بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

28 مايو 2011

نظريَّة التَّعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي

نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي




تقدمة:
الفقه الإسلامي أظلت رايته بلاد المسلمين في أكبر بقعة عرفها التاريخ على وجه الأرض ثمانين سنة وثلاثمائة وألفًا - صان فيها حقوق الناس، وحفظ مصالحهم فنعموا بعدالة التشريع وعدالة القضاء: ذلك العدل الذي من أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

جهد القضاء والمفتون من الفقهاء في استنباط الأحكام من مصادر الشريعة كلما نزلت بهم قضية أو حزبهم أمر، فكانوا يحدثون للناس أقضية بقدر ما أحدثوا، ويصونون فيهم المصلحة التي أرادها الله من هذا الدين؛ كما يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فقامت بذلك الحجة البالغة على كمال هذا الدين، وعلى أنه شريعة الناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقامت بذلك الآية البينة على أن الفقه كائن حي ينمو ويؤتي أكله بإذن الله لتلبية حاجات الحياة ومطالبها على اختلاف ألوان المجتمعات في كل عصر ومصر، ونظرة واحدة إلى تطور الكتب الفقهية من زمن كبار الأئمة المجتهدين ترينا مبلغ الرقي المتزايد والنمو المُطَّرد الذي وصل إليه طالما كان يجلس مع القضاة على كراسي القضاء، ويقعد مع المفتين في المجامع والمساجد.

النظرية:
ونظرية التعسف في استعمال الحق تسميتها بهذا الاسم منقولة عن رجال الحقوق الغربيين؛ ولكنَّ هذه النَّظرية عرفها الإسلام منذ أرسل الله رسوله وأنزل عليه قرآنه واعتنقه الناس دينًا، وطبَّقوه في قضاياهم، وسائر علاقاتهم شريعة محكمة، بيَّن الحق كما بيَّن مصادره وأنواعَ التعدي عليه مباشرة وتسببًا وعمدًا وخطأً، وعن طريق التَّحايل والذَّريعة، فلم يترك قانونه قضية من غير حكم.

ولكن الذين يقرؤون لرجال القانون من الغرب، ولا يقرؤون الفقه الإسلامي دأبوا على أن يُعْجَبوا بكل ما نقلوه عن الغرب على حين يتَّهِمُون الفِقْهَ بقِصَرِ نظرياته، وجُمود أحكامه.

معنى التعسُّف في استعمال الحق:
قسم علماء الشريعة الحقوق إلى ما هو حق العامَّة، وضابطه ما يتعلق به النفع العام للمجتمع من غير اختصاص بأحد؛ كالانتفاع بالطريق العام، والأنهار العامة، والمساجد، وهذا يثبت للناس جميعًا حق الانتفاع به والدفاع عنه، الثاني: الحق الخاص، وهو ما تتعلَّق به مصلحة خاصَّة للفرد؛ كحقِّه في ملكه، أو في ولايته على ولده، وميَّزوا بين الحقَّين: بأنَّ الأول: لا يمكن تمليكه ولا إسقاطُه، والثاني: يمكن تمليكه وإسقاطه.

وما دام التَّعسُّف في استعمال الحق شاملاً للقسمين يمكن إدماجهما في تعريف واحد نستخلصه من الاستعمالات المختلفة للفقهاء، وهو ما يثبت للإنسان استيفاؤه؛ سواء أكان عامَّا أو خاصَّا، وسواء أكان حقَّا متعلقًا بالمال؛ كحق الملك في الأعيان، وحق الانتفاع بالعين المستأجرة أو المستعارة، وحق الحبس في المرهون، أم كان حقًّا غير مالي؛ كحق الولاية للشخص على أولاده، وحق الزَّوجية ومنه حق الطَّاعة لولي الأمر، وحق الشُّورى للأفراد الذين يتأهلون لذلك وغيرهما من الحقوق السياسية.

ولا يأبى الفقه الإسلامي تقسيم فقهاء القانون له إلى شخصي وعيني، فالأول: دين أو عمل أو امتناع عن عمل لشخص على آخر؛ كالثمن المؤجل، ومنفعة الأجير، والامتناع عن الانتفاع بالمرهون أو الوديعة، والحق العيني هو علاقة اختصاص لشخص على شيء في مواجهة الناس جميعًا؛ كحقِّ الملك، وحقِّ التَّصرُّف في المَملوك، وحقِّ الارتفاق بالشرب، والطريق، ووضع الجذوع على حائِطِ الجار.

وأسباب اكتساب هذه الحقوق إمَّا اختياريَّة، وإمَّا جَبْرِيَّة، فالأولى: العقد، والعلم النافع؛ كالفضالة، ومنها ما إذا أنفق على اللقيط بغَيْرِ إذْنِ القاضي عند المالكيَّة، والعمل الضَّار؛ كارتكاب الجرائم، والامتناع الضار.
والسَّبب الجَبْرِي أمران: الأوَّل: أوامر الشارع؛ كالإنفاق على الأولاد، والضرائب من العشر، والخراج، والزكاة، والثاني: هو الإرث.

معنى التَّعسف:
التَّعسُّف في استعمال الحقِّ تعبيرٌ واردٌ إلينا عن الحقوقِيِّين الغربيين، فيجمل بنا أن نعرفه بما أرادوا منه، ثم نتكلَّم عمَّا يقابله في الفقه الإسلامي.
فالتَّعسف في استعمال الحق عندهم هو: استعمال الحق على وجه غير مشروع، فالمفروض أن الحق أمر مشروع ومباح الاستخدام؛ ولكن الذي استعمله نحا في ذلك نحوًا غير مشروع؛ كما سيتبين هذا فيما بعد.

وفرق بين التَّعسف وبين الفعل الضار أو الامتناع الضار؛ لأن الأخيرين أمر غير مشروع، أي ممنوع ومحرم من أول الأمر.
أما التعسف فهو استعمال الحق المشروع على وجه غير مشروع.

أحوال التعسف في القوانين الحديثة:
ذكرت التَّقنينات الحديثة ثلاثة أحوال للتَّعسف في استعمال الحق هي:
الأول: أن يأتي الإنسان بعمل مشروع، ويقصد به الإضرار بالغير من غير أن تكون له مصلحة فيه.
الثاني: أن يأتي بعمل مشروع للحصول على مصلحة ضئيلة له، لا تتناسب مع الضرر العظيم الذي لحق الغير من جراء هذا العمل.
الثالث أن يأتي بعمل مشروع يقصد به تحقيق مصلحة غير مشروعة، وقد نص على هذا القانون المصري في المادة 4، 5؛ والقانون السوري 5، 6.

النظرية والفقه الإسلامي:
هذه النَّظرية مسطورة في صميم الفقه الإسلامي وبارزة في آيات الكتاب وأحاديث السنة بأوسع من معناها في القانون، وهي من المبادئ الكبرى التي حفظت بها الحقوق منذ كان الإسلام.

الأدلة عليها إجمالاً:
الأدلة عليها من القرآن والسنة:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
سبب نزول هذه الآية كما أخرج ابن جرير وابن المنذر، أنَّ رجلاً من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلَّق زوجته حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُها إلا يومين أو ثلاثًا راجَعَها ثُمَّ طلَّقها، فعل ذلك بِها حتَّى مَضَتْ لَها تسعةُ أشْهُرٍ يُضارُّها، فأنزل الله تعالى الآية.

يعني - والله أعلم - إذا طلَّقْتُمُ النِّساء فقارَبْنَ انْقِضاءَ عِدَّتِهن فأمسكوهن بالرجعة؛ بما هو متعارف في الشرع من حسن العشرة، أوِ اتْرُكوهُنَّ حتَّى تنقضي عدتهن، ولا تُراجِعُوهُنَّ مُضارِّين لَهُنَّ بِهذه الرجعة، فيتحقق بذلك عدوانكم عليهن.
وجه دلالة الآية أن الإمساك حق للزوج، وقد ندب الله تعالى إلى استعماله على نحو مشروع وهو الإمساك مع المعاشرة الحسنة، ونهى عن استعماله على نحو غير مشروع، وهو استعماله على وجه المضارة على النَّحو الذي فعله ثابت بن يسار، وهذا بعينه هو إساءة استعمال الحق؛ لأنَّهُ اسْتِعمالُ حقِّ الإمساك: على وجْهٍ غَيْرِ مَشروع.

الدليل الثاني: قال الله تعالى بعد بيان نصيب الإخوة لأم من الميراث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12].
يعني - والله أعلم - لكل من الإخوة لأم نصيبه بعد أداء دين المورث، وإخراج وصيته، على أن يكون المورث قد أقر بالدين، وأوصى من غير ضرار بورثته، بأن يكون الدين صحيحًا، والوصيَّة لا ضرار فيها.

وجه الدلالة أنَّ الوصية حق للمورث، وله استعماله على وجه مشروع بأن يكون فيه بر بالورثة، ولا يجوز استعماله على وجه غير مشروع بأن يكون إضرارًا بالورثة؛ كأن يوصي بأكثر من الثلث، أو يوصي لأحد الورثة، فالوصية مع الإضرار هي بعينها إساءة استعمال الحق.
الدليل الثالث: ما أخرج أحمد بسنده إلى عبدالله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))، وما رُوِيَ عن الأوزاعي عنه - صلى الله عليه وسلم - ((يأتي على النَّاس زمان يستحلون الربا بالبيع)).

وما أخرج البخاري عن النُّعمان بن بشير أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).

وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أنَّ الزواج والبيع عمل مشروع والزواج لأجل التَّحليل والبيع لأجل الربا عمل غير مشروع، فلما قصد بالمشروع غير المشروع نهى عنه الشارع، وحكم بفساده؛ لأنه تعاون على الإثم، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ووجه الدلالة من الحديث الثالث أن الذين في أسفل السفينة يستعملون نصيبهم وحقهم؛ لكن لما أرادوا أن يستعملوه على وجه غير مشروع؛ لأنه يضر الجماعة ضررًا عظيمًا لا يتكافأ مع مصلحة شربهم، وترك إيذاء الفريق الأعلى، اعتبره الشارع منكرًا يجب أن يمنعوا عنه، إلى غير ذلك من أدلة يأتي بعضها إن شاء الله.

اشتراكية الحق في الإسلام:
الحقوق الشخصية والعينية ليست مختصة بأصحابها في الإسلام اختصاصًا مطلقًا، وليسوا مستبدِّين في التَّمتُّع بِمزاياها استِبْدادًا عمَّا قد يتبادَرُ من وصْفِها بِالحُقوق الخاصَّة.
بل الواقع أنَّ للجماعة حقًّا عامًّا مشتركًا بينهم، وذلك من ناحيَتَيْنِ:

الأولى: أنَّ تصرُّف الشَّخص فيها مشروعٌ بشَرْط سلامة الجَماعة من ضررٍ يَنْشَأُ عن استعمال هذا الحق؛ كما يشير إلى ذلك حديث الواقع في حدود الله؛ ولهذا أذن للجماعة في منعه عنِ اسْتِعماله للحقِّ استِعْمالاً ضارًّا بِهم، فصاحِبُ الحقِّ يَجِبُ أن ينظُرَ إلى النَّتائِجِ النَّاجِمَة عنِ اسْتِعْمالِه إنْ قَصَدَ الضَّرَرَ، أو ترك الاحتراس، أو أراد تحقيق مصلحة لا تتكافأ مع ضرر الغير أو مصلحة غير مشروعة.

الناحية الثانية: أن الحق كما جعل الله فيه مصلحة فردية لصاحبه، جعل فيه مصلحة اجتماعيَّة لصالح الجماعة؛ لأنه من ثروة الأمَّة التي تعتمد عليها، ولهذا نهى الشخصَ عن إتلاف ماله؛ لأنه إن لم يصبه هو بالخسارة أصاب الجماعة، ولأن الله جعل فيه نصيبًا معلومًا للجماعة كما في الزكاة والعشر والخراج، ويدل على هذا النَّهْي عن الاحتكار والنهي عن رفع الأسعار وحق الجماعة في بيع المال المحتاج إليه على صاحبه عند الغلاء الشديد أو المجاعة.
ويشير إلى هذا الأصل العظيم قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وبهذا تبيَّن أنَّ الحقَّ الخاصَّ فيه جهة عموم نظرًا للوظيفة الاجتماعية التي رتَّبها الشَّارع من النَّاحيَتَيْنِ السَّابقَتَيْنِ.
ولهذا المبدأ ارتباطٌ وثيقٌ بنظريَّة التَّعسُّف في استعمال الحقِّ، من جِهَةِ أنَّ صاحبَهُ يجب أن يشعر بأن لغيره فيه نصيبًا لا يصح الاعتداء عليه.

تفصيل الكلام على التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي:
تعريفه:
تبين من دراساتنا لأحكام التَّصرُّفات، وما يعتبر منها مُخالفة، وما لا يعتبر أنَّه يُمكن تعريفه بِما يأتي: هو تصرُّف الإنسان في حقِّه تصرُّفًا غيرَ مُعتاد شرعًا.
ولشرح هذا نقول: الأصل الفقهي العام في المسؤولية إذا تصرَّف الإنسان في حقه.
قرَّر الفقهاء كما في الفقه الحنفي وغيره، أن للإنسان أن يتصرف في ملكه تصرفًا معتادًا ولا يسأل عما يترتب عليه من ضررٍ حينئذٍ، وإنما يسأل عن الضرر إذا كان التَّصرف في ملكه غير معتاد.

ويقصدون بالملك ها هنا الحقَّ؛ بدليل أنَّهم ذكروا من فروع هذا الأصل ما لو سقى أرضه من الأنهار العظام التي ليست مملوكة للأفراد؛ كالنيل، والفرات، أو ساق منها نهيرًا إلى أرضه، قالوا: يجوز ذلك إلاَّ إذا أضرَّ بالعامَّة.

تفريع:
وفرَّعُوا على هذا الأصل أُمُورًا منها ما إذا سقى زرعه فنزت أرض جاره، وتلف بذلك زرع أو بناء إن سقاها سقيًا معتادًا بأن سقاها قدر ما تحتمله عادة لم يضمن وإن سقاها قدرًا لا تحتمله ضمن.

ومنها ما إذا أحرق حصائِدَهُ في أرضٍ مَملوكة أو مستأجرة، فاحترق بذلك شيء لجاره لم يضمن لأنه تصرف في حقه تصرفًا معتادًا، وإن كانت الرياح مضطربة عند الإحراق فأحرقت شيئًا لغيره ضمن، لأنَّه يَعْلَمُ أنَّ النَّار لا تستقرُّ فكان مستعملاً لِحقِّه استعمالاً غير معتاد؛ أي فكان متعديًا.
ومن هذا يتبيَّن حُكْمُ الفِقْهِ فيما لو حَفَرَ بئرًا في مِلْكِه فغاض الماءُ من بئر جاره، أو أدار آلةً إدارةً مُعتادة فتأذَّى السُّكَّان بضوضائها، وهو أنه لا يضمن الضرر؛ لأنه تصرف معتاد.

وحُكْمُ هذا الأصلِ يسري على مَنْ قامَ بِعَمَلٍ لغيره بناءً على عقد أو إذن كالطبيب والقاضي ومنفذ الأحكام؛ إذا سلك الطريق المعتاد في عمله فتخلف عن ذلك ضرر: لا يضمن وإن جاوزه ضمِن، ولهذا قالوا: إن الختان والفصاد إذا هلك الغلام والمريض بجرحهما المعتاد لا يضمنان[1]، وإن جاوزاه ضمنًا، وكذلك القاضي إذا ظهر أنه حكم بغير الحق، والمنفذ للعقوبة كالسجان والجلاد إذا تخلَّف عن قيامه بعمله المعتاد ضرر، ويشير إلى هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه)) الحديث، حيث لم يعتبر خطأ القاضي تعدِّيًا بعد ما تحرى في عمله وجه الصواب.
وتصرف الإنسان في حقه تصرفًا غير معتاد هو جماع مسائل التعسف في استعمال الحق.

أصول مسائل الإساءة في استعمال الحق
ويمكن حصر أصول مسائل التعسف في استعمال الحق بالاستقراء في أربعة:
الأصل الأول:
ما إذا استعمل حقَّهُ لا يقصد من ذلك إلا الإضرار بغيره، وليست له مصلحة فيه، وذلك كمن يدعي على آخر جريمة أو عملاً غير لائق، لا يقصد بذلك إلا الإضرار به، هذه الدعوى لا تسمع، ويعزر المدعي إذا ثبت ذلك بالقرائن، وفي فقه المالكية - كما في "التبصرة" - لو ادعى الصعاليك على أهل الفضل دعاوى باطلة، وليس غرضهم من هذا إلا أن يشهروا بهم ويوقفوهم أمام القضاء للإيلام والامتهان لا تسمع الدعوى ويؤدَّب المدعي.
ومن ذلك ما إذا أراد الزوج أن يسافر بزوجه إلى بلد بعيد، وهو غير مأمون عليها، لا يريد بذلك إلا الإضرار بها وإيذاءها أو سلب مالها، فيقضى بمنعه من السفر بها للإضرار، وقد قال تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} يعنِي: لا تضاروا المعتدَّات في السكنى؛ فالزوجات أولى ألا تضاروهن، والأصل في مسائل هذا الباب تحريم إمساك المعتدة بقصد الإضرار بها، وتحريم وصية الضرار وبطلانها، وتحريم طلاق المريض ليفر به من ميراث زوجته؛ فتقاس سائر مسائله عليهما لاتحاد العلة، وهي قصد الإضرار.

الأصل الثاني:
أن يستعمل الإنسان حقًّا يقصد به تحقيق مصلحة له فتترتب عليه مفاسد وأضرار لاحقة بالغير، وهي أعظم من هذه المصلحة أو مساوية[2] لها، وذلك كاحتكار ما يحتاج إليه الناس في أوقات الغلاء أو القحط يقصد به البيع بثمن مرتفع، فإن المحتكر يريد من ذلك مصلحة الربح الكبير؛ لكن يترتب على هذا ضرر عظيم يلحق الجماعة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون))، ومن هنا يمنع من الاحتكار ويباع عليه ما احتكره بثمن المثل إن امتنع من البيع.

ومن ذلك إغلاء التجار السعر على الناس بحيث يصل إلى ضعف قيمة السلع، فإن تقدير البائع لثمن مبيعه حق له، ولكن استعماله على هذا النحو، وإن حقق مصلحة له، فقد نشأت عنه مفاسد عظيمة بالجماعة، ولذلك قال الحنفية والمالكية: إذا عجز ولي الأمر عن رد التجار إلى الأسعار العادية بكُلِّ الوسائل أزال هذا الضرر بالتسعير بمشورة أهل الخبرة، وقد ثبت هذا بالمصلحة المرسلة لدفع الضرر عن الجماعة، وقال الشافعية وبعض الحنابلة بمنع التسعير واستدلوا بما روي أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تسعر لنا؟ فقال: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط))، وأجاب القائلون بالتَّسعير بأن الحديث كان فتوى في واقعة خاصة بسبب خاص، فلا تدل على عموم الحكم، فإن امتنع التاجر من البيع بالسعر المحدد بيع عليه كما يباع المال على المدين وفاء للدين.

ومنه تلقي التاجر للوافدين إلى السوق من أهل الريف والبادية، وشراء ما جلبوه بالثمن الرخيص لبيعه لأهل المدينة غاليًا؛ حيث يضر ذلك بأهل المدينة وبالوافدين، وقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ولا تلقوا الركبان للبيع)).
ومنه بيع السلاح في أيام الفتنة، أو لقطاع الطريق، وبيع العصير ممن يتخذه خمرًا، وبيع الحاضر للبادي، حيث قال الإمام أحمد ببطلان هذه العقود لرجحان المفسدة.
والمسائل المنصوص على حكمها مِمَّا قدمنا أصل في هذا النوع، فيثبت الحكم لنظائرها بالقياس، وإن شئت أثبته بالمصلحة إن تعذر القياس.

الأصل الثالث:
أن يستعمل حقه المشروع عقدًا أو غيره يقصد به تحقيق غرض غير مشروع مغاير للغرض الذي وضعه له الشارع.
وهذا كالبيع الذي يقصد به الربا، ومن هنا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف؛ لأنه يؤدي إلى الربا كأن يبيع سوارًا يساوي أربعمائة بخمسمائة على أن يقرضه البائع أربعمائة، فإن هذا العقد يؤول إلى ربا النسيئة، وهو أخذ تسعمائة ليردها ألفًا.

وكبيع العينة لأنه يؤدي إلى الربا أيضًا، وهو شراء ما باع بثمن أقل من الثمن الذي باع به قبل قبض الثمن، حيث تكون زيادة الثمن المؤجل ربا.
ومنه زواج التحليل فإن الزواج موضوع للعشرة الدائمة وتكوين الأسرة، وقصد به عمل مؤقت مذموم عند الله، وقد تقدم تحريمه بالحديث الكريم.
ومنه البيع الذي قصد به إسقاط الشفعة، وهبة المال التي قصد بها الواهب إسقاط فريضة الزكاة أو الحج، فما ثبت بالنَّصِّ في هذا الباب يعتبر أصلاً وغيره يقاس عليه[3].

هذه الأنواع الثلاثة مبنيَّة على قاعدة سدِّ الذَّرائع، وزيادة على ما تقدم من الأدلة نذكر أنَّ الأنواع السابقة للتعسف في استعمال الحق مبنية على أصل عظيم من أصول الشريعة، وهو سد ذرائع الفساد.
وضابطُها أنَّ الشَّارع إذا حرم شيئًا حرَّم وسائِلَهُ المُفْضِية إليه، وهذا يتحقَّق فيما إذا أفضَت الوسيلة إلى ضرَرٍ مَقصودٍ أو إلى مَصلَحةٍ معها مفسدةٌ تُساوِيها، أو تترجَّحُ عليْها، أو إلى غرض حرَّمه الشارع كالربا والزنا، وبالجملة: إذا أفضت إلى إسقاط الواجبات وإحلال المحرمات.

وهذا الأصل تثبته أدلة كثير في الشريعة؛ منها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فإنَّ مفسدةَ سبِّهم للإله الحقِّ أعظم من مصلحة سبِّ الأصنام المباح، فمنع السب المباح لذلك، ومنها قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، حيثُ حرَّم الضرب المباح لما فيه من إثارة الميول الخسيسة، ومنها تَحريم البيع عند نداء الجمعة؛ لأنَّ مفسدة الانشغال عن الصلاة أعظم من مصلحة البيع، ومنها تَحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ لأن مفسدة قطيعة الرحم أعظم من مصلحة الزواج، ومنها امتناعُه - صلى الله عليه وسلم - من قتل المنافقين حيث علل ذلك بقوله: ((لا يتحدث الناس أنَّ مُحمَّدًا يقتل أصحابه))؛ لأن مفسدة تنفير الناس من الإسلام ونبي الإسلام أعظم من مصلحة القتل.

وقد أطلنا بعض الشيء في ذكر الأدلة؛ ليظهر ظهور النهار أنَّ ما يخاله الناس قواعد قانونية مبتكرة لأهل الغرب هو من ضروريات الشريعة المحكمة.
وهذه الأنواع كذلك مبنيَّة على أصل آخر وهو أن الحيل التي تؤدي إلى إسقاط واجب؛ أو إحلال محرم تقع باطلة.
تدل عليه كثرة من الأدلَّة منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله اليهود: إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها - أي أذابوها - فباعوها وأكلوا ثمنها))[4].

الأصل الرابع:
أن يستعمل الإنسان حقه لكن دون احتراس وتثبت فيما يمكن فيه الاحتراس، فيفضي هذا إلى الإضرار بالغير.
وذلك كما إذا أراد أن يصيد طيرًا فطاش سهمه وأصاب إنسانًا أو حيوانًا بضرر، فإن الصيد حق مباح، ولكنه لم يحترس في استعماله له، ولم يتثبت فأدى إلى ضرر الغير، وهو المعروف بالخطأ في الفعل، وكما إذا ضرب دابة غيره يظن أنها دابته فأعطبها، أو قطف ثمر غيره يظن أنها ثمره، وهو المعروف بالخطأ في القصد، وهذا تعسف في استعمال الحق لانطباق تعريفه عليه.

وحكمه ضمان هذا الضرر إنسانًا أو حيوانًا؛ لأن القرآن يدل على تضمين المخطئ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].
ومن ذلك سائق السيارة إذا صدمت إنسانًا فقتلته أو مالاً فأتلفته؛ لأنه استعمل حقه في قيادتها لكنه لم يحترس، ومن ذلك ما لو استعمل في الدفاع الشرعي سلاحًا لا تدعو إليه ضرورة الدفاع فأدَّى إلى ضَرَرٍ فإنَّه يضمنه، وفي "الدر" لابن عابدين[5]: المرأة إذا أريدت بسوء، والزوج إذا وجد رجلا مع امرأته، وأمكن الدفع بالصياح أو بالضرب بما دون السلاح فاستعمل السلاح ضمن الضرر المترتب عليه.

لكن محل ضمان الضرر في هذا الأصل إذا أمكن الاحتراس عنه عادة، أما إذا لم يمكن فلا ضمان كالطبيب إذا أجرى جراحة على النحو المعتاد بين الأطباء فتلف بها إنسان، وذلك لاختلاف طبائع الناس واحتمالهم للجراحات.
أما إذا أمكن الاحتراس فإنه يكون مقصرًا؛ كالحمال إذا زلقت رجله فأتلف ما يحمله، والكواء إذا أحرق الثوب الذي يكويه[6].

وقاعدة الحنفية في هذه المسألة أن الإنسان إذا أتى بمباح فترتب عليه ضرر بالغير ضمن؛ لأن استعمال المباح مشروط بالسلامة، والضرر دليل عدم الاحتراس، وذلك كالمرور في الطريق وضرب الزوجة لترك الطاعة، وإن فعل واجبًا عليه فترتب عليه ضرر لا يضمن كمنفذ الأحكام والفصاد الذي يعمل بالأجرة؛ لأنه مسلط على ذلك إلا إذا تجاوز ما أمر به أو أمكن الاحتراس عن الضرر فحينئذ يضمن، وقال الشافعي: يضمن في تنفيذ الأحكام ومن الزيلعي (جـ 3 ص 211) وابن عابدين في الإجارة.

وقد يبدو غريبًا ذكر الأصل الرابع في أنواع التعسف، ولكننا رأينا هذا لأنه ينطبق عليه تعريفه، وإلا فالكل في نظر الفقه من باب التعدي على سبيل التسبب.

التعسف في استعمال السلطة:
رجال السلطة التنفيذية يتصرفون بالوكالة عن ولي الأمر في حدود الأحكام المشروعة، لذلك لا يجوز لهم أن يفعلوا ما يخالف الشريعة، ولا أن يفعلوا ما لم يفوضوا فيه، فإن فعلوا شيئًا من هذين اعتبر ذلك إساءة في استعمال حُقوقِهِم، وترتَّب عليه إزالة ما لزمه من الضرر فإذا اغتصبوا مال الأفراد وضمُّوه إلى ملك الدولة أو حصَّلُوا ضرائب ظالمة لبيت المال ردت إلى أصحابها وإذا عاقبوا أحدًا بغَيْرِ جريمةٍ أدبوا، ما لم يكن ترتب الضرر عن اجتهاد كاجتهاد القاضي، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إذا رأيتم في اعوجاجًا فقوموني"، وكان - رضي الله عنه - يرسل المفتشين إلى الولايات لمراقبة عماله، وصح عنه أنه عزل سعد بن أبي وقاص لما شكاه أهل الكوفة؛ ومن أجل ذلك أنشئتْ مَحاكم المظالم في خلافة عبدالملك بن مروان لإنصاف أفراد الشعب من ظلم الحاكمين[7].

ولهذا نرى أن تقنين العقوبات في البلاد الإسلامية هو احتياط لدرء مفاسد التعسف في استعمال الحق الذي قد يقع من القضاة؛ لأن العقوبات على الجرائم فيما عدا الحدود والقصاص كلها راجعة إلى التعزير، والعقوبات التعزيرية متفاوتة كما أن الجرائم متفاوتة، فالقاضي ما لم يكن خبيرًا بأحوال الناس وما يصلحهم، متشبِّعًا بالعدالة، بعيدًا عن الأغراض والغايات، كثيرًا ما يقع منه الشطط في تقدير الجريمة وتحديد العقوبة، فكان التقنين هو الضمان الصحيح للعدل بين الناس، وقد اتخذت الوسائل قديمًا للمنع من التَّعسُّف كالحجر على الطبيب الجاهل والمفتي الذي يفتي الناس بالحيل الباطلة وكالحجر على المديان[8].

التَّكييف الفِقْهِي للتَّعَسُّف في استعمال الحق:
عرفنا أن أنواع التعسف أربعة، وأن الثلاثة الأولى منها مبنية على قاعدة سد الذرائع التي تقول: إن المشروع إذا أدى إلى محظور كان محظورًا، أو المباح إذا أدى إلى حرام كان حرامًا.
والرابع كذلك استعمال محظور لما جاوره من عدم الاحتراس.

وبناء عليه يكون المتعسف في استعمال الحق قد تسبَّبَ في أمر مَحظورٍ، فيُعْتَبَرُ مُتَعَدِّيًا بطريق التسبب؛ لتقصيره عند استعمال حقه، بقصد الضرر أو بالسعي في حصول مفاسد غالبة أو في تحقيق أغراض غير مشروعة أو لعدم الاحتراس، فيكون مسئولاً عن هذا التقصير وترتب عليه حكم مرتكب المحظور، وهو في كل شيء بحسبه كما يأتي، فلا فرق في حكم الشريعة بين من يأتي بما هو محظور من أول الأمر؛ كالضرب والغصب، ومن يأتي بمشروع أدى إلى محظور نتيجة التقصير، كل تتعلق به مسئولية المخالفة.
وبِهذا يتبيَّن أنَّ التَّعسُّفَ في استعمال الحقِّ في حكم الفِقْهِ هو من الفعل الضارِّ أو الامتناع الضَّارِّ أو العقد المحرم[9].


الأحكام المترتبة على التعسف:
وحكم التعسف إما التعويض إذا أدى إلى إتلاف مال أو نفس كمن حفر في ملكه بجوار حائط جاره فانهدمت، وإما الإبطال إذا كان في التعاقد كوصية الضرار وبيع العينة، وإما رفع الضرر؛ كبناء المالك ملاصقًا لجاره فسدَّ عليه نوافذ الضوء والهواء، وكجباية ضرائب ظالمة ومنع المحتكر، وإما التعزير؛ كما في دعاوى التشهير، وإما المنع من ممارسة الحق المتعسف في استعماله؛ كما في منع الزوج من السفر بزوجه إذا قصد به إيذاءها، والحجر على المديان، والمفتي المحتال على المحرمات، والطبيب الجاهل.

وفاء النظرية في الفقه الإسلامي ووضوحها:
لعلنا تبيَّنا من العرض السابق أن هذه النظرية غدت مستوعبة لجميع حالات التعسف، واضحة المعالم لبنائها على أصول مضبوطة لا اضطراب فيها، فإن مبنى الأصل الأول وهو قصد الضرر، وإن كان أمرًا شخصيًّا لكن يمكن كشفه بالقرائن الظاهرة، والأصل الثاني مبني على مقياس مادي، وهو الموازنة بين المصلحة والمفسدة، والأصل الثالث معياره معرفة النظم الإسلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فكل عمل مأذون فيه يراد به تحقيق غرض يخالف هذه الأنظمة يعتبر من التعسف كمن أهدى ويريد الرشوة أو اشترى ويريد الربا أو تطوع للجندية ويريد التجسس على أنظمة الجيش، والأصل الرابع مبني على عدم الاحتراس من الضرر وهو واضح يكاد يدل على نفسه.

أما القوانين الأجنبية التي يقال عنها: إنها تقدمية وافية، فإنها لم تعرف هذه النظرية إلا في هذا العصر، ومع هذا فهي فيها ناقصة وغامضة، فالقانون السويسري يبنيها على سوء النية وكفى، والقانون الروسي يبنيها على مخالفة الأغراض الاجتماعية والاقتصادية لا غير.
ولهذا أحسن واضعو القانونين: المصري، والسوري في استمدادها من الفقه الإسلامي[10] لأنهم وجدوها فيه تَجمع بين الوضوح والوفاء بخلاف القانون اللبناني؛ فإن جسران الفرنسي - واضع هذا القانون - استمدَّها من القوانين الغربية[11]؛ ولهذا جاءت فيه ناقصة.

ملاحظة:
لكن يلاحظ على القانونين المصري والسوري أنهما قصرا أحوال التعسف على الثلاثة الأولى، وتركا حالة التعسف بسبب عدم الاحتراس مع أنَّ معنى التعسف فيها أوضح.

إثبات التعسف في استعمال الحق أمام القضاء:
يثبت التعسف أمام القضاء بجميع الطرق المثبتة للحق غير أن تكييفه يتوقف إلى حد كبير على الظروف المحيطة بالقضية، وعلى عرف الجماعات؛ فقد يكون استعمال الحق تعسفًا في بيئة دون أخرى، وضررًا في حال دون حال، وذلك كرفع صوت المذياع إذا كان في السوق العامة أو في الأحياء الآهلة بالسكان وبين سكان البادية أو الحاضرة.

ولما كان سوء النية والتحايل لتحصيل المفاسد والأضرار هما أكثر أسباب التعسف وجب على القاضي أن تكون له خبرة واسعة بقرائن الأحوال وفقه نافذ بأحوال الناس الاجتماعية؛ ليجمع منها أدلة قصد الإضرار ويكتشف التحايل باستعمال المباحات على الوصول إلى المحرمات والأغراض غير المشروعة، نعم، هناك حالات نصب الشارع عليها علامات ظاهرة؛ كالطلاق في مرض الموت لأجل الفرار من ميراث الزوجة ووصية الضرار.

بعض تطبيقات لمبدأ الإساءة في استعمال الحق:
1 – حق الوكيل في عزل نفسه:
الوكالة من العقود غير اللازمة؛ فلكل من الوكيل والموكل حق العزل.
وبناء على هذا قد يستعمل الوكيل حقه، فيفاجئ الموكل بعزل نفسه في وقت يعجز عن القيام بما وكل فيه أو عن التوكيل به؛ كالمرافعة في قضية قرب موعد نظرها، وهي محتاجة إلى دراسة واسعة وكالقيام بعمل ضروري عاجل والموكل غائب.

وهذا في نظر الفقه تعسف في استعمال الحق؛ لأنه إضرار عظيم بالموكل بقصد أو بغير قصد، وقد رأينا أبا حنيفة يشترط في عزل أحد الطرفين علم الطرف الآخر منعًا من الإضرار لجواز أن يكون الوكيل تصرف لصالح الموكل تصرفات فيها تبعات مالية ولجواز أن ن تكون هناك أعمال في تركها تغرير بالموكل وإضرار به.
وبناء على هذا فقواعد مذهبه تقضي ببقاء الوكالة وإلزام الوكيل بإنجاز ما وكل فيه دفعًا للضرر وتأديبه إن فرط، وعلى أن الوكيل بالأجر ليس له أن يعزل نفسه قبل إنهاء ما وكل به[12] عما في السمسار فإنَّه وكيل يعمل بالأجر[13].

2 – حق الخطيب في فسخ الخطبة:
الخطبة وعد بالزواج وإخلاف الوعد بعذر مشروع، وعلى هذا ففسخ الخطبة بسبب جائز؛ كالمرض المعدي أو المانع له من المعاشرة الزوجية، وعجز الزوج عن دفع المهر، والخلاف المستحكم بين الخطيبين أو أسرتيهما، وإن كان الفسخ من غير سبب كان إخلافًا للوعد من غير عذر بل كان إخلافًا ضارًّا؛ لأن الناس عادة يعلمون بالخطبة ويركنون إليها فينصرف عن الخطبة من يفكر في الزواج منها، فإذا فَسَخَ الخطيب من غير سبب فقد فوَّت عليها فُرَصَ الزَّواج التي كانت سانحة، ونشر حولها الشائعات في أسباب الرفض، الأمر الذي تثور له النفوس وترتكب بسببه الجرائم، ولاسيما في هذا الزمن الذي فسدت فيه الأخلاق وكثرت الظنون السيئة فتتعطل بذلك مصلحتها الأساسية التي أعدها الله لها.
وإخلاف الوعد إذا ترتب عليه أمثال هذه المفاسد كان منكرًا يجب تغييره ومعصية يستحق فاعلها التعزير عليها.

تكييف الفسخ بلا سبب:
وعليه فللقاضي أن يعاقب الفاسخ لا على مبدأ تعويض الضرر، بل على مبدأ التعزير على الإتيان بهذا المنكر وهو إخلاف الوعد المستتبع للمفاسد، والتلاعب بمصالح الناس وأعراضهم لأن التعزير ثابت على كل فعل أو قول فيه إيذاء للمسلم بغير حق زجرًا للناس عن ارتكاب المفاسد والمضار واستصلاحًا لهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده))، وهو خطاب لأولياء الأمر، وهذا المبدأ إذا عمل به حمل الذين يريدون الخطبة على الإمعان في التروي قبل الإقدام عليها، وعلى أن يفرقوا بين العدول عن شراء سلعة تم الوعد بشرائها، وفسخ خطبة فتاة كريمة على نفسها وعلى قومها.

3 – حق الطلاق:
الطلاق أبغض الحلال إلى الله، لكنه مشروع عند الحاجة كعدم عفة الزوجة، بل قال بعض الفقهاء بوجوبه حينئذ، خشية أن تفسد فراشه وتدخل عليه من ليس من أولاده، ولئلا يقع تحت طائلة اللعنة الواردة في الديوث الذي لا يغار على حريمه.
ومن واضع الحاجة سوء خلقها في معاملة الزوج أو معاملة الناس، وتضرر الزوج بها في الحياة الزوجية العاطفية لمرض بها أو لعدم انسجام في الطباع، وتفريطها في حقوق الله، وهي لا تطيعه في أدائها حتى لا يعاشر امرأة عاصية، ومن الأسباب عقمها إذا لم يستطع أن يتزوج بأكثر من واحدة.

فإذا وقع الطلاق لغير حاجة كان مبغضًا إلى الله، ولا سيما إذا كانت الزوجة ذات أولاد منه أو كانت فقيرة، وقد رتَّبتْ حياتَها على العيش معه.
وعند هذا لا ننكر أن الزوج قد يسيء استعمال حقه فيه لما يترتب عليه من الإضرار بالزوجة.
هل يجوز المَنْع من إيقاعه إلاَّ بِإذن القاضي؟
وبعض الناس يريد أن يتَّخذ من مبدأ التعسف في استعمال الحق سبيلاً إلى المَنْع من إيقاعه إلا بإذن القاضي.

وعندنا أنَّ هذا خطأ؛ لأنَّ إثبات التَّعسف في الطلاق هو إثبات أنَّ الزوج أوقعه من غير حاجة مشروعة تدعو إلى إيقاعه، والقضاء لا يستطيع إثباته بطُرُقه المعروفة ومعاييره الصَّحيحة؛ لأنَّ الكثير من أسباب الرخصة في الطَّلاق التي شرحنا بعضها: خفي لا يستطيع المسلم ذكره لأنَّ الله تعالى يحب الستْر على عباده، وفتح هذا الباب قد يؤدي إلى المُصارحَة بأشياء هي من السرية والخطورة بحيث يضر الزَّوجة إعلانها؛ بل قد يضطر الزَّوج الذي لا خلاق له إلى انتحال أسباب كاذبة ضارَّة بالمرأة، ولا يستطيع القضاء الوقوف عليها، وماذا يفعل القاضي إذا قال الزوج: إني أكرهها، وإن أمسكتُها أمسكتها على بغض ومضارَّة.

الحقُّ أنَّ عقدة الزَّواج عاطفية بناها الله على المودَّة والألفة فمن الطَّبعي في الغالب ألا يترك الزَّوج زوجته التي أحبها وسكن إليها وأنفق في سبيلها، إلا لداع قد يستتبع المقام معه من المضار ما لا يعلمه إلا الله، ويشعر الزَّوج حأحعندئذٍ أنَّ بيتها جحيم لا يُطاق، والمعروف في الشريعة أن المرأة إذا كرهت زوجها كان لها أن تفتدي منه بمالها ليفارقها؛ كما قالت جميلة امرأة ثابت بن يسار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أخاف الكفر في الإسلام لشدة بغضي إياه))، فماذا يكون الحال إذا اشتد بغضه لها، ومنعه القاضي من تطليقها؛ لأنه لم تقم لديه مبررات للطَّلاق؟ ولئن كان البُغض من المبررات عند القاضي فلكل واحد من الأزواج أن يدَّعيه.

وعليه فأقل حالات الطَّلاق عندئذٍ أن يكون ارتكابًا لأخف الضَّررين، والأحوال القليلة التي قد يفسد فيه تقدير الزَّوج، المجتمع مضطر إلى تحملها إذ لا سبيل إلا هذا.
والذي ينبغي لتلافيها هو إصلاح المجتمع، وإشاعة مبادئ الإسلام الصحيحة بين أهله بجميع الطُّرق الممكنة.

4 – حق تعدُّد الزَّوجات:
تعدد الزَّوجات مشروع قطعًا إلاَّ عند خوف الزَّوج أن يظلم من في عصمته، فعندئذ لا يكون حقًّا له، والظلم المانع هو الظلم في الإنفاق، أو في الإقامة عند الزَّوجة، أمَّا المحبة وميل القلوب فأمره إلى الله، وقد بيَّن سبحانه وتعالى أنَّه خارج عن استطاعة البشر، قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، والدَّليل على أنَّ العدل المشروط في الآية ليس هو المحبَّة التي أخبر الله عنها أنها غير مستطاعة قول النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إنَّ هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك))، يعني ميل القلب.

والتَّعدد مشروع لحاجات اجتماعيَّة وعاطفيَّة لا يستطيع بنو الإنسان الاستغناء عنها، والذين منعوا التَّعدد بالقانون والقضاء وقعوا فيه من طريق السر والجريمة، وليس هنا بسط أسباب التَّعدد؛ وإنما إجمال ما نريد أن نقوله هنا أن الله العليم بأحوال عباده، وما يصلحهم شرعه لمصالح اجتماعية سامية، وأقلها عند المحافظة على العدل الواجب أنه ارتكاب لأخف الضَّررين، وهو المتعة من طريق حلال.

لهذا لا يمكن أن يثبت من طريق القضاء في حق التَّعدد تعسف في استعماله متى تحقَّق العدل الواجب.
نعم؛ قد يتعدَّى الناس فيفعلون ما ليس مشروعًا، وهو التَّزوج مع العجز عن تحقيق العدل، فإذا شاع ذلك بين الناس، ولم تكن لهم من ضمائرهم رقابة على أنفسهم في تنفيذ أوامر الدين، ساغ للقضاء أن يتدخَّل فيمنع من التَّعدد كل من يثبت بالأدلَّة أن حالته المالية لا يستطيع معها أن يَمون نساءه، أو يعدل بينهن.

ليست هناك تعليقات: