ضمانات حق الدفاع
إعمالا لحكم المحكمة الدستورية العليا فى القضية رقم 6 لسنة 13 قضائية "دستورية" الصادر بالجلسة العلنية المنعقدة 16 مايو سنة 1992 م .
أن الدستور نظم حق الدفاع محدداً بعض جوانبه مقرراً كفالته كضمانة مبدئية أولية لعدم الإخلال بالحرية الشخصية ولصون الحقوق والحريات جميعها سواء فى ذلك تلك التى نص عليها الدستور أو التى قررتها التشريعات المعمول بها ، فأورد فى شأن هذا الحق حكماً قاطعاً حين نص فى الفقرة الأولى من المادة 69 من الدستور على أن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول ، ثم خطا الدستور خطوة أبعد بإقراره الفقرة الثانية منها التى تنص على أن تكفل الدولة لغير القادرين مالياً وسائل الالتجاء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم مخولاً المشرع بموجبها تقرير الوسائل الملائمة التى يعين بها المعوزين على صون حقوقهم وحرياتهم من خلال تأمين ضمانة الدفاع عنها ،
1- ضمانات حق الدفاع امام رجال السلطة
وهى بعد ضمانة لازمة كلما كان حضور المحامى فى ذاته ضرورياً كرادع لرجال السلطة العامة إذا ما عمدوا إلى مخالفة القانون مطمئنين إلى انتفاء الرقابة على أعمالهم أو غفوتها ، بما مؤداه أن ضمانة الدفاع لا تقتصر قيمتها العملية على مرحلة المحاكمة وحدها بل تمتد كذلك مظلتها وما يتصل بها من أوجه الحماية إلى المرحلة السابقة عليها التى يمكن أن تحدد نتيجتها المصير النهائى لمن قبض عليه او اعتقل وتجعل بعدئذ من محاكمته إطاراً شكلياً لا يرد عنه ضرراً ، وبوجه خاص كلما أقر بالخداع أو الإغواء بما يدينه ، أو تعرض لوسائل قسرية لحمله على الإدلاء بأقوال تناقض مصلحته ، بعد انتزاعه من محيطه وتقييد حريته على وجه أو آخر . وتوكيداً لهذا الاتجاه وفى إطاره ، خول الدستور فى المادة 71 منه كل من قبض عليه أو اعتقل حق الاتصال بغيره لإبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذى ينظمه القانون، بما يعنيه ذلك من ضمان حقه فى الحصول على المشورة القانونية التى يطلبها ممن يختاره من المحامين ، وهى مشورة لازمة توفر له سياجاً من الثقة والاطمئنان ، وتمده بالمعاونة الفعالة التى تقتضيها إزالة الشبهات العالقة به ومواجهة تبعات القيود التى فرضتها السلطة العامة على حريته الشخصية . والتى لا يجوز معها الفصل بينه وبين محاميه " بما يسئ إلى مركزه ، وذلك سواء أثناء التحقيق الابتدائى أو قبله وضمانة الدفاع هذه هى التى اعتبرها الدستور ركناً جوهرياً فى المحاكمة المنصفة التى تطلبها فى المادة 67 منه كإطار للفصل فى كل اتهام جنائى تقديراً بأن صون النظام الاجتماعى ينافيه أن تكون القواعد التى تقررها الدولة فى مجال الفصل فى هذا الاتهام مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، وانطلاقاً من ان إنكار ضمانة الدفاع أو فرض قيود تحد منها إنما يخل بالقواعد المبدئية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة ، والتى تعكس نظاماً متكامل الملامح يتوخى صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها
2- ضمانة الدفاع من أصل البراءة
كما ينال الإخلال بضمانة الدفاع من أصل البراءة ، ذلك أن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه يقترن دائماً من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر كذلك – ومن ناحية أخرى – وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع وتتمثل فى حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى قدمتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة ، والحق فى دحضها بأدلة النفى التى يقدمها ، وهو ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة وقررته النصوص الصريحة للتعديل السادس للدستور الأمريكى والمادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان . متى كان ذلك ، وكانت الفقرة الأولى من الماد 67 من الدستور التى افترض بموجبها براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تتوافر له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه ، تعكس الموازنة التى أجراها بين حق الفرد فى الحرية من ناحية وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى ، وكان المتهم بجناية غالباً ما يكون مضطرباً ، مهدداً بإدانته بارتكابها وبأن تفرض عليه عقوبة متناسبة مع خطورة الجريمة إذا أساء عرض دفاعه وأعوزته الحجة القانونية ، وهو ما يقع فى الأرجح إذا حرم من حقه فى الاتصال بمحاميه فى حرية وفى غير حضور أحد، أو افتقد المعاونة الفعالة التى يقدمها ، فقد حتم الدستور بنص الفقرة الثانية من المادة 67 أن يكون لكل متهم بجناية محام يدير دفاعه ويوجهه بما يصون حقوقه ويكفل من خلال الأدلة الواقعية والنصوص القانونية الحماية الواجبة لها سواء كان هذا المحامى منتدباً أو موكلاً . والحق أن دور ضمانة الدفاع فى تأمين حقوق الفرد وحرياته يبدو أكثر لزوماً فى مجال الاتهام الجنائى باعتبار أن الإدانة التى قد يؤول إليها قد تفصل من الناحية الواقعية بينه وبين الجماعة التى ينتمى إليها منهية – أحياناً آماله المشروعة فى الحياة ،
3- أن يكون حق النيابة العامة فى تقديم أدلة الاتهام موازناً بضمانة الدفاع التى يتكافأ بها مركز المتهم معها
ويتعين بالتالى أن يكون حق النيابة العامة فى تقديم أدلة الاتهام موازناً بضمانة الدفاع التى يتكافأ بها مركز المتهم معها فى إطار النظام الاختصامى للعدالة الجنائية كى يتمكن بوساطتها من مقارعة حجمها ودحض الأدلة المقدمة منها . ولقد غدا أمرا مقضياً أنه إذا كان حق الدفاع – فى هذا المجال – يعنى فى المقام الأول حق المتهم فى سماع أقواله ، فإن حق الدفاع يغدو سراباً بغير اشتماله على الحق فى سماعه عن طريق محاميه ، ذلك أن ما قد يبدو واضحاً فى الأذهان لرجال القانون، يكون شائكاً محاطاً بغلالة كثيفة من الغموض بالنسبة إلى غيرهم أياً كان حظهم من الثقافة وبوجه خاص إزاء الطبيعة المعقدة لبعض صور الاتهام وخفاء جوانبها المتعلقة بالقواعد التى تحكم الأدلة بما يعزز الاقتناع بأنه بغير معونة المحامى الذى يقيمه الشخص باختياره وكيلاً عنه إذا كان قادراً على الوفاء بأتعابه أو معونة من تندبه المحكمة له إذا كان معسراً ، فإنه قد يدان بناء على أدلة غير متعلقة بواقعة الاتهام أو غير جائز قبولها . وحيث إن النصوص التى أوردها الدستور فى شأن حق الدفاع على النحو السالف بيانه تتضافر جميعها فى توكيد أن هذا الحق ضمانة أساسية يوفر الدستور من خلالها الفعالية لأحكامه التى تحول دون الإخلال بحقوق الفرد وحرياته بغير الوسائل القانونية التى يقرها الدستور سواء فى جوانبها الموضوعية أو الإجرائية وهى بعد حماية تؤمن لكل مواطن حماية متكافئة أمام القانون وتعززها الأبعاد القانونية لحق التقاضى الذى قرر الدستور فى المادة 68 انصرافه إلى الناس كافة ، مسقطاً عوائقه وحواجزه على اختلافها ، وملقياً على الدولة بمقتضاه التزاماً أصيلاً بأن تكفل لكل متقاض نفاذاً ميسراً إلى محاكمها للحصول على الترضية القضائية التى يقتضيها رد العدوان على الحقوق التى يدعيها أو الإخلال بالحرية التى يمارسها ، وكان حق الدفاع – بالنظر إلى أبعاده وعلى ضوء الأهمية التى يمثلها فى بلورة الدور الاجتماعى للقضاء كحارس للحرية والحقوق على اختلافها انتقالاً بمبدأ الخضوع للقانون من مجالاته النظرية إلى تطبيقاته العملية – قد أضحى مستقراً كحقيقة مبدئية لا يمكن التفريط فيها ، مندرجاً فى إطار المبادئ الأساسية للحرية المنظمة ، واقعاً فى نطاق القيم التى غدا الإيمان بها راسخاً فى وجدان البشرية ،
4- ضمانة الدفاع لم تعد ترفاً يمكن التجاوز عنه
وكانت ضمانة الدفاع بالتالى لم تعد ترفاً يمكن التجاوز عنه ، فإن التعلق بأهدابها الشكلية دون تعمق لحقائقها الموضوعية يعتبر إنكاراً لمضمونها الحق مصادماً لمعنى العدالة منافياً لمتطلباتها ، ومن ثم لم يجز الدستور للسلطة التشريعية إهدار هذا الحق أو الانتقاص منه بما يعطل فعاليته أو يحد منها ، كاشفاً بذلك عن أن إنكار ضمانة الدفاع أو تقييدها بما يخرجها عن الأغراض المقصودة منها ، إنما يؤول فى أغلب صوره إلى إسقاط الضمانة التى كفلها الدستور لكل مواطن فى مجال الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى ، ويعرض حق الإنسان فى الحياة والحرية الشخصية والكرامة الواجبة لصون آدميته لمخاطر مترامية فى أبعادها عميقة فى آثارها ، وهو ما يعتبر هدماً للعدالة ذاتها بما يحول دون وقوفها سوية على قدميها ، سواء كان الإنكار أو التقييد منصرفاً إلى حق الدفاع بالأصالة – بما يقوم عليه من ضمان الحرية الكاملة لكل فرد فى أن يعرض وجهة نظره فى شأن الوقائع المنسوبة إليه وأن يبين حكم القانون بصددها – أم كان متعلقاً بالدفاع بالوكالة – حين يقيم الشخص باختياره محامياً يراه أقدر على تأمين المصالح التى يرمى إلى حمايتها ، على أساس من الخبرة والمعرفة القانونية والثقة . وحيث إن ضمانة الدفاع وإن كانت لا ترتبط لزوماً بمرحلة المحاكمة وحدها كما سلف القول ، إلا أن الخصومة القضائية تمثل مجالها الأكثر أهمية من الناحية العملية ، وما يحتم انسحابها إلى كل دعوى سواء كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية أم كان الاتهام الجنائى موضوعها . ولقد كان تقدير هذه المحكمة لحق الدفاع وإقرارها لأهميته واضحاً فى مجال تحديدها للشروط التى يتعين استجماعها لاعتبار العمل قضائياً ، وذلك بما جرى قضاؤها من أن القرار الذى يصدر عن جهة خولها المشرع ولاية الفصل فى نزاع معين ، لا يكون قراراً قضائياً إذا كانت ضمانة الدفاع غائبة عن النصوص القانونية التى تنظم هذه الولاية وتبين حدودها .
5- حق الشخص فى اختيار من يوليه ثقته من المحامين يغدو لازماً لفاعلية ضمانة الدفاع.
وحيث إنه وإن صح القول بأن المعسرين لا حق لهم فى اختيار محاميهم ، وإن حقوقهم فى مجال ضمانة الدفاع لا تجاوز الحق فى تمثيل ملائم يرعى مصالحهم ويرد غائلة العدوان عنها عن طريق من يندبون من المحامين لهذا الغرض ، فإن من الصحيح كذلك أن اختيار الشخص لمحام يكون قادراً على تحمل أتعابه ، إنما يتم فى إطار علاقة قانونية قوامها الثقة المتبادلة بين طرفيها ، ويتعين بالتالى أن يظل الحق فى هذا الاختيار محاطاً بالحماية التى كفلها الدستور لحق الدفاع كى يحصل من يلوذ بهذا الحق على المعونة التى يطلبها معتصماً فى بلوغها بمن يختاره من المحامين متوسماً فيه انه الأقدر – لعلمه وخبرته وتخصصه – على ترجيح كفته ، ذلك أنه فى نطاق علاقة تقوم على الثقة المتبادلة بين الشخص ومحاميه ، فإنه يكون مهيأ أكثر للقبول بالنتائج التى يسفر عنها الحكم فى دعواه ، فضلاً عن أن حدود هذه العلاقة توفر لمن كان طرفاً فيها من المحامين حرية إدارة الدفاع وتوجيهه الوجهة التى يقدر أنها الأفضل لخدمة مصالح موكله فى إطار أصول المهنة ومقتضياتها . وعلى ضوء هذه الوكالة القائمة على الاختيار الحر والتى يودع من خلالها الموكل بيد محاميه أدق أسراره وأعمق دخائله اطمئناناً منه لجانبه ، يتخذ المحامى قرارته حتى ما كان منها مؤثراً فى مصير موكله ، بل أن حدود هذه العلاقة تحمله على ان يكون أكثر يقظة وتحفزاً فى متابعته للخصومة القضائية وتعقبه لمسارها ومواجهته بالمثابرة لما يطرح أثناء نظرها مما يضر بمركز موكله فيها أو يهدده ، وبوجه خاص كلما كان الحكم بالإدانة أكثر احتمالاً أو كانت النتائج المحتملة للحكم فى النزاع بعيدة فى أثارها العملية والقانونية . وحيث إن ضمانة الدفاع قوامها تلك المعاونة الفعالة التى يقدمها المحامى لمن يقوم بتمثيله ، وهى ترتد على عقبيها إذا ما حمل الشخص على أن يختار محامياً أقل خبرة منحياً بذلك –————- فإن حق الشخص فى اختيار من يوليه ثقته من المحامين يغدو لازماً لفاعلية ضمانة الدفاع ، والانتقال بها إلى آفاق تعزز معاونة القضاء فى مجال النهوض بالرسالة التى يقوم عليها ، وتحقق لمهنة المحاماة ذاتها تقدماً لا ينتكس بأهدافها بل يثريها بدماء الخبرة والمعرفة وبغيرها قد يؤول أمر الدفاع – فى عديد من صوره – إلى النمطية العقيمة التى لا إبداع فيها، وإلى إفراغ متطلباته من محتواها . وحيث إنه إذ كان ما تقدم ، وكان الأصل فى الحقوق التى كفلها الدستور أنها لا تتمايز فيما بينها، ولا ينتظمها تدرج هرمى يجعل بعضها اقل شأناً من غيرها أو فى مرتبة أدنى منها ، بل تتكافأ فى ان لكل منها مجالاً حيوياً لا يجوز اقتحامه بالقيود التى تفرضها النصوص التشريعية ، وكان هذا المجال يتحدد بالنسبة إلى الحقوق التى نص عليها الدستور فى صلبه إلى ضوء طبيعة كل حق منها ، وبمراعاة الأغراض النهائية التى قصد الدستور إلى تحقيقها من وراء إقراره ، وفى إطار الرابطة الحتمية التى تقوم بين هذا الحق وغيره من الحقوق التى كفلها الدستور باعتباره مدخلاً إليها أو معززاً لها أو لا زماً لصونها ، وكان إنكار حق الشخص فى ان يختار من المحامين من يقدر تميزه فى الدفاع عن المصالح التى يتوخى تأمينها والذود عنها، لا يتمحض عن مصلحة مشروعة بل هو سعى إلى نقيضها ، باعتبار أن فعالية ضمانة الدفاع
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
إعمالا لحكم المحكمة الدستورية العليا فى القضية رقم 6 لسنة 13 قضائية "دستورية" الصادر بالجلسة العلنية المنعقدة 16 مايو سنة 1992 م .
أن الدستور نظم حق الدفاع محدداً بعض جوانبه مقرراً كفالته كضمانة مبدئية أولية لعدم الإخلال بالحرية الشخصية ولصون الحقوق والحريات جميعها سواء فى ذلك تلك التى نص عليها الدستور أو التى قررتها التشريعات المعمول بها ، فأورد فى شأن هذا الحق حكماً قاطعاً حين نص فى الفقرة الأولى من المادة 69 من الدستور على أن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول ، ثم خطا الدستور خطوة أبعد بإقراره الفقرة الثانية منها التى تنص على أن تكفل الدولة لغير القادرين مالياً وسائل الالتجاء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم مخولاً المشرع بموجبها تقرير الوسائل الملائمة التى يعين بها المعوزين على صون حقوقهم وحرياتهم من خلال تأمين ضمانة الدفاع عنها ،
1- ضمانات حق الدفاع امام رجال السلطة
وهى بعد ضمانة لازمة كلما كان حضور المحامى فى ذاته ضرورياً كرادع لرجال السلطة العامة إذا ما عمدوا إلى مخالفة القانون مطمئنين إلى انتفاء الرقابة على أعمالهم أو غفوتها ، بما مؤداه أن ضمانة الدفاع لا تقتصر قيمتها العملية على مرحلة المحاكمة وحدها بل تمتد كذلك مظلتها وما يتصل بها من أوجه الحماية إلى المرحلة السابقة عليها التى يمكن أن تحدد نتيجتها المصير النهائى لمن قبض عليه او اعتقل وتجعل بعدئذ من محاكمته إطاراً شكلياً لا يرد عنه ضرراً ، وبوجه خاص كلما أقر بالخداع أو الإغواء بما يدينه ، أو تعرض لوسائل قسرية لحمله على الإدلاء بأقوال تناقض مصلحته ، بعد انتزاعه من محيطه وتقييد حريته على وجه أو آخر . وتوكيداً لهذا الاتجاه وفى إطاره ، خول الدستور فى المادة 71 منه كل من قبض عليه أو اعتقل حق الاتصال بغيره لإبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذى ينظمه القانون، بما يعنيه ذلك من ضمان حقه فى الحصول على المشورة القانونية التى يطلبها ممن يختاره من المحامين ، وهى مشورة لازمة توفر له سياجاً من الثقة والاطمئنان ، وتمده بالمعاونة الفعالة التى تقتضيها إزالة الشبهات العالقة به ومواجهة تبعات القيود التى فرضتها السلطة العامة على حريته الشخصية . والتى لا يجوز معها الفصل بينه وبين محاميه " بما يسئ إلى مركزه ، وذلك سواء أثناء التحقيق الابتدائى أو قبله وضمانة الدفاع هذه هى التى اعتبرها الدستور ركناً جوهرياً فى المحاكمة المنصفة التى تطلبها فى المادة 67 منه كإطار للفصل فى كل اتهام جنائى تقديراً بأن صون النظام الاجتماعى ينافيه أن تكون القواعد التى تقررها الدولة فى مجال الفصل فى هذا الاتهام مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، وانطلاقاً من ان إنكار ضمانة الدفاع أو فرض قيود تحد منها إنما يخل بالقواعد المبدئية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة ، والتى تعكس نظاماً متكامل الملامح يتوخى صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها
2- ضمانة الدفاع من أصل البراءة
كما ينال الإخلال بضمانة الدفاع من أصل البراءة ، ذلك أن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه يقترن دائماً من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر كذلك – ومن ناحية أخرى – وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع وتتمثل فى حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى قدمتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة ، والحق فى دحضها بأدلة النفى التى يقدمها ، وهو ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة وقررته النصوص الصريحة للتعديل السادس للدستور الأمريكى والمادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان . متى كان ذلك ، وكانت الفقرة الأولى من الماد 67 من الدستور التى افترض بموجبها براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تتوافر له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه ، تعكس الموازنة التى أجراها بين حق الفرد فى الحرية من ناحية وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى ، وكان المتهم بجناية غالباً ما يكون مضطرباً ، مهدداً بإدانته بارتكابها وبأن تفرض عليه عقوبة متناسبة مع خطورة الجريمة إذا أساء عرض دفاعه وأعوزته الحجة القانونية ، وهو ما يقع فى الأرجح إذا حرم من حقه فى الاتصال بمحاميه فى حرية وفى غير حضور أحد، أو افتقد المعاونة الفعالة التى يقدمها ، فقد حتم الدستور بنص الفقرة الثانية من المادة 67 أن يكون لكل متهم بجناية محام يدير دفاعه ويوجهه بما يصون حقوقه ويكفل من خلال الأدلة الواقعية والنصوص القانونية الحماية الواجبة لها سواء كان هذا المحامى منتدباً أو موكلاً . والحق أن دور ضمانة الدفاع فى تأمين حقوق الفرد وحرياته يبدو أكثر لزوماً فى مجال الاتهام الجنائى باعتبار أن الإدانة التى قد يؤول إليها قد تفصل من الناحية الواقعية بينه وبين الجماعة التى ينتمى إليها منهية – أحياناً آماله المشروعة فى الحياة ،
3- أن يكون حق النيابة العامة فى تقديم أدلة الاتهام موازناً بضمانة الدفاع التى يتكافأ بها مركز المتهم معها
ويتعين بالتالى أن يكون حق النيابة العامة فى تقديم أدلة الاتهام موازناً بضمانة الدفاع التى يتكافأ بها مركز المتهم معها فى إطار النظام الاختصامى للعدالة الجنائية كى يتمكن بوساطتها من مقارعة حجمها ودحض الأدلة المقدمة منها . ولقد غدا أمرا مقضياً أنه إذا كان حق الدفاع – فى هذا المجال – يعنى فى المقام الأول حق المتهم فى سماع أقواله ، فإن حق الدفاع يغدو سراباً بغير اشتماله على الحق فى سماعه عن طريق محاميه ، ذلك أن ما قد يبدو واضحاً فى الأذهان لرجال القانون، يكون شائكاً محاطاً بغلالة كثيفة من الغموض بالنسبة إلى غيرهم أياً كان حظهم من الثقافة وبوجه خاص إزاء الطبيعة المعقدة لبعض صور الاتهام وخفاء جوانبها المتعلقة بالقواعد التى تحكم الأدلة بما يعزز الاقتناع بأنه بغير معونة المحامى الذى يقيمه الشخص باختياره وكيلاً عنه إذا كان قادراً على الوفاء بأتعابه أو معونة من تندبه المحكمة له إذا كان معسراً ، فإنه قد يدان بناء على أدلة غير متعلقة بواقعة الاتهام أو غير جائز قبولها . وحيث إن النصوص التى أوردها الدستور فى شأن حق الدفاع على النحو السالف بيانه تتضافر جميعها فى توكيد أن هذا الحق ضمانة أساسية يوفر الدستور من خلالها الفعالية لأحكامه التى تحول دون الإخلال بحقوق الفرد وحرياته بغير الوسائل القانونية التى يقرها الدستور سواء فى جوانبها الموضوعية أو الإجرائية وهى بعد حماية تؤمن لكل مواطن حماية متكافئة أمام القانون وتعززها الأبعاد القانونية لحق التقاضى الذى قرر الدستور فى المادة 68 انصرافه إلى الناس كافة ، مسقطاً عوائقه وحواجزه على اختلافها ، وملقياً على الدولة بمقتضاه التزاماً أصيلاً بأن تكفل لكل متقاض نفاذاً ميسراً إلى محاكمها للحصول على الترضية القضائية التى يقتضيها رد العدوان على الحقوق التى يدعيها أو الإخلال بالحرية التى يمارسها ، وكان حق الدفاع – بالنظر إلى أبعاده وعلى ضوء الأهمية التى يمثلها فى بلورة الدور الاجتماعى للقضاء كحارس للحرية والحقوق على اختلافها انتقالاً بمبدأ الخضوع للقانون من مجالاته النظرية إلى تطبيقاته العملية – قد أضحى مستقراً كحقيقة مبدئية لا يمكن التفريط فيها ، مندرجاً فى إطار المبادئ الأساسية للحرية المنظمة ، واقعاً فى نطاق القيم التى غدا الإيمان بها راسخاً فى وجدان البشرية ،
4- ضمانة الدفاع لم تعد ترفاً يمكن التجاوز عنه
وكانت ضمانة الدفاع بالتالى لم تعد ترفاً يمكن التجاوز عنه ، فإن التعلق بأهدابها الشكلية دون تعمق لحقائقها الموضوعية يعتبر إنكاراً لمضمونها الحق مصادماً لمعنى العدالة منافياً لمتطلباتها ، ومن ثم لم يجز الدستور للسلطة التشريعية إهدار هذا الحق أو الانتقاص منه بما يعطل فعاليته أو يحد منها ، كاشفاً بذلك عن أن إنكار ضمانة الدفاع أو تقييدها بما يخرجها عن الأغراض المقصودة منها ، إنما يؤول فى أغلب صوره إلى إسقاط الضمانة التى كفلها الدستور لكل مواطن فى مجال الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى ، ويعرض حق الإنسان فى الحياة والحرية الشخصية والكرامة الواجبة لصون آدميته لمخاطر مترامية فى أبعادها عميقة فى آثارها ، وهو ما يعتبر هدماً للعدالة ذاتها بما يحول دون وقوفها سوية على قدميها ، سواء كان الإنكار أو التقييد منصرفاً إلى حق الدفاع بالأصالة – بما يقوم عليه من ضمان الحرية الكاملة لكل فرد فى أن يعرض وجهة نظره فى شأن الوقائع المنسوبة إليه وأن يبين حكم القانون بصددها – أم كان متعلقاً بالدفاع بالوكالة – حين يقيم الشخص باختياره محامياً يراه أقدر على تأمين المصالح التى يرمى إلى حمايتها ، على أساس من الخبرة والمعرفة القانونية والثقة . وحيث إن ضمانة الدفاع وإن كانت لا ترتبط لزوماً بمرحلة المحاكمة وحدها كما سلف القول ، إلا أن الخصومة القضائية تمثل مجالها الأكثر أهمية من الناحية العملية ، وما يحتم انسحابها إلى كل دعوى سواء كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية أم كان الاتهام الجنائى موضوعها . ولقد كان تقدير هذه المحكمة لحق الدفاع وإقرارها لأهميته واضحاً فى مجال تحديدها للشروط التى يتعين استجماعها لاعتبار العمل قضائياً ، وذلك بما جرى قضاؤها من أن القرار الذى يصدر عن جهة خولها المشرع ولاية الفصل فى نزاع معين ، لا يكون قراراً قضائياً إذا كانت ضمانة الدفاع غائبة عن النصوص القانونية التى تنظم هذه الولاية وتبين حدودها .
5- حق الشخص فى اختيار من يوليه ثقته من المحامين يغدو لازماً لفاعلية ضمانة الدفاع.
وحيث إنه وإن صح القول بأن المعسرين لا حق لهم فى اختيار محاميهم ، وإن حقوقهم فى مجال ضمانة الدفاع لا تجاوز الحق فى تمثيل ملائم يرعى مصالحهم ويرد غائلة العدوان عنها عن طريق من يندبون من المحامين لهذا الغرض ، فإن من الصحيح كذلك أن اختيار الشخص لمحام يكون قادراً على تحمل أتعابه ، إنما يتم فى إطار علاقة قانونية قوامها الثقة المتبادلة بين طرفيها ، ويتعين بالتالى أن يظل الحق فى هذا الاختيار محاطاً بالحماية التى كفلها الدستور لحق الدفاع كى يحصل من يلوذ بهذا الحق على المعونة التى يطلبها معتصماً فى بلوغها بمن يختاره من المحامين متوسماً فيه انه الأقدر – لعلمه وخبرته وتخصصه – على ترجيح كفته ، ذلك أنه فى نطاق علاقة تقوم على الثقة المتبادلة بين الشخص ومحاميه ، فإنه يكون مهيأ أكثر للقبول بالنتائج التى يسفر عنها الحكم فى دعواه ، فضلاً عن أن حدود هذه العلاقة توفر لمن كان طرفاً فيها من المحامين حرية إدارة الدفاع وتوجيهه الوجهة التى يقدر أنها الأفضل لخدمة مصالح موكله فى إطار أصول المهنة ومقتضياتها . وعلى ضوء هذه الوكالة القائمة على الاختيار الحر والتى يودع من خلالها الموكل بيد محاميه أدق أسراره وأعمق دخائله اطمئناناً منه لجانبه ، يتخذ المحامى قرارته حتى ما كان منها مؤثراً فى مصير موكله ، بل أن حدود هذه العلاقة تحمله على ان يكون أكثر يقظة وتحفزاً فى متابعته للخصومة القضائية وتعقبه لمسارها ومواجهته بالمثابرة لما يطرح أثناء نظرها مما يضر بمركز موكله فيها أو يهدده ، وبوجه خاص كلما كان الحكم بالإدانة أكثر احتمالاً أو كانت النتائج المحتملة للحكم فى النزاع بعيدة فى أثارها العملية والقانونية . وحيث إن ضمانة الدفاع قوامها تلك المعاونة الفعالة التى يقدمها المحامى لمن يقوم بتمثيله ، وهى ترتد على عقبيها إذا ما حمل الشخص على أن يختار محامياً أقل خبرة منحياً بذلك –————- فإن حق الشخص فى اختيار من يوليه ثقته من المحامين يغدو لازماً لفاعلية ضمانة الدفاع ، والانتقال بها إلى آفاق تعزز معاونة القضاء فى مجال النهوض بالرسالة التى يقوم عليها ، وتحقق لمهنة المحاماة ذاتها تقدماً لا ينتكس بأهدافها بل يثريها بدماء الخبرة والمعرفة وبغيرها قد يؤول أمر الدفاع – فى عديد من صوره – إلى النمطية العقيمة التى لا إبداع فيها، وإلى إفراغ متطلباته من محتواها . وحيث إنه إذ كان ما تقدم ، وكان الأصل فى الحقوق التى كفلها الدستور أنها لا تتمايز فيما بينها، ولا ينتظمها تدرج هرمى يجعل بعضها اقل شأناً من غيرها أو فى مرتبة أدنى منها ، بل تتكافأ فى ان لكل منها مجالاً حيوياً لا يجوز اقتحامه بالقيود التى تفرضها النصوص التشريعية ، وكان هذا المجال يتحدد بالنسبة إلى الحقوق التى نص عليها الدستور فى صلبه إلى ضوء طبيعة كل حق منها ، وبمراعاة الأغراض النهائية التى قصد الدستور إلى تحقيقها من وراء إقراره ، وفى إطار الرابطة الحتمية التى تقوم بين هذا الحق وغيره من الحقوق التى كفلها الدستور باعتباره مدخلاً إليها أو معززاً لها أو لا زماً لصونها ، وكان إنكار حق الشخص فى ان يختار من المحامين من يقدر تميزه فى الدفاع عن المصالح التى يتوخى تأمينها والذود عنها، لا يتمحض عن مصلحة مشروعة بل هو سعى إلى نقيضها ، باعتبار أن فعالية ضمانة الدفاع
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق