ما هية عقد الإمتياز:
الإمتياز إصطلاحاً هو حق تمنحه الدولة أو أحد أجهزتها لشخص من القطاع الخاص سواء أكان طبيعياً أو معنوياً وقد يكون وطنياً أو أجنبياً ، ويعتبر الإمتياز في الفقه القانوني أحد الأساليب التي تدار بها المرافق العامة ، وتبعاً لتاريخ بدايات هذا النوع من العقود فإنه قد بدأ في شكل إلتزام يقوم بموجبه الملتزم بأشغال عامة حيث يعتبر عقد إمتياز نقل الماء الشروب (النقي) لمدينة باريس في القرن الثامن عشر أقدم عقود الإمتياز المعروفة ، بيد أن التطبيقات الضخمة والطموحة لعقود الإمتياز نجدها متمثلة في عقد إنشاء قناة السويس (2) حيث كانت أعمال حفر القنال هي أساس الإلتزام أما الإدارة (التشغيل) فقد كانت إلتزام تابع للإلتزام الأساس " ذلك أن إستغلال المرفق – ويستتبع ذلك إدارته – كان يعتبر هو المقابل الذي يأخذه الملتزم في نظير تنفيذ الأشغال العامة التي يتطلبها إنشاء المرفق" (3). لاحقاً وتبعاً للتطورات الإقتصادية أصبح الأكثر إستخداماً هو إمتياز إدارة المرافق العمومية.
في الآونة الأخيرة شاع إستخدام مصطلح "إتفاقية" بدلاً عن "عقد" فيما يتعلق بعقود الإمتياز ، ويرجع السبب في ذلك لكون هذا النمط من العقود كثر إستخدامه في القرن الماضي في إتفاقيات تنقيب البترول لدرجة أصبح مصطلح إمتياز رديف لهذه الإتفاقيات وصار أي حديث عن "الإمتيازات" قرين بإتفاقيات شركات النفط مع الدول المنتجة ، بل إن معظم كتب الفقه القانوني كانت تعالج موضوع الإمتيازات حصراً في إطار دراستها لإتفاقيات البترول ومؤخراً لم يهتم إلا بعض الشراح بالحديث عن "الإمتياز" بمفهومه الواسع (4). ومن المفارقات أنه مع أفول نجم عقود الإمتياز في مجال البترول وظهور صيغ جديدة تبنتها الدول المنتجة للنفط (5) فإن نجم عقود الإمتياز بمفهومها الذي بدأت به في القرن الثامن عشر كما ذكرنا آنفاً قد أخذ في البريق واللمعان ..إذ أن التطورات الإقتصادية مطلع هذا القرن – الحادي والعشرين – أعادت للأذهان بدايات التعامل مع هذا النمط من العقود.
ينبغي في هذا المقام أن نفرق بين ما نحن بصدد دراسته وهو عقد الإمتياز Concession Contract وبين عقد الإمتياز التجاري Franchise Contract وهذا الأخير هو " نظاماً جديداً لتسويق البضائع والخدمات من أفكار النظام الأمريكي وهي في نطاقها ومعناها تقع بين عقود التوزيع وعقود التراخيص Licensing Agreement وقد نشأت أولاً في داخل الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم بدأ إستخدامها من قبل الشركات الأمريكية على النطاق الدولي" (6) ، وهو عقد يرتب علاقة بين شركتين أو مؤسستين خاصتين . أما عقد الإمتياز Concession Contracts محل هذه الدراسة فهو عقد أحد أطرافه الدولة أو أحد أجهزتها والطرف الآخر شخص خاص معنوي (شركة – مؤسسة) أو طبيعي ويسمى صاحب الإمتياز – أو الملتزم – Concessionaire .
لقد أورد شراح القانون الغربيين تعاريف عديدة لعقد الإمتياز Concession Contracts منها تعريفهم له بأنه :" عقد يقوم بمقتضاه فرد أو أفراد بتنفيذ عمل ما على أساس مكافأتهم لقاء مجهودهم ومصروفاتهم ، لا بمبلغ من النقد يدفع لهم من قبل الحكومة بعد إتمام العمل ، بل بتسلم عائد يفرض لمدى أجل طويل إلى حد ما على الأفراد الذين يربحون من العمل " ..بينما ذهب البعض الأخر لتعريفه بأنه " منح حقوق لفرد ما بموجب القانون البلدي مما يتعلق بالصالح العام " (7). أما فقهاء القانون العرب فقد عرفوا عقد الإمتياز بأنه عقد بموجبه ""تعهد السلطة الإدارية في إدارة المرفق العام وإستغلاله إلى ملتزم يقوم بتمويل المرفق ويستقل بتبعاته المالية فيستأثر بكل الأرباح ويتحمل كل الخسائر " (8).
إنطلاقاً من هذا التعريف فإن عقد الإمتياز هو من أعمال السيادة التي تقوم بها الدولة أو أحد الأشخاص التابعة لها ويوصف بأنه "عقد دولة " (9) وبموجب هذا العقد يمنح شخص ما – طبيعي أو معنوي – حقاً دون سواه ويسمى هذا الشخص بـ "صاحب الإمتياز" ولعل أشهر فرد حصل على إمتياز في المنطقة العربية هو المقاول الفرنسي " دليسبس" الذي أنشأ قناة السويس كما أسلفنا ، وحيث أننا بصدد الحديث عن عقود البناء والتشغيل والإعادة (البوت) بوصفها أحد التطبيقات الهامة لعقود الإمتياز فمن الضروري أن نشير إلى أن المشروع المنفذ بطريقة الـ "البوت" يعتمد كلية في بنيته القانونية على عقد "الإمتياز" والذي بدوره يمثل الأساس لترتيبات قانونية تابعة عديدة ومعقدة سنتحدث عنها فيما بعد.
إن بروز تيار العولمةGlobalization (10) وسيطرة مفاهيم الإقتصاد الحر دون غيرها وتصاعد حركة إنتقال رؤوس الأموال عبر الدول قاد الإنظار لعقود الإمتياز Concession Contracts بوصفها أحد آليات تحرير الإقتصاد ..وهي أيضا في رأينا قد تكون ترياقاً يخفف من غلواء الخصخصة Privatization في شكلها المطلق وفق ما سنبينه لاحقاً .
_________________
.
الأشكال القانونية لعقد الإمتياز:
إن إستخدامات عقود الإمتياز بوصفها من التصرفات التي تقوم بها الدولة أو أحد أجهزتها التابعة بما لها من صلاحيات على الموارد والإمكانيات المتاحة لها لا يمكن حصرها ، ذلك أن هنالك الكثير مما هو تحت يد قطاعات الدولة المختلفة مما يمكن أن يكون محلاً لإمتياز يمنح لجهة ما . إلا أننا ونحن في معرض الحديث عن الأشكال القانونية لما قبل الخصخصة الكاملة للمرافق العامة يمكننا القول بأن هذه العقود لاتخرج عن أحد هذه الصيغ القانونية المتمثلة في إمتياز الإيجار و إمتياز البناء – التشغيل – الإعادة. إن هنالك بعض الكتابات تخلط ما بين عقود الإمتياز والتي لا تخرج عن الإيجار وإمتياز البناء والتشغيل والإعادة ومشتقاته وبين عقود التوريد والخدمات المتمثلة في "عقود التوريد والتنفيذ ، وعقود التشغيل الجزئي ، وعقود التشغيل" والفرق بين عقود الإمتياز وعقود التوريد والخدمات جوهره مدى مشاركة القطاع الخاص في هذه العقود فبينما تتميزعقود الإمتياز بمشاركة أعلى تصل إلى درجة الملكية الكاملة للمشاريع نجد دور القطاع الخاص في عقود التوريد والخدمات لا يتجاوز التشغيل ولا تكون له أي صلة بأصول المرفق محل عقود التوريد والخدمات (11).
سنتناول فيما يلي هذين النمطين من العقود – الإيجار والبوت - مع التركيز على النوع الثاني بإعتباره محور هذه الورقة، ولكون عقد تأجير المرافق العامة من العقود الشائعة.
(أ) عقد الإيجار:
إن تأجير مرافق القطاع العام لمستثمرين من الخواص بموجب إمتياز تمنحه الجهة المسئولة عن المرفق العام من العقود الشائعة والمعروفة . وتعتبر البلديات من أكثر مرافق الدولة إستخداماً لعقد التأجير Leasing حيث تقوم بتلزيم مستثمر من القطاع الخاص القيام بتشغيل مرفق عام وتقديم خدماته للجمهور وذلك مقابل جعل معين يدفع للبلدية ، ويلتزم هذا المستثمر بتقديم خدمة/خدمات المرفق لجمهور المستهلكين وفق ضوابط عقدية متفق عليها بين الدولة والمستأجر أهمها تحديد الدولة لسعر الخدمة التي سيقوم المستثمر بتقاضيها من جمهور المستهلكين بالإضافة لإلتزامه بصيانة المرفق طوال فترة العقد ، وبالطبع يهدف المستثمر إلى تحقيق هامش ربح مجزي له ، وتتراوح مدة إيجار المرفق ما بين 5 إلى 10 سنوات وعموماً عقود الإيجارة تتراوح مابين قصيرة إلى متوسطة الأجل (12).
ويعتبر عقد الإيجار من عقود الإمتياز القديمة والشائعة التطبيق حيث تعمد الدولة وتحديداً أجهزتها البلدية في غالب الأحيان لمنح مستثمر - يسمى عند شراح القانون "الملتزم" - إمتياز تقديم خدمة كانت هي التي تقدمها للجمهور " وقد لا يمنح الملتزم حق الإحتكار القانوني ، بل يمنح حق إمتياز Privilege . ومعنى ذلك أن غيره من الأفراد أو الشركات لا يمنع قانوناً من إستغلال المرفق ، ولكن السلطة الإدارية تتعهد للملتزم بألا تمنح لغيره من المنافسين له التسهيلات التي تمنحها إياه " (13) ، و نسبة لإرتباط هذه الخدمة بمصالح للجمهور فإن الدولة تعمد إلى تحديد أسعار الخدمة/الخدمات التي يقدمها المرفق ومن هنا فإنها لكي تمكن المستثمر من تحقيق قدر معقول من الربح تمنحه إمتيازاً يحمي إدارته للمرفق من أي منافسة تعرضه للخسارة.
لما سبق يمكننا القول بأن عقود الإيجار كغيرها من عقود الإمتياز تتطلب إجراءات ذات شفافية عالية في طرح المرافق للإيجار تسبقها دراسات وافية عن مزايا التشغيل التجاري من الناحية الإقتصادية (دراسات الجدوى) ودراسات تقوم بها البلديات عن أقل الأسعار التي يمكن أن تفرض على متلقي الخدمة وتمكن في ذات الوقت مستأجر المرفق Concessionaire من الحصول على قدر معقول من الربحية مع إستمرار صيانة المرفق والحفاظ على مقومات بقائه . وتعد هذه العوامل الأخيرة وغيرها المبرر الموضوعي للجوء إلى خيار الإستعانة بالقطاع الخاص في إدارة المرافق البلدية بمختلف الصيغ (14).
من أشكال المرافق البلدية التي يمكن أن تكون محلاً لعقود الإيجار: مواقع الإعلانات، مدن الملاهي ومراكز الترفيه وحدائق الحيوان ، الأسواق العامة ،المسالخ وحظائر المواشي (15).
إن عقد إيجار المرافق العامة ومنح إمتياز الإدارة في شكله التقليدي في طريقه للزوال ، وسيتم في الغالب إعتماد صيغ جديدة تشتق من نظام "البوت" يكون هدفها بالإضافة إلى تشغيل المرفق العمل على تحديثه أو إعادة تأهيله.
(ب) عقد البناء – التشغيل – الإعادة:
إشتهر هذا التطبيق المعروف إصطلاحاً بـ BOT في العقدين الماضيين وهو إختصار للكلمات الثلاث : Build – Operate – Transfer وتعني (البناء – التشغيل – الإعادة) أو (البناء – التملك – الإعادة) وقد ترد بصورة أخرى وهي BOOT والتي هي إختصار لـ : Build – Own – Operate – Transfer وتعني (البناء – التملك – التشغيل – الإعادة) .
يعتبر هذا النمط من المشاريع "البوت" أهم تطبيق لعقود الإمتياز كآلية قانونية توفر للدولة ذات فوائد الخصخصة دون أن تفقدها أصول الإستثمارات مثلما يحدث في الخصخصة الكاملة. وقد إشتهر هذا النوع من العقود وأصبح إصطلاح الـ BOT شائعاً بعد أن ظهر هذا المسمى في بداية 1980م على يد رئيس الوزراء التركي السابق تورقوت أوزال حيث أصبح يشار لهذا المصطلح في كثير من الكتابات المتخصصة بمعادلة/ وصفة أوزال Ozal Formula(16).
إن الكتابات التي تناولت مشاريع البناء ، التشغيل ، الإعادة كانت تشير لها بوصفها (Concept) "مفهوم" أو(Strategy) "خطة" و "البوت" يمكن وصفه بأنه نمط أو نظام أكثر من كونه عقد وذلك لإشتماله وإحتوائه على عدة عقود لذا فإنها من الناحية القانونية قد تكون أقرب للإتفاقية من كونها عقد عادي وذلك لأنها ترتب إلتزامات وعقود أخرى ، فهي بالإضافة لعقد أو إتفاق الإمتياز تتضمن إتفاقية تمويل مع جهة أو جهات ممولة ، توجد إتفاقية التنفيذ التي غالباً ما تتضمن تعاقداً مع شركة مقاولات أو مصنع لمعدات ..إلخ وكذلك قد تشتمل على إتفاقية مع جهة مشغلة للمشروع ..أما دور مانح الإمتياز سواء كان الدولة أو أحد أجهزتها فإنه حيوي وهام خصوصاً في مرحلة ما قبل التعاقد ومنح الإمتياز حيث تقوم الجهة الحكومية بإعداد دراسات جدوى المشروع ، وقد تكون هذه الدراسات معمقة بحيث تشتمل على الجدوى الإقتصادية وكذلك قابلية المشروع للتمويل ومن ثم تعد الجهة الحكومية كافة المستندات المتعلقة بالمشروع وصولاً لمرحلة طرحه للمستثمرين (17). وأحياناً قد يكتفي القطاع الحكومي بدراسات أولية عن جدوى المشروع ويهتم بالأطر القانونية ، ومن ثم يترك للقطاع الخاص عملية إعداد الدراسات العميقة خصوصاً الإقتصادية والتمويلية.
إن السمة الأساسية لنظام "البوت" أنها إتفاقية قانونية توفر تمويل من القطاع الخاص لتنفيذ مشروع تعود ملكيته بعد فترة زمنية محددة إلى الدولة ، ولهذا النوع من العقود "البوت " أنماط متفرعة عديدة بيد أن كل هذه تعتبر إشتقاقات من التطبيق الأساس القائم على فكرة " البناء – التشغيل – الإعادة " وأهم هـذه الإشـتقاقات تتمثل في :
- عقد التمويل ،البناء،التملك،التشغيل، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( FBOOT )
- عقد البناء،التشغيل، التأجير ، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOL )
- عقد التصميم ،البناء،التشغيل، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( DBOT )
- عقد البناء،التشغيل، التسليم ، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOD )
- عقد ،البناء،التملك،التشغيل،الدعم، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOOST )
- عقد البناء،التأجير، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( BRT )
- عقد البناء، الإعادة ،التشغيل ، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BTO)
وتستخدم الكثير من هذه الإصطلاحات أحياناً كأسماء بديلة لنظام " البوت " ، وعلى الرغم من أن بعضها يرمز إلى مشاريع تختلف في بعض جوانبها عن تعريف مشروع البوت إلا أنها في غالب الحال لا تخرج عن الوظيفة الرئيسية التي تتميز بها المشاريع المنفذة باسلوب "البوت" . إن كثير من الكتابات لا تفصل بصورة واضحة بين "البوت" وما بين العقود المشتقة منه وبين أنظمة تعاقد أخرى تختلف عنه ولكنها شبيهة به، ولذلك فإننا قد تعمدنا في هذه الورقة عدم الحديث عن عقد البناء،التملك،التشغيل، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOO ) والعقود المشابهة له مثل (ROO) و(MOO) وغيرها من أشكال الأخرى المماثلة وذلك لكونها تخرج عن المفهوم الجزئي للخصخصة ولا تتضمن الخاصية الرئيسة لبقية تفريعات وإشتقاقات عقود البوت التي أوردناها وهي خاصية إعادة (تحويل) ملكية المشروع من القطاع الخاص إلى الدولة بعد إتنهاء فترة عقد الإمتياز. إن لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال) في معرض تعريفها للمصطلحات المتعلقة بمشاريع البنية التحتية تحدثت عن "البناء فالتشغيل فنقل الملكية (بوت) (BOT) والتعابير ذات الصلة" وأوردت شرحاً للمصطلح بأنه وصفاً يطلق على مشروع البنية التحتية حينما " تختار السلطة المتعاقدة صاحب إمتياز لتمويل وتشييد مرفق أو نظام للبنية التحتية ، وتعطي هذا الكيان حق تشغيل المرفق على أساس تجاري لفترة معينة، تنتقل ملكية المرفق بعد إنقضائها إلى السلطة المتعاقدة" وأوردت أيضاً خمس إشتقاقات رئيسية أدرجت تحت هذا المصطلح إحداها المشاريع المنفذة بأسلوب الـ BOO ، ونرى أنه مع تزايد الكتابات في هذا الموضوع والإهتمام الذي توليه دوائر كثيرة له يجب أن يتم فصل منهجي ما بين أنواع هذه الإتفاقيات يعتمد على التفرقة بين المشاريع الهادفة للخصخصة الجزئية وتلك التي تهدف للخصخصة الكاملة (18).
_________________
.
ماهو الإستخدام الأمثل لصيغ عقود الإمتياز:
كما سبق وأوضحنا في مقدمة هذه الورقة فإن اللجوء للخصخصة بات ضرورة لا مفر منها في ظل التطورات الإقتصادية الدولية الراهنة ، فقد " أصبح الإعتماد على السوق العالمية للمال أساسياً للحصول على الرساميل والتكنلوجيا اللازمة للتنمية ، ولما كانت هذه السوق تعمل عبر العالم ، بموجب آليات ذاتية، تعمل وفقاً لمبدأ الربح والخسارة ومراعاة مخاطر الإستثمار المتنوعة، فقد أصبح من الضروري أن تبتدئ الدول النامية في الإنسجام مع هذه الآليات، وذلك بجعل إقتصادياتها تعمل وفقاً لمتطلبات هذه السوق" (19).إن الإهتمام بالتمويل أصبح منصرفاً إلى المشاريع التي تدار على أساس الربحية البحتة.
إن إنتقال البنية الإقتصادية في دول العالم الثالث والدول النامية تحديداً من تبني الإقتصاد الموجه إلى الإقتصاد الحر لابد أن يتسم بالتدرج وأن يأخذ قدراً كافياً من الزمن تستطيع فيه هذه الدول لململة أطرافها في ظل التشوهات التي تعانيها بنية هذه الدول عموماً وإقتصادها على وجه التحديد. فبدلاً من الإنتقال من نقيض إلى نقيض فإن على هذه الدول تبني سياسات متدرجة تستطيع من خلالها تغيير النمط الإقتصادي بدون نقلات فجائية ذات آثار سلبية عميقة وتمثل آليات الخصخصة الجزئية أفضل هذه السياسات (20).
من أهم إحدى هذه الآليات التي يمكن أن تنقل إقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق الحر بتدرج يحفظ للدولة قدر من توجيهها للإقتصاد بحيث يمكنها تلافي أي سلبيات إجتماعية أو سياسية مصاحبة للتغييرات الإقتصادية آلية قانونية تتمثل في إستخدام عقود الإمتياز وتحديداً نظام "البوت" والعقود الأخرى المشتقة منه ، سنقوم فيما يلي بإستعراض بعض أنواع هذه العقود وتبيان فائدتها في التحول التدريجي لإقتصاد السوق الحر:
عقود البناء – التشغيل – الإعادة:
هذا النمط من العقود يمكن الجهة الحكومية سواء ً كانت الدولة أو أحد أجهزتها من توفير خدمة جديدة للجمهور دون أن تضطر إلى دفع تكاليف هذه الخدمة حيث يتكفل الطرف الذي تتعاقد معه الجهة الحكومية بتوفير رأس المال وإنشاء المرفق وتشغيله طوال أجل متفق عليه بناءً على أسس تجارية تتيح للمستثمر إمكانية تحصيل رأس المال المدفوع في إنشاء المرفق وكذلك تحقيق هامش ربح مجزي.
إن الدولة في قطاعاتها وأجهزتها المختلفة والبلديات على وجه الخصوص يمكنها إستخدام هذا النمط من التعاقد في حال وجود طلب على تأسيس مرافق خدمية جديدة ، حيث أن التوسع الذي تشهده المدن بسبب من إزدياد الكثافة السكانية يتطلب توفير خدمات جديدة ومثال ذلك المستشفيات – المدارس – الطرق – شبكات الإتصال – محطات الطاقة – محطات تنقية المياه – شبكات ومحطات الصرف الصحي - وسائل المواصلات ذات التكلفة العالية مثل السكك الحديدية أو قطارات الإنفاق..إلخ (21).
عقد إعادة التأهيل –التشغيل- الإعادة:
ويعرف هذا النوع من العقود إختصارأً بعقد الـ ROT وهي إختصار لـ Rehabilitate – Operate – Transfer وتعني : إعادة التأهيل – التشغيل – الإعادة. هذا النمط من العقود ذ و فائدة جمة في إعادة الحياة للمرافق القديمة التي تحتاج لإعادة تأهيل ، و عادة ما يحتاج المرفق لإعادة التأهيل بسبب الكوراث الطبيعية – الأمطار ،الفيضانات ،الزلازل – أو بسبب أفعال الإنسان من حروب ونزاعات مسلحة. عقد الـ ROT يختلف عن عقد الـ BOT في كون إعادة التأهيل تنصب على مرافق قائمة كلياً أو جزئياً وبغض النظر عن التكلفة التي قد تنقص أو تزيد عن عقد الـ BOT فإن وجود المرفق من قبل له دلالات إقتصادية من ناحية الجدوى والأهمية . وقد أعطت بعض قوانين الخصخصة العربية الجهة الحكومية حقاً جوازياً في الإشتراط على القطاع الخاص الراغب في شراء المرفق العام أو المشاركة في إدارته إعادة تأهيل هذا المرفق (22).
عقد التحديث –التشغيل- الإعادة:
ويعرف هذا النوع من العقود إختصارأً بعقد الـ MOTوهي إختصار لـ : Modernize – Operate – Transfer وتعني : التحديث – التشغيل – الإعادة. وينصرف هذا النوع من التعاقد وفق ما يدل عليه مسماه إلى تحديث مرفق قائم حيث يقوم المستثمر بالإنفاق على عملية التحديث ومن ثم تشغيل المرفق وتقاضي مقابل هذا التشغيل لحين إعادة رأس المال المدفوع في التحديث مع تحقيق هامش الربح المتفق عليه. إن التطورات التكنلوجية المذهلة والتي لها فوائد كبيرة في تقليل هدر الموارد الطبيعية أو تقليل الآثار البيئية الضارة.. إلخ كل هذه وغيرها إعتبارات تدخل في العوامل التي تحدد حوجة المرفق للتحديث. هذا العقد يشابه عقد إعادة التأهيل الـ ROT مع إختلافات بسيطة .
إن هذه الصيغ وغيرها مما سبـق وأوردناه من إشـتقاقات مثل ( FBOOT ) و( BOL ) و( DBOT ) و ( BOD ) و( BOOST ) و( BRT ) و( BTO) هذه الصيغ جميعها وغيرها مما يمكن إستحداثه يمكن أن يكون محل توظيف كعقود تدعم توجه الدولة وأجهزتها المحلية في إستقطاب التمويل من القطاع الخاص.
_________________
.
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
الإمتياز إصطلاحاً هو حق تمنحه الدولة أو أحد أجهزتها لشخص من القطاع الخاص سواء أكان طبيعياً أو معنوياً وقد يكون وطنياً أو أجنبياً ، ويعتبر الإمتياز في الفقه القانوني أحد الأساليب التي تدار بها المرافق العامة ، وتبعاً لتاريخ بدايات هذا النوع من العقود فإنه قد بدأ في شكل إلتزام يقوم بموجبه الملتزم بأشغال عامة حيث يعتبر عقد إمتياز نقل الماء الشروب (النقي) لمدينة باريس في القرن الثامن عشر أقدم عقود الإمتياز المعروفة ، بيد أن التطبيقات الضخمة والطموحة لعقود الإمتياز نجدها متمثلة في عقد إنشاء قناة السويس (2) حيث كانت أعمال حفر القنال هي أساس الإلتزام أما الإدارة (التشغيل) فقد كانت إلتزام تابع للإلتزام الأساس " ذلك أن إستغلال المرفق – ويستتبع ذلك إدارته – كان يعتبر هو المقابل الذي يأخذه الملتزم في نظير تنفيذ الأشغال العامة التي يتطلبها إنشاء المرفق" (3). لاحقاً وتبعاً للتطورات الإقتصادية أصبح الأكثر إستخداماً هو إمتياز إدارة المرافق العمومية.
في الآونة الأخيرة شاع إستخدام مصطلح "إتفاقية" بدلاً عن "عقد" فيما يتعلق بعقود الإمتياز ، ويرجع السبب في ذلك لكون هذا النمط من العقود كثر إستخدامه في القرن الماضي في إتفاقيات تنقيب البترول لدرجة أصبح مصطلح إمتياز رديف لهذه الإتفاقيات وصار أي حديث عن "الإمتيازات" قرين بإتفاقيات شركات النفط مع الدول المنتجة ، بل إن معظم كتب الفقه القانوني كانت تعالج موضوع الإمتيازات حصراً في إطار دراستها لإتفاقيات البترول ومؤخراً لم يهتم إلا بعض الشراح بالحديث عن "الإمتياز" بمفهومه الواسع (4). ومن المفارقات أنه مع أفول نجم عقود الإمتياز في مجال البترول وظهور صيغ جديدة تبنتها الدول المنتجة للنفط (5) فإن نجم عقود الإمتياز بمفهومها الذي بدأت به في القرن الثامن عشر كما ذكرنا آنفاً قد أخذ في البريق واللمعان ..إذ أن التطورات الإقتصادية مطلع هذا القرن – الحادي والعشرين – أعادت للأذهان بدايات التعامل مع هذا النمط من العقود.
ينبغي في هذا المقام أن نفرق بين ما نحن بصدد دراسته وهو عقد الإمتياز Concession Contract وبين عقد الإمتياز التجاري Franchise Contract وهذا الأخير هو " نظاماً جديداً لتسويق البضائع والخدمات من أفكار النظام الأمريكي وهي في نطاقها ومعناها تقع بين عقود التوزيع وعقود التراخيص Licensing Agreement وقد نشأت أولاً في داخل الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم بدأ إستخدامها من قبل الشركات الأمريكية على النطاق الدولي" (6) ، وهو عقد يرتب علاقة بين شركتين أو مؤسستين خاصتين . أما عقد الإمتياز Concession Contracts محل هذه الدراسة فهو عقد أحد أطرافه الدولة أو أحد أجهزتها والطرف الآخر شخص خاص معنوي (شركة – مؤسسة) أو طبيعي ويسمى صاحب الإمتياز – أو الملتزم – Concessionaire .
لقد أورد شراح القانون الغربيين تعاريف عديدة لعقد الإمتياز Concession Contracts منها تعريفهم له بأنه :" عقد يقوم بمقتضاه فرد أو أفراد بتنفيذ عمل ما على أساس مكافأتهم لقاء مجهودهم ومصروفاتهم ، لا بمبلغ من النقد يدفع لهم من قبل الحكومة بعد إتمام العمل ، بل بتسلم عائد يفرض لمدى أجل طويل إلى حد ما على الأفراد الذين يربحون من العمل " ..بينما ذهب البعض الأخر لتعريفه بأنه " منح حقوق لفرد ما بموجب القانون البلدي مما يتعلق بالصالح العام " (7). أما فقهاء القانون العرب فقد عرفوا عقد الإمتياز بأنه عقد بموجبه ""تعهد السلطة الإدارية في إدارة المرفق العام وإستغلاله إلى ملتزم يقوم بتمويل المرفق ويستقل بتبعاته المالية فيستأثر بكل الأرباح ويتحمل كل الخسائر " (8).
إنطلاقاً من هذا التعريف فإن عقد الإمتياز هو من أعمال السيادة التي تقوم بها الدولة أو أحد الأشخاص التابعة لها ويوصف بأنه "عقد دولة " (9) وبموجب هذا العقد يمنح شخص ما – طبيعي أو معنوي – حقاً دون سواه ويسمى هذا الشخص بـ "صاحب الإمتياز" ولعل أشهر فرد حصل على إمتياز في المنطقة العربية هو المقاول الفرنسي " دليسبس" الذي أنشأ قناة السويس كما أسلفنا ، وحيث أننا بصدد الحديث عن عقود البناء والتشغيل والإعادة (البوت) بوصفها أحد التطبيقات الهامة لعقود الإمتياز فمن الضروري أن نشير إلى أن المشروع المنفذ بطريقة الـ "البوت" يعتمد كلية في بنيته القانونية على عقد "الإمتياز" والذي بدوره يمثل الأساس لترتيبات قانونية تابعة عديدة ومعقدة سنتحدث عنها فيما بعد.
إن بروز تيار العولمةGlobalization (10) وسيطرة مفاهيم الإقتصاد الحر دون غيرها وتصاعد حركة إنتقال رؤوس الأموال عبر الدول قاد الإنظار لعقود الإمتياز Concession Contracts بوصفها أحد آليات تحرير الإقتصاد ..وهي أيضا في رأينا قد تكون ترياقاً يخفف من غلواء الخصخصة Privatization في شكلها المطلق وفق ما سنبينه لاحقاً .
_________________
.
الأشكال القانونية لعقد الإمتياز:
إن إستخدامات عقود الإمتياز بوصفها من التصرفات التي تقوم بها الدولة أو أحد أجهزتها التابعة بما لها من صلاحيات على الموارد والإمكانيات المتاحة لها لا يمكن حصرها ، ذلك أن هنالك الكثير مما هو تحت يد قطاعات الدولة المختلفة مما يمكن أن يكون محلاً لإمتياز يمنح لجهة ما . إلا أننا ونحن في معرض الحديث عن الأشكال القانونية لما قبل الخصخصة الكاملة للمرافق العامة يمكننا القول بأن هذه العقود لاتخرج عن أحد هذه الصيغ القانونية المتمثلة في إمتياز الإيجار و إمتياز البناء – التشغيل – الإعادة. إن هنالك بعض الكتابات تخلط ما بين عقود الإمتياز والتي لا تخرج عن الإيجار وإمتياز البناء والتشغيل والإعادة ومشتقاته وبين عقود التوريد والخدمات المتمثلة في "عقود التوريد والتنفيذ ، وعقود التشغيل الجزئي ، وعقود التشغيل" والفرق بين عقود الإمتياز وعقود التوريد والخدمات جوهره مدى مشاركة القطاع الخاص في هذه العقود فبينما تتميزعقود الإمتياز بمشاركة أعلى تصل إلى درجة الملكية الكاملة للمشاريع نجد دور القطاع الخاص في عقود التوريد والخدمات لا يتجاوز التشغيل ولا تكون له أي صلة بأصول المرفق محل عقود التوريد والخدمات (11).
سنتناول فيما يلي هذين النمطين من العقود – الإيجار والبوت - مع التركيز على النوع الثاني بإعتباره محور هذه الورقة، ولكون عقد تأجير المرافق العامة من العقود الشائعة.
(أ) عقد الإيجار:
إن تأجير مرافق القطاع العام لمستثمرين من الخواص بموجب إمتياز تمنحه الجهة المسئولة عن المرفق العام من العقود الشائعة والمعروفة . وتعتبر البلديات من أكثر مرافق الدولة إستخداماً لعقد التأجير Leasing حيث تقوم بتلزيم مستثمر من القطاع الخاص القيام بتشغيل مرفق عام وتقديم خدماته للجمهور وذلك مقابل جعل معين يدفع للبلدية ، ويلتزم هذا المستثمر بتقديم خدمة/خدمات المرفق لجمهور المستهلكين وفق ضوابط عقدية متفق عليها بين الدولة والمستأجر أهمها تحديد الدولة لسعر الخدمة التي سيقوم المستثمر بتقاضيها من جمهور المستهلكين بالإضافة لإلتزامه بصيانة المرفق طوال فترة العقد ، وبالطبع يهدف المستثمر إلى تحقيق هامش ربح مجزي له ، وتتراوح مدة إيجار المرفق ما بين 5 إلى 10 سنوات وعموماً عقود الإيجارة تتراوح مابين قصيرة إلى متوسطة الأجل (12).
ويعتبر عقد الإيجار من عقود الإمتياز القديمة والشائعة التطبيق حيث تعمد الدولة وتحديداً أجهزتها البلدية في غالب الأحيان لمنح مستثمر - يسمى عند شراح القانون "الملتزم" - إمتياز تقديم خدمة كانت هي التي تقدمها للجمهور " وقد لا يمنح الملتزم حق الإحتكار القانوني ، بل يمنح حق إمتياز Privilege . ومعنى ذلك أن غيره من الأفراد أو الشركات لا يمنع قانوناً من إستغلال المرفق ، ولكن السلطة الإدارية تتعهد للملتزم بألا تمنح لغيره من المنافسين له التسهيلات التي تمنحها إياه " (13) ، و نسبة لإرتباط هذه الخدمة بمصالح للجمهور فإن الدولة تعمد إلى تحديد أسعار الخدمة/الخدمات التي يقدمها المرفق ومن هنا فإنها لكي تمكن المستثمر من تحقيق قدر معقول من الربح تمنحه إمتيازاً يحمي إدارته للمرفق من أي منافسة تعرضه للخسارة.
لما سبق يمكننا القول بأن عقود الإيجار كغيرها من عقود الإمتياز تتطلب إجراءات ذات شفافية عالية في طرح المرافق للإيجار تسبقها دراسات وافية عن مزايا التشغيل التجاري من الناحية الإقتصادية (دراسات الجدوى) ودراسات تقوم بها البلديات عن أقل الأسعار التي يمكن أن تفرض على متلقي الخدمة وتمكن في ذات الوقت مستأجر المرفق Concessionaire من الحصول على قدر معقول من الربحية مع إستمرار صيانة المرفق والحفاظ على مقومات بقائه . وتعد هذه العوامل الأخيرة وغيرها المبرر الموضوعي للجوء إلى خيار الإستعانة بالقطاع الخاص في إدارة المرافق البلدية بمختلف الصيغ (14).
من أشكال المرافق البلدية التي يمكن أن تكون محلاً لعقود الإيجار: مواقع الإعلانات، مدن الملاهي ومراكز الترفيه وحدائق الحيوان ، الأسواق العامة ،المسالخ وحظائر المواشي (15).
إن عقد إيجار المرافق العامة ومنح إمتياز الإدارة في شكله التقليدي في طريقه للزوال ، وسيتم في الغالب إعتماد صيغ جديدة تشتق من نظام "البوت" يكون هدفها بالإضافة إلى تشغيل المرفق العمل على تحديثه أو إعادة تأهيله.
(ب) عقد البناء – التشغيل – الإعادة:
إشتهر هذا التطبيق المعروف إصطلاحاً بـ BOT في العقدين الماضيين وهو إختصار للكلمات الثلاث : Build – Operate – Transfer وتعني (البناء – التشغيل – الإعادة) أو (البناء – التملك – الإعادة) وقد ترد بصورة أخرى وهي BOOT والتي هي إختصار لـ : Build – Own – Operate – Transfer وتعني (البناء – التملك – التشغيل – الإعادة) .
يعتبر هذا النمط من المشاريع "البوت" أهم تطبيق لعقود الإمتياز كآلية قانونية توفر للدولة ذات فوائد الخصخصة دون أن تفقدها أصول الإستثمارات مثلما يحدث في الخصخصة الكاملة. وقد إشتهر هذا النوع من العقود وأصبح إصطلاح الـ BOT شائعاً بعد أن ظهر هذا المسمى في بداية 1980م على يد رئيس الوزراء التركي السابق تورقوت أوزال حيث أصبح يشار لهذا المصطلح في كثير من الكتابات المتخصصة بمعادلة/ وصفة أوزال Ozal Formula(16).
إن الكتابات التي تناولت مشاريع البناء ، التشغيل ، الإعادة كانت تشير لها بوصفها (Concept) "مفهوم" أو(Strategy) "خطة" و "البوت" يمكن وصفه بأنه نمط أو نظام أكثر من كونه عقد وذلك لإشتماله وإحتوائه على عدة عقود لذا فإنها من الناحية القانونية قد تكون أقرب للإتفاقية من كونها عقد عادي وذلك لأنها ترتب إلتزامات وعقود أخرى ، فهي بالإضافة لعقد أو إتفاق الإمتياز تتضمن إتفاقية تمويل مع جهة أو جهات ممولة ، توجد إتفاقية التنفيذ التي غالباً ما تتضمن تعاقداً مع شركة مقاولات أو مصنع لمعدات ..إلخ وكذلك قد تشتمل على إتفاقية مع جهة مشغلة للمشروع ..أما دور مانح الإمتياز سواء كان الدولة أو أحد أجهزتها فإنه حيوي وهام خصوصاً في مرحلة ما قبل التعاقد ومنح الإمتياز حيث تقوم الجهة الحكومية بإعداد دراسات جدوى المشروع ، وقد تكون هذه الدراسات معمقة بحيث تشتمل على الجدوى الإقتصادية وكذلك قابلية المشروع للتمويل ومن ثم تعد الجهة الحكومية كافة المستندات المتعلقة بالمشروع وصولاً لمرحلة طرحه للمستثمرين (17). وأحياناً قد يكتفي القطاع الحكومي بدراسات أولية عن جدوى المشروع ويهتم بالأطر القانونية ، ومن ثم يترك للقطاع الخاص عملية إعداد الدراسات العميقة خصوصاً الإقتصادية والتمويلية.
إن السمة الأساسية لنظام "البوت" أنها إتفاقية قانونية توفر تمويل من القطاع الخاص لتنفيذ مشروع تعود ملكيته بعد فترة زمنية محددة إلى الدولة ، ولهذا النوع من العقود "البوت " أنماط متفرعة عديدة بيد أن كل هذه تعتبر إشتقاقات من التطبيق الأساس القائم على فكرة " البناء – التشغيل – الإعادة " وأهم هـذه الإشـتقاقات تتمثل في :
- عقد التمويل ،البناء،التملك،التشغيل، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( FBOOT )
- عقد البناء،التشغيل، التأجير ، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOL )
- عقد التصميم ،البناء،التشغيل، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( DBOT )
- عقد البناء،التشغيل، التسليم ، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOD )
- عقد ،البناء،التملك،التشغيل،الدعم، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOOST )
- عقد البناء،التأجير، الإعادة والذي يعرف إختصاراً بـ ( BRT )
- عقد البناء، الإعادة ،التشغيل ، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BTO)
وتستخدم الكثير من هذه الإصطلاحات أحياناً كأسماء بديلة لنظام " البوت " ، وعلى الرغم من أن بعضها يرمز إلى مشاريع تختلف في بعض جوانبها عن تعريف مشروع البوت إلا أنها في غالب الحال لا تخرج عن الوظيفة الرئيسية التي تتميز بها المشاريع المنفذة باسلوب "البوت" . إن كثير من الكتابات لا تفصل بصورة واضحة بين "البوت" وما بين العقود المشتقة منه وبين أنظمة تعاقد أخرى تختلف عنه ولكنها شبيهة به، ولذلك فإننا قد تعمدنا في هذه الورقة عدم الحديث عن عقد البناء،التملك،التشغيل، والذي يعرف إختصاراً بـ ( BOO ) والعقود المشابهة له مثل (ROO) و(MOO) وغيرها من أشكال الأخرى المماثلة وذلك لكونها تخرج عن المفهوم الجزئي للخصخصة ولا تتضمن الخاصية الرئيسة لبقية تفريعات وإشتقاقات عقود البوت التي أوردناها وهي خاصية إعادة (تحويل) ملكية المشروع من القطاع الخاص إلى الدولة بعد إتنهاء فترة عقد الإمتياز. إن لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال) في معرض تعريفها للمصطلحات المتعلقة بمشاريع البنية التحتية تحدثت عن "البناء فالتشغيل فنقل الملكية (بوت) (BOT) والتعابير ذات الصلة" وأوردت شرحاً للمصطلح بأنه وصفاً يطلق على مشروع البنية التحتية حينما " تختار السلطة المتعاقدة صاحب إمتياز لتمويل وتشييد مرفق أو نظام للبنية التحتية ، وتعطي هذا الكيان حق تشغيل المرفق على أساس تجاري لفترة معينة، تنتقل ملكية المرفق بعد إنقضائها إلى السلطة المتعاقدة" وأوردت أيضاً خمس إشتقاقات رئيسية أدرجت تحت هذا المصطلح إحداها المشاريع المنفذة بأسلوب الـ BOO ، ونرى أنه مع تزايد الكتابات في هذا الموضوع والإهتمام الذي توليه دوائر كثيرة له يجب أن يتم فصل منهجي ما بين أنواع هذه الإتفاقيات يعتمد على التفرقة بين المشاريع الهادفة للخصخصة الجزئية وتلك التي تهدف للخصخصة الكاملة (18).
_________________
.
ماهو الإستخدام الأمثل لصيغ عقود الإمتياز:
كما سبق وأوضحنا في مقدمة هذه الورقة فإن اللجوء للخصخصة بات ضرورة لا مفر منها في ظل التطورات الإقتصادية الدولية الراهنة ، فقد " أصبح الإعتماد على السوق العالمية للمال أساسياً للحصول على الرساميل والتكنلوجيا اللازمة للتنمية ، ولما كانت هذه السوق تعمل عبر العالم ، بموجب آليات ذاتية، تعمل وفقاً لمبدأ الربح والخسارة ومراعاة مخاطر الإستثمار المتنوعة، فقد أصبح من الضروري أن تبتدئ الدول النامية في الإنسجام مع هذه الآليات، وذلك بجعل إقتصادياتها تعمل وفقاً لمتطلبات هذه السوق" (19).إن الإهتمام بالتمويل أصبح منصرفاً إلى المشاريع التي تدار على أساس الربحية البحتة.
إن إنتقال البنية الإقتصادية في دول العالم الثالث والدول النامية تحديداً من تبني الإقتصاد الموجه إلى الإقتصاد الحر لابد أن يتسم بالتدرج وأن يأخذ قدراً كافياً من الزمن تستطيع فيه هذه الدول لململة أطرافها في ظل التشوهات التي تعانيها بنية هذه الدول عموماً وإقتصادها على وجه التحديد. فبدلاً من الإنتقال من نقيض إلى نقيض فإن على هذه الدول تبني سياسات متدرجة تستطيع من خلالها تغيير النمط الإقتصادي بدون نقلات فجائية ذات آثار سلبية عميقة وتمثل آليات الخصخصة الجزئية أفضل هذه السياسات (20).
من أهم إحدى هذه الآليات التي يمكن أن تنقل إقتصاد الدولة إلى إقتصاد السوق الحر بتدرج يحفظ للدولة قدر من توجيهها للإقتصاد بحيث يمكنها تلافي أي سلبيات إجتماعية أو سياسية مصاحبة للتغييرات الإقتصادية آلية قانونية تتمثل في إستخدام عقود الإمتياز وتحديداً نظام "البوت" والعقود الأخرى المشتقة منه ، سنقوم فيما يلي بإستعراض بعض أنواع هذه العقود وتبيان فائدتها في التحول التدريجي لإقتصاد السوق الحر:
عقود البناء – التشغيل – الإعادة:
هذا النمط من العقود يمكن الجهة الحكومية سواء ً كانت الدولة أو أحد أجهزتها من توفير خدمة جديدة للجمهور دون أن تضطر إلى دفع تكاليف هذه الخدمة حيث يتكفل الطرف الذي تتعاقد معه الجهة الحكومية بتوفير رأس المال وإنشاء المرفق وتشغيله طوال أجل متفق عليه بناءً على أسس تجارية تتيح للمستثمر إمكانية تحصيل رأس المال المدفوع في إنشاء المرفق وكذلك تحقيق هامش ربح مجزي.
إن الدولة في قطاعاتها وأجهزتها المختلفة والبلديات على وجه الخصوص يمكنها إستخدام هذا النمط من التعاقد في حال وجود طلب على تأسيس مرافق خدمية جديدة ، حيث أن التوسع الذي تشهده المدن بسبب من إزدياد الكثافة السكانية يتطلب توفير خدمات جديدة ومثال ذلك المستشفيات – المدارس – الطرق – شبكات الإتصال – محطات الطاقة – محطات تنقية المياه – شبكات ومحطات الصرف الصحي - وسائل المواصلات ذات التكلفة العالية مثل السكك الحديدية أو قطارات الإنفاق..إلخ (21).
عقد إعادة التأهيل –التشغيل- الإعادة:
ويعرف هذا النوع من العقود إختصارأً بعقد الـ ROT وهي إختصار لـ Rehabilitate – Operate – Transfer وتعني : إعادة التأهيل – التشغيل – الإعادة. هذا النمط من العقود ذ و فائدة جمة في إعادة الحياة للمرافق القديمة التي تحتاج لإعادة تأهيل ، و عادة ما يحتاج المرفق لإعادة التأهيل بسبب الكوراث الطبيعية – الأمطار ،الفيضانات ،الزلازل – أو بسبب أفعال الإنسان من حروب ونزاعات مسلحة. عقد الـ ROT يختلف عن عقد الـ BOT في كون إعادة التأهيل تنصب على مرافق قائمة كلياً أو جزئياً وبغض النظر عن التكلفة التي قد تنقص أو تزيد عن عقد الـ BOT فإن وجود المرفق من قبل له دلالات إقتصادية من ناحية الجدوى والأهمية . وقد أعطت بعض قوانين الخصخصة العربية الجهة الحكومية حقاً جوازياً في الإشتراط على القطاع الخاص الراغب في شراء المرفق العام أو المشاركة في إدارته إعادة تأهيل هذا المرفق (22).
عقد التحديث –التشغيل- الإعادة:
ويعرف هذا النوع من العقود إختصارأً بعقد الـ MOTوهي إختصار لـ : Modernize – Operate – Transfer وتعني : التحديث – التشغيل – الإعادة. وينصرف هذا النوع من التعاقد وفق ما يدل عليه مسماه إلى تحديث مرفق قائم حيث يقوم المستثمر بالإنفاق على عملية التحديث ومن ثم تشغيل المرفق وتقاضي مقابل هذا التشغيل لحين إعادة رأس المال المدفوع في التحديث مع تحقيق هامش الربح المتفق عليه. إن التطورات التكنلوجية المذهلة والتي لها فوائد كبيرة في تقليل هدر الموارد الطبيعية أو تقليل الآثار البيئية الضارة.. إلخ كل هذه وغيرها إعتبارات تدخل في العوامل التي تحدد حوجة المرفق للتحديث. هذا العقد يشابه عقد إعادة التأهيل الـ ROT مع إختلافات بسيطة .
إن هذه الصيغ وغيرها مما سبـق وأوردناه من إشـتقاقات مثل ( FBOOT ) و( BOL ) و( DBOT ) و ( BOD ) و( BOOST ) و( BRT ) و( BTO) هذه الصيغ جميعها وغيرها مما يمكن إستحداثه يمكن أن يكون محل توظيف كعقود تدعم توجه الدولة وأجهزتها المحلية في إستقطاب التمويل من القطاع الخاص.
_________________
.
مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
تعليقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق