بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

22 يونيو 2010

مكتب / محمد جابر عيسى المحامى




عدم دستورية م / 29 من القانون رقم 49 /1977








قضت المحكمة الدستورية العليا في حكمها رقم 116 لسنه 18 ق دستوريه برئاسة الراحل العظيم الدكتور عوض المر ، بعدم دستوريه المادة 29 من القانون 49/1977 م .



وقد جاء به ما مضمونه :



.... العدالة الاجتماعية وإن كانت من القيم التي تبناها الدستور ، إلا أن مفهومها لا يناقض بالضرورة حق الملكية ، ولا يجوز أن يكون عاصفاً بفحواه ، وعلى الأخص في نطاق العلائق الإيجارية التي تستمد مشروعيتها الدستورية من التوازن في الحقوق التي كفلها المشرع لأطرافها . ذلك أن الملكية ــ بما يتفرع عنها من الحقوق ــ ينبغي أن تخلص لأصحابها ، فلا ينقض المشرع على أحد عناصرها ، ليقيم بنيانها على غير القواعد التي تتهيأ بها لوظيفتها الإجتماعية أسبابها . ولئن جاز القول بأن لكل حق وظيفة يعمل في إطارها ليتحدد مداه على ضوئها ، إلا أن لكل حق كذلك دائرة لا يجوز إغتيالها حتى يظل الانتفاع به ممكناً . وكلما فرض المشرع على الحق قيوداً جائرة تنال من جدواه ، فلا يكون بها إلا هشيماً ، فإن التذرع بأن لهذه القيود دوافعها من وظيفته الاجتماعية ، يكون لغواً .



والتكامل بين النصوص الدستورية ، مؤداه امتناع تعارضها وتماحيها ، وتجانسها لا تهاترها ، ضماناً لتحقيق المقاصد التي ترتبط بها ، فلا يكون أحدها ناسخاً لسواه . وما قرره الدستور من تأسيس النظام الاشتراكي الديموقراطى على الكفاية والعدل ، وبناء مصر لمجتمعها على ضوء التضامن الاجتماعي ، لا يعنى الإخلال بالملكية الخاصة أو نقض حرمتها بما مؤداه أن تنظيم المشرع للعلائق الإيجارية ــ لا يجوز أن يعطل حق من يملكون الأعيان المؤجرة في استغلالها أو استعمالها ، ولا أن يحيط هذا الحق بتلك القيود التي تخرج بها الإجارة عن حقيقتها ، وإلا كان ذلك تسلطاً على الملكية بما يخل بخصائصها ، وبالأغراض التي توخاها الدستور من صونها ، وهى بعد أغراض لا يسقطها التضامن الاجتماعي أو يجبها ، بل يشد عضدها ويدعمها . تقديراً بأن هذا التضامن ــ في محتواه ومقاصده ــ لا يعدو أن يكون سلوكاً ومناهج للعمل تتخذ أشكالاً من التعاون تقيمها بين المواطنين ، وصوراً من التراحم تكفل تقاربهم وتستنهض إيمانهم بوحدة مصالحهم ، وتردهم جميعاً إلى كلمة سواء يتعايشون معها ، فلا يتنازعون هضماً للحقوق ، بل يتناصفون لإرسائها ، والتقيد بالحدود التى رسمها الدستور لممارستها .



حق الملكية ــ وباعتباره منصرفاً محلاً إلى الحقوق العينية والشخصية جميعها ، وكذلك إلى حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية ــ نافذة في مواجهة الكافة ليختص صاحبها دون غيره بالأموال التي يملكها وتهيئة الانتفاع المفيد بها ، لتعود إليه ثمارها وملحقاتها ومنتجاتها ، وكان صون حرمتها مؤداه ألا تزول الملكية عن ذويها بانقطاعهم عن استعمالها ، وألا يجردها المشرع من لوازمها ، أو يفصل عنها بعض الأجزاء التي تكونها ، أو ينال من أصلها أو يعدل من طبيعتها ، أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية ، وكان لا يجوز كذلك أن يتذرع المشرع بتنظيمها لتقويض محلها ، فإن إسقاط الملكية عن أصحابها أو سلب غلتها ــ سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر ــ يعتبر عدواناً عليها يناقض ما هو مقرر قانوناً من أن الملكية لا تزول عن الأموال محلها ، إلا إذا كسبها أغيار وفقاً للقانون .











السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق ، لازمها أن يفاضل بين بدائل متعددة مرجحاً من بينها ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التي قصد إلى حمايتها . إلا أن الحدود التي يبلغها هذا التنظيم لا يجوز بحال أن ينفلت مداها إلى ما يعد أخذاً للملكية من أصحابها A taking of property .سواء من خلال العدوان عليها بما يفقدها قيمتها ، أو عن طريق اقتحامها مادياً . بل إن اقتلاع المزايا التي تنتجها ، أو تهميشها مؤداه سيطرة آخرين فعلاً عليها Physical appropriation ، أو تعطيل بعض جوانبها .



والمشرع وإن قرر في مجال تنظيم العلائق الإيجارية ، من النصوص القانونية ما ارتآه كافلاً للتوازن بين أطرافها إلا أن التوازن لا يجوز أن يكون صورياً أو منتحلاً . وكلما كان هذا التنظيم متحيفاً ، بأن مال بالميزان في اتجاه أحد أطرافها تعظيماً للحقوق التي يدعيها أو يطلبها ، كان ذلك إنحرافاً عن إطارها الحق ، أو نكولاً عن ضوابط ممارستها ، فلا يستقيم بنيانها . ويقع ذلك بوجه خاص إذا كان تنظيم المشرع للحق في استعمال الشيء ــ وهو أحد عناصر حق الملكية ــ مدخلاً لإثراء مستأجر العين ، وإفقار مالكها .



ولا يجوز أن يحصل المستأجر من خلال الإجارة ، على حقوق لا يسوغها مركزه القانوني في مواجهة المؤجر وإلا حض تقريرها على الانتهاز ، وكان قرين الاستغلال ، إذ ليس من المتصور أن يكون مغبون الأمس ــ وهو المستأجر ــ غابناً ولا أن يكون تدخل المشرع شططاً قلباً لموازين الحق والعدل ، فلا تتوافق ــ في إطار العلائق الإيجارية ــ مصالح طرفيها اقتصاديا ، بل يختل التضامن بينهما اجتماعيا ، ليكون صراعهما بديلاً عن التعاون بينهما . كذلك لا يجوز أن يتحول حق المستأجر في استعمال العين ــ وهو حق مصدره العقد دائماً حتى مع قيام التنظيم الخاص للعلائق الإيجارية وتحديد أبعادها بقوانين استثنائية ــ إلى نوع من السلطة الفعلية يسلطها المستأجر مباشرة على الشئ المؤجر مستخلصاً منه فوائده دون تدخل من المؤجر ، إذ لو جاز ذلك لخرج هذا الحق من إطار الحقوق الشخصية ، وصار مشبهاً بالحقوق العينية ، ملتئماً مع ملامحها . وهو ما يناقض خصائص الإجارة باعتبار أن طرفيها ــ وطوال مدتها ــ على اتصال دائم مما أقتضى ضبطها تحديداً لحقوقهما وواجباتهما ، فلا يتسلط أغيار عليها انتهازا وإضرار بحقوق مؤجرها ، مندثرين فى ذلك بعباءة القانون ولأنها ــ فوق هذا ــ لا تقع على ملكية الشئ المؤجر ، بل تنصب على منفعة يدرها ، مقصودة فى ذاتها ومعلومة من خلال تعيينها ، ولا ترتب للمستأجر بالتالي غير مجرد الحقوق الشخصية يباشرها قبل المدين .



والمفترض فى الإجازة ، أن يعتبر الحق فيها منقضياً بوفاة مستأجر العين الأصلي أو تخليه عنها ، ليقوم بذلك حق مؤجرها فى طلب إخلائها بعد انقطاع صلة المستأجر الأصلي بها ، إلا أن المشرع أثر ــ بالنص المطعون عليه ــ أن ينقل منفعتها إلى ذوى قرباه نسباً حتى الدرجة الثالثة ، مستبدلاً هؤلاء بمستأجرها الأصلي ، لا بناء على تعاقد تم بينهما مثلما هو الأمر فى شأن التأجير من الباطن أو التنازل على الإجارة ، بل بقوة القانون . ولا يعدو ذلك ، أن يكون عدواناً على حق الملكية إخلالاً بأحد عناصرها ، وإفتئاتاً كذلك على ما هو مفترض من أن الأصل فى النصوص القانونية التي اقتضتها ، أن يكون إعمالها بقدر توافر مجباتها التي يعكسها ــ فى نطاق النزاع الراهن ــ تصاعد أزمة الإسكان وغلوائها مما أقتضى تدخل المشرع بقيود استثنائية للحد منها ، ومن ثم تكون هذه الضرورة مناط لسريان هذه القيود باعتبارها علة تقريرها ، فلا تدور إلا معها .



وينبغي أن تظهر هذه الضرورة ــ فى مجال تطبيقها على المساكن ــ فى صورتها الضاغطة التي تسوغ تحميل المؤجر بتدابير من طبيعة استثنائية ، فلا يجوز أن ينتحلها المشرع أو يتوهمها ليمد مجال عملها إلى فروض لا تسعها ، ولا يمكن التسليم بها إلا بافتراض أن مصالح مستأجر العين ــ وذوى قرباه نسباً ــ تعلو دوماً ــ ووفقاً للدستور ــ حقوق مؤجرها وترجحها ، فلا يتوازيان ، حال أن الأصل فى عقود القانون الخاص إبتناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها ، فلا يميل ميزانها فى اتجاه مناقض لطبيعتها ، إلا بقدر الضرورة التي يتعين أن تخلى مكانها ــ عند فواتها ــ لحرية التعاقد ، وهى الأصل فى العقود جميعها ، ولا يجوز بالتالي النظر إلى القوانين الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية بوصفها حلاً نهائياً ودائماً لمشكلاتها ، فلا يتحول المشرع عنها ، بل عليه أن يعيد النظر فيها ، ذلك أن القيود التي يفرضها المشرع عليها إنما تنال بصورة خطيرة من حق الملكية ، ويكاد عصفها بمحتواها ، أن يعطل تماماً أحد عناصرها ممثلاً فى استعمال الشئ محلها .



والأقرباء نسباً ــ فى مجال تطبيق النص المطعون فيه ــ يتربصون عادة المؤجر ختالاً ، متخذين من إقامتهم فى العين المؤجرة للمدة التي حددها المشرع ، موطئاً لاستلابها ، بعد توقعهم دنو أجل مستأجرها ــ لمرض أو لغيره ــ وكذلك إذا دعاهم مستأجرها أو رتبوا أوضاعهم اسكناها بعد أن أضمر نية الانتقال نهائياً منها ، فإذا شغلها أحد هؤلاء الأقرباء بعد وفاة مستأجرها الأصلي أو التخلي عنها ، أنتقل حق الانتفاع بها ــ إذا توفى هذا القريب بدوره أو تركها ــ إلى من شاركوه سكناها من غيره من الأقرباء نسباً كلما توافرت فى شأنهم الشروط التي حددها المشرع . ومن هؤلاء إلى آخرين بالشروط عينها فلا ينتزعها منهم أحد ، بل تتصل أيديهم بها تعاقباً عليها ، لا ينفكون عنها أو يبرحونها . ومن ثم يكون الاصطناع طريقهم للتسلط عليها ، والانفراد بها من دون مؤجرها ، فلا يفارقونها أبداً ، ولو بعد العهد على العقد الأول ، ما ظل زمامها بيد من يتداولونها ، لا يتحولون عنها . وليس ذلك إلا تعظيماً لحقوقهم يكاد أن ينقلب المكان المؤجر بها إرثاً يختصون بثماره دون وساطة من أحد وهو ما يعدل انتزاع منافع الأعيان من ملاكها على وجه التأييد . ومن غير المتصور أن يكون مؤجر العين ــ وهو يملكها فى الأعم من الأحوال ــ قد عطل ــ مختاراً ونهائياً ــ حق استعمالها واستغلالها ، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر ، ولا أن يكون طرفا الإجارة قد تلاقت إرادتهما ــ ابتداء ــ على أن يقحما عليها أشخاصا غرباء عنها ، دخلاء عليها .



والنص المطعون فيه ، ينحدر كذلك بحقوق المؤجر إلى مرتبة الحقوق محدودة الأهمية ، مرجحاً عليها مصالح لا تدانيها ولا تقوم إلى جانبها أو تتكافأ معها . ومآل حمايتها حرمان مؤجر العين منها حرماناً مؤبداً ، ترتيباً على انتقال منفعتها إلى الغير انتقالا متتابعاً متصلاً ممتداً فى أغوار الزمن ، وهو بعد انتقال لا يمتد بإرادة المؤجر فى معدنها الحقيقي . بل يقوم فى صوره الأكثر شيوعاً على التحايل على القانون ، والتدليس على المؤجر ، وهو ما يعد التواء بالإجارة عن حقيقة مقاصدها ، وإهداراً لتوازن لا يجوز أن يختل بين أطرافها . أن النص المطعون فيه أنشأ حقوقاً مبتدئة ــ بعيدة فى مداها ــ منحها لفئة بذاتها من أقرباء المستأجر الأصلي ، أختصها دون مسوغ واصطفاها فى غير ضرورة . بتلك المعاملة التفضيلية التي تقدم المنفعة المجلوبة على مخاطر المفاسد ودرء عواقبها ، وتلحق بالمؤجر وحده الضرر البين الفاحش ، حال أن دفع المضرة أولى اتقاء لسوءاتها وشرورها ولأن الأصل حين تتزاحم الأضرار على محل واحد ، أن يكون تحمل أخفها لازماً دفعاً لأفدحها . وكان ينبغي ــ من ثم ــ أن يترسم النص المطعون فيه تلك الضوابط التي تتوازن من خلالها العلائق الايجارية بما يكون كافلاً لمصالح أطرافها ، غير مؤد إلى تنافرها ليقيمها على قاعدة التضامن الاجتماعي التي أرستها المادة 7 من الدستور . وهى بعد قاعدة مؤداها وحدة الجماعة فى بنيانها واتساقها وتوجهاتها ، وتداخل مصالحها وتوافقها ــ لا تعارضها أو تنافرها ــ وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها وكذلك اتصال أفرادها ببعض ليكون بعضهم لبعض ظهيراً ، وتعاونهم سعياً لتقدم مجتمعهم ، فلا يتفرقون بدداً ، أو يتناحرون بغياً . وهم بذلك شركاء فى مسئوليتهم قبله ، لا يملكون التنصل منها أو ازدراءها ، فلا يتقدم أحد على غيره انتهازا ، ولا ينال من الحقوق غير تلك التي أذن الدستور بها وحدد تخومها ، فإذا جاوزها بعمل تشريعي ، كان ذلك توكيداً لعلوه عدواناً فلا تكون الحقوق التي كفلها الدستور لغيره إلا عصفاً مأكولاً .









ليست هناك تعليقات: