بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

09 يونيو 2011

كتاب الرهن والكفالة والضمان والحوالة

وفيه أربعة فصول..

الفصل الأول

في الرهن

وهو اتفاق يتضمن جعل مال وثيقة على دين ليستوفي منه صاحب الدين دينه، فهو يتضمن جعل حق لصاحب الدين في الوثيقة المذكورة يقتضي حجرها لذلك. والشيء المجعول وثيقة هو المرهون وقد يطلق عليه لفظ الرهن أيضاً، والمدين هو الراهن، وصاحب الدين هو المرتهن. والكلام في ذلك يقع في ضمن مباحث..

المبحث الأول

في إنشاء الرهن

لابد في تحقق الرهن من التزام الراهن بمضمونه وقبول المرتهن به. ويكفي فيه كل ما يدل على ذلك من قول أو فعل، ويقع على وجهين..

الأول: أن يلتزم به استقلالاً، إما ابتداء أو جرياً على اشتراطه في ضمن عقد لازم، كعقد القرض فيقول المدين للدائن مثلاً: رهنتك هذا الثوب على دينك، فيقبل الدائن بذلك.

الثاني: أن يلتزم به في ضمن عقد لازم، كعقد القرض أو غيره، فيقول المقرض مثلاً: أقرضتك هذه المائة دينار على أن يكون هذا الثوب رهناً عليها، فيقبل المقترض بذلك، أو يقول الدائن: بعتك هذا الدفتر بهذا الدينار على أن يكون ثوبك هذا رهناً على دينك، فيقبل المدين.

(مسألة 1): الرهن من الإنشاءات اللازمة بالأصل، ولا يجوز الرجوع فيها لأحد الطرفين إلا بالتقايل أو بطروء أحد أسباب الخيار العامة، كتخلف الشرط الصريح أو الضمني. نعم يجوز للمرتهن إسقاط حقه من المال المرهون متى شاء، فينفذ عليه، ولا يجوز له الرجوع فيه بعد ذلك، لكنه ليس فسخاً للرهن، بل هو نظير الإبراء من الدين لا يكون فسخاً للعقد الذي أوجبه.

(مسألة 2): يصح الرهن ويلزم بمجرد اتفاق الطرفين عليه، ولا يتوقف صحته ولا لزومه على قبض المرتهن للمال المرهون.

(مسألة 3): يسقط حق الرهن ببراءة ذمة من عليه الدين من الدين الذي وقع الرهن له بتمامه، ولا يكفي براءته من بعضه في سقوط حق الرهن عن بعض المال بنسبته، فضلاً عن سقوطه عنه بتمامه.

(مسألة 4): إذا كان للمرتهن على الراهن دينان وكان الرهن على أحدهما دون الآخر، فإذا برئت ذمة الراهن من الدين الذي عليه الرهن لم يكن للمرتهن إمساك المال المرهون ليكون رهناً على الدين الآخر، بل يجب تسليمه للراهن مع مطالبته به.

(مسألة 5): إذا تلف المال المرهون أو سقط عن قابلية استيفاء الحق منه، فإن كان بوجه مضمون قام بدله مقامه في كونه رهناً على الحق، وإن لم يكن مضموناً بطل الرهن، ولا يجب على الراهن إبداله بغيره إلا إذا سبق اشتراط ذلك عليه في الرهن أو في عقد آخر.

(مسألة 6): يعتبر في الراهن والمرتهن الكمال والبلوغ والعقل وعدم الإكراه، كما يعتبر في الراهن ملك المال المرهون وعدم الحجر بسفه أو فلس، ولا يعتبر ذلك في المرتهن، لعدم كون الرهن تصرفاً في ماله. وإذا كان أحد الطرفين قاصراً قام وليه مقامه، كما يقوم الوكيل مقام الأصيل في ذلك.

(مسألة 7): إذا وقع الرهن مع قصور سلطنة أحد الطرفين كان فضولياً وتوقف نفوذه على إجازة من له السلطنة وجرت فيه فروع الفضولي، ويتضح كثير منها مما تقدم في البيع.

المبحث الثاني

في المال المرهون

ولابد من كونه مالاً قابلاً لأن يستوفى منه الحق أو بعضه بلحاظ ماليته، إما بنفسه ـ كما لو كان من سنخ الحق المرهون عليه ـ أو ببدله، كالأعيان القابلة لأن تباع، فلا يصح رهن ما لا مالية له، كبعض الحشرات، ولا ما له مالية عرفية إلا أنه لا يقابل بالمال شرعاً، كالخمر والخنزير، أو ما له مالية إلا أنه لا يمكن استيفاء الحق منه، مثل ما يسرع له الفساد إذا ابتنى الرهن على أن لا يباع بل يبقى بعينه إلى حين حلول الدين.

(مسألة 8): لا يصح رهن الخمر والخنزير مع كون الراهن أو المرتهن مسلماً، وإن كان الآخر كافراً.

(مسألة 9): لا إشكال في صحة رهن الأعيان الخارجية. وأما منافع الأعيان قبل استيفائها والديون غير المقبوضة فيشكل صحة رهنها، نعم لا بأس بجعلها وثيقة على الحق تبعاً لشرط في ضمن عقد لازم، نظير ما تقدم في الوجه الثاني لإنشاء الرهن وذلك بأحد وجهين..

الأول: أن يشترط في العقد اللازم كونها بنفسها وثيقة على الدين، فيقول المقرض مثلاً للمقترض: أقرضتك هذه المائة دينار إلى سنة على أن تكون منفعة دارك أو الدين الذي لك على زيد وثيقة لديني هذا، فيقبل المقترض ذلك.

الثاني: أن يشترط في العقد اللازم جعل الوثيقة من دون تعيين، فيقول المقرض مثلاً للمقترض: أقرضتك هذه المائة دينار إلى سنة على أن تجعل لي وثيقة على ديني هذا، فيقبل المقترض، ثم يتفقان اتفاقاً آخر على أن الدين الخاص أو المنفعة الخاصة هي الوثيقة على ذلك الدين عملاً بمقتضى الشرط. وعلى كلا الوجهين يكون للمقرض في المنفعة أو الدين المذكورين حق نظير حقه في الرهن يقتضي حجرهما له واستحقاقه استيفاء دينه منهما، ولا يصح الالتزام بكونهما وثيقة على نحو الاستقلال من دون شرط سابق، نظير ما تقدم في الوجه الأول لإنشاء الرهن، فإن ذلك يختص برهن الأعيان. وبلحاظ مشروعية الوجه السابق يصح تعميم الرهن للمنافع والديون.

(مسألة 10): رهن المنافع بالوجه المتقدم يبتني..

تارة: على التعجيل باستيفائها بالأجر ثم حفظ الأجر ليستوفى منه الدين عند حلوله.

واُخرى: على عدم استيفائها إلا عند حلول الدين، فيستوفي منها حينئذٍ صاحب الدين بنفسه ما يقابل دينه، أو تستأجر العين ويستوفى الدين من أجرتها.

وكذلك الديون حيث يبتني رهنها..

تارة: على التعجيل باستيفائها وحفظ المال ليستوفى منه الدين عند حلوله.

واُخرى: على عدم استيفائها إلا عند حلول الدين. وتعيين أحد هذه الوجوه تابع لاتفاق الطرفين.

(مسألة 11): تعارف في عصورنا أن يشترط الدائن على المدين استيفاء دينه من راتبه الشهري الذي يستحقه بعمله بقدر معين أو بنسبة معينة في كل شهر. وذلك إن ابتنى على التزام المدين للدائن بالعمل الذي يستحصل به الراتب ـ بحيث ليس له التفرغ وترك العمل ـ كان مبتنياً على ما سبق من رهن المنافع، لأن الأعمال من جملة المنافع، وإن لم يبتن على ذلك بأن لم يكن ملزماً من قبله بالعمل، فهو أجنبي عن الرهن، وراجع إلى اشتراط الوفاء من مال خاص، وهو شرط نافذ، وإن لم يكن ذلك المال مستحقاً بعمل، بل كان من سنخ التبرع، كما لو اشترط الدائن على المدين أن يوفي دينه مما يصل له من حقوق شرعية أو عادات على الناس أو هبات مبتدأة خاصة، أو نحو ذلك. ومنه الرواتب التي تبذل في عصورنا للمشتغلين بطلب العلوم الدينية. ويترتب على ذلك أنه لابد في صحة العقد على الوجه الأول من كون العمل الذي يستحق به الراتب محللاً والاستئجار عليه صحيحاً. أما الثاني فيكفي في صحته ملكية المدين للراتب ولو بعد حصوله في يده، لكونه مباحاً أصلياً أو مالاً مجهول المالك يصح له تملكه بوجه شرعي.

(مسألة 12): ما سبق في رهن الدين والمنفعة جارٍ في رهن الحق إذا كان مقابلاً بالمال، كحق السرقفلية الذي تقدم الكلام فيه في ذيل كتاب الإجارة، وحق الأولوية للمزارع في الأراضي الخراجية الذي تقدم الكلام فيه في فصل شروط العوضين من كتاب البيع.

(مسألة 13): في جواز رهن الكلي على إطلاقه ـ كثوب أو بقرة ـ أو الكلي في المعين ـ كثوب من رزمة معينة ـ إشكال. نعم يجوز التوثق بهما للدين بالالتزام به في ضمن عقد لازم، نظير ما سبق في المنافع والديون، وحينئذٍ يكون على من عليه الدين دفع فرد من الكلي ليكون هو الوثيقة.

(مسألة 14): لا يجوز رهن الأعيان غير المملوكة كالأوقاف والأراضي الخراجية، إلا أن يرجع رهن الوقف إلى رهن منفعته إذا كانت ملكاً للموقوف عليهم، ورهن الأرض الخراجية إلى رهن حق الأولوية فيها، فيصح بالوجه الذي تقدم في المسألة (9).

(مسألة 15): المال المرهون على دين يجوز رهنه على دين آخر إما بنحو يزاحم مقتضى الرهن الأول، كما لو اقتضى كون الاستيفاء للدينين في عرض واحد أو ابتنى على شرط مخالف لمقتضى الأول، وإما بنحو لا يزاحمه، كما لو اقتضى الاستيفاء للدين الثاني بعد استيفاء الدين الأول من دون أن يبتني على شرط مناف لمقتضى الرهن الأول، ولا فرق بين كون الدينين لشخص واحد وكونهما لشخصين. نعم لابد في الصورة الثانية من رضا المرتهن الأول إذا كان الرهن الثاني مزاحماً للرهن الأول، أما إذا لم يزاحمه فلا يعتبر رضاه. كما يمكن في المقام فسخ الرهن الأول بالتقايل من الطرفين ثم رهن المال على الدينين معاً.

(مسألة 16): يجوز تعدد الرهن على الدين الواحد، فللمرتهن استيفاء دينه من كل من الرهنين مخيراً بينهما أو مع تقديم أحدهما، حسب ما يتفق عليه الطرفان.

(مسألة 17): لا يعتبر في المال المرهون أن يكون ملكاً للمدين بل يجوز رهن ما لا يملكه المدين، سواء كان ملكاً لغيره أم لم يكن مملوكاً لأحد كالصدقات العامة. نعم لابد من إذن من له الولاية على المال المرهون من مالك أو ولي، وإذا وقع الرهن بغير إذنه كان فضولياً وتوقف نفوذه على إذنه. بل يصح التبرع لغير المدين برهن ماله على دين غيره، فإذا كان زيد مديناً لعمرو جاز لبكر أن يرهن ماله على الدين المذكور، وحينئذٍ لا يعتبر إذن زيد، بل يكفي اتفاق بكر وعمرو على ذلك، والراهن في الحقيقة في جميع ذلك هو صاحب المال المرهون.

(مسألة 18): من رهن ماله على دين غيره، فإن لم يكن الرهن بطلب من المدين ولا بإذنه فلا يستحق الرجوع على المدين إذا استوفى المرتهن دينه من المال المرهون، وإن كان بإذن المدين أو بطلب منه كان لصاحب المال المرهون الرجوع عليه إذا استوفى المرتهن دينه من المال، إلا أن يكون إذنه في الرهن أو طلبه له مبنياً على التبرع وعدم الضمان، فلابد حينئذٍ من قيام القرينة على ذلك.

(مسألة 19): لا يعتبر العلم بمقدار المال المرهون ولا بصفاته ولا بمقدار ماليته.

المبحث الثالث

في الدين الذي يرهن له

يصح الرهن على كل عين ثابتة في الذمة، كالدراهم والدنانير والطعام ونحوها مما يكون ديناً في ذمة الغير. وفي عمومه للمنافع إشكال، كما لو استأجر إنسان على عمل لم تؤخذ فيه المباشرة، فأراد المستأجر أن يستوثق لنفسه فيأخذ رهناً، ليكون له أن يستوفي منه العمل المستأجر عليه إذا لم يؤده الأجير، فيبيع الرهن المذكور ويستأجر بثمنه من يقوم بذلك العمل. نعم يجوز له التوثق لذلك بالالتزام في ضمن عقد لازم بجعل شيء وثيقة للعمل المطلوب، نظير ما تقدم في رهن الديون والمنافع.

(مسألة 20): لا يصح الرهن على ما يتوقع ثبوته في الذمة قبل أن يثبت فعلاً، سواء تحقق مقتضي ثبوته كالجعل في الجعالة قبل الإتيان بالعمل، وبدل المغصوب قبل التلف لأن يد الغاصب سبب للضمان، أم لم يتحقق المقتضي، كبدل الأمانات غير المضمونة إذا أراد صاحبها التوثق بأخذ الرهن حذراً من التفريط فيها، وبدل المبيع الذي يقبضه المشتري إذا أراد البائع التوثق بأخذ الرهن حذراً من حصول أحد أسباب الفسخ أو البطلان من دون أن يستطيع استرجاع المبيع كي يستطيع استيفاء بدله من الرهن، ونظيره بدل الثمن الذي يقبضه البائع إذا أراد المشتري التوثق بأخذ الرهن حذراً من حصول أحد أسباب الفسخ أو البطلان من دون أن يستطيع استرجاع الثمن.

وكذا الحال في الأعيان المملوكة إذا كانت في يد الغير ـ كالأمانة والمبيع الذي يشترط تأجيل تسليمه ـ وأراد صاحبها التوثق لنفسه بأخذ مال ممن هي في يده ليكون ملزماً بتسليمها بأعيانها.

نعم يمكن اشتراط التوثق في جميع ذلك في ضمن عقد لازم، نظير ما تقدم في رهن المنافع والديون، كما لو اشترى عمرو سيارة زيد نقداً واشترط عليه أن تكون داره وثيقة للثمن الذي دفعه ليستوفيه منها لو ظهرت السيارة معيبة أو مغصوبة ثم وقع تسليم الثمن مبنياً على الشرط المذكور، بأن يكون دفعه مع احتمال بطلان البيع مبنياً على جعل الدار وثيقة له، وكما لو اشترى زيد دار عمرو على أن تسلم إليه الدار بعد سنة واشترط على عمرو أن يدفع له سيارته لتكون وثيقة للدار من أجل أن يسلمها بعد السنة وهكذا، فإن الشرط المذكور نافذ، كما تقدم نظيره.

المبحث الرابع

في أحكام الرهن

(مسألة 21): إطلاق الرهن يقتضي استحقاق المرتهن أخذ المال المرهون، فيجب على الراهن تسليمه له وإذا امتنع أجبر على ذلك، ولا يجوز له استرجاعه منه بعد أخذه له. وقد يتأكد مقتضى الإطلاق بالشرط، كما قد يخرج عنه باشتراط بقاء المال المرهون عند الراهن أو عند شخص ثالث، ويجب العمل بالشرط حينئذٍ.

(مسألة 22): المال المرهون وإن كان باقياً على ملك الراهن إلا أن مقتضى الرهن ثبوت حق للمرتهن فيه، وهو حق استيفاء دينه منه، وقد سبق أن مقتضى إطلاقه أنه يستحق وضع يده عليه وجعله في حوزته، وحينئذٍ يتعين منع الراهن من كل تصرف ينافي أحد هذين الحقين ـ ولو لكونه دخيلاً في كيفية إعمالهما ـ إلا بإذن المرتهن، فلا يجوز له إتلافه، أو إخراجه عن ملكه ببيع أو وقف أو عتق أو نحوها، أو تغيير حاله بصبغ أو كسر أو نحوهما مما قد يعرضه لقلة الرغبة فيه، ولا إجارته أو إعارته أو نحوهما مما يوجب خروجه عن حوزة المرتهن أو يجعله معرضاً للتلف والضرر، ولا أن يحدث فيه ما يصعب معه حفظه على المرتهن وجعله في حوزته، كحل شده الموجب لانفراط أجزائه وتفرقها، وإحبال الدابة الموجب لزيادة الكلفة في حفظها مع ولدها، أو نحو ذلك. وإذا فعل الراهن شيئاً من ذلك من دون إذن المرتهن، فإن كان تصرفاً خارجياً ـ كالإتلاف والصبغ ـ كان حراماً ومعصيةً، وإن كان تصرفاً اعتبارياً ـ كالبيع والإجارة ـ لم ينفذ إلا أن يجيزه المرتهن، كالعقد الفضولي.

(مسألة 23): يجوز للراهن التصرف في المال المرهون من غير إذن المرتهن إذا لم يكن منافياً لحقّه بالوجه المتقدم، ومن ذلك بيعه على أن يبقى بعينه مرهوناً مستحقاً للمرتهن، بحيث لا يستقل المشتري به إلا بعد وفاء الحق المرهون عليه، نظير ما لو كان المال المرهون ملكاً لغير من عليه الحق.

(مسألة 24): إذا أذن المرتهن في بيع المال المرهون أو أجاز بيعه بعد وقوعه قام الثمن مقام المبيع في كونه رهناً على الدين، إلا أن يبتني الإذن أو الإجازة على إسقاط حق الرهن، فحينئذٍ يستقل الراهن بالثمن.

(مسألة 25): المال المرهون إذا صار ـ بمقتضى إطلاق عقد الرهن أو بمقتضى الشرط تحت يد الراهن ـ فهو أمانة بيده لا يضمنه إلا بالتعدي أو التفريط، على النحو المتقدم في أوائل الفصل السادس من كتاب الإجارة.

(مسألة 26): لا يجوز للمرتهن التصرف في المال المرهون إلا بوجهين:

الأول: التصرف الذي هو مقتضى أمانته، كإطعام الحيوان ونشر الثوب أو الطعام لو خيف عليهما من التلف.

الثاني: ما يأذن به المالك صريحاً، أو يفهم من ظاهر حاله ولو بسبب التعارف.

(مسألة 27): إذا تعرض المال المرهون للفساد بنحو يسقط قيمته، أو ينقصها نقصاً معتداً به وجب مراجعة مالكه، فإن أذن ببيعه فذاك، وإلا فإن بلغ الضرر حداً يمنع من استيفاء الدين من الرهن كان للمرتهن بيعه بعد الاستئذان من الحاكم، وكذا إذا تعذرت مراجعة المالك. ويجري ذلك فيما لو تعرض المال المرهون للخطر من غير جهة الفساد، كما لو كان معرضاً للسرقة أو نحوها.

(مسألة 28): منافع المال المرهون ـ كركوب الدابة وسكنى الدار ـ ونماءاته ـ كالبيض والحليب ـ ملك للراهن، وليس للمرتهن استيفاؤها وأخذها إلا بإذنه الصريح أو المستفاد من ظاهر الحال، فإن ابتنى إذنه على المجانية فهو، وإلا كان عليه بدلها ونقص مقداره من دينه. وكذا الحال إذا استوفاها من غير إذنه.

(مسألة 29): إذا اشترط المرتهن أن تكون منافع المال المرهون أو نماءاته له، أو أن له استيفاءها وأخذها مجاناً فلذلك صور..

الاُولى: أن يشترط ذلك في عقد القرض، كما إذا أقرض المال برهن واشترط حين القرض أن تكون منافع المال المرهون أو نماءاته له، أو أقرض المال واشترط على المقترض أن يجعل عليه رهناً تكون منافعه ونماءاته له.

الثانية: أن يشترط ذلك في نفس الرهن ـ فيما إذا أنشئ استقلالاً ـ ، كما لو طالب الدائن المدين بالرهن، فلما أراد أن يرهن عنده شيئاً اشترط عليه في الرهن أن تكون منافعه ونماءاته له فقبل الراهن الشرط. الثالثة: أن يشترط ذلك في عقد ثالث، كما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل برهن واشترط في عقد البيع أن تكون منافع المال المرهون أو نماءاته له، أو رهن المدين شيئاً على دينه ثم أوقع مع المرتهن عقداً ـ كالبيع ـ وشرط أن تكون منافع ذلك الشيء المرهون أو نماءاته له.

أما في الصورة الاُولى فيبطل الشرط المذكور، لأنه من الربا المحرّم، فإذا استوفى المرتهن المنافع والنماءات كان ضامناً لها ونقص من دينه بقدرها، وأما في الصورتين الأخيرتين فالظاهر جواز الشرط المذكور ونفوذه، فيملك به المرتهن منافع المال المرهون ونماءاته، فإذا استوفاها وأخذها لم يكن ضامناً لبدلها ولم تنقص من دينه.

(مسألة 30): تجري الصورتان السابقتان أيضاً فيما إذا كان المشروط هو استيفاء الراهن المنافع وأخذه النماء بعوض.

(مسألة 31): إذا أراد الطرفان استيفاء الراهن منافع العين المرهونة ونماءاتها مجاناً أمكنهما الاستعاضة عن الدين والرهن ببيع الشرط الذي تقدم التعرض له في الخيار الثالث من الفصل الرابع من كتاب البيع، فمثلاً إذا أراد زيد أن يقترض من عمرو ألف دينار إلى سنة ويرهن عليها داره، فبدلاً من ذلك يبيع زيد داره من عمرو بألف دينار ويجعل له خيار رد الثمن إلى سنة، فإذا أرجع زيد لعمرو الألف دينار في آخر السنة يفسخ البيع ويسترجع داره، فإن الدار ومنافعها في تلك السنة تكون ملكاً لعمرو حينئذٍ، وله أن يستوفيها مجاناً. نعم لو تلفت الدار يكون تلفها عليه، بخلاف ما لو كانت مرهونة فإن تلفها يكون على زيد ولا يضمنه عمرو إلا مع التفريط، كما أنه إذا لم يأت زيد بالثمن في الأجل المحدد فليس له الفسخ إلا أن يرضى عمرو.

(مسألة 32): حق الرهانة يورث، فإذا مات المرتهن انتقل حق الرهن في المال المرهون لورثته، ولا يسقط حق كل منهم إلا بإسقاطه، أو ببراءة ذمة المدين من حصته من الدين الذي عليه الرهن.

(مسألة 33): لا يبطل الرهن بموت الراهن، بل يبقى المال المرهون معه مورداً لحق الرهن وإن صار للوارث.

(مسألة 34): إذا حل وقت استيفاء الدين لم يستقل المرتهن باستيفائه من المال المرهون، بل لابد من مراجعة الراهن ليقوم بأدائه من عنده، أو من المال المرهون ـ إن كان من سنخ الدين ـ أو ببيع المال المرهون على المرتهن أو غيره ويوفي الدين بثمنه. وإن امتنع جاز إجباره على أحد الأمرين، وإن تعذر ذلك جاز للمرتهن أن يتولى البيع بنفسه. والأحوط وجوباً مراجعة الحاكم الشرعي مع الإمكان. ويجري ذلك فيما إذا تعذرت مراجعة المالك لغيبة أو جهالة أو نحوهما.

(مسألة 35): إذا اشترط المرتهن على الراهن في عقد الرهن أو في عقد آخر أن يكون له بيع الرهن لاستيفاء الدين من دون مراجعته نفذ الشرط المذكور. وكذا إذا جعله الراهن وكيلاً عنه في البيع وشرط عليه المرتهن في عقد الرهن أو في عقد آخر غير عقد الوكالة أن لا يعزله. نعم الأحوط وجوباً عدم اشتراط ذلك في عقد القرض.

(مسألة 36): إذا أفلس المرتهن أو مات مديناً ديناً لا تفي به تركته ففي تقديم حق المرتهن في العين المرهونة على بقية الغرماء إشكال، والأحوط وجوباً التراضي والتصالح معهم.

(مسألة 37): إذا مات الراهن ولم يكن للمرتهن بينة على دينه عليه، وخاف إن هو أقر بالمال المرهون أن يأخذه الورثة منه وينكروا دينه، جاز له أن يستوفي دينه من المال المرهون بنفسه ويرجع ما زاد منه للورثة من دون أن يقر بالرهن.

(مسألة 38): إذا وجد المرتهن عنده رهناً على دين وجهل صاحبه كان له استيفاء دينه منه، فإن كان الدين بقدر الرهن فذاك، وإن كان أكثر من الرهن بقي الزائد من دينه في ذمة الراهن المجهول، وإن كان أقل من الرهن بقي الزائد من الرهن أمانة في يده للراهن المجهول، وجرى عليه حكم الأمانة المجهول مالكها، وقد تقدم في المسألة (16) من كتاب الاستيداع. وإن جهل مقدار الدين واحتمل كونه بقدر الرهن جاز له احتسابه بدينه ويكون له.

(مسألة 39): إذا تردد الدين الذي عليه الرهن بين الأقل والأكثر بني على الأقل.

(مسألة 40): إذا كان عند شخص عين لآخر، وتردد بين كونها رهناً على دين وكونها وديعة أو نحوها بني على عدم كونها رهناً، سواء علم بأن صاحب العين مدين للشخص الذي عنده العين، أم لم يعلم بذلك. نعم إذا اتفقا على كونه مديناً له، وادّعى الدائن أن العين رهن على ذلك الدين وادّعى المدين أنها ليست برهن كان القول قول الدائن ما لم يقم المدين البينة على عدم كونها رهناً، ويكفي أن يقيم البينة على أنه تسلمها منه لا على وجه الرهينة، ولا يسمع مع ذلك دعوى الدائن أنه رهنها عنده بعد ذلك، إلا ببينة.

الفصل الثاني

في الكفالة

وهي نظير الرهن في كونها استيثاقاً للحق، لكن موضوعها النفس والغرض منها الحضور. فهي عبارة عن تعهد شخص لآخر بحضور شخص ثالث، بحيث يلزمه أن يحضره لو لم يحضر. والأول الكفيل، والثاني المكفول له، والثالث المكفول. ومحل الكلام ما إذا وجب الحضور على المكفول، وكان المكفول له يستحق ذلك عليه. ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

(مسألة 1): لا إشكال في توقف الكفالة على رضا الكفيل والمكفول له، والظاهر توقفها على رضا المكفول أيضاً، فمع عدم رضاه بها لا سلطان للكفيل عليه، ولا يترتب أثرها بالنسبة إليه. نعم المفروض وجوب الحضور عليه على كل حال ولو مع عدم الكفالة، لكن ذلك لا يقتضي سلطنة الكفيل على إحضاره ولا لزوم متابعته للكفيل بالحضور ما لم يرض بالكفالة.

(مسألة 2): لابد من إنشاء مضمون الكفالة والتزام الأطراف المعنية به وإبراز الالتزام المذكور بكل ما يدل عليه من قول أو فعل، نظير ما سبق في بقية العقود.

(مسألة 3): يجوز اشتراط الكفالة على الكفيل ـ من قبل المكفول أو المكفول له أو شخص ثالث ـ في ضمن عقد لازم، فينفذ مع رضا المكفول والمكفول له. وهو على وجهين:

الأول: أن يشترط كونه كفيلاً لزيد مثلاً ومسئولاً به.

الثاني: أن يشترط عليه أن يكفل زيداً. وفي الأول يكون كفيلاً بمجرد الشرط، وفي الثاني لا يكون كفيلاً إلا بعد إنشاء الكفالة، ولا يكون فائدة الشرط إلا وجوب إنشائها.

(مسألة 4): لما كانت الكفالة متمحضة في التعهد من جانب الكفيل وحده فالأحوط وجوباً الاقتصار في نفوذها على ما إذا ابتنت على أن يترتب عليها شيء من جانب المكفول له، كما إذا كان قد اشترط الكفالة فيرجع قبوله بها للقبول بكونها وفاء بشرطه، أو كان مستحقاً الحضور على المكفول أو حابساً له فعلاً فيأذن بانصرافه أو يطلق سراحه اعتماداً على الكفالة، أو كان طالباً ـ من المكفول أو من غيره ممن يتعلق به ـ التوثق لحقه ساعياً لذلك، فيترك الطلب والسعي المذكورين اكتفاء بالكفالة أو نحو ذلك. أما إذا كانت مبتدأة من دون ذلك نظير الوعد المجرد فيشكل نفوذها إلا أن تكون مشروطة على الكفيل من قبل المكفول له في ضمن عقد آخر فتنفذ تبعاً لنفوذ العقد.

(مسألة 5): يعتبر في الكفيل أن يكون قابلاً لأن يلزم بإحضار المكفول على ما تقتضيه الكفالة لكماله بالبلوغ والعقل، فإذا كان مقتضى الكفالة إحضار المكفول بعد شهر من العقد ـ مثلاً ـ لزم كمال الكفيل حينئذٍ ولا يجب كماله حين إجراء العقد، بل يمكن قيام وليه مقامه في إجراء العقد إن كانت الكفالة صلاحاً له. أما المكفول والمكفول له فلا يعتبر كمالهما، فيمكن كفالة الصبي والمجنون والكفالة لهما إذا رضي بها وليهما بدلاً عنهما.

(مسألة 6): لا يعتبر قدرة الكفيل على إحضار المكفول واقعاً، بل يكفي زعمه القدرة على ذلك، فإذا كفله بالزعم المذكور ثم تبين عجزه لم ينكشف بطلان الكفالة. وليس المراد بالقدرة على إحضاره القدرة على مباشرة الإحضار بنفسه بحيث يأتي به معه، بل المراد ما يعم استجابة المكفول للكفيل لو أمره بالحضور.

(مسألة 7): تشرع الكفالة سواء كان طلب حضور المكفول لتعلق حق مالي به ـ كدين أو كفالة أو تسليم مبيع أو نحوها ـ من أجل أن يستوفى منه ذلك الحق، أم كان لأمر آخر، كحضوره لمرافعة أو لأداء شهادة أو دخول سجن بحق أو ليقتص منه أو غير ذلك. ويعتبر في القسم الأول أن لا يكون الكفيل والمكفول له محجوراً عليهما بسفه أو فلس. ولا يعتبر ذلك في المكفول لثبوت الحق عليه على كل حال.

(مسألة 8): تصح الكفالة في الماليات، سواء كان الحق ثابتاً فعلاً، كما لو كان المكفول مديناً للمكفول له، أم لم يكن ثابتاً فعلاً مع وجود سببه، كالجعل في عقد الجعالة والعوض في عقد السبق والرماية، بل تصح مع عدم وجود السبب فعلاً، كثمن أو أجر في بيع أو إجارة متوقعي الحصول، كما لو قال: بعه الدار أو آجره الدكان وأنا كفيل بإحضاره ليؤدي الثمن أو الأجرة.

(مسألة 9): مع إطلاق الكفالة في الماليات يجب على الكفيل إحضار المكفول، ومع تعذر ذلك يجب عليه دفع المال الذي عليه. أما لو صرح في عقد الكفالة باقتصاره على إحضار المكفول فلا يجب عليه مع تعذر الإحضار دفع المال. نعم لو دفع المال انحلت الكفالة، لما يأتي من انحلالها ببراءة ذمة المكفول من الحق.

(مسألة 10): يمكن في الكفالة مطلقاً جعل شرط جزائي على تقدير عدم إحضار المكفول، لكن لابد في نفوذه من تقديم الشرط، فإذا قال الكفيل: علي كذا إن لم أحضره، لزمه الشرط. وإذا قال: إن لم أحضره فعلي كذا، لم يلزمه الشرط ولم يكلف إلا بإحضاره.

(مسألة 11): في الكفالة في الماليات إذا دفع الكفيل المال، فإن كان بإذن المكفول أو بطلب منه كان للكفيل الرجوع عليه بما دفع، وإن لم يكن بإذنه لم يرجع عليه، إلا إذا كان آذناً في الكفالة المطلقة التي سبق ظهورها في دفع الحق عند تعذر الإحضار، فإن له الرجوع حينئذٍ إذا كان قد دفع المال مع تعذر الإحضار.

(مسألة 12): مع إطلاق الكفالة يلزم الكفيل إحضار المكفول في بلد عقد الكفالة، ولا يكفي إحضاره في غيره إلا مع القرينة الصارفة عن مقتضى الإطلاق.

(مسألة 13): يجب على المكفول الاستجابة للكفيل والحضور معه، فإن امتنع جاز له إجباره ولو بالاستعانة بالظالم. نعم نفقة الإحضار على الكفيل ولا يتحملها المكفول إلا مع الشرط، وإن كان ضمنياً مستفاداً من شاهد الحال عند إذن المكفول في الكفالة.

(مسألة 14): يجوز أن يكفل الكفيل شخص ثان، يكون ملزماً بإحضاره ليقوم بمقتضى كفالته، كما يجوز أن يكفل الثاني شخص ثالث، وهكذا تترامى الكفالات.

(مسألة 15): إذا أمسك صاحب الحق من عليه الحق لاستيفاء حقه منه من دون تعد عليه فجاء آخر فخلصه منه كان عليه تسليمه أو أداء الحق الذي عليه. وإذا كان قاتلاً عمداً لزمه إحضاره ليقتص منه أولياء المقتول، ولهم حبسه لذلك، إلا أن يرضوا منه بالدية فيدفعها لهم. وكذا إذا مات القاتل فيجب على من خلصه من أيدي أولياء المقتول دفع الدية لهم.

(مسألة 16): الكفالة عقد لازم لا يجوز فسخه من طرف الكفيل، إلا مع الخيار، أو بالتقايل منه ومن المكفول له. نعم ينحل باُمور..

الأول: القيام بمؤداه وهو إحضار المكفول.

الثاني: براءة ذمة المكفول من الحق الذي عليه بأدائه، أو بارتفاع موضوعه، كما إذا كان كافلاً لشخص فبطلت كفالته له.

الثالث: انتقال الحق من المكفول له لشخص آخر، ببيع أو صلح أو حوالة أو غيرها، فإن الشخص الآخر لا يقوم مقام المكفول له في استحقاق الكفالة، بل تنحل الكفالة. نعم إذا كان الانتقال بالإرث قام الوارث مقام المورث في استحقاق الكفالة ولم تنحل.

الرابع: موت المدين أو سقوطه عن قابلية الإحضار لاستيفاء الحق بجنون أو نحوه. نعم إذا ابتنت الكفالة على أداء الكفيل للحق عند تعذر الإحضار فلا تبطل الكفالة حينئذٍ، بل يجب عليه أداء الحق إن تعذر أداؤه من ماله أو تركته.

الخامس: إسقاط المكفول له حقه من الكفالة.

(مسألة 17): لا تصح الكفالة إذا لم يجب الحضور على المكفول مع قطع النظر عنها، كالمحبوس ظلماً، والشاهد في الترافع عند الظالم، والملزم ظلماً بدفع مال، ونحو ذلك، فلو وقعت الكفالة لم يحل للمكفول له إلزام الكفيل بإحضار المكفول، ولم يجب على الكفيل إحضاره. نعم يمكن نفوذ الكفالة حينئذٍ في حق المكفول بالإضافة إلى الكفيل إذا ابتنى رضاه بالكفالة على تعهده بالاستجابة له في الحضور إن كفله، دفعاً للضرر الوارد على الكفيل لو لم يحضر، فالمسجون بظلم مثلاً قد يرضى الظالم بخروجه من السجن مؤقتاً إذا كفله شخص وتعهد برجوعه بعد الوقت، كما قد يتعارف في زماننا، وحينئذٍ إذا طلب من شخص أن يكفله عند الظالم متعهداً له بالرجوع للسجن بعد الوقت لئلا يقع الكفيل في الضرر فكفله ذلك الشخص بناء على التعهد المذكور وجب عليه الحضور، وجاز للكفيل إحضاره وإجباره على الحضور بمقتضى نفوذ التعهد المذكور، وإن لم يستحق المكفول له حضوره، بل كان ظالماً في ذلك، إلا أن يكون الحضور محرّماً فيشكل الأمر، كما إذا كان يتعرض في رجوعه للسجن للهلكة أو لضرر يحرم تحمله.

تتميم:

المعروف من الكفالة هي كفالة النفس التي تبتني على التعهد بحضور المكفول لاستيفاء الحق منه، وهي التي سبق الكلام فيها. والظاهر مشروعية الكفالة المتمحضة في المال، المتعارفة في زماننا هذا، وهي تعهد الكفيل للمكفول له بأداء حقه الثابت له على المكفول، لا بمعنى جعل الحق المذكور في ذمة الكفيل وبراءة المكفول منه ـ كما يأتي في الضمان ـ بل بمعنى تعهد الكفيل للمكفول له بحصوله على حقه بأن يؤديه له المكفول، فإن لم يفعل أداه هو عنه، من دون أن تقتضي الكفالة المذكورة براءة ذمة المكفول من الحق. والظاهر عدم اشتراط إذن المكفول في هذا القسم من الكفالة، بل يكفي اتفاق الكفيل والمكفول له عليها ورضاهما بها.

(مسألة 18): كما تجري هذه الكفالة في الاُمور الذمية تجري في الأعيان الخارجية، كما لو قال: لا تتعقب السارق وأنا كفيل بما أخذ، أو لا تخاصم الغاصب وأنا كفيل بما غصب، على معنى أنه مسئول بإرجاع عين المال ومع تعذره فهو مسئول ببدله، من دون أن تبرأ ذمة صاحب اليد مما أخذ.

(مسألة 19): لا يعتبر في هذه الكفالة ثبوت الحق وانشغال ذمة المكفول فعلاً، بل يكفي تحقق سبب ثبوته وانشغال الذمة به وإن لم تنشغل بعد، كما لو قال: بع زيداً أو آجره وأنا كفيل بالثمن أو الأجر، أو أدخله بيتك وأنا كفيل بما أتلف، أو أعره المتاع وأنا كفيل به، أو لا تغلق باب المنزل وأنا كفيل بما يسرق منه. نعم لابد في جميع ذلك من أن تبتني على أن يترتب عليها شيء من جانب المكفول له على النحو المتقدم في المسألة (4) فلا تنفذ بدون ذلك، كما لو أيس المسروق من الظفر بما له فقال له: أنا كفيل بما سرق منك، أو أحكم الشخص غلق أبوابه أو قام بأقصى جهده في التحفظ على ماله فقال له: إن سرق منك شيء فأنا كفيل به، ونحو ذلك.

(مسألة 20): تصح كفالة درك الثمن لو ظهر المبيع مغصوباً أو غير ذلك مما يوجب بطلان البيع، فإذا باع شخص شيئاً بثمن معين، وخشي المشتري أن يكون المبيع مغصوباً كان له طلب الكفيل بالثمن الذي دفعه، فإذا كفله شخص كان له الرجوع عليه بالثمن الذي دفعه لو ظهر بطلان البيع لكون المبيع مغصوباً. كما تصح كفالة الثمن على تقدير فسخ البيع بخيار، أو بطلانه لتلف المبيع قبل القبض، أو نحو ذلك.

(مسألة 21): إذا لم تكن هذه الكفالة بإذن المكفول لم يكن للكفيل الرجوع عليه بما أدى عنه، وإن كانت بإذنه كان للكفيل الرجوع عليه بما أدى عنه من الحق في وقته على حسب مقتضى الكفالة، إلا أن يبتني إذنه له في الكفالة على عدم ضمانه له لو أدى عنه، وهو يحتاج إلى عناية وقرينة خاصة.

(مسألة 22): يجوز ترامي هذه الكفالة، نظير ما تقدم في كفالة النفس.

(مسألة 23): تجوز هذه الكفالة مع عدم ثبوت الحق على المكفول شرعاً، بل كان مؤاخذاً به ظلماً، فإنها وإن لم تنفذ في حق المكفول له لكونه ظالماً، إلا أنها تنفذ في حق المكفول إذا أذن بها أو طلبها، فيجب عليه أداء المال للكفيل لو أداه عنه بمقتضى الكفالة، نظير ما تقدم في المسألة الأخيرة من كفالة النفس.

الفصل الثالث

في الضمان

وهو عبارة عن تحمل شخص ديناً في ذمة آخر، بحيث تنشغل ذمته بالدين وتفرغ منه ذمة المدين. والمتحمل هو الضامن، والمدين الأول هو المضمون عنه، وصاحب الدين هو المضمون له. ويكفي في إنشائه كل ما يدل على الالتزام بالمضمون المذكور من قول أو فعل، كما تقدم في غيره من العقود.

(مسألة 1): الضمان عقد بين الضامن والمضمون له، فلابد من صدوره عن اختيارهما، ولا يقع مع الإكراه كسائر العقود، كما لابد فيه من كونهما بالغين عاقلين غير محجور عليهما بسفه. وأما عدم الحجر بالفلس فالظاهر اشتراطه في المضمون له إذا كان نفوذ الضمان منافياً لمقتضى الحجر، ولا يعتبر في الضامن، غايته أن المضمون له لا يشارك الغرماء في أمواله التي هي مورد الحجر، ويأتي التعرض لذلك في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى. أما المضمون عنه فلا يعتبر رضاه، كما لا يعتبر فيه ما سبق، بل يصح الضمان عنه وإن كان ميتاً.

(مسألة 2): إذا كان الضامن والمضمون له قاصرين لصغر أو جنون قام وليهما مقامهما، كما يقوم وكيلهما مقامهما لو كانا كاملين.

(مسألة 3): لابد في الضمان من ثبوت الدين في ذمة المدين، سواء كان لازماً ـ كالقرض ـ أم متزلزلاً ـ كثمن المبيع في زمن الخيار ـ فمع عدم ثبوته لا يصح ضمانه، سواء تحقق سببه، كالجعل في الجعالة قبل العمل، أم لم يتحقق، كثمن المبيع قبل البيع. كما لابد في الضمان أيضاً من كون الحق ذمياً، ولا يجري في الأعيان المضمونة كالمغصوب. نعم تصح الكفالة في جميع ذلك من دون أن تبرأ بها ذمة من عليه الحق، كما تقدم.

(مسألة 4): إذا لم يكن الضمان بإذن المضمون عنه لم يكن للضامن الرجوع عليه بما أدى من الحق، أما إذا كان بإذنه فله الرجوع عليه بما أدى، ولا يجوز الرجوع عليه بما لم يؤده لعجز أو إبراء، وكذا لو صالح على الدين بما هو دونه، فإنه ليس له الرجوع إلا بما صالح به.

(مسألة 5): الضمان من العقود اللازمة، فلا يجوز الرجوع فيه للضامن ولا للمضمون له، بل لا يمكن حله حتى بالتقايل منهما، ولا يصح شرط الخيار فيه، كما لا يثبت فيه خيار تخلف الشرط أو الوصف، فإذا رضي المضمون له بالضمان بشرط أن يفعل الضامن شيئاً أو بشرط أن يكون موسراً، فلم يفعل الضامن ذلك الشيء أو بان إعساره حين الضمان لم يكن للمضمون له الفسخ، سواء كان الشرط صريحاً أم ضمنياً. نعم إذا كان الضمان بإذن المضمون عنه فالظاهر صحة شرط الخيار فيه، وثبوت خيار تخلف الشرط أو الوصف فيه إذا كان الاشتراط بإذنه أيضاً. كما أن الظاهر إمكان التقايل فيه بإذن المضمون عنه، بحيث يرضى الثلاثة بحله ورفع اليد عنه.

(مسألة 6): يجوز ضمان الدين الحال مؤجلاً، بحيث لا يستحق المضمون له المطالبة إلا بعد الأجل، كما يجوز العكس، وهو ضمان الدين المؤجل حالاً.

(مسألة 7): إذا أمر شخص صاحب المال بإتلاف ماله، فإن كان الإتلاف محرّماً ـ لكونه تبذيراً ـ وعلم صاحب المال بذلك لم يكن عليه ضمانه، حتى لو تعهد بضمانه على تقدير الإتلاف، كما لو قال: أحرق ثوبك وعلي قيمته، وإن لم يكن محرّماً ـ لوجود غرض عقلائي مخرج له عن التبذير ـ أو كان محرّماً ولم يعلم صاحب المال بذلك، فإن فهم صاحب المال إرادة الآمر المجانية فلا ضمان أيضاً. وكذا إذا وجب الإتلاف على صاحب المال وكان الأمر به من باب الأمر بالمعروف. وفي غير ذلك يتعين الضمان، سواء صرح الآمر بالضمان أم لا، لكن ذلك ليس من الضمان الذي هو محل الكلام، بل هو نظير الضمان بالاستيفاء الذي تقدم في المبحث الأول من خاتمة كتاب الإجارة.

الفصل الرابع

في الحوالة

والمراد بها تحويل المدين للدائن بدينه على غيره، بحيث تبرأ ذمة المدين من الدين وتنشغل به ذمة ذلك الغير. والمدين الأول هو المحيل، والدائن هو المحال، وقد يسمى بالمحتال، والذي يحوّل عليه الدين هو المحال عليه. ويكفي في إنشائها كل ما دل على الالتزام بالمضمون المذكور من قول أو فعل.

(مسألة 1): لابد في الحوالة من رضا المحيل والمحال، أما المحال عليه فلابد من رضاه أيضاً إذا كان بريئاً غير مدين للمحيل، وكذا إذا كان مديناً له وكانت الحوالة بغير الجنس، كما إذا كان مديناً له بدراهم فأحال عليه بدنانير، وأما إذا كان مديناً وكانت الحوالة بنفس الجنس، فإن أريد بالحوالة عليه الحوالة على ذمته ابتداء ـ ولو لتخيل كونه بريئاً ـ فلابد من رضاه أيضاً، وإن أريد بها الحوالة على الدين الثابت في ذمته فلا يعتبر رضاه.

(مسألة 2): لابد في المحيل والمحال من البلوغ والعقل وعدم الإكراه، كما يجب ذلك في المحال عليه في المورد الذي يعتبر فيه رضاه.

(مسألة 3): يعتبر عدم الحجر بسفه أو فلس في المحال والمحال عليه في كل مورد يكون نفوذ الحوالة منافياً لمقتضى الحجر. ولا يسعنا تفصيل ذلك، بل قد يظهر بالتأمل وبملاحظة ما يأتي في كتاب الحجر.

(مسألة 4): تجوز الحوالة على البريء ـ غير المدين للمحيل ـ بإذنه، كما أشرنا إليه، فإن ابتنت الحوالة على رجوعه على المحيل بما أحال عليه انشغلت ذمة المحيل له بمثل الذي أحال به، وإن ابتنت على تبرع المحال عليه فلا تنشغل ذمة المحيل له بشيء.

(مسألة 5): إذا تم عقد الحوالة بشروطه برئت ذمة المحيل من الدين الذي أحال به للمحال، وبرئت ذمة المحال عليه إذا كان مديناً للمحيل من مقدار الدين الذي أحال به عليه، وانشغلت ذمة المحيل للمحال عليه بمثل الدين الذي أحال به إذا كان المحال عليه بريئاً وكان مبنى الحوالة على رجوعه على المحيل بما أحال عليه، ولا يتوقف شيء من ذلك على أداء المحال عليه للمحال الدين الذي أحيل به.

(مسألة 6): لابد في الحوالة من ثبوت الدين في ذمة المحيل حينها، ولا يكفي حصول سببه ـ كالجعل في الجعالة قبل العمل ـ فضلاً عن توقع ثبوته من دون ذلك، كثمن المبيع قبل البيع.

(مسألة 7): الحوالة كالضمان في اللزوم، وعدم إمكان شرط الخيار وغيره إلا إذا كانت بإذن المحال عليه، فيمكن فيها شرط الخيار وغيره والتقايل، نظير ما تقدم في الضمان. نعم إذا كان المحال عليه معسراً حين الحوالة ولم يعلم المحال بإعساره كان له الخيار إذا علم بعد ذلك. وإذا زال إعساره قبل الفسخ ففي بقاء الخيار إشكال، كالإشكال في ثبوت الخيار إذا كان بناء المحال عليه على الاقتراض أو الاستيهاب أو نحوهما وكان يمكنه ذلك، بل الأظهر هنا عدم الخيار.

تتميم

الحوالة المصطلحة للفقهاء والتي دلت عليها النصوص هي الحوالة بالمعنى المتقدم المبتني على نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. أما الحوالة المعروفة في زماننا هذا فهي عبارة عن طلب المحيل من المحال عليه دفع المال عنه للمحال من دون أن تنشغل ذمة المحال عليه للمحال بشيء. ويترتب على ذلك اُمور..

الأول: أنه لا يعتبر في المال المحال به أن يكون ديناً ثابتاً فعلاً في ذمة المحيل، بل كما يكون كذلك يكون ثمناً في بيع حين الحوالة، كما إذا اشترى المحيل شيئاً بثمن يأخذه المشتري من المحال عليه، أو يكون ديناً آيلاً إلى الثبوت، كالجعل في الجعالة قبل العمل، وثمن المبيع قبل البيع، بل يمكن أن يكون مالاً متبرعاً به.

الثاني: أنه لا يعتبر رضا المحال إلا حيث يكون له الامتناع عن أخذ المال المحال به، كما إذا كان ثمناً في بيع، حيث يجوز له الامتناع عن إطلاق الثمن بحيث يشمل المال المحال به، بخلاف ما إذا كان ديناً في ذمة المحيل، فإنه حيث يكون تعيين الوفاء تابعاً للمدين فإذا كان إطلاق الدين يشمل المال المحال به وعيّن المدين الوفاء به لم يكن للدائن الامتناع عن قبضه.

وأما المحال عليه فقد يكون ملزماً بقبول الحوالة، كما إذا كان وكيلاً للمحيل، أو كان بينهما عقد ملزم بالدفع عند التحويل.

الثالث: إذا دفع رجل إلى آخر مالاً في بلد ليأخذ بدله في بلد آخر، فإن اختلف المالان في الجنس فلا إشكال، كما لو دفع في العراق ديناراً عراقياً ليأخذ بدله في خارج العراق عملة اُخرى، لرجوعه إلى بيع إحدى العملتين بالاُخرى. وإن اتفقا في الجنس، فله صور ثلاث..

الاُولى: أن يكون المدفوع أولاً أقل من المأخوذ بدلاً عنه، كما لو دفع في العراق ألف دولار على أن يأخذ في الخارج ألفاً وخمسين دولاراً، وحينئذٍ إن كان الدفع بعنوان القرض كانت الزيادة ربا محرّماً، وإن كان بعنوان البيع، بأن يبيعه ألف دولار في العراق بألف وخمسين دولاراً في الخارج كان حلالاً، لعدم حرمة الزيادة في العوضين في المعدود. نعم الأحوط وجوباً عدم الزيادة المذكورة مع انحصار الفرق بالزمن، كما لو باعه ألف دولار معجلة بألف وخمسين دولاراً مؤجلة إلى شهر مثلاً من دون فارق من جهة اُخرى كالمكان.

الثانية: أن يكونا متساويين، فيحل في البيع والقرض، لأن شرط اختلاف المكان لايحرم بالقرض، كما تقدم.

الثالثة: أن يكون المدفوع أولاً أكثر من المأخوذ بدلاً عنه، كما لو دفع في العراق ألف دولار على أن يأخذ في الخارج تسعمائه وخمسين دولاراً، والظاهر جواز ذلك مطلقاً، سواء كان بعنوان البيع أم بعنوان القرض، لأن أخذ الزيادة إنما تحرم على الدائن لا على المدين.

والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات: