بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

13 أغسطس 2010

خطاب الضمان، حقيقته وحكمه


د.بكر أبو زيد

19 - 5 - 2009







فإن من نوازل العصر وقضاياه؛ جريان المعاملة بخطابات الضمان لدى البنوك الأهلية مع المستفيد سواء كان شخص اعتباري أو طبيعي أو حُكْمِي، وتجلية موقعها من الشريعة المطهرة يقتضي إعطاء التصور الكامل لطبيعة خطابات الضمان، وخطواتها الإجرائية، وأنواعها، وما جرى مجرى ذلك من القوالب التي تسير عليها، ثم تنزيل الفقه الشرعي عليها.





المبحث الأول: خطاب الضمان:





وفيه الفروع الآتية:





1- حقيقته:





خطاب الضمان المصرفي: هو تعهد قطعي مقيد بزمن محدد غير قابل للرجوع، يصدر من البنك بناء على طلب طرف آخر (عميل له)، بدفع مبلغ معين لأمر جهة أخرى مستفيدة من هذا العميل، لقاء قيام العميل بالدخول في مناقصة أو تنفيذ مشروع بأداء حسن، ليكون استيفاء المستفيد من هذا التعهد (خطاب الضمان) متى تأخر أو قصر العميل في تنفيذ ما التزم به للمستفيد في مناقصة أو تنفيذ مشروع ونحوهما، ويرجع البنك بعد ذلك على العميل بما دفعه عنه للمستفيد.





2- أركانه:





من هذا يتضح أن أركان خطاب الضمان أربعة وهي:





البنك: وهو الطرف (الضامن)، والضامن هو من التزم ما على غيره.





العميل: وهو الطرف (المضمون عنه)، ويكون شخصية حكمية (اعتبارية)؛ كالشركة أو المؤسسة ممثلة في (مديرها المسئول)، ويكون شخصًا طبيعيًّا.





المستفيد: وهو الطرف (المضمون له)، وهو رب الحق الذي التزمه الضامن، وعادة لا يكون إلا شخصية اعتبارية؛ كمصلحة حكومية، أو مؤسسة أو شركة معروفة، ومن النادر أن يكون شخصًا طبيعيًّا.





قيمة الضمان: وهو (المبلغ المضمون)، والمضمون به هو الحق الذي التزم الضامن، فإذا أطلق خطاب الضمان؛ حوى هذه الأركان.





3- أهدافه:





لخطاب الضمان أهمية كبيرة في حماية المستفيد (المضمون له)؛ حكومة أو شركة لضمان تنفيذ المشاريع، أو تأمين المشتريات وفق شروطها ومواصفاتها وفي أوقاتها المحددة، ففيها توفير الضمان للمستفيد عن أي تقصير تنفيذي أو زمني من الطرف العميل، إضافة إلى أن البنك لا يقبل في استقبال خطاب الضمان، أن يكون طرفًا مع العميل لصالح المستفيد، إلا إذا توفرت لديه القناعة بكفاءة العميل المالية والمعنوية، ففي هذا ضمان إضافي إلى سابقه أن لا يدخل في المشاريع والمناقصات إلا شخص قادر على الوفاء بما التزم به.





4- طريقة إصدار خطاب الضمان:





يقدم طالب خطاب الضمان طلبًا للبنك يحدد فيه مبلغ الضمان ومدته والجهة المستفيدة والغرض من الضمان، ويجب أن تكون لدى البنك قبل إصداره الضمان المذكور القناعة بأن كفاءة العميل المالية والمعنوية كفيلة بالوفاء بالتزامه، فيما إذا طلب منه دفع قيمة الضمان أو تمديده، وإذا كان مبلغ الضمان كبيرًا فإن البنك يطلب عادة تأمينات لقاء ذلك، إما أن تكون رهنًا عقاريًّا مسجلًا، أو رهن أسهم في شركات بإيداع أوراق مالية لدى البنك يسهل تحويلها إلى نقد فيما لو طلب من البنك دفع قيمة مبلغ الكفالة، مع خطاب من مودعها ما يتنازل عنها إذا اقتضى الأمر، أو كفالة بنك خارجي معروف.





وإضافة إلى كل ذلك فإن البنك يحتفظ عادة بتأمينات نقدية يودعها العميل بنسبة حوالي 25% من قيمة الضمان، وقد تزيد هذه النسبة أو تقل تبعًا لمركز العميل المالي والمعنوي، ولطبيعة المشروع الذي قدم الضمان من أجله، وبعد كل هذه الإجراءات يقوم البنك بإصدار الضمان.





5- أنواع خطابات الضمان:





تجري المعاقدة عليها على أنواع:





أولًا: خطاب الضمان الابتدائي:





ويكون مقابل الدخول في مناقصات أو مشاريع، ويكون مبلغ الضمان مساويًا لـ1% من قيمة المناقصة أو أكثر، وساري المفعول لمدة معينة، وعادة تكون لثلاثة أشهر، وهذا التعهد المصرفي (خطاب الضمان) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها؛ ليسوغ له الدخول في المناقصة مثلًا، فهو كتأمين ابتدائي يمكِّن المستفيد من الاطمئنان على قدرة العميل على الدخول في المناقصة، ولا يسوغ إلغاء هذا الخطاب إلا بإعادته بصفة رسمية من الجهة المقدم إليها (المستفيد).





ثانيًا: خطاب الضمان النهائي:





وهذا يكون مقابل حسن التنفيذ وسلامة الأداء في العملية من مناقصة أو مشروع ونحو ذلك، ويكون مبلغه بنسبة 5% من قيمة المشروع أو المناقصة، وهو معين بمدة عام كامل مثلًا قابل للزيادة، وهذا التعهد البنكي (خطاب الضمان النهائي) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها؛ ليستحق المستفيد الاستيفاء منه عند تخلف العميل عن الوفاء بما التزم به، فهو كتأمين نهائي عند الحاجة إليه، ولا يكون إلغاؤه إلا بخطاب رسمي من الطرف المستفيد.





ثالثًا: خطاب الضمان مقابل غطاء كامل لنفقات المشروع أو المناقصة:





أي مقابل سلفة يقدمها العميل إلى البنك على حساب المشروع مثلًا لصالح الطرف المستفيد، والغاية منه كما في سابقه (خطاب الضمان النهائي).





رابعًا: خطاب الضمان (ضمان المستندات):





وهناك نوع رابع من خطابات الضمان يقدمه المصرف لصالح شركات الشحن أو وكالات البواخر، في حالة وصول البضاعة المستوردة إلى الميناء المحدد، وتأخر وصول مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى ذلك المصرف الذي جرى الاستيراد عن طريقه، فخشية من أن يلحق بالبضاعة تلف من جراء تأخر بقائها في جمرك الميناء؛ يكون الضمان المذكور تعهدًا من المصرف بتسليم مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى وكلاء البواخر فور وصولها، واستنادًا إلى هذا الضمان يتم فسح البضاعة للمستورد.





ولإصدار مثل هذا الضمان يقدم العميل المستورد طلبًا بذلك إلى المصرف، ويسدد قيمة اعتماد الاستيراد بالكامل ـ (وهي قيمة البضاعة المستوردة)، ومن ثَم يصدر المصرف خطاب الضمان ويسلمه إلى العميل؛ فيقوم العميل بتسليمه إلى وكلاء الباخرة المعنيين.





6- مدى استفادة البنك من خطاب الضمان:





هذا التعهد الذي ألزم البنك به نفسه مع العميل، بأن يدفع للطرف المستفيد من عميله المبلغ الصادر بموجبه خطاب الضمان، وفق ما فيه من شروط وإجراءات؛ للبنك من وراء هذا مصلحة مادية وهي ما تسمى بالعمولة، بمعنى أن البنك يستحق بالشرط على العميل نسبة مئوية معينة، مقابل هذا التعهد وهذه الخدمة نحو 2% حسبما يتم الاتفاق عليه، (وبهذا ينتهي المبحث الأول الذي يعطي التصور الكامل لخطابات الضمان الجارية في المصارف مع عملائها أمام المستفيدين منهم).





المبحث الثاني: الفقه الشرعي لخطاب الضمان:





قد علم بأصل الشرع جواز الضمان، وهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون في التزام الحقوق المستحقة، بمعنى التزام دين على آخر، وهو عقد إرفاق وإحسان جاء به الشرع مع ما فيه من توثيق للحقوق وحفظ لها، وخلاصة ما تقدم في المبحث الأول لطبيعة خطاب الضمان تنحصر في الفقرتين الأخيرتين منه، وهما:





1- أنواعه.





2- عمولة البنك لقاءه.





أما أنواعه الأربعة المتقدمة فلم يظهر في ماهيتها ما يخرج عن المنصوص عليه في أحكام الضمان شرعًا وتوفر شروطه؛ فالضامن (البنك) ممن يصح تبرعه، ولوجود رضا الضامن، وكون الحق معلومًا حالًا أو مآلًا، وأن أجله معلوم غير مجهول، سوى ما جاء في النوع الأول وهو خطاب الضمان الابتدائي؛ فإنه من باب ضمان ما سيجب، وضمان ما لم يجب عقد معلق، وقد علم أن الضمان عقد التزام لازم فلا يعلق كغيره من العقود اللازمة، ولأن الضامن التزم ما لم يلزم الأصيل (المضمون عنه وهو العميل) بعد.





لكن الجمهور من أهل العلم على جوازه، وهو مذهب الأئمة الثلاثة؛ أبي حنيفة ومالك وأحمد، والشافعي في القديم، والخلاف المذكور للشافعي في الجديد، وما ذهب إليه الجمهور ألصق بأصول الشرع، لاسيما إباحة التعامل في الأصل ما لم يعتوره مانع من غرر ونحوه، ولا يظهر في ضمان ما لم يجب بعد ما يمنع؛ فيبقى على الأصل [انظر: فتح القدير، (5/402)، حاشية ابن عابدين، (5/301)، الشرح الكبير مع الدسوقي، (3/333)، وقوانين ابن جزي، ص(353)، روضة الطالبين للنووي، (4/244)، والغاية القصوى للبيضاوي، (4/592)، كشف المخدرات للبعلي، ص(252)، بداية المجتهد، (2/298)]، والله أعلم، ولهذا قال الحنابلة في تعريف الضمان: هو التزام ما وجب أو يجب على غيره مع بقائه عليه، أو: هو ضم الإنسان ذمته إلى ذمة غيره فيما يلزمه حالًا أو مآلًا [شرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس البهوتي، (2/ 108-110)].





وقالوا في ضمان ما يئول إلى الوجوب: يصح الضمان بالحق الذي يئول إلى الوجوب، فيصح الضمان بما يثبت على فلان، أو بما يقر به، أو بما يخرج بعد الحساب عليه، أو بما يداينه فلان.





أخذ العمولة عليه:





أي أخذ (الأجرة) لا (الجعالة) فإن الجعالة: أن يجعل جائز التصرف شيئًا معلومًا، لمن يعمل له عملًا معلومًا أو مجهولًا، من مدة معلومة أو مجهولة، فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة ولا تعيين العامل للحاجة، فهي إذًا: التزام مال في مقابلة عمل لا على وجه الإجارة، فليس ما هنا مما هنالك إضافة إلى أن الجعالة: عقد جائز من الطرفين، لكل من العاقدين فسخها، بخلاف الإجارة، فهي عقد لازم ابتداء، وإن كان وقع في عبارات بعضهم باسم الجعل على الضمان؛ ففي هذا تسامح في التعبير، أو على سبيل النزول، بمعنى: أنه إذا لم يجز الجعل فالإجارة من باب أولى، وإن كانت الجعالة في معنى الإجارة لكن الجعالة أوسع من باب الإجارة، فالجعالة كما علمت في تعريفها فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة، ويجوز فسخها من الطرفين، بخلاف الإجارة فهي عقد على منفعة أو عين، لازم من الطرفين، لا يملك أحدهما فسخها.





وعليه؛ فإن جمهور أهل العلم على تقرير عدم الجواز لأخذ العوض على الضمان، كما في مجمع الضمانات على مذهب الإمام أبي حنيفة للبغدادي، ص(282)، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، (3/404)، والشرح الصغير (3/242)، والفروع لابن مفلح الحنبلي، (4/207)، وكشاف القناع، (3/262)، وغيرها مصرحة بالمنع وعدم الجواز، وجماع تعليلهم للمنع فيما يلي:





1- إنه يئول إلى قرض جر نفعًا، وجه ذلك: أنه في حال أداء الضامن للمضمون له؛ يكون العوض مقابل هذا الدفع الذي هو بمثابة قرض في ذمة المضمون عنه، وفي خطاب الضمان: أقوى في بعض أحواله؛ لأن المستفيد يستوفي عادة من البنك لا من العميل.





2- إن هذا العقد مبناه على الإرفاق والتوسعة والإحسان، ففي أخذ العوض لقاءه دفع لمقصد الشارع منه.





3- إنه في بعض حالات الضمان يستوفي المضمون له من المضمون عنه، فيكون أخذ الضامن للعوض بلا حق وهذا باطل، لأنه مِن أكل المال بالباطل، وفي خطاب الضمان الابتدائي أو المستندي مثلًا؛ يستوفي المضمون له المستفيد من العميل لا من البنك.





وهنا تنبيهان:





الأول: جرى في القواعد الفقهية قولهم: (الأجر والضمان لا يجتمعان) [شرح القواعد الفقهية، الزرقا، (1/430)]، وهذه القاعدة ليست مما نحن فيه من أحكام الضمان؛ لأن الضمان هنا يقصد به (ضمان المتلفات).





الثاني: جرى في القواعد الفقهية قولهم: (ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه)، بل فيه ما يجوز كالجعالة على رد الآبق، وما يمتنع كالعوض على الضمان واللهو المباح ونحو ذلك، كما جاء في فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، (30/215-216).





النتيجة:





مما تقدم يعلم الآتي:





أن خطاب الضمان من حيث الغطاء له من قبل العميل ثلاثة أحوال:





1- خطاب ضمان ليس له غطاء البتة:





فهذا ينسحب عليه ما قرره جمهور العلماء من منع العوض على الضمان، فهكذا في هذه الحالة من خطابات الضمان.





2- خطاب ضمان له غطاء كامل من العميل:





فهذه الحالة ـ والله أعلم ـ لا يظهر في العوض عليها (أجرة المثل) ما يمنع في حق الضامن أو المضمون عنه؛ لأن هذا العوض (العمولة) مقابل الخدمات الإجرائية، ففي حال دفع المصرف للمستفيد فهو من مال المضمون عنه، وفي حال عدم دفعه فهو مقابل حفظه لماله وخدماته لذلك.





3- خطاب ضمان قد صار الغطاء لنسبة منه:





فهذه تنسحب عليها أحكام الحالتين قبلها؛ فيجوز فيما قابل المغطى لا فيما لم يقابله.



مكتب / محمد جابر عيسى المحامى




تعليقات

ليست هناك تعليقات: