بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

18 يونيو 2010

مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الخامس








أحكام الضّمان :



أحكام الضّمان - بوجه عامّ - تقسّم إلى هذه الأقسام :



1 - ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - .



2 - ضمان العقود .



3 - ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال ، كالإتلافات ، والغصوب .



وحيث تقدّم القول في ضمان العقود في أنواع الضّمان ومحلّه ، فنقصر القول على ضمان الدّماء ، وضمان الأفعال الضّارّة بالأموال .



ضمان الدّماء - الأنفس والجراح - :



ضمان الدّماء أو الأنفس هو : الجزاء المترتّب على الضّرر الواقع على النّفس فما دونها .



ويشمل القصاص والحدود ، وهي مقدّرة ، كما يشمل التّعزير و حكومة العدل وهي غير مقدّرة من جهة الشّارع .



ويقسّم الضّمان - بحسب الجناية - إلى ثلاثة أقسام :



أ - ضمان الجناية على النّفس .



ب - ضمان الجناية على ما دون النّفس ، من الأطراف والجراح .



ج - ضمان الجناية على الجنين ، وهي : الإجهاض .



وبيان ذلك فيما يلي :



أوّلاً : ضمان الجناية على النّفس :



يتمثّل فيما يلي ، باعتبار أنواعها :



القتل العمد :



القتل العمد ، إذا تحقّقت شروطه ، فضمانه بالقصاص .



وأوجب الشّافعيّة وآخرون الكفّارة فيه أيضاً .



فإن امتنع القصاص ، أو تعذّر أو صالح عنه ، كان الضّمان بالدّية أو بما صولح عنه .



ويوجب المالكيّة حينئذ التّعزير ، كما يوجبون في القتل غيلةً - القتل على وجه المخادعة والحيلة - قتل القاتل تعزيراً ، إن عفا عنه أولياء المقتول .



كما يحرم القاتل من ميراث المقتول ووصيّته .



القتل الشّبيه بالعمد :



هو : القتل بما لا يقتل في الغالب - عند الجمهور - وبالمثقلات كذلك - عند أبي حنيفة ، من غير الحديد والمعدن - وإن كان المالكيّة يرون هذا من العمد .



وهو مضمون بالدّية المغلّظة في الحديث : » ألا وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد ، ما كان بالسّوط والعصا ، مائة من الإبل ، أربعون في بطونها أولادها « .



القتل الخطأ :



وهو مضمون بالدّية على العاقلة اتّفاقاً بالنّصّ الكريم ، وفيه كذلك الكفّارة والحرمان من الإرث والوصيّة وهذا لعموم النّصّ .



والضّمان كذلك في القتل الشّبيه بالخطأ في اصطلاح الحنفيّة ، ويتمثّل بانقلاب النّائم على شخص فيقتله ، أو انقلاب الأمّ على رضيعها فيموت بذلك .



القتل بسبب :



قال به الحنفيّة ، ويتمثّل بما لو حفر حفرةً في الطّريق ، فتردّى فيها إنسان فمات . وهو مضمون بالدّية فقط ، عندهم ، فلا كفّارة فيه ، ولا حرمان ، لانعدام القتل فيه حقيقةً ، وإنّما أوجبوا الدّية صوناً للدّماء عن الهدر .



والجمهور من الفقهاء ، يلحقون هذا النّوع من القتل بالخطأ في أحكامه ، ديةً ، وكفّارةً ، وحرماناً ، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل .



ثانياً : ضمان الجناية على ما دون النّفس :



وتتحقّق في الأطراف ، والجراح في غير الرّأس ، وفي الشّجاج .



أ - أمّا الأطراف : فحدّدت عقوبتها بالقصاص بالنّصّ ، في قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } .



وزاد مالك على ذلك التّعزير بالتّأديب ، ليتناهى النّاس .



فإذا امتنع القصاص ، بسبب العفو أو الصّلح أو لتعذّر المماثلة ، كان الضّمان بالدّية والأرش، وهو : اسم للواجب من المال فيما دون النّفس .



ب - وأمّا الجراح : فخاصّة بما كان في غير الرّأس ، فإذا كانت جائفةً ، أي بالغة الجوف ، فلا قصاص فيها اتّفاقاً ، خشية الموت .



وإذا كانت غير جائفة ، ففيها القصاص عند جمهور الفقهاء في الجملة خلافاً للحنفيّة الّذين منعوا القصاص فيها مطلقاً لتعذّر المماثلة .



فإن امتنع القصاص في الجراح ، وجبت الدّية : ففي الجائفة يجب ثلث الدّية ، لحديث : » في الجائفة ثلث العقل « .



وفي غير الجائفة حكومة عدل ، وفسّرت بأنّها أجرة الطّبيب وثمن الأدوية .



ج - وأمّا الشّجاج : وهي ما يكون من الجراح في الوجه والرّأس فإن تعذّر القصاص فيها : ففيه الأرش مقدّراً ، كما في الموضحة ، لحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، خمس من الإبل « .



وقد يكون غير مقدّر ، فتجب الحكومة .



ومذهب الجمهور : أنّ ما دون الموضحة ، ليس فيه أرش مقدّر ، لما روي : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء « . فتجب فيه الحكومة .



ومذهب أحمد أنّه ورد التّقدير في أرش الموضحة ، وفيما دونها ، كما ورد فيما فوقها فيعمل به .



ثالثاً : ضمان الجناية على الجنين :



وهي الإجهاض ، فإذا سقط الجنين ميّتاً بشروطه ، فضمانه بالغرّة اتّفاقاً ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان ، بغرّة عبد أو أمة « .



وتجب عند الجمهور في مال العاقلة خلافاً للمالكيّة والحنابلة الّذين أوجبوها في مال الجاني . ولا كفّارة فيها عند الحنفيّة ، وإنّما تندب ، وأوجبها الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الجنين آدميّ معصوم ، وإذا لم توجد الرّقبة ، انتقلت العقوبة إلى بدلها مالاً ، وهو : نصف عشر دية الرّجل ، وعشر دية المرأة .



ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :



تتمثّل الأفعال الضّارّة بالأموال في الإتلافات الماليّة ، والغصوب ، ونحوها .



ولضمان هذا النّوع من الأفعال الضّارّة ، أحكام عامّة ، وأحكام خاصّة :



أوّلاً : الأحكام العامّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :



تقوم فكرة هذا النّوع من الضّمان - خلافاً لما تقدّم في ضمان الأفعال الضّارّة بالأنفس - على مبدأ جبر الضّرر المادّيّ الحائق بالآخرين ، أمّا في تلك فهو قائم على مبدأ زجر الجناة وردع غيرهم .



والتّعبير بالضّمان عن جبر الضّرر وإزالته ، هو التّعبير الشّائع في الفقه الإسلاميّ ، وعبّر بعض الفقهاء من المتأخّرين بالتّعويض ، كما فعل ابن عابدين .



وتوسّع الفقهاء في هذا النّوع في أنواع الضّمان وتفصيل أحكامه ، حتّى أفرده البغداديّ بالتّصنيف في كتابه : مجمع الضّمانات .



ومن أهمّ قواعد الضّمان قاعدة : الضّرر يزال .



وإزالة الضّرر الواقع على الأموال يتحقّق بالتّعويض الّذي يجبر فيه الضّرر .



وقد عرّف الفقهاء الضّمان بهذا المعنى ، بأنّه : ردّ مثل الهالك أو قيمته .



وعرّفه الشّوكانيّ بأنّه : عبارة عن غرامة التّالف .



وكلا التّعريفين يستهدف إزالة الضّرر ، وإصلاح الخلل الّذي طرأ على المضرور ، وإعادة حالته الماليّة إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضّرر .



طريقة التّضمين :



القاعدة العامّة في تضمين الماليّات هي : مراعاة المثليّة التّامّة بين الضّرر ، وبين العوض ، كلّما أمكن ، قال السّرخسيّ : " ضمان العدوان مقدّر بالمثل بالنّصّ " يشير إلى قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } .



والمثل وإن كان به يتحقّق العدل ، لكن الأصل أن يردّ الشّيء الماليّ المعتدى فيه نفسه ، كلّما أمكن ، ما دام قائماً موجوداً ، لم يدخله عيب ينقص من منفعته ، وهذا الحديث الحسن، عن سمرة رضي الله تعالى عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « .



بل هذا هو الموجب الأصليّ في الغصب ، الّذي هو أوّل صور الضّرر وأهمّها .



فإذا تعذّر ردّ الشّيء بعينه ، لهلاكه أو استهلاكه أو فقده ، وجب حينئذ ردّ مثله ، إن كان مثليّاً ، أو قيمته إن كان قيميّاً .



والمثليّ هو : ما له مثل في الأسواق ، أو نظير ، بغير تفاوت يعتدّ به ، كالمكيلات ، والموزونات ، والمذروعات ، والعدديّات المتقاربة .



والقيميّ هو : ما ليس له مثل في الأسواق ، أو هو ما تتفاوت أفراده ، كالكتب المخطوطة ، والثّياب المفصّلة المخيطة لأشخاص بأعيانهم .



والمثل أعدل في دفع الضّرر ، لما فيه من اجتماع الجنس والماليّة .



والقيمة تقوم مقام المثل ، في المعنى والاعتبار الماليّ .



وقت تقدير التّضمين :



تناول الفقهاء هذه المسألة ، في المغصوب - على التّخصيص - إذا كان مثليّاً ، وفقد من السّوق ، وقد اختلفت أنظارهم فيها على الوجه التّالي :



ذهب أبو يوسف : إلى اعتبار القيمة يوم الغصب ، لأنّه لمّا انقطع من السّوق التحق بما لا مثل له ، فتعتبر قيمته يوم انعقاد السّبب ، وهو الغصب ، كما أنّ القيميّ تعتبر قيمته كذلك يوم الغصب .



وذهب محمّد : إلى اعتبار القيمة يوم الانقطاع ، لأنّ الواجب هو المثل في الذّمّة وإنّما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع ، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع .



ومذهب أبي حنيفة : اعتبار القيمة يوم القضاء ، لأنّ الواجب هو المثل ، ولا ينتقل إلى القيمة بمجرّد الانقطاع ، لأنّ للمغصوب منه أن ينتظر حتّى يوجد المثل ، بل إنّما ينتقل بالقضاء ، فتعتبر القيمة يوم القضاء .



أمّا القيميّ إذا تلف ، فتجب قيمته يوم الغصب اتّفاقاً .



أمّا في الاستهلاك : فكذلك عند الإمام وعندهما يوم الاستهلاك .



ومذهب المالكيّة : أنّ ضمان القيمة يعتبر يوم الغصب والاستيلاء على المغصوب سواء أكان عقاراً ، أم غيره ، لا يوم حصول المفوّت ، ولا يوم الرّدّ ، وسواء أكان التّلف بسماويّ أم بجناية غيره عليه .



وفي الإتلاف والاستهلاك - في غير المثليّات - كالعروض والحيوان ، تعتبر يوم الاستهلاك والإتلاف .



والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ المثليّ إذا تعذّر وجوده ، في بلده وحواليه تعتبر أقصى قيمة ، من وقت الغصب إلى تعذّر المثل ، وفي قول إلى التّلف ، وفي قول إلى المطالبة .



وإذا كان المثل مفقوداً عند التّلف ، فالأصحّ وجوب أكثر القيم من وقت الغصب إلى التّلف ، لا إلى وقت الفقد .



وأمّا المتقوّم فيضمن في الغصب بأقصى قيمة من الغصب إلى التّلف .



وأمّا الإتلاف بلا غصب ، فتعتبر قيمته يوم التّلف ، لأنّه لم يدخل في ضمانه قبل ذلك ، وتعتبر في موضع الإتلاف ، إلاّ إذا كان المكان لا يصلح لذلك كالمفازة ، فتعتبر القيمة في أقرب البلاد .



ومذهب الحنابلة : أنّه يجب ردّ قيمة المغصوب ، إن لم يكن مثليّاً ، يوم تلفه في بلد غصبه من نقده ، لأنّ ذلك زمن الضّمان وموضع الضّمان ومنصرف اللّفظ عند الإطلاق – كالدّينار- كما يقول البهوتيّ إن لم تختلف قيمة التّالف ، من حين الغصب إلى حين الرّدّ . فإن اختلفت لمعنىً في التّالف من كبر وصغر وسمن وهزال - ونحوها - ممّا يزيد في القيمة وينقص منها ، فالواجب ردّ أكثر ما تكون عليه القيمة من حين الغصب إلى حين الرّدّ، لأنّها مغصوبة في الحال الّتي زادت فيها ، والزّيادة مضمونة لمالكها .



وإن كان المغصوب مثليّاً يجب ردّ مثله ، فإن فقد المثل ، فتجب القيمة يوم انقطاع المثل ، لأنّ القيمة وجبت في الذّمّة حين انقطاع المثل ، فاعتبرت القيمة حينئذ ، كتلف المتقوّم . وقال القاضي : تجب قيمته يوم قبض البدل ، لأنّ الواجب هو المثل ، إلى حين قبض البدل ، بدليل أنّه لو وجد المثل بعد فقده ، لكان الواجب هو المثل دون القيمة ، لأنّه الأصل ، قدر عليه قبل أداء البدل ، فأشبه القدرة على الماء بعد التّيمّم



تقادم الحقّ في التّضمين :



التّقادم - أو مرور الزّمان - هو : مضيّ زمن طويل ، على حقّ أو عين في ذمّة إنسان ، لغيره دون مطالبة بهما ، مع قدرته عليها .



والشّريعة - بوجه عامّ - اعتبرت التّقادم مانعاً من سماع الدّعوى ، في الملك وفي الحقّ ، مع بقائهما على حالهما السّابقة ، ولم تعتبره مكسباً لملكيّة أو قاطعاً لحقّ .



فيقول الحصكفيّ : القضاء مظهر لا مثبت ، ويتخصّص بزمان ومكان وخصومة حتّى لو أمر السّلطان بعدم سماع الدّعوى ، بعد خمس عشرة سنةً ، فسمعها القاضي ، لم ينفذ .



ونقل ابن عابدين عن الأشباه وغيرها ، أنّ الحقّ لا يسقط بتقادم الزّمان .



فبناءً على هذا يقال : إذا لم يرفع الشّخص المضرور دعوى ، يطالب فيها بالضّمان أو التّعويض عن الضّرر ، ممّن ألحقه به ، مدّة خمسة عشر عاماً ، سقط حقّه ، قضاءً فقط لا ديانةً ، في إقامة الدّعوى من جديد ، إلاّ إذا كان المضرور غائباً ، أو كان مجنوناً أو صبيّاً وليس له وليّ ، أو كان المدّعى عليه حاكماً جائراً ، أو كان ثابت الإعسار خلال هذه المدّة ، ثمّ أيسر بعدها ، فإنّه يبقى حقّه في إقامة الدّعوى قائماً ، مهما طال الزّمن بسبب العذر ، الّذي ينفي شبهة التّزوير .



وكذلك إذا أمر السّلطان العادل نفسه بسماع هذه الدّعوى ، بعد مضيّ خمسة عشر عاماً أو سمعها بنفسه - كما يقول ابن عابدين - حفظاً لحقّ المضرور ، إذا لم يظهر منه ما يدلّ على التّزوير .



وكذلك إذا أقرّ الخصم بحقّ المضرور في الضّمان ، والتّعويض عن الضّرر ، بعد مضيّ هذه المدّة ، فإنّه يتلاشى بذلك مضيّ الزّمن ويسقط لظهور الحقّ بإقراره وهذا كما جاء في كتب الحنفيّة .






مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء السادس








الأحكام الخاصّة في ضمان الأفعال الضّارّة بالأموال :



قد ذكرنا أنّ القاعدة في الضّمان ، هي ردّ العين أصلاً ، وإذا تعذّر ردّ العين ، وجب الضّمان بردّ المثل في المثليّات ، ودفع القيمة في القيميّات .



ونذكر - هنا - التّضمين في أحوال خاصّة مستثناة من الأصل ، إذ يحكم فيها بالتّعويض الماليّ أحياناً ، وبالتّخيير بينه وبين ضمان المثل في أحيان أخرى ، وهي : قطع الشّجر ، وهدم المباني ، والبناء على الأرض المغصوبة ، أو الغرس فيها ، وقلع عين الحيوان ، وتفصيل القول فيها كما يلي :



أ - قطع الشّجر :



لو قطع شخص لآخر ، شجر حديقته ، ضمن قيمة الشّجر ، لأنّه ليس بمثليّ . وطريق معرفته : أن تقوّم الحديقة مع الشّجر القائم ، وتقوّم بدونه فالفضل هو قيمته ، فالمالك مخيّر بين أن يضمّنه تلك القيمة ، ويدفع له الأشجار المقطوعة ، وبين أن يمسكها ، ويضمّنه نقصان تلك القيمة .



ولو كانت قيمة الأشجار مقطوعةً وغير مقطوعة سواء ، برئ .



ولو أتلف شجرةً من ضيعة ، ولم يتلف به شيء ، قيل : تجب قيمة الشّجرة المقطوعة ، وقيل تجب قيمتها نابتةً ، ولو أتلف شجرةً ، قوّمت مغروسةً وقوّمت مقطوعةً ، ويغرم ما بينهما .



ولو أتلف ثمارها ، أو نفضها لمّا نوّرت ، حتّى تناثر نورها ، قوّمت الشّجرة مع ذلك ، وقوّمت بدونها فيغرم ما بينهما ، وكذا الزّرع .



ب - هدم المباني :



إذا هدم إنسان بناءً أو جداراً لغيره ، يجب عليه بناء مثله ، وهذا عند أبي حنيفة والشّافعيّ ، فإن تعذّرت المماثلة رجع إلى القيمة ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » كان رجل في بني إسرائيل يقال له : جريج ، يصلّي ، فجاءته أمّه فدعته ، فأبى أن يجيبها ، فقال : أجيبها أو أصلّي ؟ ثمّ أتته فقالت : اللّهمّ لا تمته حتّى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعته فقالت امرأة : لأفتننّ جريجاً ، فتعرّضت له ، فكلّمته ، فأبى . فأتت راعياً فأمكنته من نفسها . فولدت غلاماً ، فقالت : هو من جريج . فأتوه كسروا صومعته وأنزلوه وسبّوه ، فتوضّأ وصلّى ، ثمّ أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : الرّاعي . قالوا : نبني صومعتك من ذهب ، قال : لا، إلاّ من طين «



والأصل : أنّ الحائط والبناء من القيميّات ، فتضمن بالقيمة .



وقد نقل الرّمليّ الحنفيّ أنّه لو هدم جدار غيره ، تقوّم داره مع جدرانها ، وتقوّم بدون هذا الجدار فيضمن فضل ما بينهما .



وفي القنية عن محمّد بن الفضل : إذا هدم حائطاً متّخذاً من خشب أو عتيقاً متّخذاً من رهص - طين - يضمن قيمته ، وإن كان حديثاً يؤمر بإعادته كما كان .



وقال ابن نجيم : من هدم حائط غيره فإنّه يضمن نقصانها - أي قيمتها مبنيّةً - ولا يؤمر بعمارتها ، إلاّ في حائط المسجد ، كما في كراهة الخانيّة .



لكن المذهب ، ما قاله العلامة قاسم في شرحه للنّقاية : وإذا هدم الرّجل حائط جاره فللجار الخيار : إن شاء ضمّنه قيمة الحائط ، والنّقض للضّامن ، وإن شاء أخذ النّقض ، وضمّنه النّقصان ، لأنّ الحائط قائم من وجه ، وهالك من وجه ، فإن شاء مال إلى جهة القيام ، وضمّنه النّقصان ، وإن شاء مال إلى جهة الهلاك وضمّنه قيمة الحائط ، وليس له أن يجبره على البناء ، كما كان ، لأنّ الحائط ليس من ذوات الأمثال .



وطريق تقويم النّقصان : أن تقوّم الدّار مع حيطانها ، وتقوّم بدون هذا الحائط فيضمن فضل ما بينهما .



والضّمان في هذه الحال مقيّد بما إذا لم يكن الهدم للضّرورة ، كمنع سريان الحريق ، بإذن الحاكم ، فإن كان كذلك فلا ضمان ، وإن لم يكن بإذن الحاكم ، ضمن الهادم قيمتها معرّضةً للحريق .



ج - البناء على الأرض المغصوبة أو الغرس فيها :



إذا غرس شخص شجراً ، أو أقام بناءً على أرض غصبها ، فمذهب جمهور الفقهاء، وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة أنّه يؤمر بقلع الشّجر ، وهدم البناء ، وتفريغ الأرض من كلّ ما أنشأ فيها ، وإعادتها كما كانت



قال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافاً وذلك : لحديث عروة بن الزّبير أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له ، وليس لعرق ظالم حقّ « ، قال : فلقد أخبرني الّذي حدّثني هذا الحديث : » أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النّخل أن يخرج نخله منها ، قال : فلقد رأيتها ، وإنّها لتضرب أصولها بالفؤوس ، وإنّها لنخل عمّ « أي طويلة .



ولأنّه شغل ملك غيره ، فيؤمر بتفريغه ، دفعاً للظّلم ، وردّاً للحقّ إلى مستحقّه .



قال الشّافعيّة والحنابلة : عليه أرش نقصها إن كان ، وتسويتها ، لأنّه ضرر حصل بفعله ، مع أجرة المثل إلى وقت التّسليم .



وقال القليوبيّ : وللغاصب قلعهما قهراً على المالك ، ولا يلزمه إجابة المالك لو طلب الإبقاء بالأجر ، أو التّملّك بالقيمة ، وللمالك قلعهما جبراً على الغاصب ، بلا أرش لعدم احترامهما عليه .



والمالكيّة خيّروا المالك بين قلع الشّجر وهدم البناء ، وبين تركهما ، على أن يعطى المالك الغاصب ، قيمة أنقاض الشّجر والبناء ، مقلوعاً ، بعد طرح أجرة النّقض والقلع ، لكنّهم قيّدوا قلع الزّرع بما إذا لم يفت ، أي لم يمض وقت ما تراد الأرض له فله عندئذ أخذه بقيمته مقلوعاً مطروحاً منه أجرة القلع . فإن فات الوقت ، بقي الزّرع للزّارع ، ولزمه الكراء إلى انتهائه .



ونصّ على مثل هذا الحنفيّة .



د - قلع عين الحيوان :



الحيوان وإن كان من الأموال ، وينبغي أن تطبّق في إتلافه - كلّيّاً أو جزئيّاً - القواعد العامّة ، إلاّ أنّه ورد في السّمع تضمين ربع قيمته ، بقلع عينه ، ففي الحديث : » قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عين الدّابّة ربع ثمنها « .



وروي ذلك عن عمر وشريح رضي الله تعالى عنهما ، وكتب عمر إلى شريح ، لمّا كتب إليه يسأله عن عين الدّابّة : إنّا كنّا ننزلها منزلة الآدميّ ، إلاّ أنّه أجمع رأينا أنّ قيمتها ربع الثّمن .



قال ابن قدامة : هذا إجماع يقدّم على القياس .



وهذا ممّا جعل الحنفيّة - وهو رواية عند الحنابلة عن أحمد - يعدلون عن القياس ، بالنّظر إلى ضمان العين فقط .



فعملوا بالحديث ، وتركوا فيه القياس ، لكنّهم خصّوه بالحيوان الّذي يقصد للّحم ، كما يقصد للرّكوب والحمل والزّينة أيضاً ، كما في عين الفرس والبغل والحمار ، وكذا في عين البقرة والجزور .



أمّا غيره ، كشاة القصّاب المعدّة للذّبح ، ممّا يقصد منه اللّحم فقط ، فيعتبر ما نقصت قيمته. وطرد المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة القياس ، فضمّنوا ما يتلف من سائر أجزاء الحيوان ، بما ينقص من قيمته ، بفقد عينه وغيرها ، بالغاً ما بلغ النّقص بلا تفرقة بين أنواع الحيوان.



قال المحلّيّ : ويضمن ما تلف أو أتلف من أجزائه بما نقص من قيمته .



وقال الغزاليّ : ولا يجب في عين البقرة والفرس إلاّ أرش النّقص .



وعلّل ذلك ابن قدامة : بأنّه ضمان مال من غير جناية ، فكان الواجب ما نقص ، كالثّوب ، ولأنّه لو فات الجميع لوجبت قيمته ، فإذا فات منه شيء ، وجب قدره من القيمة ، كغير الحيوان .



ضمان الشّخص الضّرر النّاشئ عن فعل غيره وما يلتحق به :



الأصل أنّ الشّخص مسئول عن ضمان الضّرر الّذي ينشأ عن فعله لا عن فعل غيره لكن الفقهاء استثنوا من هذا الأصل ضمان أفعال القصّر الخاضعين لرقابته ، وضمان أفعال تابعيه : كالخدم والعمّال وكالموظّفين ، وضمان ما يفسده الحيوان ، وضمان الضّرر الحادث بسبب سقوط الأبنية ، وضمان التّلف الحادث بالأشياء الأخرى ، وتفصيله فيما يلي :



أوّلاً : ضمان الإنسان لأفعال الأشخاص الخاضعين لرقابته :



ويتمثّل هذا النّوع من الضّمان ، في الأفعال الضّارّة ، الصّادرة من الصّغار القصّر ، الّذين هم في ولاية الأب والوصيّ ، والتّلاميذ حينما يكونون في المدرسة ، تحت رقابة النّاظر والمعلّم ، أو في رعاية أيّ رقيب عليهم وهم صغار ، ومثلهم المجانين والمعاتيه . ولمّا كان الأصل المقرّر في الشّريعة ، كما تقدّم آنفاً ، هو ضمان الإنسان لأفعاله كلّها ، دون تحمّل غيره عنه لشيء من تبعاتها ، مهما كان من الأمر .



فقد طرد الفقهاء قاعدة تضمين الصّغار ، وأوجبوا عليهم الضّمان في مالهم ، ولم يوجبوا على أوليائهم والأوصياء عليهم ضمان ما أتلفوه ، إلاّ في أحوال مستثناة ، منها :



أ - إذا كان إتلاف الصّغار للمال ، ناشئاً من تقصير الأولياء ونحوهم ، في حفظهم ، كما لو دفع إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له ، فوقع السّكّين من يده عليه أو على شخص آخر ، أو عثر به ، فإنّ الدّافع يضمن .



ب - إذا كان بسبب إغراء الآباء والأوصياء الصّغار بإتلاف المال ، كما لو أمر الأب ابنه بإتلاف مال أو إيقاد نار ، فأوقدها ، وتعدّت النّار إلى أرض جاره ، فأتلفت شيئاً ، يضمن الأب ، لأنّ الأمر صحّ ، فانتقل الفعل إليه ، كما لو باشره الأب .



فلو أمر أجنبيّ صبيّاً بإتلاف مال آخر ، ضمن الصّبيّ ، ثمّ رجع على آمره .



ج - إذا كان بسبب تسليطهم على المال ، كما لو أودع صبيّاً وديعةً بلا إذن وليّه فأتلفها ، لم يضمن الصّبيّ ، وكذا إذا أتلف ما أعير له ، وما اقترضه وما بيع منه بلا إذن ، للتّسليط من مالكها .



ثانياً : ضمان الشّخص لأفعال التّابعين له :



ويتمثّل هذا في الخادم في المنزل ، والطّاهي في المطعم ، والمستخدم في المحلّ ، والعامل في المصنع ، والموظّف في الحكومة ، وفي سائق السّيّارة لمالكها كلّ في دائرة عمله .



والعلاقة هنا عقديّة ، وفيما تقدّم من الرّقابة على عديمي التّمييز : هي : دينيّة أو أدبيّة . والفقهاء بحثوا هذا في باب الإجارة ، في أحكام الأجير الخاصّ ، وفي تلميذ الأجير المشترك عند الحنفيّة ، وهو الّذي يعمل لواحد عملاً مؤقّتاً بالتّخصيص ، ويستحقّ أجره بتسليم نفسه في المدّة ، وإن لم يعمل .



والمعقود عليه هو منفعته ، ولا يضمن ما هلك في يده بغير صنعه ، لأنّ العين أمانة في يده، لأنّه قبض بإذنه ، ولا يضمن ما هلك من عمله المأذون فيه ، لأنّ المنافع متى صارت مملوكةً للمستأجر ، فإذا أمره بالتّصرّف في ملكه ، صحّ ، ويصير نائباً منابه ، فيصير فعله منقولاً إليه ، كأنّه فعله بنفسه ، فلهذا لا يضمنه وإنّما الضّمان في ذلك على مخدومه .



ثالثاً : ضمان الشّخص فعل الحيوان :



هناك نوعان من الحيوان :



أحدهما الحيوان العاديّ ، والآخر الحيوان الخطر ، وفي تضمين جناية كلّ منهما ، خلاف بين الفقهاء ، ونوضّحه فيما يلي :



أ - ضمان جناية الحيوان العاديّ غير الخطر :



اختلف الفقهاء في ضمان ما يتلفه الحيوان العاديّ ، غير الخطر :



فذهب جمهورهم إلى ضمان ما تفسده الدّابّة من الزّرع والشّجر ، إذا وقع في اللّيل ، وكانت وحدها إذا لم تكن يد لأحد عليها .



وأمّا إذا وقع ذلك في النّهار ، ولم تكن يد لأحد عليها - أي الدّابّة - فلا ضمان فيه . واستدلّوا بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه : » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهوعلى أهلها « قال ابن قدامة : ولأنّ العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي ، وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون اللّيل ، فإذا ذهبت ليلاً كان التّفريط من أهلها ، بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ .



وإن أتلفت نهاراً ، كان التّفريط من أهل الزّرع ، فكان عليهم ، وقد فرّق النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى على كلّ إنسان بالحفظ في وقت عادته .



وقال - أيضاً - : قال بعض أصحابنا : إنّما يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً ، إذا فرّط بإرسالها ليلاً أو نهاراً أو لم يضمّها باللّيل ، أو ضمّها بحيث يمكنها الخروج ، أمّا لو ضمّها فأخرجها غيره بغير إذنه ، أو فتح عليها بابها ، فالضّمان على مخرجها ، أو فاتح بابها ، لأنّه المتلف.



وقيّد المالكيّة عدم ضمان الإتلاف نهاراً بشرطين :



أوّلهما : أن لا يكون معها راع .



والآخر : أن تسرح بعيداً عن المزارع ، وإلاّ فعلى الرّاعي الضّمان .



وإن أتلفت البهيمة غير الزّرع والشّجر من الأنفس والأموال ، لم يضمنه مالكها ، ليلاً كان أو نهاراً ، ما لم تكن يده عليها ، واستدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » العجماء جبار « ويروى » العجماء جرحها جبار « ومعنى جبار : هدر .



وقيّد المالكيّة ، عدم ضمان ذلك ليلاً ، بما إذا لم يقصّر في حفظها ، ولم يكن من فعل من معها ، ففي المدوّنة : من قاد قطاراً فهو ضامن لما وطئ البعير ، في أوّل القطار أو آخره ، وإن نفحت رجلاً بيدها أو رجلها ، لم يضمن القائد إلاّ أن يكون ذلك من شيء فعله بها . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الحيوان إذا أتلف مالاً أو نفساً ، فلا ضمان على صاحبه مطلقاً ، سواء أوقع ذلك في ليل أم في نهار .



وذلك لحديث : » العجماء جبار « المتقدّم آنفاً .



لكن قيّدها محمّد بن الحسن ، بالمنفلتة المسيّبة حيث تسيّب الأنعام ، كما هو الشّأن في البراري ، فهذه الّتي جرحها هدر وهذا ما ذكره الطّحاويّ فقد فرّق بين ما إذا كان معها حافظ فيضمن ، وبين ما إذا لم يكن معها حافظ ، فلا يضمن ، وروى في ذلك آثاراً .



ولأنّه لا صنع له في نفارها وانفلاتها ، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها ، فالمتولّد منه لا يكون مضموناً .



وأثار المالكيّة - هنا - مسألة ما لو كان الحيوان ممّا لا يمكن الاحتراز منه ، ولا حراسته كحمام ، ونحل ، ودجاج يطير .



فذهب ابن حبيب - وهو رواية مطرّف عن مالك - إلى أنّه يمنع أربابها من اتّخاذه ، إن آذى النّاس .



وذهب ابن القاسم وابن كنانة وأصبغ إلى أنّهم لا يمنعون من اتّخاذه ، ولا ضمان عليهم فيما أتلفته من الزّرع ، وعلى أرباب الزّرع والشّجر حفظها .



وصوّب ابن عرفة الأوّل ، لإمكان استغناء ربّها عنها ، وضرورة النّاس للزّرع والشّجر . ويؤيّده - كما قال الدّسوقيّ - قاعدة ارتكاب ، أخفّ الضّررين عند التّقابل ، لكن قال : ولكن المعتمد - كما قال شيخنا - قول ابن قاسم .



والاتّجاهان كذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة .



شروط ضمان جناية الحيوان :



بدا ممّا تقدّم اتّفاق الفقهاء على تضمين جناية الحيوان ، كلّما كان معها راكب أو حافظ ، أو ذو يد ، ولا بدّ حينئذ من توفّر شروط الضّمان العامّة المتقدّمة : من الضّرر والتّعدّي والإفضاء .



فالضّرر يستوي فيه الواقع على النّفوس أو الأموال ، وصرّح العينيّ بأنّ حديث : » العجماء جبار « المتقدّم ، محتمل لأن تكون الجناية على الأبدان أو الأموال ، وذكر أنّ الأوّل أقرب إلى الحقيقة ، لما ورد في الصّحيحين بلفظ : » العجماء جرحها جبار « .



والتّعدّي بمجاوزة ذي اليد في استعمال الدّابّة ، فحيث استعملها في حدود حقّه ، في ملكه ، أو المحلّ المعدّ للدّوابّ أو أدخلها ملك غيره بإذنه ، فأتلفت نفساً أو مالاً ، لا ضمان عليه إذ لا ضمان مع الإذن بخلاف ما لو كان ذلك بغير إذن المالك أو أوقفها في محلّ لم يعدّ لوقوف الحيوانات ، أو في طريق المسلمين ، فإنّه يكون ضامناً لما تتلفه حينئذ إذ كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه ضمن ما تولّد منه .



والأصل في هذا حديث النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل ، فهو ضامن « .



وعلّله الرّمليّ ، نقلاً عن القاضي ، بأنّ الرّبط جناية ، فما تولّد منه ضمنه .



وأمّا الإفضاء ، وهو وصول الضّرر مباشرةً أو تسبّباً ، فإنّ فعل الحيوان لا يوصف بمباشرة أو تسبيب ، لأنّه ليس ممّا يصحّ إضافة الحكم إليه ، وإنّما يوصف بذلك صاحبه ، فتطبّق القاعدة العامّة : أنّ المباشر ضامن وإن لم يتعدّ ، والمتسبّب لا يضمن إلاّ بالتّعدّي . ويعتبر ذو اليد على الحيوان ، وصاحبه مباشراً إذا كان راكباً في ملكه أو في ملك غيره ، ولو بإذنه أو في طريق العامّة ، فيضمن ما يحدثه بتلفه ، وإن لم يتعدّ .



فراكب الدّابّة يضمن ما وطئته برجلها ، أو يدها - كما يقول الكاسانيّ - أي ومات لوجود الخطأ في هذا القتل ، وحصوله على سبيل المباشرة لأنّ ثقل الرّاكب على الدّابّة ، والدّابّة آلة له ، فكان القتل الحاصل بثقلها مضافاً إلى الرّاكب ، والرّديف والرّاكب سواء ، وعليهما الكفّارة ، ويحرمان من الميراث والوصيّة ، لأنّ ثقلهما على الدّابّة ، والدّابّة آلة لهما ، فكانا قاتلين على طريق المباشرة .



ولو كدمت أو صدمت ، فهو ضامن ، ولا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل بسبب .



ولو أصابت ومعها سائق وقائد ، فلا كفّارة ولا حرمان ، لأنّه قتل تسبيباً لا مباشرةً ، بخلاف الرّاكب والرّديف .



وهذا خلاف ما في مجمع الأنهر ، حيث نصّ على أنّ الرّاكب في ملكه لا يضمن شيئاً ، لأنّه غير متعدّ ، بخلاف ما إذا كان في طريق العامّة ، فيضمن للتّعدّي .



ومثال ما لو أتلفت شيئاً بتسبيب صاحبها : ما لو أوقفها في ملك غيره ، فجالت في رباطها، حيث طال الرّسن فأتلفت شيئاً ، ضمن ، لأنّه ممسكها في أيّ موضع ذهبت ، ما دامت في موضع رباطها .



فقد وجد شرط الضّمان بالتّسبيب بالتّعدّي ، وهو الرّبط في ملك غيره .



ومثال اجتماع المباشرة والتّسبيب ، حيث تقدّم المباشرة ، ما لو ربط بعيراً إلى قطار ، والقائد لا يعلم ، فوطئ البعير المربوط إنساناً ، فقتله ، فعلى عاقلة القائد الدّية ، لعدم صيانة القطار عن ربط غيره ، فكان متعدّياً - مقصّراً - لكن يرجع على عاقلة الرّابط ، لأنّه هو الّذي أوقعه في هذه العهدة .



وإنّما لم يجب الضّمان عليه ابتداءً ، وكلّ منهما متسبّب ، لأنّ الرّبط ، من القود ، بمنزلة التّسبيب من المباشرة ، لاتّصال التّلف بالقود دون الرّبط .



ومثال ما إذا لم يكن مباشراً ولا متسبّباً ، حيث لا يضمن ، ما إذا قتل سنّوره حمامةً فإنّه لا يضمن ، لحديث : » العجماء جرحها جبار « المتقدّم آنفاً .



والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الهرّة إن أتلفت طيراً أو طعاماً ليلاً أونهاراً ضمن مالكها إن عهد ذلك منها ، وإلاّ فلا يضمن في الأصحّ .



ومن مشمولات الإفضاء : التّعمّد ، كما لو ألقى هرّةً على حمامة أو دجاجة ، فأكلتها ضمن لو أخذتها برميه وإلقائه ، لا لو بعده .



ويضمن بإشلاء كلبه ، لأنّه بإغرائه يصير آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بسيفه .



ومن مشمولاته التّسبّب بعدم الاحتراز : فالأصل : أنّ المرور بطريق المسلمين مباح ، بشرط السّلامة ، فيما يمكن الاحتراز منه ، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه ، فلو أوقف دابّته في الطّريق ضمن ما نفحته ، لأنّ بإمكانه الاحتراز من الإيقاف ، وإن لم يمكن الاحتراز من النّفحة ، فصار متعدّياً بالإيقاف وشغل الطّريق به .



بخلاف ما لو أصابت بيدها أو رجلها حصاةً ، أو أثارت غباراً ، ففقأت الحصاة عين إنسان ، أو أفسد الغبار ثوب إنسان فإنّه لا يضمن لأنّه لا يمكن الاحتراز منه ، لأنّ سير الدّوابّ لا يخلو عنه .



وللحنابلة والشّافعيّة تفصيل وخلاف في الطّريق الواسع .



والضّامن لجناية الحيوان ، لم يقيّد في النّصوص الفقهيّة ، بكونه مالكاً أو غيره ، بل هو ذو اليد ، القابض على زمامه ، القائم على تصريفه ، ولو لم يكن مالكاً ، ولو لم يحلّ له الانتفاع به ، ويشمل هذا السّائس والخادم .



قال النّوويّ : إنّ الضّمان يجب في مال الّذي هو معها ، سواء كان مالكاً أو مستأجراً أو مستعيراً ، أو غاصباً أو مودعاً ، أو وكيلاً أو غيره .



ويقول الشّرقاويّ في جناية الدّابّة : لا تتعلّق برقبتها ، بل بذي اليد عليها .



ولو تعدّد واضعو اليد على الحيوان ، فالضّمان - فيما يبدو من النّصوص - على الأقوى يداً ، والأكثر قدرةً على التّصرّف ، وعند الاستواء يكون الضّمان عليهما .



قال الكاسانيّ : وإن كان أحدهما سائقاً ، والآخر قائداً ، فالضّمان عليهما لأنّهما اشتركا في التّسبيب ، فيشتركان في الضّمان ، وكذلك إذا كان أحدهما سائقاً والآخر راكباً أو كان أحدهما قائداً والآخر راكباً ، فالضّمان عليهما ، لوجود سبب الضّمان من كلّ واحد منهما ، إلاّ أنّ الكفّارة تجب على الرّاكب وحده ، فيما لو وطئت دابّته إنساناً فقتلته ، لوجود القتل منه وحده مباشرةً ، وإن كان الحصكفيّ صحّح عدم تضمين السّائق ، لأنّ الإضافة إلى المباشر أولى ، لكن السّبب - هنا - ممّا يعمل بانفراده ، فيشتركان كما حقّقه ونقله ابن عابدين .



وقال ابن قدامة : فإن كان على الدّابّة راكبان ، فالضّمان على الأوّل منهما ، لأنّه المتصرّف فيها ، القادر على كفّها ، إلاّ أن يكون الأوّل منهما صغيراً أو مريضاً أو نحوهما ، ويكون الثّاني المتولّي لتدبيرها ، فيكون الضّمان عليه .



وإن كان مع الدّابّة قائد وسائق ، فالضّمان عليهما ، لأنّ كلّ واحد منهما لو انفرد ضمن ، فإذا اجتمعا ضمنا ، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ، ففيه وجهان :



أحدهما : أنّ الضّمان عليهما جميعاً ، لذلك .



والآخر : أنّه على الرّاكب ، لأنّه أقوى يداً وتصرّفاً .



ويحتمل أن يكون على القائد لأنّه لا حكم للرّاكب على القائد .



ب - ضمان جناية الحيوان الخطر :



ويتمثّل في الكبش النّطوح ، والجمل العضوض ، والفرس الكدوم ، والكلب العقور ، كما يتمثّل في الحشرات المؤذية ، والحيّة والعقرب ، والحيوانات الوحشيّة المفترسة ، وسباع البهائم ، كالأسد والذّئب ، وسباع الطّير كالحدأة والغراب ، وفيها مذاهب للفقهاء : مذهب الحنفيّة هو ضمان ما يتلفه الحيوان الخطر ، من مال أو نفس إذا وجد من مالكه إشلاء أو إغراء أو إرسال ، وهو قول أبي يوسف ، الّذي أوجب الضّمان في هذا كلّه ، احتياطاً لأموال النّاس خلافاً لأبي حنيفة ، والّذي أفتوا به هو : الضّمان بعد الإشلاء كالحائط المائل ، في النّفس والمال كما في الإغراء .



وعلّل الضّمان بالإشلاء ، بأنّه بالإغراء . يصير الكلب آلةً لعقره ، فكأنّه ضربه بحدّ سيفه . وفي مذهب مالك تفصيل ذكره الدّسوقيّ ، وهو : إذا اتّخذ الكلب العقور ، بقصد قتل إنسان معيّن وقتله فالقود ، أنذر عن اتّخاذه أو لا .



وإن قتل غير المعيّن فالدّية ، وكذلك إن اتّخذه لقتل غير المعيّن ، وقتل شخصاً فالدّية ، أنذر أم لا .



وإن اتّخذه لوجه جائز فالدّية إن تقدّم له إنذار قبل القتل ، وإلاّ فلا شيء عليه .



وإن اتّخذه لا لوجه جائز ضمن ما أتلف ، تقدّم له فيه إنذار أم لا ، حيث عرف أنّه عقور ، وإلاّ لم يضمن ، لأنّ فعله حينئذ كفعل العجماء .



وذهب الحنابلة إلى أنّ الحيوان الخطر ينبغي أن يربط ويكفّ شرّه ، كالكلب العقور ، وكالسّنّور إذا عهد منه إتلاف الطّير أو الطّعام ، فإذا أطلق الكلب العقور أو السّنّور ، فعقر إنساناً ، أو أتلف طعاماً أو ثوباً ، ليلاً أو نهاراً ، ضمن ما أتلفه ، لأنّه مفرّط باقتنائه وإطلاقه إلاّ إذا دخل داره إنسان بغير إذنه ، فعقره ، فلا ضمان عليه ، لأنّه متعدّ بالدّخول ، متسبّب بعدم الاستئذان لعقر الكلب له ، فإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه ، لأنّه تسبّب إلى إتلافه .



وكذلك إذا اقتنى سنّوراً ، يأكل أفراخ النّاس ، ضمن ما أتلفه كالكلب العقور ، وهذا - هو الأصحّ - عند الشّافعيّة ، كلّما عهد ذلك منه ليلاً أو نهاراً ، قال المحلّيّ : لأنّ هذه الهرّة ينبغي أن تربط ويكفّ شرّها .



أمّا ما يتلفه الكلب العقور لغير العقر ، كما لو ولغ في إناء ، أو بال ، فلا يضمن ، لأنّ هذا لا يختصّ به الكلب العقور .










مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء السابع








رابعاً : ضمان سقوط المباني :



بحث الفقهاء موضوع سقوط المباني وضمانها بعنوان : الحائط المائل .



ويتناول القول في ضمان الحائط ، ما يلحق به ، من الشّرفات والمصاعد والميازيب والأجنحة ، إذا شيّدت مطلّةً على ملك الآخرين أو الطّريق العامّ وما يتّصل بها من أحكام . وقد ميّز الفقهاء ، بين ما إذا كان البناء أو الحائط أو نحوه ، مبنيّاً من الأصل متداعياً ذا خلل ، أو مائلاً ، وبين ما إذا كان الخلل طارئاً ، فهما حالتان :



الحالة الأولى : الخلل الأصليّ في البناء :



هو الخلل الموجود في البناء ، منذ الإنشاء ، كأن أنشئ مائلاً إلى الطّريق العامّ أو أشرع الجناح أو الميزاب أو الشّرفة ، بغير إذن ، أو أشرعه في غير ملكه .



قال الحنفيّة والمالكيّة إن سقط البناء في هذه الحال ، فأتلف إنساناً أو حيواناً أو مالاً ، كان ذلك مضموناً على صاحبه ، مطلقاً من غير تفصيل ، ومن غير إشهاد ولا طلب ، لأنّ في البناء تعدّياً ظاهراً ثابتاً منذ الابتداء وذلك بشغل هواء الطّريق بالبناء ، وهواء الطّريق كأصل الطّريق حقّ المارّة ، فمن أحدث فيه شيئاً ، كان متعدّياً ضامناً .



والشّافعيّة لا يفرّقون في الضّمان ، بين أن يأذن الإمام في الإشراع أو لا ، لأنّ الانتفاع بالشّارع مشروط بسلامة العاقبة ، بأن لا يضرّ بالمارّة ، وما تولّد منه مضمون ، وإن كان إشراعاً جائزاً .



لكن ما تولّد من الجناح ، في درب منسدّ ، بغير إذن أهله ، مضمون ، وبإذنهم لا ضمان فيه.



وقال الحنابلة : وإذا بنى في ملكه حائطاً مائلاً إلى الطّريق ، أو إلى ملك غيره ، فتلف به شيء أو سقط على شيء فأتلفه ضمنه ، لأنّه متعدّ بذلك ، فإنّه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره ، أو هواء مشترك ، ولأنّه يعرّضه للوقوع على غيره في غير ملكه ، فأشبه ما لو نصب فيه منجلاً يصيد به .



الحالة الثّانية : الخلل الطّارئ :



إذا أنشئ البناء مستقيماً ثمّ مال ، أو سليماً ثمّ تشقّق ووقع ، وحدث بسبب وقوعه تلف ، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة - استحساناً - والمالكيّة ، وهو المختار عند الحنابلة ، والمرويّ عن عليّ رضي الله عنه وشريح والنّخعيّ والشّعبيّ وغيرهم من التّابعين إلى أنّه يضمن ما تلف به ، من نفس أو حيوان أو مال إذا طولب صاحبه بالنّقض ، وأشهد عليه ، ومضت مدّة يقدر على النّقض خلالها ، ولم يفعل .



وهذا قول عند الشّافعيّة ، فقد قالوا : إن أمكنه هدمه أو إصلاحه ، ضمن ، لتقصيره بترك النّقض والإصلاح



والقياس عند الحنفيّة عدم الضّمان ، لأنّه لم يوجد من المالك صُنْعٌ هو تعدّ ، لأنّ البناء كان في ملكه مستقيماً ، والميلان وشغل الهواء ليس من فعله ، فلا يضمن ، كما إذا لم يشهد عليه ، ولما قالوه في هذه المسألة : ومن قتله الحجر ، بغير فعل البشر ، فهو بالإجماع هدر .



ووجه الاستحسان : ما روي عن الأئمّة من الصّحابة والتّابعين المذكورين ، وأنّ الحائط لمّا مال فقد شغل هواء الطّريق بملكه ، ورفعه بقدرة صاحبه ، فإذا تقدّم إليه وطولب بتفريغه لزمه ذلك ، فإذا امتنع مع تمكّنه صار متعدّياً .



ولأنّه لو لم يضمن يمتنع من الهدم ، فينقطع المارّة خوفاً على أنفسهم ، فيتضرّرون به ، ودفع الضّرر العامّ من الواجب ، وكم من ضرر خاصّ يتحمّل لدفع العامّ .



ومع ذلك فقد نصّ الحنفيّة على أنّ الشّرط هو التّقدّم ، دون الإشهاد ، لأنّ المطالبة تتحقّق ، وينعدم به معنى العذر في حقّه ، وهو الجهل بميل الحائط .



أمّا الإشهاد فللتّمكّن من إثباته عند الإنكار ، فكان من باب الاحتياط .



والمالكيّة يشترطون الإشهاد مع الإنذار ، فإذا انتفى الإنذار والإشهاد فلا ضمان ، إلاّ أن يعترف بذلك مع تفريطه فيضمن ، كما أنّ الإشهاد المعتبر عندهم يكون عند الحاكم ، أو جماعة المسلمين ولو مع إمكان الإشهاد عند الحاكم .



وشروط التّقدّم أو الإنذار هي : ومعنى التّقدّم : طلب النّقض ممّن يملكه ، وذلك بأن يقول المتقدّم : إنّ حائطك هذا مخوف ، أو يقول : مائل فانقضه أو اهدمه ، حتّى لا يسقط ولا يتلف شيئاً ، ولو قال : ينبغي أن تهدمه ، فذلك مشورة .



أ - أن يكون التّقدّم ممّن له حقّ مصلحة في الطّلب .



وفرّقوا في هذا : بين ما إذا كان الحائط مائلاً إلى الطّريق العامّ ، وبين ما إذا كان مائلاً إلى ملك إنسان .



ففي الصّورة الأولى : يصحّ التّقدّم من كلّ مكلّف ، مسلم أو غيره ، وليس للمتقدّم ولا للقاضي حقّ إبراء صاحب الحائط ، ولا تأخيره بعد المطالبة ، لأنّه حقّ العامّة ، وتصرّفه في حقّ العامّة نافذ - كما يقول الحصكفيّ نقلاً عن الذّخيرة - فيما ينفعهم ، لا فيما يضرّهم . وفي الصّورة الثّانية : لا يصحّ التّقدّم إلاّ من المالك الّذي شغل الحائط هواء ملكه ، كما أنّ له حقّ الإبراء والتّأخير .



وذهب الشّافعيّة إلى عدم الضّمان مطلقاً بسقوط البناء ، إذا مال بعد بنائه مستقيماً ولو تقدّم إليه ، وأشهد عليه .



قال النّوويّ : إن لم يتمكّن من هدمه وإصلاحه ، فلا ضمان قطعاً ، وكذا إن تمكّن على الأصحّ . ولا فرق بين أن يطالبه الوالي أو غيره بالنّقض ، وبين أن لا يطالب ، وهذا هو القياس ، كما تقدّم ، ووجهه : أنّه بنى في ملكه ، والهلاك حصل بغير فعله ، وأنّ الميل نفسه لم يحصل بفعله ، وأنّ ما كان أوّله غير مضمون ، لا ينقلب مضموناً بتغيير الحال . وذهب بعض الحنابلة ، وهو قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وإسحاق ، إلى أنّه يضمن ما تلف به وإن لم يطالب بالنّقض ، وذلك لأنّه متعدّ بتركه مائلاً ، فضمن ما تلف به ، كما لو بناه مائلاً إلى ذلك ابتداءً ، ولأنّه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف ، ولو لم يكن ذلك موجباً للضّمان لم يضمن بالمطالبة ، كما لو لم يكن مائلاً ، أو كان مائلاً إلى ملكه .



لكن نصّ أحمد ، هو عدم الضّمان - كما يقول ابن قدامة - أمّا لو طولب بالنّقض ، فقد توقّف فيه أحمد ، وذهب بعض الأصحاب إلى الضّمان فيه .



أمّا الضّمان الواجب بسقوط الأبنية ، عند القائلين به ، فهو :



أ - أنّ ما تلف به من النّفوس ، ففيه الدّية على عاقلة مالك البناء .



ب - وما تلف به من الأموال فعلى مالك البناء ، لأنّ العاقلة لا تعقل المال .



ج - ولا تجب على المالك الكفّارة - عند الحنفيّة - ولا يحرم من الميراث والوصيّة ، لأنّه قتل بسبب ، وذلك لعدم القتل مباشرةً ، وإنّما ألحق بالمباشر في الضّمان ، صيانةً للدّم عن الهدر ، على خلاف الأصل ، فبقي في الكفّارة وحرمان الميراث على الأصل .



وعند الشّافعيّة والجمهور : هو ملحق بالخطأ في أحكامه ، إذ لا قتل بسبب عندهم ، ففيه الكفّارة ، وفيه الحرمان من الميراث والوصيّة ، لأنّ الشّارع أنزله منزلة القاتل .



خامساً : ضمان التّلف بالأشياء :



أكثر ما يعرض التّلف بالأشياء ، بسبب إلقائها في الطّرقات والشّوارع ، أو بسبب وضعها في غير مواضعها المخصّصة لها .



ويمكن تقسيم الأشياء إلى خطرة ، وغير خطرة ، أي عاديّة .



القسم الأوّل : ضمان التّلف الحاصل بالأشياء العاديّة غير الخطرة :



يردّ الفقهاء مسائل التّلف الحاصل بالأشياء العاديّة ، غير الخطرة ، إلى هذه القواعد والأصول :



الأوّل : كلّ موضع يجوز للواضع أن يضع فيه أشياءه لا يضمن ما يترتّب على وضعها فيه من ضرر ، لأنّ الجواز الشّرعيّ ينافي الضّمان .



الثّاني : كلّ موضع لا يجوز له أن يضع فيه أشياءه يضمن ما ينشأ عن وضعها فيه من أضرار ، ما دامت في ذلك الموضع ، فإن زالت عنه لم يضمن .



الثّالث : كلّ من فعل فعلاً لم يؤذن له فيه ، ضمن ما تولّد عنه من ضرر .



الرّابع : أنّ المرور في طريق المسلمين مباح ، بشرط السّلامة فيما يمكن الاحتراز عنه . الخامس : أنّ المتسبّب ضامن إذا كان متعدّياً ، وإلاّ لا يضمن ، والمباشر ضامن مطلقاً . ومن الفروع الّتي انبثقت منها هذه الأصول :



أ - من وضع جرّةً أو شيئاً في طريق لا يملكه فتلف به شيء ضمن ، ولو زال ذلك الشّيء الموضوع أوّلاً إلى موضع آخر - غير الطّريق - فتلف به شيء ، برئ واضعه ولم يضمن.



ب - لو قعد في الطّريق ليبيع ، فتلف بقعدته شيء : فإن كان قعد بإذن الإمام لا يضمنه ، وإن كان بغير إذنه يضمنه وللحنابلة قولان في الضّمان .



ج - ولو وضع جرّةً على حائط ، فأهوت بها الرّيح ، وتلف بوقوعها شيء ، لم يضمن ، إذ انقطع أثر فعله بوضعه ، وهو غير متعدّ في هذا الوضع بأن وضعت الجرّة وضعاً مأموناً ، فلا يضاف إليه التّلف .



د - لو حمل في الطّريق شيئاً على دابّته أو سيّارته ، فسقط المحمول على شيء فأتلفه أو اصطدم بشيء فكسره ، ضمن الحامل ، لأنّ الحمل في الطّريق مباح بشرط السّلامة ، ولأنّه أثر فعله .



ولو عثر أحد بالحمل ضمن ، لأنّه هو الواضع ، فلم ينقطع أثر فعله .



هـ – لو ألقى في الطّريق قشراً ، فزلقت به دابّة ، ضمن ، لأنّه غير مأذون فيه ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، ومقابل الصّحيح عندهم : أنّه غير مضمون ، لجريان العادة بالمسامحة في طرح ما ذكر .



وكذا لو رشّ في الطّريق ماءً ، فتلفت به دابّة ، ضمن ، وقال القليوبيّ : إنّه غير مضمون إذا كان لمصلحة عامّة ، ولم يجاوز العادة ، وإلاّ فهو مضمون على الرّاشّ ، لأنّه المباشر .



القسم الثّاني : ضمان التّلف بالأشياء الخطرة :



روى أبو موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم » إذا مرّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ، ومعه نبل ، فليمسك على نصالها - أو قال : فليقبض بكفّه - أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء « .



وفي الفروع : لو انفلتت فأس من يد قصّاب ، كان يكسر العظم ، فأتلف عضو إنسان ، يضمن ، وهو خطأ



ولا تعليل للضّمان في هذه المسألة إلاّ التّقصير في رعاية هذه الآلة الحادّة ، وعدم الاحتراز أثناء الاستعمال ، فاستدلّ بوقوع الضّرر على التّعدّي ، وأقيم مقامه .



وقال الحنفيّة : إنّ ذا اليد على الأشياء الخطرة يضمن من الأضرار المترتّبة عليها ما كان بفعله ، ولا يضمن ما كان بغير فعله . ومن نصوصهم :



أ - لو خرج البارود من البندقيّة بفعله ، فأصاب آدميّاً أو مالاً ضمن ، قياساً على ما لو طارت شرارة من ضرب الحدّاد ، فأصابت ثوب مارّ في الطّريق ، ضمن الحدّاد .



ب - ولو هبّت الرّيح فحملت ناراً ، وألقتها على البندقيّة ، فخرج البارود ، لا ضمان .



ج - ولو وقع الزّند المتّصل بالبندقيّة المجرّبة ، الّتي تستعمل في زماننا ، على البارود بنفسه ، فخرجت رصاصتها ، أو ما بجوفها ، فأتلف مالاً أو آدميّاً ، فإنّه لا ضمان .



ضمان الاصطدام :



تناول الفقهاء حوادث الاصطدام ، وميّزوا بين اصطدام الإنسان والحيوان ، وبين اصطدام الأشياء كالسّفن ونحوها .



أوّلاً : اصطدام الإنسان :



ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان خطأً وماتا منه ضمنت عاقلة كلّ فارس دية الآخر إذا وقعا على القفا ، وإذا وقعا على وجوههما يهدر دمهما .



ولو كانا عامدين فعلى عاقلة كلّ نصف الدّية ، ولو وقع أحدهما على وجهه هدر دمه فقط . وإذا تجاذب رجلان حبلاً فانقطع الحبل ، فسقطا على القفا وماتا هدر دمهما ، لموت كلّ بقوّة نفسه ، فإن وقعا على الوجه وجب دية كلّ واحد منهما على الآخر ، لموته بقوّة صاحبه . وعند المالكيّة : إن تصادم مكلّفان عمداً ، أو تجاذبا حبلاً فماتا معاً ، فلا قصاص ولا دية وإن مات أحدهما فقط فالقود .



وإن تصادما خطأً فماتا ، فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر ، وإن مات أحدهما فديته على من بقي منها .



وإن كان التّجاذب لمصلحة فلا قصاص ولا دية ، كما يقع بين صنّاع الحبال فإذا تجاذب صانعان حبلاً لإصلاحه فماتا أو أحدهما فهو هدر .



ولو تصادم الصّبيّان فماتا ، فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر ، سواء حصل التّصادم أو التّجاذب بقصد أو بغير قصد ، لأنّ فعل الصّبيان عمداً حكمه كالخطأ .



وذهب الشّافعيّة : إلى أنّه إذا اصطدم شخصان - راكبان أو ماشيان ، أو راكب وماش طويل- بلا قصد ، فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية مخفّفة ، لأنّ كلّ واحد منهما هلك بفعله، وفعل صاحبه ، فيهدر النّصف ، ولأنّه خطأ محض ، ولا فرق بين أن يقعا منكبّين أو مستلقيين ، أو أحدهما منكبّاً والآخر مستلقياً .



وإن قصدا الاصطدام فنصف الدّية مغلّظةً على عاقلة كلّ منهما لورثة الآخر ، لأنّ كلّ واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه ، فيهدر النّصف ، ولأنّ القتل حينئذ شبه عمد فتكون الدّية مغلّظةً ، ولا قصاص إذا مات أحدهما دون الآخر ، لأنّ الغالب أنّ الاصطدام لا يفضي إلى الموت .



والصّحيح أنّ على كلّ منهما في تركته كفّارتين : إحداهما لقتل نفسه ، والأخرى لقتل صاحبه ، لاشتراكهما في إهلاك نفسين ، بناءً على أنّ الكفّارة لا تتجزّأ .



وفي تركة كلّ منهما نصف قيمة دية الآخر ، لاشتراكهما في الإتلاف ، مع هدر فعل كلّ منهما في حقّ نفسه



ولو تجاذبا حبلاً فانقطع وسقطا وماتا ، فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية الآخر ، سواء أسقطا منكبّين أم مستلقيين ، أم أحدهما منكبّاً والآخر مستلقياً ، وإن قطعه غيرهما فديتهما على عاقلته .



وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان ، فعلى كلّ واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابّة أو مال ، سواء كانا مقبلين أم مدبرين ، لأنّ كلّ واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنّما هو قربها إلى محلّ الجناية ، فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفةً إذا ثبت هذا ، فإنّ قيمة الدّابّتين إن تساوتا تقاصّا وسقطتا ، وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزّيادة ، وإن ماتت إحدى الدّابّتين فعلى الآخر قيمتها ، وإن نقصت فعليه نقصها .



فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر ، فأدركه الثّاني فصدمه فماتت الدّابّتان ، أو إحداهما فالضّمان على اللاحق ، لأنّه الصّادم والآخر مصدوم ، فهو بمنزلة الواقف .



وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفاً ، فعلى السّائر قيمة دابّة الواقف ، نصّ أحمد على هذا لأنّ السّائر هو الصّادم المتلف ، فكان الضّمان عليه وإن مات هو أو دابّته فهو هدر ، لأنّه أتلف نفسه ودابّته ، وإن انحرف الواقف فصادفت الصّدمة انحرافه فهما كالسّائرين ، لأنّ التّلف حصل من فعلهما ، وإن كان الواقف متعدّياً بوقوفه ، مثل أن يقف في طريق ضيّق فالضّمان عليه دون السّائر ، لأنّ التّلف حصل بتعدّيه فكان الضّمان عليه ، كما لو وضع حجراً في الطّريق ، أو جلس في طريق ضيّق فعثر به إنسان .



وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا ، فعلى عاقلة كلّ واحد منهما دية الآخر ، روي هذا عن عليّ رضي الله عنه والخلاف - هاهنا - في الضّمان كالخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان ، إلاّ أنّه لا تقاصّ - هاهنا - في الضّمان ، لأنّه على غير من له الحقّ ، لكون الضّمان على عاقلة كلّ واحد منهما ، وإن اتّفق أن يكون الضّمان على من له الحقّ مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة ، أو يكون الضّمان على المتصادمين تقاصّا ، ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمداً أو خطأً ، لأنّ الصّدمة لا تقتل غالباً ، فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ .



ثانياً : اصطدام الأشياء :



السّفن والسّيّارات :



قال الفقهاء : إذا كان الاصطدام بسبب قاهر أو مفاجئ ، كهبوب الرّيح أو العواصف، فلا ضمان على أحد .



وإذا كان الاصطدام بسبب تفريط أحد ربّاني السّفينتين - أو قائدي السّيّارتين - كان الضّمان عليه وحده .



ومعيار التّفريط - كما يقول ابن قدامة - أن يكون الرّبّان - وكذلك القائد - قادراً على ضبط سفينته - أو سيّارته - أو ردّها عن الأخرى ، فلم يفعل ، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل ، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرّجال وغيرها .



وإذا كانت إحدى السّفينتين واقفةً ، والأخرى سائرةً ، فلا شيء على الواقفة ، وعلى السّائرة ضمان الواقفة ، إن كان القيّم مفرّطاً .



وإذا كانتا ماشيتين متساويتين ، بأن كانتا في بحر أو ماء راكد ، ضمن المفرّط سفينة الآخر، بما فيها من مال أو نفس .



أمّا إذا كانتا غير متساويتين ، بأن كانت إحداهما منحدرةً ، والأخرى صاعدةً فعلى المنحدر ضمان الصّاعدة ، لأنّها تنحدر عليها من علوّ ، فيكون ذلك سبباً في غرقها ، فتنزل المنحدرة منزلة السّائرة ، والصّاعدة منزلة الواقفة ، إلاّ أن يكون التّفريط من المصعد فيكون، الضّمان عليه ، لأنّه المفرّط .



وقال الشّافعيّة في اصطدام السّفن : السّفينتان كالدّابّتين ، والملاحان كالرّاكبين إن كانتا لهما.



وأطلق ابن جزيّ قوله : إذا اصطدم مركبان في جريهما ، فانكسر أحدهما أو كلاهما ، فلا ضمان في ذلك .










 مكتب / محمد جابر عيسى المحامى


الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الثامن








انتفاء الضّمان :



ينتفي الضّمان - بوجه عامّ - بأسباب كثيرة ، من أهمّها :



أ - دفع الصّائل :



يشترط في دفع الصّائل ، لانتفاء الإثم وانتفاء الضّمان - بوجه عامّ - ما يلي :



1 - أن يكون الصّول حالاً ، والصّائل شاهراً سلاحه أو سيفه ، ويخاف منه الهلاك ، بحيث لا يمكن المصول عليه ، أن يلجأ إلى السّلطة ليدفعه عنه .



2 - أن يسبقه إنذار وإعلام للصّائل ، إذا كان ممّن يفهم الخطاب كالآدميّ ، وذلك بأن يناشده اللّه ، فيقول : ناشدتك اللّه إلاّ ما خلّيت سبيلي ، ثلاث مرّات ، أو يعظه ، أو يزجره لعلّه ينكفّ ، فأمّا غيره ، كالصّبيّ والمجنون - وفي حكمهما البهيمة - فإنّ إنذارهم غير مفيد ، وهذا ما لم يعاجل بالقتال ، وإلاّ فلا إنذار ، قال الخرشيّ : والظّاهر أنّ الإنذار مستحبّ ، وهو الّذي قاله الدّردير : بعد الإنذار ندباً .



وقال الغزاليّ : ويجب تقديم الإنذار ، في كلّ دفع ، إلاّ في مسألة النّظر إلى حرم الإنسان من كوّة .



3 - كما يشترط أن يكون الدّفع على سبيل التّدرّج : فما أمكن دفعه بالقول لا يدفع بالضّرب، وما أمكن دفعه بالضّرب لا يدفع بالقتل ، وذلك تطبيقاً للقواعد الفقهيّة المقرّرة في نحو هذا ، كقاعدة الضّرر الأشدّ يزال بالضّرر الأخفّ .



4 - وشرط المالكيّة أن لا يقدر المصول عليه على الهروب ، من غير مضرّة تحصل له ، فإن كان يقدر على ذلك بلا مضرّة ولا مشقّة تلحقه ، لم يجز له قتل الصّائل ، بل ولا جرحه، ويجب هربه منه ارتكاباً لأخفّ الضّررين .



الضّمان في دفع الصّائل :



ذهب الجمهور إلى أنّه إن أدّى دفع الصّائل إلى قتله ، فلا شيء على الدّافع .



ب - حال الضّرورة :



الضّرورة : نازلة لا مدفع لها ، أو كما يقول أهل الأصول : نازلة لا مدفع لها إلاّ بارتكاب محظور يباح فعله لأجلها .



ومن النّصوص الواردة في أحوال الضّرورة :



1 - حريق وقع في محلّة ، فهدم رجل دار غيره ، بغير أمر صاحبه ، وبغير إذن من السّلطان ، حتّى ينقطع عن داره ، ضمن ولم يأثم .



قال الرّمليّ : وفيه دليل على أنّه لو كان بأمر السّلطان لا يضمن ، ووجهه : أنّ له ولايةً عامّةً ، يصحّ أمره لدفع الضّرر العامّ . وبه صرّح في الخانيّة .



2 - يجوز أكل الميتة كما يجوز أكل مال الغير مع ضمان البدل إذا اضطرّ .



3 - لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ، ينظر إلى أكثرهما قيمةً ، فيضمن صاحب الأكثر قيمة الأقلّ .



4 - إذا مضت مدّة الإجارة ، والزّرع بقل ، لم يحصد بعد ، فإنّه يترك بالقضاء أو الرّضى ، بأجر المثل إلى إدراكه رعايةً للجانبين ، لأنّ له نهايةً .



ج - حال تنفيذ الأمر :



يشترط لانتفاء الضّمان عن المأمور وثبوته على الآمر ، ما يلي :



1 - أن يكون المأمور به جائز الفعل ، فلو لم يكن جائزاً فعله ضمن الفاعل لا الآمر ، فلو أمر غيره بتخريق ثوب ثالث ضمن المخرّق لا الآمر .



2 - أن تكون للآمر ولاية على المأمور ، فإن لم تكن له ولاية عليه ، وأمره بأخذ مال غيره فأخذه ، ضمن الآخذ لا الآمر ، لعدم الولاية عليه أصلاً ، فلم يصحّ الأمر ، وفي كلّ موضع لم يصحّ الأمر كان الضّمان على المأمور ، ولم يضمن الآمر .



وإذا صحّ الأمر بالشّرطين السّابقين ، وقع الضّمان على الآمر ، وانتفى عن المأمور ولو كان مباشراً ، لأنّه معذور لوجوب طاعته لمن هو في ولايته ، كالولد إذا أمره أبوه ، والموظّف إذا أمره رئيسه .



قال الحصكفيّ : الآمر لا ضمان عليه بالأمر ، إلاّ إذا كان الآمر سلطاناً أو أباً أو سيّداً ، أو كان المأمور صبيّاً أو عبداً .



وكذا إذا كان مجنوناً ، أو كان أجيراً للآمر .



د - حال تنفيذ إذن المالك وغيره :



الأصل أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرّف في ملك الغير بلا إذنه ، فإن أذن وترتّب على الفعل المأذون به ضرر انتفى الضّمان ، لكن ذلك مشروط : بأن يكون الشّيء المأذون بإتلافه مملوكاً للآذن ، أو له ولاية عليه .



وأن يكون الآذن بحيث يملك هو التّصرّف فيه ، وإتلافه ، لكونه مباحاً له .



وعبّر المالكيّة عن ذلك بأن يكون الإذن معتبراً شرعاً .



وقال الشّافعيّة : ممّن يعتبر إذنه ، فلو انتفى الإذن أصلاً ، كما لو استخدم سيّارة غيره بغير إذنه ، أو قاد دابّته ، أو ساقها ، أو حمل عليها شيئاً ، أو ركبها فعطبت ، فهو ضامن .



أو انتفى الملك - كما لو أذن شخص لآخر بفعل ترتّب عليه إتلاف ملك غيره - ضمن المأذون له ، لأنّه لا يجوز التّصرّف في مال غيره بلا إذنه ولا ولايته .



ولو أذن الآخر بإتلاف ماله ، فأتلفه فلا ضمان ، كما لو قال له : أحرق ثوبي ففعل ، فلا يغرم ، إلاّ الوديعة إذا أذن له بإتلافها يضمنها ، لالتزامه حفظها ، ولو داوى الطّبيب صبيّاً بإذن من الصّبيّ نفسه ، فمات أو عطب ، ضمن الطّبيب ، ولو كان الطّبيب عالماً ، ولو لم يقصّر ، ولو أصاب وجه العلم والصّنعة لأنّ إذن الصّبيّ غير معتبر شرعاً .



وكذا لو أذن الرّشيد لطبيب في قتله ففعل ، لأنّ هذا الإذن غير معتبر شرعاً ، وهذا عند المالكيّة .



وقال الحنفيّة : لو قال له اقتلني فقتله ، ضمن ديته ، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفس ، لأنّ الإنسان لا يملك إتلاف نفسه ، لأنّه محرّم شرعاً ، لكن يسقط القصاص ، لشبهة الإذن ، كما يقول الحصكفيّ ، وهو قول للشّافعيّة .



وفي قول للحنفيّة : لا تجب الدّية أيضاً ، وهو قول سحنون من المالكيّة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، فهو هدر للإذن ، وفي قول ابن قاسم : يقتل ، وهو قول الحنفيّة .



هـ – حال تنفيذ أمر الحاكم أو إذنه :



إذا ترتّب على تنفيذ أمر الحاكم ، أو إذنه بالفعل ضرر ، ففيه خلاف وتفصيل .



فلو حفر حفرةً في طريق المسلمين العامّ ، أو في مكان عامّ لهم ، كالسّوق والمنتدى والمحتطب والمقبرة ، أو أنشأ بناءً ، أو شقّ ترعةً ، أو نصب خيمةً ، فعطب بها رجل ، أو تلف بها إنسان ، فديته على عاقلة الحافر ، وإن تلف بها حيوان ، فضمانه في ماله ، لأنّ ذلك تعدّ وتجاوز ، وهو محظور في الشّرع صيانةً لحقّ العامّة لا خلاف في ذلك .



فإن كان ذلك بإذن الحاكم أو أمره أو أمر نائبه : فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يضمن ، لأنّه غير متعدّ حينئذ ، فإنّ للإمام ولايةً عامّةً على الطّريق ، إذ ناب عن العامّة ، فكان كمن فعله في ملكه .



وقال المالكيّة : لو حفر بئراً في طريق المسلمين فتلف فيها آدميّ أو غيره ضمن الحافر لتسبّبه في تلفه ، أذن السّلطان أو لم يأذن ويمنع من ذلك البناء .



وقال الشّافعيّة : لو حفر بطريق ضيّق يضرّ المارّة فهو مضمون وإن أذن فيه الإمام ، إذ ليس له الإذن فيما يضرّ ، ولو حفر في طريق لا يضرّ المارّة وأذن فيه الإمام فلا ضمان ، سواء حفر لمصلحة نفسه أو لمصلحة المسلمين ، وإن لم يأذن فإن حفر لمصلحته فقط فالضّمان فيه ، أو لمصلحة عامّة فلا ضمان في الأظهر لجوازه ، ومقابل الأظهر : فيه الضّمان ، لأنّ الجواز مشروط بسلامة العاقبة .



وفصّل الحنابلة ناظرين إلى الطّريق : فإن كان الطّريق ضيّقاً ، فعليه ضمان من هلك به ، لأنّه متعدّ ، سواء أذن الإمام أو لم يأذن ، فإنّه ليس للإمام الإذن فيما يضرّ بالمسلمين ، ولو فعل ذلك الإمام ، يضمن ما تلف به ، التّعدية .



وإن كان الطّريق واسعاً ، فحفر في مكان يضرّ بالمسلمين ، فعليه الضّمان كذلك .



وإن حفر في مكان لا ضرر فيه ، نظرنا : فإن حفر لنفسه ، ضمن ما تلف بها ، سواء حفرها بإذن الإمام ، أو بغير إذنه وإن حفرها لنفع المسلمين - كما لو حفرها لينزل فيها ماء المطر ، أو لتشرب منه المارّة - فلا يضمن ، إذا كان بإذن الإمام ، وإن كان بغير إذنه، ففيه روايتان :



إحداهما : أنّه لا يضمن .



والأخرى : أنّه يضمن ، لأنّه افتات على الإمام .



الضّمان في الزّكاة :



في ضمان زكاة المال ، إذا هلك النّصاب حالتان :



الحالة الأولى :



لو هلك المال بعد تمام الحول ، والتّمكّن من الأداء :



فذهب الجمهور ، إلى أنّ الزّكاة تضمن بالتّأخير ، وعليه الفتوى عند الحنفيّة .



وذهب بعض الحنفيّة كأبي بكر الرّازيّ ، إلى عدم الضّمان في هذه الحال ، لأنّ وجوب الزّكاة على التّراخي ، وذلك لإطلاق الأمر بالزّكاة ، ومطلق الأمر لا يقتضي الفور ، فيجوز للمكلّف تأخيره ، كما يقول الكمال .



الحالة الثّانية :



لو أتلف المالك المال بعد الحول ، قبل التّمكّن من إخراج الزّكاة ، فإنّها مضمونة عند الجمهور أيضاً ، وهو الّذي أطلقه النّوويّ ، وأحد قولين عند الحنفيّة ، لأنّها كما قال البهوتيّ استقرّت بمضيّ الحول ، وعلّله الحنفيّة بوجود التّعدّي منه .



والقول الآخر عند الحنفيّة : أنّه لا يضمن .



لو دفع المزكّي زكاته بتحرّ ، إلى من ظنّ أنّه مصرفها ، فبان غير ذلك ففي الإجزاء أو عدمه أي الضّمان خلاف .



الضّمان في الحجّ عن الغير :



ذهب جمهور الفقهاء ، إلى جواز الاستئجار على الحجّ ، وفي تضمين من يحجّ عن غيره التّفصيل التّالي :



أ - إذا أفسد الحاجّ عن غيره حجّه متعمّداً ، بأن بدا له فرجع من بعض الطّريق أو جامع قبل الوقوف ، فإنّه يغرم ما أنفق على نفسه من المال ، لإفساده الحجّ ، ويعيده من مال نفسه عند الحنفيّة .



وقال النّوويّ : إذا جامع الأجير فسد حجّه ، وانقلب له ، فتلزمه الكفّارة ، والمضيّ في فاسده ، هذا هو المشهور .



وصرّح الجمل بأنّه لا شيء له على المستأجر ، لأنّه لم ينتفع بما فعله ، وأنّه مقصّر .



وقال المقدسيّ : ويردّ ما أخذ من المال ، لأنّ الحجّة لم تجزئ عن المستنيب ، لتفريطه وجنابته .



ب - إذا أحصر الحاجّ عن غيره ، فله التّحلّل وفي دم الإحصار خلاف :



فعند أبي حنيفة ومحمّد ، وهو أحد وجهين عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة : أنّه على الآمر ، لأنّه للتّخلّص من مشقّة السّفر ، فهو كنفقة الرّجوع ولوقوع النّسك له ، مع عدم إساءة الأجير .



وعند أبي يوسف ، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة أنّه في ضمان الأجير ، كما لو أفسده .



ج - إذا فاته الحجّ ، بغير تقصير منه بنوم ، أو تأخّر عن القافلة ، أو غيرهما ، من غير إحصار ، بل بآفة سماويّة ، لا يضمن عند الحنفيّة النّفقة ، لأنّه فاته بغير صنعه ، وعليه الحجّ من قابل ، لأنّ الحجّة وجبت عليه بالشّروع ، فلزمه قضاؤها .



قال النّوويّ : ولا شيء للأجير في المذهب .



دم القران والتّمتّع :



اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه دم القران والتّمتّع في الحجّ عن الغير :



قال الحنفيّة : دم القران والتّمتّع على الحاجّ - أي المأمور بالحجّ عن غيره - إن أذن له الآمر بالقران والتّمتّع ، وإلاّ فيصير مخالفاً ، فيضمن النّفقة .



وللشّافعيّة تفصيل وتفرقة بين ما إذا كانت الإجارة على الذّمّة أو العين ، وكان قد أمره بالحجّ ، فقرن أو تمتّع .



وقال الحنابلة : دم التّمتّع والقران على المستنيب ، إن أذن له فيهما ، وإن لم يؤذن فعليه .



أمّا ما يلزم من الدّماء بفعل المحظورات فعلى الحاجّ وهو المأمور لأنّه لم يؤذن له في الجناية ، فكان موجبها عليه ، كما لو لم يكن نائباً .



وكلّ ما لزمه بمخالفته ، فضمانه منه كما يقول البهوتيّ .



الضّمان في الأضحيّة :



لو مضت أيّام الأضحيّة ، ولم يذبح أو ذبح شخص أضحيّة غيره بغير إذنه



ضمان صيد الحرم :



نهى الشّارع عن صيد المحرم ، بحجّ أو عمرة ، حيواناً برّيّاً ، إذا كان مأكول اللّحم - عند الجمهور - من طير أو دابّة ، سواء أصيد من حرم أم من غيره ، وذلك بقوله تعالى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } .



وأطلق المالكيّة عدم جواز قتل شيء من صيد البرّ ، ما أكل لحمه وما لم يؤكل ، لكنّهم أجازوا - كالجمهور - قتل الحيوانات المضرّة : كالأسد ، والذّئب ، والحيّة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور ، بل استحبّ الحنابلة قتلها ، ولا يقتل ضبّ ولا خنزير ولا قرد ، إلاّ أن يخاف من عاديته .



وأوجب الشّارع في الصّيد المنهيّ عنه بالحرم وبالنّسبة للمحرم ضمان مثل الحيوان المصيد من الأنعام ، فيذبحه في الحرم ويتصدّق به ، أو ضمان قيمته من الطّعام - إن لم يكن له مثل - فيتصدّق بالقيمة ، أو صيام يوم عن طعام كلّ مسكين ، وهو المدّ عند الشّافعيّة ، ونصف الصّاع من البرّ ، أو الصّاع من الشّعير عند الحنفيّة .



وهذا التّخيير في الجزاء ، لقوله تعالى : { فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } ... الآية .



ضمان الطّبيب ونحوه :



مثل الطّبيب : الحجّام ، والختّان ، والبيطار ، وفي ضمانهم خلاف :



يقول الحنفيّة : في الطّبيب إذا أجرى جراحةً لشخص فمات ، إذا كان الشّقّ بإذن ، وكان معتاداً ، ولم يكن فاحشاً خارج الرّسم ، لا يضمن .



وقالوا : لو قال الطّبيب : أنا ضامن إن مات لا يضمن ديته لأنّ اشتراط الضّمان على الأمين باطل ، أو لأنّ هذا الشّرط غير مقدور عليه ، كما هو شرط المكفول به .



وقال ابن نجيم : قطع الحجّام لحماً من عينه ، وكان غير حاذق ، فعميت ، فعليه نصفا الدّية.



وقال المالكيّة : في الطّبيب والبيطار والحجّام ، يختن الصّبيّ ، ويقلع الضّرس ، فيموت صاحبه لا ضمان على هؤلاء ، لأنّه ممّا فيه التّعزير ، وهذا إذا لم يخطئ في فعله ، فإن أخطأ فالدّية على عاقلته .



وينظر : فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه ، وإن كان غير عارف ، وغرّ من نفسه ، فيؤدّب بالضّرب والسّجن ، وقالوا : الطّبيب إذا جهل أو قصّر ضمن ، والضّمان على العاقلة، وكذا إذا داوى بلا إذن ، أو بلا إذن معتبر ، كالصّبيّ .



وقال الشّافعيّ : في الحجّام والختّان ونحوهما : إن كان فعل ما يفعله مثله ، ممّا فيه الصّلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصّناعة ، فلا ضمان عليه ، وله أجره .



وإن كان فعل ما لا يفعله مثله ، كان ضامناً ، ولا أجر له في الأصحّ .



وللشّافعيّة في الختان تفصيل بين الوليّ وغيره : فمن ختنه في سنّ لا يحتمله ، لزمه القصاص ، إلاّ الوالد وإن احتمله ، وختنه وليّ ختان ، فلا ضمان عليه في الأصحّ .



ضمان المعزّر :



قال الحنفيّة : من عزّره الإمام فهلك ، فدمه هدر ، وذلك لأنّ الإمام مأمور بالتّعزير، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة في التّعزير الواجب ، وقيّده جمهور المالكيّة بأن يظنّ الإمام سلامته ، وإلاّ ضمن ، وكذلك الشّافعيّة يرون التّعزير مقيّداً بسلامة العاقبة .



ومعنى هذا : أنّ التّعزير إذا أفضى إلى التّلف لا يضمن عند الجمهور بشرط ظنّ سلامة العاقبة ، لأنّه مأذون فيه ، فلا يضمن ، كالحدود ، وهذا ما لم يسرف ، كما نصّ عليه الحنابلة بأن يجاوز المعتاد ، أو ما يحصل به المقصود ، أو يضرب من لا عقل له من صبيّ أو مجنون أو معتوه ، فإنّه يضمن حينئذ ، لأنّه غير مأذون بذلك شرعاً .



ضمان المؤدّب والمعلّم :



ذهب الفقهاء إلى منع التّأديب والتّعليم بقصد الإتلاف وترتّب المسئوليّة على ذلك ، واختلفوا في حكم الهلاك من التّأديب المعتاد .



ضمان قطّاع الطّريق :



اختلف الفقهاء في تضمين قطّاع الطّريق ما أخذوه من الأموال أثناء الحرابة ، وذلك بعد إقامة الحدّ عليهم فذهب جمهور الفقهاء إلى تضمينهم .



ضمان البغاة :



لا خلاف في أنّ العادل إذا أصاب من أهل البغي ، من دم أو جراحة ، أو مال استهلكه أنّه لا ضمان عليه ، وذلك في حال الحرب وحال الخروج ، لأنّه ضرورة ، ولأنّا مأمورون بقتالهم ، فلا نضمن ما تولّد منه .



أمّا إذا أصاب الباغي من أهل العدل شيئاً من نفس أو مال فمذهب الجمهور - وهو الرّاجح عند الشّافعيّة - أنّه موضوع ، ولا ضمان فيه .



وفي قول للشّافعيّة : أنّه مضمون ، يقول الرّمليّ من الشّافعيّة : لو أتلفوا علينا نفساً أو مالاً ضمنوه ، وعلّق عليه الشّبراملّسي بقوله : أي بغير القصاص ، وعلّله الشّربينيّ بأنّهما فرقتان من المسلمين ، محقّة ومبطلة ، فلا يستويان في سقوط الغرم ، كقطّاع الطّريق ، لشبهة تأويلها .



واستدلّ الجمهور بما روي عن الزّهريّ ، أنّه قال : وقعت الفتنة ، وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فاتّفقوا على أنّ كلّ دم استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع، وكلّ مال استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع .



قال الكاسانيّ : ومثله لا يكذب ، فوقع الإجماع من الصّحابة - رضي الله عنهم - على ذلك، وهو حجّة قاطعة .



ولأنّ الولاية من الجانبين منقطعة ، لوجود المنعة ، فلم يكن وجوب الضّمان مفيداً لتعذّر الاستيفاء ، فلم يجب .



ولأنّ تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم من الرّجوع إلى الطّاعة فسقط ، كأهل الحرب ، أو كأهل العدل .



هذا الحكم في حال الحرب ، أمّا في غير حال الحرب ، فمضمون .



ضمان السّارق للمسروق :



لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المسروق إن كان قائماً فإنّه يجب ردّه إلى من سرق منه .



ضمان إتلاف آلات اللّهو :



آلة اللّهو : كالمزمار ، والدّفّ ، والبربط ، والطّبل ، والطّنبور ، وفي ضمانها بعض الخلاف :



فمذهب الجمهور ، والصّاحبين من الحنفيّة ، أنّها لا تضمن بالإتلاف وذلك : لأنّها ليست محترمةً ، لا يجوز بيعها ولا تملّكها ، ولأنّها محرّمة الاستعمال ، ولا حرمة لصنعتها . ومذهب أبي حنيفة أنّه يضمن بكسرها قيمتها خشباً منحوتاً صالحاً لغير اللّهو لا مثلها ، ففي الدّفّ يضمن قيمته دفّاً يوضع فيه القطن ، وفي البربط يضمن قيمته قصعة ثريد .



ويصحّ بيعها ، لأنّها أموال متقوّمة لصلاحيّتها بالانتفاع بها في غير اللّهو ، فلم تناف الضّمان ، كالأمة المغنّية ، بخلاف الخمر فإنّها حرام لعينها ، والفتوى على مذهب الصّاحبين، أنّه لا يضمنها ، ولا يصحّ بيعها .



قالوا : وأمّا طبل الغزاة والصّيّادين والدّفّ الّذي يباح ضربه في العرس ، فمضمون اتّفاقاً ، كالأمة المغنّية ، والكبش النّطوح ، والحمامة الطّيّارة ، والدّيك المقاتل .



حيث تجب قيمتها غير صالحة لهذا الأمر .



وذكر ابن عابدين ، أنّ هذا الاختلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه إنّما هو : في الضّمان ، دون إباحة إتلاف المعازف ، وفيما يصلح لعمل آخر ، وإلاّ لم يضمن شيئاً اتّفاقاً ، وفيما إذا فعل بغير إذن الإمام ، وإلاّ لم يضمن اتّفاقاً .



وفي غير عود المغنّي وخابية الخمّار ، لأنّه لو لم يكسرها لعاد لفعله القبيح ، وفيما إذا كان لمسلم ، فلو لذمّيّ ضمن اتّفاقاً قيمته بالغاً ما بلغ ، وكذا لو كسر صليبه ، لأنّه مال متقوّم في حقّه .



ضمان ما يترتّب على ترك الفعل :



لمال المسلم حرمة كما لنفسه ، وقد اختلف الفقهاء في تضمين من يترك فعلاً من شأنه إنقاذ مال المسلم من الضّياع ، أو نفسه من الهلاك .



ترك الشّهادة والرّجوع عنها :



ذهب الفقهاء إلى أنّ من يترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ الّذي طلبت من أجله آثم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } .



ونصّ المالكيّة على أنّ من ترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ يضمن .



قطع الوثائق :



نصّ المالكيّة على أنّه إذا قطع وثيقةً ، فضاع ما فيها من الحقوق ، فهو ضامن ، لتسبّبه في الإتلاف وضياع الحقّ ، سواء أفعل ذلك عمداً أم خطأً ، لأنّ العمد أو الخطأ في أموال النّاس سواء - كما يقول الدّسوقيّ - وكذا إذا أمسك الوثيقة بمال ، أو عفو عن دم . ولو قتل شاهدي الحقّ ، أو قتل أحدهما وهو لا يثبت إلاّ بشهادتهما ، فالأظهر أنّه يغرم جميع الحقّ ، وجميع المال وفي قتله تردّد .



تضمين السّعاة :



إذا سعى لدى السّلطان لدفع أذاه عنه ، ولا يرتفع أذاه إلاّ بذلك ، أو سعى بمن يباشر الفسق ولا يمتنع بنهيه فلا ضمان في ذلك ، عند الحنفيّة .



وإذا سعى لدى السّلطان ، وقال : إنّ فلاناً وجد كنزاً ، فغرّمه السّلطان ، فظهر كذبه ، ضمن، إلاّ إن كان السّلطان عدلاً ، أو قد يغرم أو لا يغرم ، لكن الفتوى اليوم - كما نقل ابن عابدين عن المنح - بوجوب الضّمان على السّاعي مطلقاً .



والسّعاية الموجبة للضّمان : أن يتكلّم بكذب يكون سبباً لأخذ المال من شخص ، أو كان صادقاً لكن لا يكون قصده إقامة الحسبة كما لو قال : وجد مالاً وقد وجد المال ، فهذا يوجب الضّمان ، إذ الظّاهر أنّ السّلطان يأخذ منه المال بهذا السّبب .



ولو كان السّلطان يغرم ألبتّة بمثل هذه السّعاية ، ضمن .



وكذا يضمن لو سعى بغير حقّ - عند محمّد - زجراً للسّاعي ، وبه يفتى ويعزّر ولو مات السّاعي فللمسعى به أن يأخذ قدر الخسران من تركته ، وهو الصّحيح ، وذلك دفعاً للفساد وزجراً للسّاعي ، وإن كان غير مباشر ، فإنّ السّعي سبب محض لإهلاك المال ، والسّلطان يغرّمه اختياراً لا طبعاً .



ونقل الرّمليّ عن القنية : شكا عند الوالي بغير حقّ ، فضرب المشكوّ عليه ، فكسر سنّه أو يده ، يضمن الشّاكي أرشه ، كالمال .



وتعرّض المالكيّة لمسألة الشّاكي للحاكم ممّن ظلمه ، كالغاصب وقالوا : إذا شكاه إلى حاكم ظالم ، مع وجود حاكم منصف ، فغرّمه الحاكم زائداً عمّا يلزمه شرعاً ، بأن تجاوز الحدّ الشّرعيّ ، قالوا : يغرم .



وفي فتوى : أنّه يضمن الشّاكي جميع ما غرّمه السّلطان الظّالم للمشكوّ .



وفي قول ثالث : أنّه لا يضمن الشّاكي شيئاً مطلقاً ، وإن ظلم في شكواه ، وإن أثم وأدّب . ونصّ الحنابلة على أنّه لو غرم إنسان ، بسبب كذب عليه عند وليّ الأمر ، فللغارم تغريم الكاذب عليه لتسبّبه في ظلمه ، وله الرّجوع على الآخذ منه ، لأنّه المباشر .



إلقاء المتاع من السّفينة :



قال الحنفيّة : إذا أشرفت سفينة على الغرق ، فألقى بعضهم حنطة غيره في البحر، حتّى خفّت السّفينة ، يضمن قيمتها في تلك الحال ، أي مشرفةً على الغرق ، ولا شيء على الغائب الّذي له مال فيها ، ولم يأذن بالإلقاء ، فلو أذن بالإلقاء ، بأن قال : إذا تحقّقت هذه الحال فألقوا ، اعتبر إذنه .



وقالوا : إذا خشى على الأنفس ، فاتّفقوا على إلقاء الأمتعة فالغرم بعدد الرّءوس إذا قصد حفظ الأنفس خاصّةً - كما يقول ابن عابدين - لأنّها لحفظ الأنفس ، وهذا اختيار الحصكفيّ وهو أحد أقوال ثلاثة ، ثانيها : أنّه على الأملاك مطلقاً ، ثالثها عكسه .



ولو خشى على الأمتعة فقط - بأن كانت في موضع لا تغرق فيه الأنفس - فهي على قدر الأموال ، وإذا خشى عليهما ، فهي على قدرهما ، فمن كان غائباً ، وأذن بالإلقاء ، اعتبر ماله ، لا نفسه .



ومن كان حاضرًا بماله اعتبر ماله ونفسه فقط .



ومن كان بنفسه فقط اعتبر نفسه .



وقال المالكيّة : إذا خيف على السّفينة الغرق ، جاز طرح ما فيها من المتاع ، أذن أربابه أو لم يأذنوا ، إذا رجا بذلك نجاته ، وكان المطروح بينهم على قدر أموالهم ، ولا غرم على من طرحه .



وقال الشّافعيّة : إذا أشرفت سفينة فيها متاع وركاب على غرق ، وخيف هلاك الرّكاب ، جاز إلقاء بعض المتاع في البحر ، لسلامة البعض الآخر : أي لرجائها ، وقال البلقينيّ : بشرط إذن المالك .



وقال النّوويّ : ويجب لرجاء نجاة الرّاكب .



وقالوا - أيضاً - ويجب إلقاؤه - وإن لم يأذن مالكه - إذا خيف الهلاك لسلامة حيوان محترم ، بخلاف غير المحترم ، كحربيّ ومرتدّ .



ويجب إلقاء حيوان ، ولو محترماً ، لسلامة آدميّ محترم ، إن لم يمكن دفع الغرق بغير إلقائه .



وقال الأذرعيّ : ينبغي أن يراعي في الإلقاء تقديم الأخسّ فالأخسّ قيمةً من المتاع إن أمكن، حفظاً للمال ما أمكن ، قالوا : وهذا إذا كان الملقي غير المالك .



وقالوا : يجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي روح ، وإلقاء الدّوابّ لإبقاء الآدميّين .



وإذا اندفع الغرق بطرح بعض المتاع اقتصر عليه .



قال النّوويّ في منهاجه : فإن طرح مال غيره بلا إذن ضمنه ، وإلاّ فلا ، كأكل المضطرّ طعام غيره بغير إذنه .



قالوا : ولو قال : ألق متاعك عليّ ضمانه ، أو على أنّي ضامن ضمن ، ولو اقتصر على : ألق ، فلا ، على المذهب - لعدم الالتزام - .



والحنابلة قالوا بهذه الفروع :



أ - إذا ألقى بعض الرّكبان متاعه ، لتخفّ السّفينة وتسلم من الغرق ، لم يضمّنه أحد ، لأنّه أتلف متاع نفسه باختياره ، لصلاحه وصلاح غيره .



ب - وإن ألقى متاع غيره بغير أمره ، ضمنه وحده .



ج - وإن قال لغيره : ألق متاعك فقبل منه ، لم يضمنه له ، لأنّه لم يلتزم ضمانه .



د - وإن قال : ألق وأنا ضامن له ، أو : وعليّ قيمته ، لزمه ضمانه ، لأنّه أتلف ماله بعوض لمصلحته ، فوجب له العوض على ما التزمه .



هـ – وإن قال : ألقه وعليّ وعلى ركبان السّفينة ضمانه ، فألقاه ، ففيه وجهان :



أحدهما : يلزمه ضمانه وحده ، لأنّه التزم ضمانه جميعه ، فلزمه ما التزمه ، وقال القاضي: إن كان ضمان اشتراك ، مثل أن يقول : نحن نضمن لك أو على كلّ واحد منّا ضمان قسطه لم يلزمه إلاّ ما يخصّه من الضّمان لأنّه لم يضمن إلاّ حصّته ، وإنّما أخبر عن الباقين بالضّمان ، فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان .



وإن التزم ضمان الجميع ، وأخبر عن كلّ واحد منهم بمثل ذلك ، لزمه ضمان الكلّ .



منع المالك عن ملكه حتّى يهلك :



مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، في مسألة منع المالك عن ملكه حتّى يهلك ، وإزالة يده عنه ، هو عدم الضّمان .



قال الحنفيّة : لو منع المالك عن أمواله حتّى هلكت ، يأثم ، ولا يضمن .



نقل هذا ابن عابدين عن ابن نجيم في البحر ، وعلّله بأنّ الهلاك لم يحصل بنفس فعله ، كما لو فتح القفص فطار العصفور ، فإنّه لا يضمن ، لأنّ الطّيران بفعل العصفور ، لا بنفس فتح الباب .



والمنصوص في مسألة فتح القفص ، أنّه قول أبي حنيفة ، وفي قول محمّد يضمن ، وبه كان يفتي أبو القاسم الصّفّار .



واستدلّ بهذه المسألة صاحب البحر ، على أنّه لا يلزم من الإثم الضّمان .



وقال الشّافعيّة : إن حبس المالك عن الماشية لا ضمان فيه ، وكذا لو منع مالك زرع أو دابّة من السّقي ، فهلك لا ضمان في ذلك .



ويبدو أنّ مذهب المالكيّة في مسألة منع المالك ، هو الضّمان ، للتّسبّب في الإتلاف .



وهو أيضاً مذهب الحنابلة ، إذ علّلوا الضّمان بأنّه لتسبّبه بتعدّيه .



ومن فروعهم في ذلك : أنّه لو أزال يد إنسان عن حيوان فهرب يضمنه ، لتسبّبه في فواته، أو أزال يده الحافظة لمتاعه حتّى نهبه النّاس ، أو أفسدته النّار ، أو الماء ، يضمنه .



وقالوا : لربّ المال تضمين فاتح الباب لتسبّبه في الإضاعة ، والقرار على الآخذ لمباشرته . فإن ضمّن ربّ المال الآخذ لم يرجع على أحد ، وإن ضمّن الفاتح رجع على الآخذ .



تضمين المجتهد والمفتي :



قال المالكيّة : لا شيء على مجتهد أتلف شيئاً بفتواه .



أمّا غير المجتهد ، فيضمن إن نصّبه السّلطان أو نائبه للفتوى ، لأنّها كوظيفة عمل قصّر فيها .



وإن لم يكن منتصباً للفتوى ، وهو مقلّد ، ففي ضمانه قولان ، مبنيّان على الخلاف في الغرور القوليّ : هل يوجب الضّمان ، أو لا ؟ والمشهور عدم الضّمان .



والظّاهر – كما نقل الدّسوقيّ – أنّه إن قصّر في مراجعة النّقول ، ضمن ، وإلاّ فلا ، ولو صادف خطؤه ، لأنّه فعل مقدوره ، ولأنّ المشهور عدم الضّمان بالغرور القوليّ .



ونصّ السّيوطيّ على أنّه : لو أفتى المفتي إنساناً بإتلاف ، ثمّ تبيّن خطؤه كان الضّمان على المفتي .



تفويت منافع الإنسان وتعطيلها :



تعطيل المنفعة : إمساكها بدون استعمال ، أمّا استيفاؤها فيكون باستعمالها ، والتّفويت تعطيل ، ويفرّق جمهور الفقهاء بين استيفاء منافع الإنسان ، وبين تفويتها ، بوجه عامّ في تفصيل :



فنصّ المالكيّة على أنّ تعطيل منافع الإنسان وتفويتها ، لا ضمان فيه ، كما لو حبس امرأةً حتّى منعها من التّزوّج ، أو الحمل من زوجها ، أو حبس الحرّ حتّى فاته عمل من تجارة ونحوها ، لا شيء عليه .



أمّا لو استوفى المنفعة ، كما لو وطئ البضع أو استخدم الحرّ فإنّه يضمن ذلك ، فعليه في وطء الحرّة صداق مثلها ، ولو كانت ثيّباً ، وعليه في وطء الأمة ما نقصها ، ونصّ الشّافعيّة على أنّ منفعة البضع لا تضمن إلاّ بالتّفويت بالوطء ، وتضمن بمهر المثل ، ولا تضمن بفوات ، لأنّ اليد لا تثبت عليها ، إذ اليد في بضع المرأة لها ، وكذا منفعة بدن الحرّ لا تضمن إلاّ بتفويت في الأصحّ ، كأن قهره على عمل .



وفي قول ثان لهم : تضمن بالفوات أيضاً ، لأنّها لتقوّيها في عقد الإجارة الفاسدة تشبه منفعة المال .



ودليل القول الأوّل : أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، فمنفعته تفوت تحت يده .



ونصّ الحنابلة على أنّ الحرّ لا يضمن بالغصب ، ويضمن بالإتلاف ، فلو أخذ حرّاً فحبسه ، فمات عنده لم يضمنه ، لأنّه ليس بمال .



وإن استعمله مكرهاً ، لزمه أجر مثله ، لأنّه استوفى منافعه ، وهي متقوّمة ، فلزمه ضمانها، ولو حبسه مدّةً لمثلها أجر ، ففيه وجهان :



أحدهما : أنّه يلزمه أجر تلك المدّة ، لأنّه فوّت منفعته ، وهي مال فيجوز أخذ العوض عنها. والثّاني : لا يلزمه لأنّها تابعة لما لا يصحّ غصبه .



ولو منعه العمل من غير حبس ، لم يضمن منافعه وجهاً واحداً .



أمّا الحنفيّة فلا يقولون بالضّمان بتفويت منافع الإنسان ، لأنّه لا يدخل تحت اليد ، فليس بمال ، فلا تضمن منافع بدنه .



ضَمَان الدَّرَك

الدّرك : بفتحتين ، وسكون الرّاء لغةً ، اسم من أدركت الرّجل أي لحقته ، وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أنّه كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشّقاء « أي من لحاق الشّقاء .



قال الجوهريّ : الدّرك التّبعة ، قال أبو سعيد المتولّي : سمّي ضمان الدّرك لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحقّ عين ماله ويستعمل الفقهاء كذلك هذا اللّفظ بمعنى التّبعة أي المطالبة والمؤاخذة .



فقد عرّف الحنفيّة ضمان الدّرك : بأنّه التزام تسليم الثّمن عند استحقاق المبيع .



وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : هو أن يضمن شخص لأحد العاقدين ما بذله للآخر إن خرج مقابله مستحقّاً أو معيباً أو ناقصاً لنقص الصّنجة ، سواء أكان الثّمن معيّناً أم في الذّمّة .



ولا يخرج تعريف الفقهاء الآخرين لضمان الدّرك عمّا قاله الحنفيّة والشّافعيّة في تعريفه . ويعبّر عنه الحنابلة بضمان العهدة ، كما يعبّر عنه الحنفيّة في الغالب بالكفالة بالدّرك .



الحكم الإجماليّ :



ضمان الدّرك جائز عند جمهور الفقهاء ، ومنع بعض الشّافعيّة ضمان الدّرك لكونه ضمان ما لم يجب .



ألفاظ ضمان الدّرك :



من ألفاظ هذا الضّمان عند جمهور الفقهاء أن يقول الضّامن : ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه ، أو يقول للمشتري : ضمنت خلاصك منه .



قال ابن قدامة : إنّ العهدة صارت في العرف عبارةً عن الدّرك وضمان الثّمن ، والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفيّة دون اللّغويّة .



ويرى الحنفيّة أنّ ضمان العهدة باطل لاشتباه المراد بها ، لإطلاقها على الصّكّ وعلى العقد ، وعلى حقوقه وعلى الدّرك ، فبطل للجهالة ، بخلاف ضمان الدّرك ، قال ابن نجيم : ولا يقال ينبغي أن يصرف إلى ما يجوز الضّمان به وهو الدّرك تصحيحاً لتصرّف الضّامن لأنّا نقول : فراغ الذّمّة أصل فلا يثبت الشّغل بالشّكّ والاحتمال .



كما أنّ ضمان الخلاص باطل عند أبي حنيفة ، لأنّه يفسّره بتخليص المبيع لا محالة ولا قدرة للضّامن عليه ، لأنّ المستحقّ لا يمكّنه منه ، ولو ضمن تخليص المبيع أو ردّ الثّمن جاز ، لإمكان الوفاء به وهو تسليمه إن أجاز المستحقّ ، أو ردّه إن لم يجز ، فالخلاف راجع إلى التّفسير .



ويرى الجمهور ومنهم أبو يوسف ومحمّد أنّ ضمان الخلاص بمنزلة ضمان الدّرك ، وفسّروا ضمان الخلاص بتخليص المبيع إن قدر عليه وردّ الثّمن إن لم يقدر عليه وهو ضمان الدّرك في المعنى ، فالخلاف لفظيّ فقط .



أمّا ضمان خلاص المبيع بمعنى أن يشترط المشتري أنّ المبيع إن استحقّ من يده يخلّصه ويسلّمه بأيّ طريق يقدر عليه فهذا باطل ، لأنّه شرط لا يقدر على الوفاء به إذ المستحقّ ربّما لا يساعده عليه .



متعلّق ضمان الدّرك :



يقول الشّافعيّة : إنّ متعلّق ضمان الدّرك هو عين الثّمن أو المبيع إن بقي وسهل ردّه ، وبدله أي قيمته إن عسر ردّه ، ومثل المثليّ وقيمة المتقوّم إن تلف ، وتعلّقه بالبدل أظهر . ويرى الحنابلة أنّ متعلّق ضمان الدّرك - ضمان العهدة - هو الثّمن أو جزء منه ، سواء كان الضّمان عن البائع للمشتري أو عن المشتري للبائع ، حيث يقولون : ويصحّ ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع ، فضمانه عن المشتري : هو أن يضمن الثّمن الواجب بالبيع قبل تسليمه ، وإن ظهر فيه عيب أو استحقّ رجع بذلك على الضّامن ، وضمانه عن البائع للمشتري : هو أن يضمن عن البائع الثّمن متى خرج المبيع مستحقّاً أو ردّ بعيب أو أرش العيب ، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثّمن أو جزء منه .



ويؤخذ من عبارات فقهاء الحنفيّة والمالكيّة أنّ متعلّق ضمان الدّرك عندهم هو الثّمن أيضاً ، إلاّ أنّه يختلف مذهب الحنابلة عن مذهب الحنفيّة والمالكيّة في أنّ الحنابلة يعتبرون ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن المشتري للبائع من قبيل ضمان الدّرك - ضمان العهدة - في حين يختصّ ضمان الدّرك عند الحنفيّة والمالكيّة بالكفالة بأداء ثمن المبيع إلى المشتري وتسليمه إليه إن استحقّ المبيع وضبط من يده ، أمّا ضمان الثّمن الواجب تسليمه عن المشتري للبائع فهو يتحقّق ضمن الكفالة بالمال بشروطها .



شروط صحّة ضمان الدّرك :



من شروط صحّة ضمان الدّرك أن يكون المضمون ديناً صحيحاً ، والدّين الصّحيح : هو ما لا يسقط إلاّ بالأداء أو الإبراء ، فلا يصحّ بغيره كبدل الكتابة فإنّه يسقط بالتّعجيز . ويشترط الشّافعيّة لصحّة ضمان الدّرك قبض الثّمن ، فلا يصحّ ضمان الدّرك عندهم قبل قبض الثّمن ، لأنّ الضّامن إنّما يضمن ما دخل في يد البائع ، ولا يدخل الثّمن في ضمانه إلاّ بقبضه .



حكم ضمان الدّرك في حالتي الإطلاق والتّقييد :



إذا أطلق ضمان الدّرك أو العهدة اختصّ بما إذا خرج الثّمن المعيّن مستحقّاً إذ هو المتبادر ، لا ما خرج فاسداً بغير الاستحقاق ، فلو انفسخ البيع بما سوى الاستحقاق مثل الرّدّ بالعيب أو بخيار الشّرط أو بخيار الرّؤية لا يؤاخذ به الضّامن ، لأنّ ذلك ليس من الدّرك.



أمّا إذا قيّده بغير استحقاق المبيع كخوف المشتري فساد البيع بدعوى البائع صغراً أو إكراهاً، أو خاف أحدهما كون العوض معيباً ، أو شكّ المشتري في كمال الصّنجة الّتي تسلّم بها المبيع ، أو شكّ البائع في جودة جنس الثّمن فضمن الضّامن ذلك صريحاً صحّ ضمانه كضمان العهدة .



وتجدر الإشارة إلى أنّ الكفيل بالدّرك يضمن المكفول به فقط ، ولا يضمن مع المكفول به ضرر التّغرير لأنّه ليس للكفيل كفالة بذلك .



ما يترتّب على ضمان الدّرك :



أ - حقّ المشتري في الرّجوع بالثّمن :



يترتّب على ضمان الدّرك حقّ المشتري في الرّجوع بالثّمن عند استحقاق المبيع ، ويحقّ له مطالبة الضّامن والأصيل به .



إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا في وقت مطالبة الضّامن بالثّمن :



ذهب الجمهور ومنهم أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ مجرّد القضاء بالاستحقاق يكفي لمؤاخذة ضامن الدّرك والرّجوع بالثّمن عليه .



وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يؤاخذ ضامن الدّرك إن استحقّ المبيع ما لم يقض بالثّمن على البائع ، لأنّ البيع لا ينتقض بمجرّد الاستحقاق ، ولهذا لو أجاز المستحقّ البيع قبل الفسخ جاز ولو بعد قبضه وهو الصّحيح ، فما لم يقض بالثّمن على البائع لا يجب ردّ الثّمن على الأصيل فلا يجب على الكفيل .



وذهب المالكيّة إلى أنّ الضّامن يغرم الثّمن حين الدّرك في غيبة البائع وعدمه .



ب - منع دعوى التّملّك والشّفعة :



ضمان الدّرك للمشتري عند البيع تسليم من الضّامن بأنّ المبيع ملك البائع فيكون مانعاً لدعوى التّملّك والشّفعة بعد ذلك ، لأنّ هذا الضّمان لو كان مشروطاً في البيع فتمامه بقبول الضّامن فكأنّه هو الموجب له ثمّ بالدّعوى يسعى في نقض ما تمّ من جهته ، وإن لم يكن مشروطاً فالمراد به إحكام البيع وترغيب المشتري في الابتياع ، إذ لا يرغب فيه دون الضّمان فنزل التّرغيب منزلة الإقرار بملك البائع ، فلا تصحّ دعوى الضّامن الملكيّة لنفسه بعد ذلك للتّناقض .



وذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّه إن ضمن الشّفيع العهدة للمشتري لم تسقط شفعته ، لأنّ هذا سبب سبق وجوب الشّفعة فلم تسقط به الشّفعة كالإذن في البيع والعفو عن الشّفعة قبل تمام البيع .





















مكتب / محمد جابر عيسى المحلمى




القبض في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول








القَبْض في الشريعة الإسلامية



( الجزء الأول )



التّعريف :



من معاني القبض لغةً : تناول الشّيء بجميع الكفّ ، ومنه قبض السّيف وغيره ، ويقال : قبض المال ، أي أخذه ، وقبض اليد على الشّيء ، أي جمعها بعد تناوله .



ومن معانيه : الإمساك عن الشّيء ، يقال : قبض يده عن الشّيء أي جمعها قبل تناوله ، وذلك إمساك عنه ، ومنه قيل لإمساك اليد عن البذل والعطاء : قبض .



ويستعار القبض لتحصيل الشّيء وإن لم يكن فيه مراعاة الكفّ ، نحو : قبضت الدّار والأرض من فلان : أي حزتها ، ويقال : هذا الشّيء في قبضة فلان ، أي في ملكه وتصرّفه ، وقد يكنّى بالقبض عن الموت ، فيقال : قبض فلان ، أي مات ، فهو مقبوض . قال العزّ بن عبد السّلام : وأمّا قوله تعالى : { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } وقوله : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } فإنّه تجوز بالقبض عن الإعدام ، لأنّ المقبوض من مكان يخلو منه محلّه كما يخلو المحلّ عن الشّيء إذا عدم .



وفي الاصطلاح : هو حيازة الشّيء والتّمكّن منه ، سواء أكان ممّا يمكن تناوله باليد أم لم يمكن ، قال الكاسانيّ : معنى القبض هو التّمكين والتّخلّي وارتفاع الموانع عرفاً وعادةً حقيقةً ، وقال العزّ بن عبد السّلام : قولهم قبضت الدّار والأرض والعبد والبعير يريدون بذلك الاستيلاء والتّمكّن من التّصرّف .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - النّقد :



يطلق الفقهاء كلمة " النّقد " بمعنى الإقباض والتّسليم إذا كان الشّيء المعطى نقوداً ، ففي المصباح المنير : نقدت الرّجل الدّراهم ، بمعنى أعطيته ... فانتقدها ، أي قبضها . وقال القاضي عياض : النّقد خلاف الدّين والقرض .



وإنّما سمّي إقباض الدّراهم نقداً لتضمّنه - في الأصل - تمييزها وكشف حالها في الجودة وإخراج الزّيف منها من قبل المعطي والآخذ .



أمّا " بيع النّقد " فهو - كما قال ابن جزيّ - أن يعجّل الثّمن والمثمون .



فكلّ نقد قبض ولا عكس .



ب - الحيازة :



يقول أهل اللّغة : كلّ من ضمّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه حوزاً وحيازةً .



أمّا في الاصطلاح ، فأكثر ما تستعمل هذه الكلمة في مذهب المالكيّة ، وإنّهم ليستعملونها في كتبهم بمعنيين أحدهما أعمّ من الآخر :



أ - أمّا بالمعنى الأعمّ فهي إثبات اليد على الشّيء والتّمكّن منه ، وهو نفس معنى القبض عند سائر الفقهاء



قال القيروانيّ : لا تتمّ هبة ولا صدقة ولا حبس إلاّ بالحيازة ، أي إلاّ بالقبض ، وقال التّسوّليّ : الحوز وضع اليد على الشّيء المحوز ، وقال الحسن بن رحّال : الحوز والقبض شيء واحد .



ب - أمّا الحيازة بالمعنى الأخصّ عند المالكيّة فعرّفها أبو الحسن المالكيّ بقوله : الحيازة هي وضع اليد والتّصرّف في الشّيء المحوز كتصرّف المالك في ملكه بالبناء والغرس والهدم وغيره من وجوه التّصرّف ، وقال الحطّاب : الحيازة تكون بثلاثة أشياء ، أضعفها : السّكنى والازدراع ، ويليها : الهدم والبنيان والغرس والاستغلال ، ويليها : التّفويت بالبيع والهبة والصّدقة والنّحلة والعتق والكتابة والتّدبير والوطء وما أشبه ذلك ممّا لا يفعله الرّجل إلاّ في ماله .



والقبض مرادف للحيازة بالمعنى الأعمّ .



ج - اليد :



يستعمل الفقهاء كلمة " اليد " بمعنى حوز الشّيء والمكنة من استعماله والانتفاع به ، فيقولون : بيّنة ذي اليد في النّتاج مقدّمة على بيّنة الخارج ، ويريدون بذي اليد الحائز المنتفع ، جاء في المدوّنة : قلت : أرأيت لو أنّ سلعةً في يدي ادّعى رجل أنّها له ، وأقام البيّنة ، وادّعيت أنّها لي ، وهي في يدي ، وأقمت البيّنة ؟ قال لي مالك : هي للّذي في يده إذا تكافأت البيّنتان .



والصّلة أنّ اليد تدلّ على القبض .



الأحكام المتعلّقة بالقبض :



كيفيّة القبض :



تختلف كيفيّة قبض الأشياء بحسب اختلافها في نفسها ، وهي في الجملة نوعان : عقار ومنقول .



أ - كيفيّة قبض العقار :



اتّفق الفقهاء على أنّ قبض العقار يكون بالتّخلية والتّمكين من اليد والتّصرّف .



فإن لم يتمكّن منه بأن منعه شخص آخر من وضع يده عليه ، فلا تعتبر التّخلية قبضاً .



وقيّد الشّافعيّة : ذلك بما إذا كان العقار غير معتبر فيه تقدير ، أمّا إذا كان معتبراً فيه - كما إذا اشترى أرضاً مذارعةً - فلا تكفي التّخلية والتّمكين ، بل لا بدّ مع ذلك من الذّرع .



كما اشترط الحنفيّة أن يكون العقار قريباً ، فإن كان بعيداً فلا تعتبر التّخلية قبضاً ، وهو رأي الصّاحبين وظاهر الرّواية والمعتمد في المذهب ، خلافاً لأبي حنيفة ، فإنّه لم يعتبر القرب والبعد ، واستظهر ابن عابدين أنّ المراد بالقرب في الدّار بأن تكون في البلد ، ثمّ إنّهم نصّوا على أنّ العقار إذا كان له قفل ، فيكفي في قبضه تسليم المفتاح مع تخليته ، بحيث يتهيّأ له فتحه من غير تكلّف .



وقد ألحق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة الثّمر على الشّجر بالعقار في اعتبار التّخلية مع ارتفاع الموانع قبضاً له ، لحاجة النّاس إلى ذلك وتعارفهم عليه .



ب - كيفيّة قبض المنقول :



اختلف الفقهاء في كيفيّة قبض المنقول :



فذهب جمهور الفقهاء إلى التّفريق بين المنقولات فيما يعتبر قبضاً لها ، حيث إنّ بعضها يتناول باليد عادةً وبعضها الآخر لا يتناول ، وما لا يتناول باليد نوعان ، أحدهما : لا يعتبر فيه تقدير في العقد ، والثّاني : يعتبر فيه ، فتحصل لديهم في المنقول ثلاث حالات :



الحالة الأولى :



أن يكون ممّا يتناول باليد عادةً ، كالنّقود والثّياب والجواهر والحليّ وما إليها ، وقبضه يكون بتناوله باليد عند جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة .



الحالة الثّانية :



أن يكون ممّا لا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ ، إمّا لعدم إمكانه وإمّا مع إمكانه ، لكنّه لم يراع فيه ، كالأمتعة والعروض والدّوابّ والصّبرة جزافاً ، وفي هذه الحالة اختلف المالكيّة مع الشّافعيّة والحنابلة في كيفيّة قبضه على قولين :



أحدهما للمالكيّة : وهو أنّه يرجع في قبضه إلى العرف .



والثّاني للشّافعيّة والحنابلة : وهو أنّ قبضه يكون بنقله وتحويله ، واستدلّوا على ذلك بالمنقول والعرف ، فأمّا المنقول فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : « كنّا نتلقّى الرّكبان فنشتري منهم الطّعام جزافاً ، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه » ، وقيس على الطّعام غيره وأمّا العرف ، فلأنّ أهله لا يعدّون احتواء اليد عليه قبضاً من غير تحويل ، إذ البراجم لا تصلح قراراً له .



الحالة الثّالثة :



أن يكون ممّا يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ ، كمن اشترى صبرة حنطة مكايلةً أو متاعاً موازنةً أو ثوباً مذارعةً أو معدوداً بالعدد ، وفي هذه الحالة اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّ قبضه يكون باستيفائه بما يقدّر فيه من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ .



واشترط الشّافعيّة بالإضافة إلى ذلك نقله وتحويله .



ودليل جمهور الفقهاء على أنّ قبض المقدّرات من المنقولات إنّما يكون بتوفيتها بالوحدة القياسيّة العرفيّة المراعاة فيها من الكيل أو الوزن أو الذّرع أو العدّ فهو ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه : « نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان ، صاع البائع وصاع المشتري » وقوله صلى الله عليه وسلم : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يكتاله » ، فدلّ ذلك على أنّه لا يحصل فيه القبض إلاّ بالكيل ، فتعيّن فيما يقدّر بالكيل الكيل ، وقيس عليه الباقي .



وقال الحنفيّة : قبض المنقول يكون بالتّناول باليد أو بالتّخلية على وجه التّمكين . جاء في مجلّة الأحكام العدليّة : تسليم العروض يكون بإعطائها ليد المشتري أو بوضعها عنده أو بإعطاء الإذن له بالقبض مع إراءتها له .



وجاء في الفتاوى الهنديّة : رجل باع مكيلاً في بيت مكايلةً أو موزوناً موازنةً ، وقال : خلّيت بينك وبينه ، ودفع إليه المفتاح ، ولم يكله ولم يزنه ، صار المشتري قابضاً .



وتسليم المبيع هو أن يخلّي بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكّن المشتري من قبضه بغير حائل ، وكذا التّسليم في جانب الثّمن .



واستدلّ الحنفيّة على اعتبار التّخلية مع التّمكين في المنقولات قبضاً بأنّ تسليم الشّيء في اللّغة معناه جعله سالماً خالصاً لا يشاركه فيه غيره ، وهذا يحصل بالتّخلية ، وبأنّ من وجب عليه التّسليم لا بدّ وأن يكون له سبيل للخروج من عهدة ما وجب عليه ، والّذي في وسعه هو التّخلية ورفع الموانع ، أمّا الإقباض فليس في وسعه ، لأنّ القبض بالبراجم فعل اختياريّ للقابض ، فلو تعلّق وجوب التّسليم به لتعذّر عليه الوفاء بالواجب ، وهذا لا يجوز . وقد وافق أحمد في رواية عنه الحنفيّة على اعتبار التّخلية في المنقول قبضاً ، وذلك لحصول الاستيلاء بالتّخلية ، إذ هو المقصود بالقبض ، وقد حصل بها .



تقسيم القبض من حيث المشروعيّة :



قسّم العزّ بن عبد السّلام والقرافيّ القبض كتصرّف من تصرّفات المكلّفين من حيث مشروعيّته والإذن فيه إلى ثلاثة أضرب :



الضّرب الأوّل : قبض بمجرّد إذن الشّرع دون إذن المستحقّ ، وهو أنواع :



منها : قبض ولاة الأمور والحكّام الأعيان المغصوبة من الغاصب ، وقبضهم أموال المصالح والزّكاة وحقوق بيت المال ، وقبضهم أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يتمكّنون من حفظ أموالهم ، وقبضهم أموال المجانين والمحجور عليهم بسفه ونحوهم .



ومنها : قبض من طيّرت الرّيح ثوباً ، ثمّ ألقته في حجره أو داره .



ومنها : قبض المضطرّ من طعام الأجانب بغير إذنهم لما يدفع به ضرورته .



ومنها : قبض الإنسان حقّه إذا ظفر به بجنسه .



والضّرب الثّاني : قبض ما يتوقّف جواز قبضه على إذن مستحقّه ، كقبض المبيع بإذن البائع ، وقبض المستام ، والقبض بالبيع الفاسد ، وقبض الرّهون والهبات والصّدقات والعواريّ والودائع ، وقبض جميع الأمانات .



والضّرب الثّالث : قبض بغير إذن من الشّرع ولا من المستحقّ ، وهذا قد يكون مع العلم بتحريمه ، كقبض المغصوب ، فيأثم الغاصب ، ويضمن ما قبضه بغير حقّ ولا إذن ، وقد يكون بغير علم ، كمن قبض مالاً يعتقد أنّه ماله ، فإذا هو لغيره ، قال القرافيّ : فلا يقال إنّ الشّرع أذن له في قبضه ، بل عفا عنه بإسقاط الإثم ، وعلى ذلك فلا إثم عليه ، ولا إباحة فيه ، وهو في ضمانه .



القبض الحكميّ :



القبض الحكميّ عند الفقهاء يقام مقام القبض الحقيقيّ ، وإن لم يكن متحقّقاً حسّاً في الواقع ، وذلك لضرورات ومسوّغات تقتضي اعتباره تقديراً وحكماً ، وترتيب أحكام القبض الحقيقيّ عليه ، وذلك في حالات ثلاث :



الحالة الأولى : عند إقباض المنقولات بالتّخلية مع التّمكين في مذهب الحنفيّة ، ولو لم يقبضها الطّرف الآخر حقيقةً ، حيث إنّهم يعدّون تناولها باليد قبضاً حقيقيّاً ، والقبض بالتّخلية قبضاً حكميّاً ، بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة عليه كأحكام القبض الحقيقيّ .



الحالة الثّانية : إذا وجب الإقباض واتّحدت يد القابض والمقبض وقع القبض بالنّيّة ، قال القرافيّ : ومن الإقباض أن يكون للمديون حقّ في يد ربّ الدّين ، فيأمره بقبضه من يده لنفسه ، فهو إقباض بمجرّد الإذن ، ويصير قبضه له بالنّيّة ، كقبض الأب من نفسه لنفسه مال ولده إذا اشتراه منه .



الحالة الثّالثة : اعتبار الدّائن قابضاً حكماً وتقديراً للدّين إذا كانت ذمّته مشغولةً بمثله للمدين ، وذلك لأنّ المال الثّابت في الذّمّة إذا استحقّ المدين قبض مثله من دائنه بعقد جديد أو بأحد موجبات الدّين ، فإنّه يعتبر مقبوضاً حكماً من قبل ذلك المدين .



وشواهد ذلك من نصوص الفقهاء عديدة ، منها :



أ - اقتضاء أحد النّقدين من الآخر :



قال ابن قدامة : ويجوز اقتضاء أحد النّقدين من الآخر ، ويكون صرفاً بعين وذمّة في قول أكثر أهل العلم ، وقال الأبيّ المالكيّ : لأنّ المطلوب في الصّرف المناجزة ، وصرف ما في الذّمّة أسرع مناجزةً من صرف المعيّنات ، لأنّ صرف ما في الذّمّة ينقضي بنفس الإيجاب والقبول والقبض من جهة واحدة ، وصرف المعيّنات لا ينقضي إلاّ بقبضهما معاً ، فهو معرّض للعدول ، فصرف ما في الذّمّة أولى بالجواز .



واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير ، آخذ هذه من هذه ، وأعطي هذه من هذه ، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فقال : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء » .



قال الشّوكانيّ : فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثّمن الّذي في الذّمّة بغيره ، وظاهره أنّهما غير حاضرين جميعاً ، بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم ، فدلّ على أنّ ما في الذّمّة كالحاضر .



ب - المقاصّة :



إذا انشغلت ذمّة الدّائن بمثل ما له على المدين في الجنس والصّفة ووقت الأداء ، برئت ذمّة المدين مقابلةً بالمثل من غير حاجة إلى تقابض بينهما ، ويسقط الدّينان إذا كانا متساويين في المقدار ، لأنّ ما في الذّمّة يعتبر مقبوضاً حكماً ، فإن تفاوتا في القدر ، سقط من الأكثر بقدر الأقلّ ، وبقيت الزّيادة ، فتقع المقاصّة في القدر المشترك ، ويبقى أحدهما مديناً للآخر بما زاد .



ج - تطارح الدّينين صرفاً :



ذهب الحنفيّة والمالكيّة والسّبكيّ من الشّافعيّة وابن تيميّة من الحنابلة إلى أنّه لو كان لرجل في ذمّة آخر دنانير ، وللآخر عليه دراهم ، فاصطرفا بما في ذمّتيهما ، فإنّه يصحّ ذلك الصّرف ، ويسقط الدّينان من غير حاجة إلى التّقابض الحقيقيّ - مع أنّ التّقابض في الصّرف شرط لصحّته بإجماع الفقهاء - وذلك لوجود التّقابض الحكميّ الّذي يقوم مقام التّقابض الحسّيّ ، قالوا : لأنّ الذّمّة الحاضرة كالعين الحاضرة ، غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّينان قد حلاّ معاً ، فأقاموا حلول الأجلين في ذلك مقام النّاجز بالنّاجز ، أي اليد باليد .



قال ابن تيميّة : فإنّ كلاً منهما اشترى ما في ذمّته ، وهو مقبوض له بما في ذمّة الآخر ، فهو كما لو كان لكلّ منهما عند الآخر وديعة فاشتراها بوديعته عند الآخر .



وخالف في ذلك الشّافعيّة والحنابلة ، ونصّوا على عدم جواز صرف ما في الذّمّة إذا لم يحضر أحدهما أو كلاهما النّقد الوارد عليه عقد الصّرف ، لأنّه يكون من بيع الدّين بالدّين .



د - جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم :



ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال السّلم ، لأنّ ذلك افتراق عن دين بدين وهو منهيّ عنه .



وذهب ابن تيميّة وابن القيّم إلى أنّه إذا كان لرجل في ذمّة آخر ديناراً ، فجعله سلماً في طعام إلى أجل ، فإنّه يصحّ السّلم من غير حاجة إلى قبض حقيقيّ لرأس مال السّلم - مع اتّفاق الفقهاء على وجوب تسليم رأس المال معجّلاً لصحّة السّلم - وذلك لوجود القبض الحكميّ لرأس مال السّلم ، وهو ما في ذمّة المدين المسلم إليه ، فكأنّ الدّائن بعد عقد السّلم قبضه منه ثمّ ردّه إليه ، فصار معجّلاً حكماً فارتفع المانع الشّرعيّ



قال ابن القيّم : لو أسلم إليه في كرّ حنطة بعشرة دراهم في ذمّته ، فقد وجب له عليه دين ، وسقط له عنه دين غيره ، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا ، ولا إجماع فيه ، قاله شيخنا ، واختار جوازه ، وهو الصّواب .



شروط صحّة القبض :



الشّرط الأوّل : أن يكون الشّخص أهلاً للقبض :



اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط لصحّة القبض صدوره من أهل له ، غير أنّهم اختلفوا فيمن يكون أهلاً له على ثلاثة أقوال :



فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّة القبض صدوره من جائز التّصرّف ، وهو البالغ العاقل غير المحجور عليه .



وذهب الحنفيّة إلى أنّ أهليّة الشّخص للقبض هي نفسها أهليّة التّصرّفات القوليّة والعقود ، فيشترط لصحّة القبض أن يكون القابض عاقلاً ، فلا يصحّ قبض المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل ، أمّا البلوغ ، فيشترط لصحّة القبض في بعض التّصرّفات دون بعض ، وتصرّفات الصّبيّ المميّز غير البالغ ثلاثة أنواع :



النّوع الأوّل : التّصرّفات النّافعة نفعاً محضاً ، كما إذا وهب الصّبيّ ، أو تصدّق أحد عليه ، أو أوصى له ، وفي هذه الحالة لا يشترط لصحّة قبضه بلوغه إذا كان يعقل استحساناً . النّوع الثّاني : التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً كتبرّعاته وكفالته بالنّفس أو بالمال ، وفي هذه الحالة لا تصحّ تصرّفاته ، وما ينشأ عنها من قبوض لاشتراط البلوغ في صحّتها . النّوع الثّالث : التّصرّفات الدّائرة بين النّفع والضّرر ، كبيعه وشرائه وإجارته واستئجاره ونكاحه وما شاكل ذلك ، وهذه التّصرّفات وما ينشأ عنها من قبوض يتوقّف نفاذها على إجازة وليّ الصّغير ، فإن أجازها نفذت ، وإن ردّها بطلت .



وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يشترط لصحّة القبض صدوره ممّن يتمتّع بأهليّة المعاملة ، بل تكفي الصّفة الإنسانيّة مناطاً لاعتباره أهلاً للقبض ، فيصحّ قبض الصّغير والمحجور ، ويكون قبضاً تامّاً .



الشّرط الثّاني : صدور القبض ممّن له ولايته :



القبض نوعان : قبض بطريق الأصالة ، وقبض بطريق النّيابة .



أ - أمّا القبض بطريق الأصالة : فهو أن يقبض الشّخص بنفسه لنفسه ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ ولاية هذا القبض تكون لمن ثبتت له أهليّة القبض .



ب - وأمّا القبض بطريق النّيابة : فولايته تثبت إمّا بتولية المالك ، وإمّا بتولية الشّارع .



الحالة الأولى : ولاية النّائب في القبض بتولية المالك :



اتّفق الفقهاء على ثبوت ولاية الوكيل بالقبض ، لأنّ من ملك التّصرّف في شيء أصالةً ملك التّوكيل فيه ، والقبض ممّا يحتمل النّيابة ، فكان قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكّل ولا فرق ، ولا بدّ أن يكون كلّ من الوكيل والموكّل أهلاً للقبض .



وقال الحنفيّة : للوكيل بالقبض أن يوكّل غيره إن كان موكّله قد وكّله بوكالة عامّة ، بأن قال له وقت التّوكيل بالقبض : اصنع ما شئت ، أو ما صنعت من شيء فهو جائز عليّ ، أو نحو ذلك ، أمّا إذا كانت الوكالة خاصّةً ، بأن لم يقل ذلك عند التّوكيل بالقبض ، فليس للوكيل أن يوكّل غيره بالقبض ، وإن فعل فلا تكون لمن وكّله هذه الولاية ، لأنّ الوكيل إنّما يتصرّف بحدود تفويض الموكّل ، فيملك قدر ما فوّض إليه لا أكثر .



وقال الشّافعيّة : يصحّ الشّراء والقبض للموكّل ، ولا يصحّ قبضه لنفسه ، لأنّه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حقّ نفسه .



ونصّ الحنابلة على أنّ المدين بطعام إذا دفع للدّائن دراهم وقال له : اشتر لي بهذه الدّراهم مثل الطّعام الّذي لك عليّ ، واقبضه لي ، ثمّ اقبضه لنفسك ، ففعل ، صحّ القبض لكلّ منهما ، لأنّه وكّله في الشّراء والقبض ، ثمّ الاستيفاء من نفسه لنفسه ، فصار كما لو كان له وديعة من جنس الدّين عند الدّائن وأذن له في قبضها عن دينه



وفي هذا المقام تعرّض الفقهاء لأحكام ثلاث مسائل :



المسألة الأولى : ولاية الوكيل بالبيع في قبض الثّمن وإقباض المبيع :



اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالبيع في أن يقبض الثّمن من المشتري ويسلّم المبيع إليه ، على أربعة أقوال :



أحدها : للحنفيّة : وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع للمشتري ، لأنّ في الوكالة بالبيع إذناً بالقبض والإقباض دلالةً .



والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّ للوكيل بالبيع أن يقبض الثّمن ويسلّم المبيع ما لم يكن هناك عرف بأنّ الوكيل بالبيع لا يفعل ذلك .



والثّالث : للشّافعيّة في الأصحّ عندهم : وهو أنّه إذا كان القبض شرطاً لصحّة العقد كالصّرف والسّلم ، فللوكيل عندئذ ولاية القبض والإقباض ، أمّا إذا لم يكن شرطاً كما في البيع المطلق ، فيملك الوكيل بالبيع قبض الثّمن الحالّ وتسليم المبيع بعده إن لم يمنعه الموكّل من ذلك ، لأنّ ذلك من حقوق العقد ومقتضياته ، فكان الإذن في البيع إذناً فيه دلالةً .



فإن نهاه الموكّل عن قبض الثّمن أو تسليم المبيع ، أو كان الثّمن مؤجّلاً ، فليس للوكيل شيء من ذلك .



والرّابع : للحنابلة : وهو أنّ للوكيل بالبيع تسليم المبيع ، لأنّ إطلاق الوكالة بالبيع يقتضي التّسليم ، لكونه من تمامه ، بخلاف قبض الثّمن ، فليس للوكيل أن يقبضه ، لأنّ البائع قد يوكّل بالبيع من لا يأتمنه على الثّمن .



واستثنى ابن القيّم من الحكم بسلب ولاية قبض الثّمن من الوكيل بالبيع ما إذا كانت العادة الجارية قبض الوكيل بالبيع أثمان المبيعات ، فقال : ولو وكّل غائباً أو حاضراً في بيع شيء ، والعرف قبض ثمنه ، ملك ذلك .



المسألة الثّانية : ولاية الوكيل بالخصومة في قبض الحقّ :



اختلف الفقهاء في ولاية الوكيل بالخصومة وإثبات الحقّ في قبضه على قولين :



أحدهما : لجمهور الفقهاء من الشّافعيّة والحنابلة وزفر وهو القول المفتى به عند الحنفيّة وبه أخذت مجلّة الأحكام العدليّة : وهو أنّ الوكيل بالخصومة لا يكون وكيلاً بالقبض ، ولا تثبت له ولايته ، لأنّ المطلوب من الوكيل بالخصومة تثبيت الحقّ ، وليس كلّ من يرتضى لتثبيت حقّ يؤتمن عليه ، فقد يوثق على الخصومة من لا يوثق على المال .



وأيضاً فلأنّ الإذن في تثبيت الحقّ ليس إذناً في قبضه من جهة النّطق ولا من جهة العرف ، إذ الإثبات لا يتضمّن القبض ، وليس القبض من لوازمه أو متعلّقاته ، بخلاف مسألة الوكيل بالبيع ، فإنّ تسليم المبيع وقبض الثّمن من حقوق العقد ومقتضياته ، وقد أقامه الموكّل مقام نفسه فيها .



والثّاني : لأبي حنيفة وصاحبيه : وهو أنّ للوكيل بالخصومة أن يقبض الحقّ بعد إثباته ، لأنّه لمّا وكّله بالخصومة في مال ، فقد ائتمنه على قبضه ، لأنّ الخصومة فيه لا تنتهي إلاّ بالقبض ، فكان التّوكيل بها توكيلاً بالقبض .



المسألة الثّالثة : ولاية العدل في قبض المرهون :



إذا اتّفق الرّاهن والمرتهن على أن يجعل المرهون في يد عدل ، فهل يكون للعدل ولاية قبضه ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :



أحدهما : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وهو أنّ للعدل أن يقبض المرهون ، ويكون قبضه بمنزلة قبض المرتهن ، ولا فرق ، لأنّ كلاً من الرّاهن والمرتهن قد لا يثق بصاحبه ، فاحتيج إلى العدل ، وكما يتولّى العدل الحفظ فإنّه يتولّى القبض ، وبهذا قال الحسن والشّعبيّ وعمرو بن دينار والثّوريّ وإسحاق وأبو ثور وعبد اللّه بن المبارك .



ولأنّ العدل نائب عن صاحب الحقّ ، فكان قبضه بمنزلة قبض الوكيل في سائر العقود .



ثمّ إنّ ممّا يدلّ على أنّ يد العدل كيد المرتهن ، وأنّه وكيله بالقبض : أنّ للمرتهن متى شاء أن يفسخ الرّهن ويبطل يد العدل ويردّه إلى الرّاهن ، وليس للرّاهن إبطال يد العدل ، فدلّ ذلك على أنّ العدل وكيل للمرتهن .



والثّاني : لابن شبرمة والأوزاعيّ وابن أبي ليلى وقتادة والحكم والحارث العكليّ : وهو أنّه ليس للعدل أن يقبضه ، وإن قبضه فلا يكون القبض معتبراً ، قال القرطبيّ : ورأوا ذلك تعبّداً .



الحالة الثّانية : ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع :



ولاية النّائب في القبض بتولية الشّارع هي ولاية من يلي مال المحجور في قبض ما يستحقّه المحجور ، وهذه الولاية ليست بتولية المستحقّ ، لانتفاء أهليّته ، وإنّما هي بتولية الشّارع باتّفاق الفقهاء .



وقد روى الشّافعيّ والبيهقيّ عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه أنّه يرى أنّ الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغاراً .



وقال الحنفيّة : ومن ذلك ولاية من يعول الصّغير ويكفله في قبض ما يوهب إليه ، سواء أكان الواهب هو أو غيره ، وسواء أكان قريباً أم غير قريب .



وقال ابن جزيّ : ويحوز للمحجور وصيّه ، ويحوز الوالد لولده الحرّ الصّغير ما وهبه له هو ما عدا الدّنانير والدّراهم ، وما وهبه له غيره مطلقاً .



ويلحق بهذه الحالة في الحكم ولاية الشّخص في قبض اللّقطة ، ومال اللّقيط ، والثّوب الّذي ألقته الرّيح في داره ، وحقّه إذا ظفر به ، وولاية الحاكم في قبض أموال الغائبين والمحبوسين الّذين لا يقدرون على حفظها لتحفظ لهم ، وولايته في قبض المال المودع إذا مات المودع والمودَع وورثة المودع غائبون ، وولايته في قبض أموال المصالح العامّة والزّكوات ، وكذا ولاية المضطرّ أن يقبض من طعام الأجانب بغير إذنهم ما يدفع به ضرورته .



وممّا يتعلّق بولاية القبض للغير ما يأتي :