن يتقرب به ممن يدعي بنوته، وميراث الولد المدعى من المقر وممن يتقرب إليه به... إلى غير ذلك من الموارد التي يقبل فيها إخبار الإنسان من دون أن يكون إقراراً بالمعنى المتقدم.
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
وهو إخبار عن حق ثابت على المخبر أو نفي حق له على غيره. وينفذ في حق المقر على نحو لا تسمع منه الدعوى على خلافه، ويقدم على جميع الحجج حتى البينة. ويقع الكلام في شروط نفوذه وأحكامه.
(مسألة 1): يشترط في المقر البلوغ والعقل بالنحو المناسب للرشد في الجهة التي أقر بها من مال أو غيره، فإذا كان رشيداً في جهة دون اُخرى نفذ إقراره في الجهة التي هو رشيد فيها دون الجهة التي ليس رشيداً فيها. فإذا كان رشيداً في الماليات إلا أنه سفيه فيما يتعلق ببدنه لقصور في إدراكه، فلا يهمه مثلاً إتلاف عضو من أعضائه، فأقر بأنه قد قطع يد رجل، لم ينفذ إقراره بنحو يستحق عليه القصاص، بل تثبت الدية لا غير. وقد تقدم في كتاب الحجر تحديد السفه في الماليات بنحو يجري نظيره في غيرها. فراجع.
(مسألة 2): يشترط في المقر أيضاً القصد، فلا ينفذ إقرار النائم والسكران، والساهي والغالط. نعم لما كان السهو والغلط على خلاف الأصل فلابد له من إثباتهما، فإذا لم يثبتهما يحكم بعدمهما ظاهراً فينفذ الإقرار في حق الشاك في تحقق أحدهما، ولا ينفذ في حق العالم بوجوده.
(مسألة 3): يشترط في المقر أيضاً الاختيار فلا ينفذ الإقرار من المكره، ولا من المضطر، كما إذا عطش وخاف على نفسه التلف فطلب ماء فامتنع صاحب الماء من أن يعطيه حتى يقر له بأنه قد باعه الدار، فأقر له بها، فإن إقراره حينئذٍ لا ينفذ. نعم لما كان الإكراه والاضطرار على خلاف الأصل فلابد له من إثباتهما، على نحو ما تقدم في المسألة السابقة.
(مسألة 4): لا يشترط في الإقرار صيغة خاصة، بل يكفي كل ما يدل على ثبوت الحق على المقر للمقر له، أو نفي حقه عليه، ولا يشترط صراحته فيه، بل يكفي ظهوره فيه عرفاً. بل يكفي الاعتراف بلازم ذلك في ثبوت الملزوم، فإذا ادّعى رجل على آخر مالاً، فادّعى الآخر الوفاء، كانت دعواه الوفاء إقراراً منه بسبق استحقاق المدعي للمال عليه، فيلزم بأدائه ما لم يثبت الوفاء. وكذا إذا ادّعى الرجل زوجية امرأة فادعت الطلاق، فإن دعواها الطلاق منه إقرار منها بسبق زوجيته لها، وهكذا.
(مسألة 5): إذا لم يتضمن الكلام الإخبار بثبوت الحق أو بلازمه، بل تضمن طلب تصرف يلازم ثبوته، فالظاهر عدم صدق الإقرار عليه بمجرد ذلك، كما إذا رأى في يد زيد عيناً فقال: بعنيها، فإن البيع وإن كان لا يتحقق إلا من المالك إلا أن طلب البيع قد يبتني على كونه صاحب يد محكوم بأنه المالك ظاهراً، فلا يقتضي الإقرار بملكيته واقعاً بحيث ليس له بعد ذلك دعوى ملكيته تكذيباً لليد. نعم إذا قامت القرينة على ابتناء طلب البيع على تصديقه في ملكيته مع قطع النظر عن اليد كان ذلك إقراراً. بل يجري ذلك حتى في الإخبار بملكية صاحب اليد، فإنه لا يكون إقراراً إلا إذا قامت القرينة على رجوعه إلى الإخبار بالملكية واقعاً مع قطع النظر عن اليد.
(مسألة 6): لا يشترط في الإقرار اللفظ، بل يكفي كل ما يدل على الإخبار بثبوت الحق أو نفيه من إشارة أو كتابة أو غيرهما.
(مسألة 7): يشترط في المقر به أن يكون حقاً للمقر له، بحيث له مطالبة المقر وإلزامه به، كالأعيان والمنافع الخارجية والذمية المملوكة والحقوق كحق الخيار والاستمتاع والإنفاق ونحوها. فلو لم يكن كذلك فلا أثر للإقرار به، كما لو أقر أنه قد حلف أن يدفع لزيد عشرة دنانير أو نذر أن يكسوه كسوة الشتاء، لأن اليمين والنذر إنما يجب الوفاء بهما لله تعالى، من دون أن يثبت بهما حق للشخص الذي ينتفع بمضمونهما. وكذا إذا أقر أن عليه حق شرعي، فإن ذلك لا يصحح للفقير المطالبة به، لأن الحق ليس ملكاً للفقير، بل هو مصرف له، فليس له المطالبة به إذا لم يدفع له. نعم لو تمت ولاية الحاكم الشرعي على الحق كان له المطالبة به نيابة عن صاحبه.
(مسألة 8): إذا أقر بثبوت الحق عليه بسبب باطل لم يثبت شيء، كما لو قال: لزيد علي ألف دينار من ثمن خمر أو خنزير أو دين ربوي أو نحو ذلك. نعم لو أطلق الإقرار بثبوت الحق، ثم ادّعى أن ثبوته كان بسبب باطل، ثبت الحق كما أقر، ولم تسمع منه دعوى بطلان السبب. وهكذا الحال في الإقرار بنفي حقه، كما لو قال: ليس لي عليه شيء بسبب إبرائي لذمته من الدين قبل بلوغي.
(مسألة 9): لو أقر بدين مؤجل ثبت ما أقر به، ولم يستحق المقر له المطالبة قبل الأجل، إلا أن يثبت المقر له عدم التأجيل في الدين. بخلاف ما لو أقر بالدين وأطلق ثم ادّعى التعجيل، فإن مقتضى الأصل في الحق التعجيل إلا أن يثبت من عليه الحق تعجيله.
(مسألة 10): المتبع في تحديد الحق المقر به ظاهر كلام المقر المستفاد من إطلاقه أومن القرائن الحالية والمقالية المحيطة بكلامه، فإن ادّعى خلاف ذلك لم يسمع منه. إلا أن يقر المقر له بما يشهد بمخالفة ظاهر كلام المقر الأول للواقع. كما لو أقر زيد لعمرو بألف دينار، فإنه يحمل على عملة البلد عملاً بظاهر الكلام ما لم يقر عمرو بأن سبب الاستحقاق عقد قد تضمن التقييد بعملة اُخرى غير عملة البلد، وكذا إذا ادّعى وجود القرينة الصارفة عن مقتضى الظهور الأولي، فإن الدعوى المذكورة تسمع منه ويطالب بإثباتها.
(مسألة 11): إذا أقر بعين تحت يده محكومة بأنها ملكه لشخصين في كلامين لا تعلق لأحدهما بالآخر حكم بأنها لمن أقر له أولاً. وحينئذٍ إن كذبه الثاني في إقراره بها للأول كان له أن يقيم الدعوى على الأول وإثبات أنها له فينتزعها من الأول إن تيسر له ذلك، وإن لم يتيسر له ذلك كان له أن يقيم الدعوى على المقر بأنه قد تعمد حرمانه منها بإقراره بها للأول، بنحو يكون مفرطاً فيها، فيضمنها له وكذا إذا كان المقر قد سلمها للأول اختياراً، حيث يضمنها بعدم تسليمها للثاني الذي هو مالكها بمقتضى إقراره له. أما إذا لم يتيسر له أحد الأمرين فلا شيء له على المقر، كما إذا كان إقراره الأول عن خطأ منه أو ادّعى هو ذلك من دون أن يتيسر للثاني تكذيبه فيه، وكان دفع العين للأول بإلزام من الحاكم الشرعي أو كان الأول قد انتزعها منه إرغاماً من دون أن يكون هو قد فرط بتسليمها له.
(مسألة 12): إذا أقر بعين تحت يده لشخصين في كلام واحد، فإن كان بنحو يظهر في العدول من الإقرار بها للأول إلى الإقرار بها للثاني كان بحكم المسألة السابقة، كما إذا قال: هذا الثوب لزيد، كلا قد نسيت هذا لعمرو. وإن كان بنحو الإضراب الظاهر في الغلط وسبق اللسان حكم بها لمن أقر له بها ثانياً، كما إذا قال: هذه الدنانير لزيد، بل لعمرو. وحينئذٍ إن كذبه الأول في إقراره بها للثاني كان له أن يقيم الدعوى على الثاني وإثبات أنها له فينتزعها منه إن تيسر له ذلك، وإن لم يتيسر له كان له أن يقيم الدعوى على أن المقر قد تعمد الإقرار بها له أولاً حقيقة ثم عدل للإقرار بها للثاني ليحرمه منها، وليس ما صدر منه من الخطأ وسبق اللسان، كما هو ظاهر الكلام، فإن تم له إثبات ذلك حكم بها للمقر له أولاً وجرى حكم المسألة السابقة، وإن لم يتم له إثبات ذلك أيضاً فلا شيء له.
(مسألة 13): لو أقر بما يتردد بين الأقل والأكثر ثبت الأقل وألزم به، دون الأكثر.
(مسألة 14): لو أقر لشخص بأمر مبهم كلف الخروج عنه بدفع ما يصلح تفسيراً له، فإذا قال: له علي مائة، وترددت المائة بين اُمور، كلف بدفع مائة مما يصلح لأن يملك ويفسر به إقراره.
(مسألة 15): لو أقر لشخص مبهم فإن كان مردداً بين أشخاص بعضهم لا يصلح للمطالبة بالحق لغيبة أو لكونه تحت ولاية المقر أو غير ذلك، فلا يلزم بإقراره. وإن كان مردداً بين أشخاص كلهم يصلح للمطالبة بالحق فإن فسر المبهم وعينه قبل منه، وإن لم يفسره لم يكن لكل منهم المطالبة بالأمر المقر به ولا بالتفسير. نعم لهم أن يوكلوا شخصاً واحداً ـ منهم أو من غيرهم ـ بالمطالبة بإيصال الأمر المقر به لصاحبه الواقعي، فله أن يلزمه بذلك، ولا يتسنى له ذلك إلا بتفسير المبهم وتعيين صاحب الحق.
ثم إن فسر صاحب الحق وعينه بشخص خاص حينئذٍ أو من أول الأمر، فإن لم يعترض غيره أخذ ذلك الشخص الأمر المقر به، وإن اعترض غيره كان خصماً له لا للمقر، فإن أقام البينة على أنه صاحبه انتزعه منه، وإلا كان له على ذلك الشخص اليمين، فله أن يحلف اعتماداً على الإقرار، إلا أن يعلم بخطأ الإقرار أو كذبه فلا يحق له التعويل عليه في أخذ الأمر المقر به فضلاً عن اليمين عليه.
(مسألة 16): إذا أقر إقراراً يلزم شرعاً بظاهر الحال ثم ادّعى أن إقراره لم يكن بداعي بيان الواقع، فإن رجع ذلك إلى خلل في شروط الإقرار، كما لو ادّعى الإكراه أو الاضطرار أو الغلط، سمعت دعواه وكان عليه الإثبات، فإن لم يثبت نفذ الإقرار في حقه. وإن رجع إلى كذب الإقرار من دون خلل في شروطه لم تسمع دعواه، كما إذا أقر بالبيع أو بقبض الثمن وأشهد على إقراره، ثم ادّعى ابتناء إقراره على المواطأة مع الطرف الآخر من أجل تنظيم المعاملة رسمياً وتثبيت شهادة الشهود عليها من دون أن يتحقق المقر به بعد في الواقع. ومجرد تعارف ذلك بين الناس وكثرة وقوعه لا يكفي في سماع الدعوى بعد رجوعها إلى تكذيب الإقرار.
(مسألة 17): الإقرار حجة في حق كل أحد، ولا تختص حجيته بالحاكم الشرعي، ولا يتوقف نفوذه في حق غيره على حكمه.
(مسألة 18): الإقرار حجة ظاهرية إنما ينفذ مع احتمال الصدق، فلو علم بكذبه لم ينفذ ولم يجز ترتيب الأثر عليه. نعم هو مقدم على جميع الحجج الظاهرية.، بل لا تسمع معه الدعوى على خلافه من المقر، كما تقدم.
(مسألة 19): إذا أقر لشخص بشيء فإن صدقه المقر له أو قال: لا أعلم، نفذ الإقرار. وإن كذبه لم ينفذ لتعارض الإقرارين المسقط لهما عن الحجية، وحينئذٍ يرجع للحجج الاُخرى المتأخرة عن الإقرار، كالبينة واليد والأصل.
تتميم..
يقبل الإخبار من بعض الأشخاص في بعض الموارد كحجة معتبرة، وقد يطلق عليه في كلماتهم الإقرار. لكنه ليس إقراراً بالمعنى المتقدم، لعدم ابتناء قبوله على تضمنه الاعتراف بحق على المقر..
منها: إخبار الإنسان عما تحت يده مما ليس ملكاً له كالأمانة والمغصوب، فإنه يرجع إليه في أمره ويقبل قوله فيه، فإذا أقر بأنه ملك لإنسان حكم له به، وكذا إذا أخبر بأنه وقف أو حق شرعي أو نحو ذلك. بل لو أخبر بأنه محقوق لغير المالك قبل منه، كما لو ادّعى أنه رهن على دين أو مستأجر إلى أجل أو نحوهما. وكذا إذا ادّعى أنه عارية أو وديعة إلى غير ذلك. نعم إذا كذبه المالك أو من أقر هو بأنه المالك كان قوله مقدماً. كما أن حجية خبره فيه ليس كحجية الإقرار الذي سبق أنه يقدم على جميع الحجج، بل تقدم البينة عليه، كما يقدم عليه قول من ثبت سبق يده عليه.
ومنها: أن من كان له السلطنة على شيء يقبل منه إخباره به في الظاهر، كإخبار الزوج بطلاق زوجته، وإخبار الولي أو الوكيل بفعل ما له الولاية عليه أو وكل فيه، وإخبار الأجير على تفريغ ذمة الغير بإتيانه بالعمل المستأجر عليه، إلى غير ذلك. وهو المعروف عند الفقهاء (رضوان الله عليهم) بأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به. نعم يمكن رفع اليد عنه بحجة منافية، كالبينة.
ومنها: الإقرار بالنسب، حيث يقبل في بعض الموارد على ما تقدم في فصل أحكام الأولاد من كتاب النكاح، مع أنه قد يستلزم أحكاماً ليست من سنخ الحقوق الثابتة على المقر، كميراث المقر ومن يتقرب به ممن يدعي بنوته، وميراث الولد المدعى من المقر وممن يتقرب إليه به... إلى غير ذلك من الموارد التي يقبل فيها إخبار الإنسان من دون أن يكون إقراراً بالمعنى المتقدم.
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق