بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

18 يونيو 2010

مكتب / محمد جابر عيسى المحامى


المحرمات من النساء في الزواج - الجزء الأول








المحرمات من النساء في الزواج - الجزء الأول



مُحَرَّمات النّكاح

التّعريف :



المحرّمات في اللغة : جمع محرّمٍ , والمحرّم والمحرّمة اسم مفعولٍ من حرّم , يقال : حرّم الشّيء عليه أو على غيره : جعله حراماً , والمحرّم : ذو الحرمة , والمحرم كذلك : ذو الحرمة , ومن النّساء والرّجال : الّذي يحرم التّزوج به لرحمه وقرابته .



والنّكاح : مصدر نكح , يقال : نكحت المرأة تنكح نكاحاً : تزوّجت .



قال الأزهري : أصل النّكاح في كلام العرب الوطء , وقيل للتّزوج نكاح , لأنّه سبب الوطء المباح .



ولا يخرج المعنى الاصطلاحي لمحرّمات النّكاح عن المعنى اللغويّ .



أنواع المحرّمات من النّساء :



المحرّمات من النّساء نوعان :



أ - محرّمات على التّأبيد , وهنّ اللائي تكون حرمة نكاحهنّ مؤبّدةً , لأنّ سبب التّحريم ثابت لا يزول , كالأمومة , والبنوّة , والأخوّة .



ب - محرّمات على التّأقيت , وهنّ من تكون حرمة نكاحهنّ مؤقّتةً , لأنّ سبب التّحريم غير دائمٍ , ويحتمل الزّوال كزوجة الغير , ومعتدّته , والمشركة باللّه .



أوّلاً : المحرّمات تحريماً مؤبّداً :



أسباب تأبيد حرمة التّزوج بالنّساء ثلاثة , هي :



أ - القرابة .



ب - المصاهرة .



ج - الرّضاع .



أ - المحرّمات بسبب القرابة :



يحرم على المسلم بسبب القرابة أربعة أنواعٍ :



الأصل من النّساء وإن علا , والمراد به : الأم , وأم الأمّ , وإن علت , وأم الأب , وأم الجدّ , وإن علت , لقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } .



وتحريم الأمّ بهذه الآية واضح , وأمّا تحريم الجدّات فواضح أيضاً إذا قلنا : إنّ لفظ الأمّ يطلق على الأصل , فيشمل الجدّات , فيكون تحريمهنّ ثابتاً بالآية كتحريم الأمّهات , أو تكون حرمة الجدّات بدلالة النّصّ , لأنّ اللّه حرّم العمّات والخالات , وهنّ أولاد الجدّات , فتكون حرمة الجدّات من باب أولى .



الفرع من النّساء وإن نزل , والمراد به : البنت وما تناسل منها , وبنت الابن وإن نزل , وما تناسل منها , لقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } .



وتحريم البنات الصلبيّات بنصّ الآية , وأمّا تحريم بنات أولادهنّ فثابت بالإجماع , أو بدلالة النّصّ , لأنّ اللّه حرّم بنات الأخ , وبنات الأخت , ولا شكّ في أنّ بنات البنات , وبنات الأولاد وإن نزلن أقوى قرابةً من بنات الأخ .



ويحرم على الإنسان أن يتزوّج بنته من الزّنا بصريح الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } لأنّها بنته حقيقةً , ولغةً , ومخلوقة من مائه , ولهذا حرّم ابن الزّنا على أمّه , وهذا هو رأي الحنفيّة وهو المذهب عند المالكيّة , والحنابلة , لما روي أنّ رجلاً قال : « يا رسول اللّه : إنّي زنيت بامرأة في الجاهليّة أفأنكح ابنتها ؟ قال : لا أرى ذلك , ولا يصلح أنّ تنكح امرأةً تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها » فالبنت من الزّنا جزء من الزّاني , فهي بنته وإن لم ترثه , ولم تجب نفقتها عليه .



وذهب الشّافعيّة وابن الماجشون من المالكيّة إلى عدم حرمتها عليه , لأنّ البنوّة الّتي تبنى عليها الأحكام هي البنوّة الشّرعيّة , وهي منتفية هنا , لقوله صلى الله عليه وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » . وبه قال اللّيث وأبو ثورٍ وقد روي عن جماعةٍ من الصّحابة والتّابعين .



والمزنيّ بها ليست بفراش , ولذلك لا يحل له أن يختلي بها ولا ولاية له عليها , ولا نفقة لها عليه ولا توارث .



وعلى هذا الخلاف أخته من الزّنا وبنت أخيه وبنت أخته وبنت ابنه من الزّنا , بأن زنى أبوه أو أخوه أو أخته أو ابنه فأولدوا بنتاً , فإنّها تحرّم على الأخ والعمّ والخال والجدّ .



والمنفيّة بلعان لها حكم البنت , فلو لاعن الرّجل زوجته , فنفى القاضي نسب ابنتها من الرّجل , وألحقها بالأمّ فتحرم على نافيها ولو لم يدخل بأمّها , لأنّها لم تنتف عنه قطعاً بدليل لحوقها به لو أكذب نفسه , ولأنّها ربيبة في المدخول بها , وتتعدّى حرمتها إلى سائر محارمه .



فروع الأبوين أو أحدهما , وإن نزلن , وهنّ الأخوات , سواء أكنّ شقيقاتٍ , أم لأبٍ , أم لأمّ , وفروع الإخوة والأخوات , فيحرم على الرّجل أخواته جميعاً وأولاد أخواته وإخوانه وفروعهم , مهما تكن الدّرجة , لقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء } .



وتحريم فروع بنات الأخ وبنات الأخت ثابت بنصّ الآية بناءً على أنّ لفظ بنات الأخ وبنات الأخت يشملهنّ , أو يكون التّحريم ثابتاً بالإجماع إذا كان لفظ بنات الأخ وبنات الأخت مقصوراً عليهما .



فروع الأجداد والجدّات إذا انفصلن بدرجة واحدةٍ , وهنّ العمّات , والخالات , سواء أكنّ شقيقاتٍ أم لأبٍ , أم لأمّ , وكذلك عمّات الأصل , وإن علا , لقوله تعالى في آية المحرّمات : { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ } وتحريم العمّات والخالات ثابت بالنّصّ , وأمّا أخت الجدّ وإن علت فتحريمها ثابت إمّا بالنّصّ , لأنّ لفظ العمّة يشمل أخت الأب , وأخت الجدّ وإن علت , وإمّا بالإجماع إذا كان لفظ العمّة مقصوراً على أخت الأب , وكذا تحريم الخالة ثابت بالنّصّ , ومثل أخت الأمّ أخت الجدّة وإن علت , وتحريمها ثابت إمّا بالنّصّ لأنّ لفظ الخالة يشمل أخت الأمّ وأخت الجدّة وإن علت , وإمّا بالإجماع إذا كان لفظ الخالة مقصوراً على أخت الأمّ .



أمّا بنات الأعمام والأخوال , وبنات العمّات والخالات , وفروعهنّ , فيجوز التّزوج بهنّ , لعدم ذكرهنّ في المحرّمات , لقوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } .



ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الََلاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَاََلاتِكَ الََلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } .



وما أحلّه اللّه للرّسول صلى الله عليه وسلم يحل لأمّته ما لم يقم دليل على أنّ الحلّ خاص بالرّسول صلى الله عليه وسلم ولا يوجد دليل على الخصوص , فشمل الحكم المؤمنين جميعاً .



حكمة التّحريم :



أمر الإسلام بصلة الرّحم والحرص على الرّوابط الّتي تربط الأفراد بعضهم ببعض وحمايتها من الخصومات والمنازعات , وقد قال الكاساني : إنّ نكاح هؤلاء يفضي إلى قطع الرّحم لأنّ النّكاح لا يخلو من مباسطاتٍ تجري بين الزّوجين عادةً , وبسببها تجري الخشونة بينهما , وذلك يفضي إلى قطع الرّحم , فكان النّكاح سبباً لقطع الرّحم , مفضياً إليه , وقطع الرّحم حرام , والمفضي إلى الحرام حرام , وقال : تختص الأمّهات بمعنى آخر , وهو أنّ احترام الأمّ , وتعظيمها واجب , ولهذا أمر الولد بمصاحبة الوالدين بالمعروف , وخفض الجناح لهما , والقول الكريم , ونهى عن التّأفيف لهما , فلو جاز النّكاح , والمرأة تكون تحت أمر الزّوج وطاعته , وخدمته مستحقّة عليها للزمها ذلك , وإنّه ينافي الاحترام , فيؤدّي إلى التّناقض .



ب - المحرّمات بسبب المصاهرة :



يحرم بالمصاهرة أربعة أنواعٍ :



زوجة الأصل وهو الأب , وإن علا , سواء أكان من العصبات كأبي الأب , أم من ذوي الأرحام كأبي الأمّ , وبمجرّد عقد الأب عليها عقداً صحيحاً تصبح محرّمةً على فرعه , وإن لم يدخل بها , لقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } .



ولا يدخل في التّحريم أصول هذه المرأة , ولا فروعها .



وكما تدل الآية على حرمة زوجة الأب , تدل على حرمة زوجة الجدّ وإن علا , لأنّ لفظ الأب يطلق على الجدّ وإن علا , ولأنّ زواج من تزوّج بهنّ الآباء يتنافى مع المروءة , وترفضه مكارم الأخلاق وتأباه الطّباع السّليمة .



أصل الزّوجة وهي أمها وأم أمّها , وأم أبيها وإن علت , لقوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .



وقد اتّفق الفقهاء على أنّ أصول الزّوجة تحرّم متى دخل الزّوج بزوجته , ولكنّهم اختلفوا فيما إذا عقد الزّوج على زوجته ولم يدخل بها , بأن طلّقها أو مات عنها قبل الدخول بها . فذهب جمهور الصّحابة والفقهاء , ومنهم عمر وابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ وعمران بن حصينٍ رضي الله عنهم إلى أنّ العقد على الزّوجة كافٍ في تحريم أصولها , لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أيما رجلٍ تزوّج امرأةً فطلّقها قبل أن يدخل بها , أو ماتت عنده , فلا يحل له أن يتزوّج بأمّها » ، وهذا معنى قول الفقهاء : العقد على البنات يحرّم الأمّهات .



وقال الفقهاء : إنّ النّصّ الدّالّ على التّحريم , وهو قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } مطلق غير مقيّدٍ بشرط الدخول لم يرد فيه شرط ولا استثناء , وأنّ الدخول في قوله تعالى : { مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ } راجع إلى : { وَرَبَائِبُكُمُ } لا إلى المعطوف عليه , وهو : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } فيبقى النّص على حرمة أمّهات النّساء , سواء دخل بها أو لم يدخل , وما دام النّص جاء مطلقاً فيجب بقاؤه على إطلاقه ما لم يرد دليل يقيّده , وروي عن عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه قال في قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } : أبهموا ما أبهمه اللّه , أي أطلقوا ما أطلق اللّه , كما روي عن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه أنّه قال : الآية مبهمة , لا تفرّق بين الدخول وعدمه .



وذهب علي وزيد بن ثابتٍ رضي الله عنهما في إحدى روايتين عنه وغيرهما إلى أنّ أصول الزّوجة لا تحرّم بمجرّد العقد عليها , وإنّما تحرّم بالدخول بها مستدلّين بأنّ اللّه حرّم أمّهات النّساء , ثمّ عطف الرّبائب عليهنّ , ثمّ أتى بشرط الدخول , ولذا ينصرف شرط الدخول إلى أمّهات النّساء , وإلى الرّبائب , فلا يثبت التّحريم إلا بالدخول .



ويرى الحنفيّة أنّ من زنى بامرأة أو لمسها , أو قبّلها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرم عليه أصولها , وفروعها , لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نظر إلى فرج امرأةٍ لم تحلّ له أمها ولا بنتها » وتحرّم المرأة على أصوله وفروعه , لأنّ حرمة المصاهرة تثبت عندهم بالزّنا ومقدّماته , ولا تحرّم أصولها ولا فروعها على ابن الزّاني وأبيه .



وتعتبر الشّهوة عندهم عند المسّ والنّظر , حتّى لو وجدا بغير شهوةٍ ثمّ اشتهى بعد التّرك لا تتعلّق به الحرمة .



وحد الشّهوة في الرّجل أن تنتشر آلته أو تزداد انتشاراً إن كانت منتشرةً .



وجاء في الفتاوى الهنديّة نقلاً عن التّبيين : وجود الشّهوة من أحدهما يكفي عند المسّ أو النّظر , وشرطه أن لا ينزل , حتّى لو أنزل عند المسّ أو النّظر لم تثبت به حرمة المصاهرة , قال الصّدر الشّهيد : وعليه الفتوى .



وعند الحنابلة يكون التّحريم بالزّنا دون المقدّمات .



ومناط التّحريم عند الحنفيّة والحنابلة الوطء , حلالاً كان أو حراماً , فلو زنى رجل بأمّ زوجته أو بنتها حرمت عليه زوجته حرمةً مؤبّدةً , ويجب عليهما أن يفترقا من تلقاء نفسيهما , وإلا فرّق القاضي بينهما .



قال الحنفيّة : لو أيقظ الزّوج زوجته ليجامعها , فوصلت يده إلى ابنةٍ منها , فقرصها بشهوة , وهي ممّن تشتهى يظن أنّها أمها , حرمت عليه الأم حرمةً مؤبّدةً .



ولم يفرّق الحنفيّة والحنابلة بين حصول الزّنا قبل الزّواج أو بعده في ثبوت حرمة المصاهرة , وذهب مالك في قوله الرّاجح , والشّافعي إلى أنّ الزّنا لا تثبت به حرمة المصاهرة , فلا تحرّم بالزّنا عندهما أصول المزنيّ بها , ولا فروعها على من زنى بها , كما لا تحرّم المزني بها على أصول الزّاني , ولا على فروعه , فلو زنى رجل بأمّ زوجته أو ابنتها لا تحرّم عليه زوجته , لما روي : « أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّجل يتبع المرأة حراماً ثمّ ينكح ابنتها , أو البنت ثمّ ينكح أمّها , فقال : لا يحرّم الحرام الحلال , إنّما يحرم ما كان بنكاح حلالٍ » ، وأنّ حرمة المصاهرة نعمة , لأنّها تلحق الأجانب بالأقارب , والزّنا محظور , فلا يصلح أن يكون سبباً للنّعمة , لعدم الملاءمة بينهما , ولهذا قال الشّافعي في مناظرته لمحمّد بن الحسن : وطء حمدت به وأحصنت , ووطء رجمت به , أحدهما نعمة , وجعله اللّه نسباً وصهراً , وأوجب به حقوقاً , والآخر نقمة , فكيف يشتبهان ؟ .



وروى ابن القاسم عن مالكٍ مثل قول الحنفيّة : إنّه يحرّم , وقال سحنون : أصحاب مالكٍ يخالفون ابن القاسم فيما رواه , ويذهبون إلى ما في الموطّأ من أنّ الزّنا لا تثبت به حرمة المصاهرة .



فروع الزّوجة , وهنّ بناتها , وبنات بناتها , وبنات أبنائها وإن نزلن , لأنّهنّ من بناتها بشرط الدخول بالزّوجة , وإذا لم يدخل فلا تحرّم عليه فروعها بمجرّد العقد , فلو طلّقها أو ماتت عنه قبل الدخول بها , فله أن يتزوّج بنتها , وهذا معنى قول الفقهاء : الدخول بالأمّهات يحرّم البنات , لقوله تعالى في آية المحرّمات : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } ، وذلك عطف على قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } فيكون المعنى تحريم التّزوج بالرّبائب اللّاتي في حجوركم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ .



والرّبائب جمع ربيبةٍ , وربيب الرّجل , ولد امرأته من غيره , سمّي ربيباً له , لأنّه يربه أي يسوسه , والرّبيبة ابنة الزّوجة , وهي حرام على زوج أمّها بنصّ الآية , سواء أكانت في الحجر أم لم تكن , وهي تحظى بما تحظى به البنت الصلبيّة من عطفٍ ورعايةٍ , وأمّا تحريم بنات الرّبيبة وبنات الرّبيب فثابت بالإجماع .



ووصف الرّبيبة بأنّها في الحجر ليس للتّقييد , بل خرج مخرج الغالب لبيان قبح التّزوج بها , لأنّها غالباً تتربّى في حجره كابنه وابنته , فلها ما لبنته من تحريمٍ .



زوجة الفرع أي زوجة ابنه , أو ابن ابنه , أو ابن بنته , مهما بعدت الدّرجة , سواء دخل الفرع بزوجته أو لم يدخل بها , لقوله تعالى في آية المحرّمات : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } والحلائل جمع حليلةٍ وهي الزّوجة , سمّيت حليلةً , لأنّها تحل مع الزّوج حيث تحل , وقيل : حليلة بمعنى محلّلةً , ولأنّها تحل للابن , وقيّدت الآية أن يكون الأبناء من الأصلاب , لإخراج الأبناء بالتّبنّي , فلا تحرّم زوجاتهم لأنّهم ليسوا أبناءه من الصلب , وعلى هذا قصر الأئمّة الأربعة فهمهم للآية , ولم يخرجوا بها زوجة الابن الرّضاعيّ , بل هي محرّمة كزوجة الابن الصلبيّ , مستندين إلى قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يحرم من الرّضعة ما يحرم من النّسب » .



أمّا أصول زوجة الفرع , وفروعها , فغير محرّماتٍ على الأصل , فله أن يتزوّج بأمّ زوجة فرعه أو بابنتها وقد اتّفق الفقهاء على أنّ حرمة المصاهرة كما تثبت بالعقد الصّحيح في زوجة الأصل , وأصل الزّوجة , وزوجة الفرع , وفرع الزّوجة بشرط الدخول بأمّها تثبت كذلك بالدخول في عقد الزّواج الفاسد , وبالدخول بشبهة , كما إذا عقد رجل زواجه بامرأة , ثمّ زفّت إليه غيرها فدخل بها , كان هذا الدخول بشبهة , وبالدخول بملك اليمين , كما إذا واقع السّيّد جاريته المملوكة فيحرم عليه أصولها وفروعها , وتحرم هي على أصوله وفروعه .



ج - المحرّمات بسبب الرّضاع :



يحرم من الرّضاع :



أ - أصول الشّخص من الرّضاع , أي أمه رضاعاً وأمها , وإن علت , وأم أبيه رضاعاً وأمها وإن علت , فإذا رضع طفل من امرأةٍ صارت أمّه من الرّضاع , وصار زوجها الّذي كان السّبب في درّ لبنها أباً من الرّضاع .



ب - فروعه من الرّضاع , أي بنته رضاعاً , وبنتها وإن نزلت , وبنت ابنها رضاعاً وبنتها , وإن نزلت , فإذا رضعت بنت من امرأةٍ صارت ابنةً رضاعاً من هذه المرأة , ولزوجها الّذي كان السّبب في درّ لبنها .



ج - فروع أبويه من الرّضاع أي أخواته رضاعاً , وبناتهنّ , وبنات إخوته رضاعاً , وبناتهنّ , وإن نزلن , فإذا رضع طفل من امرأةٍ صارت بناتها أخواتٍ له , وحرمن عليه , سواء البنت الّتي رضعت معه , أو البنت الّتي رضعت قبله أو بعده .



د - فروع جدّيه إذا انفصلن بدرجة واحدةٍ , أي عمّاته , وخالاته رضاعاً , وهؤلاء يحرّمن نسباً , فكذلك يحرّمن رضاعاً .



وأمّا بنات عمّاته وأعمامه رضاعاً , وبنات خالاته وأخواله رضاعاً , فلا يحرّمن عليه .



ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يحرم من الرّضاع ما يحرم من المصاهرة , لما ثبت أنّ الرّضاع ينشئُ صلة أمومةٍ وبنوّةٍ بين المرضع والرّضيع , فتكون الّتي أرضعت كالّتي ولدت , كل منهما أم , فأم الزّوجة رضاعاً كأمّها نسباً , وبنتها رضاعاً كبنتها نسباً , وكذلك يكون زوج المرضع أباً للرّضيع , والرّضيع فرع له , فزوجة الأب الرّضاعيّ كزوجة الأب النّسبيّ , وزوجة الابن الرّضاعيّ كزوجة الابن النّسبيّ , ولهذا يحرم بالرّضاع ما يحرم بالمصاهرة , وهنّ :



أ - الأم الرّضاعيّة للزّوجة , وأمها , وإن علت , سواء دخل بالزّوجة أو لم يدخل بها .



ب - البنت الرّضاعيّة للزّوجة , وبنتها , وإن نزلت , وبنت ابنها الرّضاعيّ وبنتها , وإن نزلت بشرط أن يكون قد دخل بالزّوجة .



ج - زوجات الأب الرّضاعيّ , وأبي الأب وإن علا , بمجرّد العقد الصّحيح .



د - زوجات الابن الرّضاعيّ , وابن ابنه , وإن نزل بمجرّد العقد الصّحيح .



وتحريم الرّضاع ما يحرم بالمصاهرة متّفق عليه بين الأئمّة الأربعة .



كيفيّة معرفة قرابة الرّضاع المحرّمة :



تعرف قرابات الرّضاع المحرّمة كلّها , بأن يفرض انتزاع الرّضيع من أسرته النّسبيّة , ووضعه , وفروعه فقط في أسرته الرّضاعيّة , بوصفه ابناً رضاعياً لمن أرضعته , ولزوجها الّذي درّ لبنها بسببه , فكل صلةٍ تتقرّر له أو لفروعه بهذا الوضع الجديد فهي الّتي تجعل أساساً للتّحريم أو التّحليل بالرّضاع .



أمّا صلة الأسرة الرّضاعيّة بأسرة الرّضيع النّسبيّة بسبب رضاعه فلا أثر لها في تحريمٍ أو تحليلٍ , ولهذا لا يثبت لأقاربه النّسبيّين غير فروعه مثل ما يثبت له هو بهذا الرّضاع .



هذا , وتوجد صور مستثناة من التّحريم بالرّضاع , وإن كانت محرّمةً من النّسب منها :



أ - أم الأخ أو الأخت من الرّضاع , فإنّه يجوز الزّواج بها لأنّها أجنبيّة عنه , ولا يجوز الزّواج بأمّ الأخ أو الأخت من النّسب , لأنّها إمّا أن تكون أمه , أو تكون زوجة أبيه فتحرّم عليه , وهذه الصّلة منتفية في صورة أمّ الأخ أو الأخت رضاعاً .



ب - أخت الابن رضاعاً , فإنّها لا تحرّم على الأب الرّضاعيّ , سواء أكانت أخت هذا الابن أو البنت الرّضاعيّة أختاً له من النّسب أم أختاً له من الرّضاعة من امرأةٍ أخرى , لأنّها ستكون أجنبيّةً عنه .



فإذا رضع طفل من امرأةٍ فلأبي هذا الطّفل أن يتزوّج بنت هذه المرضعة , وهي أخت ابنه من الرّضاع , أمّا أخت الابن أو البنت نسباً , فلا يجوز لأنّها ستكون بنته أو بنت زوجته المدخول بها .



ج - جدّة ابنه أو بنته رضاعاً , فيجوز للأب الرّضاعيّ أن يتزوّجها لعدم وجود علاقةٍ تربطها به في حين أنّ جدّة الابن أو البنت نسباً , إمّا أن تكون أمّه هو فتحرّم عليه , وإمّا أن تكون أمّ زوجته فتحرّم عليه أيضاً



قال الشّربيني الخطيب : الحرمة تسري من المرضعة والفحل إلى أصولهما وفروعهما وحواشيهما ومن الرّضيع إلى فروعه فقط .



ومتى ثبت الرّضاع بين الزّوجين وجب عليهما أن يفترقا من تلقاء نفسيهما , وإلا فرّق القاضي بينهما , حيث تبيّن أنّ عقد الزّواج فاسد .











مكتب / محمد جابر عيسى المحامى

القتل في الشريعة الإسلامية - الجزء الثاني








قَتْل شِبْهُ العَمْد



التّعريف :



قتل شبه العمد مركّب من : قتل ، وشبه ، وعمد ، وقد سبق تعريف كلّ منها في مصطلحاتها .



وفي الاصطلاح : عرّفه أبو حنيفة : بأنّه تعمّد شخص ضرب آخر بما ليس بسلاح ولا ما جرى مجرى السّلاح .



وعرّفه الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة : بأنّه قصد ضرب الشّخص عدواناً بما لا يقتل غالباً ، كالسّوط والعصا .



ولم يعرّفه المالكيّة لأنّ القتل عندهم عمد وخطأ فقط .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - القتل العمد :



القتل العمد هو قصد الفعل والشّخص بما يقتل قطعاً أو غالباً .



والصّلة بين القتل العمد وشبه العمد أنّ الجاني في القتل العمد يستعمل آلةً تقتل غالباً كالسّيف بخلاف شبه العمد .



ب - القتل الخطأ :



القتل الخطأ : ما وقع دون قصد الفعل والشّخص ، أو دون قصد أحدهما .



والصّلة أنّ القتل الخطأ لا يقصد فيه الفعل غالباً ، وأمّا القتل شبه العمد فيقصد فيه الفعل ولا يقصد إزهاق الرّوح .



ج - القتل بسبب :



القتل بسبب عند الحنفيّة هو القتل نتيجة فعل لا يؤدّي مباشرةً إلى قتل ، كوضع حجر في غير ملكه وفنائه ، فيعطب به إنسان ويقتل .



والصّلة بين القتل شبه العمد والقتل بسبب أنّ القتل شبه العمد قتل بفعل مباشر والقتل بسبب قتل بفعل غير مباشر .



الحكم التّكليفيّ :



القتل شبه العمد حرام إن كان نتيجةً لضرب متعمّد عدواناً ، والعدوان محرّم ، لقوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } .



أنواع القتل شبه العمد :



ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بالقتل شبه العمد ، واستدلّوا على إثباته بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ألا وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد بالسّوط والعصا والحجر مائة من الإبل » وفي رواية : « عقل شبه العمد مغلّظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه » .



وقسّم الحنفيّة القتل شبه العمد إلى ثلاثة أنواع :



قال الكاسانيّ : شبه العمد ثلاثة أنواع :



منها أن يقصد القتل بعصاً صغيرة أو بحجر صغير أو لطمة ونحو ذلك ممّا لا يكون الغالب فيها الهلاك ، كالسّوط ونحوه إذا ضرب ضربةً أو ضربتين ولم يوال في الضّربات .



ومنها : أن يضرب بالسّوط الصّغير ويوالي في الضّربات إلى أن يموت .



وهاتان الصّورتان متّفق عليهما بين فقهاء الحنفيّة .



ومنها : ما قصد قتله بما يغلب فيه الهلاك ممّا ليس بجارح ولا طاعن ، كمدقّة القصّارين ، والحجر الكبير ، والعصا الكبيرة ونحوها ، فهو شبه عمد عند أبي حنيفة ، وعمد عند الصّاحبين .



وقال جمهور فقهاء الشّافعيّة إنّ القتل شبه العمد يكون بقصد الفعل والشّخص بما لا يقتل غالباً .



وذكر الحنابلة صورتين للقتل شبه العمد :



الأولى : أن يقصد ضربه عدواناً بما لا يقتل غالباً كخشبة صغيرة أو حجر صغير أو لكزة ونحوها .



والثّانية : أن يقصد ضربه تأديباً ويسرف في الضّرب فيفضي إلى القتل .



وكما يكون القتل شبه العمد بالفعل يكون بالمنع ، فإذا امتنع الجاني عن عمل معيّن فأدّى هذا إلى قتل المجنيّ عليه ، فإن كان قصده القتل يعتبر هذا القتل عمداً ، وإن لم يقصده يعتبر شبه عمد أو خطأً عند بعضهم ، كمن حبس إنساناً ومنعه الطّعام أو الشّراب فمات ، وقد اختلف الفقهاء في اعتباره عمداً وشبه عمد أو خطأً ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّ هذا لا يعتبر قتلاً ، لا شبه عمد ولا خطأً ، لأنّ الهلاك حصل بالجوع والعطش ، ولا صنع لأحد في ذلك .



وعند الصّاحبين عليه الدّية ، لأنّه لا بقاء للآدميّ إلاّ بالأكل والشّرب ، فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش عليه يكون إهلاكاً له ، فأشبه حفر البئر على قارعة الطّريق .



وذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ هذا قتل عمد إذا مات في مدّة يموت مثله فيها غالباً ، وهذا يختلف باختلاف النّاس والزّمان والأحوال ، فإذا كان عطشاً في شدّة الحرّ ، مات في الزّمن القليل ، وإن كان ريّان والزّمن بارد أو معتدل لم يمت إلاّ في زمن طويل ، فيعتبر هذا فيه ، وإن كان لا يموت في مثلها غالباً فهو عمد الخطأ عند الحنابلة ، وشبه عمد عند الشّافعيّة .



أمّا المالكيّة ، فالمشهور عندهم أنّ القتل نوعان : عمد وخطأ ، لأنّه ليس في كتاب اللّه إلاّ العمد والخطأ ، فمن زاد قسماً ثالثاً زاد على النّصّ ، يقول اللّه تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .



فلا واسطة بين العمد والخطأ ، فالعمد عند مالك هو كلّ فعل تعمّده الإنسان بقصد العدوان ، فأدّى للموت ، أيّاً كانت الآلة المستعملة في القتل ، أمّا إذا كان موت المجنيّ عليه نتيجة فعل على وجه اللّعب والتّأديب فهو قتل خطأ .



وفي غير المشهور يقول ابن وهب من المالكيّة بثبوت شبه العمد ، رواه ابن حبيب عنه ، وعن ابن شهاب ، وربيعة ، وأبي الزّناد ، وحكاه العراقيّون عن مالك ، وصورته عند ابن وهب أنّه ما كان بعصاً أو وكزة أو لطمة ، فإن كان على وجه الغضب ففيه القود ، وإن كان على وجه اللّعب ففيه دية مغلّظة وهو شبه العمد .



ويرى العراقيّون من المالكيّة أنّ الضّرب في الصّورة السّابقة إن كان على وجه الغضب فهو شبه عمد ، لأنّه قصد الضّرب على وجه الغضب .



ما يجب في القتل شبه العمد :



يجب على الجاني في القتل شبه العمد الدّية والكفّارة والحرمان من الميراث ، ويلحقه الإثم نتيجة جنايته ، وبيان ذلك فيما يلي :



أ - الدّية :



الدّية في شبه العمد تكون مغلّظةً ، وتجب على عاقلة الجاني عند الجمهور القائلين بشبه العمد ، ولا يشترك فيها الجاني عند الشّافعيّة والحنابلة ، ويشترك فيها عند الحنفيّة .



واختلف الفقهاء في كيفيّة تغليظ الدّية ، وما يكون فيه التّغليظ



ب - الكفّارة :



ذهب الشّافعيّة والحنابلة والكرخيّ من الحنفيّة إلى وجوب الكفّارة في القتل شبه العمد .



وقال الحنفيّة عدا الكرخيّ : لا تجب الكفّارة في القتل شبه العمد المحض ، لأنّ هذه جناية مغلّظة والمؤاخذة فيها ثابتة .



ج - الحرمان من الميراث في القتل شبه العمد :



القتل شبه العمد مانع من الميراث لعموم النّصوص الواردة في ذلك .



قَتل عَمْد



التّعريف :



القتل العمد مركّب من كلمتين هما : " القتل والعمد " ، وسبق تعريف كلّ منهما في مصطلحه .



وقد اختلف الفقهاء في تعريف القتل العمد ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّ القتل العمد : هو قصد الفعل والشّخص بما يقتل قطعاً أو غالباً . وعند أبي حنيفة القتل العمد : هو أن يتعمّد ضرب المقتول في أيّ موضع من جسده بآلة تفرّق الأجزاء كالسّيف ، واللّيطة ، والمروة والنّار ، لأنّ العمد فعل القلب ، لأنّه القصد ، ولا يوقف عليه إلاّ بدليله ، وهو مباشرة الآلة الموجبة للقتل عادةً .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - الجناية :



الجناية في اللّغة الذّنب والجرم .



وشرعاً : اسم لفعل محرّم حلّ بمال أو نفس ، وقيل : كلّ فعل محظور يتضمّن ضرراً على النّفس أو غيرها ، إلاّ أنّ الفقهاء خصّصوا لفظ الجناية بما حلّ بنفس أو أطراف ، والغصب والسّرقة بما حلّ بمال .



والعلاقة بين الجناية والقتل العمد ، أنّ القتل تتحقّق به الحناية لأنّه فعل محظور يحلّ بالنّفس ، وأنّ كلّ قتل جناية ولا عكس .



ب - الجراح :



الجراح لغةً جمع جرح ، وهو من الجَرح بفتح الجيم ، يقال : جرحه إذا أثّر فيه بالسّلاح .



والجُرح - بضمّ الجيم - الاسم .



ولا يخرج استعمال الفقهاء للجراح عن معناها اللّغويّ .



والصّلة بين القتل العمد والجراح عموم وخصوص وجهيّ .



ج - القتل الخطأ :



القتل الخطأ : ما وقع دون قصد الفعل والشّخص أو دون قصد أحدهما .



والعلاقة الضّدية في القصد .



د - القتل شبه العمد :



القتل شبه العمد : قصد الفعل والشّخص بما لا يقتل غالباً .



وقال أبو حنيفة إنّ شبه العمد أن يتعمّد الضّرب بما لا يفرّق الأجزاء كالحجر ، والعصا ، واليد .



ويفرّق بين القتل العمد والقتل شبه العمد بأداة القتل .



الحكم التّكليفيّ :



أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حقّ ، لقول اللّه تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } .



وقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه إلاّ بإحدى ثلاث : النّفس بالنّفس ، والثّيّب الزّاني ، والمفارق لدينه التّارك للجماعة » .



صور القتل العمد :



الصّورة الأولى : الضّرب بمحدّد :



إذا ضرب شخص آخر بمحدّد وهو ما يقطع ويدخل في البدن ، كالسّيف ، والسّكّين ، والسّنان ، وما في معناه ممّا يحدّد فيجرح من الحديد ، والنّحاس ، والرّصاص ، والذّهب ، والفضّة ، والزّجاج ، والحجر ، والقصب ، والخشب ، وأمثالها ، فجرح به جرحاً كبيراً فمات فلا خلاف بين العلماء في أنّه قتل عمد .



وأمّا إذا جرحه جرحاً صغيراً كشرطة الحجّام ، أو غرزه بإبرة : فإن كان في مقتل كالعين ، والفؤاد ، وأصل الأذن ، فمات فهو عمد أيضاً ، لأنّ الإصابة بذلك في المقتل كالجرح بالسّكّين في غير المقتل عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .



وإن كان في غير مقتل ، فقال الحنفيّة في المذهب : إنّه لا قصاص فيه ، وفي رواية أنّ فيه القصاص .



وقال الشّافعيّة : إن غرز إبرةً في غير مقتل فتورّم وتألّم حتّى مات فعمد ، لحصول الهلاك به ، وإن لم يوجد أثر فمات في الحال فشبه عمد في الأصحّ ، لأنّه لا يقتل غالباً ، فأشبه الضّرب بالسّوط الخفيف ، وقيل : هو عمد ، لأنّ في البدن مقاتل خفيّةً وموته حالاً يشعر بإصابة بعضها ، وقيل : لا شيء ، إحالةً للموت على سبب آخر .



أمّا إذا تأخّر الموت عن الغرز فلا ضمان قطعاً كما قاله الماورديّ وغيره .



وهذا كلّه في بدن المعتدل ، أمّا الشّيخ والصّغير ونضو الخلقة ، ففيه القصاص .



ولو غرزها فيما لا يؤلم ، كجلدة عقب ولم يبالغ في إدخالها فمات ، فلا شيء سواء أمات في الحال أم بعده ، للعلم بأنّه لم يمت منه ، أمّا إذا بالغ فيجب القود .



وقال الحنابلة : إن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو كالجرح الكبير ، لأنّ هذا يشتدّ ألمه ، ويفضي إلى القتل كالكبير ، وإن كان الغور يسيراً ، أو جرحه بالكبير جرحاً لطيفاً كشرطة الحجّام فما دونها فصرّح الحنابلة بأنّه إن بقي من ذلك زمناً حتّى مات ففيه القود ، لأنّ الظّاهر أنّه مات منه ، وإن مات في الحال ففيه وجهان :



أحدهما : وهو ظاهر كلام الخرقيّ من الحنابلة أنّ فيه القصاص ، لأنّ المحدّد لا يعتبر فيه غلبة الظّنّ في حصول القتل به ، ولأنّ في البدن مقاتل خفيّةً وهذا له سراية ، فأشبه الجرح الكبير .



والثّاني : لا قصاص فيه ، وهو قول ابن حامد ، لأنّ الظّاهر أنّه لم يمت منه .



الصّورة الثّانية : القتل بغير المحدّد ممّا يغلب على الظّنّ



حصول الزّهوق به عند استعماله :



ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّه عمد موجب للقصاص .



وبه قال النّخعيّ ، والزّهريّ ، وابن سيرين ، وحمّاد ، وعمرو بن دينار ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق .



واستدلّوا بما روى أنس رضي الله عنه : « أنّ يهوديّاً قتل جاريةً على أوضاح لها بحجر ، فقتله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين حجرين » .



وقال أبو حنيفة لا قود في ذلك إلاّ أن يكون قتله بالنّار ، وحجّته قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ألا إنّ قتيل العمد الخطأ بالسّوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل » فسمّاه عمد الخطأ ، وأوجب فيه الدّية دون القصاص ، ولأنّ العمد لا يمكن اعتباره بنفسه ، فيجب ضبطه بمظنّته ، ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالباً لحصول العمد بدونه في الجرح الصّغير ، فوجب ضبطه بالجرح ، وبه قال الحسن ، وروي ذلك عن الشّعبيّ أيضاً .



وقال ابن المسيّب ، وعطاء ، وطاووس : العمد ما كان بالسّلاح .



وعن أبي حنيفة في مثقّل الحديد روايتان : المذهب أنّ فيه القود .



ومن الضّرب بغير محدّد : الضّرب بمثقّل كبير يقتل مثله غالباً عند جمهور الفقهاء سواء كان من حديد كالسّندان والمطرقة ، أو حجر ثقيل ، أو خشبة كبيرة ، وحدّ الخرقيّ من الحنابلة الخشبة الكبيرة بما فوق عمود الفسطاط : يعني العمد الّتي يتّخذها الأعراب لبيوتهم ، وفيها دقّة ، وأمّا عمد الخيام فكبيرة تقتل غالباً فلم يردها الخرقيّ .



وإنّما حدّ الموجب للقصاص بما فوق عمود الفسطاط ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن المرأة الّتي ضربت ضرّتها بعمود فسطاط فقتلتها وجنينها « قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرّة ، وقضى بالدّية على عاقلتها » ، والعاقلة لا تحمل العمد ، فدلّ على أنّ القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد ، وإن كان أعظم منه فهو عمد ، لأنّه يقتل غالباً . ومن هذا النّوع أيضاً أن يلقي عليه حائطاً أو صخرةً ، أو خشبةً عظيمةً أو ما أشبه ذلك ممّا يهلكه غالباً ، ففيه القود ، لأنّه يقتل غالباً .



وإن ضربه بمثقّل صغير كالعصا والسّوط ، والحجر الصّغير ، أو لكزه بيده في مقتل ، أو في حال ضعف من المضروب لمرض أو صغر ، أو في زمن مفرط الحرّ أو البرد بحيث تقتله تلك الضّربة ، أو كرّر الضّرب حتّى قتله بما يقتل غالباً ، ففيه القود ، لأنّه قتله بما يقتل مثله غالباً فأشبه الضّرب بمثقّل كبير ، وهذا عند جمهور الفقهاء .



الصّورة الثّالثة : القتل بالخنق :



أن يجعل في عنقه خراطةً ، ثمّ يعلّقه في خشبة أو شيء بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت ، فهذا عمد سواء مات في الحال أو بقي زمناً ، لأنّ هذا أوحى أنواع الخنق ، وكذا أن يخنقه وهو على الأرض بيديه أو بمنديل أو بحبل ، أو شيء يضعه على فمه وأنفه ، أو يضع يديه عليهما فيموت ، فهذا إن فعل به ذلك مدّةً يموت في مثلها غالباً فمات فهو عمد فيه القصاص ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والنّخعيّ ، وهذا عند جمهور الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة .



الصّورة الرّابعة : أن يلقيه في مهلكة :



وذلك على أربعة أضرب :



الضّرب الأوّل :



أن يلقيه من شاهق كرأس جبل ، أو حائط عال يهلك به غالباً فيموت ، فهو عمد ، وهذا عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة .



الضّرب الثّاني :



أن يلقيه في نار أو ماء يغرق ، ولا يمكنه التّخلّص منه ، إمّا لكثرة الماء أو النّار ، وإمّا لعجزه عن التّخلّص لمرض أو صغر ، أو كونه مربوطاً ، أو منعه من الخروج ، أو كونه في حفيرة لا يقدر على الصّعود منها ، ونحو هذا ، فهذا كلّه عمد ، لأنّه يقتل غالباً ، وعلى ذلك لو ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتّى مات فلا قود فيه ولا دية ، لأنّ هذا الفعل لم يقتله ، وإنّما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه ، فلم يضمنه غيره ، وكذلك النّار إذا كان يمكنه التّخلّص منها لقلّتها .



الضّرب الثّالث :



أن يجمع بينه وبين أسد أو نمر في مكان ضيّق كذبية ونحوها فيقتله ، فهذا أيضاً عمد فيه القصاص إذا فعل السّبع به فعلاً يقتل مثله ، وإن فعل به فعلاً لو فعله الآدميّ لم يكن عمداً لم يجب القصاص به ، لأنّ السّبع صار آلةً للآدميّ فكان فعله كفعله .



وإن ألقاه مكتوفاً بين يدي الأسد أو النّمر في فضاء فأكله فعليه القود ، وكذلك إن جمع بينه وبين حيّة في مكان ضيّق فنهشته ، فقتلته ، فعليه القود ، لأنّ هذا يقتل غالباً فكان عمداً محضاً كسائر الصّور ، وهذا عند جمهور الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة .



الضّرب الرّابع :



أن يحبسه في مكان ويمنعه الطّعام والشّراب مدّةً لا يبقى فيها حتّى يموت ، فعليه القود ، لأنّ هذا يقتل غالباً ، وهذا يختلف باختلاف النّاس والزّمان والأحوال ، فإذا كان عطشان في شدّة الحرّ ، مات في الزّمن القليل ، وإن كان ريّان ، والزّمن بارد أو معتدل لم يمت إلاّ في زمن طويل ، فيعتبر هذا فيه ، وإن كان في مدّة يموت في مثلها غالباً ففيه القود .



الصّورة الخامسة : القتل بالسّمّ :



إذا قدّم طعاماً مسموماً لصبيّ غير مميّز أو مجنون فمات ، ففيه القود باتّفاق الفقهاء .



فإن قدّمه لبالغ عاقل ففيه خلاف .



الصّورة السّادسة : القتل بالسّحر :



ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من قتل غيره بسحر يقتل غالباً يلزمه القود ، لأنّه قتله بما يقتل غالباً ، فأشبه ما لو قتله بسكّين ، وإن كان ممّا لا يقتل غالباً ففيه الدّية ، وهذا في الجملة .



الصّورة السّابعة : القتل بسبب :



القتل بسبب قد يدخل تحت القتل العمد في بعض أحواله ويكون فيه القصاص ، كأن يكره رجلاً على قتل آخر إكراهاً ملجئاً ، أو يشهد رجلان على رجل بما يوجب قتله ويعترفا بكذبهما في الشّهادة .



أو يحكم حاكم على رجل بالقتل بالشّهادة الكاذبة وكان عالماً بذلك متعمّداً .



ما يترتّب على القتل العمد العدوان :



إذا تحقّق القتل العمد العدوان فيترتّب عليه ما يلي :



أ - القصاص :



إذا كان المقتول حرّاً ، مسلماً ، مكافئاً للقاتل ، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّه موجب للقود ، قال ابن قدامة : لا نعلم بينهم في وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان إذا اجتمعت شروطه خلافاً ، وقد دلّت عليه الآيات والأخبار بعمومها قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } .



إلاّ أنّه يقيّد القتل بوصف العمديّة لقوله صلى الله عليه وسلم : « العمد قود ، إلاّ أن يعفو وليّ المقتول » وفي لفظ : « من قتل عمداً فهو قود » .



ولأنّ الجناية بالعمديّة تتكامل ، وحكمة الزّجر عليها تتوفّر ، والعقوبة المتناهية لا شرع لها بدون العمديّة .



ب - الدّية :



ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الدّية ليست عقوبةً أصليّةً للقتل العمد ، وإنّما تجب بالصّلح برضا الجاني ، والمعتمد عند الشّافعيّة أنّها بدل عن القصاص ولو بغير رضا الجاني ، فإذا سقط القصاص وجبت الدّية .



وذهب الحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة إلى أنّ الدّية عقوبة أصليّة بجانب القصاص في القتل العمد ، فالواجب عندهم أحد شيئين : القود أو الدّية ، فيخيّر الوليّ بينهما ولو لم يرض الجاني .



ج - الكفّارة :



ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وجوب الكفّارة في القتل العمد ، سواء وجب فيه القصاص أو لم يجب ، لأنّ القتل العمد كبيرة محضة ، وفي الكفّارة معنى العبادة ، فلا يناط بها .



وذهب الشّافعيّة إلى وجوب الكفّارة ، لأنّ الحاجة إلى التّكفير في العمد أمسّ منها إليه في الخطأ ، فكان أدعى إلى إيجابها .



د - الحرمان من الوصيّة :



اختلف الفقهاء في جواز الوصيّة للقاتل وعدم جوازها على أقوال :



ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر وابن حامد من الحنابلة إلى جواز الوصيّة للقاتل وهذا قول أبي ثور وابن المنذر ، لأنّ الهبة له تصحّ ، فصحّت الوصيّة له كالذّمّيّ .



وذهب الحنفيّة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة وأبو بكر من الحنابلة إلى عدم جواز الوصيّة له ، وبه قال الثّوريّ أيضاً ، لأنّ القتل يمنع الميراث الّذي هو آكد من الوصيّة ، فالوصيّة أولى ، ولأنّ الوصيّة أجريت مجرى الميراث فيمنعها ما يمنعه .



هـ - الحرمان من الميراث :



اتّفق الفقهاء على أنّ القتل الّذي يتعلّق به القصاص يمنع القاتل البالغ العاقل من الميراث إذا كان القتل مباشراً .



و - الإثم في الآخرة :



انعقد الإجماع على التّأثيم في القتل العمد العدوان ، والدّليل على ذلك الكتاب والسّنّة . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } .



وأمّا السّنّة فقوله عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع : « إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ، في شهركم هذا » .



وما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال : « لزوال الدّنيا أهون على اللّه من قتل مؤمن بغير حقّ » .



وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الباب .



ولأنّ حرمته أشدّ من إجراء كلمة الكفر لجوازه لمكره بخلاف القتل .












مكتب / محمد جابر عيسى المحامى

القتل في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول








قَتْل



التّعريف :



القتل في اللّغة : فعل يحصل به زهوق الرّوح يقال : قتله قتلاً : أزهق روحه ، والرّجل قتيل والمرأة قتيل إذا كان وصفاً ، فإذا حذف الموصوف جعل اسماً ودخلت الهاء نحو : رأيت قتيلة بني فلان . وفي لسان العرب نقلاً عن التّهذيب يقال : قتله بضرب أو حجر أو سمّ : أماته .



ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، قال البابرتيّ : إنّ القتل فعل من العباد تزول به الحياة .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - الجَرْح :



الجَرح بالفتح مصدر جرح يجرح جرحاً : أثر بالسّلاح ونحوه .



ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .



والجرح قد يكون سبباً من أسباب القتل .



ب - الضّرب :



من معاني الضّرب : الإصابة باليد أو السّوط أو السّيف أو بغير ذلك .



والضّرب قد يكون سبباً من أسباب القتل .



الحكم التّكليفيّ :



تجري على قتل الآدميّ الأحكام التّكليفيّة الخمسة :



فيكون القتل حراماً كقتل النّفس المعصومة بغير حقّ ظلماً .



ويكون واجباً كقتل المرتدّ إذا لم يتب بعد الاستتابة ، والزّاني المحصن بعد ثبوت الزّنا عليه شرعاً .



ويكون مكروهاً كقتل الغازي قريبه الكافر إذا لم يسمعه يسبّ اللّه أو رسوله .



ويكون مندوباً كقتل الغازي قريبه الكافر إذا سبّ اللّه أو رسوله .



ويكون مباحاً : كقتل الإمام الأسير فإنّه مخيّر فيه .



قتل النّفس المعصومة بغير حقّ :



قتل النّفس الّتي حرّم اللّه قتلها من أكبر الكبائر بعد الكفر باللّه ، لأنّه اعتداء على صنع اللّه ، واعتداء على الجماعة والمجتمع ، قال اللّه تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } وقال تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .



وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اجتنبوا السّبع الموبقات ، قيل : وما هنّ يا رسول اللّه ؟ قال : الشّرك باللّه ، والسّحر ، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ ، وأكل الرّبا ، وأكل مال اليتيم ، والتّولّي يوم الزّحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات » .



القتل المشروع :



القتل المشروع هو ما كان مأذوناً فيه من الشّارع ، وهو القتل بحقّ ، كقتل الحربيّ والمرتدّ والزّاني المحصن وقاطع الطّريق ، والقتل قصاصاً ، ومن شهر على المسلمين سيفاً ، كالباغي ، وهذا الإذن من الشّارع للإمام لا للأفراد ، لأنّه من الأمور المنوطة بالإمام ، لتصان محارم اللّه عن الانتهاك ، وتحفظ حقوق العباد ، ويحفظ الدّين ، وفي الحديث : « لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّي رسول اللّه إلاّ بإحدى ثلاث : النّفس بالنّفس ، والثّيّب الزّاني ، المفارق لدينه التّارك للجماعة » ، وروي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من شهر سيفه ثمّ وضعه فدمه هدر » .



أقسام القتل :



يرى جمهور الفقهاء أنّ قتل النّفس بحسب القصد وعدمه ينقسم إلى ثلاثة أقسام :



أ - قتل عمد .



ب - قتل شبه عمد .



ج - قتل خطأ .



ويزيد الحنفيّة على ذلك ما أجري مجرى الخطأ ، والقتل بسبب .



ويعتبر بعض فقهاء الحنابلة ما أجري مجرى الخطأ والقتل بسبب قسماً واحداً ، فالقتل عند بعض الحنابلة أربعة أقسام .



أمّا المالكيّة فالقتل عندهم نوعان : عمد وخطأ .



قتل غير الآدميّ :



يجري في قتل غير الآدميّ الأحكام التّكليفيّة الخمسة :



فقد يحرم كقتل الصّيد البرّيّ من المحرم ، ولقد اتّفق الفقهاء على أنّ قتل الصّيد البرّيّ حرام على المحرم في الحلّ والحرم ، لقوله تعالى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } .



كما ذهب جمهورهم إلى حرمة قتل صيد الحرم من المحرم والمحلّ ، إلاّ ما استثني منها ، لقولـه صلى الله عليه وسلم : « هذا البلد حرام بحرمة اللّه ، لا يعضد شجره ، ولا ينفّر صيده » .



وقد يستحبّ كقتل الفواسق الخمس في الحلّ والحرم ، وهي : الحدأة ، والغراب الأبقع ، والعقرب ، والكلب العقور ، والحيّة ، لخبر عائشة رضي الله عنها قالت : « أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحلّ والحرم : الفأرة ، والعقرب ، والغراب ، والحديّا ، والكلب العقور » وكذا كلّ سبع ضار ، كالأسد ، والنّمر .



وقد يكره كقتل ما لا تظهر منه منفعة ولا مضرّة ، كالقرد ، والهدهد ، والخطّاف ، والضّفدع ، والخنفساء



وقد يكون جائزاً ، كقتل الهوامّ للمحرم والحلال ، كالبرغوث ، والبعوض والذّباب وجميع هوامّ الأرض ، لأنّها ليست صيداً بالنّسبة للمحرم .



وقد يكون واجباً كقتل الحيوان الصّائل الّذي يهدّد حياة الإنسان .







قَتْل بسبب



التّعريف :



القتل بسبب مركّب من كلمتين ، هما : القتل والسّبب .



وينظر تعريف كلّ واحد منهما في مصطلحه .



والقتل بسبب عند الحنفيّة هو القتل نتيجة فعل لا يؤدّي مباشرةً إلى قتل ، كحفر البئر ، أو وضع الحجر في غير ملكه ، وأمثالهما ، فيعطب به إنسان ويقتل .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - القتل العمد :



القتل العمد هو قصد الفعل والشّخص بما يقتل قطعاً أو غالباً .



والعلاقة بينهما أنّ القتل العمد يكون بفعل مباشر يقتل غالباً ، والقتل بسبب يكون بفعل غير مباشر .



ب - القتل شبه العمد :



القتل شبه العمد هو قصد الفعل والشّخص بما لا يقتل غالباً .



والعلاقة أنّ القتل شبه العمد يكون بفعل مباشر لا يقتل غالباً .



والقتل بسبب يكون بفعل غير مباشر .



ج - القتل الخطأ :



هو ما وقع دون قصد الفعل والشّخص ، أو دون قصد أحدهما .



والصّلة أنّ القتل الخطأ يقع نتيجة فعل مباشر ، بخلاف القتل بسبب .



حالات القتل بسبب :



قسّم الفقهاء القتل أقساماً اختلفوا فيها ، وممّا اختلفوا فيه القتل بسبب ، فاعتبره الحنفيّة قسماً مستقلاً من أقسام القتل الخمسة عندهم ، لكنّ جمهور الفقهاء لم يجعلوه قسماً مستقلاً وإنّما أوردوا أحكامه في الأقسام الأخرى ومن ذلك الحالات التّالية :



أ - الإكراه :



القتل بسبب الإكراه أن يكره رجلاً على قتل آخر فيقتله .



ب - الشّهادة بالقتل :



إذا شهد رجلان على رجل بما يوجب قتله ، فقتل بشهادتهما ، ثمّ رجعا ، واعترفا بتعمّد الكذب وبعلمهما بأنّ ما شهدا به يقتل به المشهود عليه ، فعليهما القصاص عند الشّافعيّة والحنابلة وأشهب من المالكيّة ، لما روى القاسم بن عبد الرّحمن : أنّ رجلين شهدا عند عليّ كرّم اللّه وجهه على رجل أنّه سرق ، فقطعه ، ثمّ رجعا في شهادتهما ، فقال عليّ : لو أعلم أنّكما تعمّدتما لقطعت أيديكما ، وغرّمهما دية يده .



ولأنّ الشّاهدين على الرّجل بما يوجب قتله توصّلا إلى قتله بسبب يقتل غالباً ، فوجب عليهما القصاص كالمكره .



وعند الحنفيّة والمالكيّة غير أشهب لا قصاص عليهما بل عليهما الدّية ، لأنّه تسبّب غير ملجئ ، فلا يوجب القصاص ، كحفر البئر .



ج - حكم الحاكم بقتل رجل :



إذا حكم الحاكم على شخص بالقتل بناءً على شهادة شاهدين واعترف بعلمه بكذبهما حين الحكم أو القتل دون الوليّ ، فالقصاص على الحاكم .



ولو أنّ الوليّ الّذي باشر قتله أقرّ بعلمه بكذب الشّهود وتعمّد قتله فعليه القصاص .



د - حفر البئر ووضع الحجر :



من صور القتل بسبب حفر البئر ونصب حجر أو سكّين تعدّياً في ملك غيره بلا إذن ، فإذا لم يقصد به الجناية وأدّى إلى قتل إنسان ، فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه قتل خطأ وموجبه الدّية .



وذهب الحنفيّة إلى أنّه قتل بسبب وموجبه الدّية على العاقلة ، لأنّه سبب التّلف ، وهو متعدّ فيه ، ولا كفّارة فيه ، ولا يتعلّق به حرمان الميراث ، لأنّ القتل معدوم منه حقيقةً ، فألحق به في حقّ الضّمان ، فبقي في حقّ غيره على الأصل ، وهو إن كان يأثم بالحفر في غير ملكه لا يأثم بالموت .



أمّا إذا قصد الجناية فذهب المالكيّة إلى أنّه إذا قصد هلاك شخص معيّن ، وهلك فعلاً ، فعلى الفاعل القصاص ، وإن هلك غير المعيّن ففيه الدّية .



وعند الحنابلة هو شبه عمد ، وموجبه الدّية ، وقد يقوى فيلحق بالعمد ، كما في الإكراه والشّهادة .



وذهب الشّافعيّة إلى اعتبار حفر البئر شرطاً ، لأنّه لا يؤثّر في الهلاك ولا يحصّله ، بل يحصل التّلف عنده بغيره ، ويتوقّف تأثير ذلك الغير عليه ، فإنّ الحفر لا يؤثّر في التّلف ، ولا يحصّله وإنّما يؤثّر التّخطّي في صوب الحفرة ، والمحصّل للتّلف التّردّي فيها ومصادمتها ، لكن لولا الحفر لما حصل التّلف ولا قصاص فيه .



قتل خطأ



التّعريف :



القتل الخطأ مركّب من كلمتين هما : قتل ، وخطأ ، وقد سبق تعريف كلّ منهما في مصطلحه .



والقتل الخطأ عند الفقهاء هو ما وقع دون قصد الفعل والشّخص ، أو دون قصد أحدهما .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - القتل العمد :



القتل العمد هو قصد الفعل والشّخص بما يقتل قطعاً أو غالباً .



والفرق أنّ العمد يتوفّر فيه قصد الفعل والشّخص ، بخلاف الخطأ .



ب - الجناية :



الجناية في اللّغة : الذّنب والجرم ، وشرعاً : اسم لفعل محرّم حلّ بمال أو نفس . فالجناية أعمّ من القتل الخطأ .



ج - الإجهاض :



يطلق الإجهاض في اللّغة على صورتين : إلقاء الحمل ناقص الخلق ، أو ناقص المدّة سواء من المرأة أو غيرها .



والإطلاق اللّغويّ يصدق على ذلك ، سواء أكان الإلقاء بفعل فاعل أم تلقائيّاً .



ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " إجهاض " عن هذا المعنى ، وكثيراً ما يعبّرون عن الإجهاض بمرادفاته : كالإسقاط والإلقاء والطّرح والإملاص .



والعلاقة أنّ الإجهاض جناية على الحمل وهو غير متيقّن الوجود والحياة ، وأمّا القتل الخطأ فجناية على متيقّن الوجود والحياة .



د - القتل شبه العمد :



القتل شبه العمد هو قصد الفعل والشّخص بما لا يقتل غالباً .



والعلاقة أنّ القتل شبه العمد فيه قصد بما لا يقتل غالباً ، بخلاف القتل الخطأ .



هـ - القتل بسبب :



القتل بسبب هو القتل نتيجة فعل لا يؤدّي مباشرةً إلى قتل .



والصّلة أنّ القتل الخطأ بفعل مباشر ، والقتل بسبب بفعل غير مباشر .



أقسام القتل الخطأ :



قسّم الحنفيّة القتل الخطأ إلى قسمين : الخطأ في الفعل ، والخطأ في القصد ، وذلك لأنّ الرّمي إلى شيء مثلاً يشتمل على فعل الجارحة وهو الرّمي وفعل القلب وهو القصد فإن اتّصل الخطأ بالأوّل فهو الخطأ في الفعل ، وإن اتّصل بالثّاني فهو الخطأ في القصد .



وذهب المالكيّة إلى أنّ القتل الخطأ على أوجه :



الأوّل : أن لا يقصد ضرباً ، كرميه شيئاً أو حربيّاً فيصيب مسلماً ، فهذا خطأ بإجماع . الثّاني : أن يقصد الضّرب على وجه اللّعب ، فهو خطأ على قول ابن القاسم وروايته في المدوّنة ، خلافاً لمطرّف وابن الماجشون .



وقال الشّافعيّة : الخطأ نوعان :



الأوّل : أن لا يقصد أصل الفعل .



والثّاني : أن يقصده دون الشّخص .



وقال الحنابلة : الخطأ على ضربين :



أحدهما : أن يرمي الصّيد أو يفعل ما يجوز له فعله فيئول إلى إتلاف حرّ مسلماً كان أو كافراً .



والضّرب الثّاني : أن يقتل في بلاد الرّوم من عنده أنّه كافر ويكون قد أسلم وكتم إسلامه إلى أن يقدر على التّخلّص إلى أرض الإسلام .



ما يترتّب على القتل الخطأ :



يترتّب على القتل الخطأ ما يلي :



أ - وجوب الدّية والكفّارة :



اتّفق الفقهاء على أنّ من قتل مؤمناً خطأً فعليه الدّية والكفّارة ، لقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } .



ويجري هذا الحكم على الكافر المعاهد لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } .



قال الماورديّ : قدّم في قتل المسلم الكفّارة على الدّية وفي الكافر الدّية ، لأنّ المسلم يرى تقديم حقّ اللّه تعالى على نفسه والكافر يرى تقديم حقّ نفسه على حقّ اللّه تعالى .



كما اتّفقوا على عدم وجوب شيء في قتل كافر لا عهد له .



ب - وجوب الكفّارة فقط :



ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المؤمن الّذي يقتل في بلاد الكفّار أو في حروبهم على أنّه من الكفّار فعلى قاتله الكفّارة فقط لقوله تعالى : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } .



قال ابن قدامة : لا يوجب قصاصاً لأنّه لم يقصد قتل مسلم ، فأشبه ما لو ظنّه صيداً فبان آدميّاً ، إلاّ أنّ هذا لا تجب فيه دية إنّما تجب الكفّارة ، روي هذا عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والأوزاعيّ والثّوريّ وأبو ثور .



وفي قول عند المالكيّة ورواية عن أحمد أنّ فيه الدّية والكفّارة ، لقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } .



وقال الشّافعيّة : إذا قتل إنساناً يظنّه على حال فكان بخلافه كما إذا قتل مسلماً ظنّ كفره ، لأنّه رآه يعظّم آلهتهم ، أو كان عليه زيّ الكفّار في دار الحرب ، لا قصاص عليه جزماً للعذر الظّاهر ، وكذا لا دية في الأظهر لأنّه أسقط حرمة نفسه بمقامه في دار الحرب الّتي هي دار الإباحة ، ومقابل الأظهر تجب الدّية لأنّها تثبت مع الشّبهة .



أمّا الكفّارة فتجب جزماً لقوله تعالى : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } .



ج - الحرمان من الميراث :



ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ القتل الخطأ سبب من أسباب الحرمان من الميراث ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « القاتل لا يرث » ، ولأنّ القتل قطع الموالاة وهي سبب الإرث .



وذهب المالكيّة إلى أنّ من قتل مورّثه خطأً فإنّه يرث من المال ولا يرث من الدّية .



وذهب الحنابلة إلى أنّ القتل المضمون بقصاص أو دية أو كفّارة لا إرث فيه فإن كان غير مضمون ، كمن قصد مولّيه ممّا له فعله من سقي دواء أو ربط جراحة فمات فيرثه ، لأنّه ترتّب عن فعل مأذون فيه ، وهذا ما ذهب إليه الموفّق .



قال البهوتيّ : ولعلّه أصوب لموافقته للقواعد .



د - الحرمان من الوصيّة :



اختلف الفقهاء في جواز الوصيّة للقاتل ، ولا فرق بين القتل العمد والخطأ في هذا . فذهب الشّافعيّة في الأظهر ، وابن حامد من الحنابلة إلى جواز الوصيّة للقاتل ، وبه قال أبو ثور وابن المنذر أيضاً لأنّ الهبة له تصحّ ، فصحّت الوصيّة له كالذّمّيّ .



ويرى الحنفيّة وأبو بكر من الحنابلة عدم جواز الوصيّة له ، لأنّ القتل يمنع الميراث الّذي هو آكد من الوصيّة ، فالوصيّة أولى ، ولأنّ الوصيّة أجريت مجرى الميراث فيمنعها ما يمنعه ، وبه قال الثّوريّ أيضاً .



وفرّق أبو الخطّاب من الحنابلة بين الوصيّة بعد الجرح ، والوصيّة قبله ، فقال : إن وصّى له بعد جرحه صحّ ، وإن وصّى له قبله ثمّ طرأ القتل على الوصيّة أبطلها ، وهو قول الحسن بن صالح أيضاً وهو المذهب .



قال ابن قدامة : هذا قول حسن ، لأنّ الوصيّة بعد الجرح صدرت من أهلها في محلّها ، ولم يطرأ عليه ما يبطلها بخلاف ما إذا تقدّمت ، فإنّ القتل طرأ عليها فأبطلها ، لأنّه يبطل ما هو آكد منها .



وقال المالكيّة إن علم الموصي بأنّ الموصى له هو الّذي ضربه عمداً أو خطأً صحّ الإيصاء منه ، وتكون الوصيّة في الخطأ في المال والدّية ، وفي العمد في المال فقط ، فإن لم يعلم الموصي فتأويلان في صحّة إيصائه وعدمها .



أنواع القتل الّتي حكمها حكم الخطأ :



أ - عمد الصّبيّ والمجنون والمعتوه :



جمهور الفقهاء على أنّ عمد الصّبيّ والمجنون والمعتوه كالخطأ في وجوب الدّية على العاقلة ولا قصاص فيه ، لأنّهم ليسوا من أهل القصد الصّحيح .



والأصل في هذا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر ، وعن المجنون حتّى يعقل أو يفيق » .



ولأنّ القصاص عقوبة مغلّظة ، فلم تجب على الصّبيّ وزائل العقل كالحدود ، ولأنّهم ليس لهم قصد صحيح ، فهم كالقاتل خطأً .



وفرّق الشّافعيّة بين الصّبيّ المميّز وغير المميّز فقالوا : إنّ عمد الصّبيّ المميّز عمد في الأظهر أمّا الصّبيّ غير المميّز فعمده خطأ باتّفاقهم ، وأضافوا أنّ الصّبيّ مميّزاً كان أو غير مميّز لا قصاص عليه في القتل العمد ، ولكنّ الأمر يختلف في الدّية فهي على العاقلة في الخطأ ، وفي ماله إن اعتبر عمده عمداً .



ب - ما أجري مجرى الخطأ :



ذكر الحنفيّة ومن معهم من الحنابلة قسماً آخر للقتل سمّوه ما أجري مجرى الخطأ ، ويعتبر القتل الجاري مجرى الخطأ كالخطأ في الحكم ، فمثل النّائم ينقلب على رجل فيقتله يكون حكمه حكم الخطأ في الشّرع ، ولكنّه دون الخطأ حقيقةً ، لأنّ النّائم ليس من أهل القصد أصلاً ، فلا يوصف فعله بالعمد ولا بالخطأ ، إلاّ أنّه في حكم الخطأ لحصول الموت بفعله كالخاطئ .



وتجب فيه الكفّارة لترك التّحرّز عن نومه في موضع يتوهّم أن يصير قاتلاً ، والكفّارة في قتل الخطأ إنّما تجب لترك التّحرّز ، وحرمان الميراث لمباشرته القتل ، لأنّه يتوهّم أن يكون متناوماً ، ولم يكن نائماً ، قصداً منه إلى استعجال الإرث ، أمّا الّذي سقط من سطح فوقع على إنسان فقتله ، فمثل النّائم ينقلب على رجل فيقتله ، لكونه قتلاً للمعصوم من غير قصد فكان جارياً مجرى الخطأ .



وألحق المالكيّة والشّافعيّة وأكثر الحنابلة هذه الصّور بالقتل الخطأ .








مكتب / محمد جابر عيسى المحامى




الفقه الإسلامي والحقوق المعنوية








الفقه الإسلامي و الحقوق المعنوية







الدكتور عبد السلام داود العبادي







الحمد لله رب العالمين و أصلي و أسلم على رسول الله محمد بن عبد الله و على آله وصحبه و من اقتدى به إلى يوم الدين ... أما بعد







فإن الحقوق المالية المعنوية من القضايا المستجدة التي برزت بشكل واضح نتيجة تطور الحياة المدنية و الاقتصادية و الثقافية و العلمية .. فكثرت الأمور المعنوية ذات القيمة المالية التي بات موضوع اختصاص أصحابها و مدى سلطاتهم عليها محل بحث ومناقشة.. وقد انتهت كثير من القوانين الوضعية على اختلاف بينها إلى تقرير هذا الاختصاص و تحديد سلطات أصحابها عليها .. و قد أوجب ذلك ضرورات تشجيع النشاط الإنساني المبدع بكل صوره و حماية مكتسباته ، ومنع صور التلاعب و التحايل و الاستغلال لجهود الآخرين و أي إثراء غير مشروع على حسابهم و قد



درس فقهاء الشريعة الإسلامية المحدثون هذا الموضوع ، وبينوا استيعاب قواعد الفقه الإسلامي له ، و أوضحوا حرص الشريعة على حماية هذه الحقوق و تنظيم أوضاعها بما يكفل تحقيق المصالح المشروعة و صيانة قواعد العدالة و حماية مسيرة التقدم الإنساني من كل مظاهر الاستغلال و التلاعب.



و أعرض فيما يلي المقصود بالحقوق المعنوية ، ثم أبين موقف القوانين الوضعية منها .. و بعد ذلك اعرض موقف الفقه الإسلامي منها مبيناً القواعد الشرعية التي تحميها و تصونها و تنظم أمورها.







أولاً : المقصود بالحقوق المعنوية :-



يستعمل القانونيون اصطلاحات متعددة في وصف الاختصاصات التي تقوم الأشخاص على الأشياء المعنوية ذات القيمة المالية بحيث يخوّلهم ذلك سلطات معينة عليها.. و بعض الاصطلاحات شامل لأنواعها أو لكثير منها، وبعضها يطلق على نوع منها دون غيره ، و من هذه الاصطلاحات : الحقوق المعنوية ، الحقوق الذهنية ، الحقوق الأدبية ، الحقوق الفكرية ، حقوق الابتكار ، الملكية الأدبية و الفنية الصناعية ، الاسم التجاري ، حق الاختراع ، حقوق التأليف.



و قد عرف القانونيون الحق المعنوي بأنه سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو خياله أو نشاطه كحق المؤلف في مؤلفاته العلمية و حق الفنان في مبتكراته الفنية و حق المخترع في مخترعاته و حق التاجر في الاسم التجاري و العلامة التجارية و ثقة العملاء. و الحق المعنوي نوع من أنواع الحق المالي، وهو الذي يمكن تقويمه بالمال فهو يخول صاحبه قيمة مادية تقدر بالمال أو النقود و الحق في نظر فقهاء الشريعة : اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة أو تكليفاً لله على عباده أو لشخص على غيره.



و يطلق فقهاء الشريعة لفظ الحقوق المالية على كل حق هو مال، أو المقصود منه المال، مثل حق الملك ، وحق التملك و حق الانتفاع. لذا فإن قواعد الفقه الإسلامي تغطي هذا النوع من الحقوق كما سنرى تفصيلاً فيما بعد.



و يتجه الأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي إلى ترجيح تسمية هذا النوع من الحقوق بحقوق الابتكار ، لأن اسم الحقوق الأدبية – أحد التسميات المشهورة لهذا النوع من الحقوق كما بين – ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع من كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية و الأدوات الصناعية المبتكرة ، و عناوين المحال التجارية مما لا صلة له بالأدب و النتاج الفكري ( أما اسم حق الابتكار فيشمل الحقوق الأدبية كحق المؤلف في استغلال كتابه ، والصحفي في امتياز صحيفته ، و الفنان في أثره الفني من الفنون الجميلة كما يشمل الحقوق الصناعية و التجارية مما يسمونه اليوم بالملكية الصناعية كحق مخترع الآلة و مبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة ، و مبتكر العنوان التجاري )







ثانياً : موقف القوانين الوضعية من هذه الحقوق:-



اتفق القانونيون على اعتبار الحقوق المعنوية من الحقوق المالية التي يقسمونها إلى حقوق عينية و حقوق شخصية و لكنهم مختلفون بعد ذلك .. هل تعتبر هذه الحقوق من الحقوق المالية العينية أم أنها حقوق مالية مستقلة بالإضافة إلى الحقوق العينية الشخصية ، فذهب بعض القانونيون إلى أن الحقوق المالية تقسم إلى : حقوق عينية ، وحقوق شخصية ، وحقوق معنوية ، فالحق المعنوي قسم للحق العيني و الحق الشخصي. و كان ذلك نتيجة أن معنى الحق العيني عندهم عبارة عن سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شكل معين . و هذا الشيء المعين لا بد أن يكون شيئاً مادياً متعيناً بذاته في الوجود الخارجي، فتنصب سلطة صاحب الحق عليه مباشرة.



و لما ظهرت الحقوق المعنوية ، نتيجة لتطور الحياة ، وأقرتها القوانين العصرية اعتبرها هؤلاء القانونيون نوعــــاً مستقلاً من أنواع الحقوق المالية لم تتصف به من خصائص تميزها عن الحقوق العينية و الشخصية نتجت من كون محلها غير مادي. وذهب قانونيون آخرون إلى أن الحق المعنوي لا يعتبر نوعاً من أنواع الحق المالي بالإضافة إلى الحق العيني و الحق الشخصي إنما



هو حق من الحقوق العينية ، و إن الشيء الذي تنصب عليه السلطة في الحق العيني أعم من أن يكون مادياً أو معنوياً.



ثم إن هؤلاء اختلفوا فيما بينهم حول طبيعة هذا الحق المعنوي ، بعد أن قرروا أنه عبارة عن حق عيني: فمنهم من اعتبر الحق المعنوي حق ملكية أو نوعاً خاصاً من الملكية لذلك فهم يطلقون على هذا الحق تسمية : الملكية الأدبية و الفنية الصناعية. و منهم من اعتبره حقاً عينيا أصلياً مستقلاً عن حق الملكية بمقوماته الخاصة.



و قد احتج المانعون أن يكونا الحق المعنوي حق ملكية ، بان حق الملكية ينصب على شيء ويخول صاحبه سلطة استعمال الشيء و استغلاله و التصرف فيه ، و الاستعمال لا يتصور بالنسبة للحق المعنوي ، لأن الاستفادة منه لا تكون إلا باستغلاله و التصرف فيه ، فلا يمكن أن يستفاد منه إذا قصر صاحبه استعماله على نفسه ، فعنصر الاستعمال الذي هو أقوى عناصر الملكية غير موجود في هذا الحق ، لذلك يسميه بعض القانونيون بأنه حق احتكار الاستغلال ، وليس حق ملكية. كما أن حق الملكية حق مؤبد ، في حين أن هذا الحق بطبيعته حق مؤقت .



و قد أجاب الآخرون عن هذه الحجج بأنها لا تمنع من أن يكون الحق المعنوي نوعاً خاصاً من الملكية، وذلك أن الحق المعنوي يتفق مع الملكية العادية في نواحٍ ، ويختلف عنها في أخرى فهو عبارة عن سلطة تنصب على الشيء المعنوي مباشرة دون و ساطة و تخوّل صاحبه حق الاستغلال و التصرف في حين أنه بحكم طبيعته و هو كونه يقع على شيء غير مادي لا يقبل الاستئثار ، ولا يصح أن يكون مؤبداً.



و قد كان القانون المدني المصري القديم سنة 1883 م يتضمن في المادة ( 12) منه : أن الحكم فيما يتعلق بحقوق المؤلف في ملكية مؤلفاته و حقوق الصانع في ملكية مصنوعاته يكون حسب القانون الخاص بذلك .. مما يدل على أن القانون القديم يذهب إلى اعتبار هذه الحقوق حقوق ملكية ، ولكن لم يصدر القانون الخاص الموعود حتى صدور القانون الجديد سنة 1948م ، الـــذي أشـــار فـــي المادة ( 86) منه إلى أن تنظيم هذه الحقوق متروك لقانون خاص يصدر به . لكنه لم يسمّ هذه الحقوق بالملكية ، كما فعل القانون السابق بل سمّاها الحقوق التي ترد على شيء غير مادي مما يدل على أن القانون المصري لم يرد الخوض في الخلاف حول طبيعة هذه الحقوق , و حسمه بشكل ما.



يقول الأستاذ عطا الله إسماعيل : ( ويتضح مما ذكر عن مختلف النظريات في شأن هذا الحق أن جوهره ما زال موضع التقصي و البحث..) ثم يقول : ( وحسناً فعل المشرّع المصري إذ لم يتقيد بنظرية بعينها فيما وضع من حلول لمختلف الفروض و المسائل التي عرض لها في تقنية لحقوق التأليف ).



ثالثاً: موقف الفقه الإسلامي من الحقوق المعنوية :-



أمّا الأمر في الفقه الإسلامي فيختلف ذلك أن دائرة الملك في الشريعة أوسع منها في القانون ، فلا تشترط الشريعة أن يكون محل الملك شيئاً مادياً معيناً بذاته في الوجود الخارجي إنما هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع على الراجح من أقوال الفقهاء و الذي معياره أن يكون له قيمة بين الناس ، و يباح الانتفاع به شرعاً و هو ما تقرر وفق اصطلاح جمهور الفقهاء كما سنرى .



و على ذلك فمحل الحق المعنوي الذي سماه القانون بالشيء غير المادي ، داخل في مسمى المال في الشريعة ، ذلك أن له قيمة بين الناس ، ويباح الانتفاع به شرعاً بحسب طبيعته ، فإذا قام الاختصاص به تكون حقيقة الملك قد وجدت.







كما أن الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي ، ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك إنما معناه أن يختص به دون غيره .. فلا يعترضه في التصرف فيه أحد و التصرف يكون في الأشياء حسب طبيعتها ، لذلك يختلف مدى التصرف في أنواع الملك الشرعية من نوع إلى آخر .



و الشريعة أيضا لا تشترط معنى التأبيد لتحقيق معنى الملك .. بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلاً ، تقتضي أن يكون مؤقتاً .. كما في منفعة ملك العين المستأجرة ، وملك منفعة العين الموصى بمنفعتها دون رقبتها.



فإذا كان لا بد أن يتأقت الحق المعنوي بمدّة معينة بحجة أن صاحب الحق المعنوي قد استفاد من جهد غيره ، فهو ليس جهداً خالصا له كما أن جهده ضروري لتقدم البشرية ورقيها ، و مقتضى ذلك أن لا يكون حقه حقاً مؤبداً .. فإن هذا التأقيت لا يخرجه من دائرة الملك في الشريعة.



و يبدوا أن هذه الحقوق لم تقم في المجتمع الإسلامي رغم نشاط حركة التأليف. – مثلاً – فيه من ا لقديم لأن الإسلام يدعوا إلى ما فيه نفع للأمة ، بل إن ما لا تستغني عنه الأمة يعتبر من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعها بتركها ، كما أن العلم و خاصة العلم الشرعي لا يحل كتمه .. فالتأليف مثلاً كان عبارة عن شعور بالواجب و رغبة في الثواب و الأجر بل كان المؤلف يحرص على نشره بكافة الطرق ، لأن في ذلك مزيداً من الأجر و الثواب و عليه لم تبرز فكرة استحقاق الشخص لما ينتجه من أشياء غير مادية و إن كانوا حريصين على نسبة الآراء إلى أصحابها.



ولكن إذا انصرف الناس عن إنتاج ما هو نافع من الأشياء غير المادية، و أخذ بعض الناس يستغلون ما ينتجه غيرهم من هذه الأمور .. ما يؤدي على الإضرار بهم و من ثم امتناعهم عن إنتاج و نشر مثل هذه الأمور، فإنه يمكن أن توضع القواعد التي تكفل تنظيم هذا الأمر بالشكل الذي تتحقق به مصلحة الأمة.



و لما كانت الأشياء غير المادية تدخل في مسمى المال في الشريعة ، لأن لها قيمة بين الناس و مباح الانتفاع بها شرعا و قد قام الاختصاص بها فعلى هذا الأساس يمكن أن تنظم باعتبارها نوعاً من أنواع الملك. و قد اهتم بعض القانونيون بالحقوق المعنوية في الشريعة و حاولا تلمس أسس حمايتها و تنظيمها فيها .. يقول الدكتور محمد صادق فهمي : ( و نعتقد أن الروح التي تهيمن على التشريع الإسلامي تأبى إلا أن تعترف بحقوق المؤلفين ، لأن التشريع يأبى على الشخص أن يضر بغيره، كما اغتيال عمل مؤلف إن هو إلا سلوك إجرامي تأباه الشريعة الإسلامية ، و في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) ما يكفي لحماية حقوق المؤلفين.



و أوضح أن فيما عرضناه بياناً شافياً للأسس التي يمكن أن نعتمد عليها بسهولة لحماية هذه الحقوق و تنظيمها. و لنزيد هذا الأمر إيضاحاً لا بد من التعريف بإيجاز بحقيقة كل من المال و الملك في الفقه الإسلامي



1- حقيقة المال في الفقه الإسلامي :



الذي يؤخذ من المعاجم والقواميس اللغوية ، أن المال في اللغة العربية يطلق على كل ما تملّكه الإنسان و حازه بالفعل من كل شيء سواءً أكان عيناً أو منفعة .. أما ما لم يتملكه الإنسان و لم يدخل في حيازته بالفعل ، فلا يعد مالاً في اللغة كالطير في الهواء و السمك في الماء و الأشجار في الغابات.



ففي القاموس المحيط : ( المال ما ملكته من كل شيء ) و في لسان العرب : ( المال – معروف – ما ملكته من جميع الأشياء )



و المال في الاصطلاح لم يرج له تعريف عن الشارع يحدد معناه تحديداً دقيقاً بل ترك لما يتعارف الناس عليه منه .. فالعربي الذي نزل القرآن بلغته حين يسمع لفظة المال يفهم المراد منها كما يفهم ما يراد بلفظة السماء و الأرض ، ولذلك نجد بعض أصحاب المعاجم اللغوية يقولون: ( المال معروف ) ، فالكتاب الكريم و السنة الشريفة جاءت فيهما كلمة المال مرات كثيرة ، و ترك للناس فهمها كما يعرفون ويألفون .. ولم يحدد الشارع له حقيقة اصطلاحية بحيث إذا أطلق تبادرت إلى الأذهان كما هو الحال في الصلاة والصيام .. فإذا قرأ العربي أو سمع حديث الرسول عليه الصلاة والسلام : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) فهم المراد من المال بالطريقة التي يفهم بها كلمة العرض و كلمة النفس من غير الرجوع إلى اصطلاح خاص .



و عندما قامت المذاهب الفقيه و استعمل لفظ المال مراداً به معان اصطلاحية انشغل الفقهاء بوضع تعار يف له .. وقد اختلفت تعريفاتهم على ضوء اختلافهم في المعاني الاصطلاحية المرادة منه و قد قام بهذا الصدد اصطلاحان رئيسيان هما : اصطلاح الحنفية و اصطلاح الجمهور.



( أ ) اصطلاح الحنفية :-



عرّف فقهاء المذهب الحنفي المال بتعريفات كثيرة مختلفة في ألفاضها متقاربة في مفهومها ومعناها . و الاختلاف بينها ليس ناشئاً عن اختلاف في فهم حقيقة المال في المذهب الحنفي ، بل هو اختلاف في العبارات و مدى دقتها في بيان اصطلاح الحنفية في معنى المال . و فقها الحنفية يوجبون لتحقيق مالية الشيء اجتماع أمرين :



أولاهما:- أن يكون شيئاً مادياً يمكن إحرازه و حيازته فيخرجون عن معنى المالية كل ما لا يتحقق فيه هذا الشرط كالمنافع و الديون و الحقوق المحضة مثل حق التعلي و حق الأخذ بالشفعة و حق الشرب و المسيل كما يخرجون منه أمثال حرارة الشمس و ضوء القمر و كل الأمور المعنوية كالشرف و الصحة.



ومن هنا يظهر أ ن فقهاء الحنفية لا يشترطون أن يكون الشيء مملوكاً بالفعل ليعتبر مالاً ، كما هو مقرر في اللغة إنما يكتفون بإمكان تملكه ، فالصيد في الفلاة و كذلك الطير في السماء يعتبر عندهم مالاً لإمكان إحرازه و تملكه.



ثانيهما: أن يكون الشيء منتفعاً به انتفاعاً معتاداً فلحم الميتة و الطعام الفاسد ليسا بمال لأنهما لا ينتفع بهما أصلاً و حبّة القمح وقطرة الماء ليستا بمال ، لأنهما لا ينتفع بهما انتفاعاً معتاداً فهذه الأمور لا تعد مالاً و إن أمكن حيازتها وذلك لعدم تحقق العنصر الثاني من عناصر المالية. و المراد بالانتفاع الانتفاع المشروع في حال السعة و الاختيار دون حال الضرورة فجواز الانتفاع بلحم الميتة في حال الضرورة لا يجعل منه مالاً فيقتصر على جواز الانتفاع و لا حاجة للقول بالمالية لأن الضرورة تقدر بقدرها. وليس المقصود بالانتفاع هنا ، انتفاع الناس كافة بل يكفي فيه انتفاع بعضهم فلا تزول مالية الشيء إلا إذا ترك الناس كلهم تموله ، لم تكن له منفعة أصلاً أما إذا ترك بعض الناس تموله و بقي منتفعاً به عند بعضهم فلا تزول ماليته كالملابس القديمة التي يستعملها بعض الناس دون بعضهم الآخر. و واضح أن هذه العنصرين قد نص عليهما بوضوح في تعريف من عرف المال من فقهاء الحنفية بأنه : ما يمكن حيازته ، و إحرازه و الانتفاع به انتفاعاً معتاداً.



وقد عرف بعض فقهاء المال باصطلاح الحنفية بأنه : كل عين ذات قيمة مادية بين الناس فصاحبه نظر في إلى أن اعتاد تمول عين و صيانتها و الانتفاع بها يستلزم القيمة إذ لا يعتاد الناس هذا في الشيء.. بحيث يحمي تارة ويبذل تارة أخرى إلا لمنعة مادية أو معنوية يقدرونها فيه فتتجه إليه الرغبات و الرغبات يبذل في سبيل تحقيقها و الحصول عليها أعواض مادية .. لذلك استغنى عن النص في التعريف على الانتفاع المعتاد و وضع بدله أن تكون العين ذات قيمة مادية بين الناس مشيراً إلى أن القيمة هي القيمة بالمعنى الاقتصادي العام والتي خرج بها ما لا قيمة له من الأعيان بين الناس إما لحرمته على جميع الناس كالميتة أو لتفاهته كحبة القمح.







( ب) اصطلاح الجمهور :



اصطلح جمهور الفقهاء على معنى معين للمال هو أوسع من اصطلاح الحنفية و الناظر في تعار يف الجمهور و نصوصهم الفقيه بهذا الصدد يستطيع أن يستخلص أن أساس المالية في نظرهم هو :



1- أن يكون الشيء له قيمة بين الناس .



2- أن تكون هذه القيمة ناتجة من أنه ينتفع به انتفاعاً مشروعاً فلا قيمة في نظر الشريعة لأية منفعة اعتبرتها غير مشروعة.و على هذا الأساس يمكننا تعريف المال في اصطلاح الجمهور بأنه : ( ما كان له قيمة مادية بين الناس و جاز شرعاً الانتفاع به في حال السعة و الاختيار).



و فيما يلي شرح لألفاظ التعريف :



ما : جنس يشمل أي شيء أكان أم منفعة وسواء أكان شيئاً مادياً أم معنوياً له قيمة مادية بين الناس : قيد لإخراج الأعيان و المنافع التي لا قيمة لها بين الناس لتفاهته كحبة القمح أو قطرة ماء و كمنفعة شم تفاحة...



وجاز الانتفاع به شرعاً : قيد لإخراج الأعيان و المنافع التي لا قيمة لها بين الناس و لكن الشريعة أهدرت قيمتها و منعت الانتفاع بها كالخمر و الخنزير و لحم الميتة و منفعة آلات اللهو المحرمة.



في حال السعة و الاختيار: قيد جيء به لبيان أن المراد بالانتفاع الانتفاع المشروع في حال السعة والاختيار دون حال الضرورة فجواز الانتفاع بلحم الميتة أو الخمر أو غيرهما من الأعيان المحرمة لا يجعلها مالاً في نظر الشريعة فيقتصر الأمر على جواز الانتفاع فلا تصبح هذه الأعيان أموالاً لأن الضرورة تقدر بقدرها.



و الواقع أن مسلك الجمهور أولى بالأخذ و الاعتبار ..ذلك أن عدم اعتبار المنافع أموالاً محل نقد شديد و هو ما بيناه تفصيلاًً في كتاب الملكية .. كما أن هذا المسلك في بنائه مالية الشيء على كونه منتفعاً به انتفاعاً مشروعاً وله قيمة بين الناس يسمح بتوسيع دائرة الأموال في هذا العصر لتشمل أشياء لم تكن معروفة فيما سبق مادام قد تحقق فيها أساس المالية و ذلك مثل الأشياء المعنوية فيما يعرف بالحقوق الذهنية و حقوق الابتكار و يمكن أن يقال مثل هذا الكلام في الدم البشري الذي يؤخذ من الإنسان ليحتفظ به في بنوك الدم من أجل الانتفاع به انتفاعاَ مشروعاَ في العمليات الجراحية و يكون له قيمة بين الناس و كذلك الجراثيم التي يتم تصنيعها في معامل الأدوية إلى أمصال لمقاومة الأمراض... وغيرها.



2- حقيقة الملك في الفقه الإسلامي :



ذكرت قواميس اللغة أن معنى الملك : احتواء الشيء و القدرة على الاستبداد به و التصرف بانفراد. أما في الاصطلاح فقد تعددت تعار يف العلماء له ، أذكر منها:-



أ- تعريف صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود بأنه : ( اتصال شرعي بين الإنسان و بين شيء يكون مطلقاً لتصرفه فيه و حاجزاً عن تصرف الغير )



ب – تعريف القرافي بأنه : ( إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض منها من حيث هي كذلك )



جـ - تعريف القاضي حسين بأنه : ( اختصاص يقتضي إطلاق الانتفاع و التصرف )



د- تعرف ابن تيمية بأنه : ( القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة )



وقد كنت قدمت دراسة مستقصية عن حقيقة الملك في الشريعة الإسلامية استعرضت فيها التعاريف و غيرها و ناقشتها ، وانتهيت إلى أن تعريف الملك حتى يكون جامعاً مانعاً لا بد من أن تبرز فيها الأمور التالية :-



ا- أن الملك اختصاص أو علاقة يختص بها الإنسان بشيء.



ب- أن موضوع هذا الاختصاص القدرة على الانتفاع و التصرف بهذا الشيء .



جـ- أن هذا الانتفاع و التصرف قد يمنع منهما كما في المحجوزين للصغر أو الجنون.



د- أن هذا الانتفاع و التصرف قد يتم أصالة أو وكالة و يهمنا هنا ما يتم أصالة.



هـ -و كل هذا مقررة أحكامه في الشرع جملة وتفصيلاً.



و على ذلك فقد عرفت الملك بأنه : ( اختصاص إنسان بشيء يخوله شرعاً الانتفاع و التصرف فيه و حده ابتداء إلا المانع ).



الخلاصة :



و بعد هذا البيان الموجز لحقيقة كل من المال و الملك في الفقه الإسلامي يظهر لنا جليّاً انطباق حقيقة كل منها على هذا النوع من الحقوق .. المال وفق ما استقر من اصطلاح لجمهور الفقهاء، والملك ما اتفق عليه الفقهاء .. و إن هذا التخريج الفقهي مضطرد لا إشكال عليه و لا مانع منه بل إن قواعد الشريعة ومبادئها العامة تؤكد هذا و تؤيده .. ذلك أن محور هذه الحقوق أمران :



الأول : الحق في الاحتفاظ بنسبة محل هذا الحق لصاحبه .. وهذا جانب معنوي بحت .. فإن الأمانة والصدق يقتضيان نسبة كل لصاحبه، و الشريعة تبنى على تقرير هذه النسبة أشياء كثيرة منها الحساب و الأجر والثواب و التحري والدقة و التثبت و بخاصة في المجالات العلمية بخصوص تفسير القرآن الكريم و نقل الحديث النبوي و شرحه و في الشهادة و إثبات الحقوق و غيرها .



الثاني : الحق في الاختصاص بالمنفعة المالية التي تعود على صاحبه من استغلاله أو نشره ضمن ما هو مقرر شرعاً و قانوناً.



و الشريعة و إن كانت تدعوا إلى تعميم المنفعة و نشر ما فيه مصالح الناس و خيرهم لكن ذلك في نظرها لا يبرر الاعتداء على حقوقهم فيما هو نافع و مفيد .. بل إن تعميم المنفعة بما يبتكره الأفراد له قواعده و أصوله و من أهم هذه القواعد التي تحقق المصلحة و تمنع الضرر الاعتراف بهذه الحقوق و تنظيم نشرها و الاستفادة منها بأحكام تنسجم مع طبيعتها و ظروف التعامل معها و قد استقرت الأعراف الإنسانية في كثير من الدول على ذلك و المالية يقررها العرف ما دام الأمر غير ممنوع في الشرع .. و إن تطور الحياة الإنسانية يملي بذلك حماية لها التصور و دفعاً لمزيد من العطاء و البذل .



و قد يقال إن من أبرز الحقوق المعنوية حقوق التأليف ، وقد وجد التأليف في وقت مبكر في التاريخ الإسلامي فلماذا لم يقل فقهاؤنا السابقون بمالية هذه الحقوق و جواز بيعها ؟. و الجواب على هذا يعود بالإضافة لما سبقت الإشارة إليه إلى أن جهود النساخ للكتب قبل اختراع الطباعة كان يقضي على جهد المؤلفين و بخاصة مع حرص المؤلفين على نشر العلم و كسب الجر.



و هكذا يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية تعترف بالحقوق المعنوية و تدعوا إلى تنظيم كل ما يتعلق بها و بخاصة في مجال استغلالها و التصرف بها بأحكام تفصيلية تحقق المصالح المشروعة لأصحابها و للمجتمع و هو ما قد يختلف من حق إلى آخر و مما يترك للدراسات الخاصة بكل حق على حدة .



و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين













مكتب / محمد جابر عيسى المحامى


الضمان في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول








الضَمَان في الشريعة الإسلامية - الجزء الأول

التّعريف :



يطلق الضّمان في اللّغة على معان :



أ - منها الالتزام ، تقول : ضمنت المال ، إذا التزمته ، ويتعدّى بالتّضعيف ، فتقول : ضمّنته المال ، إذا ألزمته إيّاه .



ب - ومنها : الكفالة ، تقول : ضمّنته الشّيء ضماناً ، فهو ضامن وضمين ، إذا كفله .



ج - ومنها التّغريم ، تقول : ضمّنته الشّيء تضميناً ، إذا غرّمته ، فالتزمه أمّا في اصطلاح الفقهاء فيطلق على المعاني التّالية :



أ - يطلق على كفالة النّفس وكفالة المال عند جمهور الفقهاء من غير الحنفيّة ، وعنونوا للكفالة بالضّمان .



ب - ويطلق على غرامة المتلفات والغصوب والتّعييبات والتّغييرات الطّارئة .



ج - كما يطلق على ضمان المال ، والتزامه بعقد وبغير عقد .



د - كما يطلق على وضع اليد على المال ، بغير حقّ أو بحقّ على العموم .



هـ – كما يطلق على ما يجب بإلزام الشّارع ، بسبب الاعتداءات : كالدّيات ضماناً للأنفس ، والأروش ضماناً لما دونها ، وكضمان قيمة صيد الحرم ، وكفّارة اليمين ، وكفّارة الظّهار ، وكفّارة الإفطار عمداً في رمضان .



وقد وضعت له تعاريف شتّى ، تتناول هذه الإطلاقات في الجملة ، أو تتناول بعضها ، منها :



أ - أنّه : عبارة عن ردّ مثل الهالك ، إن كان مثليّاً ، أو قيمته إن كان قيميّاً .



ب - وأنّه : عبارة عن غرامة التّالف .



ج - وبالمعنى الشّامل للكفالة - كما يقول القليوبيّ - : إنّه التزام دين أو إحضار عين أو بدن .



د - وفي مجلّة الأحكام العدليّة أنّه إعطاء مثل الشّيء إن كان من المثليّات وقيمته إن كان من القيميّات .



هـ - وعند المالكيّة : شغل ذمّة أخرى بالحقّ .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - الالتزام :



الالتزام في اللّغة : الثّبوت والدّوام ، وفي الاصطلاح الفقهيّ : إلزام المرء نفسه ما لم يكن لازماً لها .



ب - العقد :



العقد : ارتباط أجزاء التّصرّف الشّرعيّ ، بالإيجاب والقبول ، وفي المجلّة : ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محلّه ، فإذا قلت : زوّجت ، وقال : قبلت ، وجد معنىً شرعيّ ، وهو النّكاح ، يترتّب عليه حكم شرعيّ ، وهو : ملك المتعة .



ج - العهدة :



العهدة في اللّغة : وثيقة المتبايعين ، لأنّه يرجع إليها عند الالتباس .



وهي كتاب الشّراء ، أو هي الدّرك أي ضمان الثّمن للمشتري إن استحقّ المبيع أو وجد فيه عيب .



وفي الاصطلاح تطلق عند جمهور الفقهاء على هذين المعنيين : الوثيقة والدّرك .



وعرّفها المالكيّة بأنّها : تعلّق ضمان المبيع بالبائع أي كون المبيع في ضمان البائع بعد العقد ، ممّا يصيبه في مدّة خاصّة .



والضّمان أعمّ ، والعهدة أخصّ .



د - التّصرّف :



التّصرّف هو التّقليب ، تقول : صرّفته في الأمر تصريفاً فتصرّف ، أي قلّبته فتقلّب . وفي الاصطلاح يفهم من كلام الفقهاء : أنّه ما يصدر من الشّخص من قول أو فعل ، ويرتّب عليه الشّارع حكماً ، كالعقد والطّلاق والإبراء والإتلاف .



وهو بهذا المعنى أعمّ من الضّمان .



مشروعيّة الضّمان :



شرع الضّمان ، حفظاً للحقوق ، ورعايةً للعهود ، وجبراً للأضرار ، وزجراً للجناة ، وحدّاً للاعتداء ، في نصوص كثيرة من القرآن الكريم ، والسّنّة النّبويّة ، وذلك فيما يلي :



أ - فيما يتّصل بمعنى الكفالة ، بقوله تعالى : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أي كفيل ضامن ، فقد ضمن يوسف عليه السلام لمن جاء بصواع الملك - وهو إناؤه الّذي كان يشرب به - قدر ما يحمله البعير من الطّعام .



ب - وفيما يتّصل بالإتلافات الماليّة ونحوها ، بحديث : أنس رضي الله تعالى عنه قال : » أهدت بعض أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : طعام بطعام ، وإناء بإناء « .



ج - وفيما يتّصل بضمان وضع اليد : حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي « أي ضمانه .



د - وفيما يتّصل بالجنايات - بوجه عامّ - ونحوها قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ }



هـ – وفيما يتّصل بجنايات البهائم : حديث البراء بن عازب : » أنّه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية باللّيل على أهلها ، وأنّ ما أصابت الماشية باللّيل فهو على أهلها « .



وحديث النّعمان بن بشير قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من أوقف دابّةً في سبيل من سبل المسلمين ، أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن « . وقد أجمع الفقهاء على أنّ الدّماء والأموال مصونة في الشّرع ، وأنّ الأصل فيها الحظر ، وأنّه لا يحلّ دم المسلم ولا يحلّ ماله إلاّ بحقّ



ما يتحقّق به الضّمان :



لا يتحقّق الضّمان إلاّ إذا تحقّقت هذه الأمور : التّعدّي ، والضّرر ، والإفضاء .



أوّلاً : التّعدّي :



التّعدّي في اللّغة : التّجاوز .



وفي الاصطلاح هو : مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه شرعاً أو عرفاً أو عادةً .



وضابط التّعدّي هو : مخالفة ما حدّه الشّرع أو العرف .



ومن القواعد المقرّرة في هذا الموضوع : أنّ كلّ ما ورد به الشّرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ، ولا في اللّغة ، يرجع فيه إلى العرف .



وذلك مثل : الحرز في السّرقة ، والإحياء في الموات ، والاستيلاء في الغصب ، وكذلك التّعدّي في الضّمان ، فإذا كان التّعدّي مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه ، رجع في ضابطه إلى عرف النّاس فيما يعدّونه مجاوزةً وتعدّياً ، سواء أكان عرفاً عامّاً أم خاصّاً .



ويشمل التّعدّي : المجاوزة والتّقصير ، والإهمال ، وقلّة الاحتراز ، كما يشتمل العمد والخطأ. ثانياً : الضّرر :



الضّرر في اللّغة : نقص يدخل على الأعيان .



وفي الاصطلاح : إلحاق مفسدة بالغير ، وهذا يشمل الإتلاف والإفساد وغيرهما .



والضّرر قد يكون بالقول ، كرجوع الشّاهدين عن شهادتهما ، بعد القضاء وقبض المدّعي المال ، فلا يفسخ الحكم ، ويضمنان ما أتلفاه على المشهود عليه ، سواء أكان ديناً أم عيناً. وقد ينشأ الضّرر عن الفعل كتمزيق الثّياب ، وقطع الأشجار ، وحرق الحصائد .



والضّرر قد يكون بالقول والفعل كما سبق ، وقد يكون بالتّرك ، ومثاله : امرأة تصرع أحياناً فتحتاج إلى حفظها ، فإن لم يحفظها الزّوج حتّى ألقت نفسها في النّار عند الصّرع ، فعليه ضمانها .



ودابّة غصبت فتبعها ولدها ، فأكله الذّئب يضمنه الغاصب ، مع أنّه لم يباشر فيه فعلاً .



ثالثاً : الإفضاء :



من معاني الإفضاء في اللّغة : الوصول يقال : أفضيت إلى الشّيء : وصلت إليه . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .



ويشترط لاعتبار الإفضاء في الضّمان ما يلي :



أن لا يوجد للضّرر أو الإتلاف سبب آخر غيره ، سواء أكان هو مباشرةً أم تسبيباً .



وأن لا يتخلّل بين السّبب وبين الضّرر ، فعل فاعل مختار ، وإلاّ أضيف الضّمان إليه ، لا إلى السّبب ، وذلك لمباشرته .



تعدّد محدثي الضّرر :



إذا اعتدى جمع من الأشخاص ، وأحدثوا ضرراً : فإمّا أن يكون اعتداؤهم من نوع واحد ، بأن يكونوا جميعاً متسبّبين أو مباشرين ، وإمّا أن يختلف بأن يكون بعضهم مباشراً ، والآخر متسبّباً ، فهاتان حالان :



الحال الأولى :



أن يكونوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين : فإمّا أن يتّحد عملهم في النّوع ، أو يختلف.



أ - ففي الصّورة الأولى ، أي إذا كانوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين واتّحد عملهم نوعاً ، كان الضّمان عليهم بالسّويّة ، كما لو تعمّد جماعة إطلاق النّار على شخص واحد ، ولم تعلم إصابة واحد منهم ، يقتصّ منهم جميعاً ، وهذا محمل قول سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه " لو اشترك في قتله أهل صنعاء ، لقتلتهم جميعاً " .



ب - وإذا كانوا جميعاً مباشرين أو متسبّبين ، واتّحد عملهم نوعاً ، لكن اختلف عملهم قوّةً وضعفاً ، كما لو حفر شخص حفرةً في الطّريق ، وجاء آخر فوسّع رأسها ، أو حفر الأوّل حفرةً وعمّق الآخر أسفلها ، فتردّى في الحفرة حيوان أو إنسان ، فالقياس عند الحنفيّة هو الاعتداد بالسّبب القويّ ، لأنّه كالعلّة ، عند اجتماعها مع السّبب ، وهذا رأي الإمام محمّد منهم .



والاستحسان عندهم ، هو الاعتداد بالأسباب الّتي أدّت إلى الضّرر جميعاً ، قلّت أو كثرت ، وتوزيع الضّمان عليها بحسب القوّة والضّعف ، فيجب الضّمان أثلاثاً ، وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف وآخرين من الحنابلة ، وإن لم يميّزوا بين القوّة والضّعف ، واعتبروا الاشتراك وربّما رجّح بعضهم السّبب الأوّل ، كحافر الحفرة وناصب السّكّين فيها .



الحال الثّانية :



أن يكون المعتدون مختلفين ، بعضهم مباشر ، وبعضهم متسبّب :



والأصل - عندئذ - تقديم المباشر على المتسبّب في التّضمين وذلك للقاعدة العامّة المعروفة عند جميع الفقهاء : إذا اجتمع المباشر والمتسبّب ، يضاف الحكم إلى المباشر . ومن أمثلة هذه القاعدة ما يلي :



أ - لو حفر شخص حفرةً في الطّريق ، فألقى آخر نفسه ، أو ألقى غيره فيها عمداً ، لا يضمن الحافر ، بل الملقي وحده ، لأنّه المباشر .



ب - لو دلّ سارقاً على مال إنسان ، فسرقه ، لا ضمان على الدّالّ .



ويستثنى من قاعدة تقديم المباشرة على التّسبيب صور ، يقدّم فيها السّبب على العلّة المباشرة ، وذلك إذا تعذّرت إضافة الحكم إلى المباشر بالكلّيّة فيضاف الحكم - وهو الضّمان هنا - إلى المتسبّب وحده ، كما إذا دفع رجل إلى صبيّ سكّيناً ليمسكه له ، فسقط من يده ، فجرحه ، ضمن الدّافع ، لأنّ السّبب هنا في معنى العلّة .



تتابع الأضرار :



إذا ترتّبت على السّبب الواحد أضرار متعدّدة ، فالحكم أنّ المتعدّي المتسبّب يضمن جميع الأضرار المترتّبة على تسبّبه ، ما دام أثر تسبّبه باقياً لم ينقطع ، فإن انقطع بتسبّب آخر لم يضمن .



فمن صور ذلك عند الحنفيّة :



أ - سقط حائط إنسان على حائط إنسان آخر ، وسقط الحائط الثّاني على رجل فقتله : كان ضمان الحائط الثّاني والقتيل على صاحب الحائط الأوّل لأنّ تسبّب حائطه لم ينقطع .



فإن عثر إنسان بأنقاض الحائط الثّاني ، فانكسر ، لم يضمن الأوّل ، لأنّ التّفريغ ليس عليه ، ولا يضمن صاحب الحائط الثّاني إلاّ إذا علم بسقوط حائطه ، ولم ينقل ترابه في مدّة تسع النّقل .



ب - لو أشهد على حائطه بالميل ، فلم ينقضه صاحبه حتّى سقط ، فقتل إنساناً ، وعثر بالأنقاض شخص فعطب ، وعطب آخر بالقتيل ، كان ضمان القتيل الأوّل وعطب الثّاني على صاحب الحائط الأوّل ، لأنّ الحائط وأنقاضه مطلوبان منه ، أمّا التّلف الحاصل بالقتيل الأوّل، فليس عليه ، لأنّ نقله ليس مطلوباً منه ، بل هو لأولياء القتيل .



إثبات السّببيّة :



الأصل في الشّريعة ، هو أنّ المعتدى عليه الّذي وقع عليه الضّرر ، أو وليّه إن قتل، هو المكلّف بإثبات الضّرر ، وإثبات تعدّي من ألحق به الضّرر ، وأنّ تعدّيه كان هو السّبب في الضّرر .



وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » لو يعطى النّاس بدعواهم ، لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم ، لكن البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر « .



وتثبت السّببيّة بإقرار المعتدي ، كما تثبت بالبيّنة إذا أنكر وتثبت بالقرائن ، وبيمين المدّعي وشاهد - على الجملة - ونحوها من طرق الإثبات .



شروط الضّمان :



يمكن تقسيم شروط الضّمان إلى قسمين :



شروط ضمان الجناية على النّفس ، وشروط ضمان الجناية على المال .



أوّلاً : شروط ضمان الجناية على النّفس : الجناية على النّفس إن كانت عمداً وكان الجاني مكلّفاً يجب فيها القصاص ، فإن كان الجاني غير مكلّف ، أو كانت الجناية خطأً وجبت فيها الدّية .



ثانياً : شروط ضمان الجناية على المال : تتلخّص هذه الشّروط في أن يكون الاعتداء ، واقعاً على مال متقوّم ، مملوك ، محترم ، كما يشترط أن يكون الضّرر الحادث دائماً - فلو نبتت سنّ الحيوان لم تضمن المكسورة - ، وأن يكون المعتدي من أهل الوجوب ، فلا تضمن البهيمة ، ولا مالكها إذا أتلفت مال إنسان وهي مسيّبة ، لأنّه جبار .



ولا يشترط كون الجاني على المال مكلّفاً ، فيضمن الصّبيّ ما أتلفه من مال على الآخرين ، ولا عدم اضطراره ، والمضطرّ في المخمصة ضامن ، لأنّ الاضطرار لا يبطل حقّ الغير .



أسباب الضّمان :



من أسباب الضّمان عند الشّافعيّة والحنابلة ما يلي :



1 - العقد ، كالمبيع والثّمن المعيّن قبل القبض والسّلم في عقد البيع .



2 - اليد ، مؤتمنةً كانت كالوديعة والشّركة إذا حصل التّعدّي ، أو غير مؤتمنة كالغصب والشّراء فاسداً .



ج - الإتلاف ، نفساً أو مالاً .



وزاد الشّافعيّة : الحيلولة ، كما لو نقل المغصوب إلى بلد آخر وأبعده ، فللمالك المطالبة بالقيمة في الحال ، للحيلولة قطعاً ، فإذا ردّه ردّها .



وجعل المالكيّة أسباب الضّمان ثلاثةً :



أحدها : الإتلاف مباشرةً ، كإحراق الثّوب .



وثانيها : التّسبّب للإتلاف ، كحفر بئر في موضع لم يؤذن فيه ممّا شأنه في العادة أن يفضي غالباً للإتلاف



وثالثها : وضع اليد غير المؤتمنة ، فيندرج فيها يد الغاصب ، والبائع يضمن المبيع الّذي يتعلّق به حقّ توفية قبل القبض .



الفرق بين ضمان العقد وضمان الإتلاف :



ضمان العقد : هو تعويض مفسدة ماليّة مقترنة بعقد .



وضمان الإتلاف : هو تعويض مفسدة ماليّة لم تقترن بعقد .



وبينهما فروق تبدو فيما يلي :



أ - من حيث الأهليّة ، ففي العقود : الأهليّة شرط لصحّة التّصرّفات الشّرعيّة ، والأهليّة - هنا - هي : أهليّة أداءً ، وهي : صلاحية الشّخص لممارسة التّصرّفات الشّرعيّة الّتي يتوقّف اعتبارها على العقل ، لأنّها منوطة بالإدراك والعقل ، فإذا لم يتحقّقا لا يعتدّ بها .



أمّا الإتلافات الماليّة ، والغرامات والمؤن والصّلات الّتي تشبه المؤن ، فالأهليّة المجتزأ بها هي أهليّة الوجوب فقط ، وهي صلاحيته لثبوت الحقوق له وعليه ، فحكم الصّغير غير المميّز فيها كحكم الكبير ، لأنّ الغرض من الوجوب - وهو الضّمان ونحوه - لا يختلف فيه حيّ عن آخر ، وأداء الصّغير يحتمل النّيابة .



ب - من حيث التّعويض ، ففي ضمان العقد ، لا يقوم التّعويض على اعتبار المماثلة ويكون التّعويض بناءً على ما تراضيا عليه .



أمّا الإتلافات الماليّة فإنّ التّعويض فيها يقوم على اعتبار المماثلة ، إذ المقصود فيها دفع الضّرر ، وإزالة المفسدة ، والضّرر محظور ، فتعتبر فيه المماثلة ، وذلك بعموم النّصّ الكريم ، وهو قوله تعالى : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } .



ج - من حيث الأوصاف والعوارض الذّاتيّة ، فقد فرّق الفقهاء في ضمانها في العقود وفي الإتلافات ، وقرّر الحنفيّة أنّ الأوصاف لا تضمن بالعقد ، وتضمن بالغصب ، وذلك لأنّ الغصب قبض ، والأوصاف تضمن بالفعل ، وهو القبض ، أمّا العقد فيرد على الأعيان ، لا على الأوصاف ، والغصب - وكذا الإتلاف - فعل يحلّ بالذّات بجميع أجزائها ، فكانت مضمونةً .



محلّ الضّمان :



محلّ الضّمان هو : ما يجب فيه الضّمان ، سواء أكان الضّمان ناشئاً عن عقد ، أم كان ناشئاً عن إتلاف ويد ، قال ابن رشد : فهو كلّ مال أتلفت عينه ، أو تلفت عند الغاصب عينه ، بأمر من السّماء ، أو سلّطت اليد عليه وتملّك .



وقال ابن القيّم : محلّ الضّمان هو ما كان يقبل المعاوضة .



ويمكن التّوسّع في محلّ الضّمان ، بحيث يشمل جميع المضمونات ، بأن يقسّم الفعل الضّارّ ، باعتبار محلّه ، إلى قسمين : فعل ضارّ واقع على الإنسان ، وفعل ضارّ واقع على ما سواه من الأموال ، كالحيوان والأشياء .



وقد اعتبر بعض الفقهاء الاعتداء على المال والحيوان ضرباً من الجنايات ، فقال الكاسانيّ : الجناية في الأصل نوعان : جناية على البهائم والجمادات وجناية على الآدميّ ، فهذه محالّ الضّمان ، فالآدميّ مضمون بالجناية عليه ، في النّفس ، أو الأطراف .



وأمّا الأموال فتقسم إلى : أعيان ، ومنافع ، وزوائد ، ونواقص ، وأوصاف .



ونبحثها فيما يلي :



أوّلاً : الأعيان :



وهي نوعان : أمانات ، ومضمونات .



فالأمانات : يجب تسليمها بذاتها ، وأداؤها فور طلبها ، بالنّصّ ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ، وتضمن حال التّعدّي ، وإلاّ فلا ضمان فيها ، ومن التّعدّي الموت عن تجهيل لها ، إلاّ ما استثني .



والمضمونات ، تضمن بالإتلاف ، وبالتّلف ولو كان سماويّاً .



والأعيان المضمونة نوعان :



الأوّل : الأعيان المضمونة بنفسها ، وهي الّتي يجب بهلاكها ضمان المثل أو القيمة ، كالمغصوب ، والمبيع بيعاً فاسداً ، والمهر في يد الزّوج ، وبدل الخلع - إذا كان عيناً معيّنةً- وبدل الصّلح عن دم العمد ، إذا كان عيناً .



الثّاني : الأعيان المضمونة بغيرها ، وهي الّتي يجب بهلاكها الثّمن أو الدّين ، كالمبيع إذا هلك قبل القبض ، سقط الثّمن ، والرّهن إذا هلك سقط الدّين ، وهذا عند الحنفيّة .



وعند المالكيّة : الأعيان المضمونة ، إمّا أن تكون مضمونةً بسبب العدوان ، كالمغصوبات ، وإمّا أن تكون مضمونةً بسبب قبض بغير عدوان ، بل بإذن المالك على وجه انتقال تملّكه إليه ، بشراء ، أو هبة ، أو وصيّة ، أو قرض ، فهو ضامن - أيضاً - سواء أكان البيع صحيحاً ، أم كان فاسداً .



وكذلك الأمر عند الحنابلة فقد عرّفوا الأعيان المضمونة ، بأنّها الّتي يجب ضمانها بالتّلف والإتلاف ، سواء أكان حصولها بيد الضّامن بفعل مباح ، كالعاريّة ، أو محظور كالمغصوب، والمقبوض بعقد فاسد ، ونحوهما .



وعدّ السّيوطيّ المضمونات ، وأوصلها إلى ستّة عشر ، وبيّن حكم كلّ ، ومنها : الغصب ، والإتلاف ، واللّقطة ، والقرض ، والعاريّة ، والمقبوض بسوم ...



وهل تشمل الأعيان المضمونة العقارات ؟



مذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ومحمّد من الحنفيّة ، أنّ العقار يضمن بالتّعدّي ، وذلك بغصبه ، وغصبه متصوّر ، لأنّ الغصب هو : إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه ، أو هو : الاستيلاء على حقّ الغير عدواناً ، أو إزالة يد المالك عن ماله – كما يقول محمّد من الحنفيّة – والفعل في المال ليس بشرط ، وهذا يتحقّق في العقار والمنقول .



وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن استولى على أرض غيره : » من ظلم قيد شبر من الأرض ، طوّقه من سبع أرضين « .



ومذهب أبي حنيفة : أنّ الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال ، ولهذا عرّفه في الكنز بأنّه إزالة اليد المحقّة ، بإثبات اليد المبطلة ، وهذا لا يوجد في العقار ، ولأنّه لا يحتمل النّقل والتّحويل ، فلم يوجد الإتلاف حقيقةً ولا تقديراً .



فلو غصب داراً فانهدم البناء ، أو جاء سيل فذهب بالبناء والأشجار ، أو غلب الماء على الأرض فبقيت تحت الماء فعليه الضّمان عند الجمهور ، ولا ضمان عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف .



ولو غصب عقاراً ، فجاء آخر فأتلفه ، فالضّمان على المتلف ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند الجمهور يخيّر المالك بين تضمين الغاصب أو المتلف .



وقالوا : لو أتلفه بفعله أو بسكناه ، يضمنه ، لأنّه إتلاف ، والعقار يضمن به ، كما إذا نقل ترابه .



ثانياً : المنافع :



ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المنافع أموال متقوّمة في ذاتها فتضمن بالإتلاف ، كما تضمن الأعيان ، وذلك:



أ - لأنّها الغرض الأظهر من جميع الأموال .



ب - ولأنّ الشّارع أجاز أن تكون مهراً في النّكاح ، في قصّة موسى وشعيب - عليهما السلام - مع اشتراط كون المهر فيه مالاً بالنّصّ بقوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } .



ج - ولأنّ المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ، أو هو - كما يقول الشّاطبيّ - ما يقع عليه الملك ، ويستبدّ به المالك ، والمنافع منّا أو من غيرنا بهذه الصّفة ، وإنّما تعرف ماليّة الشّيء بالتّموّل والنّاس يعتادون تموّل المنافع بالتّجارة فيها ، فإنّ أعظم النّاس تجارةً الباعة ، ورأس مالهم المنفعة .



د - ولأنّ المنفعة - كما قال عزّ الدّين بن عبد السّلام - مباحة متقوّمة ، فتجبر في العقود الفاسدة والصّحيحة ، وبالفوات تحت الأيدي المبطلة ، والتّفويت بالانتفاع ، لأنّ الشّرع قد قوّمها ، ونزّلها منزلة الأموال ، فلا فرق بين جبرها بالعقود وبين جبرها بالتّفويت والإتلاف.



وذهب الحنفيّة إلى أنّ المنافع لا تضمن بالغصب ، سواء استوفاها أم عطّلها أم استغلّها ، ولا تضمن إلاّ بالعقد ، وذلك :



أ - لأنّها ليست بمال متقوّم ، ولا يمكن ادّخارها لوقت الحاجة ، لأنّها لا تبقى وقتين ، ولكنّها أعراض كلّما تخرج من حيّز العدم إلى حيّز الوجود تتلاشى فلا يتصوّر فيها التّموّل . وفي ذلك يقول السّرخسيّ : المنافع لا تضمن بإتلاف بغير عقد ولا شبهة .



ب - ولأنّ المنفعة إنّما ورد تقويمها في الشّرع - مع أنّها ليست ذات قيمة في نفسها - بعقد الإجارة ، استثناءً على خلاف القياس ، للحاجة لورود العقد عليها ، وما ثبت على خلاف القياس يقتصر فيه على مورد النّصّ .



والمالكيّة يضمّنون الغاصب إذا غصب لغرض المنفعة بالتّعدّي ، كما لو غصب دابّةً أو داراً للرّكوب والسّكنى فقط ، فيضمنها بالاستعمال ، ولو كان استعماله يسيراً .



ولا يضمن الذّات في هذه الحال لو تلفت بسماويّ .



ثالثاً : الزّوائد :



وتتمثّل في زوائد المغصوب ونمائه .



أ - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها مضمونة ضمان الغصب ، لأنّها مال المغصوب منه ، وقد حصلت في يد الغاصب بالغصب ، فيضمنها بالتّلف كالأصل الّذي تولّدت منه .



ب - وعند الحنفيّة أنّ زوائد المغصوب - سواء أكانت متّصلةً كالسّمن ، أم منفصلةً كاللّبن والولد ، وثمرة البستان ، وصوف الغنم - أمانة في يد الغاصب ، لا تضمن إلاّ بالتّعدّي عليها ، بالأكل أو الإتلاف ، أو بالمنع بعد طلب المالك . وذلك لأنّ الغصب إزالة يد المالك ، بإثبات اليد عليه ، وذلك لا يتحقّق في الزّوائد ، لأنّها لم تكن في يد المالك .



ج - وللمالكيّة هذا التّفصيل :



أوّلاً : ما كان متولّداً من الأصل وعلى خلقته ، كالولد ، فهو مردود مع الأصل .



ثانياً : وما كان متولّداً من الأصل ، على غير خلقته مثل الثّمر ولبن الماشية ففيه قولان : أحدهما أنّه للغاصب ، والآخر أنّه يلزمه ردّه قائماً ، وقيمته تالفاً .



ثالثاً : وما كان غير متولّد ، ففيه خمسة أقوال :



1 - قيل : يردّ الزّوائد مطلقاً ، لتعدّيه ، من غير تفصيل .



2 - وقيل : لا يردّها مطلقاً من غير تفصيل ، لأنّها في مقابلة الضّمان الّذي عليه .



3 - وقيل : يردّ قيمة منافع الأصول والعقار ، لأنّه مأمون ولا يتحقّق الضّمان فيه ، ولا يردّ قيمة منافع الحيوان وشبهه ممّا يتحقّق فيه الضّمان .



4 - وقيل : يردّها إن انتفع بها ، ولا يردّها إن عطّلها .



5- وقيل : يردّها إن غصب المنافع خاصّةً ، ولا يردّها إن غصب المنافع والرّقاب .



رابعاً : النّواقص :



لا يختلف الفقهاء في ضمان نقص الأموال بسبب الغصب ، أو الفعل الضّارّ ، أو الإتلاف أو نحوها ، سواء أكان ذلك النّقص عمداً أم خطأً أم تقصيراً ، لأنّ ضمان الغصب - كما يقول الكاسانيّ - ضمان جبر الفائت ، فيتقدّر بقدر الفوات .



فمن نقص في يده شيء فعليه ضمان النّقصان ، وفيه تفصيل في المذاهب الفقهيّة :



أ - مذهب الحنفيّة أنّ النّقص إمّا أن يكون يسيراً ، وإمّا أن يكون فاحشاً .



والصّحيح عندهم - كما قال الزّيلعيّ - أنّ اليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة ، بل يدخل فيه نقصان في المنفعة ، كالخرق في الثّوب .



والفاحش : ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة ، ويبقى بعض العين وبعض المنفعة . وقيل اليسير : ما لم يبلغ ربع القيمة ، والفاحش ما يساوي ربع القيمة فصاعداً .



ففي النّقصان اليسير ليس للمالك إلاّ أخذ عين المغصوب ، لأنّ العين قائمة من كلّ وجه ، ويضمن الغاصب النّقصان .



وفي النّقص الفاحش ، يخيّر المالك بين أخذ العين ، وتضمين الغاصب النّقصان ، وبين ترك العين للغاصب وتضمينه قيمة العين .



فلو ذبح حيواناً لغيره مأكول اللّحم ، أو قطع يده ، كان ذلك إتلافاً من بعض الوجوه ، ونقصاً فاحشاً ، فيخيّر فيه المغصوب منه ، ولو كان غير مأكول اللّحم ، ضمن الغاصب الجميع ، لأنّه استهلاك مطلق من كلّ وجه ، وإتلاف لجميع المنفعة .



ولو غصب العقار ، فانهدم أو نقص بسكناه ، ضمنه ، لأنّه إتلاف بفعله ، والعقار يضمن بالإتلاف ، ولا يشترط لضمان الإتلاف أن يكون بيده .



وهذا بخلاف ما لو هلك العقار ، بعد أن غصبه وهو في يده فإنّه لا يضمنه ، لأنّه لم يتصرّف فيه بشيء ، فلا يجب الضّمان عند الشّيخين ، لأنّه غاصب للمنفعة ، وليست مالاً ، ولأنّه منع المالك عن الانتفاع ولا يضمن عينه .



ب - ومذهب المالكيّة في النّقص ، أنّه إمّا أن يكون من قبل الخالق ، أو من قبل المخلوق . فإن كان من قبل الخالق ، فليس للمغصوب منه إلاّ أن يأخذه ناقصاً - كما يقول ابن جنّيّ - أو يضمن الغاصب قيمة المغصوب يوم الغصب .



وقيل : إنّ له أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب .



وإن كان من قبل المخلوق وبجنايته فالمغصوب منه مخيّر :



1 - بين أن يضمّنه القيمة يوم الغصب ، ويتركه للغاصب ، وبين أن يأخذه ويأخذ قيمة النّقص ، يوم الجناية عند ابن القاسم ، أو يوم الغصب ، عند سحنون .



2 - وعند أشهب وابن الموّاز : هو مخيّر بين أن يضمّنه القيمة ، وبين أن يأخذه ناقصاً ، ولا شيء له في الجناية ، كالّذي يصاب بأمر من السّماء .



ولهم تفصيل في ضمان البناء أو الغرس في العقار ، نذكره في أحكام الضّمان الخاصّة ، إن شاء اللّه تعالى



ج - ومذهب الشّافعيّة والحنابلة : أنّ كلّ عين مغصوبة ، على الغاصب ضمان نقصها ، إذا كان نقصاً مستقرّاً تنقص به القيمة ، سواء كان باستعماله ، أم كان بغير استعماله ، كمرض الحيوان ، وكثوب تخرّق ، وإناء تكسّر ، وطعام سوّس ، وبناء تخرّب ، ونحوه فإنّه يردّها ، وللمالك على الغاصب أرش النّقص - مع أجرة المثل ، كما قال القليوبيّ - لأنّه نقص حصل في يد الغاصب ، فوجب ضمانه .



خامساً : الأوصاف وضمانها :



إذا نقصت السّلعة ، عند الغاصب ، بسبب فوات وصف ، فإمّا أن يكون ذلك بسبب هبوط الأسعار في السّوق ، وإمّا أن يكون بسبب فوات وصف مرغوب فيه :



أ - فإن كان النّقص بسبب هبوط الأسعار في الأسواق ، فليس على الغاصب أو المتعدّي ضمان نقص القيمة اتّفاقاً ، لأنّ المضمون نقصان المغصوب ، ونقصان السّعر ليس بنقصان المغصوب ، بل لفتور يحدثه اللّه في قلوب العباد ، لا صنع للعبد فيه ، فلا يكون مضموناً ولأنّه لا حقّ للمغصوب منه في القيمة ، مع بقاء العين ، وإنّما حقّه في العين ، وهي باقية ، كما كانت ، ولأنّ الغاصب إنّما يضمن ما غصب ، والقيمة لا تدخل في الغصب .



ب - وإن كان النّقص بسبب فوات وصف مرغوب فيه ، فهو مضمون باتّفاق الفقهاء كما لو سقط عضو الحيوان المغصوب ، وهو في يد الغاصب بآفة سماويّة ، أو حدث له عند الغاصب عرج أو شلل أو عمىً ، ونحو ذلك فإنّ المالك يأخذ المغصوب ، ويضمن الغاصب النّقصان ، لفوات جزء من البدن ، أو فوات صفة مرغوب فيها ، ولأنّه دخلت جميع أجزائه في ضمانه بالغصب ، فما تعذّر ردّ عينه ، يجب ردّ قيمته .



وطريق معرفة النّقصان أن يقوّم صحيحاً ، ويقوّم وبه العيب ، فيجب قدر ما بينهما .