حرية الرأي.. رأي آخر..
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
مقالات متعلقة
تاريخ الإضافة: 16/6/2010 ميلادي - 4/7/1431 هجري زيارة: 463
مِن أخطر أنواع الغزْو الإخضاع للفِكر، بتمْرِير مصطلحات على أنَّها حق لا تقبل الجدال، وهذا ما وَقَع فيما يُسمَّى بـ: "حُرية الرأي"؛ إذ استسلم لها المفكِّرُون المسلِمون، واجتهدوا في استخراج ما يسندها من النُّصُوص الشرعيَّة على أنَّها حقٌّ لا يَقْبل الجدال، وهذه الدراسة المختَصرة تُلقي الضوء على هذه الإشكاليَّة برأيٍ جديد يُخالف السائد.
معنى الرأي:
الرأي: هو النظر بالقلْب[1]، ويُطلق على الاعتقاد[2].
قال الراغب: "والرأي: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن"[3].
قال ابن القيِّم: "وحقيقته ما يراه القلب بعد فِكْر وتأمُّل، وطلب لمعرفة وجْه الصواب مما تتعارَض فيه الأمارات، فلا يُقال في الأمر الذي لا تختلف فيه العقول، ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأي"[4].
فهذا الرأيُ الاصطلاحي عند علماء اللغة والشريعة؛ ومنه: رأي محمود[5]، ورأي مذْموم[6].
اختلاف الرأي في الإسلام عنه عند الغرْبيين:
الرأيُ في الاصطلاح الغربي وعند مَن جرى عليه من المفكِّرين المسلمين، أوْسَعُ مما ذَكَر علماء اللغة أو الشريعة، فهو عندهم: كلُّ ما يصدر عن الإنسان من قولٍ؛ سواء باللسان أو الإشارة أو الكتابة، ويسمونها: حرية الرأي، وحرية إبداء الرأي، وحرية التعبير، وحرية القول، وحرية الضمير، وبعضهم يُدخلها تحت حُرية الفكر، ويقصد بـ(حُرية الفِكْر)؛ أي: حُرية إبدائه وإشْهاره.
فحين نتناول حرية الرأي في الاستعمال المعاصر، لا يصح أن نستدعي معنى الرأي عند المتقدِّمين، ونحصر الرأي فيما قالوا مما يوجب النظر والتفكير، وهو محلُّ اختلاف واجتهاد، سواء ما كان منه محمودًا، أم ما كان منه مذمومًا؛ بل يجبُ تناوُل حُرية الرأي بحسب اصطلاح واضعيها، والناقلين عنْهم.
واستعمالهم لها فَضْفاض واسِعٌ، يشمل كلَّ ما يصدر عن الإنسان من أقوال، وما يجري مجراها من كتابات وتصاوير ورُسُوم ونحوها، وهذا يَتَبَيَّن مِنْ نُصُوصهم؛ سواء في المواثيق الدوليَّة أو كتابات المفَكِّرين.
وحُرية الرأي بهذا المصطلح الواسِع هو ما نصتْ عليه المواثيقُ الدَّولية، وإعلانات حُقُوق الإنْسان كلها:
ففي المادة التاسعة عشرة من الإعلان العالمي لِحُقُوق الإنسان نصُّوا على أمورٍ ثلاثة:
1- لكلِّ شخص حق التمتُّع بحرية الرأي والتَّعبير.
2- يشمل هذا الحق حُريته في اعتناق الآراء، دون مُضايقة أو تدخُّل.
3- له الحق في التِماس الأنباء والأفكار، وتلقّيها ونقْلها إلى الآخرين بأيَّة وسيلة، ودونما اعتبار للحدود[7].
وواضح في هذه الفقرات أنَّ الرأي يعمُّ كلَّ ما يتلقَّاه الإنسان، وكل ما يصدر عنه منْ آراء وأفكار؛ سواء كانتْ محمودة شرعًا، أم مذْمومة شرعًا، وسواء كانتْ تحتاج إلى تفكيرٍ ونظر، أم كانتْ لا تحتاج إليه.
ثُم أُكد على هذه الحقوق في حُرية التعبير في المادة التاسعة عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدَنيَّة والسياسيَّة[8]، وفي المادة العاشرة من الاتِّفاقية الأوربيَّة لحقوق الإنسان[9]، وفي الاتِّفاقية الأمريكيَّة لحقوق الإنسان الصادرة عام 1969م، وزادوا فيها: لا يجوز أن تخضع ممارسة الحقِّ المنصوص عليه في الفقرة السابقة لرقابةٍ مسبقة؛ بل يُمكن أن تكونَ موضوعًا لفَرْض مسؤوليَّة لاحقة يُحددها القانون صراحةً، وتكون ضروريَّة مِنْ أجْلِ ضمان:
1- احترام حُقُوق الآخرين أو سُمعتهم.
2- حماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصِّحَّة العامَّة، أو الأخلاق العامة[10].
وَوَرَد في الميثاق الإفريقي الصادر عام 1979م: يَحِقُّ لكلِّ إنسان أن يُعَبِّرَ عنْ أفكاره، وينشرها في إطار القوانين واللوائح[11].
وفي المادة الثانية والعشرين للميثاق العربي لحُقُوق الإنسان المنبَثِق عن جامعة الدول العربية: حُرية العقيدة والرأي مَكْفولة لكلِّ فرْد.
وفي المادة الثالثة والعشرين: للأفراد من كل دين الحق في ممارسة شعائرهم، كما لهم الحقُّ في التعبير عن أفكارهم عن طريق العبادة أو الممارسة أو التعليم، وبغير إخلال بحُقُوق الآخرين، ولا يجوز فرْض قيود على حرية العقيدة، والفكر، والرأي، إلا بما ينصُّ عليه القانون[12].
وفي المادة العاشرة من مشروع ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي: لكلِّ إنسان الحق في حرية الرأي والتعبير عنها... ولا يجوز وضْع قُيُود على ممارسة هذه الحُقُوق إلا بِمُوجب القانون، وفي أضيق الحُدُود، وبخاصة من أجْل احترام حقوق الآخرين[13].
والمقَرِّرون لحرية الرأي منَ المفَكِّرين المسلمين يعرِّفونها بأنها: تَمْكين الفرْد مِنْ إبداء آرائه وأفكاره بحرية تامة بأيِّ وسيلة كانتْ[14].
وبهذا يَتَبَيّن أن تناوُلهم لحرية الرأي هو نفس التناوُل الغربي، غير أنهم قيَّدوها بقيود اختلفتْ عباراتهم في تقريرها - كما سيأتي.
أهميَّة حُرية الرأي عند القائلين بها:
كثير من المفكِّرين الغربيين والمسلمين يعدُّون حرية الرأي هي أهم أنواع الحُرية، حتى قال وليام تشاننج عنها: "إنَّها أشد حقوقنا قُدسية"[15].
ويقول فولتير: "إنِّي كاره لما تقول، وأخالفك الرأي في كل حرف فيه؛ ولكني أقاتل حتى الموت في سبيل حقك أن تقوله"[16].
ويقول شاتوبريان: "إنَّنا لا نفقد شيئًا إذا بقيتْ لنا حرية الرأي"[17].
ويجعلون أهم سبب للتقدُّم هو حرية الرأي، فيقولون: إنَّ التقدُّم قبل أن يدخل أمة يقف ببابها ويسأل: هل عندكم حرية رأي؟ فإذا أجابوه بـ: نعم، دخل واستقرَّ، وإن أجابوه: لا، ولَّى هاربًا إلى غير رجْعة[18].
ويرى جون ميلتون: "أنَّ البشر كلهم إذا آمنوا برأيٍ، وجاء فردٌ واحد برأيٍ جديد، ثم حاولت البشرية جمعاء أن تسكتَ هذا الرأي، كان خطؤُها في ذلك لا يقل عن خطأ الفرد الواحد حين يُحاول إسقاط الرأي الذي اجتمعتْ عليه البشريَّة"[19].
والمقررون لهذا النوع من الحرية من الغربيين ومَن وافقهم من الليبراليين العرب، لا يعترفون بالدين قيْدًا يُقيدها؛ بل يُطلقونها من قيود الشريعة؛ بحجة عدم قَبول أي ضغوط على الرأي، ولا يخفى ما في ذلك من مناهضة لعبوديَّة المؤمن لله - تعالى.
يقول برتراند راسل: "إنَّ حرية القول هي أن تكونَ إرادتنا التي نُعَبِّر عنها وليدة رغباتنا، وليستْ وليدة قوى ملزمة تضطرنا أن نفعل ما لسنا نريد أن نفعله"[20]، وأكد مونتسكو على أن الحرية هي: "عدم الانصياع لغير الذات"[21].
ومعلومٌ أن المؤمن يمنعه مِن إبداء رأيِه - في أكثر حالات الرأي - خوفه من انتهاك حِمى الشريعة الرَّبَّانيَّة، والوقوع في إثْم القول، كالقَوْل على الله - تعالى - بلا علْم، كما أنه في حالات أخرى يؤخذ بإبداء رأيه، ويعاقَب عليه حدًّا، أو تعزيرًا؛ كالقذف.
ويبلغ تقديس الرأي عند منظِّري الحرية مبلغًا يدْعو فيه أكبر فيلسوف نظَّر للحرية وقرَّرها، وهو الفيلسوف الإنجليزي جون سيتوارت ميل، إلى تعمُّد الخطأ والباطل في مُواجهة الصواب والحق، حين يتحدَّث عن الرأي السائد، ويقَسِّمه إلى صوابٍ وخطأ، ثم يُقرِّر في الصواب أنه لا بُدَّ من معارضة هذا الصواب بما يُناقضه من الخطأ؛ حتى يتمَكَّن الذهن منَ الإحاطة بالحقِّ إحاطة تامة، والشعور به شعورًا عميقًا[22].
وفي موضعٍ آخر، يؤَكِّد ذلك فيقول: إذا فرضنا جدلاً أن الرأي السائد مُوافق للصواب، ومشتمل على كل الحقيقة، كان من الضروري إطلاق الحُرية للمناقشة فيه مناقشةً حادَّة غير فاترة[23].
وهذا التعميم لِمُواجهة كلِّ صواب بخطأٍ معارض للشرائع وللعقل، وهو مِن لبْس الحق بالباطل، ومن الأمر بالمنكر، ومن قوْلِ الزُّور، ومنَ البغي، ومن التحريف، وكل أولئك جاءتْ آيات قرآنيَّة وأحاديث نبويَّة تنْهى عنه، فلا يصحُّ تعميم مُواجهة كل صواب بخطأ، وكل حق بباطل لعامة الناس، وإلا لضلُّوا، كما لا يصحُّ ذلك لفئات المتعلِّمين إلا لغرَضٍ صحيحٍ.
وإذا كان تقديسُ الرأي لدى الغربيين ومَن وافقهم من الليبراليين العرب، قد بلغ هذا المبلغ، فإنَّ كثيرًا من المفكِّرين المسلمين استنسخوا مقولات الغربيين والليبراليين العرَب في حرية الرأي، مع زيادة شيئَيْن:
الأول: أنهم زعموا أنَّ الإسلام سبق إلى حرية الرأي وتقريرها، أو على الأقل لَم يُعارضها.
الثاني: أن أكثرهم ضبطوها بضوابط شرعيَّة.
ومن أقوالهم في حرية الرأي:
1- إذا كانت حرية الرأي من أهم الحقوق الإنسانية في العالم المعاصر، فإنَّ الإسلام سبق هذه الآراءَ الوضعية بأكثر من ألف وأربعمائة عام وأكثر؛ حيث اعتبر الإسلامُ حُرية الرأي من الحقوق المقدَّسة لأي شخص[24].
2- كفل الإسلام للناس أن يقولوا ما يشاؤون، ويُبْدُون آراءَهم دون أن يمسوا مشاعر الناس وعقائدهم[25].
3- لا تقف حُرية الرأي في العقيدة الإسلامية عند حقِّ الجِدال التماسًا لطمأنينة العقل؛ بل هي تكليف لا يجوز لمؤمنٍ أن يفرطَ فيه، وفريضة لا يحلُّ أن يتخلى عنها أو يتهاون فيها، بمقتضى الأصل الثابت من أصول العقيدة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتقوية الإيمان بالله، بالتواصي بالحقِّ الذي هو حُرية الرأي وحُرية التعبير[26].
4- إنَّ حرية إبداء الرأي تعدُّ بمثابة العمود الفقري للحريات الفكريَّة؛ ذلك أنه إذا كان مِنْ حق الإنسان أن يفكر، فإن حقه هذا يبقى ناقصًا إذا لَم يتمكنْ من التعبير عن أفكاره وآرائه ومعتقداته، ولقد بلغ من اهتمام الإسلام بحرية الرأي أن اعتبرها ضرورة لا مجرد حق[27].
5- وكل شيء في الإسلام قابل للمناقشة العقلية؛ ابتداء مِنْ وُجُود الله إلى أقل المسائل[28].
أدلتهم على حُرية الرأي:
يستدل الداعون لحرية الرأي من المسلمين بجملة أدلة، يُمكن تقْسيمها بحسب موضوعاتها إلى قسمين:
القسم الأول:البراءة الأصلية، وهوأنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يُحرَّم بنصٍّ من القرآن أو السنة، ولا يوجد في الكتاب أو السنة ما يمنع المسلم مِنْ مُمارسة حقِّه في حرية الرأي والتعبير[29].
وبعض أصحاب هذا الاتِّجاه في الاستدلال يجعلون الإباحة في الأحكام التكليفيَّة هي الحرية، أو ما يسميه الأصوليون: الحكم التخييري[30].
القسم الثاني: النُّصوص القرآنية والنبويَّة، وهي على أنواع[31]:
النوع الأول: نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
النوع الثاني: نصوص الصدع بالحق والتواصي به.
النوع الثالث: نصوص الدعوة إلى الله - تعالى.
النوع الرابع: نصوص النصيحة.
ووجه احتجاجهم بها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله - تعالى - وإسداء النصيحة، كلها من الآراء التي يبديها أصحابها ويظهِرونها ويعلنونها في الناس، فكان الإسلام بها سابقًا إلى حرية إبداء الرأي وإظهاره.
نقد استدلالاتهم على حرية الرأي:
أولاً: الاستدلال بأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولَم يرد دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريم الرأي، هذا غير صحيح؛ إذ دلَّت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأصل في الرأي التقييد، وليس الإطلاق؛ أي: التحريم وليس الإباحة، وسيأتي عرض هذه الأدلة في موضعه - إن شاء الله تعالى.
ثانيًا: أنَّ استدلالهم لحرية الرأي بالنصوص من الكتاب والسنة الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والنصيحة والدعوة إلى الله تعالى، فيه تكلف، وعسف للنصوص، وَلَيٌّ لأعناقها، وجرٌّ لها في غير ميادينها؛ إذ الفُرُوق بين هذه الأربعة - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله تعالى، والنصيحة - وبين حرية الرأي في المفهوم المعاصر، فروقٌ كبيرة، تصل في كثير من الصور إلى التعارُض والتَّضاد، ومن هذه الفُرُوق:
أولاً: في تعريف كل منها:
فالمعروف عرَّفه الطبري بأنه: "كل ما أمر الله - تعالى - به، أو ندب إليه من أعمال البر والخير"[32]، وقال السمعاني والبغوي: "هو ما يعرفه الشرع"[33].
والمنكر هو ما نهى الله - تعالى - عنه[34]، وقيل: "المنكر كل ما ينكره الشرع"[35].
وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها[36].
وأمَّا النصيحة، فأوفى تعريف لها وقفتُ عليه هو تعريف ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - قال: "النصيحة كلمة جامعة، تتضمَّن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادةً وفعلاً"[37].
وأمَّا الدعوة إلى الله تعالى، فهي: الدَّعوة إلى الإيمان به، وبما جاءتْ به رسلُه؛ بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا[38].
وأمَّا الحقُّ، فهو: الثابتُ في نفس الأمر[39]، والصدع به هو الجهْر به وإبانته وإظهاره[40].
أمَّا حريَّة الرأي، فقد مضى أنه يراد بها: تَمْكين الفرد من إبداء آرائه وأفكاره بحرية تامة بأي وسيلة كانتْ[41]، وهذا يعمُّ كلَّ ما يصدر عن الإنسان من قول، أو كتابة، أو إشارة، أو صورة، أو نحوها.
فيُلاحَظ في تعريفات المعروف والمُنْكَر، والنصيحة، والدعوة، بناؤها على الأَصْل الشرعي، والتركيز عليه، وهدفها تحصيل الإيمان والطاعة والحق والخير، بينما حرية الرأي - كما يظهر من تعريفها - لا تمنع مِن إبداء الكُفر والمعصية، والباطل والشر.
ثانيًا: أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله تعالى، والنصيحة - واجباتٌ شرعية، وعبادات يؤجَر عليها مَن قام بها، ويأثم بترْكها إن كان قادرًا على القيام بها.
أما حرية الرأي عند المقررين لها من الغربيين ومن وافقهم، فهي من المباحات لصاحبه، فلا يجب عليه أن يبدي رأيه؛ وذلك لأنَّه لا أثر للدِّين في التشريعات الغربية في قضايا الحرية، فهي مُجرد حقوق مدَنيَّة دنيويَّة.
ثالثًا: أنَّ هذه الشعائر الأربع الواجبة في الإسلام وما ماثلها، تتعارَض مع الحرية الشخصية في الفكر الغربي تعارُضًا كبيرًا؛ إذ إنَّ الإنسان في الإسلام معبَّد لله تعالى، مستسلم لأمره، حتى في أموره الخاصة، بينما هو حرٌّ في الفكر الغربي في حياته الخاصة؛ بشرْط ألا ينتهك حرية الآخرين؛ ولذا كانتْ حرية الرأي في أكثر استعمالاتها الغربية لا تتعارَض مع الحُرِّيَّة الشخصية عند الغربيين؛ بل تتَّسق معها في الغالب، وفي الحالات التي يقع فيها تعارُض تحسم القضية لمصلحة الحرية الشخصية، فتقدم على حُرِّيَّة الرأي.
يقول ميل: إنَّ الفكرة القائلة بأن من واجب الإنسان حمْلَ غيره على إطاعة أوامر الدين، هي الأصل والأساس لكلِّ ما ارتكبه البشرُ من ضروب الاضطهاد الدِّيني، فإذا سلَّمنا بصحتها وجب أن نسلم بمشروعية كل ما وقع من حوادث الاضطهاد، وما هو في الواقع إلا تصميمنا على منع الفرد من مباشرة ما هو محلل في دينهم؛ لأنه محرَّم في ديننا؛ اعتقادًا منَّا بأنَّ الله - سبحانه وتعالى - لا يكتفي بإنزال نقمته على الملْحِد حتى يعدنا مُقصرين ومذنبين إذا نحن ترَكْناه في إلحاده آمنًا مطمئنًا[42].
وفي هذا النص من عرَّاب الحرية الغربية وفيلسوفها ميل، ما يدل على تعارُض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحرية؛ لأنَّ في الأمر بالمعروف حملاً على الطاعات، كما أن في النهي عن المنكر حملاً على ترك المحرمات.
الأدلة على أنَّ الأصل تقييد الرأي:
دلَّت أدلة كثيرة على أن تقييد الرأي والحد منه، هو الأصل في الإسلام، وأن إطلاقه هو الاستثناء، على عكْس ما ساد في الفكر الغربي والناقلين عنه من العلمانيين والمفكِّرين المسلمين، ومن هذه الأدلَّة ما يلي:
أولاً: أنَّ الباطل من الآراء، والشر من الأقوال، أكثر من الحق والخير فيها، وميزان الحق والباطل والخير والشر، هو الكتاب والسنة، ودليل ذلك: أن المؤمنين في أغلب فترات التاريخ البشري كانوا أقل من الكفار بنص القرآن؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الصَّفات: 71].
وكان هذا الحكم عامًّا في التاريخ البشري؛ بدليل الله قول - تعالى -: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود: 17]، وقال - تعالى -: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103]، وتكرر في ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم قول الله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 67].
ولا يشك مؤمن في أنَّ ما ينتج عن الكفار من آراء، أكثره من الباطل والشر، فكان بهذا الاعتبار أكثر من الحق والخير، وقد دلَّتِ الأدلةُ على هذه الحقيقة، ومنها:
قول الله - تعالى -: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116]، وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 119].
وكثيرًا ما تكرَّر الوصفُ القرآنيُّ في أكثر البشر أنَّهم لا يعقلون ولا يعلمون؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187]، وقال - تعالى -: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: 103]، وقال - تعالى -: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 63].
فإذا كان أكثرُ الناس لا يعقلون ولا يعلمون، فإنَّ ما يصدر عنهم منَ الآراء لن يكون حقًّا ولا خيرًا ولا صوابًا؛ بل أكثره باطل وشر وخطأ، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يسوغ أن نطلق الرأي ونقول: إن الإسلام يطلقه، ثُمَّ نضبطه بضوابط؟!
وإذا ضمَّ إلى ذلك آراء المخطئين من أهل القبلة، وهم ينتج عنهم آراء باطلة كثيرة، والبدع القولية والفعلية المحدَثة في أُمَّة الإسلام أكثر من أن تحصى، وهي من الرأي الباطل، والأحاديث الدالة على افتراق هذه الأمَّة تدل على ذلك؛ ومنها قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ على ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وإنَّ هذه الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ على ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يعني: الأَهْوَاء - كُلُّهَا في النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وهي الْجَمَاعَةُ))[43]، فما نتج عن هذه الفرَق الكثيرة من آراء وأهواء فارقتْ فيها الحقَّ كلُّها آراء باطلة، وهذه الآراء أكثر مما مع فرقة الحق الواحدة من الحق.
والواقع البشري يدلُّ على ما قرَّرته نصوص الكتاب والسنة؛ فإنَّ الأديان والمذاهب الباطلة والأفكار الخاطئة، وما نتج عنها من كتب خرافية، وآراء كلامية فاسدة - أكثر مما كتب في مجال الحق، سواء فيما يتعلَّق بالدِّين أو الدُّنيا؛ إذ الفرضيَّات والنظريات التي لم تصح أكثر من القطعيات التي صحتْ، حتى في مجالات العلوم الدنيوية، وكل هذا الباطل مما يستثنى من حرية الرأي.
وإذا استثني كان المستثنى أكثر منَ المستثنى منه، وكان المخصوص أكثر من العموم، وانخرمتْ قاعدة حُريَّة الرأي بكثرة ما خرج منها من أفراد الرأي، فانقلب الرأيُ في الإسلام إلى أن الأصل فيه المنْع، والسماح بالرأي مخصوص من النهي العام، ومستثنى من المنع[44].
ولا يرد على تقريرِ هذا أن كثرة التجارِب في العلوم الدنيوية - وأكثرها كان خطأ - هي التي أوصلت لكثير من الحقائق؛ لأنَّ الآراء والتجارب في أمور الدنيا إمَّا أن تؤول إلى ما ينفع البشرية، فهي وسيلة إلى خير، فتكون من الخير المأمور به، وإما أن تؤول إلى ما يضر البشرية، فهي وسيلة إلى شر، فتكون محرَّمة، ومهما كانتْ كثرتها فلنْ تبلغ مبلغ الركام الضخم الذي أنتجته عُقُول البشر على مرِّ القرون فيما يتعلَّق بالأمور الغيبية والدينية؛ سواء كانت اعتقادية أم عملية في شتى الديانات والمذاهب، وهكذا ما يتعلَّق بالأخلاق والسلوك.
هذا؛ ونظرة المفكِّرين الغربيين على العكس من ذلك؛ فالفيلسوف ميل يرى أن الصواب في هذه الحياة أكثر من الخطأ، كما يرى أن كفة الصلاح والاستقامة أرجح من كفة الفساد والعوج[45].
فالاختلاف في تقدير ما يصدر عن البشر من حق وباطل، وخير وشر، وصواب خطأ، هو الذي أدى إلى مخالفة ما يقرره الفكر الغربي لما جاء به الإسلام، ولم يفطن الكُتَّاب المسلمون الذين عالجوا قضايا الحرية لهذا الاختلاف الجوهري، فوَقَعُوا في الخطأ باتِّباعهم الغربيين في تقرير حرية الرأي.
كما أن الفكرة الغربية لعدم ثبات الحق والخير والصواب، وقولهم بنفي الحقيقة المطلقة، أو القول بتعددها، ينسجم مع تقريرهم في إطلاق الرأي، بخلاف ما تقرَّر في الإسلام من ثبات الحق والخير والصواب، وإثبات الحقائق المُطْلَقة، ونفي تعدُّد الحق؛ لإيمان المؤمن بثبات ما دلَّ عليه الكتاب والسنة.
ثانيًا: أنَّ طريقة القرآن هي تقييد الرأي، وجعل المباح منه مستثنى من المنع، وليس العكس، ودليل ذلك قول الله - تعالى -: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114].
قال ابن عطية - رحمه الله تعالى -: الضمير في نجواهم عائد على الناس أجمع، وجاءتْ هذه الآيات عامة التناول[46].
وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في معنى ﴿نَجْوَاهُمْ﴾ يعني: كلام الناس[47].
وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه[48].
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لَم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرَّم بجميع أنواعه، ثم استثنى - تعالى - فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾[49].
ثالثًا: أن نصوص الكتاب والسنة دلتْ على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي، إلا إذا كان خيرًا، وليس إطلاقه، والخير يعرف بنصوص الشريعة، خلافًا للفكر الغربي الذي جعل الأصل في الرأي الإطلاق، ولا يقيده إلا بقيود المصلحة الدنيوية، والأدلة على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي إلا إذا كان خيرًا، كثيرةٌ، ويمكن تقسيمها إلى أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الأدلة التي تفيد أن ألفاظ الإنسان تحصى عليه، ويؤاخذ بها في الآخرة؛ ليكون رقيبًا على ما يقول، وهذا من أقوى القيود على حرية الرأي وأشدها؛ قال الله - تعالى -: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، وقال - تعالى -: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [الأحقاف: 8]، وقال - تعالى -: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزُّخرف: 80]، وقال - تعالى -: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:10-12].
قال ابن عاشور: "وإنما خص القول بالذكر؛ لأنَّ المقصود ابتداء من هذا التحذير: المشركون، وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أذاه، ولا يؤاخذون على أعمالهم؛ إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم؛ ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال؛ كالدعاء إلى عبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتِّباع الحق، وترويج الباطل بإلقاء الشُبَه، وتغرير الأغرار، ونحو ذلك"[50].
قلتُ: كل ما ذكره ابن عاشور من الأقوال السيئة مباحٌ في الفكر الغربي، ويندرج تحت حرية الرأي، ومن حق أي أحد أن يدعوَ إلى الشِّرك وعبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل، وإلقاء الشبه، وغير ذلك.
النوع الثاني: نُصُوص فيها أن الإنسان يحاسَب يوم القيامة على ما ينطق به؛ مثل: قول الله - تعالى -: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24]، وقوله - تعالى -: ﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]، وقوله - تعالى -: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29]، وقوله - تعالى -: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصِّلت: 20].
والرأي هو نتاج العقل، واللسان يبلغه وينطق به، والكلام من عمل اللسان وكسْبه، فتشهد الجوارح الأخرى عليه بما صدر عنه من آراء.
وما كان هذا التخويف بأن الألفاظ تحصى على الإنسان، ويحاسب يوم القيامة بما قال - ولو كان مجرد رأي - إلا ليتحفظ العبد من إطلاق لسانه في الكلام، فلا ينطق إلا بخير، فأين مِن هذا القولُ بحرية الرأي، والاستدلال له بآياتٍ وأحاديثَ لا تدل عليه، وموضوعها غير موضوعه؟!
النوع الثالث: نصوص فيها أمرٌ بحبس اللسان، وتحذير من مغبة ما يقول الإنسان، وإخبار أن أكثر عذاب الناس إنما هو بسبب الآراء التي نطقتْ بها ألسنتهم، وفيها تصريح بأن السكوت خير من النطق إذا لم يتبين أن النطق فيه خير، ومن هذه النصوص: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ ما يَتَبَيَّنُ فيها، يَزِلُّ بها في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بين الْمَشْرِقِ))[51]، وفي رواية: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سُخْطِ الله، لا يَرَى بها بَأْسًا، فَيَهْوِي بها في نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا))[52].
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: ((ألا أُخْبِركَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ الْجِهَادُ))، ثُمَّ قال: ((ألا أُخْبِركَ بِملاكِ ذلك كُلِّهِ؟))، قلت: بَلَى، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فقال: ((تَكُفُّ عَلَيْكَ هذا))، قلت: يا نَبِيَّ الله، وَإِنَّا لمؤاخذون بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!))، قال: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعَاذُ، هل يكبُّ الناسَ على وُجُوهِهِمْ في النَّارِ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!))[53].
وروى سُفْيَان بن عبدالله الثَّقَفِي قال: "قلت: يا رَسُولَ الله، ما أَكْثَر ما تَخَاف عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسان نفسه ثم قال: ((هذا))[54].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، فَلْيَقُل خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ))[55].
وقد جعل بعضُ العلماء هذا الحديث من أربعة أحاديث في السُّنَّة، يدور عليها جماع آداب الخير[56]، وهو مِن أبْين الأدلَّة على أن الأصلَ الشَّرعي في الرَّأي هو التَّقييد، وليس الإطلاق، خلافًا للفكر الغربي الذي يطلقه، ولمن وافق أهله منَ المسلمين.
قال النووي - رحمه الله تعالى -: "معناه أنه إذا أراد أن يتكلم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محققًا يُثاب عليه واجبًا أو مندوبًا، فليتكلم، وإن لَم يظهر له أنه خير يُثاب عليه، فليُمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام، أو مكروه، أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافة من انْجِراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا"[57].
وقال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "أمر بقول الخير وبالصمت عما عداه، وهذا يدلُّ على أنه ليس هناك كلام يُساوي قوله، والصمت عنه إمَّا أن يكون خيرًا، فيكون مأمورًا بقوله، وإمَّا أن يكون غير خير، فيكون مأمورًا بالصمت عنه"[58].
وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "ومعنى الحديث أنَّ المرْء إذا أراد أن يتكلَّم، فليُفَكِّر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفْسدة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه، فليتكلَّم، وإن كان مباحًا، فالسلامة في السكوت؛ لئلاَّ يجر المباح إلى المحَرَّم والمكروه"[59].
وقال العز بن عبدالسلام - رحمه الله تعالى -: "لا ينبغي لك أن تتكلَّم إلا بما يجرُّ مصلحة، أو يدرأ مفسدة"[60].
ولأجل تواتُر الأمر بإمساك اللسان، والمحاسَبة على الألفاظ، ذمَّ العلماءُ الآراء في الدِّين، وكثرة التشْقيقات والكلام، وسمَّوا أهلَها أهلَ الأهواء، وامتدحوا قلَّة الكلام، وحفظ اللسان، وحذَّروا من آفاته، وألَّفوا في ذلك كُتُبًا، وأفْرَدُوا فيه أبْوابًا؛ لكثرةِ ما جاء فيه من نُصُوص الكتاب والسنة.
عرْض حريَّة الرأي على الأحْكامِ التكليفيَّة:
بناء على النُّصوص الواردة في خطورة الرأي والإفصاح عنه، والتي تحضُّ على حبْس اللسان، تكلَّم العلماءُ في وظائف اللسان، وقسَّموا ما يصدر عن الإنسان من آراء إلى أقسام، يحسُن عرضُها ومقارنتها بحرِّية الرأي في الفكر الغربي:
القسم الأول: ما كان واجبًا؛ مثْل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، والدعوة إلى الله تعالى، وقول الحق، وأداء الشهادة؛ لقول الله - تعالى -: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283]، وقوله - تعالى -: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ﴾ [الطَّلاق: 2]، وهذه الواجبات في الإسلام تنْقسِم في الفكر الغربي إلى قسمَيْن:
الأول: مباح، وذلك في حالة عدم تعارُض هذه الواجبات في الرأي مع الحريَّة الشخصيَّة.
الثاني: محظور، وذلك في حالة تعارُض هذه الواجبات في الرأي مع الحريَّة الشخصيَّة، كأن يكون المستهدف بالدعوة أو النصح أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يريد ذلك، أو كان الشاهد لا يُريد أداء الشهادة، ولو ضاعتِ الحقوق وأُطلق المجرِمُون بسبب ذلك[61].
والتعارُض بين الحرية الشخصيَّة وحرية إبداء الرأي، وقَع في المجتمع الغربي، فحسموا القضية في تشريعاتهم الوضْعيَّة لمصلحة الحريَّة الشخصيَّة؛ ففي فرنسا رفع المشرعون لمحكمة النقض مشكلة التوفيق بين احترام المبادئ الديمقراطية التي تحكم حرية الصحافة، وبين احترام الحق في الحياة الخاصة، وتمخض عن ذلك قرار بتعديل المادة (7) من القانون المدني، أكَّد احترام الحق في الحياة الخاصة، في 17يولية 1970م... فإذا كان المساسُ بالحق في الحياة الخاصة مما يقع تحت طائلة التجريم، فإن تحديد النِّطاق المسموح به لإجراء هذا المساس يتوقَّف على المفاضَلة بين قاعدتَيْن: قاعدة تحقق المصلحة الخاصة للفرد، وهي حماية حياته الخاصة، وقاعدة تحقق المصلحة العامة، وهي حماية حرية الرأي؛ سواء في صورة حرية الصحافة، أو حرية النقد، أو حرية البحث العلمي[62].
ولذلك، فإنَّ القانون الفرنسي يُعطي الطبيب الحق في رفض إفشاء سرِّ المريض، ولو أذن المريض بإفشائه؛ وذلك باعتبار أنَّ الطبيب بحكم مهنته يملك الحق في السر، والْتزامه بالمحافظة عليه مصدره القانون، وليس مصدره الاتِّفاق مع المريض، والائتمان على الأسرار قد يكون نابعًا من القانون، وقد يكون نابعًا من الاتِّفاق مع صاحب السِّرِّ[63].
ومِنَ الأمثلة على ذلك:
1- اعتُدي على طفلة صغيرة جنسيًّا، وفحَصَها طبيب وسلَّم نتيجة فحْصِها لوالدها، وفي المحكمة احتاج القاضي إلى رأي الطبيب وشهادته لإدانة المُجرِم، فرفَض الطبيبُ أداء الشهادة؛ بناء على أنها أسرار مريض، ولا يجوز في مهنته إفشاء أسرار المرضى لا للمحكمة ولا لغيرها، فقضتْ عليه المحكمة بالغرامة، لكن محكمة النقْض الفرنسيَّة نقضت الحكم، وأيَّدت الطبيب؛ مُحتَجَّة بأساس الطبيعة المطلَقة لسرِّ المهْنة[64].
2- اتهمت امرأة بقتْل عشيقها بتمزيق جسمه أثناء النوم، وتمسكتِ المتهمة بشهادة طبيبها الذي كان يُعالجها قبل الحادث، ورفض الطبيب الشهادة؛ احترامًا لسرِّ المهنة، وأيدتْ محكمة النقْض الفرنسيَّة هذا الرفْض[65].
القسم الثاني: المستحب؛ مثل: المذاكرة في العلم النافع، ولو كان في علوم دنيوية فيها نفع للناس ونحو ذلك، وهذا في الفكر الغربي مباح أيضًا.
القسم الثالث: المحرَّم، وهو التعبير بكلِّ ما يبغضه الله تعالى، ويبغضه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والآراء، وهو قسمان:
أ - ما كان حقًّا محْضًا لله تعالى؛ كالتعبير بما هو كفر، أو بدعة، أو فيه مخالفة لما بعث الله - تعالى - به رسله - عليهم السلام - والدعوة إلى ذلك وتزيينه للناس، أو الدفاع عنه وتقْوية أهلِه.
وهذا القسم حُرْمته في الإسلام شديدة، وقد يوصل صاحبَه إلى الكفر واستباحة دمه؛ سواء كان مسلمًا كمَن نطق بما هو ردة وأصرَّ عليه، أو كان معاهدًا وأتى بما ينقض عهده من سبِّ الله - تعالى - وسبِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو ازدراء دين الإسلام.
بينما لا يحظر شيء من ذلك في الفكر الغربي، ويعدُّ ذلك من قبيل حرية الرأي؛ ولذلك ينتشر عندهم القول بالإلحاد، وإنكار الربوبيَّة والنبوات، وازدراء الدِّيانات ونقدها، ولا شيء من ذلك يعاقَب عليه صاحبه.
وأغلب الظن أن أكثر الليبراليين في بلاد المسلمين لا يدْعون لحرية الرأي؛ إلا للوُصُول بها إلى الطعن في المقدّسات، وانتهاك الحرُمات الشرعية، كما يُباح ذلك عند الغربيين، وليس مُرادهم فك الاستبداد السياسي أو تخفيفه؛ بدليل أنهم هم من يُكرسون الاستبداد، ويُهلِّلون للمستبدين في كثيرٍ من الأحيان.
ب- ما كان حقًّا للإنسان، كالسبِّ والشتم والقذف وشهادة الزور ونحو ذلك، وهذا يُمكن أن يُقال: إنه الشيء الوحيد الذي يوافق الفكر الغربي فيه أحكام الشريعة من جهة منْعه، وترتيب العقوبة عليه، واستثنائه من حُرِّية الرأي[66].
القسم الرابع: ما يكره إبداؤه من الرأي، وهو ما كان تركه خيرًا من إبدائه، ولو لم يكن فيه وعيد أو عقوبة، وهذا أيضًا مباح في الفكر الغربي.
القسم الخامس: ما يُباح من الرأي والكلام، وهو ما يكون مستوي الطرفين، بمعنى أنه لا للمتكلم ولا عليه، ووقع الخلاف بين العلماء فيه على قولَيْن:
القول الأول:أنه لا يخلو كل ما يقوله مِنْ رأي، إما أن يكونَ له أو عليه، وليس في حقِّه شيء لا له ولا عليه، ومِن أدِلَّة هذا القول:
1- أنَّ الشريعة نبَّهتِ العبد إلى أن كلامه كله يكتب عليه؛ بدليل قول الله - تعالى -: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، فهذا نكرة في سياق النفي، زِيدتْ قبلها لفظة (مِن)، فهي نص صريح في العموم[67].
2- حديث أُمِّ حبيبة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كُلُّ كَلامِ بن آدَمَ عليه لا له، إلا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أو نهي عن مُنْكَرٍ، أو ذِكْر الله))[68].
قال القاري - رحمه الله تعالى -: "وظاهر الحديث أنه لا يظهر في الكلام نوع يُباح للأنام، اللهم إلا أن يحمل على المبالَغة والتأكيد في الزَّجْر عن القول الذي ليس بسديد"[69].
3- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن كان يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِر، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ))[70].
فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المقابلَ لقول الخير الصمتَ، ولو كان في الكلام أو الرأي شيء مباح، لكان مقابلاً لقول الخير بدل الصمت؛ لأن تعمد الصمت مما جاء النهي عنه؛ كما في حديث عَلِيِّ بن أبي طَالِب - رضي الله عنه - قال: حَفِظْتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ، ولا صُمَاتَ يَوْمٍ إلى اللَّيْلِ))[71]، ونذر رجل ألاَّ يتكلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ))[72].
وسبب النهي عن الصمت لكونه من أعمال الجاهلية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد مخالفتهم؛ ولأنَّ فيه تعطيلاً للسان عن عباداته، وقد دلَّ على أنه من عمل الجاهلية ما روى قَيْس بن أبي حَازم قال: "دخل أبو بَكْر على امْرَأَةٍ من أَحمس، يُقَالُ لها: زَيْنَب، فَرَآهَا لا تَكَلَّمُ، فقال: ما لها لا تَكَلَّمُ؟ قالوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً، قال لها: تَكَلَّمِي؛ فإن هذا لا يَحِلُّ؛ هذا من عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَكَلَّمَتْ"[73].
قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "فأما الْتزام الصمت، فليس من شريعة الإسلام"[74].
ولو نذر ذلك في اعتكافه أو غيره، لم يلزمه الوفاء به بلا خلاف[75].
القول الثاني: أنَّ من الرأي ما هو مباح، لا له ولا عليه، كما في حركات الجوارح؛ لأنَّ كثيرًا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي، وهذا شأن المباح.
ويظهر لي رجحان القول الأول؛ لقُوة أدلَّته، وضعف تعليل القول الثاني؛ إذ دلَّت النصوص على الأمر بقول الخير أو بالصمت، فما لَم يكن خيرًا كان صمتُ العبد عنه دائرًا بين الوُجُوب والاستحباب.
وقد عدَّ ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - هذا الحديث جماع الأمر في الكلام، ثم قال: "فقول الخير وهو الواجب أو المستحب، خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب ولا مستحب فالسكوت عنه خيرٌ من قوله"[76].
وقال ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى -: "الكلام بالخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإدمان الذكر، وتلاوة القرآن - أفضل من الصمت؛ لأن الكلام بذلك غنيمة، والصمت سلامة، والغنيمة فوق السلامة"[77].
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "والتحقيق أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين؛ بل إما راجحة، وإما مرجوحة؛ لأنَّ للسان شأنًا ليس لسائر الجوارح... وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يُرْضي الله ورسوله، أو لا، فإن كان كذلك فهو الراجح، وإن لَم يكن كذلك فهو المرجوح، وهذا بخلاف سائر الجوارح؛ فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطرفين؛ لما له في ذلك من الراحة والمنفعة، فأُبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ولا مضرة عليه فيه في الآخرة، وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به، فلا يكون إلا مضرة، فتأمله"[78].
وقال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه، هو أصل الخير كله، وأن مَن ملَكَ لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه"[79].
وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "القول كله إما خير وإما شر، وإما آيل إلى أحدهما؛ فدخل في الخير كلُّ مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت"[80].
هذا؛ وإطلاق الرأي في الغرب كان ردة فعل على استبداد الحكومات الغربية والكنائس في القرون الوسطى؛ إذ كانتْ تكْبتْ أي رأي؛ سواء كان حقًّا أم كان باطلاً بمجرد الهوى، وسواء كان فيما يتعلَّق بأمور الدين أم الدُّنيا، وكانت تعاقب على إبداء الرأي عقوبات تصِل إلى الموت، إلا ما وافق أهواء ملوك أوربا ورهبانها، وهذا ظُلم، فكانت ردة الفعل الغربية عقب ثورات الحرية معاكسة؛ فأباحوا الرأي الحق والباطل جميعًا فيما لا يضر الآخرين، فانتقلوا من ظُلم إلى ظلمٍ آخر.
أمَّا الإسلام، فهو يؤيِّد الرأي الحق ويدْعو إليه، ويكبت الرأي الباطل ولا يسمح به، والرأي الباطل أكثر من الرأي الحق كما تقرر سابقًا، فكان ذم الرأي هو الأصل، ولا يمدح منه إلا بما كان حقًّا، وهو خلاف الأصل.
وكل ما يذكر من الضوابط التي تضبط ما يصدر عن الإنسان من أقوال وآراء، فهي تندرج تحت أصلَيْن كبيرَيْن[81]:
الأصل الأول: الصِّدق؛ قال الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
[التوبة: 119].
الأصل الثاني: العدل؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152].
ذلك أن ما يصدر من الإنسان من أقوال وآراء، إما أن يكون خبرًا، فلا بد من الصدق فيه، وإما أن يكون إنشاء، فلا بد من العدل فيه.
ولو أردنا أن نحاكم حرية الرأي في الفكر الغربي إلى هذين الأصلين؛ فإننا سنجد أن الرأي في الغرب ومن نقلوا عنه، لا ينضبط بهذين الأصلين؛ بل يناقضهما في أكثر حالاته:
فالأصل الأول - وهو الصدق - غير لازم فيما يصدر من أخبار عن الإنسان، إلا إذا كان الكذب فيه يضر غيره ضررًا دنيويًّا؛ كمَن يخبر عن قنبلة في طائرة، أو حريق في متجر، فيروع الناس، ويُزعج السلطات، أما أن يكذب ولا يقع ضرر بكذبه على أحد، فذلك مباح.
والأصل الثاني - وهو العدل - غير لازم في الإنشاء مما يصدر عن الإنسان، إلا إذا وقع فيه ضرر دنيوي على أحد، وكل ما يصدره الفكر الغربي من آراء وأقوال تخالف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليست من العدل، ولا تكون حقًّا؛ بل هي من الظلم والباطل، ورأس العدل - وهو التوحيد - لا قيمة له في الفكر الغربي، ورأس الظلم - وهو الشرك - مشروع في الفكر الغربي، ويندرج تحت حرية الاعتقاد، التي هي فرع عن حرية الفكر أو الرأي؛ قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
وما دون الشرك من السيئات داخل في الظلم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: قد كتبت في غير موضع أن الحسنات كلها عدل، والسيئات كلها ظلم، وأن الله إنما أنزل الكتب، وأرسل الرسل؛ ليقوم الناس بالقسط[82].
تقييد حرية الرأي في الفكر الغربي:
مرتكز البناء الفكري للحضارة الغربية مبني على عالم الشاهدة، وتنحية عالم الغيب، والاهتمام بشأن الدنيا كون الإنسان مركز الكون، وغياب الشأن الأخروي، وحصره في مجال الحرية الشخصية، ولا سلطان له على غيره.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن غير المستغرب أن ينطلق الفكر الغربي ومقلده العلماني العربي من فكرة حفظ حقوق الإنسان المتعلقة بالإنسان التي مصدرها الإنسان، وليس حفظ حقوق الله تعالى، ولا حقوق الإنسان التي مصدرها شرع الله تعالى، إلا ما وافق منها ما مصدره الإنسان.
وبناء على ذلك؛ فإنَّ تقييد حرية الرأي لن يكون نابعًا إلا من الإنسان، وفيما فيه ضرر دنيوي على الإنسان، دون اعتبار لما يتعلق بالآخرة من نفع أو ضرر.
وباستقراء كثير من الدراسات الفكرية والقانونية الغربية والعربية العلمانية المتعلقة بحرية الرأي، نجدها تضع قيودًا أربعة لحرية الرأي، هي:
1- احترام حقوق الآخرين أو سُمعتهم.
2- حماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصِّحَّة العامة، أو الأخلاق العامة.
3- التقييد بالقانون.
4- التقييد بالمصلحة.
وهذه القيود يغني بعضها عن بعض؛ فالتقييد بالنظام العام أو القانون أو المصلحة، يغني كل واحد منها عن القيود الأخرى؛ لإمكان إدخالها فيه؛ كونها فضفاضة عائمة يصعب تحديدها.
وسأذكُر هذه القيود بشيء من التفصيل، مع ضرْب بعض أمثلة على كلِّ قيد منها عمل به في الفكر القانوني الغربي.
القيد الأول: قيد احترام حقوق الآخرين وسمعتهم، وهو أهم قيد، ولا يخلو منه إعلان أو ميثاق أو مؤلف عن حقوق الإنسان أو عن الحرية، حتى قال فيلسوف الحرية ميل: منع الفرد من الإضرار بغيره هو الغاية الوحيدة التي تسوغ استعمال السلطة على أي عضو من أعضاء جماعة متمدينة... فالإنسان غير مسؤول أمام المجتمع عن شيء من تصرفاته، إلا ما كان منها ذا مساس بالغير[83].
ويستثني من عدم جواز الاعتداء على الغير ما إذا كان الاعتداء لإنقاذه، فيقول: إذا اتفق لأحد ولاة الأمر أو لأحد الأفراد أن شاهد امرأً يهم بعبور قنطرة ثبت أنها مختلة، وكان الوقت لا يتسع لتحذيره من الخطر الذي هو مقبل عليه، جاز لمن يشاهده أن يمسك به ويجتذبه دون أن يكون في ذلك أدنى اعتداء على حريته[84].
وعلى هذا القيد في عدم الإضرار بالغير، سارت المحاكم الغربية في المؤاخذة بإبداء الرأي إذا تعارَضَ مع حُقُوق الآخرين، أو كان فيه أذية لهم، ومن الأمثلة على ذلك:
1- في شكوى لدى اللجنة الأوربية ضد النمسا، ادعى الشاكي أنه حوكم بقانون العقوبات النمساوي بتهم التشهير بالجيش النمساوي عن طريق نشر مواد إعلانية معينة، وانتهت اللجنة بعد بحث إلى أن القيود التي فرضت على حق الشاكي في التعبير في هذه الشكوى لها ما يبررها طبقًا للفقرة (2) من المادة (10) من الاتفاقية، وأنها ضرورية لحماية سمعة الآخرين، ورفضت اللجنة الشكوى[85].
2- في شكوى في ألمانيا ادعى الشاكي للجنة الأوربية أن السلطات الألمانية اعتدتْ على حقه في حرية التعبير، بأن فرضت عليه عقوبات تأديبية؛ لأنه عبَّر عن نيته في نشر مقال بإحدى الصحف الأسبوعية يشير فيه إلى عدم كفاءة العمل والإدارة في المنظمة التي يعمل فيها، ورأت اللجنة أن عقوبته مبررة؛ حِفاظًا على سمعة الآخرين[86].
3- اشتكى محامٍ في ألمانيا لإيقاع عقوبات عليه؛ بسبب إعلانات مكتوبة وشفهية انتقد فيها محامي الطرف الآخر، وادعى أن العقوبة التي صدرت في حقه تشكِّل قيدًا على حرية التعبير لا مبرر له في التشريع الألماني، لكن اللجنة الأوربية رفضتْ دعواه وأيدت القانون الألماني في تأديبه، ورأت أن ذلك ضروري لحماية سمعة الآخرين، وأن هذا المحامي لم يحترم الالتزام الذي تفرضه عليه المهنة، وهو تحريم اللجوء إلى استخدام لغة عدوانية أو مهينة[87].
والقانون الفرنسي في المادة (29) يجرم القذف والسب عن طريق الصحافة.
القيد الثاني: حماية الأمن القومي أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الأخلاق العامَّة.
ففيما يتعلَّق بالأمن القومي، لا يسمحون تحت ذريعة حرية الرأي لأعدائهم ببث آرائهم في أوساط شعوبهم، أو نشر ما يهدد الأمن.
وفيما يتعلق بالنظام العام سيأتي الكلام عليه مفردًا لأهميته وضبابيته.
وأمَّا الصِّحَّة العامة، فلا يمكن أن يسمحوا تحت ذريعة حرية الرأي بالدعاية لأطعمة أو أدوية مهلكة أو ضارة.
وأما الأخلاق العامة، فهي محل إشكال وتجاذب بين المفكرين والمشرعين والسياسيين، مع اتفاقهم في الجملة على أن الحرية لا بد أن تقيد بها.
ومنهم من يدخل هذا القيد تحت الإضرار بالآخرين؛ لأن نشر ما يؤذي الآخرين من الأخلاق الوضيعة فيه أذى لهم واعتداء عليهم، كما يقرر ميل أن التصرفات المخلة بالحياء يعاقب عليها إذا ارتكبتْ علنًا؛ لأنها تدخل في باب التصرفات المضرة بالغير، فيصبح تحريمها جائزًا[88].
ومنهم من يدخله تحت النظام العام أو الخير العام، فيقلصون الحرية الشخصية أو الخصوصية لأجل هذا القيد، يقول أميتاي: إننا نعتبر من الآداب العامة ألاَّ يصرخ الإنسان على الملأ كل ما يمر برأسه[89].
ويذكر أميتاي أن عملية الجماع في العلن وفي وضح النهار، وخصوصًا على مقربة من ملعب، لا تُعتبر مقبولة حتى في البلاد الإسكندينافية وفي كاليفورنيا[90].
وفي حماية الأخلاق يحظر قانون الصحافة الفرنسي في المادة (38) نشر أخبار وصور جرائم الأحداث؛ للمحافظة على مستقبل النشْء مِنْ عدوى التقليد.
كما يحظر نشر صور نوع معين من جرائم الدم أو القسوة، أو الجرائم التي تتنافَى مع الأخلاق؛ لما للصورة من تأثير ينطبع في الأذهان، ويؤدِّي إلى انتشار العدوى، فنشر صورة لجثة مقطعة إربًا يثير الاشمئزاز، ويحرِّك في النفس الرغبة في الانتقام من المتهم، وهذا الحظر يندرج تحت قيد المصلحة العامة[91].
ويمكن إدراجه تحت حماية الأخلاق العامَّة أيضًا؛ لأنَّ التداخُل بين هذه المصطلحات كبيرٌ في الفكر الغربي.
ومن الأمثلة على تقييد حرية التعبير عن الرأي بالأخلاق:
1 - اشتَكى مسجون على اللجنة الأوربية أنَّ سلطات السجن سحبتْ منه امتيازات معيَّنة كان يتمتَّع بها من قبل؛ مثل: السماح له بالكتابة ورسم أعمال فنيَّة، لكن حكومته دافعتْ عن قرار السجن أمام اللجنة الأوربية بأنَّ الامتيازات سحبت من الشاكي؛ لاقتنائه رسومًا وصورًا وقصائد جنسيَّة، فادَّعى الشاكي أنَّ هذه الصور والرسوم نفَّذها أقرانه في السجن بطلب من حرَّاس السجن لبيعها خارج السجن، ورفضت اللجنة الأوربية الشكوى؛ بناء على فقرة (2) من مادة (10) التي تنصُّ على حماية الأخلاق[92].
2 - حُوكِم شخصٌ بتهمة ترويج مواد ومطبوعات مفسِدة للصغار، وتقدَّم المتهم بشكوى يدَّعي أن محاكمته تخالف الحق في حرية الصحافة الذي تكفله المادة (10) بسبب فرض الرقابة على مطبوعاته، لكن اللجنة الأوربية أيَّدت الدولة في حكم محكمتها؛ بحجة أنَّ للدولة تقدير الحدود والقيود التي يمكن أن ترد على حرية التعبير، وأنَّ الإجراءات المشكو منها لها ما يبرِّرها؛ على أساس أنها ضرورية لحماية أخلاق الصغار؛ وبالتالي فإنها لا تخالف الاتِّفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان[93].
3 - في شكوى تقدَّم بها أحد الناشرين ضدَّ المملكة المتحدة ادَّعى أنه بسبب نشره كتاب "الكتاب الدراسي الأحمر للأطفال" حُوكِم بتهمة البذاءة، وتأكَّد الحكم على أساس أنَّ الكتاب يفسد أخلاقيًّا نسبة كبيرة من الأطفال الذين يقدر لهم الاطلاع عليه[94].
4 - في شكوى ضد الحكومة البريطانية أيَّدت اللجنة الأوربية القانون البريطاني الخاص بالمطبوعات حين حرم نشر أحد الكتب، والقانون يمنع المطبوعات الجنسيَّة المخلَّة بالآداب، وكانت الشكوى ترتَكِز على أن المنع فيه إخلال بحرية التعبير، لكن اللجنة اتكأت على الفقرة (2) من المادة (10) لحماية الأخلاق العامة[95].
القيد الثالث: تقييد حرية الرأي بالقانون: فالمقرِّرون لحريَّة الرأي في أوربا يحدُّونها بالقوانين، يقول مونتسيكو في كتابه "روح القوانين" في حدِّه للحريَّة: هي الحق في عمل ما تسمَح به القوانين، ولو أن فردًا فعل ما تحرِّمه فإنه لن تكون هناك حرية[96].
ومن الأمثلة على التقييد بالقانون: اشتكى مسجونٌ في ألمانيا رفض السلطات السماح له بشراء مؤلف حول قانون الإجراءات الجنائية الألماني للرجوع إليه بقصد إعداد شكواه الخاصَّة بطلب إعادة محاكمته، ورفضت اللجنة الأوربية طلبَه بحجة جواز فرض قيود معينة على المسجون...[97].
القيد الرابع:المصلحة العامة؛ فهي قيد تُقَيَّد به حرية الرأي، منصوص عليه في الإعلانات والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، ومن الأمثلة على التقييد الغربي بالمصلحة:
1 - في سويسرا مُنع كتاب "بروتكولات حكماء صهيون" بناء على قرار محكمة بيرن بتاريخ 14 مايو 1935، وهو في الخزانة الجهنمية التابعة لمكتبة المقاطعة العامة في لوزان، ولا يمكن مطالعته إلا بعد إذن من رئيس المكتبة، ولا يمكن تصويره أو استعارته خارج المكتبة[98].
ولا يخفى أنَّ السبب في ذلك قوَّة النفوذ اليهودي في أوربا، وتأثير اليهود على كثيرٍ من المصالح الأوربية، ومنها السويسرية.
2 - أنَّ اللجنة العليا للاجئين قد أتلفتْ عددًا من أعداد مجلتها لشهر يناير 1988م المعنونة بـ(Rafuqies)، وقد طبع منها (90000) نسخة بالإنجليزية، و(30000) نسخة بالفرنسية؛ وسبب ذلك أنها بحثتْ وضع اللاجئين في ألمانيا الغربية، ورئيس اللجنة وقتها كان سيزور ألمانيا، وهي من أكبر الممولين للجنة، ونشر ذلك العدد مضر بمصالح اللجنة[99].
3 - أبعدت السلطات الفرنسية في 20 يونيو 1991م الكاتب المغربي عبدالمؤمن ديوري إلى الغابون، وكان لاجئًا في فرنسا؛ بسبب إصراره على نشر كتابه "من يملك المغرب؟"، أحصى فيه ممتلكات ملك المغرب، وكان سبب إبعاده الضجَّة التي أحدَثَها الكتاب في المغرب، ولفرنسا مصالح كثيرة في المغرب، قد نشرت تفاصيل هذا الإبعاد ومسوغاته في صحيفة "ليموند" الفرنسية 23و24/ 6/ 1991م[100].
4 - على إثر اعتِداء الصهاينة على ما سُمِّي بقافلة الحرية، التي سارت من تركيا لإغاثة المحاصرين في غزة، فقُتل منهم عشرون برصاص الصهاينة، طلب حاخام يهودي في حفل من عميدة صحفيِّي البيت الأبيض هيلين توماس أن توجِّه كلمة لإسرائيل فقالت: على اليهود أن يرحلوا عن فلسطين ويعودوا من حيث أتوا، وحين أبدى امتعاضه، وعدم تصديقه لما قالت سألها الحاخام: إلى أين يعودون؟ فقالت: إلى الأوطان التي جاؤوا منها: إلى بولندا، ألمانيا، روسيا، الأرجنتين، أميركا، بريطانيا، فرنسا... إلخ.
فاهتزَّ البيت الأبيض والسياسة الأمريكية عامَّة لقولها، واضطرَّت للاعتذار وتقديم استقالتها بعد أن سُفِّه رأيُها، وصُودِر حقُّها في إبدائه، وعُوقِبت عليه.
5 - قاطَع طلاب في جامعة كاليفورنيا السفير الإسرائيلي وهو يحاضر فيهم، محتجِّين على سياسات الصهاينة تجاه الفلسطينيين، فحوَّلت الجامعة هؤلاء الطلبة للنيابة بتُهَم جنائية، مع أن العرف الغربي يجيز مقاطعة المحاضر للاعتراض وإبداء الرأي، ومن ثم الخروج من القاعة وتستأنف المحاضرة، لكن لما كان هذا الرأي ضدَّ اليهود وسياساتهم لم تتسامح فيه جامعة عريقة في بلد الحرية!
النظام العام والخير العام:
من القيود التي تُقيِّد حرية الرأي عدم الإخلال بالنظام العام، لكن هذا القيد فضفاض ولا يمكن تحديده، فبإمكان الحكومات التي تدَّعِي الحرية أن تتَّكِئ عليه لقمع الرأي، كما هو الواقع الأمريكي والأوربي بعد أحداث سبتمبر.
يقول د. محمد عصفور: ويخلط البعض بين النظام العام والمصلحة العامَّة والمحافظة على الدولة، وهذا هو الاتجاه الغالب لدى شراح القانون المدني[101].
وكتب نيواييه في تعليقٍ له على حكم لمحكمة النقض: أنَّه لا يوجد بالتأكيد معيار موضوعي للنظام العام؛ لأنَّ الأمر يتعلَّق بصفة أساسية بفكرة اجتماعية ونفسية[102].
وكما اختَلف القانونيون في حدِّ النظام العام، فهم مختلفون أكثر في تحديد طبيعته: أيكون حالة واقعية، أم فكرة خلقية أم شعورية، ومَن اعتبروه فكرة واقعية اختلفوا فيما إذا كانت هذه الفكرة قانونية أو سياسية[103].
فالذين اعتَبروه حالة واقعية جعلوه حالة فعلية معارضة للفوضى، ولأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالوقائع، وتتغيَّر مع الظروف؛ فإنه لن يكون لها أيُّ كيان أو تماسُك قانوني، أو أي ثبات أساسي.
يقول (Louis Lucas): كلُّ فكرة عن النظام العام متغيِّرة وعائمة، فهي أقرب صلة بالشعور منها بالواقع القانوني.
وعند (M. Mimin) أنَّه لا توجد فكرة للنظام العام؛ وإنما إيحاء فحسب بالنظام العام[104].
ويرى آخَرون أنَّ النظام العام فكرة خلقيَّة؛ ولذلك يؤكِّد (Healy) على أنَّه سوف يكون من المستحيل أن ندخل في إطار قانوني بحت مذهبًا يعتبر مضمونه سياسيًّا بصفة أساسيَّة، وقد أمَّن (W. Lienhard) على الطبيعة السياسية للنظام العام فقال: إنَّ النظام العام هو الأداة الفنية التي تستخدمها السياسة لكي تفرض - في نطاق القانون الخاص - إرادتها على الأفراد[105].
يقول (Bernard): إنَّ الآراء السابقة تهدِّد بالتشكيك في جدوى دراسة قانونيَّة لفكرة النظام العام؛ لما ينسب إليها من عدم التحديد والتماسُك، ولأنَّ أبعادها غير المحدَّدة للغاية تمنعها من أن تظهر في عداد التعارف أو الوحدات القانونية؛ لأنَّ القانون - شأنه شأن كافة العلوم - يتطلَّب التحديد[106].
الخير العام أو الخير المشترك:
ممَّا يحد من حرية الرأي ما يسمى الخير العام أو الخير المشترك، وقد عرَّفه بوردو بأنَّه: السمو بالخير الفردي المشترك الذي يتحقَّق بدخل المجتمع[107].
ويرى لي فيور: أنَّ الخير المشترك ليس الحقيقة وحدها، أو الجمال وحده، أو الخير الخلقي المطلق وحده، وهو كذلك ليس النفع المادي الكامل وحده؛ وإنما هو تركيب من هذه الأمور كلها[108].
وفي الفكر النصراني أنَّ الخير المشترك فكرة دينية أو فلسفية، وبوردو يرى أنها فكرة سياسية وليست قانونية[109].
فالخير العام يمثِّل رجاء المحكومين إلى حكَّامهم في أن يلتزموا برنامجًا معيَّنًا، أو يسيروا على خط محدَّد، وأمَّا النظام العام فهو أوامر صادرة من سلطة الحكم ملزمة للمحكومين[110].
ويحدد بوردو أن ثمَّة فكرتين أساسيتين في الخير المشترك، هما فكرتا: النظام والعدالة[111].
الخير في الإسلام:
تكررت لفظة الخير في القرآن معرفة بـ(أل) في تسعة مواضع، ومنكرة في مائة وتسعة مواضع، ولها استعمالات عدَّة، بيد أنَّ الاستعمال المقابل للخير في الفكر الغربي هو الخير بمفهومه العام، وهو مأمور به شرعًا في الأقوال؛ كما في قول الله - تعالى -: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران: 104]، ومأمور به في الأفعال؛ كما في قول الله - تعالى -: ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
وتعريفات العلماء للخير تجمع بين الحظين الدنيوي والأخروي، خلافًا للفكر المادي الغربي المضطرب في تعريف الخير ومفهومه؛ ممَّا أدَّى إلى عدم القدرة على تطبيقه في كثيرٍ من الأحيان، فضلاً عن إلزام الناس به.
قال الطبري - رحمه الله تعالى -: الخير هو العمل الذي يرضاه الله - تعالى[112].
وقال ابن عاشور - رحمه الله تعالى -: الخير هو ما وصفه الدين بالحُسْن ووَعَد على فعله بالثواب[113].
وذكر الراغب قسمته إلى ضربين:
1 - خير مطلق، وهو أن يكون مرغوبًا فيه بكل حال.
2 - وخير وشر مقيدان، وهو أن يكون خيرًا لواحد شرًّا لآخر؛ كالمال الذي ربما يكون خيرًا لزيد وشرًّا لعمرو؛ ولذلك وصفه الله - تعالى - بالأمرين[114].
والمسلم يوقن أنَّ الخير المطلق والشامل للدنيا والآخرة هو في اتِّباع الشريعة الربانيَّة، وأنَّ الخير ينقص في البشرية بقدر ما فيهم من نقص في اتِّباع الشريعة؛ بيد أنَّ الفكر المادي الغربي يرى أنَّ الخير متنوع، وأن لكلِّ مجتمع خيرَه الذي يُناسِبه، وهو ما يتفق عليه أفراد ذلك المجتمع، والنظم الديمقراطية حين جعلَت الشعب يحكم الشعب، وأوجبت التصويت على القوانين والأنظمة التي تفرض على الناس، إنما هي تنزع إلى فكرة اختلاف مفهوم الخير العام من زمان إلى زمان، ومكان إلى مكان، وهذا في الأصل مؤسَّس على نفي الحقيقة المطلقة التي أشرنا لها سابقًا.
يقول د. محمد عصفور: من غير المقبول أن يفترض أن الخير المشترك لكلِّ المجتمع هو خير واحد، وأنَّ تصوُّر الاختلافات والتنوُّعات في فهمه وتطبيقه على أنها انحرافات عن هذا المعنى الوحيد؛ لأنَّ معنى ذلك فرض عقيدة راشدة على كل المنظمات الإنسانية، وهو ما يناهض الواقعية التي يجب أن يُؤخَذ بها وحدَها في الدراسات الاجتماعية، وفضلاً عن ذلك فإنَّ تصوُّر قيام معنى وحيد للخير المشترك مردودٌ تاريخيًّا وواقعيًّا؛ فلم يثبت في التاريخ أنَّ ثَمَّ نموذجًا موحدًا يمثِّل فكرة الخير المشترك تحميه النظم المتنوعة، والتي لا حصر لتنوعها اجتماعيًّا وخلقيًّا؛ وإنما الثابت أن المضمون المادي لفكرة الخير المشترك متغيِّر بطريقة لا تنقَطِع؛ إذ لا يكفّ الناس عن تغيير تصوراتهم عن هذا الخير المشترك بقصد أن يبلغوا به حد الكمال[115].
قلت: هذا التقرير متأثِّر بالتقرير الغربي لفكرة الخير العام، وإلاَّ فإن ما أُرسلتْ به الرسل، وأنزلت به الكتب، وفرضته الشرائع من الأحكام الدينية والدنيوية - هو من الخير العام الثابت الذي تصلح به أحوال البشر في كلِّ زمان ومكان، على اختلاف أجناسهم وأديانهم وأفكارهم، والأمن الشامل الذي سادَ البشريَّة جميعًا إبَّان قوَّة المسلمين دليلٌ على ذلك، على ما في تطبيق المسلمين في كثيرٍ من الدول المتعاقبة من خروقات وانتهاكات؛ لكنهم كانوا هم الأقرب إلى الحق والعدل.
وثمة أمر مهم: وهو أنَّ طبيعة التفكير البشري تحتِّم على صاحب كلِّ مبدأ ظنه أنَّ ما يدين به من دين، وما يعتنقه من أفكار يمثِّل خيرًا عامًّا؛ ولذا فهو ينافح عنه، ويدْعو إليه، ويرفض المساس به، والفكرة الغربية للحريَّة المطلقة من القيود الدينية والأخلاقية، المقيَّدة بالمصالح الفردية والآنية - هي ممَّا يعتقد الغرب ومَن تبعهم في هذه الفكرة أنها من الخير العام المطلق؛ ولذا يدْعون الناس إليها؛ بل يسعون في فرضها عليهم ولو خالفت معتقداتهم وقيمهم وأفكارهم، وهو ما ينقض فكرة الحريَّة من أساسها، وهذه النقطة هي التي حارَ في تخريجها وتسويغها المفكِّرون الغربيون، والعلمانيون العرب، فتجاوزوها بلا قناعة ولا إقناع لغيرهم.
المصلحة العامة:
من الفلاسفة الغربيين مَن كان ينتصر للمصلحة الخاصَّة دون مقارنتها بالعامَّة، ومنهم مَن يقارنها بالعامة فيقدِّم الخاصة عليها؛ لكن أكثرهم يقدِّمون العامة على الخاصَّة، مثل: بنتام، وميل، وسبنسر، وروسو.
يقول بنتام: إنَّنا إذا خُيِّرنا بين مقدار عظيم من السعادة يصيب قلَّة من الأفراد، ومقدارٍ ضئيل منها يصيب كثرة من الأفراد، وجَب أن نُؤثِر الثاني على الأول، وبهذا تسمو مصلحة المجموع على مصلحة الفرد[116].
وفي المقارنة بين النظام والمصلحة، يرى بعضهم أن النظام العام ليس سوى المصلحة العامَّة، لكن المصلحة أوسع منه، وأكثر مرونة، وأصعب تحديدًا[117].
وبعضهم يرى أنَّ المصلحة العامَّة قريبة من الخير المشترك، إلا أنها تتميَّز عنه بصفة أكثر واقعيَّة، فهي وإن كانت قد تستوحي بعض المُثُل العليا أو القِيَم، فإنها أقرب إلى أن تكون مرشدًا عمليًّا لأجهزة الدولة في تصرُّفاتها، ومع ذلك فهي كالخير المشترك فكرةٌ مرنة غير محدَّدة، سواء في مجال السياسة أو في مجال القانون[118].
ولا بُدَّ من العلم أنَّ المفكِّرين الغربيين يلجَؤُون إلى العقل في تحديد المصلحة، وفي التوفيق بين المصالح المتعارِضة، والعقلُ يتأثَّر بالظروف المحيطة به؛ ولذا كان كل مَن يعتمد على العقل وحدَه في تقدير المصالح والتوفيق بينها، يلجأ في كثير من الأحيان إلى القانون، أو إلى العدالة، أو إلى التربية، أو إلى الرأي العام، أو إلى الاهتِمام والعناية بالإرادة العامَّة، ويجعلها رادعًا لِمَن لم يهتدِ بالعقل[119].
ويقرُّون أنَّ ثمَّة عيوبًا لفكرة المصلحة العامَّة، أهمها[120]:
1 - عدم الثبات السياسي؛ فهي فكرة متجاوزة للقانون، يصعب - إن لم يستحل - إعطاؤها صورة محدَّدة وثابتة؛ لارتباطها بعناصر لا تمثل أي ثبات.
2 - أنها فكرة غير مؤكدة.
3 - أن فيها عيوبًا قانونية.
المصلحة في الإسلام:
بينما كانت المصلحة عند المفكِّرين الغربيين ضبابيَّة ويصعب تحديدها؛ ممَّا جعل الاضطرابَ فيها كثيرًا؛ بسبب الاعتماد على العقل وحدَه في تحديدها، وفي التوفيق بينها وبين غيرها ممَّا يعارضها، فإننا نجد ضبطًا وتحديدًا للمصلحة في الإسلام عند علماء المسلمين؛ بسبب أنهم ينطلقون من نصوص الشريعة في حدِّها، وفي الموائمة أو الترجيح بينها وبين ما يعارضها، ولم يَكِلُوا ذلك للعقل وحدَه، فمقصود الشارع حاضر في أذهان العلماء وهم يُعالِجون قضيَّة المصلحة؛ ولذا يقول الغزالي: وإذا فسَّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجهَ للخلاف في اتِّباعها؛ بل يجب القطع بكونها حجَّة[121].
وينفي الشاطبي الاعتمادَ على العقل وحده في إدراك المصلحة، ويؤكِّد على تدخُّل الشرع في ذلك، فيقول - رحمه الله تعالى -: المراد بالمصلحة عندنا ما فُهِمَ رعايته في حقِّ الخلْق من جلب المصالح ودرء المفاسد، على وجهٍ لا يستقلُّ العقل بدركه على حال، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى؛ بل يردُّه، كان مردودًا باتِّفاق المسلمين[122].
ونجد أنَّ المعنى الشرعي لحدِّ المصلحة ظاهرٌ في كلام العلماء عليها، وتعريفهم لها:
قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة[123]، وكل ما عارَض النصوص ليس منفعة؛ بل هو مضرَّة.
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: حقيقة المصلحة هي التي تصلُح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية[124].
ويقسِّمها العلماء إلى أقسام ثلاثة[125]:
1 - قسم شهد الشرع باعتباره، فهذا هو القياس.
2 - قسم شهد ببطلانه، وهو ما كان في مقابل النص.
3 - ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين، وينقسم إلى ضرورات وحاجات وتحسينات.
إذًا فالمعوَّل عليه في معرفة المصلحة، والميزان الذي تُوزَن به وتضبط، ويمكن اعتبارها أو نفيها - الكتابُ والسنَّة، فما وافَقهما فهو مصلحة، وما خالَفهما فهو مفسدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: كل ما يأمر الله به لا بُدَّ أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته، والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة، وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف: أنَّ ما أمر الله به لا بُدَّ أن تكون مصلحته راجحةً ومنفعته راجحة، وأمَّا ما كانت مضرته راجحة، فإنَّ الله لا يأمر به[126].
وقال أيضًا: المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهَّم الناس أنَّ الشيء ينفع في الدين والدنيا، ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة؛ كما قال - تعالى - في الخمر والميسر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]، وكثيرٌ ممَّا ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك، حسبوه منفعةً أو مصلحة نافعًا وحقًّا وصوابًا، ولم يكن كذلك؛ بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثيرٌ منهم أنَّ ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا ومنفعة لهم؛ فقد ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 104]، وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا؛ اهـ[127].
فالشر المنهي عنه إنما يفعله الإنسان؛ لأنَّ له فيه غرضًا ووطرًا ما، وهذه مصلحة عاجلة له، فإذا نُهي عنه وتركه فاتتْ عليه مصلحتُه ولذَّته العاجلة، وإن كانت مفسدته أعظم من مصلحته؛ بل مصلحته مغمورة جدًّا في جنب مفسدته... فالربا والظلم والفواحش والسحر وشرب الخمر، وإن كانت شرورًا ومفاسد، ففيها منفعة ولذَّة لفاعلها؛ ولذلك يُؤثِرها ويختارها، وإلا فلو تجرَّدت مفسدتها من كلِّ وجه، لما آثرها العاقل ولا فعلها أصلاً[128].
ولأجل التعارُض بين ما يتوهَّمه بعض الناس مصالح لأنه متعلِّق بالدنيا، وبين اتِّباع نصوص الكتاب والسنة؛ وضع العلماء ضوابط للمصلحة، هي[129]:
1 - عدم إخلالها بعبودية الله - تعالى - لأن الشرائع الربانية جاءت لتقرِّر هذا المبدأ في كل تشريعاتها.
2 - عدم قصر المصلحة على أحد الدارين، يقول الشاطبي: المصالح المجتَلَبة شرعًا، والمفاسد المستدفعة - إنما تُعتَبَر من حيث تُقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية[130].
3 - عدم معارضتها أو تفويتها للنص، فلا تعارُض بين النصوص الصحيحة والمصالح الحقيقية.
4 - عدم إخلالها بمقاصد الشرع، وهي حفظ الضرورات[131].
5 - عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
يقول ابن القيِّم: إذا تأمَّلتَ شرائع دينه التي وضَعَها بين عباده، وجدتَها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قُدِّم أهمُّها وأجلُّها وأن فاتَتْ أدناهما، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عُطِّل أعظمها فسادًا باحتمال أدناهما، وعلى هذا وضَع أحكمُ الحاكمين شرائع دينه[132].
ويقول أيضًا: فخلقه وأمره مبنيٌّ على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة، بتفويت المرجوحة التي لا يمكن الجمع بينها وبين تلك الراجحة، وعلى دفع المفاسد[133].
وكلُّ هذه المعاني العظيمة في حدِّ المصلحة واستمدادها وضبطها، والترجيح بين المصالح المتعارِضة - غير موجود في الفكر الغربي، الذي يقصر رعاية المصلحة على الدنيويَّة الآنيَّة، وينطلق في تحديدها من العقل وحده، فلا غرو - والحال هكذا - أن يكون التعارُض بين الإسلام والفكر الغربي تعارُضًا في الأصول، وأنَّ استجلاب ما يقرِّره من الحريَّات، مع إضافة بعض الضوابط هو مسخٌ للإسلام، وهدم لأصوله.
تعارض حرية الرأي مع الخصوصية:
تتعارض حرية الرأي أحيانًا مع الخصوصية أو الحرية الشخصية، وحينئذٍ لا بُدَّ من الحسم بينهما، وتقديم إحداهما على الأخرى، وكثيرًا ما كان الحسم للخصوصية، وقيدت حرية الرأي لصالحها، وهذا يدخل في القيد الأول، وهو احترام حقوق الآخرين أو سُمعتهم، لكنَّه أخصُّ منه؛ لأنَّ من حقوق الآخرين احترام حياتهم الخاصة.
ما هي الخصوصية؟
عرف معجم مريام وبستر الخصوصية بأنها: صفة أو وضع يكون فيه المرء بعيدًا عن المجتمع، ويضيف: حرية لا يسمح التدخل بها[134].
والفكر الغربي وقوانينه التي انبَثقَتْ منه يُعلِي من شأن الحرية الشخصية، بأن يفعل الإنسان ما يشاء، بشرط ألاَّ ينتهك حرية الآخرين، وتتعارَض حرية الرأي في كثيرٍ من الحالات مع الحرية الشخصية أو خصوصية الإنسان[135]؛ فمثلاً من حريَّة إبداء الرأي عدم تقييد النشر في الصحافة، ومن حقِّ الصحفي أن يَنشُر ما يَشاء، ويكتب ما يشاء، لكن صحف الإثارة لتسويق بضاعتها؛ ترصُد حياة المشاهير من السياسيين أو الممثلين أو المغنين ونحوهم، فتُفشِي أسرارهم، أو تنشُر صورًا فاضحة لهم، فتتعارَض حريَّة إبداء الرأي والنشر مع الحرية الشخصية أو الحفاظ على الخصوصية، فالفكر الغربي وقوانينه يقيِّد حرية الرأي في هذه الحالات لمصلحة الحرية الشخصية، وبسبب التعارض بين حرية الرأي والحرية الشخصية؛ عُدِّل القانون المدني في فرنسا عام 1970م في مادَّته السابعة، ليؤكِّد احترام الحق في الحياة الخاصة[136]، وينصُّ القانون الفرنسي في المادة (29) على منْع استِعمال تسجيلات تمسُّ حرمة الحياة الخاصة...[137].
وفي القانون الأمريكي تعدُّ المحادثات بين الزوج وزوجته، والطبيب ومريضه، والكاهن والتائب، والمحامي وموكله - من المحادثات المحمية المتمتعة بامتياز، ولا يمكن الاحتجاج بها في المحاكم، أو الاستشهاد بها ونحو ذلك، في المملكة المتحدة[138].
وفي قانون سويسرا المادة (169) ينصُّ قانون العقوبات الفدرالي على اعتِبار تصوير أيِّ جزء من الحياة الخاصة للإنسان جريمة، وفي هولندا نصَّ القانون على معاقبة مَن يلتقط صورة لشخصٍ على نحوٍ من شأنه أن يُلحِق الضرر به، كما نصَّ القانون البلجيكي على معاقبة الشخص الذي يلتقط صورة لإنسان في مكان خاص دون رضائه، وكذلك القانون الفرنسي[139].
وتُعاقِب القوانين الأطبَّاءَ على إفشاء أسرار المرضى، كما تُعاقِب الممثلين والمغنين على نشر فضائح زملائهم أو أسرارهم... وكذلك العاملون في البنوك في نشر أسرار عملائهم، وهكذا العاملون في الشركات والمؤسسات... بل نصَّ القانون الفرنسي على وجوب كتْم الطبيب أسرارَ مريضه ولو أذن المريض في إفشائها؛ على اعتبار أنَّ محافظة الطبيب على أسرار المرضى مصدره القانون، وليس الاتفاق مع المريض[140].
كما تُعاقِب القوانين الوضعيَّة مَن نسَب إلى شخص بأنه مُصاب بمرض معدٍ، أو ارتكب تزويرًا أو سرقة...[141].
وينصُّ القانونيُّون على: أنَّ مهمَّة الصحافة الأولى هي نشرُ الأخبار التي تهمُّ المجتمع، لا فضح الأسرار التي تمسُّ الحياة الخاصة...[142].
ومن الأمثلة على تقديم الخصوصية على حرية الرأي في القضاء الغربي:
1 - نشر أحد مشاهير المطربين في فرنسا في لقاءٍ مع إحدى المجلاَّت اسمه الحقيقي وهاتفه، وعدَّ القضاء الفرنسي أنَّ هذا فيه نشرٌ للحياة الخاصة ولم يَعُدْ سرًّا، فلا مانع من نشر جهات أخرى له، لكن محكمة النقض رفضتْ ذلك وعدَّتْه مَساسًا بسرِّ هذا المغنِّي؛ على اعتبار أنَّ المساس بالحياة الخاصة لا يكون فقط بالكشف عن أسرارها أوَّل مرَّة؛ وإنما يكون أيضًا بنشر أمر كان معروفًا من قبل ثم راح في طيِّ النسيان... ومَن يُزيح الستار عن المعلن المنسي، فهو بمثابة مَن يبعث من جديد الكشف عن السر[143].
2 - في القضاء الفرنسي صوَّر صحفي ممثِّلة كوميدية مشهورة أُصِيبت بحادث وهي تتنقَّل على كرسي متحرِّك؛ بسبب إصابة عضوية، فاعتبر القانون نشر صورتها مساسًا لا يُغتَفَر لحرمة حياتها الخاصَّة[144].
القيود على الإعلام[145]:
من المعلوم أنَّ وسائل الإعلام هي أهمُّ الوسائل لإبداء الرأي، والتعبير عنه، ونشْره بين الناس، والغربيون يُفاخِرون بالحرية الإعلامية التي يتمتَّع بها الغربيُّ عن غيره من الناس؛ لكنَّ الحقيقة أنَّ وسائل الإعلام ليس لها الحق في نشر كلِّ ما تريد، وليس من حقِّ الغربي أن يُبدِي فيها رأيه بلا قيود ولا ضوابط؛ بل لا بُدَّ من ضوابط تكون وسيلةُ الإعلام الناشرة للرأي مسؤولةً عن مراعاة هذه الضوابط، وإلاَّ أخذتْ بإخلالها بها.
يقول د. حسنين عبدالقادر: هناك شبهُ إجماعٍ على أنَّ الصحافة يجب أن تَفرِض قيودًا على حريَّتها لصالح الجماعة؛ لأنها قد تُصبِح خطرًا على الدولة التي تَقُوم على حفْظ الأمن والسلام، ورعاية الحقوق وإشاعة العدالة بين الناس، وقد تُؤذِي الصحافة الجماعات والأفراد؛ بل إنَّ عدم شعورها بالمسؤوليَّة يهدِّد كيان المجتمع والرأي العام، وإذًا من واجب الدولة أن تَحُول بينها وبين الإضرار بالمجتمع عن طريق التقنين؛ اهـ[146].
صناعة الأفكار وتشكيل الرأي:
وأمَّا القيد الخامس لحريَّة الرأي الذي يُمكِن إضافته إلى القيود الغربية - ولو لم ينصُّوا عليه - فهو قيد صناعة الأفكار وتشكيل الرأي.
وتعريف الرأي العام[147]: الْتزام معنوي جماعي، تقبله الأغلبية عن عقيدة وليس عن خوف، أو هو عبارة عن ردود أفعال الناس تجاه موضوعات أو تصريحات تظهر في ظروف معيَّنة.
وينقسم من جهة الزمن إلى أقسام ثلاثة[148]:
1 - رأي دائِم مستمر، يسمِّيه علماء الاجتماع: العام الكلي، وعناصره: العقيدة والشريعة والتقاليد[149].
2 - رأي مؤقَّت، ويكون نتيجة حادثة وقعتْ، ولعل من أقرب الأمثلة عليه حشد الرأي الأمريكي خاصَّة - والغربي عامَّة - في حرب الخليج الثالثة ضد العراق، تحت دعاوى امتلاكه أسلحة دَمار شامل؛ إذ دارَت العجلة الإعلامية الأمريكية بتوجيهٍ من صنَّاع القرار في هذا الاتجاه؛ حتى تحقق غرضهم باحتلال العراق؛ ليظهر بعد ذلك أن كلَّ الذرائع التي أُبِيح بها غزو العراق كانت زائفة، وأنَّ الرأي العام الأمريكي والغربي قد وقَع في خدعة كبيرة.
3 - رأي يومي، ويتكوَّن من الأحداث اليومية، وتُحرِّكه وسائل الاتِّصال الجماهيري، والشائعات والدعايات.
وأمَّا من جهة الانتشار، فأقسامه ثلاثة أيضًا[150]:
1 - الرأي العام المحلي، وتشكِّله وسائل الإعلام المحلية؛ ولذا تحرِص الدول على امتلاكها، أو شراء القائمين عليها، والمؤثرين فيها.
2 - الرأي العام الإقليمي.
3 - الرأي العام الدولي، وتتنافس الدول الكبرى على تشكيله بإنشاء صحف وإذاعات وقنوات بمختلف اللغات تنشر ما يمثِّل فكرها، ويحقِّق مصالحها، وتُنفق في هذا السبيل أموالاً ضخمة، والقنوات العربية الأمريكية مثال لذلك.
والواقع يدلُّ على أنَّ صناعة الأفكار أو تشكيل الرأي العام عن طريق الإعلام، هو من قيود حرية الرأي وإن لم يصرح به؛ فمثلاً مُعاداة الرأسماليِّين في إعلامهم للشيوعية أيام قوَّة مدِّها، أو تشويه صورة الإسلام، أو الدِّفاع عن المُعتَدِين اليهود عن طريق وسائل الإعلام، وما استتبعه من صدور قانون معاداة السامية - هو ممَّا يقيد حرية الرأي؛ لأنَّ المتلقي لهذا الإعلام الأحادي الإقصائي يتشكَّل فكره ورأيه في إطار ما يضخُّه الإعلام.
يقول نعوم تشومسكي: صحيحٌ أنَّ الرقابة على وسائل الإعلام لا تَكاد توجد في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فإنَّ صناعة التحكُّم في الأفكار مزدهرة جدًّا؛ بل إنها صناعة لا غنى عنها في مجتمع يعتمد على مبدأ القرار للنخبة، والإقرار للعامة[151].
فالحرية السياسية، وعلى الأخصِّ حريَّة الرأي بكافَّة صورها ووسائلها؛ كحرية الصحافة والأحزاب والانتخابات... إلخ - مثلها مثل الرأي العام... فكلٌّ أصبح صناعة تصنع وفق هوى المموِّلين وأصحاب السلطة من الحاكمين؛ ذلك أن الممولين - وهم أصحاب الاحتكارات من الرأسماليين - يكونون هم جماعات الضغط الفعَّالة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، إذا لم يكونوا هم المسيطرين على تقاليد الحكم[152].
عدم ثبات حرية الرأي:
تقول المحكمة الفدرالية الأمريكية: إنَّ نطاق حريَّة الرأي ليس ثابتًا؛ بل إنه يتغير بتغير ظروف الحرب الاستثنائية، والمسألة نسبية متدرجة... ثم تعترف المحكمة بأنَّ القانون قد يُعاقِب على صورة معيَّنة من صور التعبير عن الرأي؛ بوصفها خطرًا في ذاتها[153].
والنُّظُم الوضعية السياسية والقانونية تلتَقِي كلها حول تقييد حرية الرأي - على فكرتين أساسيتين:
1 - فردية، وهي حماية الخصوصية؛ لئلاَّ تنتهك بحرية الرأي.
2 - جماعية؛ وهي حماية القانون أو النظام العام أو الآداب.
كما أنَّ هذه القيود تتَّخِذ صورتين:
الأولى: صورة مباشرة تقوم على ما يكفل للدولة احتكار القوة، وولاء قواتها لها.
الثانية: صورة غير مباشرة، حيث تستهدف بالعقاب ما يناهض أنظمتها بالقوة أو الانقلاب أو الخيانة، ونحو ذلك.
ويخلص عددٌ من المفكِّرين - سواء كانوا سياسيين، أم قانونيين، أم علماء اجتماع - إلى صعوبة استخلاص مِعيار لتأثيم الرأي بادِّعاء مساسِه بالنظام العام، أو تحريضه على العنف لتأثيمه، فليس ثمَّة معيار حاسم قاطع يرجع إليه للتفريق بين النقد المباح والتحريض المحظور[154].
ولذا قرَّرت المحكمة الأمريكية العليا أيَّام قوَّة المدِّ الشيوعي: أنَّه ما دام الشر الذي يسعى القانون لمنعه يبلغ حدًّا من الجسامة، فإنَّ الدعوة إليه يجوز العقاب عليها، بغضِّ النظر عن مَدَى ما ينتظر هذه الدعوة من نجاح[155].
وهكذا القانون الفرنسي يرى أنَّ حماية النظام العام تسوِّغ تدخُّل السلطة للحدِّ من نِطاق حرية الرأي بشتَّى الوسائل[156].
والنُّظُم السياسية على اختلاف أنواعها، تستتر وراء هذا الأساس الصحيح من الجهة القانونية؛ لتحقيق أغراض سياسية بعيدة الصلة عن حماية النظام العام.
والحجَّة التي طالما قذف بها الغربيون وأتباعهم الليبراليون في العالم الإسلامي، هي: إذا كان الإسلام دينًا صحيحًا ومُقنِعًا للناس، فلماذا تمنعون التنصير أو الدعوة للأفكار الهدَّامة كالعلمانية في بلاد المسلمين؟ ولماذا تحرِّمون بناء الكنائس، ومراكز الدعوة إلى الإلحاد، وطباعة كتب الملحدين وتوزيعها في أوساط المسلمين؟ ولماذا تنهون عن البدعة والتشبُّه بالكفار إن كنتم واثقين من دينكم ومنهجكم؟!
وهذه الحجَّة تُقلَب عليهم بمثل قولهم، فيقال: لماذا كانت الدول الديمقراطية الليبرالية - التي ترعى حرية الرأي وتهتف بها - أيام المد الشيوعي تمنع الدعاية للشيوعية في بلدانها، وتنزل أقصى العقوبات بِمَن يفعل ذلك؟ ولماذا لا تفتح الدول الليبرالية أبوابها لدُعاة القاعدة ودعاة الإرهاب؟ ولماذا تأخذ بالظنِّ على أدنى شبهة لِمَن ينتَمِي لهذه الأفكار؟ ولماذا أضحَى ما يسمَّى بمقاومة أفكار التطرُّف والإرهاب عرفًا عالميًّا؟ ولا سيَّما أنهم يَزعُمون أنَّ الأنظمة الديمقراطية الليبرالية قد بلغت الكمال، ووقفت عجلة التاريخ عندها كما يدَّعون!
فهل تَخاف من تأثير عددٍ قليل من الإرهابيين - كما يسمُّونهم - على جمهور الغربيين، فيتأثَّروا بأفكارهم؟ حتى ضحوا بحرية الرأي، واعتمدوا التجسُّس حلاًّ للحِفاظ على أنظمة الدول، فاهتزَّت دعاوى حرية الرأي عند أدنى اختبار حقيقي لمصداقيتها.
تقييد حرية الرأي عند المفكِّرين المسلمين:
المتتبِّع لكِتابات المفكِّرين المسلمين في حرية الرأي، يجد اختلافًا كبيرًا في تقييدها؛ وسبب ذلك أنَّ فكرة حرية الرأي منقولة عن الفكر الغربي، ثم بحث لها عمَّا يؤيِّدها في الشريعة الإسلامية، فلمَّا اصطدمت بمحرمات الرأي والقول التي لا حصر لها، قيدها من كتبوا فيها ببعض قيودها، فمنهم مَن أتى بقيود عامَّة؛ كمَن قيَّدها بالشريعة الإسلامية، ومنَع كلَّ ما خالفها من الرأي، ومنهم مَن فصل في ذلك، ويمكن تقسيم اتجاهاتهم في تقييد الحرية إلى ما يلي:
الاتجاه الأول:مَن أطلق حرية الرأي، ونصَّ على عدم تقييدها، ونسب ذلك للإسلام! يقول حسن الباش في تقريره لحرية الرأي: أمَّا حرية التعبير، فهي التي ضمنها الإسلام في آيات القرآن، وحضَّ عليها... وذكر من مجالاتها: حرية التعبير عن الفكر مهما كانت فلسفته، ومهما كان اتجاهه...
إلى أن قال: وقد أقرَّ الإسلام ما كان عرفًا عند العرب، وأباح الإدلاء بالرأي، وإبداء وجهة النظر دون قيد...[157].
وهذا القول واضح السقوط؛ لأنَّ في الشريعة الإسلامية تقييدًا كثيرًا لحريَّة الرأي؛ بل الأصل عدم إطلاق الرأي، فكيف ينسب لها خلاف ذلك، كما أنَّ القوانين الوضعية قد اتَّفقت على تقييد حرية الرأي بقيود عدَّة سبق تناولها.
الاتجاه الثاني:مَن لم ينصَّ على إطلاقها ولا تقييدها[158]، ومن المحتمل أنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه يرَوْن تقييدها، لكنَّهم لم ينصُّوا على ذلك؛ تقليدًا لغيرهم؛ بمعنى: أنَّ بعضهم نقل من بعض، والمنقول عنه لم يقيد فتبعه الناقل، وهذا مُلاحَظ في كثير ممَّن تناولوا بالدراسة الحرية وحقوق الإنسان؛ إذ إنَّ قليلاً منهم ناقشوا هذه الأفكار ونقدوها، أو أنهم ذهلوا عن تقييدها، أو أنهم رأوا أن ضرورة تقييدها معروفة لا تحتاج إلى بيان، أو أنهم رأوا اختلافًا كثيرًا في القيود التي تقيد بها حرية الرأي، فأعرضوا عن جميعها.
الاتجاه الثالث:تقييد حرية الرأي، وهو ما سلَكَه أكثر مَن قرَّروها، لكن تنوَّعت قيودهم لحرية الرأي، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: مَن انطلق في تقييدها من حكم الشريعة الإسلامية، وهم على أنواع ثلاثة:
النوع الأول:مَن قيَّدها بقيود كليَّة، نحو تقييدها بالإطار الشرعي، أو المبادئ الإسلامية، أو التزام الحدود التي حدَّتها الشريعة، أو عدم مخالفة حكم شرعي، أو أن يكون الرأي مشروعًا، ونحو ذلك[159].
ومن أصحاب هذا الاتِّجاه مَن حاولوا استِقراء موانع الرأي في الإسلام، فوضعوا ضوابط كلية للرأي يكون الرأي جائزًا بتوافرها، وهي أربعة[160]:
الضابط الأول: أن يكون الرأي مشروعًا.
الضابط الثاني: امتلاك أهليَّة الرأي.
الضابط الثالث: مراعاة ما يَؤُول إليه الرأي.
الضابط الرابع: أن تكون وسيلة الرأي مشروعة.
النوع الثاني:مَن قيدها بقيود تفصيلية، هي بعض قيودها وليست كلها، نحو تقييدها بعدم الكذب أو الغيبة، أو الفحش في القول، أو الدعوة للفساد والانحِراف، أو إشاعة الفاحشة، ونحو ذلك[161].
النوع الثالث:مَن قيَّدها بقيود كلية وبعض التفصيلية[162].
القسم الثاني:مَن انطلق في تقييدها من غير الشريعة، فقيَّدها بالقانون أو النظام - والقانون قد يكون وضعيًّا - أو قيَّدها بعدم أذيَّة الآخرين[163].
مناقشة هذه القيود:
أمَّا مَن نَصَّ على عدم تقييدها، وكذا مَن قرَّرها ولم يذكر لها قيودًا، فهم مُخطِئون؛ لأنَّ إطلاق الرأي ليس من الإسلام في شيء، ويُؤدِّي ما ذكروه إلى إقرار الكفر والإلحاد وشتم رب العالمين - سبحانه وتعالى - كما يؤدِّي إلى الإزراء بالأنبياء - عليهم السلام - وتكذيبهم، والطعن في القرآن الكريم، وانتِقاد الأحكام الشرعية وردِّها، واعتبار ذلك من الرأي.
ووقوع مثل ذلك من المرتدِّين أو من الكفار الأصليين، ليس مشكلة؛ لأنَّ هذه أفعالهم من قديم، وما ضرَّ ذلك الإسلامَ والمسلمين، لكن المشكلة هي في إسباغ الشرعية على أنواعٍ من الكفر والضلال، سواء كان ذلك بادعاء أنَّ الإسلام يُبِيح الرأي، ويدْعو إلى حرية القول، ولم يضع قيودًا لذلك، أو كان ذلك بتقرير حرية الرأي والاستدلال لها بنصوصٍ من الكتاب والسنة، ومن ثَمَّ إهمال ذكْر القيود التي تقيدها، فيقدح في ذهن المتلقِّي لمثْل هذه الكتابات من جهَلَة المسلمين ومن الكفَّار: أنَّ الإسلام بلَغ من أريحيَّته أنَّه يسمح بالطعن والتشكيك فيه، والسخرية بمقدَّساته وشعائره وأحكامه.
وأقلُّ خطأً من هؤلاء مَن قرَّروا حرية الرأي لكنَّهم قيدوها بقيود، وهم على أنواع:
1 - مَن قيَّدوها بما جاء في المواثيق والإعلانات الدولية والقوانين الوضعية، وأعرضوا عن الشريعة الربانية، وهؤلاء هم أفحش هذه الطائفة خطأً.
2 - مَن قيَّدوها ببعض قيودها، لكنَّهم أهملوا قيودًا أخرى، فأدَّى ذلك إلى إباحة شيءٍ من الرأي المحرَّم، وهذا خطأ.
3 - مَن قيَّدوها بقيود شرعية كلية؛ كالتقييد بعدم مخالفة الشريعة، وبعض التفصيلية؛ كالمنع من السب والشتم ونحو ذلك، وكانت تكفيهم القيود الكلية عن التفصيلية.
4 - مَن اقتصروا في تقييدها على القيود الكلية، وهؤلاء - وإن أراحوا أنفسهم من تَبِعَةِ التفصيل في الرأي المباح والرأي المحرَّم - فإنهم قد أتَوْا من حيث لا يشعرون على أصل القضية التي دعوا إليها بالإبطال؛ لما سبَق تقريره من أنَّ الأصل في الإسلام منع الرأي إلا ما كان منه خيرًا، والخير من الآراء أقل من الشر.
ويبدو لي أنَّ سبب هذا الاضطراب الكبير في ضبط الرأي وتقييده بين الكُتَّاب المسلمين، أنهم وافَقوا على حريَّة الرأي - وهي مصطلح حادِث منقولٌ عن الكفَّار - وحشدوا ما يرَوْنه يدعمها من أدلَّة الشريعة، ثم اصطدموا بكثرة ما فيها ممَّا يُخالِف الشريعة، وتورَّطوا باللوازم التي تلزم لتقريرها، فراحوا يبحَثون عن قيود شرعيَّة تُقيِّدها، فوقعوا في هذا الاضطراب الكبير.
وكان من الأسهل عليهم قلبُ القضية بمنع الرأي إلا ما أذنت به الشريعة، ولو أنهم فعلوا ذلك لأراحوا واستراحوا.
والعجيب أنَّ مَن قرَّروا حرية الرأي من الكُتَّاب المسلمين، قد شنُّوا حملةً شعواء على التقليد، بلغتْ في كثيرٍ من الأحيان حدَّ التطرُّف؛ إذ انتقدوا التقليد بكلِّ أشكاله، حتى التقليد فيما هو حقٌّ والشريعة أمرَت به وأثنت على مَن فعَلَه، وحشَدُوا الأدلَّة لذلك، ودعوا بقوَّة إلى إعمال العقل، مستدلِّين بكمٍّ هائل من الآيات والأحاديث على ذلك، لكن المؤسِف أنهم خالَفوا ما يقولون، ووقعوا من حيث لا يشعرون في تقليد الغربيين والعلمانيين العرب في تقريرهم لحرية الرأي دون نقدٍ ولا تمحيص؛ ممَّا أوقعهم في اضطرابٍ كبير في ضبط الرأي وتقييده، كما أنهم قلبوا هذه القضيَّة رأسًا على عقب.
ومَن تأمَّل مقام العبودية لله - تعالى - علم أنَّ المؤمن متعبد لله - تعالى - في أقواله وأفعاله وشؤونه كلها، والعبوديَّة قيد تقيِّد صاحبها بعمل ما يُرضِي الله - تعالى - ومجانبة ما يُسخِطه، ولو حاكَمنا الرأي والقول إلى العبودية، لعلمنا أنَّنا متعبَّدون لله - تعالى - في هذا الأمر العظيم بكفِّ اللسان وحبسه ومنعه إلا فيما هو خير، والخير هو ما بيَّنته الشريعة، وهو ثابتٌ في الأصل، وليس هو الخير المتغيِّر في الفكر الغربي، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.
وأختِم هذه المقالة بالتنبيه على أمرٍ أرى أنَّه مهمٌّ، وهو: أنَّ كثيرًا ممَّن يقرِّرون الحريَّات أو حقوق الإنسان بمفهومها الغربي، ويستدلُّون لها بنصوص الكتاب والسنَّة، يقصرون نظرتهم في تقريرها على الأحكام الدنيوية، ويُخرجون ما يتعارَض منها مع الحرية - كالحدود - تخريجات باردة، وإذا أُتِي لهم بما يُعارِض الحرية ممَّا له تعلقٌ بالجزاء الأخروي، قالوا: نحن لا نُرِيد الأحكام الأخرويَّة، فوافَقُوا الغربيين في قصر نظرتهم على الدنيا فقط من جهة، ومن جهة أخرى ارتَكبوا جنايةً في حقِّ الإسلام وفي حقِّ مَن يقرأ لهم؛ لأنهم حين يُقرِّرون الحريَّات أو حقوق الإنسان يُعلِنون أنهم يَنطَلِقون فيها من الإسلام، ويستدلُّون لها بنصوص من الكتاب والسنَّة، ومعلومٌ أنَّ الإسلام لا يفصل بين الدنيا والآخرة.
وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــ
[1] "المحكم"؛ لابن سيده 10/338، و"اللسان" 14/291.
[2] "المحكم" (10/343)، و"القاموس" 1659.
[3] "المفردات" (209)، ويُنظر: "التعاريف"؛ للمناوي (354)، و"الكلِّيات"؛ للكفوي (480).
[4] "إعلام الموقعين" (1/66).
[5] قسمه ابن القيِّم إلى أربعة أقسام، وفصَّلها في "إعلام الموقعين" (1/66 - 85)، ويُنظر: "المتواري على البخاري" (410)، و"فتح الباري"؛ لابن حجر (13/331).
[6] ينظر في أنواعه: "جامع بيان العلم وفضله": (2/138 - 139)، و"شرح ابن بطال على البخاري" (10/351)، و"الموافقات" (3/422)، وقسَّمه ابن القيم إلى خمسة أقسام في "إعلام الموقعين" (1/ 68 - 69).
[7] يُنظر: "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية" (1/20).
[8] "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية" (1/37).
[9] المصدر السابق (1/332).
[10] المصدر السابق: 1/348.
[11] المصدر السابق: 1/368.
[12] المصدر السابق: 1/382.
[13] المصدر السابق: 1/389.
[14] ينظر: "المبادئ الدستورية العامة"؛ د. محمود حلمي (275)، و"حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة"؛ د. عبدالوهاب الشيشاني (95).
[15] انظر: "معنى الديمقراطية"، صول بادوفر، ترجمة جورج عزيز: (170).
[16] "النقد المباح في القانون المقارن"؛ د. عماد عبدالحميد النجار (36).
[17] "جرائم النشر" (3)، و"حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية" (127).
[18] "النقد المباح في القانون المقارن" (15).
[19] ينظر: "الإعلام ونظرية الحرية"؛ مجلة العلوم السياسية، عدد سبتمبر (1964م)، و"النقد المباح" (36).
[20] ينظر: "حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية"؛ د.أحمد جلال حماد: (99).
[21] ينظر: "النقد المباح في القانون المقارن" (51).
[22] "الحرية"، جون ستيوارت ميل، ترجمة طه السباعي باشا: (82).
[23] المصدر السابق: (92).
[24] "حقوق الإنسان العامة في الإسلام"؛ منصور الرفاعي، ود. إسماعيل عبدالفتاح كافي (69).
[25] "المجتمع المتكافل في الإسلام"، عبدالعزيز خياط: (72).
[26] "الحرية منهج الإسلام وتشريعه" (107 - 108).
[27] "حقوق الإنسان وحرياته الأساسية"؛ د. هاني سليمان الطعيمات (181).
[28] "حرية الفكر"، محمد العزب موسى (101).
[29] "الإسلام وحقوق الإنسان"؛ محمد عبدالملك المتوكل، ضمن موسوعة حقوق الإنسان، الرؤى الإسلامية والعربية والعالمية (115).
[30] ينظر: "حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية" (91).
وجمهور الأصوليين يقررون أن الإباحة ليست من الأحكام التكليفية؛ ينظر: "المحصول" (1/128)، و"المنخول" (21)، و"الإحكام"؛ للآمدي: (1/170)، و"روضة الناظر" (37).
[31] ينظر: "حقوق الإنسان في الإسلام"، د.محمد الزحيلي 185، و"الإحكام في حقوق الإنسان في الإسلام"، عبدالعزيز محمد سندي 490، و"حقوق الإنسان في الإسلام" د. سهيل حسين الفتلاوي 8 - 9، و"حقوق الإنسان في الإسلام"؛ علي الشربجي 154-155، و"حقوق الإنسان العامة في الإسلام" 71، و"حقوق الإنسان في القرآن والسنة"؛ د.محمد أحمد الصالح 162، و"حقوق الإنسان في القرآن الكريم ودورها في التنشئة الاجتماعية"؛ د.وليد محمد العياصرة 149، و"الحقوق الإنسانية بين الشريعة الإسلامية والشرعية الدولية"؛ د.محمد المختار المهدي 29، و"حق الحرية في العالم"؛ د. وهبة الزحيلي 113، و"الحرية منهج الإسلام وتشريعه"؛ أحمد محمود الحاضري 107.
[32] "تفسير الطبري" 5/276.
[33] "تفسير السمعاني" 2/242، و"تفسير البغوي" 1/479. ويُنظر: "النهاية"؛ لابن الأثير 3/216، و"اللباب"؛ لابن عادل 9/224، و"عون المعبود" 9/326.
[34] "أحكام القرآن"؛ للجصَّاص: 2/322، و"التحرير والتنوير" 20/260.
[35] "تفسير السمعاني" 4/183، وزاد النسفي: وما ينكره العقل، وزاد الخازن: وينفر منه الطبع، وزاد الشنقيطي: وأوعد فاعله العقاب؛ ينظر: "تفسير النسفي" 3/260، و"تفسير الخازن" 3/121، و"أضواء البيان" 2/438.
[36] "تفسير القرطبي" 10/167.
[37] "صيانة صحيح مسلم" 221، ويُنظر: "جامع العلوم والحكم" 80، و"غذاء الألباب" 1/ 35.
[38] "مجموع فتاوى ابن تيمية" 15/157.
[39] "تفسير ابن عرفة" 1/209، و"التحرير والتنوير" 11/166.
[40] ينظر: "الكشاف" 2/552، و"تفسير أبي السعود" 5/92.
[41] ينظر: "المبادئ الدستورية العامة"؛ د. محمود حلمي: 275، و"حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة" 95، و"حرية الرأي والرقابة على المصنفات" 16 - 17، و"الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة" 466، و"النظم السياسية"؛ عبدالغني بسيوني 328.
[42] "الحرية": 147.
[43] رواه من حديث معاوية - رضي الله عنه - أحمد 4/102، واللفظ له، وأبو داود (4597) والدارمي (2518)، وقد جاء من طرق عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم.
[44] تقرير حرية الرأي في الإعلانات الدولية والإقليمية صِيغَ بصيغة قواعد كلية عامة، ويشترط في القاعدة القانونية أن تكون عامة ومجردة، وعموميتها تعني أن هذه القاعدة لا تخص فردًا معينًا بالذات، ولا واقعة محددة بعينها؛ بل تعني أشخاصًا معينين بصفاتهم، ووقائع معينة بصفاتها، فكل فرد توافرت فيه هذه الصفات، وكل واقعة استجمعت هذه الشروط تنطبق عليها صفة القاعدة، أما التجريد في القاعدة القانونية، فيقتضي أن تصدر في صيغ مجردة لا تتعلق بشخص معين أو بواقعة معينة.
ومن القانونيين من يرى أن العمومية والتجريد صفتان متلازمتان، فتترتب كل واحدة منهما على الأخرى، ومنهم من يرى أنهما وجهان لخصيصة واحدة تتعلق أولاهما بتطبيق القاعدة، وتتعلق الثانية بتكوينها؛ ينظر في ذلك: "أصول القانون"، د. حسن كيرة: 12، و"المدخل للعلوم القانونية"، سليمان مرقص: 19، و"المدخل لدراسة القانون"، د.علي حسين نجيدة: 19.
[45] "الحرية": 42.
[46] "تفسير ابن عطية" 2/112.
[47] "تفسير ابن كثير" 1/555.
[48] "أضواء البيان" 1/306.
[49] "تفسير السعدي" 202.
[50] "التحرير والتنوير" 26/303.
[51] رواه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري (6112)، ومسلم (2988).
[52] هذه الرواية لابن ماجه (3970)
[53] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (2616).
[54] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (2410)، وصحَّحه ابن حبان (5699).
[55] رواه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري (6110)، ومسلم (47).
[56] يُنظر: "رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (154).
[57] "شرح النووي على صحيح مسلم" 2/19.
[58] "جامع العلوم والحكم" 134.
[59] "فتح الباري"10/532.
[60] "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" 2/179.
[61] سيأتي مزيد بيان لذلك في تعارُض حرية الرأي مع الخصوصيَّة.
[62] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر" 13- 14.
[63] ينظر: المصدر السابق: 64 و67.
[64] ينظر: المصدر السابق: 67.
[65] ينظر: المصدر السابق 67.
[66] ينظر في التفريق بين حقوق الله - تعالى - وحقوق البشر: "الفروق" 1/256، و"الذخيرة" 1/72، و"الموافقات" 2/316، يقول القرافي - رحمه الله تعالى -: فما مِنْ حقٍّ للعبد إلا وفيه حق لله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه؛ فيوجد حق الله - تعالى - دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى؛ اهـ؛ "الفروق": 1/256.
قلت: الفكر الغربي على العكس من ذلك تمامًا، فلا حقوق لله - تعالى - ألبتة، ولا حقوق للإنسان تؤخذ من حقوق الله - تعالى - أو شرائعه؛ وإنما الحقوق هي للإنسان فقط، وتستمد من هوى الإنسان.
[67] ينظر: "تفسير ابن عطية": 5/160، و"مجموع فتاوى ابن تيمية": 7/49، و"أضواء البيان": 7/428.
[68] رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس (2412)، وقال المنذري: رواته ثقات، وفي محمد بن يزيد كلام قريب لا يقدح، وهو شيخ صالح؛ "الترغيب والترهيب": 3/345, وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة": 3/545، رقم (1366).
[69] "مرقاة المفاتيح": 5/158.
[70] مضى تخريجه.
[71] رواه أبو داود (2873)، وحسنه النووي في "المجموع" 6/396.
[72] رواه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - البخاري (6327).
[73] رواه البخاري (3622).
[74] "الكافي" 1/375.
[75] ينظر: "المغني" 3/76.
[76] "مجموع الفتاوى" 25/293.
[77] "الاستذكار" 8/366، وينظر: "فتاوى ابن تيميَّة" 22/315.
[78] "مدارج السالكين" 1/115-116.
[79] "جامع العلوم والحكم" 274.
[80]" فتح الباري"10/446، ويُنظر: "شرح الزرقاني على الموطأ" 4/383، و"فيض القدير" 6/210.
[81] ينظر: "معجم المناهي اللفظية" 32-33.
[82] "مجموع الفتاوى"20/79.
[83] "الحرية" 29، وينظر أيضًا: 31 و108 و126 و136 و151.
[84] المصدر السابق: 155.
[85] "اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان ودورها في تفسير وحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات" 329.
[86] المصدر السابق:330.
[87] المصدر السابق:330.
[88] "الحرية" 157.
[89] "الخير العام"70، وعالج الكاتب مشكلة التعري العلنية وما يماثلها من العلاقات الجنسية، ونقل اختلاف القانونيين والمفكرين حول تغليب الجانب الأخلاقي في منعها، أو تغليب الحرية الشخصية في السماح بها، وهل ذلك من حماية الخصوصية أو من باب حرية التعبير عن الرأي؟ ينظر: 69 - 80.
واستعرض بارينغتون موور مفهوم الخصوصية في ثقافات عدة حول العالم، فوجد أن جميع المجتمعات لها مصلحة في أن تتم العلاقة الجنسية في السرية، ليس لأن الجنس يعد غير أخلاقي؛ بل لأن الشهوات الجنسية قد تشكل أذى بالنسبة للعلاقات والإنتاجية، وبالتالي من الأفضل إبعادها عن الساحة العامة؛ المصدر السابق 83.
[90] "الخير العام" 57 - 58.
[91] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر" 106.
[92] "اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان ودورها في تفسير وحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات": 296.
[93] المصدر السابق: 296.
[94] المصدر السابق: 296.
[95] المصدر السابق: 330.
[96] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 7.
[97] "اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان ودورها في تفسير وحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات": 259.
[98] "حقوق الإنسان عند المسلمين والمسيحيين واليهود"؛ د. سامي عوض الذيب: 50 - 51.
[99] ينظر: المصدر السابق: 51.
[100] ينظر: المصدر السابق: 55 - 56.
[101] "البوليس والدولة"؛ د. محمد عصفور: 38.
[102] المصدر السابق: 38.
[103] المصدر السابق: 39.
[104] المصدر السابق: 39.
[105] المصدر السابق: 39.
[106] المصدر السابق: 40.
[107] المصدر السابق: 49.
[108] المصدر السابق: 59.
[109] المصدر السابق: 60.
[110] المصدر السابق: 78.
[111] المصدر السابق: 62.
[112] "تفسير الطبري": 1/491.
[113] "التحرير والتنوير": 29/288.
[114] "المفردات في غريب القرآن": 160.
[115] "البوليس والدولة": 61، ونقله عن: "المطول في العلوم السياسية"؛ بوردو 1/62 - 64.
[116] ينظر: "أثر المصلحة في التشريعات": 45 - 65.
[117] "البوليس والدولة": 92 - 93.
[118] المصدر السابق: 73.
[119] "أثر المصلحة في التشريعات": 72.
[120] "البوليس والدولة": 74 - 77.
[121] "المستصفى": 179.
[122] "الاعتصام": 2/113، وينظر: "الموافقات": 2/25 - 38.
[123] "روضة الناظر": 169.
[124] ينظر: "المحصول"؛ للرازي: 6/219، و"روضة الناظر": 169، و"الفروق": 4/85، و"الذخيرة": 1/150، و"البحر المحيط"؛ للزركشي: 4/196.
[125] "تفسير السعدي": 389.
[126] "مجموع الفتاوى": 16/165.
[127] "مجموع الفتاوى": 11/345.
[128] "مفتاح دار السعادة": 2/14.
[129] ينظر: "المصلحة المرسلة: حقيقتها وضوابطها": 75 - 96.
[130] "الموافقات": 2/37 - 38.
[131] ينظر: "أصول الفقه"؛ محمد أبو زهرة: 369.
[132] "مفتاح دار السعادة": 2/22.
[133] "شفاء العليل": 217.
[134] ينظر: "الخير العام، إشكالية الفرد والمجتمع في العصر الحديث": 59.
[135] للأنظمة الغربية فيما يتعلق بالخصوصية اتجاهان:
الاتِّجاه الأول: يرفض الاعتراف بحقِّ الخصوصية، وهو المقرَّر في القانون الإنجليزي ومحكمة النقض الإيطالية، وكذلك في المحاكم الأمريكية مطلع القرن العشرين، وحجَّتهم أنَّ النصوص التشريعية الوضعية التي تحمي الأسرار لا تنسحب إلى حماية الحياة الخاصَّة، ما دام أن الكشف عن هذه الحياة الخاصة لا يمسُّ الاعتبار والشرف، ورفعت دعاوى في أمريكا وبريطانيا بشأن صور فوتوغرافية عاديَّة استُخدِمت في دعايات، فاشتَكَى أصحابها بدعوى انتهاك الخصوصية، فلم تُقبَل دعاواهم؛ لأنها صور عادية وليست مخلَّة بشرفهم.
ويرى أصحاب هذا الاتِّجاه في القانون أنَّ انتهاك الخصوصيَّة فضفاض يصعب معه وضع نصٍّ تشريعي يَتناوَل معناه ويُحِيط به، إضافةً إلى أنَّه لا يمكن إيجاد خطٍّ فاصل بين العام والخاص في حقوق الأفراد؛ ولهذا كان القانون الإنجليزي لا يعتَرِف بالتعدِّي على الخصوصية الفردية.
الاتجاه الثاني: يعترف بالحق في الخصوصية، وابتدأت به القوانين الفرنسية والألمانية ثم تبعتها الأمريكية، وتوسَّع إلى أن قرر في أكثر القوانين الوضعية؛ إذ اعترفتْ بحق الشخص في رفض نشر صُوَرِه الخاصة لأيِّ غرضٍ ولو لم تقدح في شرفه، أو يقع عليه ضرر بسبب نشرها، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ الاعتراف بالخصوصية وإن أعاق حرية التعبير، فإنه قيمة اجتماعية لا بُدَّ من مراعاتها؛ ينظر: "الخصوصية في الشريعة الإسلامية والقانون المقارن"؛ د. عبداللطيف الهميم: 54 - 71، و"حقوق الإنسان"؛ عبدالهادي عباس: 3/52.
بيدَ أنَّه بعد قيام ما سُمِّي بالحرب العالمية على الإرهاب، انحَسَر الحق في الخصوصية، وتمَّت الموافقة في كثيرٍ من المجالس النيابية والتشريعية الغربية والأمريكية على أنواعٍ من التجسُّس على الأفراد، والتنصت على المكالمات، فانبرى عددٌ من أساتذة القانون لتأليف عددٍ من الكتب تكرِّس الخصوصية في مقابل انتِهاكها من قِبَلِ الأجهزة الاستخباراتيَّة بذرائع مكافحة الإرهاب، ومن هذه الكتب: "حدود الخصوصية"؛ أميتاي إتزيوني، و"المجتمع الشفاف"؛ دايفد برين، و"النظر غير المرغوب فيه"؛ جيفري روزن، و"الحق بالخصوصية"؛ إيلين ألدرمان وكارولين كينيدي، و"نهاية السرية"؛ شارل شايكس؛ ينظر: "الخير العام، إشكالية الفرد والمجتمع في العصر الحديث": 59 - 60.
[136] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 13.
[137] المصدر السابق: 28.
[138] ينظر: "أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة"؛ د.مبدر ألويس: 8 - 9.
[139] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 46.
[140] المصدر السابق: 66 - 67.
[141] المصدر السابق: 112.
[142] ينظر: "شرح قانون العقوبات، القسم الخاص": 555.
[143] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 72.
[144] المصدر السابق: 173.
[145] أظهر وسيلة إعلاميَّة وأقواها إبَّان الثورة الفرنسية وما بعدها، كانت الصحافة؛ لأنَّ الإعلام الصوتي والمرئي لم يظهر آنذاك، ولحرية الصحافة ثلاث نظريات:
الأولى: ينادي أصحابها بالحرية المطلقة، ولكن لم تجد هذه النظرية لها مناصرًا؛ لأنها تؤدِّي إلى إفلات الكثير من مرتكبي الجرائم لمجرَّد وقوعها بواسطة الصحافة باسم حرية الصحافة.
الثانية: تُنكِر على الصحافة حريتها وتجعلها مسؤولة عن كلِّ ما تنشره شأنها كشأن الأفراد، وهذه النظرية تتَّفِق مع الأنظمة الشمولية، ولا مكان لها في الأنظمة الديمقراطية.
الثالثة: تؤكِّد على حرية الصحافة؛ لكنها تؤكِّد أيضًا على مسؤوليتها الجنائية والمدنية إذا تجاوزت الحدود التي حدَّدها القانون، وهذا المبدأ هو الذي سجَّله إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان 1719م؛ إذ جاء فيه: إنَّ كلَّ إنسانٍ له الحقُّ في الحديث والكتابة والطباعة بحريَّة، إلا ما يُعتَبَر تجاوزًا لهذه الحرية في الحالات التي يحدِّدها القانون، وهو الذي جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق.
[146] ينظر: "الرأي العام والدعاية وحرية الصحافة": 302، و"قانون الصحافة بين أصول النظرية وتطبيق المنهج": 18.
[147] "مدخل إلى دراسة الرأي العام": 82.
[148] "الدعاية والرأي العام": 63 - 64.
[149] لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ مراكز البحوث والدِّراسات الغربية لشؤون الشرق الإسلامي كثيرًا ما تُوصِي العلمانيين - والليبراليين منهم على وجه الخصوص - بكسر الرأي الكلي لدى المسلمين؛ لكونه عقبةً كَؤُود ضد مشاريع التغريب والاستعمار، وذلك يكون بضرب القطعيَّات الدينيَّة والتشكيك فيها، والحملة المنظَّمة على مصادرها ومواطن تبليغها؛ كالعلماء والدعاة والمساجد ونحوها.
[150] ينظر: "الدعاية والرأي العام": 63 - 64، و"مراكز قياس الرأي العام": 55 - 56.
[151] "موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام"؛ د. عدنان بن محمد الوزان: 3/495.
[152] "آراء في الشرعية وفي الحرية": 517، و"حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية": 89.
[153] "حقوق الإنسان"؛ د. حسن علي: 127.
[154] ينظر: "الحرية في الفكرين الديمقراطي والاشتراكي": 15، و"حقوق الإنسان"؛ حسن علي: 128.
[155] ينظر: "الرقابة الدستورية على القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والإقليم المصري": 383.
[156] ينظر: "حقوق الإنسان"؛ حسن علي: 130.
[157] "حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان": 75 - 76.
[158] ومن أصحاب هذا الاتجاه: د. علي عبدالواحد وافي في كتابه: "حقوق الإنسان في الإسلام": 229 - 230، ود. يوسف محمود صبح في كتابه: "حقوق الإنسان في القانون والشريعة الإسلامية": 86 - 88، ود. إبراهيم مدكور، وعدنان الخطيب في كتابهما: "حقوق الإنسان في الإسلام": 16 - 17، ود. سهيل حسين الفتلاوي في كتابه: "حقوق الإنسان في الإسلام، دراسة مقارنة...": 46 - 47، وأحمد الحاضري في كتابه: "الحرية منهج الإسلام": 106 - 112.
[159] ينظر: "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 9، و"النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية": 75، و"حقوق الإنسان في القرآن"؛ فاروق السامرائي: 91، و"الإسلام وحقوق الإنسان"؛ محمد عبدالملك المتوكل: 117، و"حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية": 101 - 102، "العدالة والحرية في فجر النهضة العربية": 127، و"حقوق الإنسان في الأديان": 180، و"حقوق الإنسان في الإسلام"؛ سيف الدين شاهين: 65، و"قانون حقوق الإنسان"؛ د. الشافعي محمد بشير: 109، و"قراءة لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية": 42 - 43، "الحقوق الإنسانية بين الشريعة الإسلامية والشرعية الدولية": 28.
[160] ينظر: "التعبير عن الرأي"؛ د. خالد الشمراني: 1/40 - 375، بواسطة: "حقيقة الليبرالية"؛ د. عبدالرحيم السلمي: 547 - 558.
[161] ينظر: "الحقوق والحريات العامة في عالم متغير": 43، و"موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام"؛ د. عدنان بن محمد الوزان: 3/544 - 545، و"الإسلام وحقوق الإنسان"؛ محمد عبدالملك المتوكل: 117، و"حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية": 101 - 102، و"دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين": 48، و"حقوق الإنسان في الإسلام"؛ علي الشربجي: 155.
[162] ينظر: "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية": 2/50، و"حقوق الإنسان بين التطبيق والضياع": 309 - 310، و"حقوق الإنسان في القرآن والسنة"؛ محمد أحمد الصالح: 165 - 168، و"دراسة مقارنة حول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان": 51، و"حقوق الإنسان في القرآن الكريم"؛ د.عمر يوسف حمزة: 35، و"حقوق الإنسان في الإسلام وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية": 116 - 117، و"الإسلام وحقوق الإنسان"؛ أ.د. جعفر عبدالسلام: 51.
[163] هذان القيدان نصَّ عليهما الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عن جامعة الدول العربية، مادة (22)، وميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي، مادة (10)، ينظر: "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية": 1/382 - 389.
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
والمستشار القانونى
تعليقات
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
مقالات متعلقة
تاريخ الإضافة: 16/6/2010 ميلادي - 4/7/1431 هجري زيارة: 463
مِن أخطر أنواع الغزْو الإخضاع للفِكر، بتمْرِير مصطلحات على أنَّها حق لا تقبل الجدال، وهذا ما وَقَع فيما يُسمَّى بـ: "حُرية الرأي"؛ إذ استسلم لها المفكِّرُون المسلِمون، واجتهدوا في استخراج ما يسندها من النُّصُوص الشرعيَّة على أنَّها حقٌّ لا يَقْبل الجدال، وهذه الدراسة المختَصرة تُلقي الضوء على هذه الإشكاليَّة برأيٍ جديد يُخالف السائد.
معنى الرأي:
الرأي: هو النظر بالقلْب[1]، ويُطلق على الاعتقاد[2].
قال الراغب: "والرأي: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن"[3].
قال ابن القيِّم: "وحقيقته ما يراه القلب بعد فِكْر وتأمُّل، وطلب لمعرفة وجْه الصواب مما تتعارَض فيه الأمارات، فلا يُقال في الأمر الذي لا تختلف فيه العقول، ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأي"[4].
فهذا الرأيُ الاصطلاحي عند علماء اللغة والشريعة؛ ومنه: رأي محمود[5]، ورأي مذْموم[6].
اختلاف الرأي في الإسلام عنه عند الغرْبيين:
الرأيُ في الاصطلاح الغربي وعند مَن جرى عليه من المفكِّرين المسلمين، أوْسَعُ مما ذَكَر علماء اللغة أو الشريعة، فهو عندهم: كلُّ ما يصدر عن الإنسان من قولٍ؛ سواء باللسان أو الإشارة أو الكتابة، ويسمونها: حرية الرأي، وحرية إبداء الرأي، وحرية التعبير، وحرية القول، وحرية الضمير، وبعضهم يُدخلها تحت حُرية الفكر، ويقصد بـ(حُرية الفِكْر)؛ أي: حُرية إبدائه وإشْهاره.
فحين نتناول حرية الرأي في الاستعمال المعاصر، لا يصح أن نستدعي معنى الرأي عند المتقدِّمين، ونحصر الرأي فيما قالوا مما يوجب النظر والتفكير، وهو محلُّ اختلاف واجتهاد، سواء ما كان منه محمودًا، أم ما كان منه مذمومًا؛ بل يجبُ تناوُل حُرية الرأي بحسب اصطلاح واضعيها، والناقلين عنْهم.
واستعمالهم لها فَضْفاض واسِعٌ، يشمل كلَّ ما يصدر عن الإنسان من أقوال، وما يجري مجراها من كتابات وتصاوير ورُسُوم ونحوها، وهذا يَتَبَيَّن مِنْ نُصُوصهم؛ سواء في المواثيق الدوليَّة أو كتابات المفَكِّرين.
وحُرية الرأي بهذا المصطلح الواسِع هو ما نصتْ عليه المواثيقُ الدَّولية، وإعلانات حُقُوق الإنْسان كلها:
ففي المادة التاسعة عشرة من الإعلان العالمي لِحُقُوق الإنسان نصُّوا على أمورٍ ثلاثة:
1- لكلِّ شخص حق التمتُّع بحرية الرأي والتَّعبير.
2- يشمل هذا الحق حُريته في اعتناق الآراء، دون مُضايقة أو تدخُّل.
3- له الحق في التِماس الأنباء والأفكار، وتلقّيها ونقْلها إلى الآخرين بأيَّة وسيلة، ودونما اعتبار للحدود[7].
وواضح في هذه الفقرات أنَّ الرأي يعمُّ كلَّ ما يتلقَّاه الإنسان، وكل ما يصدر عنه منْ آراء وأفكار؛ سواء كانتْ محمودة شرعًا، أم مذْمومة شرعًا، وسواء كانتْ تحتاج إلى تفكيرٍ ونظر، أم كانتْ لا تحتاج إليه.
ثُم أُكد على هذه الحقوق في حُرية التعبير في المادة التاسعة عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدَنيَّة والسياسيَّة[8]، وفي المادة العاشرة من الاتِّفاقية الأوربيَّة لحقوق الإنسان[9]، وفي الاتِّفاقية الأمريكيَّة لحقوق الإنسان الصادرة عام 1969م، وزادوا فيها: لا يجوز أن تخضع ممارسة الحقِّ المنصوص عليه في الفقرة السابقة لرقابةٍ مسبقة؛ بل يُمكن أن تكونَ موضوعًا لفَرْض مسؤوليَّة لاحقة يُحددها القانون صراحةً، وتكون ضروريَّة مِنْ أجْلِ ضمان:
1- احترام حُقُوق الآخرين أو سُمعتهم.
2- حماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصِّحَّة العامَّة، أو الأخلاق العامة[10].
وَوَرَد في الميثاق الإفريقي الصادر عام 1979م: يَحِقُّ لكلِّ إنسان أن يُعَبِّرَ عنْ أفكاره، وينشرها في إطار القوانين واللوائح[11].
وفي المادة الثانية والعشرين للميثاق العربي لحُقُوق الإنسان المنبَثِق عن جامعة الدول العربية: حُرية العقيدة والرأي مَكْفولة لكلِّ فرْد.
وفي المادة الثالثة والعشرين: للأفراد من كل دين الحق في ممارسة شعائرهم، كما لهم الحقُّ في التعبير عن أفكارهم عن طريق العبادة أو الممارسة أو التعليم، وبغير إخلال بحُقُوق الآخرين، ولا يجوز فرْض قيود على حرية العقيدة، والفكر، والرأي، إلا بما ينصُّ عليه القانون[12].
وفي المادة العاشرة من مشروع ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي: لكلِّ إنسان الحق في حرية الرأي والتعبير عنها... ولا يجوز وضْع قُيُود على ممارسة هذه الحُقُوق إلا بِمُوجب القانون، وفي أضيق الحُدُود، وبخاصة من أجْل احترام حقوق الآخرين[13].
والمقَرِّرون لحرية الرأي منَ المفَكِّرين المسلمين يعرِّفونها بأنها: تَمْكين الفرْد مِنْ إبداء آرائه وأفكاره بحرية تامة بأيِّ وسيلة كانتْ[14].
وبهذا يَتَبَيّن أن تناوُلهم لحرية الرأي هو نفس التناوُل الغربي، غير أنهم قيَّدوها بقيود اختلفتْ عباراتهم في تقريرها - كما سيأتي.
أهميَّة حُرية الرأي عند القائلين بها:
كثير من المفكِّرين الغربيين والمسلمين يعدُّون حرية الرأي هي أهم أنواع الحُرية، حتى قال وليام تشاننج عنها: "إنَّها أشد حقوقنا قُدسية"[15].
ويقول فولتير: "إنِّي كاره لما تقول، وأخالفك الرأي في كل حرف فيه؛ ولكني أقاتل حتى الموت في سبيل حقك أن تقوله"[16].
ويقول شاتوبريان: "إنَّنا لا نفقد شيئًا إذا بقيتْ لنا حرية الرأي"[17].
ويجعلون أهم سبب للتقدُّم هو حرية الرأي، فيقولون: إنَّ التقدُّم قبل أن يدخل أمة يقف ببابها ويسأل: هل عندكم حرية رأي؟ فإذا أجابوه بـ: نعم، دخل واستقرَّ، وإن أجابوه: لا، ولَّى هاربًا إلى غير رجْعة[18].
ويرى جون ميلتون: "أنَّ البشر كلهم إذا آمنوا برأيٍ، وجاء فردٌ واحد برأيٍ جديد، ثم حاولت البشرية جمعاء أن تسكتَ هذا الرأي، كان خطؤُها في ذلك لا يقل عن خطأ الفرد الواحد حين يُحاول إسقاط الرأي الذي اجتمعتْ عليه البشريَّة"[19].
والمقررون لهذا النوع من الحرية من الغربيين ومَن وافقهم من الليبراليين العرب، لا يعترفون بالدين قيْدًا يُقيدها؛ بل يُطلقونها من قيود الشريعة؛ بحجة عدم قَبول أي ضغوط على الرأي، ولا يخفى ما في ذلك من مناهضة لعبوديَّة المؤمن لله - تعالى.
يقول برتراند راسل: "إنَّ حرية القول هي أن تكونَ إرادتنا التي نُعَبِّر عنها وليدة رغباتنا، وليستْ وليدة قوى ملزمة تضطرنا أن نفعل ما لسنا نريد أن نفعله"[20]، وأكد مونتسكو على أن الحرية هي: "عدم الانصياع لغير الذات"[21].
ومعلومٌ أن المؤمن يمنعه مِن إبداء رأيِه - في أكثر حالات الرأي - خوفه من انتهاك حِمى الشريعة الرَّبَّانيَّة، والوقوع في إثْم القول، كالقَوْل على الله - تعالى - بلا علْم، كما أنه في حالات أخرى يؤخذ بإبداء رأيه، ويعاقَب عليه حدًّا، أو تعزيرًا؛ كالقذف.
ويبلغ تقديس الرأي عند منظِّري الحرية مبلغًا يدْعو فيه أكبر فيلسوف نظَّر للحرية وقرَّرها، وهو الفيلسوف الإنجليزي جون سيتوارت ميل، إلى تعمُّد الخطأ والباطل في مُواجهة الصواب والحق، حين يتحدَّث عن الرأي السائد، ويقَسِّمه إلى صوابٍ وخطأ، ثم يُقرِّر في الصواب أنه لا بُدَّ من معارضة هذا الصواب بما يُناقضه من الخطأ؛ حتى يتمَكَّن الذهن منَ الإحاطة بالحقِّ إحاطة تامة، والشعور به شعورًا عميقًا[22].
وفي موضعٍ آخر، يؤَكِّد ذلك فيقول: إذا فرضنا جدلاً أن الرأي السائد مُوافق للصواب، ومشتمل على كل الحقيقة، كان من الضروري إطلاق الحُرية للمناقشة فيه مناقشةً حادَّة غير فاترة[23].
وهذا التعميم لِمُواجهة كلِّ صواب بخطأٍ معارض للشرائع وللعقل، وهو مِن لبْس الحق بالباطل، ومن الأمر بالمنكر، ومن قوْلِ الزُّور، ومنَ البغي، ومن التحريف، وكل أولئك جاءتْ آيات قرآنيَّة وأحاديث نبويَّة تنْهى عنه، فلا يصحُّ تعميم مُواجهة كل صواب بخطأ، وكل حق بباطل لعامة الناس، وإلا لضلُّوا، كما لا يصحُّ ذلك لفئات المتعلِّمين إلا لغرَضٍ صحيحٍ.
وإذا كان تقديسُ الرأي لدى الغربيين ومَن وافقهم من الليبراليين العرب، قد بلغ هذا المبلغ، فإنَّ كثيرًا من المفكِّرين المسلمين استنسخوا مقولات الغربيين والليبراليين العرَب في حرية الرأي، مع زيادة شيئَيْن:
الأول: أنهم زعموا أنَّ الإسلام سبق إلى حرية الرأي وتقريرها، أو على الأقل لَم يُعارضها.
الثاني: أن أكثرهم ضبطوها بضوابط شرعيَّة.
ومن أقوالهم في حرية الرأي:
1- إذا كانت حرية الرأي من أهم الحقوق الإنسانية في العالم المعاصر، فإنَّ الإسلام سبق هذه الآراءَ الوضعية بأكثر من ألف وأربعمائة عام وأكثر؛ حيث اعتبر الإسلامُ حُرية الرأي من الحقوق المقدَّسة لأي شخص[24].
2- كفل الإسلام للناس أن يقولوا ما يشاؤون، ويُبْدُون آراءَهم دون أن يمسوا مشاعر الناس وعقائدهم[25].
3- لا تقف حُرية الرأي في العقيدة الإسلامية عند حقِّ الجِدال التماسًا لطمأنينة العقل؛ بل هي تكليف لا يجوز لمؤمنٍ أن يفرطَ فيه، وفريضة لا يحلُّ أن يتخلى عنها أو يتهاون فيها، بمقتضى الأصل الثابت من أصول العقيدة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتقوية الإيمان بالله، بالتواصي بالحقِّ الذي هو حُرية الرأي وحُرية التعبير[26].
4- إنَّ حرية إبداء الرأي تعدُّ بمثابة العمود الفقري للحريات الفكريَّة؛ ذلك أنه إذا كان مِنْ حق الإنسان أن يفكر، فإن حقه هذا يبقى ناقصًا إذا لَم يتمكنْ من التعبير عن أفكاره وآرائه ومعتقداته، ولقد بلغ من اهتمام الإسلام بحرية الرأي أن اعتبرها ضرورة لا مجرد حق[27].
5- وكل شيء في الإسلام قابل للمناقشة العقلية؛ ابتداء مِنْ وُجُود الله إلى أقل المسائل[28].
أدلتهم على حُرية الرأي:
يستدل الداعون لحرية الرأي من المسلمين بجملة أدلة، يُمكن تقْسيمها بحسب موضوعاتها إلى قسمين:
القسم الأول:البراءة الأصلية، وهوأنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يُحرَّم بنصٍّ من القرآن أو السنة، ولا يوجد في الكتاب أو السنة ما يمنع المسلم مِنْ مُمارسة حقِّه في حرية الرأي والتعبير[29].
وبعض أصحاب هذا الاتِّجاه في الاستدلال يجعلون الإباحة في الأحكام التكليفيَّة هي الحرية، أو ما يسميه الأصوليون: الحكم التخييري[30].
القسم الثاني: النُّصوص القرآنية والنبويَّة، وهي على أنواع[31]:
النوع الأول: نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
النوع الثاني: نصوص الصدع بالحق والتواصي به.
النوع الثالث: نصوص الدعوة إلى الله - تعالى.
النوع الرابع: نصوص النصيحة.
ووجه احتجاجهم بها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله - تعالى - وإسداء النصيحة، كلها من الآراء التي يبديها أصحابها ويظهِرونها ويعلنونها في الناس، فكان الإسلام بها سابقًا إلى حرية إبداء الرأي وإظهاره.
نقد استدلالاتهم على حرية الرأي:
أولاً: الاستدلال بأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولَم يرد دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريم الرأي، هذا غير صحيح؛ إذ دلَّت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأصل في الرأي التقييد، وليس الإطلاق؛ أي: التحريم وليس الإباحة، وسيأتي عرض هذه الأدلة في موضعه - إن شاء الله تعالى.
ثانيًا: أنَّ استدلالهم لحرية الرأي بالنصوص من الكتاب والسنة الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والنصيحة والدعوة إلى الله تعالى، فيه تكلف، وعسف للنصوص، وَلَيٌّ لأعناقها، وجرٌّ لها في غير ميادينها؛ إذ الفُرُوق بين هذه الأربعة - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله تعالى، والنصيحة - وبين حرية الرأي في المفهوم المعاصر، فروقٌ كبيرة، تصل في كثير من الصور إلى التعارُض والتَّضاد، ومن هذه الفُرُوق:
أولاً: في تعريف كل منها:
فالمعروف عرَّفه الطبري بأنه: "كل ما أمر الله - تعالى - به، أو ندب إليه من أعمال البر والخير"[32]، وقال السمعاني والبغوي: "هو ما يعرفه الشرع"[33].
والمنكر هو ما نهى الله - تعالى - عنه[34]، وقيل: "المنكر كل ما ينكره الشرع"[35].
وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها[36].
وأمَّا النصيحة، فأوفى تعريف لها وقفتُ عليه هو تعريف ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - قال: "النصيحة كلمة جامعة، تتضمَّن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادةً وفعلاً"[37].
وأمَّا الدعوة إلى الله تعالى، فهي: الدَّعوة إلى الإيمان به، وبما جاءتْ به رسلُه؛ بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا[38].
وأمَّا الحقُّ، فهو: الثابتُ في نفس الأمر[39]، والصدع به هو الجهْر به وإبانته وإظهاره[40].
أمَّا حريَّة الرأي، فقد مضى أنه يراد بها: تَمْكين الفرد من إبداء آرائه وأفكاره بحرية تامة بأي وسيلة كانتْ[41]، وهذا يعمُّ كلَّ ما يصدر عن الإنسان من قول، أو كتابة، أو إشارة، أو صورة، أو نحوها.
فيُلاحَظ في تعريفات المعروف والمُنْكَر، والنصيحة، والدعوة، بناؤها على الأَصْل الشرعي، والتركيز عليه، وهدفها تحصيل الإيمان والطاعة والحق والخير، بينما حرية الرأي - كما يظهر من تعريفها - لا تمنع مِن إبداء الكُفر والمعصية، والباطل والشر.
ثانيًا: أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله تعالى، والنصيحة - واجباتٌ شرعية، وعبادات يؤجَر عليها مَن قام بها، ويأثم بترْكها إن كان قادرًا على القيام بها.
أما حرية الرأي عند المقررين لها من الغربيين ومن وافقهم، فهي من المباحات لصاحبه، فلا يجب عليه أن يبدي رأيه؛ وذلك لأنَّه لا أثر للدِّين في التشريعات الغربية في قضايا الحرية، فهي مُجرد حقوق مدَنيَّة دنيويَّة.
ثالثًا: أنَّ هذه الشعائر الأربع الواجبة في الإسلام وما ماثلها، تتعارَض مع الحرية الشخصية في الفكر الغربي تعارُضًا كبيرًا؛ إذ إنَّ الإنسان في الإسلام معبَّد لله تعالى، مستسلم لأمره، حتى في أموره الخاصة، بينما هو حرٌّ في الفكر الغربي في حياته الخاصة؛ بشرْط ألا ينتهك حرية الآخرين؛ ولذا كانتْ حرية الرأي في أكثر استعمالاتها الغربية لا تتعارَض مع الحُرِّيَّة الشخصية عند الغربيين؛ بل تتَّسق معها في الغالب، وفي الحالات التي يقع فيها تعارُض تحسم القضية لمصلحة الحرية الشخصية، فتقدم على حُرِّيَّة الرأي.
يقول ميل: إنَّ الفكرة القائلة بأن من واجب الإنسان حمْلَ غيره على إطاعة أوامر الدين، هي الأصل والأساس لكلِّ ما ارتكبه البشرُ من ضروب الاضطهاد الدِّيني، فإذا سلَّمنا بصحتها وجب أن نسلم بمشروعية كل ما وقع من حوادث الاضطهاد، وما هو في الواقع إلا تصميمنا على منع الفرد من مباشرة ما هو محلل في دينهم؛ لأنه محرَّم في ديننا؛ اعتقادًا منَّا بأنَّ الله - سبحانه وتعالى - لا يكتفي بإنزال نقمته على الملْحِد حتى يعدنا مُقصرين ومذنبين إذا نحن ترَكْناه في إلحاده آمنًا مطمئنًا[42].
وفي هذا النص من عرَّاب الحرية الغربية وفيلسوفها ميل، ما يدل على تعارُض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحرية؛ لأنَّ في الأمر بالمعروف حملاً على الطاعات، كما أن في النهي عن المنكر حملاً على ترك المحرمات.
الأدلة على أنَّ الأصل تقييد الرأي:
دلَّت أدلة كثيرة على أن تقييد الرأي والحد منه، هو الأصل في الإسلام، وأن إطلاقه هو الاستثناء، على عكْس ما ساد في الفكر الغربي والناقلين عنه من العلمانيين والمفكِّرين المسلمين، ومن هذه الأدلَّة ما يلي:
أولاً: أنَّ الباطل من الآراء، والشر من الأقوال، أكثر من الحق والخير فيها، وميزان الحق والباطل والخير والشر، هو الكتاب والسنة، ودليل ذلك: أن المؤمنين في أغلب فترات التاريخ البشري كانوا أقل من الكفار بنص القرآن؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الصَّفات: 71].
وكان هذا الحكم عامًّا في التاريخ البشري؛ بدليل الله قول - تعالى -: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود: 17]، وقال - تعالى -: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103]، وتكرر في ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم قول الله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 67].
ولا يشك مؤمن في أنَّ ما ينتج عن الكفار من آراء، أكثره من الباطل والشر، فكان بهذا الاعتبار أكثر من الحق والخير، وقد دلَّتِ الأدلةُ على هذه الحقيقة، ومنها:
قول الله - تعالى -: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116]، وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 119].
وكثيرًا ما تكرَّر الوصفُ القرآنيُّ في أكثر البشر أنَّهم لا يعقلون ولا يعلمون؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187]، وقال - تعالى -: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: 103]، وقال - تعالى -: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 63].
فإذا كان أكثرُ الناس لا يعقلون ولا يعلمون، فإنَّ ما يصدر عنهم منَ الآراء لن يكون حقًّا ولا خيرًا ولا صوابًا؛ بل أكثره باطل وشر وخطأ، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يسوغ أن نطلق الرأي ونقول: إن الإسلام يطلقه، ثُمَّ نضبطه بضوابط؟!
وإذا ضمَّ إلى ذلك آراء المخطئين من أهل القبلة، وهم ينتج عنهم آراء باطلة كثيرة، والبدع القولية والفعلية المحدَثة في أُمَّة الإسلام أكثر من أن تحصى، وهي من الرأي الباطل، والأحاديث الدالة على افتراق هذه الأمَّة تدل على ذلك؛ ومنها قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ على ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وإنَّ هذه الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ على ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يعني: الأَهْوَاء - كُلُّهَا في النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وهي الْجَمَاعَةُ))[43]، فما نتج عن هذه الفرَق الكثيرة من آراء وأهواء فارقتْ فيها الحقَّ كلُّها آراء باطلة، وهذه الآراء أكثر مما مع فرقة الحق الواحدة من الحق.
والواقع البشري يدلُّ على ما قرَّرته نصوص الكتاب والسنة؛ فإنَّ الأديان والمذاهب الباطلة والأفكار الخاطئة، وما نتج عنها من كتب خرافية، وآراء كلامية فاسدة - أكثر مما كتب في مجال الحق، سواء فيما يتعلَّق بالدِّين أو الدُّنيا؛ إذ الفرضيَّات والنظريات التي لم تصح أكثر من القطعيات التي صحتْ، حتى في مجالات العلوم الدنيوية، وكل هذا الباطل مما يستثنى من حرية الرأي.
وإذا استثني كان المستثنى أكثر منَ المستثنى منه، وكان المخصوص أكثر من العموم، وانخرمتْ قاعدة حُريَّة الرأي بكثرة ما خرج منها من أفراد الرأي، فانقلب الرأيُ في الإسلام إلى أن الأصل فيه المنْع، والسماح بالرأي مخصوص من النهي العام، ومستثنى من المنع[44].
ولا يرد على تقريرِ هذا أن كثرة التجارِب في العلوم الدنيوية - وأكثرها كان خطأ - هي التي أوصلت لكثير من الحقائق؛ لأنَّ الآراء والتجارب في أمور الدنيا إمَّا أن تؤول إلى ما ينفع البشرية، فهي وسيلة إلى خير، فتكون من الخير المأمور به، وإما أن تؤول إلى ما يضر البشرية، فهي وسيلة إلى شر، فتكون محرَّمة، ومهما كانتْ كثرتها فلنْ تبلغ مبلغ الركام الضخم الذي أنتجته عُقُول البشر على مرِّ القرون فيما يتعلَّق بالأمور الغيبية والدينية؛ سواء كانت اعتقادية أم عملية في شتى الديانات والمذاهب، وهكذا ما يتعلَّق بالأخلاق والسلوك.
هذا؛ ونظرة المفكِّرين الغربيين على العكس من ذلك؛ فالفيلسوف ميل يرى أن الصواب في هذه الحياة أكثر من الخطأ، كما يرى أن كفة الصلاح والاستقامة أرجح من كفة الفساد والعوج[45].
فالاختلاف في تقدير ما يصدر عن البشر من حق وباطل، وخير وشر، وصواب خطأ، هو الذي أدى إلى مخالفة ما يقرره الفكر الغربي لما جاء به الإسلام، ولم يفطن الكُتَّاب المسلمون الذين عالجوا قضايا الحرية لهذا الاختلاف الجوهري، فوَقَعُوا في الخطأ باتِّباعهم الغربيين في تقرير حرية الرأي.
كما أن الفكرة الغربية لعدم ثبات الحق والخير والصواب، وقولهم بنفي الحقيقة المطلقة، أو القول بتعددها، ينسجم مع تقريرهم في إطلاق الرأي، بخلاف ما تقرَّر في الإسلام من ثبات الحق والخير والصواب، وإثبات الحقائق المُطْلَقة، ونفي تعدُّد الحق؛ لإيمان المؤمن بثبات ما دلَّ عليه الكتاب والسنة.
ثانيًا: أنَّ طريقة القرآن هي تقييد الرأي، وجعل المباح منه مستثنى من المنع، وليس العكس، ودليل ذلك قول الله - تعالى -: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114].
قال ابن عطية - رحمه الله تعالى -: الضمير في نجواهم عائد على الناس أجمع، وجاءتْ هذه الآيات عامة التناول[46].
وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في معنى ﴿نَجْوَاهُمْ﴾ يعني: كلام الناس[47].
وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه[48].
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لَم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرَّم بجميع أنواعه، ثم استثنى - تعالى - فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾[49].
ثالثًا: أن نصوص الكتاب والسنة دلتْ على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي، إلا إذا كان خيرًا، وليس إطلاقه، والخير يعرف بنصوص الشريعة، خلافًا للفكر الغربي الذي جعل الأصل في الرأي الإطلاق، ولا يقيده إلا بقيود المصلحة الدنيوية، والأدلة على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي إلا إذا كان خيرًا، كثيرةٌ، ويمكن تقسيمها إلى أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الأدلة التي تفيد أن ألفاظ الإنسان تحصى عليه، ويؤاخذ بها في الآخرة؛ ليكون رقيبًا على ما يقول، وهذا من أقوى القيود على حرية الرأي وأشدها؛ قال الله - تعالى -: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، وقال - تعالى -: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [الأحقاف: 8]، وقال - تعالى -: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزُّخرف: 80]، وقال - تعالى -: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:10-12].
قال ابن عاشور: "وإنما خص القول بالذكر؛ لأنَّ المقصود ابتداء من هذا التحذير: المشركون، وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أذاه، ولا يؤاخذون على أعمالهم؛ إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم؛ ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال؛ كالدعاء إلى عبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتِّباع الحق، وترويج الباطل بإلقاء الشُبَه، وتغرير الأغرار، ونحو ذلك"[50].
قلتُ: كل ما ذكره ابن عاشور من الأقوال السيئة مباحٌ في الفكر الغربي، ويندرج تحت حرية الرأي، ومن حق أي أحد أن يدعوَ إلى الشِّرك وعبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل، وإلقاء الشبه، وغير ذلك.
النوع الثاني: نُصُوص فيها أن الإنسان يحاسَب يوم القيامة على ما ينطق به؛ مثل: قول الله - تعالى -: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24]، وقوله - تعالى -: ﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]، وقوله - تعالى -: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29]، وقوله - تعالى -: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصِّلت: 20].
والرأي هو نتاج العقل، واللسان يبلغه وينطق به، والكلام من عمل اللسان وكسْبه، فتشهد الجوارح الأخرى عليه بما صدر عنه من آراء.
وما كان هذا التخويف بأن الألفاظ تحصى على الإنسان، ويحاسب يوم القيامة بما قال - ولو كان مجرد رأي - إلا ليتحفظ العبد من إطلاق لسانه في الكلام، فلا ينطق إلا بخير، فأين مِن هذا القولُ بحرية الرأي، والاستدلال له بآياتٍ وأحاديثَ لا تدل عليه، وموضوعها غير موضوعه؟!
النوع الثالث: نصوص فيها أمرٌ بحبس اللسان، وتحذير من مغبة ما يقول الإنسان، وإخبار أن أكثر عذاب الناس إنما هو بسبب الآراء التي نطقتْ بها ألسنتهم، وفيها تصريح بأن السكوت خير من النطق إذا لم يتبين أن النطق فيه خير، ومن هذه النصوص: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ ما يَتَبَيَّنُ فيها، يَزِلُّ بها في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بين الْمَشْرِقِ))[51]، وفي رواية: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سُخْطِ الله، لا يَرَى بها بَأْسًا، فَيَهْوِي بها في نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا))[52].
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: ((ألا أُخْبِركَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ الْجِهَادُ))، ثُمَّ قال: ((ألا أُخْبِركَ بِملاكِ ذلك كُلِّهِ؟))، قلت: بَلَى، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فقال: ((تَكُفُّ عَلَيْكَ هذا))، قلت: يا نَبِيَّ الله، وَإِنَّا لمؤاخذون بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!))، قال: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعَاذُ، هل يكبُّ الناسَ على وُجُوهِهِمْ في النَّارِ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!))[53].
وروى سُفْيَان بن عبدالله الثَّقَفِي قال: "قلت: يا رَسُولَ الله، ما أَكْثَر ما تَخَاف عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسان نفسه ثم قال: ((هذا))[54].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، فَلْيَقُل خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ))[55].
وقد جعل بعضُ العلماء هذا الحديث من أربعة أحاديث في السُّنَّة، يدور عليها جماع آداب الخير[56]، وهو مِن أبْين الأدلَّة على أن الأصلَ الشَّرعي في الرَّأي هو التَّقييد، وليس الإطلاق، خلافًا للفكر الغربي الذي يطلقه، ولمن وافق أهله منَ المسلمين.
قال النووي - رحمه الله تعالى -: "معناه أنه إذا أراد أن يتكلم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محققًا يُثاب عليه واجبًا أو مندوبًا، فليتكلم، وإن لَم يظهر له أنه خير يُثاب عليه، فليُمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام، أو مكروه، أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافة من انْجِراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا"[57].
وقال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "أمر بقول الخير وبالصمت عما عداه، وهذا يدلُّ على أنه ليس هناك كلام يُساوي قوله، والصمت عنه إمَّا أن يكون خيرًا، فيكون مأمورًا بقوله، وإمَّا أن يكون غير خير، فيكون مأمورًا بالصمت عنه"[58].
وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "ومعنى الحديث أنَّ المرْء إذا أراد أن يتكلَّم، فليُفَكِّر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفْسدة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه، فليتكلَّم، وإن كان مباحًا، فالسلامة في السكوت؛ لئلاَّ يجر المباح إلى المحَرَّم والمكروه"[59].
وقال العز بن عبدالسلام - رحمه الله تعالى -: "لا ينبغي لك أن تتكلَّم إلا بما يجرُّ مصلحة، أو يدرأ مفسدة"[60].
ولأجل تواتُر الأمر بإمساك اللسان، والمحاسَبة على الألفاظ، ذمَّ العلماءُ الآراء في الدِّين، وكثرة التشْقيقات والكلام، وسمَّوا أهلَها أهلَ الأهواء، وامتدحوا قلَّة الكلام، وحفظ اللسان، وحذَّروا من آفاته، وألَّفوا في ذلك كُتُبًا، وأفْرَدُوا فيه أبْوابًا؛ لكثرةِ ما جاء فيه من نُصُوص الكتاب والسنة.
عرْض حريَّة الرأي على الأحْكامِ التكليفيَّة:
بناء على النُّصوص الواردة في خطورة الرأي والإفصاح عنه، والتي تحضُّ على حبْس اللسان، تكلَّم العلماءُ في وظائف اللسان، وقسَّموا ما يصدر عن الإنسان من آراء إلى أقسام، يحسُن عرضُها ومقارنتها بحرِّية الرأي في الفكر الغربي:
القسم الأول: ما كان واجبًا؛ مثْل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، والدعوة إلى الله تعالى، وقول الحق، وأداء الشهادة؛ لقول الله - تعالى -: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283]، وقوله - تعالى -: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ﴾ [الطَّلاق: 2]، وهذه الواجبات في الإسلام تنْقسِم في الفكر الغربي إلى قسمَيْن:
الأول: مباح، وذلك في حالة عدم تعارُض هذه الواجبات في الرأي مع الحريَّة الشخصيَّة.
الثاني: محظور، وذلك في حالة تعارُض هذه الواجبات في الرأي مع الحريَّة الشخصيَّة، كأن يكون المستهدف بالدعوة أو النصح أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يريد ذلك، أو كان الشاهد لا يُريد أداء الشهادة، ولو ضاعتِ الحقوق وأُطلق المجرِمُون بسبب ذلك[61].
والتعارُض بين الحرية الشخصيَّة وحرية إبداء الرأي، وقَع في المجتمع الغربي، فحسموا القضية في تشريعاتهم الوضْعيَّة لمصلحة الحريَّة الشخصيَّة؛ ففي فرنسا رفع المشرعون لمحكمة النقض مشكلة التوفيق بين احترام المبادئ الديمقراطية التي تحكم حرية الصحافة، وبين احترام الحق في الحياة الخاصة، وتمخض عن ذلك قرار بتعديل المادة (7) من القانون المدني، أكَّد احترام الحق في الحياة الخاصة، في 17يولية 1970م... فإذا كان المساسُ بالحق في الحياة الخاصة مما يقع تحت طائلة التجريم، فإن تحديد النِّطاق المسموح به لإجراء هذا المساس يتوقَّف على المفاضَلة بين قاعدتَيْن: قاعدة تحقق المصلحة الخاصة للفرد، وهي حماية حياته الخاصة، وقاعدة تحقق المصلحة العامة، وهي حماية حرية الرأي؛ سواء في صورة حرية الصحافة، أو حرية النقد، أو حرية البحث العلمي[62].
ولذلك، فإنَّ القانون الفرنسي يُعطي الطبيب الحق في رفض إفشاء سرِّ المريض، ولو أذن المريض بإفشائه؛ وذلك باعتبار أنَّ الطبيب بحكم مهنته يملك الحق في السر، والْتزامه بالمحافظة عليه مصدره القانون، وليس مصدره الاتِّفاق مع المريض، والائتمان على الأسرار قد يكون نابعًا من القانون، وقد يكون نابعًا من الاتِّفاق مع صاحب السِّرِّ[63].
ومِنَ الأمثلة على ذلك:
1- اعتُدي على طفلة صغيرة جنسيًّا، وفحَصَها طبيب وسلَّم نتيجة فحْصِها لوالدها، وفي المحكمة احتاج القاضي إلى رأي الطبيب وشهادته لإدانة المُجرِم، فرفَض الطبيبُ أداء الشهادة؛ بناء على أنها أسرار مريض، ولا يجوز في مهنته إفشاء أسرار المرضى لا للمحكمة ولا لغيرها، فقضتْ عليه المحكمة بالغرامة، لكن محكمة النقْض الفرنسيَّة نقضت الحكم، وأيَّدت الطبيب؛ مُحتَجَّة بأساس الطبيعة المطلَقة لسرِّ المهْنة[64].
2- اتهمت امرأة بقتْل عشيقها بتمزيق جسمه أثناء النوم، وتمسكتِ المتهمة بشهادة طبيبها الذي كان يُعالجها قبل الحادث، ورفض الطبيب الشهادة؛ احترامًا لسرِّ المهنة، وأيدتْ محكمة النقْض الفرنسيَّة هذا الرفْض[65].
القسم الثاني: المستحب؛ مثل: المذاكرة في العلم النافع، ولو كان في علوم دنيوية فيها نفع للناس ونحو ذلك، وهذا في الفكر الغربي مباح أيضًا.
القسم الثالث: المحرَّم، وهو التعبير بكلِّ ما يبغضه الله تعالى، ويبغضه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والآراء، وهو قسمان:
أ - ما كان حقًّا محْضًا لله تعالى؛ كالتعبير بما هو كفر، أو بدعة، أو فيه مخالفة لما بعث الله - تعالى - به رسله - عليهم السلام - والدعوة إلى ذلك وتزيينه للناس، أو الدفاع عنه وتقْوية أهلِه.
وهذا القسم حُرْمته في الإسلام شديدة، وقد يوصل صاحبَه إلى الكفر واستباحة دمه؛ سواء كان مسلمًا كمَن نطق بما هو ردة وأصرَّ عليه، أو كان معاهدًا وأتى بما ينقض عهده من سبِّ الله - تعالى - وسبِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو ازدراء دين الإسلام.
بينما لا يحظر شيء من ذلك في الفكر الغربي، ويعدُّ ذلك من قبيل حرية الرأي؛ ولذلك ينتشر عندهم القول بالإلحاد، وإنكار الربوبيَّة والنبوات، وازدراء الدِّيانات ونقدها، ولا شيء من ذلك يعاقَب عليه صاحبه.
وأغلب الظن أن أكثر الليبراليين في بلاد المسلمين لا يدْعون لحرية الرأي؛ إلا للوُصُول بها إلى الطعن في المقدّسات، وانتهاك الحرُمات الشرعية، كما يُباح ذلك عند الغربيين، وليس مُرادهم فك الاستبداد السياسي أو تخفيفه؛ بدليل أنهم هم من يُكرسون الاستبداد، ويُهلِّلون للمستبدين في كثيرٍ من الأحيان.
ب- ما كان حقًّا للإنسان، كالسبِّ والشتم والقذف وشهادة الزور ونحو ذلك، وهذا يُمكن أن يُقال: إنه الشيء الوحيد الذي يوافق الفكر الغربي فيه أحكام الشريعة من جهة منْعه، وترتيب العقوبة عليه، واستثنائه من حُرِّية الرأي[66].
القسم الرابع: ما يكره إبداؤه من الرأي، وهو ما كان تركه خيرًا من إبدائه، ولو لم يكن فيه وعيد أو عقوبة، وهذا أيضًا مباح في الفكر الغربي.
القسم الخامس: ما يُباح من الرأي والكلام، وهو ما يكون مستوي الطرفين، بمعنى أنه لا للمتكلم ولا عليه، ووقع الخلاف بين العلماء فيه على قولَيْن:
القول الأول:أنه لا يخلو كل ما يقوله مِنْ رأي، إما أن يكونَ له أو عليه، وليس في حقِّه شيء لا له ولا عليه، ومِن أدِلَّة هذا القول:
1- أنَّ الشريعة نبَّهتِ العبد إلى أن كلامه كله يكتب عليه؛ بدليل قول الله - تعالى -: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، فهذا نكرة في سياق النفي، زِيدتْ قبلها لفظة (مِن)، فهي نص صريح في العموم[67].
2- حديث أُمِّ حبيبة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كُلُّ كَلامِ بن آدَمَ عليه لا له، إلا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أو نهي عن مُنْكَرٍ، أو ذِكْر الله))[68].
قال القاري - رحمه الله تعالى -: "وظاهر الحديث أنه لا يظهر في الكلام نوع يُباح للأنام، اللهم إلا أن يحمل على المبالَغة والتأكيد في الزَّجْر عن القول الذي ليس بسديد"[69].
3- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن كان يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِر، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ))[70].
فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المقابلَ لقول الخير الصمتَ، ولو كان في الكلام أو الرأي شيء مباح، لكان مقابلاً لقول الخير بدل الصمت؛ لأن تعمد الصمت مما جاء النهي عنه؛ كما في حديث عَلِيِّ بن أبي طَالِب - رضي الله عنه - قال: حَفِظْتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ، ولا صُمَاتَ يَوْمٍ إلى اللَّيْلِ))[71]، ونذر رجل ألاَّ يتكلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ))[72].
وسبب النهي عن الصمت لكونه من أعمال الجاهلية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد مخالفتهم؛ ولأنَّ فيه تعطيلاً للسان عن عباداته، وقد دلَّ على أنه من عمل الجاهلية ما روى قَيْس بن أبي حَازم قال: "دخل أبو بَكْر على امْرَأَةٍ من أَحمس، يُقَالُ لها: زَيْنَب، فَرَآهَا لا تَكَلَّمُ، فقال: ما لها لا تَكَلَّمُ؟ قالوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً، قال لها: تَكَلَّمِي؛ فإن هذا لا يَحِلُّ؛ هذا من عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَكَلَّمَتْ"[73].
قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "فأما الْتزام الصمت، فليس من شريعة الإسلام"[74].
ولو نذر ذلك في اعتكافه أو غيره، لم يلزمه الوفاء به بلا خلاف[75].
القول الثاني: أنَّ من الرأي ما هو مباح، لا له ولا عليه، كما في حركات الجوارح؛ لأنَّ كثيرًا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي، وهذا شأن المباح.
ويظهر لي رجحان القول الأول؛ لقُوة أدلَّته، وضعف تعليل القول الثاني؛ إذ دلَّت النصوص على الأمر بقول الخير أو بالصمت، فما لَم يكن خيرًا كان صمتُ العبد عنه دائرًا بين الوُجُوب والاستحباب.
وقد عدَّ ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - هذا الحديث جماع الأمر في الكلام، ثم قال: "فقول الخير وهو الواجب أو المستحب، خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب ولا مستحب فالسكوت عنه خيرٌ من قوله"[76].
وقال ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى -: "الكلام بالخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإدمان الذكر، وتلاوة القرآن - أفضل من الصمت؛ لأن الكلام بذلك غنيمة، والصمت سلامة، والغنيمة فوق السلامة"[77].
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "والتحقيق أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين؛ بل إما راجحة، وإما مرجوحة؛ لأنَّ للسان شأنًا ليس لسائر الجوارح... وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يُرْضي الله ورسوله، أو لا، فإن كان كذلك فهو الراجح، وإن لَم يكن كذلك فهو المرجوح، وهذا بخلاف سائر الجوارح؛ فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطرفين؛ لما له في ذلك من الراحة والمنفعة، فأُبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ولا مضرة عليه فيه في الآخرة، وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به، فلا يكون إلا مضرة، فتأمله"[78].
وقال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه، هو أصل الخير كله، وأن مَن ملَكَ لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه"[79].
وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "القول كله إما خير وإما شر، وإما آيل إلى أحدهما؛ فدخل في الخير كلُّ مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت"[80].
هذا؛ وإطلاق الرأي في الغرب كان ردة فعل على استبداد الحكومات الغربية والكنائس في القرون الوسطى؛ إذ كانتْ تكْبتْ أي رأي؛ سواء كان حقًّا أم كان باطلاً بمجرد الهوى، وسواء كان فيما يتعلَّق بأمور الدين أم الدُّنيا، وكانت تعاقب على إبداء الرأي عقوبات تصِل إلى الموت، إلا ما وافق أهواء ملوك أوربا ورهبانها، وهذا ظُلم، فكانت ردة الفعل الغربية عقب ثورات الحرية معاكسة؛ فأباحوا الرأي الحق والباطل جميعًا فيما لا يضر الآخرين، فانتقلوا من ظُلم إلى ظلمٍ آخر.
أمَّا الإسلام، فهو يؤيِّد الرأي الحق ويدْعو إليه، ويكبت الرأي الباطل ولا يسمح به، والرأي الباطل أكثر من الرأي الحق كما تقرر سابقًا، فكان ذم الرأي هو الأصل، ولا يمدح منه إلا بما كان حقًّا، وهو خلاف الأصل.
وكل ما يذكر من الضوابط التي تضبط ما يصدر عن الإنسان من أقوال وآراء، فهي تندرج تحت أصلَيْن كبيرَيْن[81]:
الأصل الأول: الصِّدق؛ قال الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
[التوبة: 119].
الأصل الثاني: العدل؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152].
ذلك أن ما يصدر من الإنسان من أقوال وآراء، إما أن يكون خبرًا، فلا بد من الصدق فيه، وإما أن يكون إنشاء، فلا بد من العدل فيه.
ولو أردنا أن نحاكم حرية الرأي في الفكر الغربي إلى هذين الأصلين؛ فإننا سنجد أن الرأي في الغرب ومن نقلوا عنه، لا ينضبط بهذين الأصلين؛ بل يناقضهما في أكثر حالاته:
فالأصل الأول - وهو الصدق - غير لازم فيما يصدر من أخبار عن الإنسان، إلا إذا كان الكذب فيه يضر غيره ضررًا دنيويًّا؛ كمَن يخبر عن قنبلة في طائرة، أو حريق في متجر، فيروع الناس، ويُزعج السلطات، أما أن يكذب ولا يقع ضرر بكذبه على أحد، فذلك مباح.
والأصل الثاني - وهو العدل - غير لازم في الإنشاء مما يصدر عن الإنسان، إلا إذا وقع فيه ضرر دنيوي على أحد، وكل ما يصدره الفكر الغربي من آراء وأقوال تخالف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليست من العدل، ولا تكون حقًّا؛ بل هي من الظلم والباطل، ورأس العدل - وهو التوحيد - لا قيمة له في الفكر الغربي، ورأس الظلم - وهو الشرك - مشروع في الفكر الغربي، ويندرج تحت حرية الاعتقاد، التي هي فرع عن حرية الفكر أو الرأي؛ قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
وما دون الشرك من السيئات داخل في الظلم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: قد كتبت في غير موضع أن الحسنات كلها عدل، والسيئات كلها ظلم، وأن الله إنما أنزل الكتب، وأرسل الرسل؛ ليقوم الناس بالقسط[82].
تقييد حرية الرأي في الفكر الغربي:
مرتكز البناء الفكري للحضارة الغربية مبني على عالم الشاهدة، وتنحية عالم الغيب، والاهتمام بشأن الدنيا كون الإنسان مركز الكون، وغياب الشأن الأخروي، وحصره في مجال الحرية الشخصية، ولا سلطان له على غيره.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن غير المستغرب أن ينطلق الفكر الغربي ومقلده العلماني العربي من فكرة حفظ حقوق الإنسان المتعلقة بالإنسان التي مصدرها الإنسان، وليس حفظ حقوق الله تعالى، ولا حقوق الإنسان التي مصدرها شرع الله تعالى، إلا ما وافق منها ما مصدره الإنسان.
وبناء على ذلك؛ فإنَّ تقييد حرية الرأي لن يكون نابعًا إلا من الإنسان، وفيما فيه ضرر دنيوي على الإنسان، دون اعتبار لما يتعلق بالآخرة من نفع أو ضرر.
وباستقراء كثير من الدراسات الفكرية والقانونية الغربية والعربية العلمانية المتعلقة بحرية الرأي، نجدها تضع قيودًا أربعة لحرية الرأي، هي:
1- احترام حقوق الآخرين أو سُمعتهم.
2- حماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصِّحَّة العامة، أو الأخلاق العامة.
3- التقييد بالقانون.
4- التقييد بالمصلحة.
وهذه القيود يغني بعضها عن بعض؛ فالتقييد بالنظام العام أو القانون أو المصلحة، يغني كل واحد منها عن القيود الأخرى؛ لإمكان إدخالها فيه؛ كونها فضفاضة عائمة يصعب تحديدها.
وسأذكُر هذه القيود بشيء من التفصيل، مع ضرْب بعض أمثلة على كلِّ قيد منها عمل به في الفكر القانوني الغربي.
القيد الأول: قيد احترام حقوق الآخرين وسمعتهم، وهو أهم قيد، ولا يخلو منه إعلان أو ميثاق أو مؤلف عن حقوق الإنسان أو عن الحرية، حتى قال فيلسوف الحرية ميل: منع الفرد من الإضرار بغيره هو الغاية الوحيدة التي تسوغ استعمال السلطة على أي عضو من أعضاء جماعة متمدينة... فالإنسان غير مسؤول أمام المجتمع عن شيء من تصرفاته، إلا ما كان منها ذا مساس بالغير[83].
ويستثني من عدم جواز الاعتداء على الغير ما إذا كان الاعتداء لإنقاذه، فيقول: إذا اتفق لأحد ولاة الأمر أو لأحد الأفراد أن شاهد امرأً يهم بعبور قنطرة ثبت أنها مختلة، وكان الوقت لا يتسع لتحذيره من الخطر الذي هو مقبل عليه، جاز لمن يشاهده أن يمسك به ويجتذبه دون أن يكون في ذلك أدنى اعتداء على حريته[84].
وعلى هذا القيد في عدم الإضرار بالغير، سارت المحاكم الغربية في المؤاخذة بإبداء الرأي إذا تعارَضَ مع حُقُوق الآخرين، أو كان فيه أذية لهم، ومن الأمثلة على ذلك:
1- في شكوى لدى اللجنة الأوربية ضد النمسا، ادعى الشاكي أنه حوكم بقانون العقوبات النمساوي بتهم التشهير بالجيش النمساوي عن طريق نشر مواد إعلانية معينة، وانتهت اللجنة بعد بحث إلى أن القيود التي فرضت على حق الشاكي في التعبير في هذه الشكوى لها ما يبررها طبقًا للفقرة (2) من المادة (10) من الاتفاقية، وأنها ضرورية لحماية سمعة الآخرين، ورفضت اللجنة الشكوى[85].
2- في شكوى في ألمانيا ادعى الشاكي للجنة الأوربية أن السلطات الألمانية اعتدتْ على حقه في حرية التعبير، بأن فرضت عليه عقوبات تأديبية؛ لأنه عبَّر عن نيته في نشر مقال بإحدى الصحف الأسبوعية يشير فيه إلى عدم كفاءة العمل والإدارة في المنظمة التي يعمل فيها، ورأت اللجنة أن عقوبته مبررة؛ حِفاظًا على سمعة الآخرين[86].
3- اشتكى محامٍ في ألمانيا لإيقاع عقوبات عليه؛ بسبب إعلانات مكتوبة وشفهية انتقد فيها محامي الطرف الآخر، وادعى أن العقوبة التي صدرت في حقه تشكِّل قيدًا على حرية التعبير لا مبرر له في التشريع الألماني، لكن اللجنة الأوربية رفضتْ دعواه وأيدت القانون الألماني في تأديبه، ورأت أن ذلك ضروري لحماية سمعة الآخرين، وأن هذا المحامي لم يحترم الالتزام الذي تفرضه عليه المهنة، وهو تحريم اللجوء إلى استخدام لغة عدوانية أو مهينة[87].
والقانون الفرنسي في المادة (29) يجرم القذف والسب عن طريق الصحافة.
القيد الثاني: حماية الأمن القومي أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الأخلاق العامَّة.
ففيما يتعلَّق بالأمن القومي، لا يسمحون تحت ذريعة حرية الرأي لأعدائهم ببث آرائهم في أوساط شعوبهم، أو نشر ما يهدد الأمن.
وفيما يتعلق بالنظام العام سيأتي الكلام عليه مفردًا لأهميته وضبابيته.
وأمَّا الصِّحَّة العامة، فلا يمكن أن يسمحوا تحت ذريعة حرية الرأي بالدعاية لأطعمة أو أدوية مهلكة أو ضارة.
وأما الأخلاق العامة، فهي محل إشكال وتجاذب بين المفكرين والمشرعين والسياسيين، مع اتفاقهم في الجملة على أن الحرية لا بد أن تقيد بها.
ومنهم من يدخل هذا القيد تحت الإضرار بالآخرين؛ لأن نشر ما يؤذي الآخرين من الأخلاق الوضيعة فيه أذى لهم واعتداء عليهم، كما يقرر ميل أن التصرفات المخلة بالحياء يعاقب عليها إذا ارتكبتْ علنًا؛ لأنها تدخل في باب التصرفات المضرة بالغير، فيصبح تحريمها جائزًا[88].
ومنهم من يدخله تحت النظام العام أو الخير العام، فيقلصون الحرية الشخصية أو الخصوصية لأجل هذا القيد، يقول أميتاي: إننا نعتبر من الآداب العامة ألاَّ يصرخ الإنسان على الملأ كل ما يمر برأسه[89].
ويذكر أميتاي أن عملية الجماع في العلن وفي وضح النهار، وخصوصًا على مقربة من ملعب، لا تُعتبر مقبولة حتى في البلاد الإسكندينافية وفي كاليفورنيا[90].
وفي حماية الأخلاق يحظر قانون الصحافة الفرنسي في المادة (38) نشر أخبار وصور جرائم الأحداث؛ للمحافظة على مستقبل النشْء مِنْ عدوى التقليد.
كما يحظر نشر صور نوع معين من جرائم الدم أو القسوة، أو الجرائم التي تتنافَى مع الأخلاق؛ لما للصورة من تأثير ينطبع في الأذهان، ويؤدِّي إلى انتشار العدوى، فنشر صورة لجثة مقطعة إربًا يثير الاشمئزاز، ويحرِّك في النفس الرغبة في الانتقام من المتهم، وهذا الحظر يندرج تحت قيد المصلحة العامة[91].
ويمكن إدراجه تحت حماية الأخلاق العامَّة أيضًا؛ لأنَّ التداخُل بين هذه المصطلحات كبيرٌ في الفكر الغربي.
ومن الأمثلة على تقييد حرية التعبير عن الرأي بالأخلاق:
1 - اشتَكى مسجون على اللجنة الأوربية أنَّ سلطات السجن سحبتْ منه امتيازات معيَّنة كان يتمتَّع بها من قبل؛ مثل: السماح له بالكتابة ورسم أعمال فنيَّة، لكن حكومته دافعتْ عن قرار السجن أمام اللجنة الأوربية بأنَّ الامتيازات سحبت من الشاكي؛ لاقتنائه رسومًا وصورًا وقصائد جنسيَّة، فادَّعى الشاكي أنَّ هذه الصور والرسوم نفَّذها أقرانه في السجن بطلب من حرَّاس السجن لبيعها خارج السجن، ورفضت اللجنة الأوربية الشكوى؛ بناء على فقرة (2) من مادة (10) التي تنصُّ على حماية الأخلاق[92].
2 - حُوكِم شخصٌ بتهمة ترويج مواد ومطبوعات مفسِدة للصغار، وتقدَّم المتهم بشكوى يدَّعي أن محاكمته تخالف الحق في حرية الصحافة الذي تكفله المادة (10) بسبب فرض الرقابة على مطبوعاته، لكن اللجنة الأوربية أيَّدت الدولة في حكم محكمتها؛ بحجة أنَّ للدولة تقدير الحدود والقيود التي يمكن أن ترد على حرية التعبير، وأنَّ الإجراءات المشكو منها لها ما يبرِّرها؛ على أساس أنها ضرورية لحماية أخلاق الصغار؛ وبالتالي فإنها لا تخالف الاتِّفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان[93].
3 - في شكوى تقدَّم بها أحد الناشرين ضدَّ المملكة المتحدة ادَّعى أنه بسبب نشره كتاب "الكتاب الدراسي الأحمر للأطفال" حُوكِم بتهمة البذاءة، وتأكَّد الحكم على أساس أنَّ الكتاب يفسد أخلاقيًّا نسبة كبيرة من الأطفال الذين يقدر لهم الاطلاع عليه[94].
4 - في شكوى ضد الحكومة البريطانية أيَّدت اللجنة الأوربية القانون البريطاني الخاص بالمطبوعات حين حرم نشر أحد الكتب، والقانون يمنع المطبوعات الجنسيَّة المخلَّة بالآداب، وكانت الشكوى ترتَكِز على أن المنع فيه إخلال بحرية التعبير، لكن اللجنة اتكأت على الفقرة (2) من المادة (10) لحماية الأخلاق العامة[95].
القيد الثالث: تقييد حرية الرأي بالقانون: فالمقرِّرون لحريَّة الرأي في أوربا يحدُّونها بالقوانين، يقول مونتسيكو في كتابه "روح القوانين" في حدِّه للحريَّة: هي الحق في عمل ما تسمَح به القوانين، ولو أن فردًا فعل ما تحرِّمه فإنه لن تكون هناك حرية[96].
ومن الأمثلة على التقييد بالقانون: اشتكى مسجونٌ في ألمانيا رفض السلطات السماح له بشراء مؤلف حول قانون الإجراءات الجنائية الألماني للرجوع إليه بقصد إعداد شكواه الخاصَّة بطلب إعادة محاكمته، ورفضت اللجنة الأوربية طلبَه بحجة جواز فرض قيود معينة على المسجون...[97].
القيد الرابع:المصلحة العامة؛ فهي قيد تُقَيَّد به حرية الرأي، منصوص عليه في الإعلانات والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، ومن الأمثلة على التقييد الغربي بالمصلحة:
1 - في سويسرا مُنع كتاب "بروتكولات حكماء صهيون" بناء على قرار محكمة بيرن بتاريخ 14 مايو 1935، وهو في الخزانة الجهنمية التابعة لمكتبة المقاطعة العامة في لوزان، ولا يمكن مطالعته إلا بعد إذن من رئيس المكتبة، ولا يمكن تصويره أو استعارته خارج المكتبة[98].
ولا يخفى أنَّ السبب في ذلك قوَّة النفوذ اليهودي في أوربا، وتأثير اليهود على كثيرٍ من المصالح الأوربية، ومنها السويسرية.
2 - أنَّ اللجنة العليا للاجئين قد أتلفتْ عددًا من أعداد مجلتها لشهر يناير 1988م المعنونة بـ(Rafuqies)، وقد طبع منها (90000) نسخة بالإنجليزية، و(30000) نسخة بالفرنسية؛ وسبب ذلك أنها بحثتْ وضع اللاجئين في ألمانيا الغربية، ورئيس اللجنة وقتها كان سيزور ألمانيا، وهي من أكبر الممولين للجنة، ونشر ذلك العدد مضر بمصالح اللجنة[99].
3 - أبعدت السلطات الفرنسية في 20 يونيو 1991م الكاتب المغربي عبدالمؤمن ديوري إلى الغابون، وكان لاجئًا في فرنسا؛ بسبب إصراره على نشر كتابه "من يملك المغرب؟"، أحصى فيه ممتلكات ملك المغرب، وكان سبب إبعاده الضجَّة التي أحدَثَها الكتاب في المغرب، ولفرنسا مصالح كثيرة في المغرب، قد نشرت تفاصيل هذا الإبعاد ومسوغاته في صحيفة "ليموند" الفرنسية 23و24/ 6/ 1991م[100].
4 - على إثر اعتِداء الصهاينة على ما سُمِّي بقافلة الحرية، التي سارت من تركيا لإغاثة المحاصرين في غزة، فقُتل منهم عشرون برصاص الصهاينة، طلب حاخام يهودي في حفل من عميدة صحفيِّي البيت الأبيض هيلين توماس أن توجِّه كلمة لإسرائيل فقالت: على اليهود أن يرحلوا عن فلسطين ويعودوا من حيث أتوا، وحين أبدى امتعاضه، وعدم تصديقه لما قالت سألها الحاخام: إلى أين يعودون؟ فقالت: إلى الأوطان التي جاؤوا منها: إلى بولندا، ألمانيا، روسيا، الأرجنتين، أميركا، بريطانيا، فرنسا... إلخ.
فاهتزَّ البيت الأبيض والسياسة الأمريكية عامَّة لقولها، واضطرَّت للاعتذار وتقديم استقالتها بعد أن سُفِّه رأيُها، وصُودِر حقُّها في إبدائه، وعُوقِبت عليه.
5 - قاطَع طلاب في جامعة كاليفورنيا السفير الإسرائيلي وهو يحاضر فيهم، محتجِّين على سياسات الصهاينة تجاه الفلسطينيين، فحوَّلت الجامعة هؤلاء الطلبة للنيابة بتُهَم جنائية، مع أن العرف الغربي يجيز مقاطعة المحاضر للاعتراض وإبداء الرأي، ومن ثم الخروج من القاعة وتستأنف المحاضرة، لكن لما كان هذا الرأي ضدَّ اليهود وسياساتهم لم تتسامح فيه جامعة عريقة في بلد الحرية!
النظام العام والخير العام:
من القيود التي تُقيِّد حرية الرأي عدم الإخلال بالنظام العام، لكن هذا القيد فضفاض ولا يمكن تحديده، فبإمكان الحكومات التي تدَّعِي الحرية أن تتَّكِئ عليه لقمع الرأي، كما هو الواقع الأمريكي والأوربي بعد أحداث سبتمبر.
يقول د. محمد عصفور: ويخلط البعض بين النظام العام والمصلحة العامَّة والمحافظة على الدولة، وهذا هو الاتجاه الغالب لدى شراح القانون المدني[101].
وكتب نيواييه في تعليقٍ له على حكم لمحكمة النقض: أنَّه لا يوجد بالتأكيد معيار موضوعي للنظام العام؛ لأنَّ الأمر يتعلَّق بصفة أساسية بفكرة اجتماعية ونفسية[102].
وكما اختَلف القانونيون في حدِّ النظام العام، فهم مختلفون أكثر في تحديد طبيعته: أيكون حالة واقعية، أم فكرة خلقية أم شعورية، ومَن اعتبروه فكرة واقعية اختلفوا فيما إذا كانت هذه الفكرة قانونية أو سياسية[103].
فالذين اعتَبروه حالة واقعية جعلوه حالة فعلية معارضة للفوضى، ولأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالوقائع، وتتغيَّر مع الظروف؛ فإنه لن يكون لها أيُّ كيان أو تماسُك قانوني، أو أي ثبات أساسي.
يقول (Louis Lucas): كلُّ فكرة عن النظام العام متغيِّرة وعائمة، فهي أقرب صلة بالشعور منها بالواقع القانوني.
وعند (M. Mimin) أنَّه لا توجد فكرة للنظام العام؛ وإنما إيحاء فحسب بالنظام العام[104].
ويرى آخَرون أنَّ النظام العام فكرة خلقيَّة؛ ولذلك يؤكِّد (Healy) على أنَّه سوف يكون من المستحيل أن ندخل في إطار قانوني بحت مذهبًا يعتبر مضمونه سياسيًّا بصفة أساسيَّة، وقد أمَّن (W. Lienhard) على الطبيعة السياسية للنظام العام فقال: إنَّ النظام العام هو الأداة الفنية التي تستخدمها السياسة لكي تفرض - في نطاق القانون الخاص - إرادتها على الأفراد[105].
يقول (Bernard): إنَّ الآراء السابقة تهدِّد بالتشكيك في جدوى دراسة قانونيَّة لفكرة النظام العام؛ لما ينسب إليها من عدم التحديد والتماسُك، ولأنَّ أبعادها غير المحدَّدة للغاية تمنعها من أن تظهر في عداد التعارف أو الوحدات القانونية؛ لأنَّ القانون - شأنه شأن كافة العلوم - يتطلَّب التحديد[106].
الخير العام أو الخير المشترك:
ممَّا يحد من حرية الرأي ما يسمى الخير العام أو الخير المشترك، وقد عرَّفه بوردو بأنَّه: السمو بالخير الفردي المشترك الذي يتحقَّق بدخل المجتمع[107].
ويرى لي فيور: أنَّ الخير المشترك ليس الحقيقة وحدها، أو الجمال وحده، أو الخير الخلقي المطلق وحده، وهو كذلك ليس النفع المادي الكامل وحده؛ وإنما هو تركيب من هذه الأمور كلها[108].
وفي الفكر النصراني أنَّ الخير المشترك فكرة دينية أو فلسفية، وبوردو يرى أنها فكرة سياسية وليست قانونية[109].
فالخير العام يمثِّل رجاء المحكومين إلى حكَّامهم في أن يلتزموا برنامجًا معيَّنًا، أو يسيروا على خط محدَّد، وأمَّا النظام العام فهو أوامر صادرة من سلطة الحكم ملزمة للمحكومين[110].
ويحدد بوردو أن ثمَّة فكرتين أساسيتين في الخير المشترك، هما فكرتا: النظام والعدالة[111].
الخير في الإسلام:
تكررت لفظة الخير في القرآن معرفة بـ(أل) في تسعة مواضع، ومنكرة في مائة وتسعة مواضع، ولها استعمالات عدَّة، بيد أنَّ الاستعمال المقابل للخير في الفكر الغربي هو الخير بمفهومه العام، وهو مأمور به شرعًا في الأقوال؛ كما في قول الله - تعالى -: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران: 104]، ومأمور به في الأفعال؛ كما في قول الله - تعالى -: ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
وتعريفات العلماء للخير تجمع بين الحظين الدنيوي والأخروي، خلافًا للفكر المادي الغربي المضطرب في تعريف الخير ومفهومه؛ ممَّا أدَّى إلى عدم القدرة على تطبيقه في كثيرٍ من الأحيان، فضلاً عن إلزام الناس به.
قال الطبري - رحمه الله تعالى -: الخير هو العمل الذي يرضاه الله - تعالى[112].
وقال ابن عاشور - رحمه الله تعالى -: الخير هو ما وصفه الدين بالحُسْن ووَعَد على فعله بالثواب[113].
وذكر الراغب قسمته إلى ضربين:
1 - خير مطلق، وهو أن يكون مرغوبًا فيه بكل حال.
2 - وخير وشر مقيدان، وهو أن يكون خيرًا لواحد شرًّا لآخر؛ كالمال الذي ربما يكون خيرًا لزيد وشرًّا لعمرو؛ ولذلك وصفه الله - تعالى - بالأمرين[114].
والمسلم يوقن أنَّ الخير المطلق والشامل للدنيا والآخرة هو في اتِّباع الشريعة الربانيَّة، وأنَّ الخير ينقص في البشرية بقدر ما فيهم من نقص في اتِّباع الشريعة؛ بيد أنَّ الفكر المادي الغربي يرى أنَّ الخير متنوع، وأن لكلِّ مجتمع خيرَه الذي يُناسِبه، وهو ما يتفق عليه أفراد ذلك المجتمع، والنظم الديمقراطية حين جعلَت الشعب يحكم الشعب، وأوجبت التصويت على القوانين والأنظمة التي تفرض على الناس، إنما هي تنزع إلى فكرة اختلاف مفهوم الخير العام من زمان إلى زمان، ومكان إلى مكان، وهذا في الأصل مؤسَّس على نفي الحقيقة المطلقة التي أشرنا لها سابقًا.
يقول د. محمد عصفور: من غير المقبول أن يفترض أن الخير المشترك لكلِّ المجتمع هو خير واحد، وأنَّ تصوُّر الاختلافات والتنوُّعات في فهمه وتطبيقه على أنها انحرافات عن هذا المعنى الوحيد؛ لأنَّ معنى ذلك فرض عقيدة راشدة على كل المنظمات الإنسانية، وهو ما يناهض الواقعية التي يجب أن يُؤخَذ بها وحدَها في الدراسات الاجتماعية، وفضلاً عن ذلك فإنَّ تصوُّر قيام معنى وحيد للخير المشترك مردودٌ تاريخيًّا وواقعيًّا؛ فلم يثبت في التاريخ أنَّ ثَمَّ نموذجًا موحدًا يمثِّل فكرة الخير المشترك تحميه النظم المتنوعة، والتي لا حصر لتنوعها اجتماعيًّا وخلقيًّا؛ وإنما الثابت أن المضمون المادي لفكرة الخير المشترك متغيِّر بطريقة لا تنقَطِع؛ إذ لا يكفّ الناس عن تغيير تصوراتهم عن هذا الخير المشترك بقصد أن يبلغوا به حد الكمال[115].
قلت: هذا التقرير متأثِّر بالتقرير الغربي لفكرة الخير العام، وإلاَّ فإن ما أُرسلتْ به الرسل، وأنزلت به الكتب، وفرضته الشرائع من الأحكام الدينية والدنيوية - هو من الخير العام الثابت الذي تصلح به أحوال البشر في كلِّ زمان ومكان، على اختلاف أجناسهم وأديانهم وأفكارهم، والأمن الشامل الذي سادَ البشريَّة جميعًا إبَّان قوَّة المسلمين دليلٌ على ذلك، على ما في تطبيق المسلمين في كثيرٍ من الدول المتعاقبة من خروقات وانتهاكات؛ لكنهم كانوا هم الأقرب إلى الحق والعدل.
وثمة أمر مهم: وهو أنَّ طبيعة التفكير البشري تحتِّم على صاحب كلِّ مبدأ ظنه أنَّ ما يدين به من دين، وما يعتنقه من أفكار يمثِّل خيرًا عامًّا؛ ولذا فهو ينافح عنه، ويدْعو إليه، ويرفض المساس به، والفكرة الغربية للحريَّة المطلقة من القيود الدينية والأخلاقية، المقيَّدة بالمصالح الفردية والآنية - هي ممَّا يعتقد الغرب ومَن تبعهم في هذه الفكرة أنها من الخير العام المطلق؛ ولذا يدْعون الناس إليها؛ بل يسعون في فرضها عليهم ولو خالفت معتقداتهم وقيمهم وأفكارهم، وهو ما ينقض فكرة الحريَّة من أساسها، وهذه النقطة هي التي حارَ في تخريجها وتسويغها المفكِّرون الغربيون، والعلمانيون العرب، فتجاوزوها بلا قناعة ولا إقناع لغيرهم.
المصلحة العامة:
من الفلاسفة الغربيين مَن كان ينتصر للمصلحة الخاصَّة دون مقارنتها بالعامَّة، ومنهم مَن يقارنها بالعامة فيقدِّم الخاصة عليها؛ لكن أكثرهم يقدِّمون العامة على الخاصَّة، مثل: بنتام، وميل، وسبنسر، وروسو.
يقول بنتام: إنَّنا إذا خُيِّرنا بين مقدار عظيم من السعادة يصيب قلَّة من الأفراد، ومقدارٍ ضئيل منها يصيب كثرة من الأفراد، وجَب أن نُؤثِر الثاني على الأول، وبهذا تسمو مصلحة المجموع على مصلحة الفرد[116].
وفي المقارنة بين النظام والمصلحة، يرى بعضهم أن النظام العام ليس سوى المصلحة العامَّة، لكن المصلحة أوسع منه، وأكثر مرونة، وأصعب تحديدًا[117].
وبعضهم يرى أنَّ المصلحة العامَّة قريبة من الخير المشترك، إلا أنها تتميَّز عنه بصفة أكثر واقعيَّة، فهي وإن كانت قد تستوحي بعض المُثُل العليا أو القِيَم، فإنها أقرب إلى أن تكون مرشدًا عمليًّا لأجهزة الدولة في تصرُّفاتها، ومع ذلك فهي كالخير المشترك فكرةٌ مرنة غير محدَّدة، سواء في مجال السياسة أو في مجال القانون[118].
ولا بُدَّ من العلم أنَّ المفكِّرين الغربيين يلجَؤُون إلى العقل في تحديد المصلحة، وفي التوفيق بين المصالح المتعارِضة، والعقلُ يتأثَّر بالظروف المحيطة به؛ ولذا كان كل مَن يعتمد على العقل وحدَه في تقدير المصالح والتوفيق بينها، يلجأ في كثير من الأحيان إلى القانون، أو إلى العدالة، أو إلى التربية، أو إلى الرأي العام، أو إلى الاهتِمام والعناية بالإرادة العامَّة، ويجعلها رادعًا لِمَن لم يهتدِ بالعقل[119].
ويقرُّون أنَّ ثمَّة عيوبًا لفكرة المصلحة العامَّة، أهمها[120]:
1 - عدم الثبات السياسي؛ فهي فكرة متجاوزة للقانون، يصعب - إن لم يستحل - إعطاؤها صورة محدَّدة وثابتة؛ لارتباطها بعناصر لا تمثل أي ثبات.
2 - أنها فكرة غير مؤكدة.
3 - أن فيها عيوبًا قانونية.
المصلحة في الإسلام:
بينما كانت المصلحة عند المفكِّرين الغربيين ضبابيَّة ويصعب تحديدها؛ ممَّا جعل الاضطرابَ فيها كثيرًا؛ بسبب الاعتماد على العقل وحدَه في تحديدها، وفي التوفيق بينها وبين غيرها ممَّا يعارضها، فإننا نجد ضبطًا وتحديدًا للمصلحة في الإسلام عند علماء المسلمين؛ بسبب أنهم ينطلقون من نصوص الشريعة في حدِّها، وفي الموائمة أو الترجيح بينها وبين ما يعارضها، ولم يَكِلُوا ذلك للعقل وحدَه، فمقصود الشارع حاضر في أذهان العلماء وهم يُعالِجون قضيَّة المصلحة؛ ولذا يقول الغزالي: وإذا فسَّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجهَ للخلاف في اتِّباعها؛ بل يجب القطع بكونها حجَّة[121].
وينفي الشاطبي الاعتمادَ على العقل وحده في إدراك المصلحة، ويؤكِّد على تدخُّل الشرع في ذلك، فيقول - رحمه الله تعالى -: المراد بالمصلحة عندنا ما فُهِمَ رعايته في حقِّ الخلْق من جلب المصالح ودرء المفاسد، على وجهٍ لا يستقلُّ العقل بدركه على حال، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى؛ بل يردُّه، كان مردودًا باتِّفاق المسلمين[122].
ونجد أنَّ المعنى الشرعي لحدِّ المصلحة ظاهرٌ في كلام العلماء عليها، وتعريفهم لها:
قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة[123]، وكل ما عارَض النصوص ليس منفعة؛ بل هو مضرَّة.
وقال السعدي - رحمه الله تعالى -: حقيقة المصلحة هي التي تصلُح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية[124].
ويقسِّمها العلماء إلى أقسام ثلاثة[125]:
1 - قسم شهد الشرع باعتباره، فهذا هو القياس.
2 - قسم شهد ببطلانه، وهو ما كان في مقابل النص.
3 - ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين، وينقسم إلى ضرورات وحاجات وتحسينات.
إذًا فالمعوَّل عليه في معرفة المصلحة، والميزان الذي تُوزَن به وتضبط، ويمكن اعتبارها أو نفيها - الكتابُ والسنَّة، فما وافَقهما فهو مصلحة، وما خالَفهما فهو مفسدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: كل ما يأمر الله به لا بُدَّ أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته، والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة، وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف: أنَّ ما أمر الله به لا بُدَّ أن تكون مصلحته راجحةً ومنفعته راجحة، وأمَّا ما كانت مضرته راجحة، فإنَّ الله لا يأمر به[126].
وقال أيضًا: المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهَّم الناس أنَّ الشيء ينفع في الدين والدنيا، ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة؛ كما قال - تعالى - في الخمر والميسر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]، وكثيرٌ ممَّا ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك، حسبوه منفعةً أو مصلحة نافعًا وحقًّا وصوابًا، ولم يكن كذلك؛ بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثيرٌ منهم أنَّ ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا ومنفعة لهم؛ فقد ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 104]، وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا؛ اهـ[127].
فالشر المنهي عنه إنما يفعله الإنسان؛ لأنَّ له فيه غرضًا ووطرًا ما، وهذه مصلحة عاجلة له، فإذا نُهي عنه وتركه فاتتْ عليه مصلحتُه ولذَّته العاجلة، وإن كانت مفسدته أعظم من مصلحته؛ بل مصلحته مغمورة جدًّا في جنب مفسدته... فالربا والظلم والفواحش والسحر وشرب الخمر، وإن كانت شرورًا ومفاسد، ففيها منفعة ولذَّة لفاعلها؛ ولذلك يُؤثِرها ويختارها، وإلا فلو تجرَّدت مفسدتها من كلِّ وجه، لما آثرها العاقل ولا فعلها أصلاً[128].
ولأجل التعارُض بين ما يتوهَّمه بعض الناس مصالح لأنه متعلِّق بالدنيا، وبين اتِّباع نصوص الكتاب والسنة؛ وضع العلماء ضوابط للمصلحة، هي[129]:
1 - عدم إخلالها بعبودية الله - تعالى - لأن الشرائع الربانية جاءت لتقرِّر هذا المبدأ في كل تشريعاتها.
2 - عدم قصر المصلحة على أحد الدارين، يقول الشاطبي: المصالح المجتَلَبة شرعًا، والمفاسد المستدفعة - إنما تُعتَبَر من حيث تُقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية[130].
3 - عدم معارضتها أو تفويتها للنص، فلا تعارُض بين النصوص الصحيحة والمصالح الحقيقية.
4 - عدم إخلالها بمقاصد الشرع، وهي حفظ الضرورات[131].
5 - عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
يقول ابن القيِّم: إذا تأمَّلتَ شرائع دينه التي وضَعَها بين عباده، وجدتَها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قُدِّم أهمُّها وأجلُّها وأن فاتَتْ أدناهما، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عُطِّل أعظمها فسادًا باحتمال أدناهما، وعلى هذا وضَع أحكمُ الحاكمين شرائع دينه[132].
ويقول أيضًا: فخلقه وأمره مبنيٌّ على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة، بتفويت المرجوحة التي لا يمكن الجمع بينها وبين تلك الراجحة، وعلى دفع المفاسد[133].
وكلُّ هذه المعاني العظيمة في حدِّ المصلحة واستمدادها وضبطها، والترجيح بين المصالح المتعارِضة - غير موجود في الفكر الغربي، الذي يقصر رعاية المصلحة على الدنيويَّة الآنيَّة، وينطلق في تحديدها من العقل وحده، فلا غرو - والحال هكذا - أن يكون التعارُض بين الإسلام والفكر الغربي تعارُضًا في الأصول، وأنَّ استجلاب ما يقرِّره من الحريَّات، مع إضافة بعض الضوابط هو مسخٌ للإسلام، وهدم لأصوله.
تعارض حرية الرأي مع الخصوصية:
تتعارض حرية الرأي أحيانًا مع الخصوصية أو الحرية الشخصية، وحينئذٍ لا بُدَّ من الحسم بينهما، وتقديم إحداهما على الأخرى، وكثيرًا ما كان الحسم للخصوصية، وقيدت حرية الرأي لصالحها، وهذا يدخل في القيد الأول، وهو احترام حقوق الآخرين أو سُمعتهم، لكنَّه أخصُّ منه؛ لأنَّ من حقوق الآخرين احترام حياتهم الخاصة.
ما هي الخصوصية؟
عرف معجم مريام وبستر الخصوصية بأنها: صفة أو وضع يكون فيه المرء بعيدًا عن المجتمع، ويضيف: حرية لا يسمح التدخل بها[134].
والفكر الغربي وقوانينه التي انبَثقَتْ منه يُعلِي من شأن الحرية الشخصية، بأن يفعل الإنسان ما يشاء، بشرط ألاَّ ينتهك حرية الآخرين، وتتعارَض حرية الرأي في كثيرٍ من الحالات مع الحرية الشخصية أو خصوصية الإنسان[135]؛ فمثلاً من حريَّة إبداء الرأي عدم تقييد النشر في الصحافة، ومن حقِّ الصحفي أن يَنشُر ما يَشاء، ويكتب ما يشاء، لكن صحف الإثارة لتسويق بضاعتها؛ ترصُد حياة المشاهير من السياسيين أو الممثلين أو المغنين ونحوهم، فتُفشِي أسرارهم، أو تنشُر صورًا فاضحة لهم، فتتعارَض حريَّة إبداء الرأي والنشر مع الحرية الشخصية أو الحفاظ على الخصوصية، فالفكر الغربي وقوانينه يقيِّد حرية الرأي في هذه الحالات لمصلحة الحرية الشخصية، وبسبب التعارض بين حرية الرأي والحرية الشخصية؛ عُدِّل القانون المدني في فرنسا عام 1970م في مادَّته السابعة، ليؤكِّد احترام الحق في الحياة الخاصة[136]، وينصُّ القانون الفرنسي في المادة (29) على منْع استِعمال تسجيلات تمسُّ حرمة الحياة الخاصة...[137].
وفي القانون الأمريكي تعدُّ المحادثات بين الزوج وزوجته، والطبيب ومريضه، والكاهن والتائب، والمحامي وموكله - من المحادثات المحمية المتمتعة بامتياز، ولا يمكن الاحتجاج بها في المحاكم، أو الاستشهاد بها ونحو ذلك، في المملكة المتحدة[138].
وفي قانون سويسرا المادة (169) ينصُّ قانون العقوبات الفدرالي على اعتِبار تصوير أيِّ جزء من الحياة الخاصة للإنسان جريمة، وفي هولندا نصَّ القانون على معاقبة مَن يلتقط صورة لشخصٍ على نحوٍ من شأنه أن يُلحِق الضرر به، كما نصَّ القانون البلجيكي على معاقبة الشخص الذي يلتقط صورة لإنسان في مكان خاص دون رضائه، وكذلك القانون الفرنسي[139].
وتُعاقِب القوانين الأطبَّاءَ على إفشاء أسرار المرضى، كما تُعاقِب الممثلين والمغنين على نشر فضائح زملائهم أو أسرارهم... وكذلك العاملون في البنوك في نشر أسرار عملائهم، وهكذا العاملون في الشركات والمؤسسات... بل نصَّ القانون الفرنسي على وجوب كتْم الطبيب أسرارَ مريضه ولو أذن المريض في إفشائها؛ على اعتبار أنَّ محافظة الطبيب على أسرار المرضى مصدره القانون، وليس الاتفاق مع المريض[140].
كما تُعاقِب القوانين الوضعيَّة مَن نسَب إلى شخص بأنه مُصاب بمرض معدٍ، أو ارتكب تزويرًا أو سرقة...[141].
وينصُّ القانونيُّون على: أنَّ مهمَّة الصحافة الأولى هي نشرُ الأخبار التي تهمُّ المجتمع، لا فضح الأسرار التي تمسُّ الحياة الخاصة...[142].
ومن الأمثلة على تقديم الخصوصية على حرية الرأي في القضاء الغربي:
1 - نشر أحد مشاهير المطربين في فرنسا في لقاءٍ مع إحدى المجلاَّت اسمه الحقيقي وهاتفه، وعدَّ القضاء الفرنسي أنَّ هذا فيه نشرٌ للحياة الخاصة ولم يَعُدْ سرًّا، فلا مانع من نشر جهات أخرى له، لكن محكمة النقض رفضتْ ذلك وعدَّتْه مَساسًا بسرِّ هذا المغنِّي؛ على اعتبار أنَّ المساس بالحياة الخاصة لا يكون فقط بالكشف عن أسرارها أوَّل مرَّة؛ وإنما يكون أيضًا بنشر أمر كان معروفًا من قبل ثم راح في طيِّ النسيان... ومَن يُزيح الستار عن المعلن المنسي، فهو بمثابة مَن يبعث من جديد الكشف عن السر[143].
2 - في القضاء الفرنسي صوَّر صحفي ممثِّلة كوميدية مشهورة أُصِيبت بحادث وهي تتنقَّل على كرسي متحرِّك؛ بسبب إصابة عضوية، فاعتبر القانون نشر صورتها مساسًا لا يُغتَفَر لحرمة حياتها الخاصَّة[144].
القيود على الإعلام[145]:
من المعلوم أنَّ وسائل الإعلام هي أهمُّ الوسائل لإبداء الرأي، والتعبير عنه، ونشْره بين الناس، والغربيون يُفاخِرون بالحرية الإعلامية التي يتمتَّع بها الغربيُّ عن غيره من الناس؛ لكنَّ الحقيقة أنَّ وسائل الإعلام ليس لها الحق في نشر كلِّ ما تريد، وليس من حقِّ الغربي أن يُبدِي فيها رأيه بلا قيود ولا ضوابط؛ بل لا بُدَّ من ضوابط تكون وسيلةُ الإعلام الناشرة للرأي مسؤولةً عن مراعاة هذه الضوابط، وإلاَّ أخذتْ بإخلالها بها.
يقول د. حسنين عبدالقادر: هناك شبهُ إجماعٍ على أنَّ الصحافة يجب أن تَفرِض قيودًا على حريَّتها لصالح الجماعة؛ لأنها قد تُصبِح خطرًا على الدولة التي تَقُوم على حفْظ الأمن والسلام، ورعاية الحقوق وإشاعة العدالة بين الناس، وقد تُؤذِي الصحافة الجماعات والأفراد؛ بل إنَّ عدم شعورها بالمسؤوليَّة يهدِّد كيان المجتمع والرأي العام، وإذًا من واجب الدولة أن تَحُول بينها وبين الإضرار بالمجتمع عن طريق التقنين؛ اهـ[146].
صناعة الأفكار وتشكيل الرأي:
وأمَّا القيد الخامس لحريَّة الرأي الذي يُمكِن إضافته إلى القيود الغربية - ولو لم ينصُّوا عليه - فهو قيد صناعة الأفكار وتشكيل الرأي.
وتعريف الرأي العام[147]: الْتزام معنوي جماعي، تقبله الأغلبية عن عقيدة وليس عن خوف، أو هو عبارة عن ردود أفعال الناس تجاه موضوعات أو تصريحات تظهر في ظروف معيَّنة.
وينقسم من جهة الزمن إلى أقسام ثلاثة[148]:
1 - رأي دائِم مستمر، يسمِّيه علماء الاجتماع: العام الكلي، وعناصره: العقيدة والشريعة والتقاليد[149].
2 - رأي مؤقَّت، ويكون نتيجة حادثة وقعتْ، ولعل من أقرب الأمثلة عليه حشد الرأي الأمريكي خاصَّة - والغربي عامَّة - في حرب الخليج الثالثة ضد العراق، تحت دعاوى امتلاكه أسلحة دَمار شامل؛ إذ دارَت العجلة الإعلامية الأمريكية بتوجيهٍ من صنَّاع القرار في هذا الاتجاه؛ حتى تحقق غرضهم باحتلال العراق؛ ليظهر بعد ذلك أن كلَّ الذرائع التي أُبِيح بها غزو العراق كانت زائفة، وأنَّ الرأي العام الأمريكي والغربي قد وقَع في خدعة كبيرة.
3 - رأي يومي، ويتكوَّن من الأحداث اليومية، وتُحرِّكه وسائل الاتِّصال الجماهيري، والشائعات والدعايات.
وأمَّا من جهة الانتشار، فأقسامه ثلاثة أيضًا[150]:
1 - الرأي العام المحلي، وتشكِّله وسائل الإعلام المحلية؛ ولذا تحرِص الدول على امتلاكها، أو شراء القائمين عليها، والمؤثرين فيها.
2 - الرأي العام الإقليمي.
3 - الرأي العام الدولي، وتتنافس الدول الكبرى على تشكيله بإنشاء صحف وإذاعات وقنوات بمختلف اللغات تنشر ما يمثِّل فكرها، ويحقِّق مصالحها، وتُنفق في هذا السبيل أموالاً ضخمة، والقنوات العربية الأمريكية مثال لذلك.
والواقع يدلُّ على أنَّ صناعة الأفكار أو تشكيل الرأي العام عن طريق الإعلام، هو من قيود حرية الرأي وإن لم يصرح به؛ فمثلاً مُعاداة الرأسماليِّين في إعلامهم للشيوعية أيام قوَّة مدِّها، أو تشويه صورة الإسلام، أو الدِّفاع عن المُعتَدِين اليهود عن طريق وسائل الإعلام، وما استتبعه من صدور قانون معاداة السامية - هو ممَّا يقيد حرية الرأي؛ لأنَّ المتلقي لهذا الإعلام الأحادي الإقصائي يتشكَّل فكره ورأيه في إطار ما يضخُّه الإعلام.
يقول نعوم تشومسكي: صحيحٌ أنَّ الرقابة على وسائل الإعلام لا تَكاد توجد في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فإنَّ صناعة التحكُّم في الأفكار مزدهرة جدًّا؛ بل إنها صناعة لا غنى عنها في مجتمع يعتمد على مبدأ القرار للنخبة، والإقرار للعامة[151].
فالحرية السياسية، وعلى الأخصِّ حريَّة الرأي بكافَّة صورها ووسائلها؛ كحرية الصحافة والأحزاب والانتخابات... إلخ - مثلها مثل الرأي العام... فكلٌّ أصبح صناعة تصنع وفق هوى المموِّلين وأصحاب السلطة من الحاكمين؛ ذلك أن الممولين - وهم أصحاب الاحتكارات من الرأسماليين - يكونون هم جماعات الضغط الفعَّالة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، إذا لم يكونوا هم المسيطرين على تقاليد الحكم[152].
عدم ثبات حرية الرأي:
تقول المحكمة الفدرالية الأمريكية: إنَّ نطاق حريَّة الرأي ليس ثابتًا؛ بل إنه يتغير بتغير ظروف الحرب الاستثنائية، والمسألة نسبية متدرجة... ثم تعترف المحكمة بأنَّ القانون قد يُعاقِب على صورة معيَّنة من صور التعبير عن الرأي؛ بوصفها خطرًا في ذاتها[153].
والنُّظُم الوضعية السياسية والقانونية تلتَقِي كلها حول تقييد حرية الرأي - على فكرتين أساسيتين:
1 - فردية، وهي حماية الخصوصية؛ لئلاَّ تنتهك بحرية الرأي.
2 - جماعية؛ وهي حماية القانون أو النظام العام أو الآداب.
كما أنَّ هذه القيود تتَّخِذ صورتين:
الأولى: صورة مباشرة تقوم على ما يكفل للدولة احتكار القوة، وولاء قواتها لها.
الثانية: صورة غير مباشرة، حيث تستهدف بالعقاب ما يناهض أنظمتها بالقوة أو الانقلاب أو الخيانة، ونحو ذلك.
ويخلص عددٌ من المفكِّرين - سواء كانوا سياسيين، أم قانونيين، أم علماء اجتماع - إلى صعوبة استخلاص مِعيار لتأثيم الرأي بادِّعاء مساسِه بالنظام العام، أو تحريضه على العنف لتأثيمه، فليس ثمَّة معيار حاسم قاطع يرجع إليه للتفريق بين النقد المباح والتحريض المحظور[154].
ولذا قرَّرت المحكمة الأمريكية العليا أيَّام قوَّة المدِّ الشيوعي: أنَّه ما دام الشر الذي يسعى القانون لمنعه يبلغ حدًّا من الجسامة، فإنَّ الدعوة إليه يجوز العقاب عليها، بغضِّ النظر عن مَدَى ما ينتظر هذه الدعوة من نجاح[155].
وهكذا القانون الفرنسي يرى أنَّ حماية النظام العام تسوِّغ تدخُّل السلطة للحدِّ من نِطاق حرية الرأي بشتَّى الوسائل[156].
والنُّظُم السياسية على اختلاف أنواعها، تستتر وراء هذا الأساس الصحيح من الجهة القانونية؛ لتحقيق أغراض سياسية بعيدة الصلة عن حماية النظام العام.
والحجَّة التي طالما قذف بها الغربيون وأتباعهم الليبراليون في العالم الإسلامي، هي: إذا كان الإسلام دينًا صحيحًا ومُقنِعًا للناس، فلماذا تمنعون التنصير أو الدعوة للأفكار الهدَّامة كالعلمانية في بلاد المسلمين؟ ولماذا تحرِّمون بناء الكنائس، ومراكز الدعوة إلى الإلحاد، وطباعة كتب الملحدين وتوزيعها في أوساط المسلمين؟ ولماذا تنهون عن البدعة والتشبُّه بالكفار إن كنتم واثقين من دينكم ومنهجكم؟!
وهذه الحجَّة تُقلَب عليهم بمثل قولهم، فيقال: لماذا كانت الدول الديمقراطية الليبرالية - التي ترعى حرية الرأي وتهتف بها - أيام المد الشيوعي تمنع الدعاية للشيوعية في بلدانها، وتنزل أقصى العقوبات بِمَن يفعل ذلك؟ ولماذا لا تفتح الدول الليبرالية أبوابها لدُعاة القاعدة ودعاة الإرهاب؟ ولماذا تأخذ بالظنِّ على أدنى شبهة لِمَن ينتَمِي لهذه الأفكار؟ ولماذا أضحَى ما يسمَّى بمقاومة أفكار التطرُّف والإرهاب عرفًا عالميًّا؟ ولا سيَّما أنهم يَزعُمون أنَّ الأنظمة الديمقراطية الليبرالية قد بلغت الكمال، ووقفت عجلة التاريخ عندها كما يدَّعون!
فهل تَخاف من تأثير عددٍ قليل من الإرهابيين - كما يسمُّونهم - على جمهور الغربيين، فيتأثَّروا بأفكارهم؟ حتى ضحوا بحرية الرأي، واعتمدوا التجسُّس حلاًّ للحِفاظ على أنظمة الدول، فاهتزَّت دعاوى حرية الرأي عند أدنى اختبار حقيقي لمصداقيتها.
تقييد حرية الرأي عند المفكِّرين المسلمين:
المتتبِّع لكِتابات المفكِّرين المسلمين في حرية الرأي، يجد اختلافًا كبيرًا في تقييدها؛ وسبب ذلك أنَّ فكرة حرية الرأي منقولة عن الفكر الغربي، ثم بحث لها عمَّا يؤيِّدها في الشريعة الإسلامية، فلمَّا اصطدمت بمحرمات الرأي والقول التي لا حصر لها، قيدها من كتبوا فيها ببعض قيودها، فمنهم مَن أتى بقيود عامَّة؛ كمَن قيَّدها بالشريعة الإسلامية، ومنَع كلَّ ما خالفها من الرأي، ومنهم مَن فصل في ذلك، ويمكن تقسيم اتجاهاتهم في تقييد الحرية إلى ما يلي:
الاتجاه الأول:مَن أطلق حرية الرأي، ونصَّ على عدم تقييدها، ونسب ذلك للإسلام! يقول حسن الباش في تقريره لحرية الرأي: أمَّا حرية التعبير، فهي التي ضمنها الإسلام في آيات القرآن، وحضَّ عليها... وذكر من مجالاتها: حرية التعبير عن الفكر مهما كانت فلسفته، ومهما كان اتجاهه...
إلى أن قال: وقد أقرَّ الإسلام ما كان عرفًا عند العرب، وأباح الإدلاء بالرأي، وإبداء وجهة النظر دون قيد...[157].
وهذا القول واضح السقوط؛ لأنَّ في الشريعة الإسلامية تقييدًا كثيرًا لحريَّة الرأي؛ بل الأصل عدم إطلاق الرأي، فكيف ينسب لها خلاف ذلك، كما أنَّ القوانين الوضعية قد اتَّفقت على تقييد حرية الرأي بقيود عدَّة سبق تناولها.
الاتجاه الثاني:مَن لم ينصَّ على إطلاقها ولا تقييدها[158]، ومن المحتمل أنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه يرَوْن تقييدها، لكنَّهم لم ينصُّوا على ذلك؛ تقليدًا لغيرهم؛ بمعنى: أنَّ بعضهم نقل من بعض، والمنقول عنه لم يقيد فتبعه الناقل، وهذا مُلاحَظ في كثير ممَّن تناولوا بالدراسة الحرية وحقوق الإنسان؛ إذ إنَّ قليلاً منهم ناقشوا هذه الأفكار ونقدوها، أو أنهم ذهلوا عن تقييدها، أو أنهم رأوا أن ضرورة تقييدها معروفة لا تحتاج إلى بيان، أو أنهم رأوا اختلافًا كثيرًا في القيود التي تقيد بها حرية الرأي، فأعرضوا عن جميعها.
الاتجاه الثالث:تقييد حرية الرأي، وهو ما سلَكَه أكثر مَن قرَّروها، لكن تنوَّعت قيودهم لحرية الرأي، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: مَن انطلق في تقييدها من حكم الشريعة الإسلامية، وهم على أنواع ثلاثة:
النوع الأول:مَن قيَّدها بقيود كليَّة، نحو تقييدها بالإطار الشرعي، أو المبادئ الإسلامية، أو التزام الحدود التي حدَّتها الشريعة، أو عدم مخالفة حكم شرعي، أو أن يكون الرأي مشروعًا، ونحو ذلك[159].
ومن أصحاب هذا الاتِّجاه مَن حاولوا استِقراء موانع الرأي في الإسلام، فوضعوا ضوابط كلية للرأي يكون الرأي جائزًا بتوافرها، وهي أربعة[160]:
الضابط الأول: أن يكون الرأي مشروعًا.
الضابط الثاني: امتلاك أهليَّة الرأي.
الضابط الثالث: مراعاة ما يَؤُول إليه الرأي.
الضابط الرابع: أن تكون وسيلة الرأي مشروعة.
النوع الثاني:مَن قيدها بقيود تفصيلية، هي بعض قيودها وليست كلها، نحو تقييدها بعدم الكذب أو الغيبة، أو الفحش في القول، أو الدعوة للفساد والانحِراف، أو إشاعة الفاحشة، ونحو ذلك[161].
النوع الثالث:مَن قيَّدها بقيود كلية وبعض التفصيلية[162].
القسم الثاني:مَن انطلق في تقييدها من غير الشريعة، فقيَّدها بالقانون أو النظام - والقانون قد يكون وضعيًّا - أو قيَّدها بعدم أذيَّة الآخرين[163].
مناقشة هذه القيود:
أمَّا مَن نَصَّ على عدم تقييدها، وكذا مَن قرَّرها ولم يذكر لها قيودًا، فهم مُخطِئون؛ لأنَّ إطلاق الرأي ليس من الإسلام في شيء، ويُؤدِّي ما ذكروه إلى إقرار الكفر والإلحاد وشتم رب العالمين - سبحانه وتعالى - كما يؤدِّي إلى الإزراء بالأنبياء - عليهم السلام - وتكذيبهم، والطعن في القرآن الكريم، وانتِقاد الأحكام الشرعية وردِّها، واعتبار ذلك من الرأي.
ووقوع مثل ذلك من المرتدِّين أو من الكفار الأصليين، ليس مشكلة؛ لأنَّ هذه أفعالهم من قديم، وما ضرَّ ذلك الإسلامَ والمسلمين، لكن المشكلة هي في إسباغ الشرعية على أنواعٍ من الكفر والضلال، سواء كان ذلك بادعاء أنَّ الإسلام يُبِيح الرأي، ويدْعو إلى حرية القول، ولم يضع قيودًا لذلك، أو كان ذلك بتقرير حرية الرأي والاستدلال لها بنصوصٍ من الكتاب والسنة، ومن ثَمَّ إهمال ذكْر القيود التي تقيدها، فيقدح في ذهن المتلقِّي لمثْل هذه الكتابات من جهَلَة المسلمين ومن الكفَّار: أنَّ الإسلام بلَغ من أريحيَّته أنَّه يسمح بالطعن والتشكيك فيه، والسخرية بمقدَّساته وشعائره وأحكامه.
وأقلُّ خطأً من هؤلاء مَن قرَّروا حرية الرأي لكنَّهم قيدوها بقيود، وهم على أنواع:
1 - مَن قيَّدوها بما جاء في المواثيق والإعلانات الدولية والقوانين الوضعية، وأعرضوا عن الشريعة الربانية، وهؤلاء هم أفحش هذه الطائفة خطأً.
2 - مَن قيَّدوها ببعض قيودها، لكنَّهم أهملوا قيودًا أخرى، فأدَّى ذلك إلى إباحة شيءٍ من الرأي المحرَّم، وهذا خطأ.
3 - مَن قيَّدوها بقيود شرعية كلية؛ كالتقييد بعدم مخالفة الشريعة، وبعض التفصيلية؛ كالمنع من السب والشتم ونحو ذلك، وكانت تكفيهم القيود الكلية عن التفصيلية.
4 - مَن اقتصروا في تقييدها على القيود الكلية، وهؤلاء - وإن أراحوا أنفسهم من تَبِعَةِ التفصيل في الرأي المباح والرأي المحرَّم - فإنهم قد أتَوْا من حيث لا يشعرون على أصل القضية التي دعوا إليها بالإبطال؛ لما سبَق تقريره من أنَّ الأصل في الإسلام منع الرأي إلا ما كان منه خيرًا، والخير من الآراء أقل من الشر.
ويبدو لي أنَّ سبب هذا الاضطراب الكبير في ضبط الرأي وتقييده بين الكُتَّاب المسلمين، أنهم وافَقوا على حريَّة الرأي - وهي مصطلح حادِث منقولٌ عن الكفَّار - وحشدوا ما يرَوْنه يدعمها من أدلَّة الشريعة، ثم اصطدموا بكثرة ما فيها ممَّا يُخالِف الشريعة، وتورَّطوا باللوازم التي تلزم لتقريرها، فراحوا يبحَثون عن قيود شرعيَّة تُقيِّدها، فوقعوا في هذا الاضطراب الكبير.
وكان من الأسهل عليهم قلبُ القضية بمنع الرأي إلا ما أذنت به الشريعة، ولو أنهم فعلوا ذلك لأراحوا واستراحوا.
والعجيب أنَّ مَن قرَّروا حرية الرأي من الكُتَّاب المسلمين، قد شنُّوا حملةً شعواء على التقليد، بلغتْ في كثيرٍ من الأحيان حدَّ التطرُّف؛ إذ انتقدوا التقليد بكلِّ أشكاله، حتى التقليد فيما هو حقٌّ والشريعة أمرَت به وأثنت على مَن فعَلَه، وحشَدُوا الأدلَّة لذلك، ودعوا بقوَّة إلى إعمال العقل، مستدلِّين بكمٍّ هائل من الآيات والأحاديث على ذلك، لكن المؤسِف أنهم خالَفوا ما يقولون، ووقعوا من حيث لا يشعرون في تقليد الغربيين والعلمانيين العرب في تقريرهم لحرية الرأي دون نقدٍ ولا تمحيص؛ ممَّا أوقعهم في اضطرابٍ كبير في ضبط الرأي وتقييده، كما أنهم قلبوا هذه القضيَّة رأسًا على عقب.
ومَن تأمَّل مقام العبودية لله - تعالى - علم أنَّ المؤمن متعبد لله - تعالى - في أقواله وأفعاله وشؤونه كلها، والعبوديَّة قيد تقيِّد صاحبها بعمل ما يُرضِي الله - تعالى - ومجانبة ما يُسخِطه، ولو حاكَمنا الرأي والقول إلى العبودية، لعلمنا أنَّنا متعبَّدون لله - تعالى - في هذا الأمر العظيم بكفِّ اللسان وحبسه ومنعه إلا فيما هو خير، والخير هو ما بيَّنته الشريعة، وهو ثابتٌ في الأصل، وليس هو الخير المتغيِّر في الفكر الغربي، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.
وأختِم هذه المقالة بالتنبيه على أمرٍ أرى أنَّه مهمٌّ، وهو: أنَّ كثيرًا ممَّن يقرِّرون الحريَّات أو حقوق الإنسان بمفهومها الغربي، ويستدلُّون لها بنصوص الكتاب والسنَّة، يقصرون نظرتهم في تقريرها على الأحكام الدنيوية، ويُخرجون ما يتعارَض منها مع الحرية - كالحدود - تخريجات باردة، وإذا أُتِي لهم بما يُعارِض الحرية ممَّا له تعلقٌ بالجزاء الأخروي، قالوا: نحن لا نُرِيد الأحكام الأخرويَّة، فوافَقُوا الغربيين في قصر نظرتهم على الدنيا فقط من جهة، ومن جهة أخرى ارتَكبوا جنايةً في حقِّ الإسلام وفي حقِّ مَن يقرأ لهم؛ لأنهم حين يُقرِّرون الحريَّات أو حقوق الإنسان يُعلِنون أنهم يَنطَلِقون فيها من الإسلام، ويستدلُّون لها بنصوص من الكتاب والسنَّة، ومعلومٌ أنَّ الإسلام لا يفصل بين الدنيا والآخرة.
وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــ
[1] "المحكم"؛ لابن سيده 10/338، و"اللسان" 14/291.
[2] "المحكم" (10/343)، و"القاموس" 1659.
[3] "المفردات" (209)، ويُنظر: "التعاريف"؛ للمناوي (354)، و"الكلِّيات"؛ للكفوي (480).
[4] "إعلام الموقعين" (1/66).
[5] قسمه ابن القيِّم إلى أربعة أقسام، وفصَّلها في "إعلام الموقعين" (1/66 - 85)، ويُنظر: "المتواري على البخاري" (410)، و"فتح الباري"؛ لابن حجر (13/331).
[6] ينظر في أنواعه: "جامع بيان العلم وفضله": (2/138 - 139)، و"شرح ابن بطال على البخاري" (10/351)، و"الموافقات" (3/422)، وقسَّمه ابن القيم إلى خمسة أقسام في "إعلام الموقعين" (1/ 68 - 69).
[7] يُنظر: "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية" (1/20).
[8] "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية" (1/37).
[9] المصدر السابق (1/332).
[10] المصدر السابق: 1/348.
[11] المصدر السابق: 1/368.
[12] المصدر السابق: 1/382.
[13] المصدر السابق: 1/389.
[14] ينظر: "المبادئ الدستورية العامة"؛ د. محمود حلمي (275)، و"حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة"؛ د. عبدالوهاب الشيشاني (95).
[15] انظر: "معنى الديمقراطية"، صول بادوفر، ترجمة جورج عزيز: (170).
[16] "النقد المباح في القانون المقارن"؛ د. عماد عبدالحميد النجار (36).
[17] "جرائم النشر" (3)، و"حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية" (127).
[18] "النقد المباح في القانون المقارن" (15).
[19] ينظر: "الإعلام ونظرية الحرية"؛ مجلة العلوم السياسية، عدد سبتمبر (1964م)، و"النقد المباح" (36).
[20] ينظر: "حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية"؛ د.أحمد جلال حماد: (99).
[21] ينظر: "النقد المباح في القانون المقارن" (51).
[22] "الحرية"، جون ستيوارت ميل، ترجمة طه السباعي باشا: (82).
[23] المصدر السابق: (92).
[24] "حقوق الإنسان العامة في الإسلام"؛ منصور الرفاعي، ود. إسماعيل عبدالفتاح كافي (69).
[25] "المجتمع المتكافل في الإسلام"، عبدالعزيز خياط: (72).
[26] "الحرية منهج الإسلام وتشريعه" (107 - 108).
[27] "حقوق الإنسان وحرياته الأساسية"؛ د. هاني سليمان الطعيمات (181).
[28] "حرية الفكر"، محمد العزب موسى (101).
[29] "الإسلام وحقوق الإنسان"؛ محمد عبدالملك المتوكل، ضمن موسوعة حقوق الإنسان، الرؤى الإسلامية والعربية والعالمية (115).
[30] ينظر: "حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية" (91).
وجمهور الأصوليين يقررون أن الإباحة ليست من الأحكام التكليفية؛ ينظر: "المحصول" (1/128)، و"المنخول" (21)، و"الإحكام"؛ للآمدي: (1/170)، و"روضة الناظر" (37).
[31] ينظر: "حقوق الإنسان في الإسلام"، د.محمد الزحيلي 185، و"الإحكام في حقوق الإنسان في الإسلام"، عبدالعزيز محمد سندي 490، و"حقوق الإنسان في الإسلام" د. سهيل حسين الفتلاوي 8 - 9، و"حقوق الإنسان في الإسلام"؛ علي الشربجي 154-155، و"حقوق الإنسان العامة في الإسلام" 71، و"حقوق الإنسان في القرآن والسنة"؛ د.محمد أحمد الصالح 162، و"حقوق الإنسان في القرآن الكريم ودورها في التنشئة الاجتماعية"؛ د.وليد محمد العياصرة 149، و"الحقوق الإنسانية بين الشريعة الإسلامية والشرعية الدولية"؛ د.محمد المختار المهدي 29، و"حق الحرية في العالم"؛ د. وهبة الزحيلي 113، و"الحرية منهج الإسلام وتشريعه"؛ أحمد محمود الحاضري 107.
[32] "تفسير الطبري" 5/276.
[33] "تفسير السمعاني" 2/242، و"تفسير البغوي" 1/479. ويُنظر: "النهاية"؛ لابن الأثير 3/216، و"اللباب"؛ لابن عادل 9/224، و"عون المعبود" 9/326.
[34] "أحكام القرآن"؛ للجصَّاص: 2/322، و"التحرير والتنوير" 20/260.
[35] "تفسير السمعاني" 4/183، وزاد النسفي: وما ينكره العقل، وزاد الخازن: وينفر منه الطبع، وزاد الشنقيطي: وأوعد فاعله العقاب؛ ينظر: "تفسير النسفي" 3/260، و"تفسير الخازن" 3/121، و"أضواء البيان" 2/438.
[36] "تفسير القرطبي" 10/167.
[37] "صيانة صحيح مسلم" 221، ويُنظر: "جامع العلوم والحكم" 80، و"غذاء الألباب" 1/ 35.
[38] "مجموع فتاوى ابن تيمية" 15/157.
[39] "تفسير ابن عرفة" 1/209، و"التحرير والتنوير" 11/166.
[40] ينظر: "الكشاف" 2/552، و"تفسير أبي السعود" 5/92.
[41] ينظر: "المبادئ الدستورية العامة"؛ د. محمود حلمي: 275، و"حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة" 95، و"حرية الرأي والرقابة على المصنفات" 16 - 17، و"الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة" 466، و"النظم السياسية"؛ عبدالغني بسيوني 328.
[42] "الحرية": 147.
[43] رواه من حديث معاوية - رضي الله عنه - أحمد 4/102، واللفظ له، وأبو داود (4597) والدارمي (2518)، وقد جاء من طرق عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم.
[44] تقرير حرية الرأي في الإعلانات الدولية والإقليمية صِيغَ بصيغة قواعد كلية عامة، ويشترط في القاعدة القانونية أن تكون عامة ومجردة، وعموميتها تعني أن هذه القاعدة لا تخص فردًا معينًا بالذات، ولا واقعة محددة بعينها؛ بل تعني أشخاصًا معينين بصفاتهم، ووقائع معينة بصفاتها، فكل فرد توافرت فيه هذه الصفات، وكل واقعة استجمعت هذه الشروط تنطبق عليها صفة القاعدة، أما التجريد في القاعدة القانونية، فيقتضي أن تصدر في صيغ مجردة لا تتعلق بشخص معين أو بواقعة معينة.
ومن القانونيين من يرى أن العمومية والتجريد صفتان متلازمتان، فتترتب كل واحدة منهما على الأخرى، ومنهم من يرى أنهما وجهان لخصيصة واحدة تتعلق أولاهما بتطبيق القاعدة، وتتعلق الثانية بتكوينها؛ ينظر في ذلك: "أصول القانون"، د. حسن كيرة: 12، و"المدخل للعلوم القانونية"، سليمان مرقص: 19، و"المدخل لدراسة القانون"، د.علي حسين نجيدة: 19.
[45] "الحرية": 42.
[46] "تفسير ابن عطية" 2/112.
[47] "تفسير ابن كثير" 1/555.
[48] "أضواء البيان" 1/306.
[49] "تفسير السعدي" 202.
[50] "التحرير والتنوير" 26/303.
[51] رواه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري (6112)، ومسلم (2988).
[52] هذه الرواية لابن ماجه (3970)
[53] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (2616).
[54] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (2410)، وصحَّحه ابن حبان (5699).
[55] رواه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري (6110)، ومسلم (47).
[56] يُنظر: "رسالة ابن أبي زيد القيرواني" (154).
[57] "شرح النووي على صحيح مسلم" 2/19.
[58] "جامع العلوم والحكم" 134.
[59] "فتح الباري"10/532.
[60] "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" 2/179.
[61] سيأتي مزيد بيان لذلك في تعارُض حرية الرأي مع الخصوصيَّة.
[62] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر" 13- 14.
[63] ينظر: المصدر السابق: 64 و67.
[64] ينظر: المصدر السابق: 67.
[65] ينظر: المصدر السابق 67.
[66] ينظر في التفريق بين حقوق الله - تعالى - وحقوق البشر: "الفروق" 1/256، و"الذخيرة" 1/72، و"الموافقات" 2/316، يقول القرافي - رحمه الله تعالى -: فما مِنْ حقٍّ للعبد إلا وفيه حق لله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه؛ فيوجد حق الله - تعالى - دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى؛ اهـ؛ "الفروق": 1/256.
قلت: الفكر الغربي على العكس من ذلك تمامًا، فلا حقوق لله - تعالى - ألبتة، ولا حقوق للإنسان تؤخذ من حقوق الله - تعالى - أو شرائعه؛ وإنما الحقوق هي للإنسان فقط، وتستمد من هوى الإنسان.
[67] ينظر: "تفسير ابن عطية": 5/160، و"مجموع فتاوى ابن تيمية": 7/49، و"أضواء البيان": 7/428.
[68] رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس (2412)، وقال المنذري: رواته ثقات، وفي محمد بن يزيد كلام قريب لا يقدح، وهو شيخ صالح؛ "الترغيب والترهيب": 3/345, وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة": 3/545، رقم (1366).
[69] "مرقاة المفاتيح": 5/158.
[70] مضى تخريجه.
[71] رواه أبو داود (2873)، وحسنه النووي في "المجموع" 6/396.
[72] رواه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - البخاري (6327).
[73] رواه البخاري (3622).
[74] "الكافي" 1/375.
[75] ينظر: "المغني" 3/76.
[76] "مجموع الفتاوى" 25/293.
[77] "الاستذكار" 8/366، وينظر: "فتاوى ابن تيميَّة" 22/315.
[78] "مدارج السالكين" 1/115-116.
[79] "جامع العلوم والحكم" 274.
[80]" فتح الباري"10/446، ويُنظر: "شرح الزرقاني على الموطأ" 4/383، و"فيض القدير" 6/210.
[81] ينظر: "معجم المناهي اللفظية" 32-33.
[82] "مجموع الفتاوى"20/79.
[83] "الحرية" 29، وينظر أيضًا: 31 و108 و126 و136 و151.
[84] المصدر السابق: 155.
[85] "اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان ودورها في تفسير وحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات" 329.
[86] المصدر السابق:330.
[87] المصدر السابق:330.
[88] "الحرية" 157.
[89] "الخير العام"70، وعالج الكاتب مشكلة التعري العلنية وما يماثلها من العلاقات الجنسية، ونقل اختلاف القانونيين والمفكرين حول تغليب الجانب الأخلاقي في منعها، أو تغليب الحرية الشخصية في السماح بها، وهل ذلك من حماية الخصوصية أو من باب حرية التعبير عن الرأي؟ ينظر: 69 - 80.
واستعرض بارينغتون موور مفهوم الخصوصية في ثقافات عدة حول العالم، فوجد أن جميع المجتمعات لها مصلحة في أن تتم العلاقة الجنسية في السرية، ليس لأن الجنس يعد غير أخلاقي؛ بل لأن الشهوات الجنسية قد تشكل أذى بالنسبة للعلاقات والإنتاجية، وبالتالي من الأفضل إبعادها عن الساحة العامة؛ المصدر السابق 83.
[90] "الخير العام" 57 - 58.
[91] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر" 106.
[92] "اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان ودورها في تفسير وحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات": 296.
[93] المصدر السابق: 296.
[94] المصدر السابق: 296.
[95] المصدر السابق: 330.
[96] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 7.
[97] "اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان ودورها في تفسير وحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات": 259.
[98] "حقوق الإنسان عند المسلمين والمسيحيين واليهود"؛ د. سامي عوض الذيب: 50 - 51.
[99] ينظر: المصدر السابق: 51.
[100] ينظر: المصدر السابق: 55 - 56.
[101] "البوليس والدولة"؛ د. محمد عصفور: 38.
[102] المصدر السابق: 38.
[103] المصدر السابق: 39.
[104] المصدر السابق: 39.
[105] المصدر السابق: 39.
[106] المصدر السابق: 40.
[107] المصدر السابق: 49.
[108] المصدر السابق: 59.
[109] المصدر السابق: 60.
[110] المصدر السابق: 78.
[111] المصدر السابق: 62.
[112] "تفسير الطبري": 1/491.
[113] "التحرير والتنوير": 29/288.
[114] "المفردات في غريب القرآن": 160.
[115] "البوليس والدولة": 61، ونقله عن: "المطول في العلوم السياسية"؛ بوردو 1/62 - 64.
[116] ينظر: "أثر المصلحة في التشريعات": 45 - 65.
[117] "البوليس والدولة": 92 - 93.
[118] المصدر السابق: 73.
[119] "أثر المصلحة في التشريعات": 72.
[120] "البوليس والدولة": 74 - 77.
[121] "المستصفى": 179.
[122] "الاعتصام": 2/113، وينظر: "الموافقات": 2/25 - 38.
[123] "روضة الناظر": 169.
[124] ينظر: "المحصول"؛ للرازي: 6/219، و"روضة الناظر": 169، و"الفروق": 4/85، و"الذخيرة": 1/150، و"البحر المحيط"؛ للزركشي: 4/196.
[125] "تفسير السعدي": 389.
[126] "مجموع الفتاوى": 16/165.
[127] "مجموع الفتاوى": 11/345.
[128] "مفتاح دار السعادة": 2/14.
[129] ينظر: "المصلحة المرسلة: حقيقتها وضوابطها": 75 - 96.
[130] "الموافقات": 2/37 - 38.
[131] ينظر: "أصول الفقه"؛ محمد أبو زهرة: 369.
[132] "مفتاح دار السعادة": 2/22.
[133] "شفاء العليل": 217.
[134] ينظر: "الخير العام، إشكالية الفرد والمجتمع في العصر الحديث": 59.
[135] للأنظمة الغربية فيما يتعلق بالخصوصية اتجاهان:
الاتِّجاه الأول: يرفض الاعتراف بحقِّ الخصوصية، وهو المقرَّر في القانون الإنجليزي ومحكمة النقض الإيطالية، وكذلك في المحاكم الأمريكية مطلع القرن العشرين، وحجَّتهم أنَّ النصوص التشريعية الوضعية التي تحمي الأسرار لا تنسحب إلى حماية الحياة الخاصَّة، ما دام أن الكشف عن هذه الحياة الخاصة لا يمسُّ الاعتبار والشرف، ورفعت دعاوى في أمريكا وبريطانيا بشأن صور فوتوغرافية عاديَّة استُخدِمت في دعايات، فاشتَكَى أصحابها بدعوى انتهاك الخصوصية، فلم تُقبَل دعاواهم؛ لأنها صور عادية وليست مخلَّة بشرفهم.
ويرى أصحاب هذا الاتِّجاه في القانون أنَّ انتهاك الخصوصيَّة فضفاض يصعب معه وضع نصٍّ تشريعي يَتناوَل معناه ويُحِيط به، إضافةً إلى أنَّه لا يمكن إيجاد خطٍّ فاصل بين العام والخاص في حقوق الأفراد؛ ولهذا كان القانون الإنجليزي لا يعتَرِف بالتعدِّي على الخصوصية الفردية.
الاتجاه الثاني: يعترف بالحق في الخصوصية، وابتدأت به القوانين الفرنسية والألمانية ثم تبعتها الأمريكية، وتوسَّع إلى أن قرر في أكثر القوانين الوضعية؛ إذ اعترفتْ بحق الشخص في رفض نشر صُوَرِه الخاصة لأيِّ غرضٍ ولو لم تقدح في شرفه، أو يقع عليه ضرر بسبب نشرها، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ الاعتراف بالخصوصية وإن أعاق حرية التعبير، فإنه قيمة اجتماعية لا بُدَّ من مراعاتها؛ ينظر: "الخصوصية في الشريعة الإسلامية والقانون المقارن"؛ د. عبداللطيف الهميم: 54 - 71، و"حقوق الإنسان"؛ عبدالهادي عباس: 3/52.
بيدَ أنَّه بعد قيام ما سُمِّي بالحرب العالمية على الإرهاب، انحَسَر الحق في الخصوصية، وتمَّت الموافقة في كثيرٍ من المجالس النيابية والتشريعية الغربية والأمريكية على أنواعٍ من التجسُّس على الأفراد، والتنصت على المكالمات، فانبرى عددٌ من أساتذة القانون لتأليف عددٍ من الكتب تكرِّس الخصوصية في مقابل انتِهاكها من قِبَلِ الأجهزة الاستخباراتيَّة بذرائع مكافحة الإرهاب، ومن هذه الكتب: "حدود الخصوصية"؛ أميتاي إتزيوني، و"المجتمع الشفاف"؛ دايفد برين، و"النظر غير المرغوب فيه"؛ جيفري روزن، و"الحق بالخصوصية"؛ إيلين ألدرمان وكارولين كينيدي، و"نهاية السرية"؛ شارل شايكس؛ ينظر: "الخير العام، إشكالية الفرد والمجتمع في العصر الحديث": 59 - 60.
[136] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 13.
[137] المصدر السابق: 28.
[138] ينظر: "أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة"؛ د.مبدر ألويس: 8 - 9.
[139] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 46.
[140] المصدر السابق: 66 - 67.
[141] المصدر السابق: 112.
[142] ينظر: "شرح قانون العقوبات، القسم الخاص": 555.
[143] "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 72.
[144] المصدر السابق: 173.
[145] أظهر وسيلة إعلاميَّة وأقواها إبَّان الثورة الفرنسية وما بعدها، كانت الصحافة؛ لأنَّ الإعلام الصوتي والمرئي لم يظهر آنذاك، ولحرية الصحافة ثلاث نظريات:
الأولى: ينادي أصحابها بالحرية المطلقة، ولكن لم تجد هذه النظرية لها مناصرًا؛ لأنها تؤدِّي إلى إفلات الكثير من مرتكبي الجرائم لمجرَّد وقوعها بواسطة الصحافة باسم حرية الصحافة.
الثانية: تُنكِر على الصحافة حريتها وتجعلها مسؤولة عن كلِّ ما تنشره شأنها كشأن الأفراد، وهذه النظرية تتَّفِق مع الأنظمة الشمولية، ولا مكان لها في الأنظمة الديمقراطية.
الثالثة: تؤكِّد على حرية الصحافة؛ لكنها تؤكِّد أيضًا على مسؤوليتها الجنائية والمدنية إذا تجاوزت الحدود التي حدَّدها القانون، وهذا المبدأ هو الذي سجَّله إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان 1719م؛ إذ جاء فيه: إنَّ كلَّ إنسانٍ له الحقُّ في الحديث والكتابة والطباعة بحريَّة، إلا ما يُعتَبَر تجاوزًا لهذه الحرية في الحالات التي يحدِّدها القانون، وهو الذي جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق.
[146] ينظر: "الرأي العام والدعاية وحرية الصحافة": 302، و"قانون الصحافة بين أصول النظرية وتطبيق المنهج": 18.
[147] "مدخل إلى دراسة الرأي العام": 82.
[148] "الدعاية والرأي العام": 63 - 64.
[149] لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ مراكز البحوث والدِّراسات الغربية لشؤون الشرق الإسلامي كثيرًا ما تُوصِي العلمانيين - والليبراليين منهم على وجه الخصوص - بكسر الرأي الكلي لدى المسلمين؛ لكونه عقبةً كَؤُود ضد مشاريع التغريب والاستعمار، وذلك يكون بضرب القطعيَّات الدينيَّة والتشكيك فيها، والحملة المنظَّمة على مصادرها ومواطن تبليغها؛ كالعلماء والدعاة والمساجد ونحوها.
[150] ينظر: "الدعاية والرأي العام": 63 - 64، و"مراكز قياس الرأي العام": 55 - 56.
[151] "موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام"؛ د. عدنان بن محمد الوزان: 3/495.
[152] "آراء في الشرعية وفي الحرية": 517، و"حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية": 89.
[153] "حقوق الإنسان"؛ د. حسن علي: 127.
[154] ينظر: "الحرية في الفكرين الديمقراطي والاشتراكي": 15، و"حقوق الإنسان"؛ حسن علي: 128.
[155] ينظر: "الرقابة الدستورية على القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والإقليم المصري": 383.
[156] ينظر: "حقوق الإنسان"؛ حسن علي: 130.
[157] "حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان": 75 - 76.
[158] ومن أصحاب هذا الاتجاه: د. علي عبدالواحد وافي في كتابه: "حقوق الإنسان في الإسلام": 229 - 230، ود. يوسف محمود صبح في كتابه: "حقوق الإنسان في القانون والشريعة الإسلامية": 86 - 88، ود. إبراهيم مدكور، وعدنان الخطيب في كتابهما: "حقوق الإنسان في الإسلام": 16 - 17، ود. سهيل حسين الفتلاوي في كتابه: "حقوق الإنسان في الإسلام، دراسة مقارنة...": 46 - 47، وأحمد الحاضري في كتابه: "الحرية منهج الإسلام": 106 - 112.
[159] ينظر: "الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر": 9، و"النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية": 75، و"حقوق الإنسان في القرآن"؛ فاروق السامرائي: 91، و"الإسلام وحقوق الإنسان"؛ محمد عبدالملك المتوكل: 117، و"حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية": 101 - 102، "العدالة والحرية في فجر النهضة العربية": 127، و"حقوق الإنسان في الأديان": 180، و"حقوق الإنسان في الإسلام"؛ سيف الدين شاهين: 65، و"قانون حقوق الإنسان"؛ د. الشافعي محمد بشير: 109، و"قراءة لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية": 42 - 43، "الحقوق الإنسانية بين الشريعة الإسلامية والشرعية الدولية": 28.
[160] ينظر: "التعبير عن الرأي"؛ د. خالد الشمراني: 1/40 - 375، بواسطة: "حقيقة الليبرالية"؛ د. عبدالرحيم السلمي: 547 - 558.
[161] ينظر: "الحقوق والحريات العامة في عالم متغير": 43، و"موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام"؛ د. عدنان بن محمد الوزان: 3/544 - 545، و"الإسلام وحقوق الإنسان"؛ محمد عبدالملك المتوكل: 117، و"حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية": 101 - 102، و"دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين": 48، و"حقوق الإنسان في الإسلام"؛ علي الشربجي: 155.
[162] ينظر: "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية": 2/50، و"حقوق الإنسان بين التطبيق والضياع": 309 - 310، و"حقوق الإنسان في القرآن والسنة"؛ محمد أحمد الصالح: 165 - 168، و"دراسة مقارنة حول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان": 51، و"حقوق الإنسان في القرآن الكريم"؛ د.عمر يوسف حمزة: 35، و"حقوق الإنسان في الإسلام وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية": 116 - 117، و"الإسلام وحقوق الإنسان"؛ أ.د. جعفر عبدالسلام: 51.
[163] هذان القيدان نصَّ عليهما الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عن جامعة الدول العربية، مادة (22)، وميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي، مادة (10)، ينظر: "حقوق الإنسان، الوثائق العالمية والإقليمية": 1/382 - 389.
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
والمستشار القانونى
تعليقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق