بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

12 يونيو 2011

ســــــحـــب الــــقـــرار الإدارى

إن القرارات الإدارية وبصفه عامه تعتبر أكثر مرونـة واقل استقرارا من الأعمال القانونية في مجال القانون الخاص.



ومن المسلم به في فقه القانون العام الحديث أن القرارات الإدارية تخضع لقواعـد مغايره تماما عـن تلك التي يعرفها القانون الخاص, وان هذه القواعد تستجيب بمرونـة لمقتضيات حسن سير المرافق العامة ذلك أن المرفق العام الذي ترجعه إليه غالبيه قواعد القانون الإداري الحديثة، يخضع لثلاث أسس عامه هى:

دوام سيره بانتظام واطراد، وقابليته للتغير والتبديل في كـل وقت، ومساواة المنتفعين أمامه.

ومن ه ذه الأسس الثلاثة اشتقت معظم أسس وقواعد القانون الإداري الحديث ومنها القواعد المتعلقة بامتيازات السلطة الإدارية.

وتعد القرارات الإدارية من أهم مظاهر ألامتيازات التي تتمتع بها السلطة الإدارية والتي تستمدها من القانون العام وأيضا وسيلتها المفضلة فـي القيام بوظائفهـا المتعددة والمتجددة في الوقت الحاضر لما تحققه من سرعه وفاعليه في العمل الإداري وإمكانية البت من جانبها وحدها في أمر من الأموردون حاجه إلى الحصول على رضا ذوي الشأن أو حتى معاونتهم وذلك بإنشاء حقوق للإفراد أو التزامات عليهم هذا بالإضافة إلى قدره الإدارة على تنفيذها تنفيذا مباشرا وبالقوة الجبرية .

يمكن تعريف القرار الإداري بأنه (( إفصاح الإدارة في الشكل الذي يتطلبه القانـون عن إرادتها الملزمة بما لها من سلطه عامه، بمقتضي القوانين واللوائح وذلك بقصد إحداث مركز قانوني متى كان جائزا وممكنا قانونا ابتغاء تحقيق مصلحه عامه)).

أن القانون الإداري يعترف للإدارة العامة بسلطة تقديريه أو بقدر مـن حرية التصرف في مباشره معظم اختصاصاتها ومسئوليتها القانونية - باعتبارها الأمينة على المصلحة العامة - مثل هذه السلطة أو هـذا القدر من حرية التصرف يعد بمثابة الشرط الأول لحياة وبقاء كـل أداره, خاصة بعد تعاظم الـدور الذي أصبحت تضطلع به الإدارية العامة في الوقت الراهن نتيجة تشعب وتداخل مجالات ومسئوليات الدولة الحديثة .

وتطبيقا من المشرع لهذه السلطة التقديرية التي منحها للإدارة فقد أعطاها الحق في سحب بعض ما تصدره مـن القرارات إذا كانت هذه القرارات غـير مشروعه قانونا أو كانت قرارات غـير ملائمة ابتغاء للصالح العام وحسن سير المرافق العامـة وللتخفيف من على عاتق القضاء الذي يسهر على رقابه مشروعيه القـرارات الإدارية بالإلغاء والتعويض فمنح الإدارة سلطه سحب قراراتها ليقلل بذلك من حالات اللجوء للقضاء من اجل الطعن في هذه القرارات.

ويمكن التظلم من القرارات الإدارية المعيبة ويكون المتظلم هنا بالخيار سواء بالتظلم إلى من اصدر القرار المعيب أو إلى رئيسه الاعلي. ويسـمي التظلم الأول بالتظلم الولائي أما التظلم الثاني بالتظلم الر ئاسي ويمتاز هـذا الطريق بالسهولة واليسر كما انـه يحقق مبدأ المشروعية بالإضافة إلى انه يحسم المراكز القانونية وهي في مهدها تفاديا للوصول بـها إلى القضاء ويعتبر القرار الصادر في التظلم قرارا إداريا تفصح به الجهة الإدارية عن إرادتها الملزمة والدليل على ذلك انه يجوز للمضرور من هذا القرار اللجوء للقضاء للطعن فيه بالإلغاء كما يجوز للجهة مصدره القرار(الجهة الإدارية) سحب هذا القرار.

ومما لا خلاف عليه انه يجوز للجهة الإدارية سحب القرارات الإدارية المعيبة بعيب عدم المشروعية وذلك مثل القرارات الإدارية التي لا تولد حقوقا أو لاعتبارات عدم الملائمة أما بالنسبة للقرارات الإدارية المشروعة هل يجوز للجهة الإدارية مصدره القرار إن تسحب هذا القرار المشروع استقر قضاء مجلس الدولة الفرنسي ونظيره المصري على انه لا يجوز سحب القرار الإداري السليم إلا وفقا للحدود المقررة في القانون في هذا الشأن وهذه القاعدة مبنية على أسـاس عدم رجعيه القرارات الإدارية.

ونظرا لأهمية موضوع سحب القرارات الإدارية غير المشروعة فقد صيغت في صوره نظريه متكاملة ذات قواعـد وشـروط صاغها مجلس الدولة الفرنسي ونقلها عنه مجلس الدولة المصري. ويري فقهاء القضاء الإداري أن سـحب القرار الإداري غيـر المشروع يعتبر نوعا من الجزاء الذي توقعه الإدارة على نفسها بنفسها نتيجة إصدار قرار غير مشروع، توفر به على نفسها تلقي ذلك العقاب من القاضي الإداري فيما لو طعن احد الإفراد إمامه بعدم مشروعيه ذلك القرار بما يجعله قاضيا بإلغائه لا محالة. وإذا كان كل من سحب القرار الإداري وإلغائه يؤديان إلى نتيجة واحده وهي التخلص من القرار المعيـب إلا أن أسباب سحب القرار الإداري أوسع من أسباب الطعن بالإلغاء فهي علاوة على احتوائها على الأسباب التقليدية للطعن بالإلغاء فإنها تتضمن السحب لاعتبارات الملائمة ووفقا لمقتضيات المصلحة العامة بالإضافة إلى أن اللجوء إلى طريق التظلم من القرار الإداري المعيب توصلا إلى سحبه هـو طريق سـهل وميسور على المضرور من هذا القرار لأنه يوفر عليه مؤنـه اللجوء للقضاء . وتتمثل الحكمة الأساسية من منح المشرع للجهة الإدارية مصدره القرار الحق فــي سحب هذا القرار هي الوصول إل ى احترام القانون وذلك من خلال التوفيق بين اعتبارين متناقضين.

الأول: تمكين الجهة الإدارية مـن إصلاح ما ينطوي عليه قراراها مــن مخالفه قانونيه.

الثاني: ويتمثل فـي وجوب اسـتقرار الأوضاع القانونية المترتبة على القرار الإداري والسحب بهـذه الصورة يحفظ لمبدأ المشروعية قوته وفاعليته بإذلالـه القرارات الـتي تصدر بالمخالفة له وتدفع الأفراد إلى احترامه . ومن هذا المنطلق سوف نقسم هذا البحث إلى ثلاث فصول, نتحدث فـي الفصل الأول منـها عن ماهية سـحب القرار الإداري وذلك مـن حيث تعريفه وبيان طبيعته القانونية والأسـاس القانوني لحق الجهة الإدارية في سحب قراراتها ثم نعقد مقارنة سـريعة بين كلا من السحب والإلغاء، وفي الفصل الثاني نتعرض بالحديث عن أنواع القرارات الإدارية مـن حيث مـدي جواز سحبها ونفرق في هذا الشأن بـين القرارات الإدارية المشروعة ومدي جواز سـحبها والاستثناءات التي ترد عليهـا والقرارات الإدارية غير المشروعة، أما في الفصل الثالث فنتعرض فيه للآثار التي تترتب على سحب القرار الإداري.

تعريف سحب القرار الإداري

اختلف الفقه الفرنسي والمصري, حول تعريف سحب القرار الإداري، وذلك الاختلاف يرجع إلى اختلاف الزاوية التي ينظر كل منهم إلى موضوع سحب القرار الإداري منها، فمنهم مــن ينظر إلى السحب مـن زاوية السلطة التي أصدره القرار بغض النظر عن طبيعة القرار نفسه، في حين ينظر جانب أخـر عند تعريفه لسحب القرار الإداري إلى الطبيعة القانونية للسحب بجانب السلطة مصدره القرار.

يعرف الأستاذ دلوبادير سحب القرار الإداري: بأنه محو القرارات المعيبة بأثر رجعي عن طريق مصدرها. يعيب هذا التعريف انه ينكر ما للسلطة الرئاسية من حق سحب القرارات المعيبة التي تصدر مـن السلطة الادني، فهو يقصر الحق في السـحب على السلطة مصدره القرار أي ما يعرف بالتظلم ألولائي فقط, وهذا هو الاتجاه الغالب فــي الفقه والقضاء الفرنسي، ويري الفقهاء انه يمكن تحليل هذا الموقف ويعتبرون إن السـحب، أذا صدر من جانب السلطة الرئاسية يعتبر إبطالا وليس سحبا. في حين يتجه الفقه الفرنسي المعاصر إلى تعريف السـحب بأنه إعدام للقرار ومحو آثاره بأثر رجعي عن طريق مصدره أو من السلطة الرئاسية أما بالنسبة لتعريف سـحب القرار الإداري في الفقه المصري , ذهـب الفقيه الكبير سليمان الطماوي إلى أن السحب هو إلغاء بأثر رجعي. ويمتاز هذا التعريف بالسهولة واليسر , فهو يبين إن السـحب ينطوي على شقين, الأول هو الإلغاء أي إنهاء الوجود المادي والقانوني للقرار المسحوب، والشق الثاني يبين أن القرار المســحوب ينتهي وتنتهي كل أثاره سواء بالنسبة للمستقبل وكذلك الماضي، فيعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل صدور القرار. يعرف الدكتور عبد القادر خليل سحب القرار الإداري بأنه هو عمليه قانونيه تمكن السـلطة الإدارية من أعاده النظر في القرار الذي أصدرته بالنسبة للماضي والمستقبل بأثر رجعي. ويعرف الدكتور حسني درويش عبد الحميد السحب بأنه رجوع الإدارة سواء مصدره القرار الإداري آو السلطة الرئاسـية في قرار أصدرته بالمخالفة للقانون ويكون السحب بأثر رجعي.

ويتضح لنا إن كل التعريفات السابقة, تتفق فـي مضمونها على مجموعة من النقاط, وان اختلفت أحيانا في ألفاظها فالعبرة كما تقول المحكمة الإدارية العليا بالمعاني وليست بالألفاظ والمباني وهذه النقاط هي:

1- إن السحب هو محو للقرار الإداري.

2- انه لابد وان يترتب على السحب إلغاء الآثار المترتبة على القرار فيما يتعلق بالماضي, وكذلك التي يمكن أن تترتب في المستقبل.

3- إن السحب يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه.



طبيعة قرار السحب

من الأمور المسلم بها قانونا، أن المشرع قـد أعطي الجهة الإدارية مصدره القرار الحق في سحب هذا القرار طبقا للإجراءات والقواعد التي يحددها القانون فـي هذا الشأن، إذا رأت أن هذا القرار مخالف للقانون أو انه غير ملائم للظروف التي صدر فـي ظلها، وذلك يعتبر تطبيقا لمبدأ الســلطة التقديرية التي منحها المشـرع للإدارة وتحقيقا لمبدأ المشروعية. وإمعانا من المشرع في السـمو بمبدأ المشروعية، والحفاظ على حقوق الأفراد والوقوف أمام طغيان الإدارة وجموحها الذي يتزايد، فقد أعطي لكل ذي شأن الحق في الطعن في القرارات الإدارية المعيبة، وحدد المشرع طرق هذا الطعن في طريقتين هما التظلم الإداري والطعن القضائي.

أولا: التظلم الإداري:

كما ذكرنا فيما سبق أن هذا الطريق طريق سـهل وميسور على المضرور، ويكون لذوي الشأن في هذا النوع من التظلم، أن يتقدم بتظلمه للجهة مصدرة القرار أو للسلطة الرئاسية، ويسمي النوع الأول بالتظلم ألولائي، والنوع الثاني بالتظلم الرئاسي.

ثانيا: الطعن القضائي:

هذا هو الطريق الثاني إمام ذوي الشــأن, وهو اللجوء للقضاء طالبا الحكم بإهدار القرار وأثاره القانونية من وقت نشأته وزوال أثاره بأثر رجعي، ويـعيب هذا الطريق انه وعر المسك شدد الوطأة، ويتميز باجراته المعقدة وأطاله أمد التقاضي. ويتضح مما تقدم أن لصاحب الشــأن، الحق في الاختيار فيما بين الطريق القضائي والطريق الإداري (وذلك فيما عدا حالات التظلم الإجباري) كما أن صاحب الشأن لا يحرم من حقه في التظلم الإداري أذا هـو ولج الطريق القضائي, فإذا اختار صاحب الشـأن طريق التظلم ولم يفلح في الحصول على حقه وطرحت الإدارة وجهة نظره واعتبرت أن قرارها متسق مع صحيح القانون، فان له الحق في ولوج الطريق القضائي طالبا الحكم له في مسألته. ويعتبر القرار الصادر في التظلم، قرارا إداريا تفصح به الجهة الإدارية عـن إرادتها الملزمة في رفض تظلم ذوي الشأن, ويترتب على ذلك أن لذوي الشأن الحق في الطعن في هذا القرار أمام القضاء، كما يحق للجهة مصدره القرار أو للسلطة الرئاسية حـق سحبه.

وتأكيدا للطابع الإداري للقرار الساحب، قد استقر القضاء الإداري المصري في شأن القرار التأديبي انه ليس حكما قضائيا بل هو قرار إداري يخضع لما تخضع له القرارات الإدارية من أحكام، وذلك على الرغم مـن أن الإجراءات التأديبية تسـير على غرار الإجراءات المتبعة أمام المحاكم القضائية. ويتضح لنا مما سبق أن طبيعة القرار الساحب هي طبيعة إدارية، فقرار السحب ما هو إلا قرار إداري يخضع وبصفة عامه إلى ما تخضع له القرارات الإدارية مـن أحكام وهذا ما استقر عليه الفقه في كلا من فرنسا ومصر, وذلك على خلاف الأحكام القضائية فهى تتمتع بحجية الشيء المقضي فيه، والتي لا يجوز الطعن فيها إلا وفقا للطرق التي حددها القانون للطعن في الأحكام القضائية. وفـي هذا المعني يقول العميد سليمان الطماوي (إن السحب الإداري يتم بقـرار إداري يخضع لكافه القواعد والأحكام المنظمة للقرارات الإدارية. فالقرار المسحوب إذا كان سليما لا يجوز الرجوع فيه إلا وفقا للحدود المقررة في هذا الخصوص، فإذا كـان غير مشروع فانه لا يمكن الرجوع فيه إلا في جلال مدد الطعن). وفي هذا المعني يقول احد أحكام القضاء الإداري ( الحكم القضائي هو الذي تصدره المحكمة بمقتضي وظيفتها القضائية ويحسم على أساس قاعدة قانونيه خصومه قضائية تقوم بين خصمين وتتعلق بمركز قانوني خاص أو عام, ولا ينشئ الحكم مركزا قانونيا جديدا، وإنما يقرر في قوه الحقيقة القانونية وجـود حق لأي من الخصمين أو عـدم وجوده, فيعتبر عنوان الحقيقة فيما قضي به متى حاز قوه الشئ المقضي به. وكما هو ظاهر فالحكم القضائي هو الذي يكتسـب حجية الشئ المقضي به، وهذه صفه جوهريه تتصل بالإحكام القضائية وحدها أما قرارات السحب الصادرة مـن الإدارة فهي قرارات إداريه وليست قرارات قضائية ويرجع ذلك إلى التباين في وظيفة كل مـن القرار الإداري والحكم القضائي. ونخلص من ذلك كله إلى أن قرارات السحب، سواء كانت صادره من السلطة مصدره القرار أو من السلطة الرئاسية لها، ما هـي إلا قرارات إداريه يجوز الرجوع فيها جلال المدة المقررة للسحب قانونا، وانه يلزم لصحتها الأركان المقررة قانونا لصحة القرارات الإدارية، من حيث الاختصاص والسبب والشكل والغاية والمحل.



الأساس القانوني لحق الإدارة في السحب

من المسلم به إن المشرع لم يمنح الجهة الإدارية الحق في سحب ما تصدره من قرارات, إلا من اجل منحها فرصه لتصحيح الأوضاع المخالفة للقانون ورد تصرفاتها إلى نطاق المشروعية وتحقيق الصالح العام. ولكن ما هو ذلك الأساس القانوني, الذي يعطي الحق للجهة الإدارية في سحب بعض ما تصدره من قرارات, هل هو تحقيق مبدأ المشروعية أم تحقيق الصالح العام أم الرغبة في ضرورة استقرار الأوضاع والمراكز القانونية للإفراد, اختلف الآراء الفقهية التي قيل بها لتبرير حق الإدارة في سحب قراراتها المعيبة فردوها إلى عده نظريات وذلك على النحو التالي:

النظرية الأولى : نظرية المصلحة الاجتماعية

إن المستقر في القضاء الإداري أن سحب القرارات، قد شرع لتمكين الجهة الإدارية من تصحيح خطاء وقعت فيه, ويقتضي ذلك أن يكون القرار المراد سحبه قد صدر مخالفا للقانون، أما إذا قام القرار الإداري على أسس صحيحة مستوفيا شروطه القانونية فانه يمتنع على جهة الإدارة سحبه، لانتفاء العلة التي من اجلها شرعه قواعد السحب وذلك احتراما للقرا ر واستقرارا للأوضاع وتحقيقا للصالح العام، وقد اجمع الفقه المصري والفرنسي على أن القرار المعيب يتحصن من السحب والإلغاء، بمرور مدد الطعن القضائي دون الطعن عليه بالإلغاء حيث يصبح القرار في هذه الحالة مشروعا. ويري الدكتور عبد القادر خليل, أن المصلحة العامة هي الأساس القانوني لحق الإدارة في سحب قراراتها الإدارية، فالمصلحة العامة هدف عام يجب أن تسعي الإدارة إلى تحقيقه أثناء مباشره سلطتها وإدارتها للمرافق العامة، فان تجاوزته فان تصرفها يـوصم بعيب بالانحراف. فأصحاب هذه النظرية، يذهبون إلى أن الأساس الذي من اجله منحت الإدارة الحق فــي سحب قراراتها، هو ضرورة استقرار المراكز والأوضاع القانونية للإفراد لان في ذلك وبلا شك تحقيقا للصالح العام (أو المصلحة الاجتماعية للإفراد) فهم يغلبون مبدأ استقرار الحقوق والمراكز القانونية على, مبدأ المشروعية واحترام القانون لان في مراعاتها ضمان حسن سير المرافق العامة بانتظام واطراد.

النظرية الثانية : نظريه احترام مبدأ المشروعية

يتزعم هذا الاتجاه العميد ديجي فيذهب سيادته إلى أن الأساس القانوني لحق الإدارة ف ي سحب قراراتها المعيبة هو مبدأ المشروعية. وعلي هـذا المبدأ يجب على الإدارة أن تلتزم في إصدار قراراتها باحترام مبدأ المشروعية، وان يكون هذا المبدأ هو المهيمن على كافه تصرفاتها، فإذا هي خالفته بالخروج عليه وجب عليها الرجوع في قراراتها المخالفة للقانون، ولا تثريب عليها إن هي عادت إلى حظيرة القانون في أي وقت. ويقول العميد ديجي أن هذا المبدأ ليس له، ولا يمكن أن يكون له، ولا يجب أن يكون له، أي استثناء وانطلاقا من هذا المبدأ، فلجهة الإدارة حق الرجوع في قراراتها أو تصحيح الأخطاء القانونية التي تقع فيها في كل وقت وانه ليس لأحد أن يشكو مـن سحبها لقراراتها الإدارية لان هذه السلطة إذا تقررت فـهي مقرره لمصلحه الأفراد، وانه إذا اضر هذا السحب بأحد فيكفي أن يقرر له الحق في التعويض. وانتهي العميد ديجي إلى أن مبدأ المشروعية يجب أن يكون هـو الاعلي ومـن ثم له الاولوية والغلبة دائما، على مبدأ المساس بالمراكز الفردية المكتسبة كلما حدث تعارض بينهما وحجته في ذلك، إن القرار الباطل لا يولد حقوقا، وبناء على ذلك يري إمكان سحب القرار الباطل في كل وقت، تحقيقا لمبدأ المشروعية والقول بغير ذلك يعرض مبدأ المشروعية للخطر، وهو ما لا يمكن التسل يم به. وفي رأيي، إن ما نادي به العميد ديجي لا يمكن التسليم به في كافه جوانبه، لأنه يغالي في الدفاع عن مبدأ المشروعية ويجعله على من اعتبارات ضرورة استقرار الأوضاع والمراكز القانونية للإفراد، فهو يري أن من حق الجهة الإدارية الحق في السحب في أي وقت وغير مقيده بمده معينه مدام أن القرار معيب. فهذا أن كان من شانه أن يودي إلى احترام مبدأ المشروعية، إلا انه سوف يودي إلى زعزعه استقرار المراكز والأوضاع القانونية للإفراد، ويؤدي إلى الإضرار بالصالح العام في النهاية.

الأساس المقترح

في رأيي انه لا يمكن التسليم بأي نظريه من هذه النظريات السابقة منفردة, لان كل منها يدافع عن جانب دون الوضع في الاعتبار الجانب الأخر، فالرأي الأول يدافع عن مبدأ ضرورة استقرار الأوضاع والمراكز القانونية, وتغليبه على مبدأ المشروعية واحتـرام القانون أما الرأي الثاني فيدافع بقوه عن مبدأ المشروعية واحترام القانون, وإهدار مبدأ استقرار الأوضاع إذا تعارض مع المشروعية. وانه يكون من الأفضل الجمع بين المعيارين السابقين، ومحاولة التوفيق فيما بينهم كأساس قانوني سليم لحق الجهة الإدارية في سحب ق راراتها المعيبة، فيكون الأساس كالأتي (ضرورة استقرار المراكز والحقوق القانونية للإفراد مع الوضع في الاعتبار ضرورة العمل على احترام مبدأ المشروعية).



ومن أحكام قضائنا الإداري والذي يؤيد هذه الوجهة من النظر (من المقرر في قضاء هذه المحكمة بان سحب القرارات الإدارية لا يجوز حصوله بعد انقضاء ستين يوما على صدورها، ولا اعتبار لما تدفع به الحكومة من أن المسالة لا تعدو أن تكون خطا وقعت فيه عند حساب مدة خدمه المدعي بسبب عدم دقه الموظفين المختصين، فلما استبان لها هذا الخطأ أصلحته ورده الأمر إلى نصابه الصحيح أخذا بالقاعدة الاصلية، إن الخطاء لا يجوز إغفاله والإبقاء عليه وهو لا يكسب احد حقا ويضفي عليه مركزا قانونيا جدير بالاحترام، لأنه يقابل هذه القاعدة قاعدة أصليه أخري، هي أحق بالرعاية وأولي بالتقديم ومن مقتضاها كفاله الاستقرار وتوفير الطمانينة لحفظ المراكز القانونية وجعلها بمناي عن الزعزعة والاضطراب ولو كانت مشوبة بعد فوات الوقت الذي عينه القانون للطعن عليها من جانب ذي الشأن عن طريق دعوا الإلغاء....).



وفي ح كم آخر لقضائنا الإداري "إذا تحقق بناء على القرار مراكز قانونية فردية تستلزم صالح العمل واستقرار انتظام العاملين وحسن سير المرافق العامة التي تتولاها الإدارة، إن تستقر تلك المراكز القانونية وتتحصن ما دامت قد فاتت على الإدارة فرصه تصحيحها خلال مده الطعن القضائي".



وفي حكم أخر "من المبادئ المقررة انه لا يجوز لجهة الإدارة سحب قرار إداري أصدرته في حدود اختصاصها أو العدول عنه متي ترتب على هذا القرار حق للغير إذا مضت المواعيد المقررة للطعن فيه بالإلغاء إذا بمضي هذه المواعيد يكتسب القرار الإداري حصانه لا يجوز بعدها سحبة أو إلغاؤه لأي سبب كان ولو كان خطا أو مخالفا للقانون.



ومن استقراء الإحكام السابقة، يتبين لنا بوضوح إن القضاء مستقر على مبدأ ضرورة استقرار الأوضاع والمركز القانونية للإفراد، مع الوضع في الاعتبار ضرورة عدم إهمال مبدأ المشروعية واحترام القانون , فوضع ميعاد للطعن في القرار المعيب أو التظلم منة يعتبر بلا شك توفيق بين الاعتبارات المختلفة.

التفرقة بي ن السحب والإلغاء

سوف نتناول التفرقة فيما بين دعوي الإلغاء, والقرار الساحب وذلك في النقاط التالية :

أولا : من حيث التعريف:

- سحب القرار الإداري (هو قيام الجهة الإدارية بمحو القرار الإداري وإلغاء كافه آثاره، بالنسبة للمستقبل والماضي) ومن التعريف يتبين لنا أن الجهة التي تملك سحب القرار الإداري، هي الجهة الإدارية سواء مصدره القرار أو السلطة الرئاسية لها. أما دعوي الإلغاء (هي الدعوي التي يرفعها صاحب الشأن أمام القضاء الإداري المختص, للمطالبة بإلغاء قرار إداري نهائي صدر مخلفا للقانون)

ومن التعريف يتبين لنا إن الإلغاء هي دعوي قضائية، يرفعها ذوي الشأن للإلغاء القرار الإداري.

ثانيا: من حيث الطبيعة القانونية:

- بالنسبة لقرار السحب فتعرفنا فيما سبق على انه قرار إداري، يخضع لما تخضع له تلك القرارات من أحكام، فيجوز للجهة الإد ارية سحبه ونحيل إلى ما سبق.

- إما دعوي الإلغاء، فهي دعوي قضائية موضوعية تنصب على القرار الإداري ذاته للمطالبة بإلغائه لعدم مشروعيته، والحكم الصادر فيها حكما قضائيا يتمتع بما تتمتع به الإحكام من حجية الشيء المقضي فيه, فلا يجوز الرجوع فيه.

ثالثا: من حيث شروط قبول التظلم أو الطعن:

- بالنسبة لقرار السحب، فيشترط لقبول التظلم المقدم من ذوي الشأن أن يكون القرار المراد سحبه مشوبا بعيب عدم المشروعية، وان يتم إجراء السحب في الميعاد المقرر لذلك قانونا.

- أما دعوي الإلغاء، فيشترط لقبولها أن يكون محل الإلغاء قرارا إداريا نهائيا وان يتم رفع الدعوي في الميعاد المحدد لذلك قانونا وان تتوافر مصلحه مباشره يقرها القانون لرافع الدعوى.

رابعا: من حيث أسباب التظلم أو الطعن:

- بالنسبة لقرار السحب، فأسباب سحب القرار الإداري، أوسع من أسباب الطعن بالإلغاء فهي علاوة على احتوائها على الأسباب التقليدية للطعن بالإلغاء، فإنها تتضمن السحب لاعتبارات الملائمة، ووفقا لمقتضيات المصلحة العامة .

- أما أســباب الطعن بالإلغاء، فهي مقصورة على عيوب الاختصاص والشكل والمحل وعيب الانحراف بالسلطة.

خامسا: من حيث المواعيد:

- بالنسبة لقرار السحب، للإدارة إن تسحب القرار المعيب جلال ستين يوما مـن تاريخ صدوره، وفي حالة رفع دعوي الإلغاء فيكون للإدارة الحق في أن تسحب القرار ما لم يصدر حكم في الدعوي، ولكن حق الإدارة في هذه الحالة الأخيرة يتقيد بطلبات الخصم في الدعوي أي بالقدر الذي تملكه المحكمة "أي مجلس الدولة".

- أما دعوي الإلغاء، تنص المادة 24 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنه 1972 في فقرتها الأولي على إن" ميعاد رفع الدعوي إمام المحكمة ف يما يتعلق بطلبات الإلغاء ستون يوما من تاريخ نشر القرار الإداري المطعون فيـه في الجريدة الرسمية أو في النشرات التي تصدرها المصالح العامة أو إعلان صاحب الشأن به".

سادسا: من حيث طريقة رفع التظلم:

- بالنسبة لقرار السحب، وهنا يكون ذوي الشأن بالخيار بين إن يقدم تظلمه إلى الجهة مصدره القرار ويسمي التظلم في هذه الحالة بالتظلم ألولائي, وإما أن يتقدم بتظلمه إلى الجهة الرئاسية للجهة مصدره القرار ويسمي التظلم هنا بالتظلم الرئاسي، ويمتاز هـذا الطريق بالسهولة واليسر، كما انه يحقق مبدأ المشروعية بالاضافة إلى انه يحسم المراكز القانونية وهي في مهدها تفاديا، للوصول بها إلى القضاء.

- أما دعوي الإلغاء، حددت المادة 25 من قانون مجلس الدولة طريقة رفع الدعوي وهي "يقدم الطالب إلى قلم كتاب المحكمة المختصة بعريضة موقعة من محامي مقيد بجدول المحامين المقبولين أما تلك المحكمة، وتتضمن العريضة عدا البيانات العامة المتعلقة باسم الطالب ومن يوجه إليهم ا لطلب وصفاتهم ومحال إقامتهم موضوع الطلب وتاريخ التظلم من القرار إن كان مما يجب التظلم منة ونتيجة التظلم وبيان بالمستندات المؤيدة للطلب ويرفق بالعريضة صوره أو ملخص من القرار المطعون فيه، ويعيب هـذا الطريق انه وعر المسك شدد الوطأة ويتميز باجراته المعقدة وأطاله أمد التقاضي.

ليست هناك تعليقات: