بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

24 يوليو 2011

مذكرة فى معاملة السجون

اقرارات سجون التضييق باطلة في كل قانون عادل، فضلا عن قانون الشريعة،

ونطالبكم بزيارة مكان توقيفنا في مركز شرطة ..........،أو تكليف لجنة لتقصي الحقائق،

لتجدوا أن تحقيقات المباحث وهيئة الادعاء والتحقيق معيبة في قانون الشريعة، وأن من أجراها ومن اعتد بها قد انتهك حقوق الإنسان الشرعية

بسم الله الرحمن الرحيم

صاحب الفضيلة القاضي بالمحكمة الجزئية ...

...................وفقنا الله وإياكم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نشير إلى الجلسة الثانية من جلسات محاكمتنا يوم السبت ‏03‏/09‏/1428(‏15‏/09‏/2007)، واعتراضنا على التحقيق الذي أجرته هيئة الادعاء والتحقيق،وادعائنا بانه معيب شرعا، وهذه مذكرة ببيان الأسباب.

أ=الكرامة هبة الرحمان حق لكل إنسان

1=الكرامة أصل تطبيق الشريعة وأين حفظ الأمن:

بداية الاعتقال، وضع الجندي في أيدينا (الكلبشات) الأغلال، واتجه الجيب بسرعة عالية مع طريق الخضر إلى السالمية وفيه خمسة مطبات وسارت بنا الجيب، بين المنعطفات والرمال، ونحن نتمايل كالورقة في مهب الريح، حتى تمزقت أوصالنا الرخوة ، فهمس أحدنا للسائق:إرفق الله يهديك تراي شايب فالتفت السائق اليه وقال بصوت قوي (كل زق).

هل كانت كلمة الجندي أصدق وصف ينطبق على مستوى النظافة، في كثير من مراكز الشرطة،كـ (مركز شرطة بريدة الجنوبي).

لقد صان الإسلام جسد الإنسان وعقله ووجدانه،كما نص القرآن" ولقد كرمنا بني آدم" فحرم تعذيب الجسد والاعتداء على البدن من جرح أو ضرب أو سجن ، أو جلد، وحرم تعذيب النفس بسجن أو سب أو شتم أو تخويف أو سوء ظن أو قذف، قال صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (متفق عليه).

وقرر جملة من الأحكام والعقوبات التي تكفل حماية الإنسان من كل ضرر أو اعتداء يقع عليه ، ليتسنى له إن يمارس حقه الشخصي وحرية التصرف في شئونه دون إعاقة أو ضرر ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم الضرب والجلد " من جلد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان " ( رواه الطبراني في الأوسط ) وقال " ظهر المسلم حِمى إلا بحقه " ( رواه البخاري) .

ولا يقتصر ذلك على المسلمين ، بل يشمل غير المسلمين فقد مر الصحابي هشام بن حيكم على أناس من الأنباط أقيموا بالشمس وصب على رؤسهم الزيت ، فقال : ما هذا؟ فقيل : يعذبون في الخراج فقال : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يضرب الذين يعذبون الناس في الدنيا " ثم دخل على الأمير فحدثه ، فأمر بهم فحلوا.

حرم الإسلام القدح في عرض المسلم ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " ونهى عن الغيبة والنميمة ، وشرع القصاص في الأعراض كما قال ابن تيمية ( السياسة 80) " القصاص في الأعراض مشروع أيضا ، وهو أن الرجل إذا لعن رجلاً ، أو دعي عليه ، فله أن يفعل به كذلك ، وشرع القصاص في القذف وما دونه".

لقد أقرت الشريعة المطهرة هذه الحقوق قبل أربعة عشر قرنا، من ميثاق حقوق الإنسان عندما قال " لا يجوز ان يعرض احد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو بحملات على شرفه وسمعته ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات" (المادة : 12).

لقد حمى الإسلام كرامة الإنسان من الاهانة والإذلال فقال تعالى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " فلا خير في الذليل المهين ، لأنه لن يصلح لحمل رسالة الإسلام إلا الأحرار الأعزة الكرام ، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لا تضربوا المسلمين فتذلوهم". إن العقيدة الإسلامية توجب على المسلم إن يكون عزيزاً كريماً ، وتوصي الإنسان بالتمرد على كل ذل واستعباد ، لأن عبوديته لله ، تشده إلى الله فلا يرى عظيما غير الله ، ولا يرى مخوفاً غير الله، ولا يرى مرجواً غير الله ، وأي دولة تذل الإنسان المسلم ، وتعوده على الخضوع والركوع والطاعة العمياء، فقد حرمته شيئاً أغلي من المال والطعام والشراب، إنه الكرامة والعزة " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون"(انظر د/عبد الكريم زيدان: قيمة الفرد في الإسلام) .

الناس في الشريعة أحرار مكرمون، وكرامتهم ثابتة بأصل الخلقة الإنسانية، مؤمنهم وكافرهم،فالله هو الذي وهبهم الكرامة، وما وهبه الله لا يجوز للدولة انتقاصه، فضلا عن إلغائه، لأن الدولة إنما غايتها حفظ الحقوق، لا العدوان عليها، وهذا المبدأ مهم جدا، لكي لايقول بعض الفقهاء الخادعين والمخدوعين والغافلين: ينبغي الصبر على الحاكم الظالم، تضحية بالعدل من أجل الأمن، فكل أمن يقوم على انتهاك الكرامة، فإنما هو ظلم مبين، وهو من صفات الطاغوت، كما قرر القرآن الكريم، في قصة موسى وفرعون، في مطلع سورة طه"إن فرعون علا في الأرض..

ولكي يتبين أن الكرامة صنو الحياة، ينبغي أن نتذكر أن جهاد العدوان الخارجي بالحسام، وأن جهاد الظلم داخل الدولة بالكلام والسلام، كلاهما فرض عين على الأنام، بيد أن الظلم قد لا يقتل كل الناس، ولكنه يقتل الكرامة والشرف وعزة النفوس، كما قالت بلقيس"وجعلوا أعزة أهلها أذلة"، وهذا شر من القتل، لأن الكرامة صنو الحياة.

2= الحبس للتعويق ومن جعله تضييقا فقد تفرعن:

وبناء على هذه قاعدة الكرامة، صار الحبس في الإسلام هو " تعويق الشخص ومنعه عن التصرف بنفسه، كما قال ابن القيم "الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق ، إنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه ، سواء كان في بيت أو مسجد أو بتوكيل الخصم أو وكيله وبملازمته له".

ونص العلماء على أن يكون الحبس واسعاً ، وأن ينفق على من في السجناء من بيت المال، وأن يعطي كل واحد منهم كفايته من الطعام واللباس، بل إن الإسلام اوجب ذلك للحيوانات بله الانسان. كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه " عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض " .

وأن كونه عقوبة يقتضي أنه لا يجوز أن يسجن المتهم للاستظهار، إلا عندما تكون البينات والقرائن ضده قوية، فعند ذلك يجوز سجنه أمدا قصيرا، ليتبين أمره، لا شهورا طولا، فضلا عن السنين،وقد سبق الإسلام إلى تقرير هذه القاعدة العظيمة دول الغرب الدستورية، ووضع الفقهاء شروطا للسجن سواء أكان سجن استظهار، أم سجن عقوبة، وحددوا ضوابط تكفل كرامة الإنسان،قبل دول الغرب الدستورية أيضا.

ومفهوم السجن عند الفقهاء هو (تعويق الإنسان)، ومنعه من التصرف بنفسه وتحديد حريته، سواءًا أكان ذلك بوضع الإنسان تحت المراقبة أم بإلزامه بالبقاء في مكان محدد، سواء أكان ذلك المحبس مسجداً أم بيتا، أم ملازمة للشخص ومتابعة.

ولذلك نبه ابن القيم إلى هذا المفهوم الذي ظل بعيداً عن التطبيق عند بعض المسلمين، إذ إن مفهوم السجن صار أحيانا تكبيل الشخص بالأغلال والقيود، ورميه في مكان مظلم لا شمس فيه ولا هواء وحيداً مفرداً كالأجرب، في غرفة منعزلة عن العالم، ليكون نهباً لأمراض النفس والجسد والعقل. فقال ((الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق)).



2=العدالة معنى كلي لا تقع بالتبعيض:

كيف نختصر الكلام، عندما نحاول الربط بين أجزاء الصورة المتناثرة، لأن العدالة والحق والفضيلة، لها معنى كلي، ولتحقيقها لا بد من أسلوب منهجي، بدلا من الترقيع والتبعيض، وهذا هو مفهوم تطبيق الشريعة والنظام، إذا لم يكن ثمة ترابط وانسجام، صرنا إلى الظلم باسم الشريعة والنظام.

القاضي يصل إليه المتهمون وقد وقعوا وبصموا في السجن، فيصادق على إقراراتهم ، لم يسأل نفسه: كيف حصل الإقرار؟، هل أنا أنفذ الشريعة، أم أخل بها؟.

الجندي يصل إليه شخص مقيد بالأصفاد، ينزله من السيارة، ولا يسأل ماجرمه؟ هل هوخطير أم عادي؟، هل اتهم بإحراق حي، فيضع في رجليه القيود، ولا يبالي حتى لو مات متهم بشرب علبة لبن بريالين من دكان، في المستشفى، وبيديه القيود، كما قيل عن الشمري، الذي مات في مركز سجن بريدة الجنوبي، ولا أحد يستطيع الكلام، لأن من تكلم صار متهما، حتى يثبت ماقال.

القاضي مرة أخرى قد يصدر حكما على المتهم، بناء على اعترافات معيبة، أحكام قاسية بسنين طويلة، لم يسأل نفسه: لماذا صار فلان ابن جارنا مدمنا للمخدرات؟، وآخر عهدنا به قبل دخول السجن المرة الأولى، بعيدا عن ذلك، كيف وقع في المخدرات، هل استدرج؟، هل أوقع في فخ، لا يهم: حكمت المحكمة الشرعية على متعاطي المخدرات، بالسجن ثمان سنوت، ليكون مصير أفراد أسرته الشتات والفقر والإهمال، وتتعرض زوجته وأطفاله للانحراف والكآبة والأمراض النفسية.

الجندي مرة أخرى ينفذ تعليمات القضاء الشرعي، ولا بأس لو تحول المجرم البسيط إلى مركب، وصار خريج السجون مدمنا منحرفا مريضا نفسيا، فإن ذنبه على القضاة القساة.

ترى هل سأل أحد القضاة القساة نفسه يوما ما: لماذا لا أزور الذين حكمت عليهم بالسجن، مددا طويلة، وأتأكد بنفسي: هل أسهمت في إصلاحهم، أم زدتهم انحرافا؟.

هل تصور أحد القضاة يوما ما أن ابنه أو قريبه، قد يخطئ أو يخدع، ويستدرج و يمكن أن يساق إلى هذا المكان، فيحوله التعذيب، إلى مجرم خطير متمرس، أو إلى هاوية الانتحار أو الجنون، هذا الشعور سيطر علينا حتى أرقنا: لو وقع ابني في هذه الشبكة، ماذا ستكون التنيجة؟، هل ستكون الاغتصاب هل ستكون الانحراف؟ هل ستكون إدمان المخدرات. استر يا ستار. يارب أين بعض القضاة القساة، الذين يحكمون بالسنين الطويلة، وهم لا يدرون ماذا تنتج، وهكذا كل مسئول يطبق العدالة، من خلال نظرة جزئية، من دون نظرة كلية، والنتيجة هي أن العلاج يفاقم الأمراض، ولسان حاله، كما قال الشاعر:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء



ب:الوسائل السائدة للحصول على الإقرارات:

1= الزنازين الضيقة :

قادونا إلى زنزانتين ضيقتين، ونحن نعرف ضيق الزنازين في ... و....، أما زنازين ....فنوع جديد يمتاز بالقذارة الحسية.

فقد كان صنبور الماء مكسورا، وقد سد بسيخ حديد ملفوف بخرقة متسخة، فمن أراد أن يقضي الحاجة أو أن يتوضأ، يحتاج إلى بذل جهد جهيد، لفتحه أو إغلاقه، وكان طفح مياه المرحاض، بالقاذورات.ومن الغريب أن تكون هاتان الزنزانتان ، اللتان بهذا الشكل، خير ما لديهم-كما قال الخفير، وكانت الحشرات ولا سيما الصراصير، تعمر المكان، فضلا عن الحشرات الصغيرة.

لقد جرت العادة المتبعة، أن يقبع السجين شهورا من أجل استظهار أحواله، وخلالها يكتب اعترافا وإقرارا، بما اتهم به، إذ لا يمكن أن تخطئ أجهزة الأمن أمام رؤسائها، ويصدق صعلوك مسكين مهين، وهذه أنواع من الفنون التي تجبر السجين استظهارا على الاعتراف بما يتوهمون، وعلى اعتبارا أن ما مافعله-ولو كان مشروعا في الدين-جريمة في حق ولي الأمر، مع أنها وفاء من الناصح للإمام، وتعزيز لشروط البيعة على الكتاب والسنة.

مفهوم (التعويق) لا يجيز أن تكون الزنازين ضيقة ، كجحور الضبان قانون الإسلام: السجن إنما هو (التعويق)، وليس معناه (التضيق) على الإنسان في زنزانة لا يكاد الإنسان يتقلب فيها. ويجب أن يكون فيها فسحة للنظافة وقضاء الحاجة للوضوء، وأخرى للحركة والمشي، والنوم، لأنه بقاء الإنسان من دون حركة ضار بجسده وروحه، يجب أن تلتزم الدولة بإنشاء زنازين تدخلها الشمس والهواء، وأن تكون مكيفة، فلا تكون حامية في القيظ، ولا قارسة في الشتّاء.

وقد شاع في بعض السجون ، إفراد بعض المساجين في زنازين صغار، لا تتجاوز مساحتها المربعة أربعة أمتار، حيث يأكل الإنسان في جانب، ويتبول ويتبرز ويغتسل في جانب، وينام في الجزء الثالث،كما هو حالنا.

وهو في هذا المكان مفرد كالبعير الأجرب، لا يقربه أحد، ولا يكلمه أحد، والله يقول "ولقد كرمنا بني آدم" وتكريم ابن آدم ثابت للمسلم والكافر، والمجرم والبريء، وهو ثابت للمتهمين من أهل الرأي والعلم، ، كما أنه ثابت أيضا للمتهمين بالتهريب والتخريب والجاسوسية، لأن العقوبات والتعزيرات محددة معروفة، ولا ريب أن الإنسان السوي، وهو اجتماعي بالطبع، كما ذكر ابن خلدون، لا يستطيع أن يعيش منفرداً، لا يأنس بأحد، ولا يكلم أحداً.

كيف يوضع المتهم في السجن الانفرادي، حتى ينتهي التحقيق والاستظهار، حيث لا يسمح له بأن يقرأ كتاباً، أو أن يسمع أخباراً؟ وذلك من أساليب الضغط على الإرادة، لإجبار المتهم على الاعتراف، وقد يستمر التحقيق معه ستة شهور وأكثر.

والذين جربوا السجن الانفرادي يدركون أنه أشد أذى على الإنسان من الضرب، ولأن يضرب الإنسان كل يوم عشرين سوطا؛ أسهل عله من أن يقيم يوما في زنزانة انفرادية.

وذلك لإنها تؤدي إلى الهستريا المؤقتة، وقد تضع السجين على حافة الانهيار العصبي، وقد يتعرض السجين فيها لنوبات من فقدان الوعي، فضلا عن أنه يسلب الرضا والاختيار عند الإقرار، وهي أسلوب من أساليب تطويع الإرادة، لأن الإنسان الذي يخشى على عقله، ومن ثم على دينه وخلقه، مستعد للاعتراف والشهادة بأي شيء يطلب منه.



2= السجن الانفرادي الذي يعرض لعلل النفس والعقل والجسد :

قد لا يعلم كثير من الناس و سيما القضاة، الذين يصادقون على اعترافات المساجين، أنها كلها تنتزع بالسجن الانفرادي، ولا يدركون أن السجن المنفرد يسبب للإنسان العادي متاعب نفسية، تصل إلى الجنون، ولا يكاد يصبر عليه إلا النادر من الناس، لأنه يتجاوز (التعويق) عن الحركة إلى (التضييق) على النفس والجسد والعقل. وفوق هذا وذاك يجبر المساجين على التوقيع على ختام اعترافاته بعبارة تنص على أنه وقع هذا الإقرار، وهو بكامل قواه العقلية والجسدية والنفسية، وأنه غير مكره على ذلك، وهذه عبارة بحد ذاتها تدل على فظاعة الإكراه والقسر

3=السجن الجماعي عدد كبير في غرفة صغيرة:

والسجن الجماعي أرأف بالسجين، ولكنه أيضا ينطوي على تعذيب ظاهر، حين يجمع في زنزانة صغيرة، عدد كثير من السجناء، تضيق بهم حتى يرى بعضهم عورة بعض، وتجدهم فيها مصطفين كأعواد علبة كبريت، بل ربما وجدت أرجل بعضهم، فوق رؤوس بعض، وقد تمددوا كأنهم تكعيبة عريشة العنب، مع أن الأصل في الزنازين الجماعية، أن يخصص لكل فرد منهم ما لا يقل عن ستة أمتار مربعة.

وشر من ذلك أن يجمع في سجون الاستظهار بين متهمين بتهم شتى، وذوى أعمار شتى، -كما في سجننا-ففي غرفة السجن وهي في حدود 8+8 امتار وجدنا مابين 15و 20 شخصا، وفيه شباب مراهقون، وكبار فوق الخمسين، وسعوديون وأجانب،وقيل لنا إن منهم المتهم بالشعوذة وبالاختطاف وبالنشل وباللواط والمخدرات.

فكيف يجمع هؤلاء الأشتات، وثمة خطورة مؤكدة على الأحداث منهم.

وفي هذه الغرفة لا صابون ولا مناديل ورقية، وفيها ثلاثة مراحيض، اثنان منها مسدودان، والآخر يفوح منه النتن ويفيض.

وأرينا أحد قضاة الهيئة المشهد، لكي لانتهم بالكذب عندما نروي مآسي السجون.

وعندما رأى قاضي التحقيق مانحن فيه من قذارة المكان والتضييق،

أمر باخرجنا إلى غرفة(مناوبين قسم الشرطة)التي يظن المدعي أمامكم بأنها غرف خمسة نجوم!، وهي غرفة لا يكاد يبارح العسكر الجلوس معنا، غير أنها لم تدم إذ سرعان ما نقلونا إلى انفرادي القذارة والحشرات.

4=الفرش المتسخة والغرف غير الصحية:

كانت الفرش على مستوى من القذارة لاتصدق ولا تطاق، وكان النتن والعث يتفاوح منها، وكان لونها قاتما، من الوسخ والقاذورات، وكانت جدرانها قذرة جدا، وكان الهواء ضحلا عفنا، لم تجر العادة بتشميس من فيها، كان الإنسان يذوي شيئا فشيئا، حتي يصفر لونه ويبهت، وتتحطم نفسيته، ويصبح جاهزا للإغواء والاحتواء, وهناك قصص تحتاج إلى تثبت عن كل ما يخطر على البال من الانحرافات.

وفي سجون المباحث و لاسيما في مرحلة الاستظهار، يخلع السجين ملابسه ويلبس ملابس زرقاء أو بيضاء قصيرة منكرة، كثياب الجزارين والخبازين، ويخلع حذاءه ويعطى (شبشبا تافهاً، ويمشي حاسر الرأس) وتنزع منه ساعته، فلا يعرف الأوقات، بل إن المسواك، وهو مطهرة للفم،مرضاة للرب ينزع من فم المتهم، وكذلك تسحب سجادة الصلاة كما فعل مع بعض معتقلي الدستور الإسلامي التسعة في جدة، فهل في الإسلام ما يسمح، بهذه الأمور المهينة للكرامة.



5= التقصير في الرعاية الغذائية والصحية:

لقد أمر الإسلام برعاية الأسير حتى لو كان كافرا محاربا، لأن هذا حق إنساني، فضلا عن الأسير المسلم، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن السجين بالأسير، لأنه السجن في الإسلام إنما وظيفته (التعويق)، فكيف أصاروا وظيفته (التضييق)، (التعويق) هو منع الشخص من التصرف بنفسه، وذلك لا يلغي حقوقه الأخرى، ومنها الرعاية الغذائية، فمن حق الإنسان أن يحصل على رعاية غذائية وصحية تامة ومن حقه أن تتوافر له رعاية طبية تامة، و لاسيما أن السجناء يعانون من بعض الأمراض التي تستفحل أو تنشأ، بسبب الآلام النفسية، أو قلة الحركة، وقلة الشمس والهواء، كالسكري وأمراض الأسنان والقلب وأمراض المعدة.

وهذا غيض من فيض مارأيناه وعشناه؛ كانت الزنازين (في مركز ..... أقل سوءا، عندما نقلنا إلى زنازين انفرادية والصراصير تسرح فيها. الصراصير والحشرات والقذارة قاسم مشترك.

بعد نقلناإلى مركز شرطة .....، وقت الظهيرة لم يصرف لنا وجبة غداء، مع كثرة طلبنا للوجبة رغم معاناة أحدنا من مرض السكر.

فقد جاء عامل النظافة (أو الطعام) بوجبة الفطور وطفق يغرف من القدر بيديه القذرتين، ولا بد للجائع من الأكل، ولو كان التقيؤ عقباه. وطلبنا شايا، فرفض إحضاره، لولا بعض العبارات التي نفخت فيه معاني إنقاذ الأسير والمسكين، فرق قلبه فجاء بعلبة زبادي’ندى’ومسحها ببنطاله فصب لأحدنا شايا. وطلبنا منه ماءا فقال(//////)يقصد احد قوارير الصحة الفارغة فوجدناها مملؤة ببول أحد المساجين،فطلبنا من الخفير الماء فقال عطني قارورة الصحة أعبئها فلم أجد فنادى للسجين الذي في جواري(إبراهيم عطني قارورة).

كانت درجة الحرارة تصل إلى45 ولاتكييف أو مراوح شفط أومراوح معلقة، كان الماء يتصبب من الجسم كتسرب ماء القربة، ننام هنيهة ونصحو هنيهة، بسبب تسرب العرق فنغتسل،ثم نعود للنوم مرة أخرى، وهكذا دواليك، كل ساعة أو ساعتين.

ثارت الخواطر في الضمائر: ياترى كل هؤلاء المسجونين من الفتيان استظهارا؛ يعانون هذا البلاء، والقضاة يصادقون على إقراراتهم، على أنها شرعية،وبعض من القضاة قساة، لا يدرون ما السجون، فيحكمون أحكاما قاسية، لكي يكون السجن معبر الانتحار والتشرد والجنون ويسمون ذلك تطبيقا للشريعة. مع أن الشريعة ليس فيها من الحدود سجن ، بل هو من الوسائل، التي جدت بعد عصر النبوة وهو للتأديب والإصلاح.

6= احتقار السجين:

على الرغم من التعليمات المكتوبة، التي أصدرتها إدارة السجون، فإنها لا تلاقي تطبيقا مناسبا، فأغلب خفراء السجون يمارسون احتقارا للسجين استظهارا أو عقوبة،فهو عندهم مجرم، والمجرم –عندهم-لا حقوق له، وهم بطبيعة تربيتهم وتدريبهم وعملهم؛ أقرب إلى القسوة، حينما سألنا الخفير: لماذا هذه القسوة والتقصير في النظافة، قال:هم مجرمون، ما يستأهلون إلا هذا.

السجين إذن مجرم، وهو إذن بدون حقوق، هذه هي القاعدة التي آمنا بها في مركز شرطة بريدة الجنوبي، ومركز بريدة الشمالي، وحدث عن جزيرة واق الواق، ولا حرج، ولكن لا ترفع صوتك إلا إذا كنت تؤمن بقاعدة" وامر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك". والخفراء تنتقل لهم توترات المساجين، لا سيما أن عددهم-كما قالوا لا يفي بالحاجة، وهم يكلفون بدوام طويل، خلافا للوائح-كما قيل لنا.

ولا تتوافر-في عدد منهم-الصفات المسلكية، من ما يجعل توزيع المخدرات، والاستغلال المالي واستغلال الأحداث، للشذوذ الجنسي محتملا، وهناك قصص متواترة.

وواضح من ذلك أن التجافي، عن الأسلوب التربوي، هو القاعدة، من ما يفاقم المشكلات،



7= لا مساجد للجماعة في السجون:

السجن في الإسلام سجن احترام، يجب أن يسمح للسجين بأداء العبادة، و أن يتوافر له الماء للوضوء والاستحمام، وأن لا تكون الزنزانة صغيرة، وأن يلتقي السجناء للصلاة، سواء أكانت صلاة جمعة أم جماعة، وهذا الأمر غائب عن أذهان كثير من مصممي السجون الحاضرة، قد تجد في بعض هذه السجون(كالحاير)، مكانا (يفترض فيه) أن يجتمع السجناء فيه للطعام، ومكاناً (يفترض فيه) أن يجتمع السجناء للعب كرة القدم والسلة والطائرة.

ولكن لا تجد فيه مكانا (يفترض فيه) أن يجتمعوا لصلاة جمعة أو جماعة،نعتقد أن ذلك جهل بحقوق السجين، ونستبعد أن يكون تصميم بعض السجون، إنما يراعى أن تكون السجون واجهة إعلامية، للوفود التي قد تأتي لتشاهد وتشهد أن السجون ، وفق الشروط المطلوب توفيرها للإنسان (بموجب المواثيق الدولية) ومعروف أن الدول الكبرى وهيئات هيئة الأمم المتحدة لاتهمها الصلاة، مع العلم أن أغلب السجون التي عرفنا لا تسمح للسجناء-أصلا- باجتماع على رياضة ولا طعام ولا صلاة.

ومنع السجين -استظهارا فضلا عن السجين عقابا- من أداء صلاة الجماعة أو الجمعة في السجن، ليس له مسوغ شرعي، لاسيما إذا كان الهدف منه الضغط على إرادته أثناء التحقيق، أو إجباره على اعتراف أو شهادة أو التزام، أما منع سجين العقوبة، من هذه الأمور فهو جريمة، لأنه داخل في تحويل السجن من تعويق وتأديب، إلى تضييق وتعذيب.

لقد ألح أحدنا في طلب مصحف فسوّف الجندي ولم يستجب، وقد جرت عادتهم على ترك الموقوف والسجين وطلباتهما، وتوسل للخفير فقال له: إن لك نصف أجر القراءة، إذا جئتني بالمصحف، فحركت كلمة الأجر إحساسه وجاء بالمصحف، بعد لأي شديد، كنا سمعنا من قبل أن الموقوفين –في بريدة-يمنعون من المصاحف من قبل، ولكننا لم نصدق، حتى رأينا.

جاء وقت الأذان وأذن أحدنا ، فضج الجنود:لا تزعجونا لاترفعوا أصواتكم بالأذان، يكفي أذان المساجد.

8= الفراغ القاتل و منع الكتابة والأقلام::

وقت الإنسان أثمن ما يملك، ولذلك قيل (الوقت من ذهب) وبين الرسول صلى الله عليه وسلم (أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن عمره فيم أفناه)، فالوقت من أثمن ما يملك الإنسان، وإهدار وقت السجين، من دون نفع خاص أو عام اعتداء على أثمن ممتلكاته، وهو عمره ووقته، لذلك وجب أن يتاح للسجين ما يملأ به وقت فراغه، من كتاب نافع يقرأ فيه، ولاسيما كتب الدين والأخلاق.

وكثير من الدول الغربية تسمح للسجناء بأن يواصلوا الدراسة في المدارس عن طريق الإنتساب، ويتعلموا مهنة كالزراعة والنجارة والحدادة والخياطة، ويتسلوا، ويطردوا الكآبة والتوتر والإحباط.

أما حبس الأقلام والأوراق عن المعتقل ومنعه من الكتابة، فهو منع له من حق شرعي، من دون مسوغ، سلاطين الجور القدامي لم يمنعوا الأقلام والأوراق، عن (السرخسي) الذي ألف كتاب المبسوط وهو حبيس، وسلطان الجبر الجائر القديم، سمح لابن تيمية أيضا بالكتابة، ولقاء الناس من طلابه وأصدقائه وعامة الناس المستفتين ، وسمح لابن خلدون بالكتابة، فالف كتاب العبر،كذلك تفعل الدول

الدستورية جميعآ. أما نحن فنعلن: تطبيق الشريعة، و بسلوكنا المتخلف نفتح الباب الموارب للعلمانية والإمبريالية، ذات الحرية البراقة والعدل الجذاب، فأين نحن من علياء الشريعة؟:

والدعاوى إن لم يقيموا عليها × بينات أصحابها أدعياء

ولقد أولت الأنظمة الدستورية السجناء عناية كبيرة، وحولت كثير من الدول السجون إلى دور إصلاح، يتعلم فيها السجين مهنة شريفة، ويمارس بعض الأعمال القريبة إلى نفسه، ويستمتع بالشمس والهواء، ويشاهد التلفاز، ويقرأ الصحف والكتب، ويتجول في حدائق سجن واسعة، ويمارس بعض الألعاب وأسباب الترفيه البريء ويتاح أن يعمل أعمالاً اختيارية في حديقة السجن، ومن صمم سجنا على خلاف هذه الهيئة، ثم زعم أن هذا من تطبيق الشريعة، فقد أبعد النجعة.

9= رزق المساجين الشهري، من دون تدبير

لا يمكن أن يصدق أحد أن تقصير مركز ........، في النظافة والطعام، وليس ذلك بسبب قلة ما يصرف للسجناء، فمكافأة السجناء مجزية، ولكن ثمة خلل ما، في كيفية التوزيع!!. فالحقيقة أن الدولة-وفقها الله- قامت بما يتسق مع مقاصد الشريعة وروحها؛ أن تكون جميع نفقات السجين من بيت المال، من طعام وشراب، وكساء ولباس وعلاج وأثاث.

10=اطمئنان السجين على أهله والسماح لهم وله بالتلاقي:

من اساليب الضغط على نفس المتهم، حيث يقلق ولا يدري ماذا جرى لأولاده، وقد يكون تركهم بدون نقود يقتاتون منها، وقد يكون خلفهم من دون محرم. وقد يكون أولاده على أبواب امتحانات دراسية، يحتاجون إلى من يتابع شئونهم، وقد يحتاجون إلى سائق محرم ينقلهم إلى المدارس، وقد يكون خلفهم وفيهم امرأة حبلى أو والد مريض على سرير المستشفى، أو منهم مراهقون يحتاجون إلى متابعة ورعاية، فهو يخاف ويقلق ويوسوس له الشيطان بأقساها.

ولا ريب أن منع السجين من رؤية أهله ومهاتفتهم، يهدف إلى بث الذعر في نفوس المعتقلين وأسرهم، وكثير من السجناء لا يسمح لهم بمهاتفة أهليهم فضلا عن استزارتهم إلا بعد بضعة شهور، وبعضهم يظل سنين لا يدري أهله في أي مكان، وهل هو سجين أم مفقود فضلا عن أن يتصل بهم، ولا ريب أن هذه التصرفات، تخالف الروح الإنسانية التي فطرها الله على الرحمة والرأفة، فضلا عن الأنصاف والعدل، وقد حرمها الإسلام تحريما قطعيا، لأن فيها إيذاءا للمسلم بغير وجه حق، وترويعاً للمتهم ، بل ترويعاً للأبرياء من آباء وأبناء وإخوان، وشيوخ ونسوة وصبيان، وكم من فتى أصيب بانهيار عصبي، أو حاول الانتحار، في ظل هذه الفظائع، هذا ما شاهدناه على الخصوص، في سجن عليشة.

يجب أن يسمح للسجين باستقبال أهله ومعارفه وأصدقائه كما جرت على ذلك الدول الدستورية، لما ذكرنا من أن السجن في الإسلام إنما هو (تعويق)، لا يصل إلى حد (التضييق).

لذلك يجب أن يسمح للسجين فور دخوله بمهاتفة زوجته وأولاده، ووالديه وذويه وأصدقائه، وهذا حق ثابت شرعاً للسجين، فليس من العقوبات الشرعية حرمان الإنسان من هذا، حتى لو كان مجرماً، لأن منع السجين من مهاتفة أهله، ولاسيما إذا كان حديث الاعتقال يؤدي إلى أن يصبح أهله رهن الهواجس والظنون، لا يدرون ماذا يفعلون، ولا يدرون ماذا جرى لعائلهم أحي أم ميت، أهو بخير أم في تعذيب أو أذى، وهذا حق من حقوقه وحقوقهم ، والله يقول "ولاتزر وازرة وزر أخرى"

11=إزعاج السجين بالأصوات والأنوار وأجهزة المراقبة:

وفي غالب السجون يفقد السجين راحته واطمئنانه ، بكثرة الأصوات المزعجة، التي تصدر أحيانا من طبيعة السجن، وما فيه من بوابات كهربائية، وأساليب عسكرية، تؤدي إلى سلب إرادته، وضعف نفسه.

ومثلها الأنوار المستمرة الاشتعال، في الزنازين التي لا تنطفئ ولا تخبو، في ليل ولانهار، ولا نوم ولا يقظة، ومثلها الكمرات المنصبة على مراقبته، وكأنه حشرة تحت مجهر، فهو مراقب في نومه، مراقب وهو مستيقظ، وهو مراقب وهو يلبس الفنيلة والسروال، بل هو مراقب حتى في مكان قضاء الحاجة، حيث ينكشف جزء من عورته للشاشة,

وهذه الرقابة على السجين طوال الليل والنهار إزعاج محرم، فالله قد أمر بعدم كشف العورات، قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا، ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم، والذين لم يبلغوا الحلم منكم، ثلاث مرات، من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم" هذا مع أطفال لم يبلغوا الحلم، فكيف برجال بالغين كبار، يتربعون أمام شاشة التلفاز، ليراقبوا هذا السجين المسلوب الحرية والإرادة.

وذلك محرم شرعاً لأنه إزعاج وإيذاء، وتتبع لعورات مصونة، فماذا سيجد المراقب عند سجين في غرفة منفردة؟ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يامعشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو كان في جوف رحله‏" (رواه الترمذي).

12=حمل السجين إلى التحقيق وترويعه

ومع أن الأنظمة نصت على إخبار السجين، عندما يكون له موعد عند الطبيب، أو التحقيق، أو القضاء أو نقله من مكان إلى مكان، فقد جرت العادة على أن يقتحموا عليه باب الزنزانة فجأة، ويضعوا في رجليه ويديه القيود، وربما عصبوا عينيه، وقادوه كما تقاد الشاة، وإن سألهم قال ألطفهم: "قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا"، أما الخشن فيصرخ: تحقيق!!، أو يقول:-كما جرى لنا-في الصباح عندما جاء العسكر إلينا، ووضعوا القيود، وقالوا: هيا امشوا فقلنا: إلى أين؟ فقالوا: ماهو بشغلكم.

ووضعوا القيود والسلاسل في الأيدي والأرجل، حتى لم يكد يستطع أحدنا الصعود إلى الجيب،-ذاك المتهم باقتحام طوق أمني- إلا بعد فك أغلال إحدى الرجلين، ولم نعرف أننا متجهون إلى هيئة التحقيق إلا عندما دخلنا البوابة، وصعدنا إلى مكتب المحقق، وئيدا-نتهادى بأغلالنا-وهو يستعجلنا لكي نصعد السلالم، ولم يفك العسكري القيود، حتى عندما أمره محقق الهيئة، بفكها قائلا: :إذا استلمتهم-مني- رسميا فككت الكلبشات!!.

ومن أساليب التعذيب المهينة التي تمارس على السجين الانفرادي وقت التحقيق الذي قد يطول إلى شهور أن يأتي مندوب الإمارة والسجن و... لتفقد حال سجين ما فإذا شكا لهم آلامه وعذابه وطلب منهم حل مشكلة في نومه أواكله أوقضاء حاجته ونحوها؛ قيل له مفتاح ذلك عند من يحقق معك ، فكأنهم يقولون له أعط المحقق مايريد منك يعطك ماتريد من تسهيل دخولك للحمام أو إحضار الأكل المناسب لك.أي ترويع وإيذاء نفسي؛ أعظم من هذا؟، من ما يجعل بعضهم يقول كل ما يريده المحقق، ليتخلص من هذا العذاب المهين.

وهذا باب كبير من الإكراه فربما أقر المتهمون للمحقق مايريد منهم وهم منه برآء ليهنأوا في نومهم وأكلهم وقضاء حاجتهم.



13=السرية في السجون من مداخل انتهاك حقوق السجناء:

فالسجن محل إصلاح وتربية وتهذيب، وهذا هو الأصل فيه، وأمكنة الإصلاح لا سرية فيها، لاسيما أن هذه السرية ليس لها داع شرعي، وغالب دور السجون تجعل اسم السجين أيضاً سراً، فلا يمضى السجين أسبوعاً، حتى يكاد ينسى اسمه ونسبه، لأنه يصبح (رقما) من الأرقام، وكم يجر الرقم السري للسجين من مفارقات، كما يجر الرقم السري في الامتحانات، فرب طالب رُسِّب وهو ناجح، ورب طالب نُجِّح وهو راسب.

تحويل الإنسان المكرم، إلى رقم سري في عنبر، يحمل مفارقة المقارنة مع سجون العالم المتحضر، التي يسمح فيها بمقابلة الصحافة والإذاعة والتلفاز، حيث يجري كل شيء تحت النور حتى عند الطبيب، لا يتعامل الطبيب مع إنسان ذى اسم، بل رقم من أرقام في ملفات، وينادي السجين بيا رقم كذا وكذا لكي لا يعرف الناس أن فلانا عالج في المستشفى!!.

ومن مظاهر هذه السرية في السجون ، عصب عيني السجين، إذا أريد نقله من مكان إلى مكان، تعصب عيناه عند الذهاب به إلى المستشفى، وقد تعصبان وهو ذاهب إلى التحقيق، وقد تعصبان وهو ينقل من عنبر إلى آخر.

ومن مظاهر السرية أيضا، أن السجين ينقل من مكان إلى آخر، ومن غرفة إلى أخرى، مفاجأة من دون سابق بيان أو إعلام، وهو لا يدري حين يأتيه الجندي أيسوقه إلى التعذيب أم إلى التحقيق، أم إلى زيارة أهله، أم إلى لقاء مسئول، أم إلى زنزانة أخرى، أم إلى مستشفى، أم إلى سجن آخر، ومع تخويفه المتواصل بالتعذيب، قد يتصور أنه ذاهب إلى الآلات الحديثة في التعذيب. وهذه السرية، من أثر تسلط الإرهاب البوليسي العسكري، تجعل الإنسان المعصوم الدم والعرض والعقل نهب الهواجس والظنون، والقلق والتوتر، إن العلاقة بين (السرية)و(انتهاك حرية الإنسان وحقوقه الشرعية) علاقة وثيقة كما قال الشاعر:

الستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر

وعالم الأسرار لاينتهي، فإن السرية طابع الإرهاب، فكل هذه الأسرار التي يراها السجين في السجن، بما فيها التعذيب والإرهاق، وبما فيها من مآس ومحن، لا يجاز للسجين إذا خرج أن يتحدث عنها، فلا يصف ما رأى، ولا يتحدث عن ما جرى، ولا يذكر ما سمع، وتتابع المباحث حركاته وجلساته، بعد الخروج من السجن، فإن تفوه بما حدث خُوّفَ بالعودة إلى السجن كرة أخرى.

وكأن المطلوب من المتهم ، أن يقول إذا خرج : كنت مكرماً محترماً، لم ألق أي إهانة، ولم أصفع أو ألطم، بل لم أسمع أن إنسانا أوذي، فيشكر حسن الضيافة، ويحمد طيب الإقامة.

وهذا التعهد بالصمت والسكوت، يؤدي إلى السكوت عن منكرات السجون والمباحث والشرطة، واعتبارها من الأسرار والطلاسم، التي لا يجوز الحديث عنها، وإن لا تعرض المرء للاختطاف، لكي تبقى ماثلة أمامه أشباح عالم الخوف و الإرجاف، السرية بنية ظالمة، مستمرة مع كل متهم، سواء أكان مجرماً حقيقيا، أم مجرماً في نظر السلطة، وهذه السرية جريمة إنسانية، وليست شرعية، فإذا كان التعذيب وفق الشريعة كما يقال، فلم يجبر الإنسان أن يكتم ما جرى وإذا كان التحقيق أيضا شرعياً، فلم يجب الكتمان؟

إن هذه السرية يراد بها منع المتهم أيضا من التظلم، ومنع المتهم من كشف الإرهاب الذي يمارس كثيراً، تحت برقع حفظ الأمن والاستـقرار، وأشد الأمور خطورة، أن أسماء العاملين في السجون والمباحث مستعارة، فلا يعرف السجين من فلان ولا علان، وذلك مدخل لانتهاك حقوق السجين، فالطابع السري في كل الأحوال، لا يوحي بعدل ولا حقوق، إذ إن السجين لا يستطيع أن يبرهن عندما يتظلم، سواء أكان داخل السجن أم بعد خروجه، لأنه لا يعرف أسماءهم.



ج-ليس هدف التحقيق الوصول إلى الحقيقة مطلقا، بل الهدف مقيد بمشروعية الوسائل؟:

1=التهديد يخل بالتحقيق الشرعي:

قرر الفقهاء، أن مثل هذه الصفات السابقة تعتبر تعذيبا وتضييقا محرما شرعا، بل إن التهديد بشيء منها إذا صدر من من يملك ما هدد به، يعتبر سالبا الرضى أو الاختيار، وهذا يجعل الاعتراف شيئا لا قيمة له.

قال عمر بن الخطاب:((وليس الرجل بمأمون على نفسه إذا أخفته)) [رواه عبد الرزاق] وقال بن مسعود رضي الله عنه:((ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطا أو سوطين إلا كنت متكلما به)).

فإذا كان التهديد بسوط أو سوطين عند الإمام عبد الله بن مسعود يبطل الإقرار، فما بالك بالتهديد بالضرب بالأسواط، بل ما بالك بالتهديد المتواصل بآلات التعذيب، كآلات الصعق الكهربائي، وغرف التعذيب السرية، التي يعلق بها الإنسان كتعليق الخرفان في المجازر، حيث يتعرض الإنسان للشلل والجنون، فما بالك حتى بسجن (التعويق)، فضلا عن سجن (التضييق)، فضلا عن الزنزانة المفردة، التي كل يوم فيها يعادل أكثر من عشرين سوطا.



2=التلويح بتهم كبرى لكي يعترف المتهم بالصغرى:

كان الضابط الذي حقق معنا –أول ليلة- مشغولا بقضية الطوق الأمني، الذي قالوا، من وجهة نظرنا أن موضوع السلاح-إذا ثبت –لا علاقة له بالقضية، وأنه لا يمكن الحديث عنه، إلا بعد إثباته شرعيا، ولكنه جاء للتخويف وبث الرعب: المعتصمات في بيتهن سلاح، لكي ينصرف الناس عن الموضوع الأصلي، ولكنا تعاونا مع الضابط عند التحقيق، عسى أن يمن الله علينا بالخروج من هذا الضيق، ولنثبت له حسن النية، وبعدنا عن ما افترضه في القضية، وأخبره أحدنا أن لا قيمة لهذا التحقيق، لأنه معيب شرعا، لعدم حضور محام، ولأن التوقيف ليس للتضييق فحسب، بل لقتل الكرامة الإنسانية، وأمراض الجسد والروح والعقل.

ولم يكن لديه ما يسعفنا-رغم ما أبدى من حس إنساني-، فقال:هذا المبنى قديم، ولا تتوافر فيه شروط النظافة، وسننقلكم إلى مركز بريدة الشمالي، فهو أحدث وأنظف.

وتجيير موضوع لم يثبت أمام القضاء؛ إنما هو من أنواع الضغط النفسي على المتهم، وهو من التهديد المبطل الإقرار، أن يلمح المحققون إلى أنه يمكن أن يتهم المتهم بقضايا أخرى، ويهددوه تلميحاً، بأنه متورط في قضايا أخرى، ولكنهم لا يريدون توسيع مجال التهم، وهذا يجعل المتهم يذعن إلى الاعتراف بما لم يفعل،فضلا عن اعترافه الجبري بما فعل، خوفا من اقترافهم ما يوحون به، وخوفا من أن يلطخ بجريمة في دينه أو فضيحة في عرضه.

لاسيما عندما تنتهك حرمة بيته بالتفتيش، بطريقة تخالف النظام، الذي حدد آليات ضوامن للعدل والحقيقة، وهذا يجعل المتهم جاهزا للموافقة على التهم المسددة، يسهل قياده، بحيث يبدو له الموضوع المتهم فيه بسيطا، أمام الأمور التي يهدد بإثارتها، وهذا مناف للتحقيق النزيه.ولا يجوز تهديد المتهم، بإيذاء أهله وذويه، فذلك محرم قطعيا، لقوله تعالى ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)).

وقد سمعنا أخبارا متواترة، عن تهديدات بأمور كبيرة البشاعة، بل عن إقرارات بالفواحش ولا سيما السكر، أحد هؤلاء قال لنا-في ......-: إن المحقق قال له سنطوي ملفك إذا قلت إنك عندما كتبت هذا المقال، كنت سكران، ففعل ذلك،-كما قال- وبكى أمامنا وهو يقول: أجبروني على أن أكتب أنني كنت سكران في نهار رمضان!!!.ولكننا لن ننقل كل ما سمعنا، ولكننا طالبنا –ولا نزال-بفتح ملف حقوق الإنسان، وأهم من ذلك أن محقق المباحث، يركز على اتهامنا بأمور، من أجل أن يخضعنا لأمور أخرى، ولولا أننا قدحفظنا شماعة تبرير الإرهاب، منذ سجن دعاة الدستور الثلاثة، لتضاعف خوفنا.

لأن قاعدة التحقيق الدارجة للأسف-حتى عند قضاة الهيئة-:اضربه بالموت يقنع بالحمى.

3=شروط الإقرار عند الفقهاء:

من أجل مراعاة الأساليب الشرعية؛ للوصول إلى الحقيقة؛ اشترط أهل الفقه شروطاً لصحة الإقرار هي:

1- أن يكون صريحا لا يحتمل التأويل، واضحا لا يحتمل الغموض، خالياً من الشبهة ، كالغلط والكذب.

2- أن يكون المقر حر الإرادة، مختاراً غير مكره، بأن يقر طواعية دون إجبار، فلا يصح إقرار المكره.

3- وأهم شروط الإقرار أن يكون بين يدي القاضي:

لأن الإقرار في غير مجلس الحكم، يدخل فيه اللغو والهزل والغفلة، فإذا كان الإنسان بين يدي القاضي كان أوعى بتبعة قوله، وذلك يجعله جاداً منتبه الحواس.

ومن ما يخل بالإقرار ما هو جار عادة ، من أن يتولى الشرطة والمباحث القبض والتفتيش وتجميع أدلة الاتهام، ثم يبدأ التحقيق الشفوي والتحريري مع المتهم، ثم يتم توثيق التحقيق من قبل القضاء فيحضر المتهم إلى القاضي، وهو مغلول اليدين والرجلين، فيسأل هل: أنت واع غير مكره، فيقول نعم، فيبصم القاضي كما بصم المتهم، بصورة آلية.

أحيانا، تطلى إقرارات الإكراه بصبغة قضائية شرعية، بإحضار قضاة –إلى السجن-يصدقون عليها، بحضور من مارس التعذيب والإكراه، و أحيانا يقع ذلك في المكان الذي وقع فيه التعذيب والإيذاء، فإذا تحفظ المعتقل أمام القضاة، أعاد المحققون التعذيب، وهددوه بإعادة التحقيق بكل ضغوطه مرة أخرى، ولا يملك القضاة أدنى قدرة على حماية المعتقل من الإيذاء لو أرادوا ذلك، وبذلك يكون دورهم إضفاء شكلية شرعية، على قرارات بوليسية باطلة.

ولا يشك أي إنسان عادي، فضلا عن عارف بالشريعة والقضاء، أن هذا النمط من الإقرارات ظلم لا يعتد به شرعا. وفوق هذا وذاك ، يلاحظ أن الأجهزة الأمنية وضباط المباحث ومحققيها, في محاولة لقطع خط تراجع المعتقل عن إقراره، التحقيق , وكذلك للتدليس على القضاة، أخذت تضيف عبارة في أخر التحقيق تنص على أن المعتقل "يوقع على هذا (الإعترافات) وهوبكامل قواه العقلية وغير مكره على ذلك"!! ولكن هذه العبارة بحد ذاتها تدل على الإكراه والقسر, خاصة وانها تمت داخل السجون والمعتقلات.

4=ضمانات أخرى لابد منها لتحقيق مقاصد الشريعة:

ومن أجل ذلك وضعت الدول العادلة، مزيدا من ضمانات شرعية الإقرار

1-أن يتاح للمتهم محام.

2-أن يشرف القضاء على السجون.

3-أن يتولى التحقيق قضاة مؤهلون للقضاء.

4-أن تكون هيئة التحقيق تابعة (إداريا) لوزارة العدل.

5-أن تكون المحاكمة علانية، بحضور شهود الله في أرضه: المحامين وأهل الإعلام وأهل الحسبة المهتمين بحقوق الإنسان.

فياليت شعري:كيف تحقق دول الفرنجة درجات العدل، وفي بعض دول الإسلام تلبس المظالم ثوب تطبيق الشريعة!!

4=بطلان أي اعتراف صادر عن إرادة غير حرة::

إذا لم تتوافر وتتكامل هذه الشروط، فإن الاعتراف باطل.لقد حرم الإسلام أي أمر يؤثر على الإرادة الحرة للمتهم، واعتبر كل أمر يؤثر على الإرادة؛ إكراها يجعل الإقرار باطلاً، وقد اعتبر الإسلام السجن والقيد والضرب والتهديد أربعة ألوان تسلب إرادة المتهم.

وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الإقرار بحق أو جناية عن طريق الإكراه باطل، ولا يترتب عليه شيء لقوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فجعل الله سبحانه وتعالى الإكراه مسقطا إثم الكفر وعقوبته، وإسقاطه عداه أولى، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:(إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [أخرجه بن ماجه والبيهقي والحاكم وصححه الألباني].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته) (مصنف عبدالرزاق10/193) وقال شريح القاضي الذي مارس القضاء أكثر من ربع قرن، زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية ((القيد كره، والوعيد كره، والسجن كره، والضرب كره)) (فلو أن قاضيا أكره رجلا، بتهديد أو ضرب، أو حبس أو ضرب، حتى يقر على نفسه، بحد أو قصاص، كان الإقرار باطلا) (المبسوط :14/70)

ونص الفقهاء على أن الإقرار لا يصح إلا من بالغ عاقل مختار.

وقد جاءت الأحاديث والمواقف الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم، برفع المؤاخذة، عن المكره مطلقا، ولا يجوز العدول عن النص والموقف الصريح الصحيح، إلا لدليل أقوى منه، وهذا الدليل لم يوجد، ولذا فإن الرأي الذي يقطع به عدم مؤاخذة المكره مطلقا، سواء كان ذلك في جرائم حقوق الناس أم حق الله، لاسيما وقد ابتعد كثير من ولاة الأمور عن توخي العدالة، فآل بهم الأمر إلى الحكم بغير ما أنزل الله (الإعتراف غير الإرادي. د.محمود السرطاوي).



5= والإكراه درجتان ما يسلب الرضا وما يسلب الاختيار:

للإكراه درجتان ما يسلب الرضا فحسب، وما يسلب الرضا والاختيار معا.

الدرجة الأولى:ما يسلب الرضا، ولا يسلب الاختيار، كالتهديد بالحبس والقيد والضرب، وكل أمر لا يخشى منه التلف، ويسمى (الإكراه الناقص) أو الإكراه غير الملجيء، ويدخل في ذلك سجن (التعويق).

الدرجة الثانية: ما يسلب الرضا والاختيار، وهو كل تهديد يخشى منه الإنسان على نفسه التلف، كتهديد الإنسان بأنه يوضع في آلات التعذيب اللولبية، التي تعرضه للجنون، أو تهديده بالقتل غيلة أو جهرة، ومثل ذلك سجن (التضييق) في زنزانة مفردة، إذا تجاوز شهرا ويسمى (الإكراه التام) أو الإكراه الملجئ.

الصورة الأولى:سجن التضييق و لاسيما الانفرادي:

جرت العادة في كثير من الدول، أن يحبس المتهم بالجريمة مدة لا تتجاوز الشهر، وخص الفقهاء ذلك الشهر بالمعروف بالإجرام، أو المتهم المجهول الحال، أما الشخص العدل فاعتبروا حبسه استظهارا جريمة.

فقد يسجن المتهم مدة طويلة، وقد يضرب أثناء هذه المدة، من دون علم القضاء، ولاسيما إذا رغبت أجهزة البوليس إثبات يقظتها، وسرعة بتها، ولا ريب أن المتهم بهذه الصفة في حال إكراه تام، لأن الحبس الطويل كما قرر العلماء، كالضرب الشديد، يهدد الجسد والعقل بالتلف، وقد يؤدي إلى المرض، ولذلك اعتبره العلماء (إكراها تاماً) يفسد الاختيار، يلجئ المتهم إلى الإقرار ( انظر:رجوع المتهم لعطية سالم ) ولو افترضنا أن المتهم ليس في حالة الإكراه (التام)، التي تسلب (الاختيار)، لكان في حالة الإكراه (الجزئي) التي تسلب (الرضا)، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالإكراه (غير الملجئ) (رجوع المتهم لعطية سالم).

وقد يدعي بعض الناس أن المتهم إنما يحاكم أمام منصة القضاء، دون ضغوط ولا إجبار. والحقيقة أن القاضي (غافل أو متغافل) عن أن هذا الإقرار ناتج عن إكراه. فالقاضي الذي لا يشرف على السجن؛ لا يدري ماذا يدور فيه ولا يدري أهو سجن (تعويق) كما نص الفقهاء أم سجن (تضييق)،مفرط في وظيفته، والمحققون الجنائيون، -ولا نغمط فضل الفضلاء فيهم-، قد لايكون لهم بصيرة بضوابط التحقيق الشرعي، و ينبغي سد مداخل الشهوات والشبهات، و الإكراه.

بل إننا نقول بأن إقرار السجين، الذي طال حبسه أو قصر غير شرعي، حتى لو كان السجين تحت إشراف قضائي شرعي، يشرف على زنزانته، ويشرف على طعامه وشرابه، ولو كان التحقيق من جهات قضائية. إن واقع بعض الأنظمة القضائية أن إقرارات الإكراه معتمدة، فالمتهم يعذب بين يدي البوليس، والقضاء يتغافل ويصادق بالتدليس.

كما ذكر عبد القادر عودة في التشريع الجنائي: فقرة 435: إن الإقرار الصادر تحت تأثير الإكراه باطل، ولو قامت الدلائل على صحته، كأن يدل المتهم بالسرقة على المسروق، وكأن يدل المتهم بالقتل على جثة القتيل، لأن من الممكن -وإن لم يكن من المحتمل- عادة أن يكون المتهم يعرف مكان المال المسروق، ويعرف مكان جثة القتيل، ولكنه لم يسرق ولم يقتل (رجوع المتهم لعطية سالم).

لأن الإنسان أحياناً يقر بالشيء، نتيجة شعوره بأنه لن يقبل منه دفاع ولا إنكار، كأن يشهد عدد من الناس عليه بأنه فعل كذا وكذا، وإنما شهدوا لتبرئة أنفسهم، أو لإدخال شركاء آخرين معهم، أو لأساليب المحققين التي تحاول أحياناً، الإيحاء له من باب البراعة والمهارة. والإنسان في مثل هذه الحالة إنما يقر، ليستريح من عذاب التحقيق، ولاسيما إذا بدت له تبعة ذلك محتملة، وبدا له أن المخرج من نير العذاب أو السجن هو الاعتراف، ولو كان (حلاً) على الطريقة التراجيديا اليونانية، فالمقر كما قال الشاعر:

والمستجير بعمرو عند كربته ×كالمستجير من الرمضاء بالنار

ومما يشهد لذلك، ما وقع في إحدى القضايا، عند علي رضي الله عنه، ذلك أن رجلا أخذ شاتين ليذبحهما قبل الفجر، فذبح واحدة وشردت الأخرى، فلحقها فدخلت خربة، فدخل وراءها وذبحها، فإذا برجل في الخربة قتيل، وإذا بالعسس يدخلون عليه، ويقبضون عليه والسكين ملطخة بالدم في يده، فلما ذهبوا به إلى الوالي سأله: أقتلته قال: نعم، ولما قدم للقتل علم القاتل الحقيقي، فجاء ينادي: لا تقتلوه إنه بريء، واعترف بأنه هو القاتل الذي قتل الرجل، فسألوا الأول لماذا اعترفت؟ وأنت لم تقتل، قال لأني أيقنت أنكم لا تصدقونني، فالقتيل يتشحط في دمه، والسكين الملطخة بالدم في يدي، ولا تعلمون إن كان دم شاة أو دم رجل، فيئست من إثبات براءتي فاعترفت كذباً.

وقال للثاني وما شأنك وما حملك على الاعتراف، وقد خفي أمرك فقال: سولت لي نفسي قتل الأول ورأيت الثاني يقتل فلم استطع تحمل ذنب هذا البريء المسكين أيضا. فرفع أمرهما إلى الخليفة علي رضي الله عنه فقال: لئن كان قتل نفساً فقد أحيا نفساً، واسترضى الأولياء بالدية (رجوع المتهم لعطية سالم).

ولذلك نص الإمام ابن حزم على أنه لا يحل تعذيب المتهم، ولا يعتبر إقراره تحت التهديد، إلا إذا أضاف إلى الإقرار أمراً يتحقق به يقينا صحة ما أقر به (المحلى:11/142).

الصورة الثانية: التعذيب:

يمكن إجبار أي إنسان على الاعتراف بأي شيء، هذا ما أثبتته أساليب ستالين وغيره من الطواغيت، الذين استطاعوا انتزاع أوضح الاعترافات لأقسى الجرائم.

وقد أكدت الأبحاث النفسية عن آلات التعذيب البوليسية، أن الإنسان مهما كان قوي الإرادة والاحتمال، مستعد للإقرار بكل ما يطلب منه، عندما يكون في حالة سلب الإرادة الكلي أو الجزئي، وقد أظهرت آلات التعذيب الستالينية، أن الإنسان يعترف بكل ما يطلب منه. والأخفى من ذلك أن للعقاقير المخدرة، والآلات المزعجة، آثار نفسية خطيرة، ولكنها لا تترك أثراً في الجسم، إنها (التعذيب التكنلوجي)، الذي يجعل دعوى المتظلم من دول دليل.

لقد تعلم المعذبون وسائل تخفي آثار السياط والعذاب، بل إن المعذبين قبل عصر التعذيب التكنلوجي، يعرفون كيف يضربون المتهم من دون أن يبقى أثر فيضربونه على أخمص القدمين، اللتين لا يبين عليهما أثر الضرب ويضربونه على عجيزته، لأنه يستحي من كشفها، ليري القاضي آثار السياط عليها.

والخلاصة أن التعذيب، من صور الإكراه، ولذلك نص الفقهاء رحمهم الله على أن المدعي إذا رجع عن إقراره، وزعم أنه مكره، فإن كان في جسده أثر تعذيب، فهو قرينة تدل على صحة دعواه، وإن كان أثر التعذيب قد زال، أو كان نفسيا، كالتهديد، قبل إنكاره مع اليمين (أسنى المطالب:2/299).

الصورة الثانية: التهديد بالأذى:

والتهديد بالتعذيب، يجعل المتهم كالحبة في المقلاة. أو كالخشبة بين المطرقة والسندان.

ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (مامن ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطا أو سوطين إلا كنت متكلما به).

فإذا كان التهديد بالسوط والسوطين يجعل الإنسان، يقول من دون رضا واختيار، فما بالك بالتهديد بآلات الصعق الكهربائية، والتهديد بالقتل والاغتيال، و لاسيما إذا كان الذين يهددون بها قادرون على ذلك، وليس ثمة دليل على أنهم يتورعون عن أذى الناس، وهذا يجعل الإقرار غير شرعي، كما قال الإمام مالك (من أقر بعد التهديد أقيل) معتبراً أن التهديد والوعيد، كالسجن والقيد والضرب (المدونة:6/293).

د-الصورة السادسة: تقييد الإنسان بالأصفاد:

وإذا قيد المتهم بالأصفاد والأغلال، في يديه ورجليه، فتلك حالة إكراه أيضا كما نص على ذلك القاضي شريح.

د- متى يكون الإقرار سيد الأدلة/ ومتي يكون أكبر عدوان على الحقيقة:

1-إقرار القضاء التعذيب أو تغاضيه عنه أفضى إلى قبول اعتراف المكره:

عدد من الفقهاء في العصر الوسيط؛ أجازوا التعذيب(انظر تفصيل أقوالهم ومناقشتها، في كتيب(حقوق المتهم في الإسلام، بين نور الإسلام وغبش بعض الفقهاء والحكام)على أن أوضح الأدلة على فساد قولهم ، ما ذكره ابن القيم-رحمنا الله وإياكم وإياه- من تصحيحهم إقرار المكره، وبذلك وصل أصحاب هذا الرأي إلى المأزق الخطير، الذي يفضي إلى سراديب التعذيب، فالقول بصحة إقرار المكره، قول شاذ على كل حال، وقد فصل ذلك في كتاب (حقوق المتهم/مقالات الإقرار) المرفق إلى محكمة التمييز، في محاكمة دعاة العدل والشورى الثلاثة.

وما قاله الفقهاء كابن القيم من أن هدف الشريعة هو كشف الحق صحيح،، ولكنه هدف الشريعة مشترط فيه أن تكون وسيلة الكشف مشروعة معتبرة، وكل سياسة لا توافق الشرع غير مشروعة، حتى لو أدت إلى المقاصد الشرعية، ولذلك قال الصحابي الجليل للذين عذبوا متهما حتى دل على المال ((ما رأيت جوراً أشبه بالحق من هذا)) فقد بين أنه جور، ثم أردف ذلك بأنه يشبه الحق.

فالاعتماد على فكرة الوصول إلى الحقيقة المجردة من الضوابط ليس مطلقاً ، لأن يد العدالة هي التي تصل إلى الحقيقة من خلال الوسائل المشروعة، التي تحافظ على أسلوب العدل، لكي تحافظ على جوهره.

أما القول بأن هذا الجور في الأسلوب يخدم الحق في المضمون، فهو يعني أن الغاية تبرر الوسيلة، وذلك قول مرفوض في الأخلاق والدين والقانون العادل. وكثير من العاملين في القضاء والتحقيق من الذين يجهلون المقاصد الشرعية يقول: الهدف هو الوصول إلى الحق، وهذا كلام نصفه حق ونصفه باطل، فالحق أن يكون الوصول إلى الحقيقة، عبر الوسائل الشرعية.

2=نظرية المصالح المرسلة فضفاضة:

و مجيزو التعذيب وفيهم من قضاتنا عدد غير قليل-وفقهم الله-، وهم فوق ذلك يعتمدون إقرارات الإكراه،كما نجد في أعمال ندوة حقوق المتهم، التي نشرتها وزارة الداخلية في كتيبات، يحتجون بالحديث تارة، وتارة يحتجون بالمصالح المرسلة في ردهم قاعدة الشافعي ((لاسياسة إلا ما وافق الشرعة))وهذا اعتراف منهم، بأن الأحاديث والأحداث النبوية التي احتجوا بها غير مسلمة، بل هي نصوص احتمال وما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، كما يقول الأصوليون، إذ إنه ليس ثمة نص صريح أمامهم يجيز التعذيب غير نص تعذيب اليهودي المحارب الذي اعترف بجزء من المال، وأنكر مكانه.

ولا ريب أن استجازة تعذيب المتهم المسلم أو حتى الذمي قياساً على تعذيب المحارب، قياس مختل المناط، وهو استدلال غريب، وممارسو التعذيب ومجيزوه، يرمون مخالفيهم كما هو ظاهر، بأنهم لا يدركون واقع الحياة، وأنهم لم يمارسوا الحكم والقضاء.

ففي أحد المؤتمرات العربية التي ناقشت حقوق المتهم، قال أحد القضاة السعوديين، الذين يؤيدون التعذيب للذين رفضوا نظرية تعذيب المتهم: إنكم لم تمارسوا القضاء، فتعرفوا أنه لابد من شيء من التعذيب.

وهذا القاضي لم يقف موقف المتهم، ليعرف مدى تجاوز بعض رجال البوليس والقضاء القساة على كرامة الإنسان، لم يدخل السجون استظهارا (توقيفا) ليبصر تعذيب البوليس، ولم يقف متهما ليبصر دور بعض القضاة في التدليس.

ونقول أيضا إن القاضي شريحا، أفقه منا وأخبر بأحوال المجرمين، وقد مارس القضاء أكثر من ربع قرن لعمر وعثمان وعلي ومعاوية، وهو صاحب الكلمة الشهيرة: ((السجن كره والوعيد كره والقيد كره، والضرب كره)) (المصنف لعبد الفراق:10/193).

النعمان بن بشير، كان أفقه منا وأعلم بأحوال الناس، وقد زاول القضاء حينا، والإمارة حين آخر، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاصر فساد الناس في عهد معاوية، وهو الذي قال بالضمان على المدعى الذي طالب بامتحان قوم اتهمهم بسرقته، فرفض النعمان أن يضرب المتهمين بالسرقة. حتى يلتزم صاحب المال بأن يؤخذ من ظهره، مثل ما أخذ من ظهورهم، إن لم يؤد الضرب إلى إدانتهم!!

وما دامت القضية ضمن قاعدة المصالح المرسلة، فهي –كما نبه الإمام ابن تيمية غير مسلم بها-وإن رآها ابن عقيل وابن القيم وبعض فقهاء العصر الوسيط مناسبة لعصرهم الذي كثرت فيه الفتن، وأدى ضياع الحكم الشوري العادل، إلى الفوضى والاضطراب. وغابت السلطة المركزية فكثر اللصوص والسلب والنهب. إن قاعدة المصالح المرسلة قاعدة مهتزة رجراجة فضفاضة ، كما قرر ابن تيمية، فليس في الشريعة أي مصلحة ملغاة من الاعتبار.

إن تطبيقات هذه القاعدة غيرمنضبطة بمعيار موضوعي، ولا يعتد بها لتبرير الإخلال بقواعد شرعية تضمن حقوق الانسان ولا سيما في العصر الحاضر، العصر الذي اتسعت فيه هيمنة الدولة،وكثرت أدواتها، وتطورت وسائل التحري الجنائي، وأتيحت إمكانات كبيرة في البحث عن المجرمين، منها التجسس عبر الفضاء، وعبر الأجهزة السلكية واللاسلكية وعبر الصوت والصورة، وعبر التحليل الطبي والكيماوي وغيرها.

وأثبتت التجارب أن التعذيب، ضئيل النتائج مع عتاة المجرمين، وهو إذن مصيدة للبريء أكثر منه مصيدة للمجرم، لأن طاقة المجرم على التمرد والتحمل عالية.

وذكر المؤرخون أن الإمام أحمد بن حنبل حين ُسجن، قال له سجين سجن في سرقة: يا أحمد اصبر إنها لحظات في أول الضرب، ثم يذهب عنك الألم، وذكر هذا السارق عن نفسه أنه يضرب كل يوم كي يقر، فيحتمل الضرب ولا يقر، مع أنه سارق.

4=التعذيب نمط ينمو في الحكم الذي يقدم الأمن على العدل:

إن تحريم التعذيب، ينطلق من فكرة دينية وأخلاقية، هي أن الإنسان ملزم بقول الحقيقة، من خلال رقابة الضمير الدينية والأخلاقية، ولكنه ليس ملزماً بها من خلال السلطة الدنيوية القهرية، لأن ذلك يدخل في سياق الإكراه، ولأن الإنسان في اعترافه أو شهادته، إنما يقدم وجهة نظره لرؤية الشيء. والإنسان حر في فهم الأشياء، وخرق هذه الحرية أسلوب من أساليب الإجبار.

فإذا هدفت وسائل التحقيق إلى إجبار شخص على الاعتراف، بأي شكل من الأشكال، فهي نوع من أنواع التعذيب، لأنها مصادرة لحرية الإنسان ووجوده.

إن أي تنظيم قضائي، يجتهد فيه الإنسان، ليس كائنا علويا، يمتلك القدسية والشرعية، ومن الخطورة ركوب سفينة المصالح المرسلة، وفق رأي ابن عقيل أو ابن القيم، وكفى بقول الشافعي منارا، لأن عدالة العقاب ليست إلا نتيجة للتصور العام لمسألة الحرية والمساواة، ومن الضروري أن يميز الإنسان بين الأشياء كما هي في صريح الشريعة، وصحيح علوم الإنسان والطبيعة، والأشياء كما يراها في تجارب شخصية أو جزئية.

وستكون العدالة فكرة غامضة فضفاضة مضطربة ، من دون مسطرة محددة الخطوط ، من الممكن أن يتلفظ بها القضاة والطغاة معاً، والضحية والجلاد، في آن واحد.

5=للعدالة معايير عرفتها الأمم بالخبرة والفطرة وأكدتها الشرائع:

ولذلك يعتبر اعتماد اعترافات الإكراه؛ تشريعا للـ(التعذيب)، وذلك نوع من أنواع الإرهاب والعنف (القانوني والقضائي) أي التعدي والظلم على الناس، الذي يأتي مبرراً باسم القانون والعدل والقضاء، وهذا الظلم يعتبر شر أنواع الظلم، وهو شر من الظلم البوليسي، الذي يعتمد فيه الظلم على أجهزة القمع ، ولكن بدون قوانين معلنة.

و قد يحتج مجيزو التعذيب، بأن ترك التعذيب يؤدي إلى إفلات الجناة من قبضة العدالة، وإلى كثرة المجرمين والمنحرفين، وإلى شيوع الفوضى، وإلى كثرة السلب والنهب. وقد يرى بعض الناس، أن في ترك تعذيب المتهم إضاعة لحقوق الناس، وتجريئا للفساق على الفساد، ولكن ليس هذا ولا ذاك، لا ينبغي التفريط ولا يجوز الإفراط. ينبغي الحزم والبحث عن الحقيقة، ولكن ينبغي أن يلتزم في الوصول إلى المجرم الطريق المشروع، وأن يكون إثبات الجناية بأسلوب شرعي، فهذا هو روح الشريعة، أما أن يحاول أحد أن يثبت جريمة بغير الوسائل المشروعة، فإنه يحاول أن يكون قانونيا أكثر من القانون نفسه.

وقد يقال إن الأسلوب الشرعي يؤدي إلى فرار المجرمين من العدالة، ومقابل ذلك نقول: إن تركه قد يؤدي إلى تجريم الأبرياء، فإذا كان الأمران محتملين، فأولاهما الثاني من أجل هذا الاحتمال المتوقع.

فقد قامت دول عربية جبرية جائرة عديدة، بسجن آلاف الفتيان، الذين جاهدوا في أفغانستان، عندما انتشر تيار العنف، وضرب أمريكا ودولاً عديدة، فماذا كانت النتيجة؟ يضرب ويعذب مئة، فيظهر منهم واحد بالمئة منّ من قام بأعمال عنف، كيف يجوز تعذيب 99% من أجل اكتشاف واحد؟ الإسلام قرر المبدأ القانوني الرائع ((الخطأ في العفو أفضل من الخطأ في العقوبة)) قبل ميثاق حقوق الإنسان بأربعة عشر قرنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((لأن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة))

شرح ذلك الإمام الغزالي، فذكر أن القبض على المجرم مصلحة، تقابل بمصلحة أخرى وهي أن الأموال والأنفس معصومة، وأن من عصمة النفوس أن لا يعاقب إلا جان، والجناية تثبت بالحجة، فإن لم يكن حجة، فلا جناية ولا عقوبة، فضرب المتهم تفويت لحق عصمته المتيقن، لأمر موهوم غايته التشوف إلى تأييد عصمة مال أو نفس، فإذا كانت مصلحة المدعي في ضرب المتهم رجاء إقراره، فمصلحة المتهم في ترك الإضرار به، وليس أحدهما برعايته أولى من الآخر (شفاء الغليل:231)، وأهمية فكرة الغزالي تقتضي إعادة صياغة العبارة، بأن القبض على المجرم مصلحة، تقابلها مصالح كثار للمتهمين، فمصلحة المدعى تقتضي الوصول إلى المجرم، وهي مصلحة واحدة ومصالح المتهمين أقوى وأظهر.

والقول بجواز التعذيب يجر إلى ألوان من الظلم والشرور، تربو على ما يترتب عليه من المصالح.

والحق أن تحصين أي مجتمع، لا يكون بالعقوبة على الشبهة، ولا بانتزاع اعترافات عبر التعذيب، ولا بإصدار أحكام قضاء قاسية، لا يتناسب فيها العقاب مع الجريمة، و إنما هو بالعدل، -كما قرر ذلك عمر بن عبد العزيز في رسالة إلى أحد عماله-والعدل هو ترك الجور، فإذا كان ترك التعذيب قد يؤدي إلى إفلات الجناة من قبضة العدالة، فإن التعذيب قد يؤدي إلى سقوط الأبرياء في قبضة الطغيان، وذلك يؤدي إلى كثرة المظلومين والمضطهدين، وإلى شيوع الإرهاب البوليسي والقضائي.

والقول بأن وسائل الجريمة تطورت، يعادله القول بأن وسائل كشف الجريمة أيضا تطورت، من تحليل الدماء والشعور والبصمات، ومن وسائل مراقبة المجرمين الصوتية والسمعية، فإذا كانوا يذكرون تطور وسائل إخفائها، فليذكروا: تطور وسائل كشفها ، فهذه بتلك تتكافآن.

6=القول بتحريم التعذيب لا يعني ترك الحبل على الغارب:

وفي كلام مجيزي التعذيب شبهة أخرى إذ يوهم كلامهم بأن التعذيب هو الوسيلة المثلى لإقرار الحق، وأنها إن لم تسلك ضاعت الحقوق، كأن البديل عنها إطلاق أرجل المعتدين وأيديهم، كما يفهم من قول ابن القيم ((فمن أطلق كل متهم وحلفه، وخلى سبيله، مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، وكثرة سرقاته، وقال لا آخذه إلا بشاهدي عدل فقوله مخالف للسياسة الشرعية)) (الطرق16).

ومثله قول ابن تيمية ((ما علمت أحداً من أئمة المسلمين المتبعين، قال إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوي، يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره...، فليس هذا على إطلاقه مذهب أحد من الأئمة)) (الفتاوى:35 /40).

وكلامهما قد يوهم بأن مانعي التعذيب، يرون أن يحلف ثم يطلق كل متهم معروف بالفساد والإجرام، إذا لم يتوفر شاهدان، ولم يقل بهذا أحد من الفقهاء، لا من القدماء ولا من الحدثاء، ولكن معارضي التعذيب قالوا يكتفى بالحبس، ومن المناسب إذا قويت القرائن، أن يكون الحبس انفراديا، على أن لا يزيد عن شهر، وأن يكون حبس (تضييق) جماعياً على أن لا يزيد عن ثلاثة أشهر.

7=القوانين الأوربية أعدل من بعض أنماطنا القضائية التي تجاوز مسطرة النص القطعي إلى الخراص:

لا بد من التصور الكلي لقضية العدالة والحق، لكي لا نضرب كليات الشريعة يجزئياتها، ومقاصدها وروحها، بتأويل نصوصها، والعدل من ما أوحاه الله إلى الطبائع، فجاء تأكيده في وحي الشرائع، كما بين الشاطبي في الموافقات، وولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة وأي فقه يتوسل بشكليات المنهج الشرعي، إلى هدم مقاصد القضاء الإسلامي وكليات الشريعة، ونصوصها الصحيحة الصريحة، فإنماهو حكم ضلال، ولو رفع راية الشريعة، فالفقه كما قال ابن القيم :

العلم قال الله وقال رسوله قال الصحابة هم ألو العرفان.

لقد راجت نظرية تعذيب المتهم منذ القرون الوسطى الإسلامية، تحت ستار محاربة الجريمة والأخذ بالأحوط، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة والمصالح المرسلة، وصار الاعتقال والخطف والاغتيال أموراً مسكوتا عنها، تحت ستار أنها نوع من الجور، يسعنا السكوت عنه،

وأوذي الأحرار المتنورون والمصلحون، من العلماء والدعاة، والأدباء والمفكرين، والساسة والمثقفين، من ما يدل على استشراء الداء. ومن المؤسف أن يدافع بعض الفقهاء عن نظريات القمع، على أن هؤلاء يدافعون عن جلاديهم وهم لا يشعرون، نموذج ذلك أن بعض الفقهاء رحمنا الله وإياكم وإياهم، أجاز للسلطنة أن تلزم الكفي بالقضاء، وأن تضربه أسواطا على ذلك، فكيف يلام المنصور-إذن- على ضرب الإمام أبي حنيفة على القضاء؟ والفكر الذي كتبه الجويني ونحوه، يجيز قمع أهل البدع، إذن علام يلام السلطان، إذا أخذ برأي الفقهاء الذين اعتبروه مبتدعا، وقمعه وآذاه؟ وهكذا تدور طاحونة القمع بمنتجيها قبل خصومهم، من أجل ذلك نقول: على الفقهاء والقضاة أن ينتبهوا، لأن الفكر القمعي وفي لمنهجه، وليس وفيا لمنتجه، أما الفكر المتسامح، فهو وفي لمنتجه، لأنه وفي لمنهجه.

هذه المشكلة النظرية، أقسى من المشكلة التطبيقية، التي تكمن في احترام المنفذين للقانون من قضاة ومحققين، ورجال بوليس، هؤلاء الذين نجدهم في أحيان كثيرة، يضيقون ما وسع الله، وينتهكون كرامة الإنسان.

إن تضخم السلطة التنفيذية وترك تحديدها يدعوها إلى البطش، فالقوة بطبيعتها تؤدي إلى التعدي والطغيان، كما قال تعالى "كلا إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى"، ولذلك شرعت الدول الشورية العادلة، قوانين وضوابط، تحمي الفرد من طغيان الدولة، وتجير الضعيف من بطش القوي، وتقلم أظفار الشرط، كي لا تطول.

ومهما كان ضمير الفرد حيا، فإن ضبطه بالقانون ضروري، فقاض لا ضمير له يقضى بمسطرة، خير من قاض نزيه يقضى مجتهدا دون مسطرة.

والمظاهر السلبية لرجل البوليس مبيدة مهلكة، تؤدي إلى إساءة استعمال السلطة، وإلى الظلم والتحيز، وإلى سوء المعاملة، وإلى تقديم المصالح الخاصة على العامة.وهذه السيئات التي يقوم بها المنفذون ، يتحمل مسئوليتها القادة الموجهون (القيم:189-190).

فقد يسيء الجهلة الشرسون إلى سمعة الدولة، وهم لا يشعرون، وهم يظنون أنهم يحسنون، وأنهم يؤدون الواجب بحرص ،ويقومون بتنفيذ الأوامر بحزم، فيصبحون مثلا للعسف والقهر، ويستخفون بحقوق الإنسان وكرامته، باسم الأمن الوطني، وينتهكون الحريات ، باسم التحريات، ويسكتون أصوات المطالبين بالحرية والحق، باسم الحفاظ على الأمن، ويمارسون القمع والكبت والتعذيب، باسم التأديب والتعزير، وهذا يؤدي إلى ما يسمى بالنظام البوليسي (القيم:192).

ويزداد شراسة عندما يعتمد على قوانين جائرة، كأحكام الطواري العرفية، والمحاكم العسكرية، عندها يجتمع الإرهاب القضائي والإرهاب البوليسي، ولذلك قيدت الشريعة كل قاض، وقيدت كل محكمة بأن يكون القضاء وفق حدود الشريعة، وحرمت أي تصرف خارجها، وألزمت كل حاكم بها، قال تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة :49] و {من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} المائدة [44] و {من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة:45] و {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة:47].

وهذه القوانين المخالفة للشريعة ضلال ، فليحذر المنفذون لها من أن يكونوا من أهل الضلالة، الذين قال الله عنهم {وقالوا ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} وطاعة الناس لهذه الأحكام معصية لله، بل اعتبرها الشيخ محمد بن عبدالوهاب شركا فقال في باب صريح (من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد أتخذهم أربابا من دون الله) ( فتح المجيد:390).

وهي من حكم الأئمة المضلين، الذين خاف الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة منهم، فقال: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) قال الشيخ عبدالرحمن حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب: أي الأمراء والعلماء والعباد، الذين يحكمون بغير علم فيضلونها، وهذا النمط من الحكم يهدم الإسلام، كما قال زياد ابن حدير: قال لي عمر بن الخطاب: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق، وحكم الأئمة المضلين (رواه الدارمي- انظر فتح المجيد:271).

إن ترك (الجريمة والعقاب) خاضعة للرأي الذي هو باب الهوى، يجعلها ترجمة خاطئة أحيانا للمتغيرات الاجتماعية والسياسية. ويفتح الباب على مصراعيه، أمام دكتاتورية السلطان، المتيقن أنه دائما على حق، أو أمام دكتاتورية المجتمع المتيقن أنه أيضا على حق، وهذا وهؤلاء قد يتصورون أن معاييرهم (في الجريمة والعقاب) ترجمة لمعيار علوي مقدس، قائم على اليقين المطلق، وذلك شر ما يقع فيها الإنسان إذا نسي أو طغى.

ولذلك حسم الإسلام هذه المسألة فقرر أن الحكم لله. وما لم يرتبط التحريم والتحليل بقانون السماء، وما لم يتناسق معيار (الأمن)، مع معيار (الإيمان) فحدث عن الإرهاب والقهر:

إذا الإيمان ضاع فلا أمان × ولا دنيا لمن لم يحي دينا

كما يجب أن يتولى التحقيق قضاة أكفياء، تابعون للقضاء، فلا يكفي أن يكونوا من الأكفياء، بل يجب أن تكون مرجعيتهم الإدارية قضائية.

كما أنه يجب أن يكون السجين والسجن بإشراف قضائي، يفرق بين السجين الذي يسجن سجن (تعويق)، والمتهم الذي يسجن سجن (تضييق) أثناء التوقيف المحدد بما لايزيد عن ثلاثة أشهر، إذا قويت قرائن التهمة بالجريمة، وفي ذلك تعذيب بدني ونفسي كاف.

أما ترك ظروف التوقيف بأيدي أجهزة بوليسية، لا تتوفر فيها ضمانات الكفاية الأخلاقية والقانونية، فلا تدري ماحقوق المتهم، ولا تتوفر فيها العدالة الشرعية، وقد تمارس القهر والتعذيب، باسم التأديب والتعزير، والأمن والإصلاح، فذلك حكم ظاهره الرحمة والفطرة والشريعة، وباطنه البطش وإرهاب البوليس والقضاء معا.

فإذا كان القضاء لا يشمل جميع مراحل القضية، وجميع القضايا، فالحديث عن سيادة الشريعة أو القانون أو العدالة كلام مرسل من دون برهان.

هـ:الخلاصة: الإقرارات التي قدمتها الهيئة معيبة في كل قانون عادل،

بله القانون الشرعي:

1-[أول ضمانات العدالة:تجريم كافة أنواع التعذيب]

قرر الإسلام عدم الأخذ بإقرارات الخوف والتخويف، ومن ما اثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا " ليس الرجل بمأمن على نفسه إن أجمعته أو أوثقته أو ضربته أن يعترف على نفسه " كما ذكر عبدالرزاق في المصنف ، وهذا المبدأ الإسلامي الفريد لم تصل إليه البشرية إلا في عصر الحاضر عندما قال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10/12/1948م " لا يعرض أي إنسان للتعذيب أو العقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو المخلة بالكرامة " ( المادة : 5 ) .

والذين يمسون المتهمين بشيء من العذاب والأذى ، قد تجاوزوا نصوص الدين الصريحة ، وأوقعهم الهوى في التأويل الفاسد ، والتماس الطرق الضيقة، وما أبعد هؤلاء عن شرع الله ، وهم يضربون الناس ليلاً ، ويقودونهم صباحاً إلى القضاء ، لكي يعترفوا بما فعلوا وبما لم يفعلوا.

إن تحريم التعذيب والحكم بالبراءة الأصلية، هما القاعدتان اللتان أكدهما ميثاق حقوق الإنسان الفرنسي، إنما تسربتا إلى أوروبا كغيرهما من مبادئ العدل في مجال حقوق الإنسان، من الفقه الإسلامي الذي انتقل من خلال المذهب المالكي وعبر القطر الأندلسي إليهم (الخليفة:الاعتراف).

وفي النصف الأخير من القرن الثامن عشر؛ هاجم الكتاب والفلاسفة هذه الأساليب الوحشية، وناضلوا ودافعوا، عن حقوق الضعفاء والمساكين (الخليفة:الاعتراف غير الإرادي) حتى مزقوا هذا القانون المهمين، وقرروا قاعدة (البراءة الأصلية) أي أن الإنسان برئ حتى تثبت عليه التهمة، من خلال الثورة الفرنسية، التي أعلنت حقوق الإنسان سنة 1798م فانتقلت هذه القاعدة من التشريع الفرنسي، إلى التشريعات الدولية، والإسلام قرر هذه القاعدة قبل الثورة الفرنسية، بثلاثة عشر قرنا.

لقد استفاد الغرب من مبادئ العدالة الإسلامية، فحرم التعذيب وجرمه، ونصت قوانينه على أن يعاقب بالأشغال الشاقة، مع الحبس بضع سنوات (من ثلاث إلى عشر)؛ كل من أمر بتعذيب متهم أو عذبه بنفسه، لحمله على الاعتراف، وقررت أن من عذب متهماً حتى مات؛ يحكم عليه بالعقوبة المقررة للقتل عمداً. هذا المبدأ الرائع وصل إليه غير المسلمين بعقولهم البشرية، لأنه من وحي الله للطبائع، إذ أوحى لها الفضائل "كما أوحى ربك إلى النحل" وجاء لتأكيد ذلك وحي الله على لسان أنبيائه في الشرائع.

لكن هيئات القضاء الشرعي في بعض الدول الإسلامية تجيزالتعذيب، بحجة المصالح المرسلة وفساد الناس والزمان، وكأنها لا تدرك أن وحي الشرائع جاء لتأكيد وحي الطبائع، وصدق الله العظيم "وإن فريقا منهم ليلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب".

على من أراد أن يعرف كيف سما الإسلام بحقوق الإنسان ورفعها إلى مستوى التكريم والتقديس، قد يغفل عن قدرها إذا قارنها بما وصلت إليه الحضارة الغربية الآن، لأنها تبدو اليوم نمطا مألوفاً أنتجته العلمانية منذ الثورة الفرنسية، ولكن من أراد أن يقدرها حق قدرها، فلينظر إليها في سياق التاريخ، إذ إن الإسلام أول من حرم التعذيب، وأول من نادى بالبراءة الأصلية، وأول من نادى بأن البينة على من ادعى، لا على المتهم، وأول من نادى بدرء العقوبة بالشبهة، والفقهاء أول من قرر أن السجن (تعويق) عن الحركة، وليس بتضييق يضير العقول والنفوس والأجساد.

ومن المظالم التي تنتشر باسم الشريعة والعدل، أن تجد المتهم يقلب بين يدي المحققين والمستجوبين، بين التضييق والتعذيب، حتى يلين ويقر ويعترف، ثم يؤتى به إلى القاضي، ليسجل إقراره، وهذا بسبب عدم شمول القضاء جميع مراحل القضية، ولذلك فإن أي قضاء غير شامل؛ غير شرعي ، وكل صك يصدر منه باطل، لأنه مبني على باطل.

ومن الترهات، أن تجد القاضي يتحدث عن براءة ذمته، هو ويعرف أن المتهم قد سيق إليه بالأغلال، وهذه الأغلال مظنة الأكراه على الاعتراف، أو هو يعلم أن السجن سجن تعذيب وإرهاب. فأي ذمة تبرأ.

فهل القاضي الذي اعتبر إقرار إنسان أو إنسانة مستضعفة شرعيا، يدري أن إقرارها لن يكون شرعيا حتى تتحقق الأمور التالية:

الأول: أن تزال عنها أشباح الرعب والتخويف.

الثانية: أن يتوافر لها محامية أو وكيلة.

الثالثة: أن يكون التحقيق معها بين يدي قاض ذي كفاية شخصية وموضوعية.

الرابعة: أن لا تستخدم فزاعة تهم كبرى أو أخرى، من أجل "اضربه بالوت يقنع بالحمى" لم يثبت حتى تثبت ثباتا شرعيا، وفق الضوابط الشرعية، للقبض والتفتيش.

والمتأمل يجد أن القضاء يشارك البوليس، في تفاقم المشكلات،عبر ثلاثة أساليب:

الأول: عندما لا يتأكد القاضي من أن الإقرار ناتج عن إرادة حرة.

الثاني: عندما يحكم على المتهم بناء على هذا الإقرار.

الثالث: عندما يصدر حكما قاسيا، على المتهم، يريد به زجره وتأديبه، فإذا به يزيد المشاكل، وإذا بصاحب الخطأ العادي، يتحول إلى مجرم عتي، أو إلى مريض نفسي في مشفى أو مصحة.

2- هيمنة القضاء على جميع المحاكمات:

من أهم ضمانات حقوق المتهم، توافر معايير استقلال القضاء، أن تهيمن سلطة القضاء على جميع أنواع المحاكمات، وأن يشرف القضاء على كل مراحل سير القضية.ومن أجل محاكمة عادلة للمتهم، يجب أن يشرف القاضي، على كل مراحل القضية، فيجب أن يشرف على تفتيش منزل المتهم، بل يجب أن يكون التفتيش بأمر قضائي، فإن كان الأمر مستعجلا، أمكن أن يقوم الوالي، بإصدار أمر التفتيش ثم يقوم القاضي بإصدار قرار بتسويغ ذلك، على أن يكون التفتيش بحضور صاحب البيت أو وكيله، كما نص النظام.

3-إشراف القضاء على السجون:

إنه من ما يتسق مع رحمة الشرائع، التي لم تأت بما يخالف الطبائع، والتي نصت على تجديد الوسائل، لتحقيق كل مقصود مشروع فيها، ومن أجل ذلك يجب في الشريعة، أن تقوم سلطة القضاء، بالإشراف على أوضاع السجناء، وتفقد أحوال المساجين، لتتأكد من أن الزنازين، حسب المواصفات الشرعية، وتتأكد من أن الإقرار يتم بالصورة الشرعية، وأنه ليس في السجن أحد بدون أمر قضائي، وأنه المسجون بالتهمة، لم يقم مدة أطول من ما رآه القاضي، ولتتأكد من أن السجين في كل شئونه يعامل وفق ضوابط شرعية، وأن مواصفات السجن مواصفات (تعويق) لا (تضييق).

وقد جرت عادة القضاة حتى في عصور الحكم الجائر القديم، أن يكون عمل القاضي أول ما يعين، هو تفقد أحوال المساجين، ونص الفقهاء على ذلك، للتأكد من أنه لا سجين من دون وجه حق، وقد أقرت مبدأ إشراف القضاء على السجون كثير من الدول الدستورية، واعتبر ذلك أحد المعايير العشرين لاستقلال القضاء، حيث صار للقضاء اليد العليا في كلما يتعلق بالسجين، في مرحلة الاتهام ومرحلة التحقيق، أم حين إنفاذ العقوبة، إشرافاً على الأغذية، والزنازين والأثاث وصحة نفس السجن وجسمه.

ويجب اليوم على السلطان ، أن يفك أسر سلطة القضاء من أغلاله لكي يصح القول بتطبيق القانون العادل والشريعة، فتتبلور العلاقة بين القضاء والسجون، بأنها علاقة إشراف ومراقبة وتفتيش، وليست مجرد علاقة تجريم وتبرئة وإصدار صكوك، وهذا يدعو إلى أن ينقل الإشراف على السجون من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل.

ولا ريب أن إشراف القضاء على السجون، ارتباطها بوزارة العدل سيقضي على بيوت الرعب والأشباح، التي تجرى فيها ألوان التعذيب والترهيب، حيث تمارس ضد المتهمين ألواناً من العذاب، التي لا يلمس تأثيرها على الأجسام، كالتسهير المتواصل، والصفارات المزعجة، التي تبث أصواتاً مخيفة، وتسليط الأنوار المتوهجة، وتسليط كمرات التصوير، والحبس الانفرادي لأن ذلك يسد مسارب الاستعانة بأدوات إجرامية في التحقيق، كالتعذيب، وكعقاقير سلب الإرادة، ونحوها من الأمور الفظيعة الشنيعة.



4- إلحاق التحقيق بسلطة القضاء العام وفصله عن سلطة الاتهام:

التحقيق من أعمال القضاء، والاتهام من أعمال الادعاء سواء أكان المدعي شخصاً أم هيئة أم دولة، من أجل ذلك وجب أن تكون سلطة التحقيق منفصلة عن سلطة الاتهام، لأن ترك ذلك يجعل سلطة المحقق بلا حدود ولا ضوابط، إلا ضابط الضمير. وهو ضابط ذاتي، يغفل وينام ويعوج، وليس ضابطا موضوعيا ذا صرامة منطقية، فالمحقق هو الذي يقرر أين يوضع السجين؟ أفي زنزانة ضيقة أم واسعة؟، وهل يعتقل منفردا أم مع آخرين؟، وهل يرى الشمس والهواء بضع دقائق كل يوم أم كل أسبوع أم كل شهر، وهل يسمح له بشراء منشفة أو حذاء؟، وهل يسمح له بشراء طعام خاص؟، فيصبح المتهم بين يدي المحقق، كالميت بين يدي الغاسل، أو كالمريد بين يدي الصوفي. ومن المفارقات أن يصبح القاضي هو السجان، والمعذب هو الطبيب.

وهذا يجعل المحقق خصماً وحكما في آن واحد، ولا ريب أن جهاز المدعي العام، بحكم مهنته، يشتط أحيانا فيميل إلى إثبات جناية المتهم، وإلى الاعتقاد بأنه مهمته هي تعزيز أدلة الاتهام، وقد تبهره نشوة الانتصار وكسب الدعوى، على متهمين لا يحسنون الدفاع عن أنفسهم، وتنقصهم القدرة على إثبات براءتهم، تجاه قرائن خادعة. وبينات مضللة،(المحق:بحث.د/الغماز).

إن جهاز الإدعاء العام، وهو السلطة التي قررت الاعتقال والتفتيش، ومن الطبيعي أن تتجه إلى تبرير تصرفاتها، ومن ثم تنساق إلى أن تنتزع من المتهم، ما يجعل اعتقاله أمراً مشروعاً.

ولكي تتحقق العدالة، لابد من فصل سلطة الاتهام، عن سلطة التحقيق فسلطة الاتهام، قد توجه التهمة، بدعوى من غير دليل، ويحتمل فيها التضليل. وسلطة التحقيق سلطة قضائية، وكذلك سلطة الادعاء، نوع من أنواع القضاء، ولذلك يسمى قضاته (الواقفين) تمييزا لهم عن قضاة المحاكم الذين يسمون القضاة (الجالسين)، وقد بينا وظيفة المدعي العام وطبيعة عمله الشرعية، في المذكرة التي قدمناها لفضيلتكم، مطالبين بعلنية المحاكمة.

ومرجعية المدعي العام قضائية، ينبغي أن تكون إما تحت إشراف وزارة العدل، هذا ما هو واقع في الدول الشورية كفرنسا وغيرها، وإلحاق التحقيق بجهاز الداخلية ، وقد اتجهت بعض تشريعات الدول الدستورية إلى هذا الأسلوب، لما فيه من تحقيق العدالة للمتهم، مظنة التفريط بحقوق المجتمع، وإلحاق التحقيق والادعاء بوزارة العدل أحرى بالوصول إلى العدل، وإما بانفصالهما(تحقيقا وادعاء) تحت مسمى (النيابة العامة)، وربطهما برئيس مجلس الوزراء مباشرة. المهم أن لا تربط بوزارة الداخلية.

إن الإسلام-على كل حال- لا يجيز أن يكون التحقيق من غير جهاز القضاء الشرعي. لأن التحقيق نوع من القضاء، وكون التحقيق ملحقاً بالسلطة التنفيذية، نمط من أنماط إرهاب القضاء.

ومع تقديرنا لمن في هيئة الادعاء أو القضاء من الفضلاء، فإننا نتحدث عن عدالة الأنظمة، ونحن نعرف أناسا كبارا في كلا الجهازين، يصادقون على اعترافات الإكراه، وبعضهم رآه بعضنا في سجن الحائر يسأل بعضنا قبل المصادقة على الإقرار: هل ترى الشمس؟، هل هي طالعة الآن، قلناله: نوقع لك على بياض ما تشاء، الشمس قد طلعت من مغربها، نقدر أنها أخطاء شخصية، وأن غرض القاضي عندما ذهب إلى السجن للمصادقة، كان احترام السجين والتقدير، وذلك قصد مشكور.

ولكن ما نحن بصدده هو صلاح الأنظمة، الصلاح المؤسسي، ولسنا نريد التشهير بأحد، ولن نقاضي أحدا أخطأ علينا، نحن كعشرات غيرنا من تيا ر دعاة الحقوق، المطالبين بتعزيز العدل والشورى وحقوق الإنسان، وهم عندما يحتسبون،-لا يظنون أنه لايخطئون الوسائل، ولكن مقاصدهم حسنة، ويسألون الله الثبات على صلاح الطوية، كما قال لقمان"أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور"(لقمان:17) والتوفيق إلى العمل الصالح.

ليست هناك تعليقات: