مكتب / محمد جابر عيسى المحامى
الوفاء بالوعد
الوفاء بالوعـــــــد
تقديم :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه ....
أما بعد ، فإن موضوع ( الوعـد ) ووجوب الوفاء به ديانة ، وجواز الإلزام به قضاء ، من الموضوعات الهامة التي تحتاج إلى تحريرها في عصرنا ، لإرتباطها بكثير من المعاملات المعاصرة ، وبخاصة ( بيع المرابحة للآمر بالشراء ) كما تجريه المصارف الإسلامية ، الذي أصبح المحور الأساسي لنشاط البنك الإسلامي الآن .
ولابد لمن يكتب عن بيع المرابحة أن يكتب عن الوعد ومدى لزومه والإلزام به ، فإن كثيراً من البنوك الإسلامية تجري مرابحاتها على أساس الوعد الملزم ، وهو ما أراه وأرجحه .
هذه الصحائف تلقي شعاعا من ضوء على هذا الموضوع ، أرجوا أن يكون فيها بيان لما قصدت إليه .
وبالله التوفيق وعليه قصد السبيل
تحقيق القول في الإلزام بالوعد:
من الأخوة الذين شاركوا في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت من وافقوا على المواعدة على بيع المرابحة المذكورة ، ولكنهم خالفوا بشدة في قضية الإلزام بالوعد .
ومن هؤلاء الأخوة : الدكتور حسن عبد الله الأمين الأستاذ الباحث بالمركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز والدكتور محمد سليمان الأشقر الأستاذ الباحث بموسوعة الفقه الإسلامي بالكويت وكلاهما قدم بحثاً حول موضوع المرابحة ، والزميل الدكتور على السالوس الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر ، وقد شارك بالمناقشة في المؤتمر .
وحجتهم أن فتوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول اعتمدت على مذهب مالك في الإلزام بالوعد والقضاء به ، مع أن مذهب مالك في هذه القضية بالذات يمنع و لايجيز ، لأنه يعتبرها من بيوع العينة الممنوعة ، فكيف نأخذ بمذهب مالك في الإلزام بالوعد ، في الوقت الذي نتركه في القضية الخاصة التي ننفذ فيها الإلزام بالوعد ؟ .
ومن جهة أخرى يقول الدكتور الأمين : إن مسألة لزوم الوفاء بالوعد قضاء أو عدم لزومه ( عند المالكية ) إنما تتعلق فقط بمسائل المعروف والإحسان دون عقود المعاوضات ومنها البيع ، وينقل عن فتاوي الشيخ عليش المسماة " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك " الجزء الأول ، نقلاً من كتاب " تحرير الكلام في مسائل الإلزام ) للعلامة الحطاب ما نصه : ( فصل ) وأما العدة – أي ( الوعد ) فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن ، وإنما هي كما قال ابن عرفة : إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل ، ومثلوا له بالوعد بالقرض ، أو عتق ، أو هبة ، أو صدقة ، أو عارية ، أي الأمور التي تدخل في باب المعروف والإحسان كما قال بن عرفة ، دون الأمور التي تتعلق بالمعاوضات ، كالبيع مثلاً .
" والوفاء بالعدة ( بالتخفيف ) مطلوب لا خلاف ، واختف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب : جامع البيوع ، وفي كتاب العارية ، وفي كتاب العدة ، ونقلها عنه غير واحد " .
(1) فقيل : يقضي بها مطلقاً .
(2) وقبل : يقضي بها مطلقاً .
(3) وقيل : يقض بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء ، كقولك أريد أن أتزوج ، أو أن أشتري كذا ، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا ، أو أريد أن أركب غداً إلى مكان معين فأعني دابتك .....
فقال : نعم ، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر ، فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به.
(4) وقيل : يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور ، وهو مذهب ابن القاسم ، قال في المدونة : ( لو أن رجلاً اشترى عبداً من رجل على أن يعينه فلان بألف ردهم ، فقال له فلان : أنا أعينك بألف ردهم فاشتر العبد ، أن ذلك لازم لفلان ) . وهذا وعد بمعروف .
وواضح من تعريف ابن عرفه للعدة – الوعد – ومن الأمثلة عليه ، أن القول بلزوم الوفاء بها قضاء ، إنما يتعلق بأمور المعروف والإحسان أي من التبرعات ولا يتعلق بأمر ذات صلة بعقود المعاوضات كالبيع . أ- هـ كلام . الأمين .
ويتفق الأستاذ الأشقر مع الأستاذ الأمين في أن الوعد الذي قال بعض المالكية بلزوم الوفاء به ديانة وقضاء إنما هو الوعد بإنشاء المعروف أما الوعد التجاري فهو شيء آخر لم يدر بخلدهم .
ويناقش الشيخ الأشقر فتوى فضيلة الشيخ بدر متولى عبد الباسط مستشار بيت التمويل الكويتي التي مال فيها إلى الأخذ برأي ابن شبرمة : الذي يقول : إن كل وعد بالتزام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ، يكون وعد ملزما قضاء وديانه ، وإن هذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ... وإن الأخذ بهذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات .
وقال الأشقر : قول ابن شبرمة لا أدري ما مصدره ، ولعله منقول بالمعنى لا بالنص ، وهو غير محرر ولا مبين ، إذ لم يكن له أتباع يحررون مذهبه .
كما ناقش القول بأن ظواهر الآيات والأحاديث تدل على وجوب الوفاء بالوعد ، ومال إلى أن الوفاء بالوعد ليس بواجب قضاء ، ولا ديانة ، وإنما هو مستحب ومن مكارم الأخرق ، كما اختاره القرافي ، وأن النصوص في كتب المذاهب على عدم لزوم الوفاء بالوعد ديانة .
وأرى من المهم هنا مناقشة قضية الوعد ، ووجوب الوفاء به ديانة ، والإلزام به قضاء ، وما في ذلك من خلاف ، لما يترتب على الموضوع من نتائج تتعلق بمعاملات المسلمين وما يحل وما يحرم منها .
رد على بعض الجزئيات :
وقبل أن أفصـّل القول في الوفاء بالوعد ، أحب أن أرد على بعض الجزئيات من كلام الأخ الأشقر ، فقد سأل عن مصدر قوله ابن شبرمة ، وأقول له :
أقرب مصدر له نعرفه هو " المحلى " لابن حزم ، فقد قال : وقال ابن شبرمة : الوعد كله لازم ، ويقضى به على الواعد ويجبر .
وأما قوله بأن قوله غير محرر ولا مبين ، لأنه لم يكن له أتباع يحررون مذهبه ، فهو إدعاء مرفوض ، ويترتب عليه رفض أقوال جميع فقهاء الصحابة والتابعين من بعدهم ممن لا أتباع لهم يقلدونهم – ومعنى هذا رفض آراء جميع علماء الأمة إلا أربع أشخاص فقط ، هم أصحاب المذاهب المتبوعة عن أهل السنة ، فهل يلتزم الشيخ الأشقر هذه النتيجة ويقبلها ؟ لا أحسب ذلك .
وأما الرد على قول الشيخ بدر بأن الأخذ بالإلزام بالوعد أيسر على الناس ويضبط المعاملات ، بأن اختلاف العلماء لا يجيز لنا الأخذ بما هو أيسر من أقوالهم بل بما هو أرجح دليلاً ، ففي هذا الرد نظر – لأن المقصود أنه عند تكافؤ الأدلة أو تقاربها يكون الأخذ بالأيسر من دلائل الترجيح لأن الشريعة مبناها على اليسر ورفع الحرج ، وخصوصاً في أمور المعاملات ، وقد يأخذ الإنسان بالأحوط في خاصة القضايا هذه العبارة : هذا أرفق بالناس . على أن فتوى الشيخ بدر حفظه الله قرنت بالتيسير معنى آخر لم يذكره المعقب ، فقد قالت : هذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات فلا ينبغي أن يفصل المعنى الأخير عن الأول .
أدلة الإلزام بالوعد :
وأكثر ما أثير من كلام ، كان حول عنصر الوعد والإلزام به ، لهذا كان في حاجة إلى مزيد من التجلية والإيضاح لحقيقته ، فأقول :-
إن الذي أرجحه أن والوفاء بالوعد واجب ديانة ، فهذا هو الظاهر من نصوص القرآن والسنة وإن خالف في ذلك المخالفون .
أ- ففي القرآن يقول الله تعالى " يا آيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " الصف (2 ، 3 ) ، والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن كون كذباً محرماً ، وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً ، بل إن عبارة الآية الكريمة ( كبر مقتاً عند الله ) تدل على أنه كبيرة ، وليس بمجرد حرام .
ب- وقد ذم الله بعض المنافقين بقوله ( فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) . التوبة (77) ، والآية تفيد أن نفاقهم بسبب إخلافهم وعدهم مع الله ، ومثل ذلك إخلاف الوعد مع الناس ، إذ لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين ، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس .
ج- وقد أنكر القرآن شدة استغفار المؤمنين للمشركين مهما تكن قرابتهم ، فقال تعالى ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لعم أنهم أصحاب الجحيم ) . التوبة (113) ، وهنا تلوح للمؤمن قصة استغفار إبراهيم لأبيه ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ) . الشعراء ( 86) ، كيف يتفق هذا مع هذا الإنكار الشديد ؟ . هنا يقول الله تعالى ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) . التوبة (114) . ، فكان عذر إبراهيم وعده السابق لأبيه ( سأستغفر لك ربي إنه كان حفيا ) . مريم (47) ، فلو كان الوفاء بالوعد مجرد أمر مستحب ما ارتكب من أجله الاستغفار لمشرك ضال من أصحاب الجحيم .
ولا يقال لعل الوفاء بالوعد كان واجباً في شرع إبراهيم ، وشرع ما قبلنا ليس بشرع لنا ، ونقول : الصحيح أن شرع ما قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا وبخاصة أن الله تعالى قال لرسوله ( ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا ) . النحل (123) .
د- يؤد كذا ما ذكره الله عن الشيطان حين يجمعه بمن اتبعه من الغاوين في النار حيث يقول ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) . إبراهيم (22) ، وهذا ذكر في معرض الذم للشيطان وحزبه ، فلو كان إخلاف الوعد لا يعدو أن يكون مكروهاً أو خلاف الأولى ، لم يكن لذم الشيطان به معنى .
هـ- وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ) .
وفي بعض روايات مسلم : آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم .
و- وفي الحديث الصحيح الآخر من رواية عبد الله بن عمر : ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ... إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ) .
ز- وذكر البخاري في كتاب " الإستقراض " حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم " أي الأثم " والمغرم " أي الدين " فقيل له : يا رسول الله ، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم ؟ فقال : إن الرجل إذا غرم " أي استدان " حدث فكذب ، ووعد فأخلف . ومعنى هذا أن – الأستدانـة تجره إلى المعصية بالكذب في الحديث ، والخلف في الوعد .
ح- وهناك أدلة أخرى سنذكرها فيما ننقله عن الغزالي والبخاري وابن القيم ، والظاهر من هذه الأدلة أو الوعد سواء كان بصلة وبر ، أم بغير ذلك ، واجب الوفاء به ، إذ لم تفرق النصوص بين وعد ووعد ، وهذا ما روى عن ابن شبرمة فيما نقله عنه ابن حزم حيث قال : الوعد كله لازم ، ويقضى به الواعد ، ويجبر .
إذا كان كل هذا التحذير من إخلاف الوعد حتى عد من علامات النفاق ، وإحدى خصاله الأساسية ، فهذا من أظهر الأدلة عرى حرمته ، ولهذا جعله الإمام الغزالي في " إحيائه " من آفات اللسان ، وهي إحدى " المهلكات " .
رأي الإمام الغزالي في إحيائه :
قال وهو يعدد آفات اللسان : الآفة الثالثة عشر : الوعد الكاذب ( فإن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا ، وذلك من أمارات النفاق ... قال الله تعالى ( يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود ) . المائدة (1) ، وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال ( إنه كان صادق الوعد ) . مريم (54) .
ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال : إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وكان إليه متى شبه الوعد ، فو الله لا ألقي الله بثلث النفاق . أشهدكم قد زوجته ابنتي .
وكان ابن مسعود لا يعد وعداً إلا ويقول : إن شاء الله ، وهو الأولى ، فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي ، فهذا النفاق وقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه هو منافق ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ...) الحديث ، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع من كن فيه كان منافقاً .... ) الحديث . وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر ، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً ، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق ، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضاً ، كما يحترز من حقيقته ، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة حاجزة .
رأي جماعة من السلف في وجوب الوفاء بالوعد :
وذكر الأمام البخاري في صحيحة رأي جملة من السلف ممن يرى وجوب إنجاز الوعد ، فقد ترجم في كتاب " الشهادات " من الصحيح " باب من أمر بإنجاز الوعد " قال : وفعله الحسن البصري أي أمر به ، وذكر الآية الكريمة ( وأذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ) . مريم (54) .
قال : وقضى ابن الأشوع _ وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع ، قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة ) بالوعد ، وذكر ذلك عن سمرة ( بن جندب ) . قال أبو عبد الله البخاري : رأيت اسحاق بن إبراهيم ( هو ابن راهوية ) يحتج بحديث ابن أشوع ( أي الذي ذكره عن سمرة ) .
وذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث للدلالة على وجوب الإنجاز ، منها : حديث آية المنافق ثلاث .... وحديث جابر : ( لما مات النبي صلى الله عليه وسلم – جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر : من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا ) .
ونقل الحافظ في " الفتح " قول المهلب : إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجمع ، وليس بفرض ، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وهد به مع الغرماء .
قال الحافظ : ونقل الإجماع في ذلك مردود ، فإن الخلاف مشهور ، ولكن القائل به قليل .
وقال بن عبد البر وابن العربي : أجل من قال به عمر بن عبد العزيز ، وعن بعض المالكية : إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به ، وإلا فلا ، ومن قال لآخر : تزوج ، ولك كذا ، فتزوج بذلك ، وجب الوفاء به .
وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة : هل تملك بالقبض أو قبله ؟ .
قال الحافظ : وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكلات على الأذكار للنووي : ولم يذكر جواباً عن الآية : يعني قوله تعالى ( كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) . الصف (3) ، وحديث " آية المنافق " قال : والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد .
وصنيع المحقق ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين " يدل على أنه ممن يرى وجوب الوفاء بالوعد ، فقد نظم العقود والعهود والشروط والوعود الواجب الوفاء بها كلها في سلك واحد ، وسرد النصوص الدالة على لزوم الوفاء بالوعد ، مع النصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقد وبالعهد وبالشرط ، وكلها سواء .
فذكر قول الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون )
و ذكر صحاح الأحاديث في علامات المنافق و خصاله .. و أحاديث أخرى.
وزاد على ذلك أحاديث أخرى تتعلق بالوعد خاصة مثل ما في سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال : ( دعتني أمي يوماً و رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها ، فقالت : تعالى أعطك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أردت أن تعطيه ؟ فقالت أعطيه تمراً ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة)
وقال ابن وهب : ثنا هشام ابن سعد عن زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( و أي المؤمن واجب ) قال ابن وهب : و أخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي اسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ( و لا تعد أخاك عدة و تخلفه ، فإن ذلك يورث بينك و بينه عداوة)
قال ابن وهب : و أخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال لصبي : تعال ، هذا لك ثم لم يعطه شيئاً فهي كذبة)
و في السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد ين عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه : ( المؤمنون عند شروطهم ) وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه :( الناس على شروطهم ما وافق الحق ) وليست العمدة على هذين الحديثين بما على ما تقدم .
و أجاب ابن القيم عما في بعض الأحاديث من جهة السند ، فقال : أما ضعف بعضها من جهة المسند ، فلا يقدح في سائرها ، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف إن لم يكن عمدة.
نقل العلامة الزبيدي :-
و قال العلامة الزبيدي في شرح القاموس في مادة ( وعد ) : ( اختلف في حكم الوفاء بالوعد : هل هو واجب أو سنة ؟ أقوال .
قال شيخنا : و أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد و تحريم الخلف فيه ، وكانت العرب تستعيبه و تستقبحه ، وقالوا : إخلاف الوعد من أخلاق الوغد . وقيل الوفاء سنة والإخلاف مكروه و استشكله بعض العلماء .
و قال القاضي أبو بكر بن العربي بعد سرد كلام : و خلف الوعد كذب ونفاق و إن قل فهو معصية .
( و قد ألف الحافظ السخاوي في ذلك رسالة مستقلة سمّاها (( التماس السعد في الوفاء بالوعد )) جمع فيها فأوعى ) (1) أ.هـ كلام الزبيدي.
و إذا كان وجوب الوعد و الأمر بإنجازه ، قال به مثل عبد الله بن عمر ( الذي زوج ابنته لمن صدر منه شبه و عد له حتى لا يلقى الله بثلث النفاق !) ومثل سمرة بن جندب من الصحابة ، ومثل عمر بن عبد العزيز من التابعين و هو معدود من الخلفاء الراشدين المهديين الذين يعض على سنتهم بالنواجذ و الحسن البصري الإمام المشهور ، ومن بعدهم ابن الأشوع الذي اعتد البخاري بذكره في صحيحه ، وذكره ابن حبان في الثقات . وقال بن معين : مشهور يعرفه الناس كما في عمدة القاري .. وابن شبرمه الفقيه الثقة العابد و إسحاق بن راهويه ، شيخ البخاري ، وأحد أئمة الحديث والفقه ، وأمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري كما يبدوا من ترجمته للباب و عدم ذكره الرأي الأخر ... إضافة إلى ما نقلناه عن العلامة ابن القيم و ما هو معروف من مذهب الإمام مالك وبعض أصحابه و خصوصاً فيما كان له سبب و دخل الموعود من أجله في نفقة وكلفة .. فليس القائل به إذاً قليلاً ، كما قال الحافظ رحمه الله ، بل لعل الصحيح ما نقله الزبيدي عن شيخه : أن أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد و تحريم الخلف فيه .
و بهذا نرى أن نسبة القول بالإلزام بالوعد إلى بعض المالكية أو إلى ابن شبرمة فقط ، فيه تقصير كبير من الاستقصاء.
وقفات ثلاث :
بعد البيان السابق ينبغي لنا أن نقف وقفات ثلاث:
الأولى – في شبهات النافين للإلزام بالوعد و ما اعتمدوا عليه من نصوص مع وضوح الأدلة المصرحة بالوجوب و الإلزام .
الثانية – فيما قيل من التفرقة بين العدة بالمعروف و الصلة و الوعد في أور المعاملات و المعاوضات و أن الوعد في الأولى هو الذي قيل بوجوبه أم في الثانية فلا ز
الثالثة – في التفرقة فيما هو واجب ديانة ، أي بين المرء وربه و ما هو واجب قضاء بمعنى أن من حق ولي الأمر أو القاضي أن يتدخل فيه و يلزم به.
فقد قال من قال : إنما نسلم أن الوفاء بالوعد و الالتزام به و اجب من الناحية الدينية والأخلاقية و لكن لا حق للسلطة القضائية أو التقنينية أو التنفيذية في التدخل للإلزام به أو المعاقبة على الإخلال به و إن نشأ عن ذلك من الأضرار و الخسائر ما لا يرضاه الله و لا رسوله و لا المؤمنون .
و لنناقش هذه النقاط الثلاث من غير تطويل .
شبهات النافين لوجوب الوفاء بالوعد
لم أجد دليلاً مقنعاً يقاوم الأدلة الكثيرة المؤيدة للقول بوجوب الوفاء بالوعد ، و لكن هناك بعض شبهات ذكرها بعض الفقهاء أكتفي منه بما ذكره العلامة ( القرافي ) من أحاديث عارض بها النصوص الدالة على تحريم خلف الوعد و هي أحاديث لا تقوى على معارضة هذه النصوص لا من ناحية ثبوتها و لا من ناحية دلالتها .
فقد ذكر هنا حديثين :
أولهما : حديث الموطأ : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أكذب لامرأتي ؟ فقال عليه السلام : لا خير في الكذب ، فقال يا رسول الله أفأ عدها و أقول لها ؟ فقال عليه السلام : لا جناح عليك .
قال : فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل ، فإن رضا النساء إنما يحصل به و نفى الجناح على الوعد و هو يدل على أمرين : أحدهما : أن إخلاف الوعد لا يسمى كذباً لجعله قسيم الكذب . وثانيهما : أن إخلاف الوعد لا حرج فيه .
و الحديث من ناحية سنده غير ثابت قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من رواية صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلا.
و هو في ( الموطأ ) عن صفوان بن سليم معضلا من غير ذكر عطاء .
و أما من ناحية الدلالة فقد ناقش العلامة ابن الشاط القرافي ( في حاشيته على الفروق ). مناقشة جيدة في الأمر الأول يحسن الرجوع إليها ولم أذكرها خشية الإطالة.
أما الأمر الثاني ، وهو في إخلاف الوعد لا حرج فيه مطلقاً فهو غير مسلّم لأن الحديث جاء في علاقة الرجل بامرأته و من حرص الشارع على دوام المودة بين الزوجين أن رخص لهما ما لم يرخص لغيرهما فأجاز شيئاً من الكذب كما أجاز في الحرب و الإصلاح بين الناس و قد روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن أم كلثوم بنت عقبة : أنها لم تسمع رسوا الله عليه السلام يرخّص في شيء مما يقول الناس : كذب ، إلا في ثلاث : الحرب ، و الإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته و حديث المرأة زوجها.
قال النووي في شرح الحديث :
قال القاضي لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصورة
و اختلفوا في المراد من الكذب المباح فيها : ما هو ؟
فقالت طائفة هو على إطلاقه و أجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة.
و قال آخرون : ما جاء من الإباحة في هذا المراد به : التورية واستعمال المعاريض ، لا صريح الكذب مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا وينوي : إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه.
و بهذا تتبين أن العلاقة بين الزوجين هنا موسع فيها ، ولا يقول القرافي و غيره هنا أن الترخيص في بعض الكلمات هنا يعني أن الكذب لا حرج فيه بإطلاق.و ثاني ما استدل به القرافي هنا هو حديث أبي داور ( إذا وعد أحدكم أخاه و من نيته أن يفي فلم يفِ فلا شيء عليه )
والحديث في سنن أبي داود بلفظ :(( إذا وعد الرجل أخاه و في نيته أن يفي و لم يجيء للميعاد فلا إثم عليه ))
والحديث سكت عليه أبو داود و لكن ذكر المنذري في مختصره عن أبي حاتم الرازي أن في سنده راويين مجهولين ( أبو النعمان و أبو وقاص ) و كذا رواه الترمذي وقال : و لا يعرف أبو النعمان و أبو وقاص و هما مجهولان .
و كذا ضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث ( الإحياء ) فالحديث متفق على ضعفه.
و مثل هذا لا يحتج به في مقابلة الأدلة الأخرى الدالة على تحريم الخلف.
و مع هذا يمكن حمل هذا الحديث – كما قال ابن الشاط المالكي – على أنه لم يف مضطرا جمعا بين الأدلة مع بُعد تأويل هذا.
و الحق أن العلاّمة القرافي في هذا الموضوع لم يكن على العهد به من التحقيق و التدقيق و لهذا نجد العلامة ابن الشاط في حاشيته على ( الفروق ) المسماة ( أدرار الشروق) يعقب على ما ذكره القرافي من اختلاف الفقهاء في الوعد هل يجب الوفاء شرعاً به أم لا ؟.. إلخ . بقوله : الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقاً فيتعين تأويل ما يناقض ذلك و يجمع بين الأدلة على خلاف الوجه الذي اختاره المؤلف، والله أعلم .
الوعد بالمعروف و الوعد في المعاوضات
و أما النقطة الثانية و هي ما قيل من التفرقة بين الوعد بالصلة و المعروف وأنه هو الذي قيل بوجوبه و بين الوعد في شئون المعاملات و المبادلات المالية و أن هذا لم يقولوا بوجوبه .
فيهمني أن أؤكد في هذا أمرين :
الأول – أن النصوص التي أوجبت الوفاء و حرمت الإخلاف جاءت عامة مطلقة و لم تفرق بين وعد و وعد و لا دليل عند المعرض يخصص عمومها أو يقيد إطلاقها و لهذا قال ابن شبرمة بصريح العبارة الوعد كلّه لازم.
الثاني – أنه إن كان لا بد من التفرقة بين النوعين – فالأمر يبدوا لي على خلاف ما قيل تماماً .
والذي أراه أن الخلاف المنقول في الوعد و لزوم الوفاء به عند المالكية و غيرهم قد يقبل فيما كان من باب البر و المعروف و الإرفاق على معنى أن من وعد إنساناً بخدمة يقدمها له قد يجري فيه الخلاف السابق لأن أصله تبرع محض و يستقبح منه على كل حال إخلافه و هذا ما تعرف الناس عليه و عبروا عنه في نثرهم بمثل قولهم : و عد الحر دين عليه ، وفي شعرهم بمثل قولهم :
إذا قلت في شيء : ( نعم ) فأتمــه فإن ( نعم ) دين على الحر واجب
و إلا فقل ( لا ) فتسترح ونرح بها لئلا يقول الناس : إنك كــاذب
و هذا ما لم يدخل بسبب الوعد في ارتباط مالي فإنه يشبه أن يكون تعاقداً ضمنياً..
و من هذا ما لم تعد به الحكومات موظفيها من علاوات و ترقيات و إعانات اجتماعية في حالة الزواج و الإنجاب و غيرها.
و ما تعد به الوزارات و المؤسسات العاملين فيها من مكافآت و حوافز لمن يقدم جهد معين كعمل لإضافي أو خدمة معينة أو تحسين لمستوى العمل أو نحو ذلك فيجب أن توفي به .
ومن ذلك عقد الجعالة فإنما هو وعد من الجاعل كأن يقول : من رد عليّ مالي المفقود فله كذا ..فرده عليه ، فيلزمه إعطاؤه ما وعد به.
ومن ذلك ما تعد به المؤسسات الثقافية من جوائز تمنحا لمن يستوفي شروط السبق في مسابقات علمية تعلن عنها ، ومثلها المسابقات الرياضية و نحوها.
أما الذي ينبغي ألا يقبل الخلاف فيه فهو : الوعد في شئون المعاوضات و المعاملات التي يترتب عليها التزامات و تصرفات مالية واقتصادية قد تبلغ الملايين و يترتب على جواز الإخلاف فيها إضرار بمصالح الناس و تغرير به .
فالوفاء بالوعد هناك كالوفاء بالعهد ..لذا وضعت بعض الأحاديث : ( إذا عاهد غدر) مكان ( إذا وعد أخلف ) فالمعنيان متلازمان أو متقاربان و قد ذكر الغزالي في الاستدلال على و جوب الوفاء بالوعد قوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) [ المائدة :1 ] دلالة على أن الوعد داخل في مسمى العقود .
كما أدخل ابن القيم العقود و العهود والشروط جميعاً في باب واحد فكما أن المسلمون عند شروطهم فهم كذلك عند وعودهم لأنهم لا يقولون ما لا يفعلون.
و من هنا استغرب اتجاه د. الأمين ، و د. الأشقر إلى عكس ذلك تماماً على حين رأينا المالكية الذين اعتمدوا مذهبهم يرجحون الإلزام بالوعد ديانة و قضاء إذا ترتب عليه شيء من الالتزام المالي فكيف لا نتجه إلى القول بلزوم الوفاء إذا كانت المعاملة كلها قائمة من الأساس على التزام مالي متبادل ؟
أما أن المالكية لا يقولون بالالتزام بالوعد في هذه الصورة بالذات فلما عارضه – في نظرهم – من أدلة أخرى أوجبت منع هذه الصورة .
و قد بينا ضعف هذه الأدلة في موضع آخر و لهذا لا يلزمنا تقليدهم هنا و لا مانع أبدا من الأخذ برأيهم في الإلزام بالوعد و عدم الأخذ برأيهم في بيوع الآجال أو بيوع العينة.
على أننا قد وجدنا بحمد الله من غير المالكية من فقهاء الأمة من قال بالإلزام فمن كان يرى أن رأي المالكية إما أن يؤخذ كله و إما أن يترك كلّه ، تركنا له رأيهم كلّه ، و وسعنا أن نأخذ برأي الآخرين من القائلين بالإلزام و هم عدد غير قليل .
التفريق بين ما يلزم ديانة و ما يلزم قضاء
و أما النقطة الثالثة و هي التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء لإتخاذ ذلك ذريعة إلا أن وجوب الوفاء بالوعد من الناحية الدينية لا يترتب عليه تدخل السلطات الشرعية للقضاء به و الإلزام بتنفيذه فالواقع أن الأصل هو الإلزام بكل ما أوجبه الله ورسوله و ما ، وما مهمة السلطات إلا تنفيذ ما أمر الله به ، و معاقبه من خرج عليه بحكم مسئوليتهم الشاملة .
والذي يتضح لي أن العلام اللذين نقلنا رأيهم في وجوب الوفاء بالوعد ، لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء ، بل الظاهر من سيرهم وأحوالهم وطريقة تفكيرهم أن كل ما يلزم المسلم ديناً وشرعاً ، يقضى به عليه ويجبر على فعله في حالة الأمر والوجوب ، وعلى تركه في حالة النهي والتحريم .
يؤكد هذا أن بعضهم كان بيده سلطة الإلزام والقضاء بالفعل مثل عمر بن العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة ، وإنما فرق الفقهاء بين الديانة والقضاء فيما له ظاهر وباطن ، فيحكم القضاء بالظاهر ، ويكل إلى الله السرائر ، كما في حكم القاضي لمن هو ألحن بحجته ، ومن شهدت له البينة ولو كاذبة ، أو شهد له ظاهر الحال ، وإن كان الواقع غير ذك ، فيجوز له أن يأخذ ما حكم له به قضاء لا ديانة .
وكذاك في بعض أحوال الطلاق ونحوه ، قد يختلف القضاء عن الديانة لاختلاف النية المكنونة عن الظاهر المشهود ... وهلم جرا.
وما قرره مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في " دبي " من " أن ما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك ، وأمكن للقضاء التدخل فيه " يتفق مع اتجاه الشريعة الإسلامية في الإلزام بالواجبات الدينية المحضة وإشراك ولي الأمر في رعايتها ، مثل الصلاة والصيام ونحوها مما شدد الشرع في فعله ، وأوجب العقوبة على تركه ، وإذا كان هذا في العبادات التي لها صفتها الدينية البارزة ، فأولى من ذلك ما يتعلق بالعلاقات والمعاملات .
ومن المعروف أن عقوبة " التعزيز " المفوضة إلى رأي الإمام ، ( ولي الأمر الشرعي ) أو القاضي إنما محلها كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، وهذا باب واسع يستطيع القانون أو القضاء أن يدخل منه ليحاكم أو يعاقب على كل إهمال متعمد لواجب ديني ، ومن ذلك ترك من يتعرض للهلاك بالجوع أو العطش أو الغرق أو الحريق أو غير ذلك دون أن يسعفه ، فإن المذهب المالكي وغيره يحمله مسئولية جنائية بتركه لواجبه الديني .
ومثل ذلك النفقة على البهيمة والرفق بها ، مما هو واجب ديني في الأصل ، ولكن عند إهماله يمكن أن يلزم به القضاء ، كما يدخل في سلطة المحتسب.
وقانون " الوصية الواجبة " الذي أخذت به بعض البلاد الإسلامية إنما أرادت به إلزام الأجداد قانوناً ، بما كان يجب أن يراعوه ديانة نحو أحفادهم الذين ليس لهم نصيب من الميراث في تركتهم لموت آبائهم في حياتهم ، فجمعوا بين اليتم والحرمان فألزموا بالوصية لهم وفقاً للآية الكريمة في سورة البقرة ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خير الوصية للوالدين والأقربين ) البقرة (180) .
عقد الاستصناع عند الحنفية :
والخلاف في موضوع الوعد ومدى إلزامه ، يشبه الخلاف الذي جاء في الفقه الحنفي حول " الاستصناع " الذي اتفق أئمة المذهب على جوازه ، واعتباره بيعاً صحيحاً ، برغم أنه بيع لمعدوم وقت العقد ، ولكنهم أجازوه استحساناً ، لتعامل الناس به الراجع إلية الإجماع العملي الممتد من عهد النبوة إلى اليوم بلا نكير ، والتعامل بهذه الصفة – كما قال ابن الهمام – أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم " لا تجتمع أمتي على ضلالة " .
ثم اختلف مشايخ المذهب في تكييفه : أهو مواعدة أم معاقدة ؟ .
فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمه ، وصاحب المنثور اعتبروه مواعدة ، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعاً بالتعاطي ، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم ، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه .
قال ابن الهمام : والصحيح من المذهب جوازه بيعاً ... الخ .
وإذا أتم صنع الشيء المطلوب فالمستصنع ( بكسر النون ) بالخيار إذا رآه : إن باع شاء أخذه وإن شاء تركه ، لأنه اشترى ما لم يره ولا خيار للصانع ، لأنه بائع باع ما لم يره ، ومن هو كذلك فلا خيار له ، وه و الأصح بناء على جعله بيعاً لا عدة في رواية عن أبي حنيفة : أن له الخيار أيضاً دفعاً للضرر عنه ، لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بصرر .
وعن أبي يوسف : أنه لا خيار لهما ، أما الصانع فلما ذكرنا ( أنه بائع باع ما لم يره ) ، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله ( أي بتحويله من مادة خام إلى مصنوعات ) ليصل إلى بدله ، فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع ، لأن غيره لا يشترى بمثله ، آلا ترى أن والواعظ إذا استصنع منبراً فالعامي لا يشتريه أصلاً ؟.
وهذا التعليل والتمثيل يرينا بوضوح كيف كان فقهنا يعيش في قلب الحياة العملية .
وقد عدلت " مجلة الأحكام العدلية " الشهيرة في مسألة " الاستصناع " عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب ، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع ، وإن جاء مستوفياً كل المواصفات المتفق عليها ، وتبنت قول أبي يوسف في عدم الخيار وإلزامه بأخذ المستصنع ، وهذا ما نصت عليه المادة 292 من المجلة ، وقد جاء في التقرير الذي قدمت به ما يأتي :-
" وعند الإمام الأعظم ( أبي حنيفة ) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع ، وعند الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وجد المصنوع موافقاً للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع ، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة ، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة ، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة ... لزوم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا ، مراعاة لمصلحة الوقت ، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة .
هذا وبالله التوفيق ،،،،
الوفاء بالوعد
الوفاء بالوعـــــــد
تقديم :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه ....
أما بعد ، فإن موضوع ( الوعـد ) ووجوب الوفاء به ديانة ، وجواز الإلزام به قضاء ، من الموضوعات الهامة التي تحتاج إلى تحريرها في عصرنا ، لإرتباطها بكثير من المعاملات المعاصرة ، وبخاصة ( بيع المرابحة للآمر بالشراء ) كما تجريه المصارف الإسلامية ، الذي أصبح المحور الأساسي لنشاط البنك الإسلامي الآن .
ولابد لمن يكتب عن بيع المرابحة أن يكتب عن الوعد ومدى لزومه والإلزام به ، فإن كثيراً من البنوك الإسلامية تجري مرابحاتها على أساس الوعد الملزم ، وهو ما أراه وأرجحه .
هذه الصحائف تلقي شعاعا من ضوء على هذا الموضوع ، أرجوا أن يكون فيها بيان لما قصدت إليه .
وبالله التوفيق وعليه قصد السبيل
تحقيق القول في الإلزام بالوعد:
من الأخوة الذين شاركوا في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت من وافقوا على المواعدة على بيع المرابحة المذكورة ، ولكنهم خالفوا بشدة في قضية الإلزام بالوعد .
ومن هؤلاء الأخوة : الدكتور حسن عبد الله الأمين الأستاذ الباحث بالمركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز والدكتور محمد سليمان الأشقر الأستاذ الباحث بموسوعة الفقه الإسلامي بالكويت وكلاهما قدم بحثاً حول موضوع المرابحة ، والزميل الدكتور على السالوس الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر ، وقد شارك بالمناقشة في المؤتمر .
وحجتهم أن فتوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول اعتمدت على مذهب مالك في الإلزام بالوعد والقضاء به ، مع أن مذهب مالك في هذه القضية بالذات يمنع و لايجيز ، لأنه يعتبرها من بيوع العينة الممنوعة ، فكيف نأخذ بمذهب مالك في الإلزام بالوعد ، في الوقت الذي نتركه في القضية الخاصة التي ننفذ فيها الإلزام بالوعد ؟ .
ومن جهة أخرى يقول الدكتور الأمين : إن مسألة لزوم الوفاء بالوعد قضاء أو عدم لزومه ( عند المالكية ) إنما تتعلق فقط بمسائل المعروف والإحسان دون عقود المعاوضات ومنها البيع ، وينقل عن فتاوي الشيخ عليش المسماة " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك " الجزء الأول ، نقلاً من كتاب " تحرير الكلام في مسائل الإلزام ) للعلامة الحطاب ما نصه : ( فصل ) وأما العدة – أي ( الوعد ) فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن ، وإنما هي كما قال ابن عرفة : إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل ، ومثلوا له بالوعد بالقرض ، أو عتق ، أو هبة ، أو صدقة ، أو عارية ، أي الأمور التي تدخل في باب المعروف والإحسان كما قال بن عرفة ، دون الأمور التي تتعلق بالمعاوضات ، كالبيع مثلاً .
" والوفاء بالعدة ( بالتخفيف ) مطلوب لا خلاف ، واختف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب : جامع البيوع ، وفي كتاب العارية ، وفي كتاب العدة ، ونقلها عنه غير واحد " .
(1) فقيل : يقضي بها مطلقاً .
(2) وقبل : يقضي بها مطلقاً .
(3) وقيل : يقض بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء ، كقولك أريد أن أتزوج ، أو أن أشتري كذا ، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا ، أو أريد أن أركب غداً إلى مكان معين فأعني دابتك .....
فقال : نعم ، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر ، فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به.
(4) وقيل : يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور ، وهو مذهب ابن القاسم ، قال في المدونة : ( لو أن رجلاً اشترى عبداً من رجل على أن يعينه فلان بألف ردهم ، فقال له فلان : أنا أعينك بألف ردهم فاشتر العبد ، أن ذلك لازم لفلان ) . وهذا وعد بمعروف .
وواضح من تعريف ابن عرفه للعدة – الوعد – ومن الأمثلة عليه ، أن القول بلزوم الوفاء بها قضاء ، إنما يتعلق بأمور المعروف والإحسان أي من التبرعات ولا يتعلق بأمر ذات صلة بعقود المعاوضات كالبيع . أ- هـ كلام . الأمين .
ويتفق الأستاذ الأشقر مع الأستاذ الأمين في أن الوعد الذي قال بعض المالكية بلزوم الوفاء به ديانة وقضاء إنما هو الوعد بإنشاء المعروف أما الوعد التجاري فهو شيء آخر لم يدر بخلدهم .
ويناقش الشيخ الأشقر فتوى فضيلة الشيخ بدر متولى عبد الباسط مستشار بيت التمويل الكويتي التي مال فيها إلى الأخذ برأي ابن شبرمة : الذي يقول : إن كل وعد بالتزام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ، يكون وعد ملزما قضاء وديانه ، وإن هذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ... وإن الأخذ بهذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات .
وقال الأشقر : قول ابن شبرمة لا أدري ما مصدره ، ولعله منقول بالمعنى لا بالنص ، وهو غير محرر ولا مبين ، إذ لم يكن له أتباع يحررون مذهبه .
كما ناقش القول بأن ظواهر الآيات والأحاديث تدل على وجوب الوفاء بالوعد ، ومال إلى أن الوفاء بالوعد ليس بواجب قضاء ، ولا ديانة ، وإنما هو مستحب ومن مكارم الأخرق ، كما اختاره القرافي ، وأن النصوص في كتب المذاهب على عدم لزوم الوفاء بالوعد ديانة .
وأرى من المهم هنا مناقشة قضية الوعد ، ووجوب الوفاء به ديانة ، والإلزام به قضاء ، وما في ذلك من خلاف ، لما يترتب على الموضوع من نتائج تتعلق بمعاملات المسلمين وما يحل وما يحرم منها .
رد على بعض الجزئيات :
وقبل أن أفصـّل القول في الوفاء بالوعد ، أحب أن أرد على بعض الجزئيات من كلام الأخ الأشقر ، فقد سأل عن مصدر قوله ابن شبرمة ، وأقول له :
أقرب مصدر له نعرفه هو " المحلى " لابن حزم ، فقد قال : وقال ابن شبرمة : الوعد كله لازم ، ويقضى به على الواعد ويجبر .
وأما قوله بأن قوله غير محرر ولا مبين ، لأنه لم يكن له أتباع يحررون مذهبه ، فهو إدعاء مرفوض ، ويترتب عليه رفض أقوال جميع فقهاء الصحابة والتابعين من بعدهم ممن لا أتباع لهم يقلدونهم – ومعنى هذا رفض آراء جميع علماء الأمة إلا أربع أشخاص فقط ، هم أصحاب المذاهب المتبوعة عن أهل السنة ، فهل يلتزم الشيخ الأشقر هذه النتيجة ويقبلها ؟ لا أحسب ذلك .
وأما الرد على قول الشيخ بدر بأن الأخذ بالإلزام بالوعد أيسر على الناس ويضبط المعاملات ، بأن اختلاف العلماء لا يجيز لنا الأخذ بما هو أيسر من أقوالهم بل بما هو أرجح دليلاً ، ففي هذا الرد نظر – لأن المقصود أنه عند تكافؤ الأدلة أو تقاربها يكون الأخذ بالأيسر من دلائل الترجيح لأن الشريعة مبناها على اليسر ورفع الحرج ، وخصوصاً في أمور المعاملات ، وقد يأخذ الإنسان بالأحوط في خاصة القضايا هذه العبارة : هذا أرفق بالناس . على أن فتوى الشيخ بدر حفظه الله قرنت بالتيسير معنى آخر لم يذكره المعقب ، فقد قالت : هذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات فلا ينبغي أن يفصل المعنى الأخير عن الأول .
أدلة الإلزام بالوعد :
وأكثر ما أثير من كلام ، كان حول عنصر الوعد والإلزام به ، لهذا كان في حاجة إلى مزيد من التجلية والإيضاح لحقيقته ، فأقول :-
إن الذي أرجحه أن والوفاء بالوعد واجب ديانة ، فهذا هو الظاهر من نصوص القرآن والسنة وإن خالف في ذلك المخالفون .
أ- ففي القرآن يقول الله تعالى " يا آيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " الصف (2 ، 3 ) ، والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن كون كذباً محرماً ، وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً ، بل إن عبارة الآية الكريمة ( كبر مقتاً عند الله ) تدل على أنه كبيرة ، وليس بمجرد حرام .
ب- وقد ذم الله بعض المنافقين بقوله ( فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) . التوبة (77) ، والآية تفيد أن نفاقهم بسبب إخلافهم وعدهم مع الله ، ومثل ذلك إخلاف الوعد مع الناس ، إذ لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين ، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس .
ج- وقد أنكر القرآن شدة استغفار المؤمنين للمشركين مهما تكن قرابتهم ، فقال تعالى ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لعم أنهم أصحاب الجحيم ) . التوبة (113) ، وهنا تلوح للمؤمن قصة استغفار إبراهيم لأبيه ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ) . الشعراء ( 86) ، كيف يتفق هذا مع هذا الإنكار الشديد ؟ . هنا يقول الله تعالى ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) . التوبة (114) . ، فكان عذر إبراهيم وعده السابق لأبيه ( سأستغفر لك ربي إنه كان حفيا ) . مريم (47) ، فلو كان الوفاء بالوعد مجرد أمر مستحب ما ارتكب من أجله الاستغفار لمشرك ضال من أصحاب الجحيم .
ولا يقال لعل الوفاء بالوعد كان واجباً في شرع إبراهيم ، وشرع ما قبلنا ليس بشرع لنا ، ونقول : الصحيح أن شرع ما قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا وبخاصة أن الله تعالى قال لرسوله ( ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفا ) . النحل (123) .
د- يؤد كذا ما ذكره الله عن الشيطان حين يجمعه بمن اتبعه من الغاوين في النار حيث يقول ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) . إبراهيم (22) ، وهذا ذكر في معرض الذم للشيطان وحزبه ، فلو كان إخلاف الوعد لا يعدو أن يكون مكروهاً أو خلاف الأولى ، لم يكن لذم الشيطان به معنى .
هـ- وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ) .
وفي بعض روايات مسلم : آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم .
و- وفي الحديث الصحيح الآخر من رواية عبد الله بن عمر : ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ... إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ) .
ز- وذكر البخاري في كتاب " الإستقراض " حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم " أي الأثم " والمغرم " أي الدين " فقيل له : يا رسول الله ، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم ؟ فقال : إن الرجل إذا غرم " أي استدان " حدث فكذب ، ووعد فأخلف . ومعنى هذا أن – الأستدانـة تجره إلى المعصية بالكذب في الحديث ، والخلف في الوعد .
ح- وهناك أدلة أخرى سنذكرها فيما ننقله عن الغزالي والبخاري وابن القيم ، والظاهر من هذه الأدلة أو الوعد سواء كان بصلة وبر ، أم بغير ذلك ، واجب الوفاء به ، إذ لم تفرق النصوص بين وعد ووعد ، وهذا ما روى عن ابن شبرمة فيما نقله عنه ابن حزم حيث قال : الوعد كله لازم ، ويقضى به الواعد ، ويجبر .
إذا كان كل هذا التحذير من إخلاف الوعد حتى عد من علامات النفاق ، وإحدى خصاله الأساسية ، فهذا من أظهر الأدلة عرى حرمته ، ولهذا جعله الإمام الغزالي في " إحيائه " من آفات اللسان ، وهي إحدى " المهلكات " .
رأي الإمام الغزالي في إحيائه :
قال وهو يعدد آفات اللسان : الآفة الثالثة عشر : الوعد الكاذب ( فإن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا ، وذلك من أمارات النفاق ... قال الله تعالى ( يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود ) . المائدة (1) ، وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال ( إنه كان صادق الوعد ) . مريم (54) .
ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال : إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وكان إليه متى شبه الوعد ، فو الله لا ألقي الله بثلث النفاق . أشهدكم قد زوجته ابنتي .
وكان ابن مسعود لا يعد وعداً إلا ويقول : إن شاء الله ، وهو الأولى ، فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي ، فهذا النفاق وقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه هو منافق ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ...) الحديث ، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع من كن فيه كان منافقاً .... ) الحديث . وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر ، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً ، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق ، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضاً ، كما يحترز من حقيقته ، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة حاجزة .
رأي جماعة من السلف في وجوب الوفاء بالوعد :
وذكر الأمام البخاري في صحيحة رأي جملة من السلف ممن يرى وجوب إنجاز الوعد ، فقد ترجم في كتاب " الشهادات " من الصحيح " باب من أمر بإنجاز الوعد " قال : وفعله الحسن البصري أي أمر به ، وذكر الآية الكريمة ( وأذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ) . مريم (54) .
قال : وقضى ابن الأشوع _ وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع ، قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة ) بالوعد ، وذكر ذلك عن سمرة ( بن جندب ) . قال أبو عبد الله البخاري : رأيت اسحاق بن إبراهيم ( هو ابن راهوية ) يحتج بحديث ابن أشوع ( أي الذي ذكره عن سمرة ) .
وذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث للدلالة على وجوب الإنجاز ، منها : حديث آية المنافق ثلاث .... وحديث جابر : ( لما مات النبي صلى الله عليه وسلم – جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر : من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا ) .
ونقل الحافظ في " الفتح " قول المهلب : إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجمع ، وليس بفرض ، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وهد به مع الغرماء .
قال الحافظ : ونقل الإجماع في ذلك مردود ، فإن الخلاف مشهور ، ولكن القائل به قليل .
وقال بن عبد البر وابن العربي : أجل من قال به عمر بن عبد العزيز ، وعن بعض المالكية : إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به ، وإلا فلا ، ومن قال لآخر : تزوج ، ولك كذا ، فتزوج بذلك ، وجب الوفاء به .
وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة : هل تملك بالقبض أو قبله ؟ .
قال الحافظ : وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكلات على الأذكار للنووي : ولم يذكر جواباً عن الآية : يعني قوله تعالى ( كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) . الصف (3) ، وحديث " آية المنافق " قال : والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد .
وصنيع المحقق ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين " يدل على أنه ممن يرى وجوب الوفاء بالوعد ، فقد نظم العقود والعهود والشروط والوعود الواجب الوفاء بها كلها في سلك واحد ، وسرد النصوص الدالة على لزوم الوفاء بالوعد ، مع النصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقد وبالعهد وبالشرط ، وكلها سواء .
فذكر قول الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون )
و ذكر صحاح الأحاديث في علامات المنافق و خصاله .. و أحاديث أخرى.
وزاد على ذلك أحاديث أخرى تتعلق بالوعد خاصة مثل ما في سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال : ( دعتني أمي يوماً و رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها ، فقالت : تعالى أعطك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أردت أن تعطيه ؟ فقالت أعطيه تمراً ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة)
وقال ابن وهب : ثنا هشام ابن سعد عن زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( و أي المؤمن واجب ) قال ابن وهب : و أخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي اسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ( و لا تعد أخاك عدة و تخلفه ، فإن ذلك يورث بينك و بينه عداوة)
قال ابن وهب : و أخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال لصبي : تعال ، هذا لك ثم لم يعطه شيئاً فهي كذبة)
و في السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد ين عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه : ( المؤمنون عند شروطهم ) وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه :( الناس على شروطهم ما وافق الحق ) وليست العمدة على هذين الحديثين بما على ما تقدم .
و أجاب ابن القيم عما في بعض الأحاديث من جهة السند ، فقال : أما ضعف بعضها من جهة المسند ، فلا يقدح في سائرها ، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف إن لم يكن عمدة.
نقل العلامة الزبيدي :-
و قال العلامة الزبيدي في شرح القاموس في مادة ( وعد ) : ( اختلف في حكم الوفاء بالوعد : هل هو واجب أو سنة ؟ أقوال .
قال شيخنا : و أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد و تحريم الخلف فيه ، وكانت العرب تستعيبه و تستقبحه ، وقالوا : إخلاف الوعد من أخلاق الوغد . وقيل الوفاء سنة والإخلاف مكروه و استشكله بعض العلماء .
و قال القاضي أبو بكر بن العربي بعد سرد كلام : و خلف الوعد كذب ونفاق و إن قل فهو معصية .
( و قد ألف الحافظ السخاوي في ذلك رسالة مستقلة سمّاها (( التماس السعد في الوفاء بالوعد )) جمع فيها فأوعى ) (1) أ.هـ كلام الزبيدي.
و إذا كان وجوب الوعد و الأمر بإنجازه ، قال به مثل عبد الله بن عمر ( الذي زوج ابنته لمن صدر منه شبه و عد له حتى لا يلقى الله بثلث النفاق !) ومثل سمرة بن جندب من الصحابة ، ومثل عمر بن عبد العزيز من التابعين و هو معدود من الخلفاء الراشدين المهديين الذين يعض على سنتهم بالنواجذ و الحسن البصري الإمام المشهور ، ومن بعدهم ابن الأشوع الذي اعتد البخاري بذكره في صحيحه ، وذكره ابن حبان في الثقات . وقال بن معين : مشهور يعرفه الناس كما في عمدة القاري .. وابن شبرمه الفقيه الثقة العابد و إسحاق بن راهويه ، شيخ البخاري ، وأحد أئمة الحديث والفقه ، وأمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري كما يبدوا من ترجمته للباب و عدم ذكره الرأي الأخر ... إضافة إلى ما نقلناه عن العلامة ابن القيم و ما هو معروف من مذهب الإمام مالك وبعض أصحابه و خصوصاً فيما كان له سبب و دخل الموعود من أجله في نفقة وكلفة .. فليس القائل به إذاً قليلاً ، كما قال الحافظ رحمه الله ، بل لعل الصحيح ما نقله الزبيدي عن شيخه : أن أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد و تحريم الخلف فيه .
و بهذا نرى أن نسبة القول بالإلزام بالوعد إلى بعض المالكية أو إلى ابن شبرمة فقط ، فيه تقصير كبير من الاستقصاء.
وقفات ثلاث :
بعد البيان السابق ينبغي لنا أن نقف وقفات ثلاث:
الأولى – في شبهات النافين للإلزام بالوعد و ما اعتمدوا عليه من نصوص مع وضوح الأدلة المصرحة بالوجوب و الإلزام .
الثانية – فيما قيل من التفرقة بين العدة بالمعروف و الصلة و الوعد في أور المعاملات و المعاوضات و أن الوعد في الأولى هو الذي قيل بوجوبه أم في الثانية فلا ز
الثالثة – في التفرقة فيما هو واجب ديانة ، أي بين المرء وربه و ما هو واجب قضاء بمعنى أن من حق ولي الأمر أو القاضي أن يتدخل فيه و يلزم به.
فقد قال من قال : إنما نسلم أن الوفاء بالوعد و الالتزام به و اجب من الناحية الدينية والأخلاقية و لكن لا حق للسلطة القضائية أو التقنينية أو التنفيذية في التدخل للإلزام به أو المعاقبة على الإخلال به و إن نشأ عن ذلك من الأضرار و الخسائر ما لا يرضاه الله و لا رسوله و لا المؤمنون .
و لنناقش هذه النقاط الثلاث من غير تطويل .
شبهات النافين لوجوب الوفاء بالوعد
لم أجد دليلاً مقنعاً يقاوم الأدلة الكثيرة المؤيدة للقول بوجوب الوفاء بالوعد ، و لكن هناك بعض شبهات ذكرها بعض الفقهاء أكتفي منه بما ذكره العلامة ( القرافي ) من أحاديث عارض بها النصوص الدالة على تحريم خلف الوعد و هي أحاديث لا تقوى على معارضة هذه النصوص لا من ناحية ثبوتها و لا من ناحية دلالتها .
فقد ذكر هنا حديثين :
أولهما : حديث الموطأ : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أكذب لامرأتي ؟ فقال عليه السلام : لا خير في الكذب ، فقال يا رسول الله أفأ عدها و أقول لها ؟ فقال عليه السلام : لا جناح عليك .
قال : فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل ، فإن رضا النساء إنما يحصل به و نفى الجناح على الوعد و هو يدل على أمرين : أحدهما : أن إخلاف الوعد لا يسمى كذباً لجعله قسيم الكذب . وثانيهما : أن إخلاف الوعد لا حرج فيه .
و الحديث من ناحية سنده غير ثابت قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من رواية صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلا.
و هو في ( الموطأ ) عن صفوان بن سليم معضلا من غير ذكر عطاء .
و أما من ناحية الدلالة فقد ناقش العلامة ابن الشاط القرافي ( في حاشيته على الفروق ). مناقشة جيدة في الأمر الأول يحسن الرجوع إليها ولم أذكرها خشية الإطالة.
أما الأمر الثاني ، وهو في إخلاف الوعد لا حرج فيه مطلقاً فهو غير مسلّم لأن الحديث جاء في علاقة الرجل بامرأته و من حرص الشارع على دوام المودة بين الزوجين أن رخص لهما ما لم يرخص لغيرهما فأجاز شيئاً من الكذب كما أجاز في الحرب و الإصلاح بين الناس و قد روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن أم كلثوم بنت عقبة : أنها لم تسمع رسوا الله عليه السلام يرخّص في شيء مما يقول الناس : كذب ، إلا في ثلاث : الحرب ، و الإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته و حديث المرأة زوجها.
قال النووي في شرح الحديث :
قال القاضي لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصورة
و اختلفوا في المراد من الكذب المباح فيها : ما هو ؟
فقالت طائفة هو على إطلاقه و أجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة.
و قال آخرون : ما جاء من الإباحة في هذا المراد به : التورية واستعمال المعاريض ، لا صريح الكذب مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا وينوي : إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه.
و بهذا تتبين أن العلاقة بين الزوجين هنا موسع فيها ، ولا يقول القرافي و غيره هنا أن الترخيص في بعض الكلمات هنا يعني أن الكذب لا حرج فيه بإطلاق.و ثاني ما استدل به القرافي هنا هو حديث أبي داور ( إذا وعد أحدكم أخاه و من نيته أن يفي فلم يفِ فلا شيء عليه )
والحديث في سنن أبي داود بلفظ :(( إذا وعد الرجل أخاه و في نيته أن يفي و لم يجيء للميعاد فلا إثم عليه ))
والحديث سكت عليه أبو داود و لكن ذكر المنذري في مختصره عن أبي حاتم الرازي أن في سنده راويين مجهولين ( أبو النعمان و أبو وقاص ) و كذا رواه الترمذي وقال : و لا يعرف أبو النعمان و أبو وقاص و هما مجهولان .
و كذا ضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث ( الإحياء ) فالحديث متفق على ضعفه.
و مثل هذا لا يحتج به في مقابلة الأدلة الأخرى الدالة على تحريم الخلف.
و مع هذا يمكن حمل هذا الحديث – كما قال ابن الشاط المالكي – على أنه لم يف مضطرا جمعا بين الأدلة مع بُعد تأويل هذا.
و الحق أن العلاّمة القرافي في هذا الموضوع لم يكن على العهد به من التحقيق و التدقيق و لهذا نجد العلامة ابن الشاط في حاشيته على ( الفروق ) المسماة ( أدرار الشروق) يعقب على ما ذكره القرافي من اختلاف الفقهاء في الوعد هل يجب الوفاء شرعاً به أم لا ؟.. إلخ . بقوله : الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقاً فيتعين تأويل ما يناقض ذلك و يجمع بين الأدلة على خلاف الوجه الذي اختاره المؤلف، والله أعلم .
الوعد بالمعروف و الوعد في المعاوضات
و أما النقطة الثانية و هي ما قيل من التفرقة بين الوعد بالصلة و المعروف وأنه هو الذي قيل بوجوبه و بين الوعد في شئون المعاملات و المبادلات المالية و أن هذا لم يقولوا بوجوبه .
فيهمني أن أؤكد في هذا أمرين :
الأول – أن النصوص التي أوجبت الوفاء و حرمت الإخلاف جاءت عامة مطلقة و لم تفرق بين وعد و وعد و لا دليل عند المعرض يخصص عمومها أو يقيد إطلاقها و لهذا قال ابن شبرمة بصريح العبارة الوعد كلّه لازم.
الثاني – أنه إن كان لا بد من التفرقة بين النوعين – فالأمر يبدوا لي على خلاف ما قيل تماماً .
والذي أراه أن الخلاف المنقول في الوعد و لزوم الوفاء به عند المالكية و غيرهم قد يقبل فيما كان من باب البر و المعروف و الإرفاق على معنى أن من وعد إنساناً بخدمة يقدمها له قد يجري فيه الخلاف السابق لأن أصله تبرع محض و يستقبح منه على كل حال إخلافه و هذا ما تعرف الناس عليه و عبروا عنه في نثرهم بمثل قولهم : و عد الحر دين عليه ، وفي شعرهم بمثل قولهم :
إذا قلت في شيء : ( نعم ) فأتمــه فإن ( نعم ) دين على الحر واجب
و إلا فقل ( لا ) فتسترح ونرح بها لئلا يقول الناس : إنك كــاذب
و هذا ما لم يدخل بسبب الوعد في ارتباط مالي فإنه يشبه أن يكون تعاقداً ضمنياً..
و من هذا ما لم تعد به الحكومات موظفيها من علاوات و ترقيات و إعانات اجتماعية في حالة الزواج و الإنجاب و غيرها.
و ما تعد به الوزارات و المؤسسات العاملين فيها من مكافآت و حوافز لمن يقدم جهد معين كعمل لإضافي أو خدمة معينة أو تحسين لمستوى العمل أو نحو ذلك فيجب أن توفي به .
ومن ذلك عقد الجعالة فإنما هو وعد من الجاعل كأن يقول : من رد عليّ مالي المفقود فله كذا ..فرده عليه ، فيلزمه إعطاؤه ما وعد به.
ومن ذلك ما تعد به المؤسسات الثقافية من جوائز تمنحا لمن يستوفي شروط السبق في مسابقات علمية تعلن عنها ، ومثلها المسابقات الرياضية و نحوها.
أما الذي ينبغي ألا يقبل الخلاف فيه فهو : الوعد في شئون المعاوضات و المعاملات التي يترتب عليها التزامات و تصرفات مالية واقتصادية قد تبلغ الملايين و يترتب على جواز الإخلاف فيها إضرار بمصالح الناس و تغرير به .
فالوفاء بالوعد هناك كالوفاء بالعهد ..لذا وضعت بعض الأحاديث : ( إذا عاهد غدر) مكان ( إذا وعد أخلف ) فالمعنيان متلازمان أو متقاربان و قد ذكر الغزالي في الاستدلال على و جوب الوفاء بالوعد قوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) [ المائدة :1 ] دلالة على أن الوعد داخل في مسمى العقود .
كما أدخل ابن القيم العقود و العهود والشروط جميعاً في باب واحد فكما أن المسلمون عند شروطهم فهم كذلك عند وعودهم لأنهم لا يقولون ما لا يفعلون.
و من هنا استغرب اتجاه د. الأمين ، و د. الأشقر إلى عكس ذلك تماماً على حين رأينا المالكية الذين اعتمدوا مذهبهم يرجحون الإلزام بالوعد ديانة و قضاء إذا ترتب عليه شيء من الالتزام المالي فكيف لا نتجه إلى القول بلزوم الوفاء إذا كانت المعاملة كلها قائمة من الأساس على التزام مالي متبادل ؟
أما أن المالكية لا يقولون بالالتزام بالوعد في هذه الصورة بالذات فلما عارضه – في نظرهم – من أدلة أخرى أوجبت منع هذه الصورة .
و قد بينا ضعف هذه الأدلة في موضع آخر و لهذا لا يلزمنا تقليدهم هنا و لا مانع أبدا من الأخذ برأيهم في الإلزام بالوعد و عدم الأخذ برأيهم في بيوع الآجال أو بيوع العينة.
على أننا قد وجدنا بحمد الله من غير المالكية من فقهاء الأمة من قال بالإلزام فمن كان يرى أن رأي المالكية إما أن يؤخذ كله و إما أن يترك كلّه ، تركنا له رأيهم كلّه ، و وسعنا أن نأخذ برأي الآخرين من القائلين بالإلزام و هم عدد غير قليل .
التفريق بين ما يلزم ديانة و ما يلزم قضاء
و أما النقطة الثالثة و هي التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء لإتخاذ ذلك ذريعة إلا أن وجوب الوفاء بالوعد من الناحية الدينية لا يترتب عليه تدخل السلطات الشرعية للقضاء به و الإلزام بتنفيذه فالواقع أن الأصل هو الإلزام بكل ما أوجبه الله ورسوله و ما ، وما مهمة السلطات إلا تنفيذ ما أمر الله به ، و معاقبه من خرج عليه بحكم مسئوليتهم الشاملة .
والذي يتضح لي أن العلام اللذين نقلنا رأيهم في وجوب الوفاء بالوعد ، لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء ، بل الظاهر من سيرهم وأحوالهم وطريقة تفكيرهم أن كل ما يلزم المسلم ديناً وشرعاً ، يقضى به عليه ويجبر على فعله في حالة الأمر والوجوب ، وعلى تركه في حالة النهي والتحريم .
يؤكد هذا أن بعضهم كان بيده سلطة الإلزام والقضاء بالفعل مثل عمر بن العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة ، وإنما فرق الفقهاء بين الديانة والقضاء فيما له ظاهر وباطن ، فيحكم القضاء بالظاهر ، ويكل إلى الله السرائر ، كما في حكم القاضي لمن هو ألحن بحجته ، ومن شهدت له البينة ولو كاذبة ، أو شهد له ظاهر الحال ، وإن كان الواقع غير ذك ، فيجوز له أن يأخذ ما حكم له به قضاء لا ديانة .
وكذاك في بعض أحوال الطلاق ونحوه ، قد يختلف القضاء عن الديانة لاختلاف النية المكنونة عن الظاهر المشهود ... وهلم جرا.
وما قرره مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في " دبي " من " أن ما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك ، وأمكن للقضاء التدخل فيه " يتفق مع اتجاه الشريعة الإسلامية في الإلزام بالواجبات الدينية المحضة وإشراك ولي الأمر في رعايتها ، مثل الصلاة والصيام ونحوها مما شدد الشرع في فعله ، وأوجب العقوبة على تركه ، وإذا كان هذا في العبادات التي لها صفتها الدينية البارزة ، فأولى من ذلك ما يتعلق بالعلاقات والمعاملات .
ومن المعروف أن عقوبة " التعزيز " المفوضة إلى رأي الإمام ، ( ولي الأمر الشرعي ) أو القاضي إنما محلها كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، وهذا باب واسع يستطيع القانون أو القضاء أن يدخل منه ليحاكم أو يعاقب على كل إهمال متعمد لواجب ديني ، ومن ذلك ترك من يتعرض للهلاك بالجوع أو العطش أو الغرق أو الحريق أو غير ذلك دون أن يسعفه ، فإن المذهب المالكي وغيره يحمله مسئولية جنائية بتركه لواجبه الديني .
ومثل ذلك النفقة على البهيمة والرفق بها ، مما هو واجب ديني في الأصل ، ولكن عند إهماله يمكن أن يلزم به القضاء ، كما يدخل في سلطة المحتسب.
وقانون " الوصية الواجبة " الذي أخذت به بعض البلاد الإسلامية إنما أرادت به إلزام الأجداد قانوناً ، بما كان يجب أن يراعوه ديانة نحو أحفادهم الذين ليس لهم نصيب من الميراث في تركتهم لموت آبائهم في حياتهم ، فجمعوا بين اليتم والحرمان فألزموا بالوصية لهم وفقاً للآية الكريمة في سورة البقرة ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن ترك خير الوصية للوالدين والأقربين ) البقرة (180) .
عقد الاستصناع عند الحنفية :
والخلاف في موضوع الوعد ومدى إلزامه ، يشبه الخلاف الذي جاء في الفقه الحنفي حول " الاستصناع " الذي اتفق أئمة المذهب على جوازه ، واعتباره بيعاً صحيحاً ، برغم أنه بيع لمعدوم وقت العقد ، ولكنهم أجازوه استحساناً ، لتعامل الناس به الراجع إلية الإجماع العملي الممتد من عهد النبوة إلى اليوم بلا نكير ، والتعامل بهذه الصفة – كما قال ابن الهمام – أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم " لا تجتمع أمتي على ضلالة " .
ثم اختلف مشايخ المذهب في تكييفه : أهو مواعدة أم معاقدة ؟ .
فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمه ، وصاحب المنثور اعتبروه مواعدة ، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعاً بالتعاطي ، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم ، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه .
قال ابن الهمام : والصحيح من المذهب جوازه بيعاً ... الخ .
وإذا أتم صنع الشيء المطلوب فالمستصنع ( بكسر النون ) بالخيار إذا رآه : إن باع شاء أخذه وإن شاء تركه ، لأنه اشترى ما لم يره ولا خيار للصانع ، لأنه بائع باع ما لم يره ، ومن هو كذلك فلا خيار له ، وه و الأصح بناء على جعله بيعاً لا عدة في رواية عن أبي حنيفة : أن له الخيار أيضاً دفعاً للضرر عنه ، لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بصرر .
وعن أبي يوسف : أنه لا خيار لهما ، أما الصانع فلما ذكرنا ( أنه بائع باع ما لم يره ) ، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله ( أي بتحويله من مادة خام إلى مصنوعات ) ليصل إلى بدله ، فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع ، لأن غيره لا يشترى بمثله ، آلا ترى أن والواعظ إذا استصنع منبراً فالعامي لا يشتريه أصلاً ؟.
وهذا التعليل والتمثيل يرينا بوضوح كيف كان فقهنا يعيش في قلب الحياة العملية .
وقد عدلت " مجلة الأحكام العدلية " الشهيرة في مسألة " الاستصناع " عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب ، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع ، وإن جاء مستوفياً كل المواصفات المتفق عليها ، وتبنت قول أبي يوسف في عدم الخيار وإلزامه بأخذ المستصنع ، وهذا ما نصت عليه المادة 292 من المجلة ، وقد جاء في التقرير الذي قدمت به ما يأتي :-
" وعند الإمام الأعظم ( أبي حنيفة ) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع ، وعند الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وجد المصنوع موافقاً للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع ، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة ، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة ، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة ... لزوم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا ، مراعاة لمصلحة الوقت ، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة .
هذا وبالله التوفيق ،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق