بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

14 يوليو 2010

حكم بعدم دستورية الماده 123 اجراءات جنائية فى القضية رقم 37 لسنة 11 قضائية "دستورية"


باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم 6 فبراير سنة 1993

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين : الدكتور محمد ابراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامى فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين.

وحضور السيد المستشار/ محمد خيرى طه عبد المطلب رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد أمين السر





أصدرت الحكم الآتى

فى القضية رقم 37 لسنة 11 قضائية "دستورية"





الإجراءات

بتاريخ 8 أغسطس سنة 1989 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بقبول الطعن شكلا ، وفى الموضوع بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وقدم المدعى عليه الرابع عدة مذكرات بدفاعه آخرها بتاريخ 14 أكتوبر سنة 1992.

وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.





المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق والمداولة.

حيث إن الوقائع-على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل فى أن المدعى عليه الرابع كان قد أقام – بطريق الادعاء المباشر- الدعوى رقم 508 لسنة 1988 جنح سيدى جابر المقيدة برقم 20 لسنة 1988 كلى الاسكندرية- ضد المدعى متهما إياه بأنه أسند إليه فى مؤلفه (رجال عبد الناصر والسادات) وقائع تتضمن قذفا فى حقه وتستوجب عقابه بالمواد 302، 303، 307 من قانون العقوبات ، وهى وقائع نسبها إليه باعتبارها متعلقة بالفترة التى كان يشغل فيها منصب المدعى العام الاشتراكى، ويتعين بسبب زيفها إلزامه بأن يؤدى إليه تعويضا مقداره خمسمائة ألف جنيه لجبر الأضرار الناشئة عنها. وإذ دفع المدعى بالحقوق المدنية- إعمالا لنص الفقرة الثانية من المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية- بسقوط حق المتهم فى التدليل على صحة الوقائع التى أسندها إليه، وطعن المتهم بعدم دستورية هذه الفقرة ذاتها، وقدرت محكمة الموضوع جدية دفعه مصرحة له برفع الدعوى الدستورية ، فقد أقام الدعوى الماثلة.



وحيث إن المادة 302 من قانون العقوبات تنص فى فقرتها الأولى على أن "يعد قاذفا كل من أسند لغيره بواسطة إحدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون أمورا لو كانت صادقة، لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانونا، أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه" كما تنص فقرتها الثانية على أنه "ومع ذلك، فالطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة لايدخل تحت حكم هذه المادة إذا حصل بسلامة نية، وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة بشرط إثبات حقيقة كل فعل أسند إليه".

أما فقرتها الثالثة فنصها" ولايقبل من القاذف إقامة الدليل لإثبات ما قذف به إلا فى الحالة المبينة فى الفقرة السابقة"، وتوجب الفقرة الثانية من المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية على المتهم بارتكاب جريمة القذف بطريق النشر فى إحدى الصحف أو غيرها من المطبوعات أن يقدم للمحقق عند أول استجواب له ، وعلى الأكثر فى الخمسة الأيام التالية ، بيان الأدلة على كل فعل أسند إلى موظف عام أو شخص ذى صفة نيبابية عامة أو مكلف بخدمة عامة وإلا سقط حقه فى إقامة الدليل المشار إليه فى الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات، فإذا كلف المتهم بالحضور أمام المحكمة مباشرة أو بدون تحقيق سابق، وجب أن يعلن النيابة والمدعى بالحق المدنى ببيان الأدلة فى الخمسة أيام التالية لإعلان التكليف بالحضور، وإلا سقط حقه كذلك فى تقديم الدليل. وجاء فى المذكرة الإيضاحية لنص المادة 123 من القرار بقانون رقم 113 لسنة 1957 مايلى :



من المفهوم أن نص قانون العقوبات على عدم العقاب على القذف فى حق الموظف العام أو ذى الصفة النيابية العامة أو المكلف بخدمة عامة معناه أن المشرع قد افترض فى القاذف التأكد بالدليل من صحة مايرمى به وأن أدلته جاهزة لديه قبل النشر وإلا كان القذف مجازفة يعتمد مرتكبها على ما يتصيده من أدلة.



لذلك يجب التدخل بإلزامه بتقديم هذه الأدلة دون مطل أو تأخير وحتى لاتبقى أقدار الناس معلقة مدة قد تطول فيتأذون بهذا التعليق أبلغ الأذى، وإنه وإن كانت المصلحة العامة قد أباحت الطعن على الموظفين وغيرهم من ذوى الصفات العامة، فإن هذه المصلحة بعينها تقضى بحمايتهم من المفتريات التى توجه إليهم نكالا باشخاصهم فتصيب الصالح العام من ورائهم بأفدح الأضرار. فرؤى لذلك إضافة حكم جديد إلى المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية يوجب على المتهم بارتكاب جريمة قذف بطريق النشر فى إحدى الصحف أو غيرها من المطبوعات أن يقدم عند أول استجواب له وعلى الأكثر فى الخمسة الأيام التالية بيان الأدلة على وقائع القذف وإلا سقط حقه فى إثباتها بعد ذلك، على أن هذا الإيجاب لايتجاوز مطالبته بتقديم صور الأوراق التى يستند إليها وأسماء الشهود الذين يعتمد على شهادتهم وما يستشهدهم عليه. وغنى عن البيان أن إيراد هذا الحكم فى المادة 123 بباب التحقيق بمعرفة قاضى التحقيق، ينصرف أيضا بطريق اللزوم إلى التحقيق بمعرفة النيابة العامة إعمالا للمادة 199 التى تسحب الأحكام المقررة لقاضى التحقيق على إجراءات التحقيق بمعرفة النيابة العامة فيما لم يرد فيه نص خاص بها. أما حيث ترفع الدعوى دون استجواب المتهم أو يرفعها المدعى بالحق المدنى مباشرة وفى الأحوال التى يجوز فيها ذلك، فيكون على المتهم إعلان البيانات المتقدمة فى مدة الخمسة أيام التالية لإعلان التكليف بالحضور.



وحيث إن البين من الأوراق أن المضرور من الوقائع التى نسبها إليه المدعى فى أحد مؤلفاته- والتى اعتبرها قذفا علنيا فى حقه- هو الذى أقام الادعاء المباشر وبه ترفع الدعوى الجنائية- وكان من المقرر قانونا إن المصلحة الشخصية المباشرة- وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية- مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم الصادر فى المسألة الدستورية مؤثرا فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع ، وكان انعقاد الخصومة الجنائية من خلال الادعاء المباشر يتحقق بإعلان صحيفة التكليف بالحضور إلى المتهم بناء على طلب المدعى بالحق المدنى، وكان المدعى فى الدعوى الماثلة قد كلف بالحضور أمام المحكمة الجنائية مباشرة وبدون تحيق سابق، فإن مصلحته الشخصية المباشر التى يتحدد بها نطاق الطعن فى الدعوى الماثلة- تنحصر فيما تضمنته الفقرة الثانية من المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية من إلزامه إعلان النيابة والمدعى بالحق المدنى ببيان الأدلة على صحة كل واقعة أسندها علانية إلى المدعى بالحق المدنى، وذلك خلال الميعاد المحدد فيها، وهو خمسة الأيام التالية لإعلان التكليف بالحضور، وإلا سقط حقه فى إقامة الدليل.

وحيث إن المدعى ينعى على الفقرة الثانية من المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية مخالفتها للدستور بمقولة أن القرار بقانون رقم 113 لسنة 1957 أدخلها كتعديل على هذا القانون وأنه لايجوز تنظيم الحريات العامة أو تقييدها إلا بقانون.

وحيث إن هذا النعى مردود بأن القرارات بقوانين التى تصدر عن رئيس الجمهورية إعمالا لسلطاته الدستورية المنصوص عليها فى المادتين 108، 147 من الدستور، لها بصريح نصها قوة القانون، ومن ثم فإنها تتناول بالتنظيم كل ما يتناوله القانون بما فى ذلك المسائل التى نص الدستور على أن يكون تنظيمها بقانون أو وفقا لأحكام القانون. فإذا تضمن القرار بقانون قيدا على حق أو حرية عامة يعطل الانتفاع بها أو يضيق من نطاقها، وقع هذا القرار فى حومة المخالفة الدستورية لخروجه على الحدود التى رسمها الدستور فى مجال تنظيمها.

وحيث إن المدعى ينعى على النص التشريعى المطعون عليه إهداره أصل البراءة الذى كلفته المادة 67 من الدستور، وذلك بإلزامه المتهم بارتكاب الجريمة المنصوص عليها فى الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات إثبات صحة الوقائع المعتبرة قذفا فى حق القائم بالعمل العام خلال ميعاد قصير للغاية، وهو مايعتبر نفيا للجريمة التى كان يتعين على النيابة العامة إثباتها فى كل ركن من اركانها باعتبار أن اصل البراءاة يمتد إلى كل فرد سواء كان مشتبها فيه أو متهما، وهو ماأكدته الفقرة الثانية من المادة 275 من قانون الإجراءات الجنائية بإيجابها أن يكون المتهم – فى كل الأحوال – آخر من يتكلم.

وحيث إن هذا النعى مردود بأن ما يعد قذفا وفقا للقانون إنما يندرج تحت الجرائم التى تخل باعتبار الشخص وقدره. وقد دل المشرع بالنصوص التى حدد بها أركان هذه الجريمة على أن قوامها إسناد واقعة محددة قصدا وعلانية إلى شخص معين إذا كان من شأن هذه الواقعة – لو قام الدليل على صحتها- عقابه أو احتقاره.

والأصل فى هذه الجريمة أن مرتكبها- وكلما توافرت اركانها- مؤاخذ بالعقوبة المقررة لها ولو كان يعتقد صحة الواقعة التى نسبها إلى غيره ، أو كان لهذه الواقعة معينها من الأوراق وسواء كان تقديره لثبوتها مشوها أو مندفعا أو متزنا، حملته على إسنادها ضغائن شخصية أم كان مستلهما فى ذلك قوة الحقيقة ونقاء الضمير. ومن ثم لا اعتداد فى قيام هذه الجريمة بصحة الواقعة أو بهتانها، استوائها على الحق أم ولوغها فى الباطل ، اقتران إسنادها بنية الأضرار أم تجرده من سوء القصد.



وإذ كان ما تقدم هو الأصل فى كل واقعة تعد قذفا وفقا للقانون، إلا أن المشرع أباح الإسناد العلنى لما يعد قذفا، وذلك فى أحوال بذاتها هى تلك التى يقتضيها الطعن فى أعمال الموظفين العموميين أو المكلفين بالخدمة العامة أو ذوى الصفة النيابية العامة باعتبار أن هذه الاعمال من الشئون العامة التى لا يجوز أن يكون الاهتمام بالاستقامة فى أدائها والالتزام بضوابطها ومتطالبتها وفقا للقانون مقصورا على فئة من المواطنين دون أخرى ، بما مؤداه أن يكون انتقاد جوانبها السلبية وتعرية نواحى التقصير فيها وبيان أوجه مخالفة القانون فى مجال ممارستها، حقا لكل مواطن وفاء بالمصلحة العامة التى يقتضيها النهوض بالمرافق العامة وأداء المسئولية العامة على الوجه الأكمل ، ولأن الوظيفة العامة ومايتصل بها من الشئون العامة لا تعدو أن تكون تكليفا للقائمين عليها.



والتزامهم الأصلى فى شأنها مقصور على النهوض بتبعاتها بما لا مخالفة فيه للقانون. فإذا كان انتقاد القائم من هؤلاء بالعمل العام منطويا على إسناد واقعة أو وقائع بذاتها علانية إليه من شأنها- لو صحت- عقابه أو احتقاره، وكان هذا الإسناد بحسن نية، واقعا فى مجال الوظيفة العامة أو النيابة أو الخدمة العامة ملتزما إطارها ، وأقام من قذفها فى حقه الدليل على حقيقتها، اعتبر ذلك قذفا مباحا قانونا عملا بنص الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات . متى كان ذلك وكانت الإباحة – بالشروط المتقدمة- مستندة إلى نص القانون، فإن الفقرة الثانية من المادة 302 المشار إليها، تعتبر مصدرا مباشرا لها، وهى فى كل حال لاتعدو أن تكون تطبيقا لقاعدة عامة فى مجال استعمال الحق، إذ يعتبر هذا الاستعمال دوما سببا للإباحة كلما كان الغرض منه تحقيق المصلحة الاجتماعية التى شرع الحق من أجلها.





متى كان ماتقدم ، وكان المشرع- بالإباحة التى قدرها فى مجال انتقاد القائمين بالعمل العام تبيانا لحقيقة الأمر فى شأن الكيفية التى يصرفون بها الشئون العامة- قد وازن بين مصلحة هؤلاء فى طمس انحرافاتهم وإخفاء أدلتها توقيا لخدش شرفهم أو التعريض بسمعتهم من ناحية، وبين مصلحة أولى بالرعاية وأحق بالحماية هى تلك النابعة من ضرورة أن يكون العمل العام واقعا فى إطار القانون وبمراعاة حدوده، وكان المشرع- على ضوء مقتضيات هذه الموازنة وفى حدود ضوابطها- قد حسر عن القائم بالعمل العام الرعاية التى يتطلبها صون اعتباره كلما كان الإسناد العلنى- المتضمن قذفا فى حقه- واقعا فى حدود النقد المباح الذى بين قانون العقوبات شروطه فى الفقرة الثانية من المادة 302 منه، وكان من المقرر أن توافر الشروط التى يتطلبها القانون فى النقد المباح إنما يزيل عن الفعل صفته الإجرامية، ويرده إلى دائرة المشروعية بعد أن كان خارجا عن محيطها لخضوعه ابتداء لنص بالتجريم، وكان البين من الدعوى الموضوعية أن المدعى- فى الدعوى الماثلة- قد ركن فى مجال إثباته انتفاء الركن الشرعى للجريمة، إلى أن ماتضمنه المطبوع الصادر منه من وقائع نسبها إلى أحد القائمين بالعمل العام- والمدعى بأنها تعتبر قذفا فى حقه- لايعدو أن يكون استعمالا من جانبه للحق فى النقد المباح، وهو حق كفل المشرع أصله محددا شرائطه ومقررا بموجبه شرعية استثنائية لفعل أضحى بها مباحا بعد أن كان معاقبا عليه قانونا، فقد تعين على المدعى- إذ يتذرع باستعمال حق مقرر قانونا- أن يقيم الدليل على ثبوته وإنه توخى- فى مجال مباشرته- المصلحة الاجتماعية التى قصد المشرع إلى بلوغها من وراء تقريره، فإن هو أخفق فى برهانه، دل ذلك على أن الشروط التى لا يقوم الحق فى النقد المباح إلا باكتمالها، مختلفة بتمامها أو فى بعض جوانبها، ليرتد الفعل بالتالى إلى صورته الأصلية وهى الجريمة التى لاتجوز إدانته بارتكابها إلا بعد قيام النيابة العامة بإثباتها فى كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما فى ذلك القصد الجنائى الذى تطلبه المشرع فيها، ولا مخالفة فى ذلك كله لإفتراض البراءة الذى كفله الدستور فى المادة 67 منه ليعكس بمقتضاه قاعدة مبدئية تعتبر فى ذاتها مستعصية على الجدل، وتقتضيها الشرعية الإجرائية.

وحيث إن المدعى ينعى كذلك على النص التشريعى المطعون عليه إلزامه المتهم بأن يقدم خلال أجل قصير للغاية بيانا بالأدلة على صحة الوقائع التى نسبها إلى القائم بالعمل العام، وإلا سقط حقه فى إبداء دفاعه وإثبات صحة نقده، وهو مايؤول قطعا إلى إدانته، ويخل بالتالى بضمانتين كفلهما الدستور لسلامة العمل الوطنى هما حق كل مواطن فى النقد الذاتى والنقد البناء على ما تقضى به المادة 47 منه، وكذلك بما قررته هذه المادة ذاتها من كفالة حق كل انسان فى التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير، وينطوى من ناحية أخرى على إهدار لنص المادة 49 من الدستور التى تكفل للمواطنين حرية البحث العلمى والإبداع الأدبى والفنى والثقافى، ويندرج تحتها علم التاريخ والعلوم السياسية، وهو فى كل حال يعطل حق الدفاع المنصوص عليه فى المادة 69 من الدستور، ويناقض مبدأى تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون المقررين بالمادتين 8، 40 منه، وذلك بإلزامه من ينشر مطبوعا وتقام الدعوى الجنائية ضده- دون غيره من المتهمين- بأن يطرح أدلته المؤيدة لصحة الوقائع التى نسبها إلى القائم بالعمل العام خلال ميعاد لا تنفسح فيه إمكانية تقديمها ، وإلا سقط حقه فى إقامة الدليل بصفة نهائية . وتتعارض الفقرة المطعون عليها كذلك وروح الدستور وأهدافه ذلك أن القيود التى فرضتها على الحق فى تقديم الدليل، غايتها إسباغ الحماية الباطلة على رجال الحكم ووأد الآراء المعارضة لهم فى مهدها، ومحو كل تأثير لها حتى لايجرؤ أحد على مواجهتهم. وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن الإطار الذى كفله الدستور لكل محاكمة جنائية- وعلى ماتنص عليه المادة 67 منه- هو أن تكون منصفة، وأن تتقرر الإدانة خلالها- إن كان لها وجه- على ضوء العقيدة التى يطمئن إليها القاضى.



ولا كذلك النص التشريعى المطعون فيه، إذ هو يكرس الفاشية، ويخل فوق هذا بمبادئ الشريعة الإسلامية التى تكفل حرية الرأى وتؤكد حق الرعية فى محاسبة ولاتها، ومن تنعقد لهم ناصية الأمر فيها دون وجل من سطوتهم، ويتعارض بالتالى ونص المادة 2 من الدستور.

وحيث إن هذا النعى سديد فى جوهره، ذلك أن الدستور حرص على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ما ارتآه كفيلا بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها كى لا تقتحم إحداها المنطقة التى يحميها الحق أو الحرية أو تتداخل معها بما يحول دون ممارستها بطريقة فعالة، ولقد كان تطوير هذه الحقوق والحريات وإنمائها من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة، مطلبا اساسيا توكيدا لقيمتها الاجتماعية، وتقديرا لدورها فى مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها، ولردع كل محاولة للعدوان عليها. وفى هذا الإطار تزايد الاهتمام بالشئون العامة فى مجالاتها المختلفة، وغدا عرض الآراء المتصلة بأوضاعها، وانتقاد أعمال القائمين عليها مشمولا بالحماية الدستورية تغليبا لحقيقة أن الشئون العامة، وقواعد تنظيمها وطريقة إدارتها، ووسائل النهوض بها، وثيقة الصلة بالمصالح المباشرة للجماعة، وهى تؤثر بالضرورة فى تقدمها، وقد تنتكس بأهدافها القومية متراجعة بطموحاتها إلى الوراء.

وتعين بالتالى أن يكون انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته حقا مكفولا لكل مواطن، وأن يتم التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها بما يحول- كأصل عام- دون إعاقتها أو فرض قيود مسبقة على نشرها. وهى حرية يقتضيها النظام الديمقراطى ، وليس مقصودا بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته، ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة، وعبر الحدود المختلفة، وعرضها فى آفاق مفتوحة تتوافق فيها الآراء فى بعض جوانبها أو تتصادم فى جوهرها ليظهر ضوء الحقيقة جليا من خلال مقابلتها ببعض ، وقوفا على مايكون منها زائفا أو صائبا، منطويا على مخاطر واضحة أو محققا لملصحة مبتغاه ، ومن غير المحتمل أن يكون انتفاد الأوضاع المتصلة بالعمل العام تبصيرا بنواحى التقصير فيه ، مؤديا إلى الإضرار باية مصلحة مشروعة. وليس جائزاً بالتالى أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة أو مواطن الخلل فى أداء واجباتها، ذلك أن مايميز الوثيقة الدستورية ويحدد ملامحها الرئيسية هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها، ولا يفرضها إلا الناخبون . وكلما نكل القائمون بالعمل العام- تخاذلا أو انحرافا- عن حقيقة واجباتهم مهدرين الثقة العامة المودعة فيهم ، كان تقويم اعوجاجهم حقا وواجبا مرتبطا ارتباطا عميقا بالمباشرة الفعالة للحقوق التى ترتكز فى أساسها على المفهوم الديمقراطى لنظام الحكم، ويندرج تحتها محاسبة الحكومة ومساءلتها وإلزامها مراعاة الحدود والخضوع للضوابط التى فرضها الدستور عليها.

ولايعدو إجراء الحوار المفتوح حول المسائل العامة ، أن يكون ضمانا لتبادل الآراء على اختلافها كى ينقل المواطنون علانية تلك الأفكار التى تجول فى عقولهم- ولو كانت السلطة العامة تعارضها- إحداثا من جانبهم- وبالوسائل السلمية- لتغيير قد يكون مطلوبا . ولئن صح القول بأن النتائج الصائبة هى حصيلة الموازنة بين آراء متعددة جرى التعبير عنها فى حرية كاملة ، وإنها فى كل حال لا تمثل انتفاء من السلطة العامة لحلول بذاتها تستقل بتقديرها وتفرضها عنوة، فإن من الصحيح كذلك أن الطبيعة الزاجرة للعقوبة التى توقعها الدولة على من يخلون بنظامها ، لاتقدم ضمانا كافيا لصونه ، وإن من الخطر فرض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين من ممارستها، وأن الطريق إلى السلامة القومية إنما يكمن فى ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح لمواجهة أشكال من المعاناة- متباينة فى أبعادها- وتقرير ما يناسبها من الحلول النابعة من الإرادة العامة.



ومن ثم كان منطقيا، بل وأمرا محتوما أن ينحاز الدستور إلى حرية النقاش والحوار فى كل أمر يتصل بالشئون العامة، ولو تضمن انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام، إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتا ولو كان معززا بالقانون، ولأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل، ولحرية الإبداع والأمل والخيال، وهو فى كل حال يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه، بما يعزز الرغبة فى قمعها، ويكرس عدوان السلطة العامة المناوئة لها ، مما يهدد فى النهاية أمن الوطن واستقراره.

وحيث إنه على ضوء ماتقدم ، فإن انتقاد القائمين بالعمل العام – وإن كان مريرا- يظل متمتعا بالحماية التى كفلها الدستور لحرية التعبير عن الآراء بما لا يخل بالمضمون الحق لهذه الحرية، أو يجاوز الأغراض المقصودة من إرسائها . وليس جائزا بالتالى أن تفترض فى كل واقعة جرى إسنادها إلى أحد القائمين بالعمل العام ، أنها واقعة زائفة أو أن سوء القصد قد خالطها. كذلك فإن الآراء التى تم نشرها فى حق أحد ممن يباشرون جانبا من اختصاص الدولة، لا يجوز تقييمها منفصلة عما توجبه المصلحة العامة فى أعلى درجاتها من عرض انحرافهم ، وأن يكون المواطنون على بينة من دخائلها. ويتعين دوما أن تتاح لكل مواطن فرصة مناقشتها واستظهار وجه الحق فيها.



وإذ كان الدستور القائم قد نص فى المادة 47 منه على أن حرية الرأى مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، وكان الدستور قد كفل بهذا النص حرية التعبير عن الرأى بمدلول جاء عاما ليشمل حرية التعبير عن الآراء فى مجالاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، إلا أن الدستور – مع ذلك- عنى بإبراز الحق فى النقد الذاتى والنقد البناء باعتبارهما ضمانان لسلامة البناء الوطنى ، مستهدفا بذلك توكيد أن النقد – وإن كان فرعا من حرية التعبير- وهى الحرية الأصل التى يرتد النقد إليها ويندرج تحتها، إلا أن أكثر مايميز حرية النقد- إذا كان بناءً- إنه فى تقدير واضعى الدستور ضرورة لازمة لا يقوم بدونها العمل الوطنى سويا على قدميه، وما ذلك إلا لأن الحق فى النقد – وخاصة فى جوانبه السياسية – يعتبر إسهاما مباشرا فى صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضرورة لازمة للسلوك المنضبط فى الدول الديمقراطية، وعائقا دون الإخلال بحرية المواطن فى أن يعلم ، وأن يكون فى ظل التنظيم البالغ التعقيد للعمل الحكومى قادرا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه، على أن يكون مفهوما أن الطبيعة البناءة للنقد – التى حرص الدستور على توكيدها- لايراد بها أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التى تعارضها لتحديد ما يكون منها فى تقديرها موضوعيا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق فى الحوار العام ، وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم من المساواة الكاملة.

ومارمى إليه الدستور فى هذا المجال هو ألا يكون النقد منطويا على آراء تنعدم قيمها الاجتماعية كتلك التى تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية أو التى تكون منطوية على الفحش أو محض التعريض بالسمعة . كما لا تمتد الحماية الدستورية إلى آراء تكون لها بعض القيمة الاجتماعية ، ولكن جرى التعبير عنها على نحو يصادر حرية النقاش أو الحوار كتلك التى تتضمن الحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة تتعرض لها مصلحة حيوية .



إذ كان ذلك فإن الطبيعية البناءة للنقد لا تفيد لزوما رصد كل عبارة احتواها مطبوع، وتقييمها- منفصلة عن سياقها- بمقاييس صارمة ، ذلك أن ماقد يراه إنسان صوابا فى جزئية بذاتها ، قد يكون هو الخطأ بعينه عند آخرين، ولا شبهة فى أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأوون إلى المغالاة، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس فى المجال الذى لا يمكن أن تحيا بدونه، فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه.

ولايسوغ بحال أن يكون الشطط فى بعض الآراء مستوجبا إعاقة تداولها. وتقتضى الحماية الدستورية لحرية التعبير، بل وغايتها النهائية فى مجال انتقاد القائمين بالعمل العام، أن يكون نفاذ الكافة إلى الحقائق المتصلة بالشئون العامة، وإلى المعلومات الضرورية الكاشفة عنها متاحا ، وألا يحال بينهم وبينها اتقاء لشبهة التعريض بالسمعة، ذلك أن ما نضفيه إلى دائرة التعريض بالسمعة- فى غير مجالاتها الحقيقة- لتزول عنه الحماية الدستورية، لابد أن يقتطع من دائرة الحوار المفتوح المكفول بهذه الحماية، مما يخل فى النهاية بالحق فى تدفق المعلومات، وانتقاد الشخصيات العامة بمراجعة سلوكها وتقييمه، وهو حق متفرع من الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشئون العامة الحريصين على متابعة جوانبها السلبية وتقرير موقفهم منها. ومؤدى إنكاره أن حرية النقد لن يزاولها أو يلتمس طرقها ألا أكثر الناس اندفاعا أو أقواهم عزما.



وليس أدعى إلى إعاقة الحوار الحر المفتوح من أن يفرض قانون جنائى قيودا باهظة على الأدلة النافية لتهمة التعريض بالسمعة- فى أقوال تضمنها مطبوع- إلى حد يصل إلى إهدار الحق فى تقديمها، وهو ما سلكه النص التشريعى المطعون فيه، ذلك أن الأصل وفقا لنص الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات، هو أن انتقاد القائم بالعمل العام أو من كان مضطلعا بأعبائه، يعتبر أمرا مباحا بشروط من بينها إثبات الناقد لحقيقة كل فعل أسنده إليه. وقد نظم قانون الإجراءات الجنائية فى الفقرة الثانية من المادة 123 منه، الكيفية التى يتم بها هذا الإثبات ، وذلك بإلزامه المتهم- المكلف بالحضور إلى المحكمة مباشرة وبدون تحقيق سابق- بأن يقدم خلال خمسة الأيام التالية لإعلان تكليفه بالحضور، بيانا بالأدلة على صحة كل فعل أسنده إلى القائم بالعمل العام ، وإلا سقط حقه فى تقديم الدليل. وإسقاط الحق فى تقديم الدليل على هذا النحو لابد أن يعقد ألسنة المعنيين بالعمل العام خوفا ، إذا هم أخفقوا فى بيانه خلال ذلك الميعاد الذى ضربه المشرع، وهو ميعاد بالغ القصر.



وعبئا على هذا النحو من الثقل لابد أن يكون مثبطا لعزائم هؤلاء الحريصين على إظهار نواحى القصور فى الأداء العام، لأنهم يستحرجون من إعلان انتقاداتهم هذه ، ولو كانوا يعتقدون بصحتها، بل ولو كانت صحيحة فى واقعها، وذلك خوفا من سقوط الحق فى تقديم الدليل عليها. يؤيد ذلك أن السقوط المقرر بالنص التشريعى المطعون فيه هو مما لا تترخص محكمة الموضوع فى تقديره، بل يعتبر مترتبا بحكم القانون تبعا لقيام موجبه، بما مؤداه أنه إذا ما حكم بهذا السقوط، عومل الناقد باعتباره قاذفا فى القائم باعباء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة ولو كان نقده واقعا فى إطارها، متوخياً المصلحة العامة ، كاشفا عن الحقيقة دائما ، مؤكدا لها فى كل جوانبها وجزئياتها، مقرونا بحسن النية، مجردا من غرض التجريح أو التهوين من مركز القائم بالعمل العام.



وهو ماينحدر بالحق فى النقد العام إلى منزلة الحقوق المحددة الأهمية، ويخل بتعدد الآراء التى يتعين أن يشتمل عليها امتياز الحوار العام، كما ينال من ضمانة الدفاع التى لا تقتصر قيمتها العملية على مرحلة المحاكمة ، بل تمتد مظلتها كذلك وما يتصل بها من أوجه الحماية إلى المرحلة السابقة عليها، وهى بعد ضمانة كفلها الدستور من خلال إلزامه الدولة بأن تعمل على تقرير الوسائل الملائمة التى تعين بها المعوزين على صون حقوقهم وحرياتهم، وهى أكثر ما تكون لزوما فى مواجهة القيود التى تقوض الحرية الشخصية أو تحد منها ، كذلك كلما ترتب على فواتها سقوط الحق فى تقديم الدليل عند الفصل فى اتهام جنائى بما يصادم المفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ويناقض بالتالى القواعد المبدئية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها والتى تعكس فى جوهرها نظاما متكامل الملامح يتوخى صون الحق فى الحياة، والحرية، والشخصية المتكاملة، ومن ثم يكون النص المطعون فيه مخالفا لأحكام المواد 41، 47، 67، 69 من الدستور



فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية ما تضمنته المادة 123 من قانون الإجراءات الجنائية من إلزام المتهم – المكلف بالحضور إلى المحكمة مباشرة وبدون تحقيق سابق- بأن يقدم خلال خمسة الأيام التالية لإعلان تكليفه بالحضور بيان الأدلة على صحة كل فعل أسنده إلى موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة وإلا سقط حقه فى إقامة الدليل المشار إليه فى الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات، مع إلزام الحكومة المصروفات ، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب للمحاماة.



مكتب / محمد جابر عيسى المحامى




تعليقات

ليست هناك تعليقات: