مسألة الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً(1)، أيقبل أو لا؟ فأقول مستعيناً بالله:
لقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قبول رجوعه مطلقاً.
وإليه ذهب الحنفية(2)والشافعية(3)، والحنابلة(4) وهو الرواية المشهورة عند المالكية(5).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- في ذكر قصة ما عز –رضي الله عنه- حين شهد على نفسه بالزنا، وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وردده مراراً (6)، وقال له: "ويحك، أرجع فاستغفر الله، وتب إليه"(7). وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال له: "لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت"(8) وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال للذين رجموه حين هرب لما وجد مس الحجارة: "فهلا تركتموه"(8)
وفي رواية: "هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه"(9)
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث يدل على قبول رجوعه من وجهين:
الأول: كونه –صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وردده، وعرَّض له بالرجوع، وإلا لما كان لذلك فائدة. (10)
الثاني: كونه –صلى الله عليه وسلم- قال لمن رجمه بعد هربه: "هلا تركتموه" لأن الهرب دليل الرجوع".(11)
ويمكن مناقشة الوجه الأول بما يلي:
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما فعل مع ماعز ما فعله من ترديد، وإعراض، وتعريض، لأمرين:
الأول: كون ماعز –رضي الله عنه- قد جاء تائباً.
وهكذا يفعل الترديد، والإعراض، والتعريض بالرجوع عن الإقرار مع كل مقر جاء تائباً معترفاً بذنبه بخلاف غيره، فلا يفعل معه ذلك، فإذا رجع عن إقراره وقد جاء تائباً قبل منه رجوعه، بل إذا رجع عن طلب إقامة الحد عليه ترك ولو لم يرجع عن إقراره لحديث ماعز، فإنه لما هرب حين وجد مس الحجارة قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- لمن رجمه: "هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه" مما يدل على أنه لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه –كما سيأتي- فيقبل منه ذلك، ويسقط عنه الحد، ويترك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه ومن هذه حالُه لا تجب إقامة الحد عليه أصلاً إلا بطلبه، لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يقمه على ما عز والغامدية إلا بعد طلبهما لذلك وإصرارهما عليه أما مجرد إقرارهما فلا يعتبر طلباً لإقامة الحد عليهما، ولذلك لم يلتفت إليه الرسول –صلى الله عليه وسلم- بل أعرض عنه(12).
الثاني: كونه –صلى الله عليه وسلم- يريد الاستثبات(13).
ويدل لذلك أنه –صلى الله عليه وسلم- سأله: "أبك جنون"؟ قال: لا(14).
وسأل عنه: "أنه جنون؟"، "أشرب خمراً؟" (15).
وأرسل إلى قومه، وسألهم: "أتعلمون بعقله بأساً؟ أتنكرون مه شيئاً؟" (120)
ويدل لذلك أيضاً ما جاء عن جابر –رضي الله عنه- أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما قال: "فهلا تركتموه، وجئتموني به" ليستثبت منه ليس إلا فأما لترك حد فلا".(17)
قال ابن حجر: "وفيه –يعني حديث ماعز" التثبت في إزهاق نفس المسلم، والمبالغة في صيانته، لما وقع في القصة من ترديده، والإيماء إليه بالرجوع، والإشارة إلى قبول دعواه، إن ادعى إكراهاً.." (18)
قال الشوكاني"
"وليس الاستثبات بإسقاط، ولا من أسبابه".(19)
ويمكن مناقشة الوجه الثاني بما يلي:
بأن ماعزاً –رضي الله عنه- لم يرجع عن إقراره البتة، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، ويدل لذلك ما يلي:
أولاً: ما جاء عن بريدة –رضي الله عنه- أنه قال: "كنا –أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة".(20)
فقوله: "لو رجعا بعد اعترافهما.." يدل على عدم رجوعهما عن اعترافهما البتة، وكون الرسول –صلى الله عليه وسلم- لن يطلبهما، فلأنهما جاءا تائبين، وهكذا يفعل مع كل مقرٍّ قد جاء تائباً.
ثانياً: ما جاء في بعض روايات الحديث، عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- أنه قال: "كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإن قومي قتلوني وغروني وأخبروني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأخبرناه قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" ليتثبت رسول الله منه، فأما لترك حدٍّ فلا"(21)
فقول ما عز –رضي الله عنه- " يا قوم ردوني.." ظاهر في أنه لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، إذ لو كان قد رجع عن إقراره، لصرح بذلك، بدلاً من قوله "إن قومي قتلوني..".
ثالثاً: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال عنه: "لقد تاب توبةً لو قسمت بين أمة لوسعتهم"(22).
وقال –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه"(23).
وهذا يدل على أن أثر الإقرار باق في حقه إذ لا توبة إلا من زنا، فقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لقد تاب توبةً..." دليل على ثبوت الذنب في حقه، ولو كان هربه رجوعاً عن إقراره لارتفع عنه أثره.
رابعاً: قوله –صلى الله عليه وسلم- "هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه".
فقوله –صلى الله عليه وسلم-" لعله أن يتوب.." يدل على أن ماعزاً –رضي الله عنه- لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، وأراد أن يتوب بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ولو كان ماعز –رضي الله عنه- قد رجع عن إقراره لقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه، لأنه رجع عن إقراره، لكن لم يقله وقال –صلى الله عليه وسلم-"لعله أن يتوب.." مما يدل على أن ماعزاً لم يرجع عن إقراره، وإنما أراد التوبة بينه وبين الله سبحانه وتعالى والرجوع عن طلبه إقامة الحد عليه.
خامساً: أن ماعزاً –رضي الله عنه- قد جاء تائباً مقراً، معترفاً بذنبه، فكيف يرجع عن ذلك، ويكذب نفسه؟!
قال ابن المنذر:
"وليس في شيء من الأخبار أن ماعزاً رجع عما أقر به"(24).
وقال ابن حزم:
"أما حديث ماعز فلا حجة لهم فيه أصلاً، لأنه ليس فيه أن ماعزاً رجع عن الإقرار البتة، لا بنص، ولا بدليل، ولا فيه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: إن رجع عن إقراره قُبِل رجوعه –أيضاً- البتة".(25)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وقد قيل في ماعز: إنه رجع عن الإقرار، وهذا أحد القولين فيه، في مذهب أحمد وغيره، وهو ضعيف والأول(26) أجود".(27)
وقال ابن حجر:
"وفي هذا الحديث من الفوائد: منقبة عظيمة لماعز بن مالك، لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه، مع توبته ليتم تطهيره، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي إزهاق نفسه على ذلك، وقوي عليه"(28).
فإن قيل: إذا لم يكن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه" يدل على رجوعه عن إقراره، فعلى أي شيء يدل؟ (29)
قلنا: الجواب عن ذلك ما يلي:
أن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه" لا يدل على أن ماعزاً –رضي الله عنه- رجع عن إقراره، وإنما يدل على أحد أمرين:
الأول: وهو أصحهما: أن ماعزاً رجع عن طلب إقامة الحد عليه، فيقبل منه ويترك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه، ومن هذه حاله لا تجب إقامة الحد عليه –أصلاً- إلا بطلبه.
وإذا رجع عن طلب إقامة الحد عليه، أو عن إقراره، قُبِل منه ذلك، وإذا لم يَعُدْ بعد رده والإعراض عنه –حين أقر- لم يُطلب، وإذا هرب في أثناء إقامة الحد عليه، ترك ولم يكمل عليه(30).
والثاني: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أراد الاستثبات منه، والتحقق، فقد يأتي بشبهة حقيقية موجبة للاشتباه(31).
ويدل لذلك ما جاء عن جابر –رضي الله عنه-.
فإن قيل:
إن قول بريدة –رضي الله عنه-: "كنا أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نتحدث (32)يدل على أن ماعزاً لو رجع عن إقراره قبل منه.
قلنا: الجواب عن ذلك ما يلي:
أولاً: أن هذا الحديث ضعيف(33).
ثانياً: أن من الصحابة من يرى غير ذلك(34).
ثالثاً: أن التحدث الواقع بينهم مجرد ظن وحدس(35).
رابعاً: أن قبول رجوع ماعز والغامدية –لو رجعا- إنما هو لكونهم قد جاءا تائبين معترفين بذنبهما، وهكذا يفعل مع كل مقرٍّ قد جاء تائباً، بل لا تجب إقامة الحد عليه إلا بطلبه(36).
الدليل الثاني:
عن أبي أمية المخزومي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أتي بلص قد اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه متاع، فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "ما إخالك سرقت" قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فقطع.. الحديث(37).
وجه الاستدلال:
أن كون الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُعرِّض لهذا الرجل بالرجوع عن إقراره يدل دلالة واضحة على قبول الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً وإلا لما كان لذلك فائدة(38).
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن هذا الحديث ضعيف(39).
ثانياً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بالرجوع من باب الاستثبات(40).
وذلك أن هذا الرجل قد اعترف بالسرقة، ولم يوجد معه متاع، فيخشى كونه ظن أن السرقة تثبت بكل قليل وكثير. قال الخطابي:
"وجه هذا الحديث عندي –والله أعلم- أنه –صلى الله عليه وسلم- ظنَّ بالمعترف بالسرقة غفلةً، أو أنه ظن أنه لا يعرف معنى السرقة، ولعله قد كان مالاً له، أو اختلسه، أو نحو ذلك مما يخرج من هذا الباب عن معاني السرقة، والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم السرقة، فوافقه، رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واستثبت الحكم فيه"(41).
وقال ابن حزم: "لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه إلا "ما إخالك سرقت" ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا الحق، فلو صح أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال للذي سيق إليه بالسرقة "ما إخالك سرقت" لكنا على يقين من أنه عليه السلام قد صدق في ذلك،وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق، وليس في هذا تلقين له"(42).
ثالثاً: بأن ذلك خاص بمن رجع عن إقراره، ولم يكن ثمة قرائن تُكذِّبه، لأن هذا السارق لو رجع لم يكن ثمة قرائن تُكذبه.
رابعاً: بأن ذلك خاص بمن أقر، ثم أصر على إقراره واستمر –وإن لم يجيء تائباً- لأن إصراره على إقراره يدل على توبته، وأنه يريد التطهير، كحال ماعز والغامدية –رضي الله عنهما.
قال ابن القيم –فيما تضمنه هذا الحديث من أحكام-:
"التعريض للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حكم كل سارق، بل من السُرَّاق من يقر بالعقوبة والتهديد"(43).
الدليل الثالث:
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال –صلى الله عليه وسلم- "ادفعوا الحدود، ما وجدتم لها مدفعاً"(44) وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم"(45).
وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "أدرأوا الحدود بالشبهات"(46).
وجه الاستدلال:
أن الرجوع عن الإقرار بحد يُعد شبهة –لاحتمال كذبه في إقراره- فيدرأ الحد به(47).
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن هذه الأحاديث –وكذلك الآثار الواردة في هذا الباب- ضعيفة لا تقوم بها حجة(48).
قال ابن حزم:
"وأما "ادرأوا الحدود بالشبهات" فما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضاً جاء عنه عليه السلام مسنداً، ولا مرسلاً، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود وعمر فقط"(49)
وقال:
"جاء من طرق ليس فيها عن النبي –صلى الله عليه وسلم- نص، ولا كلمة، وإنما هي عن بعض أصحابه من طرق كلها لا خير فيها"(50).
وقال:
"وهي كلها لا شيء: أما طريق عبد الرزاق فمرسل، والذي من طريق عمر كذلك، لأنه عن إبراهيم عن عمر، ولم يولد إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو خمسة عشر عاماً، والآخر الذي عن ابن مسعود مرسل، لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، أما أحاديث ابن حبيب ففضيحة، ولو لم يكن فيها غيره لكفى، فكلها مرسلة.
فحصل مما ذكرنا أن اللفظ الذي تعلقوا به لا نعلمه روي عن أحد أصلاً، وهو "ادرأوا الحدود بالشبهات" لا عن صاحب، ولا عن تابع..." (51)
ويمكن الإجابة عن ذلك بما يلي:
أولاً: بأن ذلك قد صح عن عمر (52) وابن مسعود (53) –رضي الله عنهما.
ثانياً: بأن درء الحدود بالشبهات –وإن لم تصح الأحاديث والآثار الواردة- أصل متفق عليه بين علماء الأمة، وعليه العمل(54) لأن النصوص تدل على حرمة دم المسلم وعرضه، ومنع الإضرار به، والحط من سمعته وقدره، إلا بدليل واضح يعتمد عليه، وتدل أيضاً- أي النصوص على أن الأصل براءته حتى تقوم البينة عليه(55).
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي:
أولاً: بأن كون ذلك –أي درء الحدود بالشبهات- أصل متفق عليه- غير مسلم به، لخلاف أهل الظاهر في ذلك(56).
قال ابن حزم:
"ذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى، ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة،... وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة"(57).
ثانياً: بأن كون الحدود تدرأ الحد بكل شبهة، غير مسلم به كذلك، فلابد أن تكون الشبهة قوية، حقيقية، موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس، وإلا لم يُقم حد على وجه الأرض. (58) قال الشوكاني:
"وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحد عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه، موقعه في اللبس، وإلا كان ذلك من إهمال الحدود التي ورد الوعيد الشديد على من لم يقمها"(59).
فهل الرجوع عن الإقرار شبهة موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس؟!
قال الشوكاني:
"الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله"(60).
وقال:
"لا بد من أن يكون رجوعه محتملاً للصدق، حتى يكون شبهة له، وإلا كان من دفع ما قد تكلم به لسانه، وأقر به على نفسه بما لا يصح الدفع، وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحد عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه...." (61)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"إسقاط العقوبة بالتوبة –كما دلت عليه النصوص- أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قُبِل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار –مع أنه قد يكون صادقاً- فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى" (62)
فالحاصل:
أن الرجوع عن الإقرار ليس بشبهة يدرأ بها الحد –ولا سيما إذا كانت القرائن تدل على كذبه فيه- لأن احتمال كذبه في الرجوع أقرب منه في الإقرار، إذ يبعد أن يكذب على نفسه، ويشهد عليها بالزنا أو بالسرقة –مثلاً- أما أن يكذب في رجوعه عن إقراره –ولا سيما إذا رأى أن الحد سوف يقام عليه- فهذا قريب، وقريب جداً(63).
الدليل الرابع:
قضاء الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم-
فعن ابن حريج قال: سمعت عطاء يقول: كان من مضى يؤتى بالسارق فيهم، فيقال له: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قل: لا ولا أعلمه إلا سمَّى أبا بكر وعمر –رضي الله عنهما(64)
وعن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد قال: "أُتي عمر بن الخطاب برجل، فسأله أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه ولم يقطعه".(65)
وعن ابن جريح عن عكرمة بن خالد قال: "أُتي عمر بسارق قد اعترف، فقال عمر:إني لأرى يد رجل ما هي بيد سارق، قال الرجل: والله ما أنا بسارق، فأرسله عمر ولم يقطع".(66)
وجه الاستدلال:
أن هذه الآثار فيها التلقين بالإنكار، والتعريض بالرجوع عن الإقرار، مما يدل على قبول الرجوع عن الإقرار، وإلا لما كان لذلك فائدة.
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن هذه الآثار ضعيفة، لا يصح منها شيء، ولا تقوم بها حجة"(67).
ثانياً: بأنه ليس في هذه الآثار ما يدل على قبول الرجوع عن الإقرار، وإنما فيها التلقين بالإنكار، خشية الإقرار بما يوجب الحد –كما في الأثرين الأولين- والتعريض بالرجوع عن إقرار حصل قبل وصول الأمر إلى الحاكم الشرعي. (68) –كما في الأثر الثالث- خشية الاستمرار عليه والإقرار مرة أخرى أمام الحاكم بما يوجب الحد.
ثالثاً: بأن ذلك خاص بمن أقر، وأصر على إقراره، لأن إصراره على إقراره واستمراره عليه، يدل على توبته وأنه يريد التطهير، كحال ماعز والغامدية –رضي الله عنهما- قال ابن القيم –عن قوله- صلى الله عليه وسلم- "ما إخالك سرقت".(69):
"التعريض للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حكم كل سارق"(70)
رابعاً: بأن هذا خاص بمن رجع عن إقراره ولم يكن ثمة قرائن تكذبه.
الدليل الخامس:
القياس: قياس الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً على الرجوع عن الشهادة:
فكون الرجوع عن الشهادة مقبولاً، ويرفع أثرها، فكذلك الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً يقبل، ويرفع أثره"(71).
ويمكن مناقشته بما يلي: بأن هذا القياس قياس مع الفارق، ووجه ذلك أن يقال:
شهادة الشاهد على غيره يعتريها الخطأ والعدوان، بخلاف الشهادة على النفس، فإن الخطأ فيها والعدوان من أبعد ما يمكن، إذ يبعد أن يخطئ الإنسان على نفسه، ويشهد عليها بسرقة، أو بزنا –مثلاً- أو يعتدي عليها، ويلطخها بذلك، ويرضى بالعقوبة، وهو كاذب، لم يزن، ولم يسرق.
أما أن يخطئ في شهادته على غيره، أو يعتدي، فهذا قريب، وقريب جداً.
القول الثاني: عدم قبول رجوعه مطلقاً.
وإليه ذهب بعض السلف(72) وأهل الظاهر(73)، وهو رواية عن الإمام مالك(74) وقول للشافعي(75)، ورجحه ابن المنذر في الرجوع عن الإقرار بزنا(76) والشوكاني(77).
قال الخطالي:
"وقال مالك بن أنس، وابن أبي ليلى، وأبو ثور –رحمهم الله-: "لا يقبل رجوعه، ولا يدفع عنه الحد، وكذلك قال أهل الظاهر.
وروي عن الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله".(78)
وقال البغوي: "وذهب جماعة إلى أن الحد لا يسقط عنه بالرجوع عن الإقرار وروي ذلك عن جابر. وقول الحسن البصري وسعيد بن جبير وإليه ذهب ابن أبي ليلى وأبو ثور. (79)
وقال ابن قدامة:
"وقال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى: يقام عليه الحد، ولا يترك"(80)
وقال: "وقال ابن أبي ليلى، وداود: لا يقبل رجوعه"(81).
وقال ابن المنذر:
وإذا أقر الرجل بالزنا مرة، ثم رجع لم يقبل رجوعه، وأقيم عليه الحد"(82)
وقال الشوكاني:
"وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على أن الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد، وقد حصل المقتضي بالإقرار، فلا يسقط إلا بدليل يدل على سقوطه، دلالة بينة ظاهرة"(83)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –عن سقوط الحد عن ماعز –"يقولون: سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار، ويقولون: رجوعه عن الإقرار مقبول، وهو ضعيف، بل فرق بين من أقر تائباً ومن أقر غير تائب"(84).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم".(85)
وجه الاستدلال:
أن المؤمن مأمور بالشهادة لله بالحق، ولو على نفسه، مما يدل على قبول شهادته على نفسه، وأنه لا يقبل منه الرجوع فيها، وإلا لم يكن لذلك فائدة(86).
قال ابن حزم:
"فكل من ذكرنا مأمور بالإقرار بالحق على نفسه، ومن الباطل بأن يفترض عليهم ما لا يقبل منهم"(87).(88)
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن كون الرجوع عن الشهادة على النفس غير مقبول على كل حال، فهذا غير مسلم به، أما كونه لا يقبل في حق الآدمي، وقبل في حق الله سبحانه وتعالى فهذا مسلم به، لأن حق الله سبحانه وتعالى مبني على المسامحة، والمساهلة، بخلاف حق الآدمي، فإنه ليس كذلك، بل هو مبني على المشاحة(89).
ثانياً: بأن كون الرجوع عن الشهادة على النفس غير مقبول على كل حال، ولو كان في حق الله سبحانه وتعالى، فهذا مسلم به كذلك إلا إذا كان الرجوع من مقرٍّ قد جاء تائباً، لحديث ماعز، فإن فيه –وإن كان ماعز لم يرجع عن إقراره البتة- ما يدل على ذلك، أو كان ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه، للنصوص الدالة على حرمة دم المسلم وعرضه، إلا بدليل واضح يعتمد عليه، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تدل على كذبه، لحديث أبي أمية، وفيه تعريض الرسول –صلى الله عليه وسلم- للسارق بعدم الإقرار، لأنه لو رجع لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
الدليل الثاني:
حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني –رضي الله عنهما- وفيه قوله –صلى الله عليه وسلم- لأنيس: "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها"(90).
وجه الاستدلال:
أن كون الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يقل لأنيس "ما لتم ترجع عن اعترافها" مع دعاء الحاجة إليه هنا، يدل على عدم قبول الرجوع عن الإقرار مطلقاً.
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن كون الرجوع عن الإقرار غير مقبول مطلقاً، فهذا غير مسلم به، لمخالفته دلالة النصوص المتقدمة، من كونه يقبل إذا كان من مقر جاء تائباً، أو إذا لم يكن ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
وعللوا لذلك بما يلي:
التعليل الأول:
أن الإنسان إذا شهد على نفسه بالزنا –مثلاً- فقد صدق عليه وصف الزاني، وثبت عليه الحد –حينئذ- فلا يمكن دفعه، لأنه قد علق على وصف ثبت بإقرار من اتصف به، فبمجرد ما ثبت الإقرار ثبت الحد، فما الذي يرفعه؟ (91)
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن الذي يرفعه هو ما تقدم من النصوص، الدالة على قبول الرجوع عن الإقرار، إذا كان من مقر جاء تائباً، أو كانت ثمة شبهة موجبة للاشتباه، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
التعليل الثاني:
أنه يبعد أن يكذب الإنسان على نفسه، ويشهد عليها بالزنا مثلاً، أما أن يكذب في رجوعه عن إقراره –ولا سيما إذا رأى أن الحد سوف يقام عليه- فهذا قريب، وقريب جداً، بل هو الظاهر لكل أحد(92).
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن هذا مسلم به، ولذلك لم يقبل رجوعه على كل حال، وإنما يقبل في الأحوال الثلاثة –المتقدمة- التي دلت عليها النصوص.
القول الثالث: قبول رجوعه، إن كان له شبهة وما لا فلا.
وإليه ذهب الإمام مالك في إحدى الروايتين عنه(93)، وبه أخذ بعض أصحابه، كعبد الملك، وأشهب(94).
واستدل لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
حديث ماعز –رضي الله عنه- وفيه أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "فهلا تركتموه، وجئتموني به" قال جابر –رضي الله عنه-: "ليستثبت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- منه، فأما لترك حد فلا"(95)
وجه الاستدلال:
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" لينظر في أمره، ويستثبت: فقد يأتي بشبهة تدرأ عنه الحد، مما يدل على قبول رجوعه عن إقراره إن كان له شبهة وما لا فلا"(96).
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال ذلك لينظر في أمره ويستثبت: فقد يأتي بشبهة، فهذا غير مسلم به، بل قال ذلك لكون ماعز قد رجع عن طلب إقامة الحد عليه، فيقبل منه ذلك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه.
ثانياً: بأن كون الرجوع عن الإقرار مقبولاً إن كان له أي شبهة فهذا غير مسلم به كذلك، فلابد أن تكون الشبهة حقيقية موجبة للاشتباه.
قال الشوكاني:
"إنما أراد –صلى الله عليه وسلم- من رجوعه إليه الاستثبات، إذا جاء بشبهة مقبولة"(97).
ثالثاً: بأن كون الرجوع عن الإقرار مقبولاً إن كان له شبهة وما لا فلا، فهذا غير مسلم به كذلك، بل الرجوع عن الإقرار مقبول –وإن لم يكن له شبهة- إذا كان من مقرٍّ جاء تائباً، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه، للنصوص الواردة في ذلك.
الدليل الثاني:
قوله –صلى الله عليه وسلم- لماعز حين أقر: "لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت"(98).
وجه الاستدلال:
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرَّض له بذلك، عله يرجع عن إقراره، ويذكر لرجوعه شبهة تدرأ عنه الحد، مما يدل على قبول رجوعه إن كان له شبهة وما لا فلا.
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بذلك للاستثبات منه.
ثانياً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بذلك، لكونه جاء تائباً معترفاً بذنبه، ومن هذه حاله يقبل رجوعه عن إقراره، ذكر شبهة أو لا.
ويمكن مناقشته –كذلك- بالوجهين الثاني والثالث، اللذين نوقش بهما الدليل الأول.
الدليل الثالث:
حديث علي –رضي الله عنه- في درء الحدود بالشبهات(99).
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث يدل على أن الحدود تدرأ بالشبهات، وعليه فإذا رجع عن إقراره، وذكر شبهة قُبل رجوعه، وما لا فلا.
ويمكن مناقشته –كذلك- بالوجهين الثاني والثالث، اللذين نوقش بهما الدليل الأول.
الترجيح:
الذي يظهر لي –والله أعلم بالصواب- أن الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً غير مقبول، إلا إن كان من تائب قد جاء معترفاً بذنبه يريد التطهير. (100) أو كان ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس(101)، أو لم يكن ثمة قرائن تكذبه(102).
قال شيخ الإسلام:
"وقد قيل في ماعز: إنه رجع عن الإقرار، وهذا أحد القولين فيه...وهو ضعيف، والأول أجود، وهؤلاء يقولون: سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار، ويقولون: رجوعه عن الإقرار مقبول، وهو ضعيف، بل فرق بني من أقر تائباً ومن أقر غير تائب، فإسقاط العقوبة بالتوبة –كما دلت عليه النصوص- أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقاً فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى".(103)وقال:
"الرجوع عن الدعوى مقبول، والرجوع عن الإقرار غير مقبول، والإقرار الذي لم يتعلق به حق لله، ولا حق لآدمي هو من باب الدعاوى. فيصح الرجوع عنه".(104)
أما الإقرار الذي يتعلق به حق لله سبحانه وتعالى أو حق لآدمي فليس من باب الدعاوى، فلا يصح الرجوع عنه، ولايقبل.
هذا مفهوم كلامه –رحمه الله-.
وقال الشيخ الفقيه العلامة محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- في شرح البلوغ، باب حد الزنا:
"وقال بعض العلماء: إنه لا يقبل رجوعه عن الإقرار، ولا سيما إذا احتفت به قرائن، لأن ماعز –رضي الله عنه- لم يرجع، ولكنه هرب، بخلاف الراجع؛ لأن الراجع في الحقيقة متلاعب بالأحكام الشرعية، ومتلاعب بالحكام".
ثم قال –رحمه الله-:
"هل يمكن أن تأتي الشريعة الحكيمة بقبول رجوع مثل هذا؟ الجواب: أبداً لا يمكن".
ثم قال رحمة الله:
"ثم إنه إذا احتفت به القرائن لا يتجه إطلاقاً القول بجواز الرجوع، أو بقبول الرجوع".
ثم قال –رحمه الله-:
"إذا صرح في إقراره بالزنا وذكر القرائن التي تشهد لما صنع ثم نقول: يقبل رجوعه استدلالاً بحديث ماعز، فهذا بعيد جداً".
وقال –رحمه الله- في شرحه للبلوغ أيضاً، باب حد السرقة:
"فيكون القول الراجح الوسط في هذا إذا وجدت قرائن تشهد بأن رجوعه ليس بصحيح فإن رجوعه لا يقبل، وإن لم توجد فإنه يقبل رجوعه".
ثم قال –رحمه الله-
"وأما مع وجود القرينة فلا وجه لقبول رجوعه، ولا يمكن أن يكون هذا القول عملياً في أحوال الناس لا سيما مع كثرة السرقات".
وقال –رحمه الله- في شرحه للزاد، باب حد السرقة:
"هل نقول: إن عموم كلام الفقهاء حيث قالوا: "ولا ينزع عن إقراره حتى يقام عليه الحد" يقتضي أن هذا الذي رجع عن إقراره ووجد المال المسروق عنده ووصف السرقة هو بنفسه، فهو لم يقل: سرقت فقط بل ذهب بنا إلى المحل وأرانا كيف صنع فهل نقول: إن عموم كلام الأصحاب يقتضي أن يرفع عنه الحد، لأنه رجع، أو نقول: إن كلامهم هذا فيما إذا كان ثبوت السرقة مجرد إقرار أما مع وجود هذه القرائن التي ذكرها، ووجد المال عنده فهذا يشبه أن يكون بينةً، إن لم يكن أقوى من شهود الشاهدين فليس دونه، فالظاهر لي أن مثل هذه الصورة لا تنطبق على كلام المؤلف، لأن كلام المؤلف إذا كانت المسألة مجرد إقرار، أما مع وجود القرائن ووجود المال عنده وعلى حسب ما وصف تماماً فلا".
ثم قال –رحمه الله-:
"فالصواب إذاً أن الرجوع عن الإقرار غير مقبول مطلقاً، فكيف إذا احتفت به القرائن التي تدل على كذب الرجوع وأن السرقة واقعة تماماً".
ثم قال –رحمه الله-:
"وإذا ادعى الإكراه وكان يمكن أن يكره رفعنا عنه الحد".
وقال –رحمه الله- في شرحه للزاد، باب حد الزنا:
"إذا رجع وقال إني مكره، فإنه ينظر للقرينة فإن كان هناك قرينة عمل بها لأنه أحياناً يضرب حتى يقر، بدون اختياره".
وقال –رحمه الله-:
"والمهم أن درء الحدود بمثل هذه الشبهات البعيدة بعيد من الصواب، والإنسان يجب أن يسوس الأمة بما يمنع الفساد".
وقال –رحمه الله-:
"وأما حديث: "ادرءوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم"، فهو حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، وما أكثر ما يعتمد المتهاونون عليه في إقامة الحدود، كما جاءت حدود قد تكون مثل الشمس قالوا: قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "ادرءوا... الحديث" حتى يجعلون ما ليس شبهة شبهة، ونحن باعتمادنا على الحديث نحتاج إلى أمرين:
أولاً: ثبوت الحديث، ثانياً: تحقيق المناط هل هذا شبهة أو غير شبهة...".
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
لقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قبول رجوعه مطلقاً.
وإليه ذهب الحنفية(2)والشافعية(3)، والحنابلة(4) وهو الرواية المشهورة عند المالكية(5).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- في ذكر قصة ما عز –رضي الله عنه- حين شهد على نفسه بالزنا، وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وردده مراراً (6)، وقال له: "ويحك، أرجع فاستغفر الله، وتب إليه"(7). وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال له: "لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت"(8) وفيه:
أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال للذين رجموه حين هرب لما وجد مس الحجارة: "فهلا تركتموه"(8)
وفي رواية: "هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه"(9)
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث يدل على قبول رجوعه من وجهين:
الأول: كونه –صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وردده، وعرَّض له بالرجوع، وإلا لما كان لذلك فائدة. (10)
الثاني: كونه –صلى الله عليه وسلم- قال لمن رجمه بعد هربه: "هلا تركتموه" لأن الهرب دليل الرجوع".(11)
ويمكن مناقشة الوجه الأول بما يلي:
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما فعل مع ماعز ما فعله من ترديد، وإعراض، وتعريض، لأمرين:
الأول: كون ماعز –رضي الله عنه- قد جاء تائباً.
وهكذا يفعل الترديد، والإعراض، والتعريض بالرجوع عن الإقرار مع كل مقر جاء تائباً معترفاً بذنبه بخلاف غيره، فلا يفعل معه ذلك، فإذا رجع عن إقراره وقد جاء تائباً قبل منه رجوعه، بل إذا رجع عن طلب إقامة الحد عليه ترك ولو لم يرجع عن إقراره لحديث ماعز، فإنه لما هرب حين وجد مس الحجارة قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- لمن رجمه: "هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه" مما يدل على أنه لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه –كما سيأتي- فيقبل منه ذلك، ويسقط عنه الحد، ويترك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه ومن هذه حالُه لا تجب إقامة الحد عليه أصلاً إلا بطلبه، لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يقمه على ما عز والغامدية إلا بعد طلبهما لذلك وإصرارهما عليه أما مجرد إقرارهما فلا يعتبر طلباً لإقامة الحد عليهما، ولذلك لم يلتفت إليه الرسول –صلى الله عليه وسلم- بل أعرض عنه(12).
الثاني: كونه –صلى الله عليه وسلم- يريد الاستثبات(13).
ويدل لذلك أنه –صلى الله عليه وسلم- سأله: "أبك جنون"؟ قال: لا(14).
وسأل عنه: "أنه جنون؟"، "أشرب خمراً؟" (15).
وأرسل إلى قومه، وسألهم: "أتعلمون بعقله بأساً؟ أتنكرون مه شيئاً؟" (120)
ويدل لذلك أيضاً ما جاء عن جابر –رضي الله عنه- أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما قال: "فهلا تركتموه، وجئتموني به" ليستثبت منه ليس إلا فأما لترك حد فلا".(17)
قال ابن حجر: "وفيه –يعني حديث ماعز" التثبت في إزهاق نفس المسلم، والمبالغة في صيانته، لما وقع في القصة من ترديده، والإيماء إليه بالرجوع، والإشارة إلى قبول دعواه، إن ادعى إكراهاً.." (18)
قال الشوكاني"
"وليس الاستثبات بإسقاط، ولا من أسبابه".(19)
ويمكن مناقشة الوجه الثاني بما يلي:
بأن ماعزاً –رضي الله عنه- لم يرجع عن إقراره البتة، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، ويدل لذلك ما يلي:
أولاً: ما جاء عن بريدة –رضي الله عنه- أنه قال: "كنا –أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة".(20)
فقوله: "لو رجعا بعد اعترافهما.." يدل على عدم رجوعهما عن اعترافهما البتة، وكون الرسول –صلى الله عليه وسلم- لن يطلبهما، فلأنهما جاءا تائبين، وهكذا يفعل مع كل مقرٍّ قد جاء تائباً.
ثانياً: ما جاء في بعض روايات الحديث، عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- أنه قال: "كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإن قومي قتلوني وغروني وأخبروني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأخبرناه قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" ليتثبت رسول الله منه، فأما لترك حدٍّ فلا"(21)
فقول ما عز –رضي الله عنه- " يا قوم ردوني.." ظاهر في أنه لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، إذ لو كان قد رجع عن إقراره، لصرح بذلك، بدلاً من قوله "إن قومي قتلوني..".
ثالثاً: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال عنه: "لقد تاب توبةً لو قسمت بين أمة لوسعتهم"(22).
وقال –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه"(23).
وهذا يدل على أن أثر الإقرار باق في حقه إذ لا توبة إلا من زنا، فقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لقد تاب توبةً..." دليل على ثبوت الذنب في حقه، ولو كان هربه رجوعاً عن إقراره لارتفع عنه أثره.
رابعاً: قوله –صلى الله عليه وسلم- "هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله عليه".
فقوله –صلى الله عليه وسلم-" لعله أن يتوب.." يدل على أن ماعزاً –رضي الله عنه- لم يرجع عن إقراره، وإنما رجع عن طلب إقامة الحد عليه، وأراد أن يتوب بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ولو كان ماعز –رضي الله عنه- قد رجع عن إقراره لقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه، لأنه رجع عن إقراره، لكن لم يقله وقال –صلى الله عليه وسلم-"لعله أن يتوب.." مما يدل على أن ماعزاً لم يرجع عن إقراره، وإنما أراد التوبة بينه وبين الله سبحانه وتعالى والرجوع عن طلبه إقامة الحد عليه.
خامساً: أن ماعزاً –رضي الله عنه- قد جاء تائباً مقراً، معترفاً بذنبه، فكيف يرجع عن ذلك، ويكذب نفسه؟!
قال ابن المنذر:
"وليس في شيء من الأخبار أن ماعزاً رجع عما أقر به"(24).
وقال ابن حزم:
"أما حديث ماعز فلا حجة لهم فيه أصلاً، لأنه ليس فيه أن ماعزاً رجع عن الإقرار البتة، لا بنص، ولا بدليل، ولا فيه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: إن رجع عن إقراره قُبِل رجوعه –أيضاً- البتة".(25)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وقد قيل في ماعز: إنه رجع عن الإقرار، وهذا أحد القولين فيه، في مذهب أحمد وغيره، وهو ضعيف والأول(26) أجود".(27)
وقال ابن حجر:
"وفي هذا الحديث من الفوائد: منقبة عظيمة لماعز بن مالك، لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه، مع توبته ليتم تطهيره، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي إزهاق نفسه على ذلك، وقوي عليه"(28).
فإن قيل: إذا لم يكن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه" يدل على رجوعه عن إقراره، فعلى أي شيء يدل؟ (29)
قلنا: الجواب عن ذلك ما يلي:
أن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "هلا تركتموه" لا يدل على أن ماعزاً –رضي الله عنه- رجع عن إقراره، وإنما يدل على أحد أمرين:
الأول: وهو أصحهما: أن ماعزاً رجع عن طلب إقامة الحد عليه، فيقبل منه ويترك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه، ومن هذه حاله لا تجب إقامة الحد عليه –أصلاً- إلا بطلبه.
وإذا رجع عن طلب إقامة الحد عليه، أو عن إقراره، قُبِل منه ذلك، وإذا لم يَعُدْ بعد رده والإعراض عنه –حين أقر- لم يُطلب، وإذا هرب في أثناء إقامة الحد عليه، ترك ولم يكمل عليه(30).
والثاني: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أراد الاستثبات منه، والتحقق، فقد يأتي بشبهة حقيقية موجبة للاشتباه(31).
ويدل لذلك ما جاء عن جابر –رضي الله عنه-.
فإن قيل:
إن قول بريدة –رضي الله عنه-: "كنا أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نتحدث (32)يدل على أن ماعزاً لو رجع عن إقراره قبل منه.
قلنا: الجواب عن ذلك ما يلي:
أولاً: أن هذا الحديث ضعيف(33).
ثانياً: أن من الصحابة من يرى غير ذلك(34).
ثالثاً: أن التحدث الواقع بينهم مجرد ظن وحدس(35).
رابعاً: أن قبول رجوع ماعز والغامدية –لو رجعا- إنما هو لكونهم قد جاءا تائبين معترفين بذنبهما، وهكذا يفعل مع كل مقرٍّ قد جاء تائباً، بل لا تجب إقامة الحد عليه إلا بطلبه(36).
الدليل الثاني:
عن أبي أمية المخزومي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أتي بلص قد اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه متاع، فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "ما إخالك سرقت" قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فقطع.. الحديث(37).
وجه الاستدلال:
أن كون الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُعرِّض لهذا الرجل بالرجوع عن إقراره يدل دلالة واضحة على قبول الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً وإلا لما كان لذلك فائدة(38).
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن هذا الحديث ضعيف(39).
ثانياً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بالرجوع من باب الاستثبات(40).
وذلك أن هذا الرجل قد اعترف بالسرقة، ولم يوجد معه متاع، فيخشى كونه ظن أن السرقة تثبت بكل قليل وكثير. قال الخطابي:
"وجه هذا الحديث عندي –والله أعلم- أنه –صلى الله عليه وسلم- ظنَّ بالمعترف بالسرقة غفلةً، أو أنه ظن أنه لا يعرف معنى السرقة، ولعله قد كان مالاً له، أو اختلسه، أو نحو ذلك مما يخرج من هذا الباب عن معاني السرقة، والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم السرقة، فوافقه، رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واستثبت الحكم فيه"(41).
وقال ابن حزم: "لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه إلا "ما إخالك سرقت" ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا الحق، فلو صح أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال للذي سيق إليه بالسرقة "ما إخالك سرقت" لكنا على يقين من أنه عليه السلام قد صدق في ذلك،وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق، وليس في هذا تلقين له"(42).
ثالثاً: بأن ذلك خاص بمن رجع عن إقراره، ولم يكن ثمة قرائن تُكذِّبه، لأن هذا السارق لو رجع لم يكن ثمة قرائن تُكذبه.
رابعاً: بأن ذلك خاص بمن أقر، ثم أصر على إقراره واستمر –وإن لم يجيء تائباً- لأن إصراره على إقراره يدل على توبته، وأنه يريد التطهير، كحال ماعز والغامدية –رضي الله عنهما.
قال ابن القيم –فيما تضمنه هذا الحديث من أحكام-:
"التعريض للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حكم كل سارق، بل من السُرَّاق من يقر بالعقوبة والتهديد"(43).
الدليل الثالث:
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال –صلى الله عليه وسلم- "ادفعوا الحدود، ما وجدتم لها مدفعاً"(44) وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم"(45).
وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "أدرأوا الحدود بالشبهات"(46).
وجه الاستدلال:
أن الرجوع عن الإقرار بحد يُعد شبهة –لاحتمال كذبه في إقراره- فيدرأ الحد به(47).
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن هذه الأحاديث –وكذلك الآثار الواردة في هذا الباب- ضعيفة لا تقوم بها حجة(48).
قال ابن حزم:
"وأما "ادرأوا الحدود بالشبهات" فما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضاً جاء عنه عليه السلام مسنداً، ولا مرسلاً، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود وعمر فقط"(49)
وقال:
"جاء من طرق ليس فيها عن النبي –صلى الله عليه وسلم- نص، ولا كلمة، وإنما هي عن بعض أصحابه من طرق كلها لا خير فيها"(50).
وقال:
"وهي كلها لا شيء: أما طريق عبد الرزاق فمرسل، والذي من طريق عمر كذلك، لأنه عن إبراهيم عن عمر، ولم يولد إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو خمسة عشر عاماً، والآخر الذي عن ابن مسعود مرسل، لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، أما أحاديث ابن حبيب ففضيحة، ولو لم يكن فيها غيره لكفى، فكلها مرسلة.
فحصل مما ذكرنا أن اللفظ الذي تعلقوا به لا نعلمه روي عن أحد أصلاً، وهو "ادرأوا الحدود بالشبهات" لا عن صاحب، ولا عن تابع..." (51)
ويمكن الإجابة عن ذلك بما يلي:
أولاً: بأن ذلك قد صح عن عمر (52) وابن مسعود (53) –رضي الله عنهما.
ثانياً: بأن درء الحدود بالشبهات –وإن لم تصح الأحاديث والآثار الواردة- أصل متفق عليه بين علماء الأمة، وعليه العمل(54) لأن النصوص تدل على حرمة دم المسلم وعرضه، ومنع الإضرار به، والحط من سمعته وقدره، إلا بدليل واضح يعتمد عليه، وتدل أيضاً- أي النصوص على أن الأصل براءته حتى تقوم البينة عليه(55).
ويمكن مناقشة ذلك بما يلي:
أولاً: بأن كون ذلك –أي درء الحدود بالشبهات- أصل متفق عليه- غير مسلم به، لخلاف أهل الظاهر في ذلك(56).
قال ابن حزم:
"ذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى، ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة،... وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة"(57).
ثانياً: بأن كون الحدود تدرأ الحد بكل شبهة، غير مسلم به كذلك، فلابد أن تكون الشبهة قوية، حقيقية، موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس، وإلا لم يُقم حد على وجه الأرض. (58) قال الشوكاني:
"وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحد عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه، موقعه في اللبس، وإلا كان ذلك من إهمال الحدود التي ورد الوعيد الشديد على من لم يقمها"(59).
فهل الرجوع عن الإقرار شبهة موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس؟!
قال الشوكاني:
"الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله"(60).
وقال:
"لا بد من أن يكون رجوعه محتملاً للصدق، حتى يكون شبهة له، وإلا كان من دفع ما قد تكلم به لسانه، وأقر به على نفسه بما لا يصح الدفع، وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحد عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه...." (61)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"إسقاط العقوبة بالتوبة –كما دلت عليه النصوص- أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قُبِل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار –مع أنه قد يكون صادقاً- فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى" (62)
فالحاصل:
أن الرجوع عن الإقرار ليس بشبهة يدرأ بها الحد –ولا سيما إذا كانت القرائن تدل على كذبه فيه- لأن احتمال كذبه في الرجوع أقرب منه في الإقرار، إذ يبعد أن يكذب على نفسه، ويشهد عليها بالزنا أو بالسرقة –مثلاً- أما أن يكذب في رجوعه عن إقراره –ولا سيما إذا رأى أن الحد سوف يقام عليه- فهذا قريب، وقريب جداً(63).
الدليل الرابع:
قضاء الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم-
فعن ابن حريج قال: سمعت عطاء يقول: كان من مضى يؤتى بالسارق فيهم، فيقال له: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قل: لا ولا أعلمه إلا سمَّى أبا بكر وعمر –رضي الله عنهما(64)
وعن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد قال: "أُتي عمر بن الخطاب برجل، فسأله أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه ولم يقطعه".(65)
وعن ابن جريح عن عكرمة بن خالد قال: "أُتي عمر بسارق قد اعترف، فقال عمر:إني لأرى يد رجل ما هي بيد سارق، قال الرجل: والله ما أنا بسارق، فأرسله عمر ولم يقطع".(66)
وجه الاستدلال:
أن هذه الآثار فيها التلقين بالإنكار، والتعريض بالرجوع عن الإقرار، مما يدل على قبول الرجوع عن الإقرار، وإلا لما كان لذلك فائدة.
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن هذه الآثار ضعيفة، لا يصح منها شيء، ولا تقوم بها حجة"(67).
ثانياً: بأنه ليس في هذه الآثار ما يدل على قبول الرجوع عن الإقرار، وإنما فيها التلقين بالإنكار، خشية الإقرار بما يوجب الحد –كما في الأثرين الأولين- والتعريض بالرجوع عن إقرار حصل قبل وصول الأمر إلى الحاكم الشرعي. (68) –كما في الأثر الثالث- خشية الاستمرار عليه والإقرار مرة أخرى أمام الحاكم بما يوجب الحد.
ثالثاً: بأن ذلك خاص بمن أقر، وأصر على إقراره، لأن إصراره على إقراره واستمراره عليه، يدل على توبته وأنه يريد التطهير، كحال ماعز والغامدية –رضي الله عنهما- قال ابن القيم –عن قوله- صلى الله عليه وسلم- "ما إخالك سرقت".(69):
"التعريض للسارق بعدم الإقرار، وبالرجوع عنه، وليس هذا حكم كل سارق"(70)
رابعاً: بأن هذا خاص بمن رجع عن إقراره ولم يكن ثمة قرائن تكذبه.
الدليل الخامس:
القياس: قياس الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً على الرجوع عن الشهادة:
فكون الرجوع عن الشهادة مقبولاً، ويرفع أثرها، فكذلك الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً يقبل، ويرفع أثره"(71).
ويمكن مناقشته بما يلي: بأن هذا القياس قياس مع الفارق، ووجه ذلك أن يقال:
شهادة الشاهد على غيره يعتريها الخطأ والعدوان، بخلاف الشهادة على النفس، فإن الخطأ فيها والعدوان من أبعد ما يمكن، إذ يبعد أن يخطئ الإنسان على نفسه، ويشهد عليها بسرقة، أو بزنا –مثلاً- أو يعتدي عليها، ويلطخها بذلك، ويرضى بالعقوبة، وهو كاذب، لم يزن، ولم يسرق.
أما أن يخطئ في شهادته على غيره، أو يعتدي، فهذا قريب، وقريب جداً.
القول الثاني: عدم قبول رجوعه مطلقاً.
وإليه ذهب بعض السلف(72) وأهل الظاهر(73)، وهو رواية عن الإمام مالك(74) وقول للشافعي(75)، ورجحه ابن المنذر في الرجوع عن الإقرار بزنا(76) والشوكاني(77).
قال الخطالي:
"وقال مالك بن أنس، وابن أبي ليلى، وأبو ثور –رحمهم الله-: "لا يقبل رجوعه، ولا يدفع عنه الحد، وكذلك قال أهل الظاهر.
وروي عن الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله".(78)
وقال البغوي: "وذهب جماعة إلى أن الحد لا يسقط عنه بالرجوع عن الإقرار وروي ذلك عن جابر. وقول الحسن البصري وسعيد بن جبير وإليه ذهب ابن أبي ليلى وأبو ثور. (79)
وقال ابن قدامة:
"وقال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى: يقام عليه الحد، ولا يترك"(80)
وقال: "وقال ابن أبي ليلى، وداود: لا يقبل رجوعه"(81).
وقال ابن المنذر:
وإذا أقر الرجل بالزنا مرة، ثم رجع لم يقبل رجوعه، وأقيم عليه الحد"(82)
وقال الشوكاني:
"وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على أن الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد، وقد حصل المقتضي بالإقرار، فلا يسقط إلا بدليل يدل على سقوطه، دلالة بينة ظاهرة"(83)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –عن سقوط الحد عن ماعز –"يقولون: سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار، ويقولون: رجوعه عن الإقرار مقبول، وهو ضعيف، بل فرق بين من أقر تائباً ومن أقر غير تائب"(84).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم".(85)
وجه الاستدلال:
أن المؤمن مأمور بالشهادة لله بالحق، ولو على نفسه، مما يدل على قبول شهادته على نفسه، وأنه لا يقبل منه الرجوع فيها، وإلا لم يكن لذلك فائدة(86).
قال ابن حزم:
"فكل من ذكرنا مأمور بالإقرار بالحق على نفسه، ومن الباطل بأن يفترض عليهم ما لا يقبل منهم"(87).(88)
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن كون الرجوع عن الشهادة على النفس غير مقبول على كل حال، فهذا غير مسلم به، أما كونه لا يقبل في حق الآدمي، وقبل في حق الله سبحانه وتعالى فهذا مسلم به، لأن حق الله سبحانه وتعالى مبني على المسامحة، والمساهلة، بخلاف حق الآدمي، فإنه ليس كذلك، بل هو مبني على المشاحة(89).
ثانياً: بأن كون الرجوع عن الشهادة على النفس غير مقبول على كل حال، ولو كان في حق الله سبحانه وتعالى، فهذا مسلم به كذلك إلا إذا كان الرجوع من مقرٍّ قد جاء تائباً، لحديث ماعز، فإن فيه –وإن كان ماعز لم يرجع عن إقراره البتة- ما يدل على ذلك، أو كان ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه، للنصوص الدالة على حرمة دم المسلم وعرضه، إلا بدليل واضح يعتمد عليه، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تدل على كذبه، لحديث أبي أمية، وفيه تعريض الرسول –صلى الله عليه وسلم- للسارق بعدم الإقرار، لأنه لو رجع لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
الدليل الثاني:
حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني –رضي الله عنهما- وفيه قوله –صلى الله عليه وسلم- لأنيس: "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها"(90).
وجه الاستدلال:
أن كون الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يقل لأنيس "ما لتم ترجع عن اعترافها" مع دعاء الحاجة إليه هنا، يدل على عدم قبول الرجوع عن الإقرار مطلقاً.
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن كون الرجوع عن الإقرار غير مقبول مطلقاً، فهذا غير مسلم به، لمخالفته دلالة النصوص المتقدمة، من كونه يقبل إذا كان من مقر جاء تائباً، أو إذا لم يكن ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
وعللوا لذلك بما يلي:
التعليل الأول:
أن الإنسان إذا شهد على نفسه بالزنا –مثلاً- فقد صدق عليه وصف الزاني، وثبت عليه الحد –حينئذ- فلا يمكن دفعه، لأنه قد علق على وصف ثبت بإقرار من اتصف به، فبمجرد ما ثبت الإقرار ثبت الحد، فما الذي يرفعه؟ (91)
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن الذي يرفعه هو ما تقدم من النصوص، الدالة على قبول الرجوع عن الإقرار، إذا كان من مقر جاء تائباً، أو كانت ثمة شبهة موجبة للاشتباه، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه.
التعليل الثاني:
أنه يبعد أن يكذب الإنسان على نفسه، ويشهد عليها بالزنا مثلاً، أما أن يكذب في رجوعه عن إقراره –ولا سيما إذا رأى أن الحد سوف يقام عليه- فهذا قريب، وقريب جداً، بل هو الظاهر لكل أحد(92).
ويمكن مناقشته بما يلي:
بأن هذا مسلم به، ولذلك لم يقبل رجوعه على كل حال، وإنما يقبل في الأحوال الثلاثة –المتقدمة- التي دلت عليها النصوص.
القول الثالث: قبول رجوعه، إن كان له شبهة وما لا فلا.
وإليه ذهب الإمام مالك في إحدى الروايتين عنه(93)، وبه أخذ بعض أصحابه، كعبد الملك، وأشهب(94).
واستدل لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
حديث ماعز –رضي الله عنه- وفيه أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "فهلا تركتموه، وجئتموني به" قال جابر –رضي الله عنه-: "ليستثبت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- منه، فأما لترك حد فلا"(95)
وجه الاستدلال:
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" لينظر في أمره، ويستثبت: فقد يأتي بشبهة تدرأ عنه الحد، مما يدل على قبول رجوعه عن إقراره إن كان له شبهة وما لا فلا"(96).
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال ذلك لينظر في أمره ويستثبت: فقد يأتي بشبهة، فهذا غير مسلم به، بل قال ذلك لكون ماعز قد رجع عن طلب إقامة الحد عليه، فيقبل منه ذلك، لكونه قد جاء تائباً معترفاً بذنبه.
ثانياً: بأن كون الرجوع عن الإقرار مقبولاً إن كان له أي شبهة فهذا غير مسلم به كذلك، فلابد أن تكون الشبهة حقيقية موجبة للاشتباه.
قال الشوكاني:
"إنما أراد –صلى الله عليه وسلم- من رجوعه إليه الاستثبات، إذا جاء بشبهة مقبولة"(97).
ثالثاً: بأن كون الرجوع عن الإقرار مقبولاً إن كان له شبهة وما لا فلا، فهذا غير مسلم به كذلك، بل الرجوع عن الإقرار مقبول –وإن لم يكن له شبهة- إذا كان من مقرٍّ جاء تائباً، أو إذا لم يكن ثمة قرائن تكذبه، للنصوص الواردة في ذلك.
الدليل الثاني:
قوله –صلى الله عليه وسلم- لماعز حين أقر: "لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت"(98).
وجه الاستدلال:
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرَّض له بذلك، عله يرجع عن إقراره، ويذكر لرجوعه شبهة تدرأ عنه الحد، مما يدل على قبول رجوعه إن كان له شبهة وما لا فلا.
ويمكن مناقشته بما يلي:
أولاً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بذلك للاستثبات منه.
ثانياً: بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- إنما عرَّض له بذلك، لكونه جاء تائباً معترفاً بذنبه، ومن هذه حاله يقبل رجوعه عن إقراره، ذكر شبهة أو لا.
ويمكن مناقشته –كذلك- بالوجهين الثاني والثالث، اللذين نوقش بهما الدليل الأول.
الدليل الثالث:
حديث علي –رضي الله عنه- في درء الحدود بالشبهات(99).
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث يدل على أن الحدود تدرأ بالشبهات، وعليه فإذا رجع عن إقراره، وذكر شبهة قُبل رجوعه، وما لا فلا.
ويمكن مناقشته –كذلك- بالوجهين الثاني والثالث، اللذين نوقش بهما الدليل الأول.
الترجيح:
الذي يظهر لي –والله أعلم بالصواب- أن الرجوع عن الإقرار بما يوجب حداً غير مقبول، إلا إن كان من تائب قد جاء معترفاً بذنبه يريد التطهير. (100) أو كان ثمة شبهة قوية موجبة للاشتباه، موقعة في اللبس(101)، أو لم يكن ثمة قرائن تكذبه(102).
قال شيخ الإسلام:
"وقد قيل في ماعز: إنه رجع عن الإقرار، وهذا أحد القولين فيه...وهو ضعيف، والأول أجود، وهؤلاء يقولون: سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار، ويقولون: رجوعه عن الإقرار مقبول، وهو ضعيف، بل فرق بني من أقر تائباً ومن أقر غير تائب، فإسقاط العقوبة بالتوبة –كما دلت عليه النصوص- أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقاً فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى".(103)وقال:
"الرجوع عن الدعوى مقبول، والرجوع عن الإقرار غير مقبول، والإقرار الذي لم يتعلق به حق لله، ولا حق لآدمي هو من باب الدعاوى. فيصح الرجوع عنه".(104)
أما الإقرار الذي يتعلق به حق لله سبحانه وتعالى أو حق لآدمي فليس من باب الدعاوى، فلا يصح الرجوع عنه، ولايقبل.
هذا مفهوم كلامه –رحمه الله-.
وقال الشيخ الفقيه العلامة محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- في شرح البلوغ، باب حد الزنا:
"وقال بعض العلماء: إنه لا يقبل رجوعه عن الإقرار، ولا سيما إذا احتفت به قرائن، لأن ماعز –رضي الله عنه- لم يرجع، ولكنه هرب، بخلاف الراجع؛ لأن الراجع في الحقيقة متلاعب بالأحكام الشرعية، ومتلاعب بالحكام".
ثم قال –رحمه الله-:
"هل يمكن أن تأتي الشريعة الحكيمة بقبول رجوع مثل هذا؟ الجواب: أبداً لا يمكن".
ثم قال رحمة الله:
"ثم إنه إذا احتفت به القرائن لا يتجه إطلاقاً القول بجواز الرجوع، أو بقبول الرجوع".
ثم قال –رحمه الله-:
"إذا صرح في إقراره بالزنا وذكر القرائن التي تشهد لما صنع ثم نقول: يقبل رجوعه استدلالاً بحديث ماعز، فهذا بعيد جداً".
وقال –رحمه الله- في شرحه للبلوغ أيضاً، باب حد السرقة:
"فيكون القول الراجح الوسط في هذا إذا وجدت قرائن تشهد بأن رجوعه ليس بصحيح فإن رجوعه لا يقبل، وإن لم توجد فإنه يقبل رجوعه".
ثم قال –رحمه الله-
"وأما مع وجود القرينة فلا وجه لقبول رجوعه، ولا يمكن أن يكون هذا القول عملياً في أحوال الناس لا سيما مع كثرة السرقات".
وقال –رحمه الله- في شرحه للزاد، باب حد السرقة:
"هل نقول: إن عموم كلام الفقهاء حيث قالوا: "ولا ينزع عن إقراره حتى يقام عليه الحد" يقتضي أن هذا الذي رجع عن إقراره ووجد المال المسروق عنده ووصف السرقة هو بنفسه، فهو لم يقل: سرقت فقط بل ذهب بنا إلى المحل وأرانا كيف صنع فهل نقول: إن عموم كلام الأصحاب يقتضي أن يرفع عنه الحد، لأنه رجع، أو نقول: إن كلامهم هذا فيما إذا كان ثبوت السرقة مجرد إقرار أما مع وجود هذه القرائن التي ذكرها، ووجد المال عنده فهذا يشبه أن يكون بينةً، إن لم يكن أقوى من شهود الشاهدين فليس دونه، فالظاهر لي أن مثل هذه الصورة لا تنطبق على كلام المؤلف، لأن كلام المؤلف إذا كانت المسألة مجرد إقرار، أما مع وجود القرائن ووجود المال عنده وعلى حسب ما وصف تماماً فلا".
ثم قال –رحمه الله-:
"فالصواب إذاً أن الرجوع عن الإقرار غير مقبول مطلقاً، فكيف إذا احتفت به القرائن التي تدل على كذب الرجوع وأن السرقة واقعة تماماً".
ثم قال –رحمه الله-:
"وإذا ادعى الإكراه وكان يمكن أن يكره رفعنا عنه الحد".
وقال –رحمه الله- في شرحه للزاد، باب حد الزنا:
"إذا رجع وقال إني مكره، فإنه ينظر للقرينة فإن كان هناك قرينة عمل بها لأنه أحياناً يضرب حتى يقر، بدون اختياره".
وقال –رحمه الله-:
"والمهم أن درء الحدود بمثل هذه الشبهات البعيدة بعيد من الصواب، والإنسان يجب أن يسوس الأمة بما يمنع الفساد".
وقال –رحمه الله-:
"وأما حديث: "ادرءوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم"، فهو حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، وما أكثر ما يعتمد المتهاونون عليه في إقامة الحدود، كما جاءت حدود قد تكون مثل الشمس قالوا: قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "ادرءوا... الحديث" حتى يجعلون ما ليس شبهة شبهة، ونحن باعتمادنا على الحديث نحتاج إلى أمرين:
أولاً: ثبوت الحديث، ثانياً: تحقيق المناط هل هذا شبهة أو غير شبهة...".
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق