بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

09 يونيو 2011

كتاب الرهن والكفالة والضمان والحوالة

وفيه أربعة فصول..

الفصل الأول

في الرهن

وهو اتفاق يتضمن جعل مال وثيقة على دين ليستوفي منه صاحب الدين دينه، فهو يتضمن جعل حق لصاحب الدين في الوثيقة المذكورة يقتضي حجرها لذلك. والشيء المجعول وثيقة هو المرهون وقد يطلق عليه لفظ الرهن أيضاً، والمدين هو الراهن، وصاحب الدين هو المرتهن. والكلام في ذلك يقع في ضمن مباحث..

المبحث الأول

في إنشاء الرهن

لابد في تحقق الرهن من التزام الراهن بمضمونه وقبول المرتهن به. ويكفي فيه كل ما يدل على ذلك من قول أو فعل، ويقع على وجهين..

الأول: أن يلتزم به استقلالاً، إما ابتداء أو جرياً على اشتراطه في ضمن عقد لازم، كعقد القرض فيقول المدين للدائن مثلاً: رهنتك هذا الثوب على دينك، فيقبل الدائن بذلك.

الثاني: أن يلتزم به في ضمن عقد لازم، كعقد القرض أو غيره، فيقول المقرض مثلاً: أقرضتك هذه المائة دينار على أن يكون هذا الثوب رهناً عليها، فيقبل المقترض بذلك، أو يقول الدائن: بعتك هذا الدفتر بهذا الدينار على أن يكون ثوبك هذا رهناً على دينك، فيقبل المدين.

(مسألة 1): الرهن من الإنشاءات اللازمة بالأصل، ولا يجوز الرجوع فيها لأحد الطرفين إلا بالتقايل أو بطروء أحد أسباب الخيار العامة، كتخلف الشرط الصريح أو الضمني. نعم يجوز للمرتهن إسقاط حقه من المال المرهون متى شاء، فينفذ عليه، ولا يجوز له الرجوع فيه بعد ذلك، لكنه ليس فسخاً للرهن، بل هو نظير الإبراء من الدين لا يكون فسخاً للعقد الذي أوجبه.

(مسألة 2): يصح الرهن ويلزم بمجرد اتفاق الطرفين عليه، ولا يتوقف صحته ولا لزومه على قبض المرتهن للمال المرهون.

(مسألة 3): يسقط حق الرهن ببراءة ذمة من عليه الدين من الدين الذي وقع الرهن له بتمامه، ولا يكفي براءته من بعضه في سقوط حق الرهن عن بعض المال بنسبته، فضلاً عن سقوطه عنه بتمامه.

(مسألة 4): إذا كان للمرتهن على الراهن دينان وكان الرهن على أحدهما دون الآخر، فإذا برئت ذمة الراهن من الدين الذي عليه الرهن لم يكن للمرتهن إمساك المال المرهون ليكون رهناً على الدين الآخر، بل يجب تسليمه للراهن مع مطالبته به.

(مسألة 5): إذا تلف المال المرهون أو سقط عن قابلية استيفاء الحق منه، فإن كان بوجه مضمون قام بدله مقامه في كونه رهناً على الحق، وإن لم يكن مضموناً بطل الرهن، ولا يجب على الراهن إبداله بغيره إلا إذا سبق اشتراط ذلك عليه في الرهن أو في عقد آخر.

(مسألة 6): يعتبر في الراهن والمرتهن الكمال والبلوغ والعقل وعدم الإكراه، كما يعتبر في الراهن ملك المال المرهون وعدم الحجر بسفه أو فلس، ولا يعتبر ذلك في المرتهن، لعدم كون الرهن تصرفاً في ماله. وإذا كان أحد الطرفين قاصراً قام وليه مقامه، كما يقوم الوكيل مقام الأصيل في ذلك.

(مسألة 7): إذا وقع الرهن مع قصور سلطنة أحد الطرفين كان فضولياً وتوقف نفوذه على إجازة من له السلطنة وجرت فيه فروع الفضولي، ويتضح كثير منها مما تقدم في البيع.

المبحث الثاني

في المال المرهون

ولابد من كونه مالاً قابلاً لأن يستوفى منه الحق أو بعضه بلحاظ ماليته، إما بنفسه ـ كما لو كان من سنخ الحق المرهون عليه ـ أو ببدله، كالأعيان القابلة لأن تباع، فلا يصح رهن ما لا مالية له، كبعض الحشرات، ولا ما له مالية عرفية إلا أنه لا يقابل بالمال شرعاً، كالخمر والخنزير، أو ما له مالية إلا أنه لا يمكن استيفاء الحق منه، مثل ما يسرع له الفساد إذا ابتنى الرهن على أن لا يباع بل يبقى بعينه إلى حين حلول الدين.

(مسألة 8): لا يصح رهن الخمر والخنزير مع كون الراهن أو المرتهن مسلماً، وإن كان الآخر كافراً.

(مسألة 9): لا إشكال في صحة رهن الأعيان الخارجية. وأما منافع الأعيان قبل استيفائها والديون غير المقبوضة فيشكل صحة رهنها، نعم لا بأس بجعلها وثيقة على الحق تبعاً لشرط في ضمن عقد لازم، نظير ما تقدم في الوجه الثاني لإنشاء الرهن وذلك بأحد وجهين..

الأول: أن يشترط في العقد اللازم كونها بنفسها وثيقة على الدين، فيقول المقرض مثلاً للمقترض: أقرضتك هذه المائة دينار إلى سنة على أن تكون منفعة دارك أو الدين الذي لك على زيد وثيقة لديني هذا، فيقبل المقترض ذلك.

الثاني: أن يشترط في العقد اللازم جعل الوثيقة من دون تعيين، فيقول المقرض مثلاً للمقترض: أقرضتك هذه المائة دينار إلى سنة على أن تجعل لي وثيقة على ديني هذا، فيقبل المقترض، ثم يتفقان اتفاقاً آخر على أن الدين الخاص أو المنفعة الخاصة هي الوثيقة على ذلك الدين عملاً بمقتضى الشرط. وعلى كلا الوجهين يكون للمقرض في المنفعة أو الدين المذكورين حق نظير حقه في الرهن يقتضي حجرهما له واستحقاقه استيفاء دينه منهما، ولا يصح الالتزام بكونهما وثيقة على نحو الاستقلال من دون شرط سابق، نظير ما تقدم في الوجه الأول لإنشاء الرهن، فإن ذلك يختص برهن الأعيان. وبلحاظ مشروعية الوجه السابق يصح تعميم الرهن للمنافع والديون.

(مسألة 10): رهن المنافع بالوجه المتقدم يبتني..

تارة: على التعجيل باستيفائها بالأجر ثم حفظ الأجر ليستوفى منه الدين عند حلوله.

واُخرى: على عدم استيفائها إلا عند حلول الدين، فيستوفي منها حينئذٍ صاحب الدين بنفسه ما يقابل دينه، أو تستأجر العين ويستوفى الدين من أجرتها.

وكذلك الديون حيث يبتني رهنها..

تارة: على التعجيل باستيفائها وحفظ المال ليستوفى منه الدين عند حلوله.

واُخرى: على عدم استيفائها إلا عند حلول الدين. وتعيين أحد هذه الوجوه تابع لاتفاق الطرفين.

(مسألة 11): تعارف في عصورنا أن يشترط الدائن على المدين استيفاء دينه من راتبه الشهري الذي يستحقه بعمله بقدر معين أو بنسبة معينة في كل شهر. وذلك إن ابتنى على التزام المدين للدائن بالعمل الذي يستحصل به الراتب ـ بحيث ليس له التفرغ وترك العمل ـ كان مبتنياً على ما سبق من رهن المنافع، لأن الأعمال من جملة المنافع، وإن لم يبتن على ذلك بأن لم يكن ملزماً من قبله بالعمل، فهو أجنبي عن الرهن، وراجع إلى اشتراط الوفاء من مال خاص، وهو شرط نافذ، وإن لم يكن ذلك المال مستحقاً بعمل، بل كان من سنخ التبرع، كما لو اشترط الدائن على المدين أن يوفي دينه مما يصل له من حقوق شرعية أو عادات على الناس أو هبات مبتدأة خاصة، أو نحو ذلك. ومنه الرواتب التي تبذل في عصورنا للمشتغلين بطلب العلوم الدينية. ويترتب على ذلك أنه لابد في صحة العقد على الوجه الأول من كون العمل الذي يستحق به الراتب محللاً والاستئجار عليه صحيحاً. أما الثاني فيكفي في صحته ملكية المدين للراتب ولو بعد حصوله في يده، لكونه مباحاً أصلياً أو مالاً مجهول المالك يصح له تملكه بوجه شرعي.

(مسألة 12): ما سبق في رهن الدين والمنفعة جارٍ في رهن الحق إذا كان مقابلاً بالمال، كحق السرقفلية الذي تقدم الكلام فيه في ذيل كتاب الإجارة، وحق الأولوية للمزارع في الأراضي الخراجية الذي تقدم الكلام فيه في فصل شروط العوضين من كتاب البيع.

(مسألة 13): في جواز رهن الكلي على إطلاقه ـ كثوب أو بقرة ـ أو الكلي في المعين ـ كثوب من رزمة معينة ـ إشكال. نعم يجوز التوثق بهما للدين بالالتزام به في ضمن عقد لازم، نظير ما سبق في المنافع والديون، وحينئذٍ يكون على من عليه الدين دفع فرد من الكلي ليكون هو الوثيقة.

(مسألة 14): لا يجوز رهن الأعيان غير المملوكة كالأوقاف والأراضي الخراجية، إلا أن يرجع رهن الوقف إلى رهن منفعته إذا كانت ملكاً للموقوف عليهم، ورهن الأرض الخراجية إلى رهن حق الأولوية فيها، فيصح بالوجه الذي تقدم في المسألة (9).

(مسألة 15): المال المرهون على دين يجوز رهنه على دين آخر إما بنحو يزاحم مقتضى الرهن الأول، كما لو اقتضى كون الاستيفاء للدينين في عرض واحد أو ابتنى على شرط مخالف لمقتضى الأول، وإما بنحو لا يزاحمه، كما لو اقتضى الاستيفاء للدين الثاني بعد استيفاء الدين الأول من دون أن يبتني على شرط مناف لمقتضى الرهن الأول، ولا فرق بين كون الدينين لشخص واحد وكونهما لشخصين. نعم لابد في الصورة الثانية من رضا المرتهن الأول إذا كان الرهن الثاني مزاحماً للرهن الأول، أما إذا لم يزاحمه فلا يعتبر رضاه. كما يمكن في المقام فسخ الرهن الأول بالتقايل من الطرفين ثم رهن المال على الدينين معاً.

(مسألة 16): يجوز تعدد الرهن على الدين الواحد، فللمرتهن استيفاء دينه من كل من الرهنين مخيراً بينهما أو مع تقديم أحدهما، حسب ما يتفق عليه الطرفان.

(مسألة 17): لا يعتبر في المال المرهون أن يكون ملكاً للمدين بل يجوز رهن ما لا يملكه المدين، سواء كان ملكاً لغيره أم لم يكن مملوكاً لأحد كالصدقات العامة. نعم لابد من إذن من له الولاية على المال المرهون من مالك أو ولي، وإذا وقع الرهن بغير إذنه كان فضولياً وتوقف نفوذه على إذنه. بل يصح التبرع لغير المدين برهن ماله على دين غيره، فإذا كان زيد مديناً لعمرو جاز لبكر أن يرهن ماله على الدين المذكور، وحينئذٍ لا يعتبر إذن زيد، بل يكفي اتفاق بكر وعمرو على ذلك، والراهن في الحقيقة في جميع ذلك هو صاحب المال المرهون.

(مسألة 18): من رهن ماله على دين غيره، فإن لم يكن الرهن بطلب من المدين ولا بإذنه فلا يستحق الرجوع على المدين إذا استوفى المرتهن دينه من المال المرهون، وإن كان بإذن المدين أو بطلب منه كان لصاحب المال المرهون الرجوع عليه إذا استوفى المرتهن دينه من المال، إلا أن يكون إذنه في الرهن أو طلبه له مبنياً على التبرع وعدم الضمان، فلابد حينئذٍ من قيام القرينة على ذلك.

(مسألة 19): لا يعتبر العلم بمقدار المال المرهون ولا بصفاته ولا بمقدار ماليته.

المبحث الثالث

في الدين الذي يرهن له

يصح الرهن على كل عين ثابتة في الذمة، كالدراهم والدنانير والطعام ونحوها مما يكون ديناً في ذمة الغير. وفي عمومه للمنافع إشكال، كما لو استأجر إنسان على عمل لم تؤخذ فيه المباشرة، فأراد المستأجر أن يستوثق لنفسه فيأخذ رهناً، ليكون له أن يستوفي منه العمل المستأجر عليه إذا لم يؤده الأجير، فيبيع الرهن المذكور ويستأجر بثمنه من يقوم بذلك العمل. نعم يجوز له التوثق لذلك بالالتزام في ضمن عقد لازم بجعل شيء وثيقة للعمل المطلوب، نظير ما تقدم في رهن الديون والمنافع.

(مسألة 20): لا يصح الرهن على ما يتوقع ثبوته في الذمة قبل أن يثبت فعلاً، سواء تحقق مقتضي ثبوته كالجعل في الجعالة قبل الإتيان بالعمل، وبدل المغصوب قبل التلف لأن يد الغاصب سبب للضمان، أم لم يتحقق المقتضي، كبدل الأمانات غير المضمونة إذا أراد صاحبها التوثق بأخذ الرهن حذراً من التفريط فيها، وبدل المبيع الذي يقبضه المشتري إذا أراد البائع التوثق بأخذ الرهن حذراً من حصول أحد أسباب الفسخ أو البطلان من دون أن يستطيع استرجاع المبيع كي يستطيع استيفاء بدله من الرهن، ونظيره بدل الثمن الذي يقبضه البائع إذا أراد المشتري التوثق بأخذ الرهن حذراً من حصول أحد أسباب الفسخ أو البطلان من دون أن يستطيع استرجاع الثمن.

وكذا الحال في الأعيان المملوكة إذا كانت في يد الغير ـ كالأمانة والمبيع الذي يشترط تأجيل تسليمه ـ وأراد صاحبها التوثق لنفسه بأخذ مال ممن هي في يده ليكون ملزماً بتسليمها بأعيانها.

نعم يمكن اشتراط التوثق في جميع ذلك في ضمن عقد لازم، نظير ما تقدم في رهن المنافع والديون، كما لو اشترى عمرو سيارة زيد نقداً واشترط عليه أن تكون داره وثيقة للثمن الذي دفعه ليستوفيه منها لو ظهرت السيارة معيبة أو مغصوبة ثم وقع تسليم الثمن مبنياً على الشرط المذكور، بأن يكون دفعه مع احتمال بطلان البيع مبنياً على جعل الدار وثيقة له، وكما لو اشترى زيد دار عمرو على أن تسلم إليه الدار بعد سنة واشترط على عمرو أن يدفع له سيارته لتكون وثيقة للدار من أجل أن يسلمها بعد السنة وهكذا، فإن الشرط المذكور نافذ، كما تقدم نظيره.

المبحث الرابع

في أحكام الرهن

(مسألة 21): إطلاق الرهن يقتضي استحقاق المرتهن أخذ المال المرهون، فيجب على الراهن تسليمه له وإذا امتنع أجبر على ذلك، ولا يجوز له استرجاعه منه بعد أخذه له. وقد يتأكد مقتضى الإطلاق بالشرط، كما قد يخرج عنه باشتراط بقاء المال المرهون عند الراهن أو عند شخص ثالث، ويجب العمل بالشرط حينئذٍ.

(مسألة 22): المال المرهون وإن كان باقياً على ملك الراهن إلا أن مقتضى الرهن ثبوت حق للمرتهن فيه، وهو حق استيفاء دينه منه، وقد سبق أن مقتضى إطلاقه أنه يستحق وضع يده عليه وجعله في حوزته، وحينئذٍ يتعين منع الراهن من كل تصرف ينافي أحد هذين الحقين ـ ولو لكونه دخيلاً في كيفية إعمالهما ـ إلا بإذن المرتهن، فلا يجوز له إتلافه، أو إخراجه عن ملكه ببيع أو وقف أو عتق أو نحوها، أو تغيير حاله بصبغ أو كسر أو نحوهما مما قد يعرضه لقلة الرغبة فيه، ولا إجارته أو إعارته أو نحوهما مما يوجب خروجه عن حوزة المرتهن أو يجعله معرضاً للتلف والضرر، ولا أن يحدث فيه ما يصعب معه حفظه على المرتهن وجعله في حوزته، كحل شده الموجب لانفراط أجزائه وتفرقها، وإحبال الدابة الموجب لزيادة الكلفة في حفظها مع ولدها، أو نحو ذلك. وإذا فعل الراهن شيئاً من ذلك من دون إذن المرتهن، فإن كان تصرفاً خارجياً ـ كالإتلاف والصبغ ـ كان حراماً ومعصيةً، وإن كان تصرفاً اعتبارياً ـ كالبيع والإجارة ـ لم ينفذ إلا أن يجيزه المرتهن، كالعقد الفضولي.

(مسألة 23): يجوز للراهن التصرف في المال المرهون من غير إذن المرتهن إذا لم يكن منافياً لحقّه بالوجه المتقدم، ومن ذلك بيعه على أن يبقى بعينه مرهوناً مستحقاً للمرتهن، بحيث لا يستقل المشتري به إلا بعد وفاء الحق المرهون عليه، نظير ما لو كان المال المرهون ملكاً لغير من عليه الحق.

(مسألة 24): إذا أذن المرتهن في بيع المال المرهون أو أجاز بيعه بعد وقوعه قام الثمن مقام المبيع في كونه رهناً على الدين، إلا أن يبتني الإذن أو الإجازة على إسقاط حق الرهن، فحينئذٍ يستقل الراهن بالثمن.

(مسألة 25): المال المرهون إذا صار ـ بمقتضى إطلاق عقد الرهن أو بمقتضى الشرط تحت يد الراهن ـ فهو أمانة بيده لا يضمنه إلا بالتعدي أو التفريط، على النحو المتقدم في أوائل الفصل السادس من كتاب الإجارة.

(مسألة 26): لا يجوز للمرتهن التصرف في المال المرهون إلا بوجهين:

الأول: التصرف الذي هو مقتضى أمانته، كإطعام الحيوان ونشر الثوب أو الطعام لو خيف عليهما من التلف.

الثاني: ما يأذن به المالك صريحاً، أو يفهم من ظاهر حاله ولو بسبب التعارف.

(مسألة 27): إذا تعرض المال المرهون للفساد بنحو يسقط قيمته، أو ينقصها نقصاً معتداً به وجب مراجعة مالكه، فإن أذن ببيعه فذاك، وإلا فإن بلغ الضرر حداً يمنع من استيفاء الدين من الرهن كان للمرتهن بيعه بعد الاستئذان من الحاكم، وكذا إذا تعذرت مراجعة المالك. ويجري ذلك فيما لو تعرض المال المرهون للخطر من غير جهة الفساد، كما لو كان معرضاً للسرقة أو نحوها.

(مسألة 28): منافع المال المرهون ـ كركوب الدابة وسكنى الدار ـ ونماءاته ـ كالبيض والحليب ـ ملك للراهن، وليس للمرتهن استيفاؤها وأخذها إلا بإذنه الصريح أو المستفاد من ظاهر الحال، فإن ابتنى إذنه على المجانية فهو، وإلا كان عليه بدلها ونقص مقداره من دينه. وكذا الحال إذا استوفاها من غير إذنه.

(مسألة 29): إذا اشترط المرتهن أن تكون منافع المال المرهون أو نماءاته له، أو أن له استيفاءها وأخذها مجاناً فلذلك صور..

الاُولى: أن يشترط ذلك في عقد القرض، كما إذا أقرض المال برهن واشترط حين القرض أن تكون منافع المال المرهون أو نماءاته له، أو أقرض المال واشترط على المقترض أن يجعل عليه رهناً تكون منافعه ونماءاته له.

الثانية: أن يشترط ذلك في نفس الرهن ـ فيما إذا أنشئ استقلالاً ـ ، كما لو طالب الدائن المدين بالرهن، فلما أراد أن يرهن عنده شيئاً اشترط عليه في الرهن أن تكون منافعه ونماءاته له فقبل الراهن الشرط. الثالثة: أن يشترط ذلك في عقد ثالث، كما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل برهن واشترط في عقد البيع أن تكون منافع المال المرهون أو نماءاته له، أو رهن المدين شيئاً على دينه ثم أوقع مع المرتهن عقداً ـ كالبيع ـ وشرط أن تكون منافع ذلك الشيء المرهون أو نماءاته له.

أما في الصورة الاُولى فيبطل الشرط المذكور، لأنه من الربا المحرّم، فإذا استوفى المرتهن المنافع والنماءات كان ضامناً لها ونقص من دينه بقدرها، وأما في الصورتين الأخيرتين فالظاهر جواز الشرط المذكور ونفوذه، فيملك به المرتهن منافع المال المرهون ونماءاته، فإذا استوفاها وأخذها لم يكن ضامناً لبدلها ولم تنقص من دينه.

(مسألة 30): تجري الصورتان السابقتان أيضاً فيما إذا كان المشروط هو استيفاء الراهن المنافع وأخذه النماء بعوض.

(مسألة 31): إذا أراد الطرفان استيفاء الراهن منافع العين المرهونة ونماءاتها مجاناً أمكنهما الاستعاضة عن الدين والرهن ببيع الشرط الذي تقدم التعرض له في الخيار الثالث من الفصل الرابع من كتاب البيع، فمثلاً إذا أراد زيد أن يقترض من عمرو ألف دينار إلى سنة ويرهن عليها داره، فبدلاً من ذلك يبيع زيد داره من عمرو بألف دينار ويجعل له خيار رد الثمن إلى سنة، فإذا أرجع زيد لعمرو الألف دينار في آخر السنة يفسخ البيع ويسترجع داره، فإن الدار ومنافعها في تلك السنة تكون ملكاً لعمرو حينئذٍ، وله أن يستوفيها مجاناً. نعم لو تلفت الدار يكون تلفها عليه، بخلاف ما لو كانت مرهونة فإن تلفها يكون على زيد ولا يضمنه عمرو إلا مع التفريط، كما أنه إذا لم يأت زيد بالثمن في الأجل المحدد فليس له الفسخ إلا أن يرضى عمرو.

(مسألة 32): حق الرهانة يورث، فإذا مات المرتهن انتقل حق الرهن في المال المرهون لورثته، ولا يسقط حق كل منهم إلا بإسقاطه، أو ببراءة ذمة المدين من حصته من الدين الذي عليه الرهن.

(مسألة 33): لا يبطل الرهن بموت الراهن، بل يبقى المال المرهون معه مورداً لحق الرهن وإن صار للوارث.

(مسألة 34): إذا حل وقت استيفاء الدين لم يستقل المرتهن باستيفائه من المال المرهون، بل لابد من مراجعة الراهن ليقوم بأدائه من عنده، أو من المال المرهون ـ إن كان من سنخ الدين ـ أو ببيع المال المرهون على المرتهن أو غيره ويوفي الدين بثمنه. وإن امتنع جاز إجباره على أحد الأمرين، وإن تعذر ذلك جاز للمرتهن أن يتولى البيع بنفسه. والأحوط وجوباً مراجعة الحاكم الشرعي مع الإمكان. ويجري ذلك فيما إذا تعذرت مراجعة المالك لغيبة أو جهالة أو نحوهما.

(مسألة 35): إذا اشترط المرتهن على الراهن في عقد الرهن أو في عقد آخر أن يكون له بيع الرهن لاستيفاء الدين من دون مراجعته نفذ الشرط المذكور. وكذا إذا جعله الراهن وكيلاً عنه في البيع وشرط عليه المرتهن في عقد الرهن أو في عقد آخر غير عقد الوكالة أن لا يعزله. نعم الأحوط وجوباً عدم اشتراط ذلك في عقد القرض.

(مسألة 36): إذا أفلس المرتهن أو مات مديناً ديناً لا تفي به تركته ففي تقديم حق المرتهن في العين المرهونة على بقية الغرماء إشكال، والأحوط وجوباً التراضي والتصالح معهم.

(مسألة 37): إذا مات الراهن ولم يكن للمرتهن بينة على دينه عليه، وخاف إن هو أقر بالمال المرهون أن يأخذه الورثة منه وينكروا دينه، جاز له أن يستوفي دينه من المال المرهون بنفسه ويرجع ما زاد منه للورثة من دون أن يقر بالرهن.

(مسألة 38): إذا وجد المرتهن عنده رهناً على دين وجهل صاحبه كان له استيفاء دينه منه، فإن كان الدين بقدر الرهن فذاك، وإن كان أكثر من الرهن بقي الزائد من دينه في ذمة الراهن المجهول، وإن كان أقل من الرهن بقي الزائد من الرهن أمانة في يده للراهن المجهول، وجرى عليه حكم الأمانة المجهول مالكها، وقد تقدم في المسألة (16) من كتاب الاستيداع. وإن جهل مقدار الدين واحتمل كونه بقدر الرهن جاز له احتسابه بدينه ويكون له.

(مسألة 39): إذا تردد الدين الذي عليه الرهن بين الأقل والأكثر بني على الأقل.

(مسألة 40): إذا كان عند شخص عين لآخر، وتردد بين كونها رهناً على دين وكونها وديعة أو نحوها بني على عدم كونها رهناً، سواء علم بأن صاحب العين مدين للشخص الذي عنده العين، أم لم يعلم بذلك. نعم إذا اتفقا على كونه مديناً له، وادّعى الدائن أن العين رهن على ذلك الدين وادّعى المدين أنها ليست برهن كان القول قول الدائن ما لم يقم المدين البينة على عدم كونها رهناً، ويكفي أن يقيم البينة على أنه تسلمها منه لا على وجه الرهينة، ولا يسمع مع ذلك دعوى الدائن أنه رهنها عنده بعد ذلك، إلا ببينة.

الفصل الثاني

في الكفالة

وهي نظير الرهن في كونها استيثاقاً للحق، لكن موضوعها النفس والغرض منها الحضور. فهي عبارة عن تعهد شخص لآخر بحضور شخص ثالث، بحيث يلزمه أن يحضره لو لم يحضر. والأول الكفيل، والثاني المكفول له، والثالث المكفول. ومحل الكلام ما إذا وجب الحضور على المكفول، وكان المكفول له يستحق ذلك عليه. ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

(مسألة 1): لا إشكال في توقف الكفالة على رضا الكفيل والمكفول له، والظاهر توقفها على رضا المكفول أيضاً، فمع عدم رضاه بها لا سلطان للكفيل عليه، ولا يترتب أثرها بالنسبة إليه. نعم المفروض وجوب الحضور عليه على كل حال ولو مع عدم الكفالة، لكن ذلك لا يقتضي سلطنة الكفيل على إحضاره ولا لزوم متابعته للكفيل بالحضور ما لم يرض بالكفالة.

(مسألة 2): لابد من إنشاء مضمون الكفالة والتزام الأطراف المعنية به وإبراز الالتزام المذكور بكل ما يدل عليه من قول أو فعل، نظير ما سبق في بقية العقود.

(مسألة 3): يجوز اشتراط الكفالة على الكفيل ـ من قبل المكفول أو المكفول له أو شخص ثالث ـ في ضمن عقد لازم، فينفذ مع رضا المكفول والمكفول له. وهو على وجهين:

الأول: أن يشترط كونه كفيلاً لزيد مثلاً ومسئولاً به.

الثاني: أن يشترط عليه أن يكفل زيداً. وفي الأول يكون كفيلاً بمجرد الشرط، وفي الثاني لا يكون كفيلاً إلا بعد إنشاء الكفالة، ولا يكون فائدة الشرط إلا وجوب إنشائها.

(مسألة 4): لما كانت الكفالة متمحضة في التعهد من جانب الكفيل وحده فالأحوط وجوباً الاقتصار في نفوذها على ما إذا ابتنت على أن يترتب عليها شيء من جانب المكفول له، كما إذا كان قد اشترط الكفالة فيرجع قبوله بها للقبول بكونها وفاء بشرطه، أو كان مستحقاً الحضور على المكفول أو حابساً له فعلاً فيأذن بانصرافه أو يطلق سراحه اعتماداً على الكفالة، أو كان طالباً ـ من المكفول أو من غيره ممن يتعلق به ـ التوثق لحقه ساعياً لذلك، فيترك الطلب والسعي المذكورين اكتفاء بالكفالة أو نحو ذلك. أما إذا كانت مبتدأة من دون ذلك نظير الوعد المجرد فيشكل نفوذها إلا أن تكون مشروطة على الكفيل من قبل المكفول له في ضمن عقد آخر فتنفذ تبعاً لنفوذ العقد.

(مسألة 5): يعتبر في الكفيل أن يكون قابلاً لأن يلزم بإحضار المكفول على ما تقتضيه الكفالة لكماله بالبلوغ والعقل، فإذا كان مقتضى الكفالة إحضار المكفول بعد شهر من العقد ـ مثلاً ـ لزم كمال الكفيل حينئذٍ ولا يجب كماله حين إجراء العقد، بل يمكن قيام وليه مقامه في إجراء العقد إن كانت الكفالة صلاحاً له. أما المكفول والمكفول له فلا يعتبر كمالهما، فيمكن كفالة الصبي والمجنون والكفالة لهما إذا رضي بها وليهما بدلاً عنهما.

(مسألة 6): لا يعتبر قدرة الكفيل على إحضار المكفول واقعاً، بل يكفي زعمه القدرة على ذلك، فإذا كفله بالزعم المذكور ثم تبين عجزه لم ينكشف بطلان الكفالة. وليس المراد بالقدرة على إحضاره القدرة على مباشرة الإحضار بنفسه بحيث يأتي به معه، بل المراد ما يعم استجابة المكفول للكفيل لو أمره بالحضور.

(مسألة 7): تشرع الكفالة سواء كان طلب حضور المكفول لتعلق حق مالي به ـ كدين أو كفالة أو تسليم مبيع أو نحوها ـ من أجل أن يستوفى منه ذلك الحق، أم كان لأمر آخر، كحضوره لمرافعة أو لأداء شهادة أو دخول سجن بحق أو ليقتص منه أو غير ذلك. ويعتبر في القسم الأول أن لا يكون الكفيل والمكفول له محجوراً عليهما بسفه أو فلس. ولا يعتبر ذلك في المكفول لثبوت الحق عليه على كل حال.

(مسألة 8): تصح الكفالة في الماليات، سواء كان الحق ثابتاً فعلاً، كما لو كان المكفول مديناً للمكفول له، أم لم يكن ثابتاً فعلاً مع وجود سببه، كالجعل في عقد الجعالة والعوض في عقد السبق والرماية، بل تصح مع عدم وجود السبب فعلاً، كثمن أو أجر في بيع أو إجارة متوقعي الحصول، كما لو قال: بعه الدار أو آجره الدكان وأنا كفيل بإحضاره ليؤدي الثمن أو الأجرة.

(مسألة 9): مع إطلاق الكفالة في الماليات يجب على الكفيل إحضار المكفول، ومع تعذر ذلك يجب عليه دفع المال الذي عليه. أما لو صرح في عقد الكفالة باقتصاره على إحضار المكفول فلا يجب عليه مع تعذر الإحضار دفع المال. نعم لو دفع المال انحلت الكفالة، لما يأتي من انحلالها ببراءة ذمة المكفول من الحق.

(مسألة 10): يمكن في الكفالة مطلقاً جعل شرط جزائي على تقدير عدم إحضار المكفول، لكن لابد في نفوذه من تقديم الشرط، فإذا قال الكفيل: علي كذا إن لم أحضره، لزمه الشرط. وإذا قال: إن لم أحضره فعلي كذا، لم يلزمه الشرط ولم يكلف إلا بإحضاره.

(مسألة 11): في الكفالة في الماليات إذا دفع الكفيل المال، فإن كان بإذن المكفول أو بطلب منه كان للكفيل الرجوع عليه بما دفع، وإن لم يكن بإذنه لم يرجع عليه، إلا إذا كان آذناً في الكفالة المطلقة التي سبق ظهورها في دفع الحق عند تعذر الإحضار، فإن له الرجوع حينئذٍ إذا كان قد دفع المال مع تعذر الإحضار.

(مسألة 12): مع إطلاق الكفالة يلزم الكفيل إحضار المكفول في بلد عقد الكفالة، ولا يكفي إحضاره في غيره إلا مع القرينة الصارفة عن مقتضى الإطلاق.

(مسألة 13): يجب على المكفول الاستجابة للكفيل والحضور معه، فإن امتنع جاز له إجباره ولو بالاستعانة بالظالم. نعم نفقة الإحضار على الكفيل ولا يتحملها المكفول إلا مع الشرط، وإن كان ضمنياً مستفاداً من شاهد الحال عند إذن المكفول في الكفالة.

(مسألة 14): يجوز أن يكفل الكفيل شخص ثان، يكون ملزماً بإحضاره ليقوم بمقتضى كفالته، كما يجوز أن يكفل الثاني شخص ثالث، وهكذا تترامى الكفالات.

(مسألة 15): إذا أمسك صاحب الحق من عليه الحق لاستيفاء حقه منه من دون تعد عليه فجاء آخر فخلصه منه كان عليه تسليمه أو أداء الحق الذي عليه. وإذا كان قاتلاً عمداً لزمه إحضاره ليقتص منه أولياء المقتول، ولهم حبسه لذلك، إلا أن يرضوا منه بالدية فيدفعها لهم. وكذا إذا مات القاتل فيجب على من خلصه من أيدي أولياء المقتول دفع الدية لهم.

(مسألة 16): الكفالة عقد لازم لا يجوز فسخه من طرف الكفيل، إلا مع الخيار، أو بالتقايل منه ومن المكفول له. نعم ينحل باُمور..

الأول: القيام بمؤداه وهو إحضار المكفول.

الثاني: براءة ذمة المكفول من الحق الذي عليه بأدائه، أو بارتفاع موضوعه، كما إذا كان كافلاً لشخص فبطلت كفالته له.

الثالث: انتقال الحق من المكفول له لشخص آخر، ببيع أو صلح أو حوالة أو غيرها، فإن الشخص الآخر لا يقوم مقام المكفول له في استحقاق الكفالة، بل تنحل الكفالة. نعم إذا كان الانتقال بالإرث قام الوارث مقام المورث في استحقاق الكفالة ولم تنحل.

الرابع: موت المدين أو سقوطه عن قابلية الإحضار لاستيفاء الحق بجنون أو نحوه. نعم إذا ابتنت الكفالة على أداء الكفيل للحق عند تعذر الإحضار فلا تبطل الكفالة حينئذٍ، بل يجب عليه أداء الحق إن تعذر أداؤه من ماله أو تركته.

الخامس: إسقاط المكفول له حقه من الكفالة.

(مسألة 17): لا تصح الكفالة إذا لم يجب الحضور على المكفول مع قطع النظر عنها، كالمحبوس ظلماً، والشاهد في الترافع عند الظالم، والملزم ظلماً بدفع مال، ونحو ذلك، فلو وقعت الكفالة لم يحل للمكفول له إلزام الكفيل بإحضار المكفول، ولم يجب على الكفيل إحضاره. نعم يمكن نفوذ الكفالة حينئذٍ في حق المكفول بالإضافة إلى الكفيل إذا ابتنى رضاه بالكفالة على تعهده بالاستجابة له في الحضور إن كفله، دفعاً للضرر الوارد على الكفيل لو لم يحضر، فالمسجون بظلم مثلاً قد يرضى الظالم بخروجه من السجن مؤقتاً إذا كفله شخص وتعهد برجوعه بعد الوقت، كما قد يتعارف في زماننا، وحينئذٍ إذا طلب من شخص أن يكفله عند الظالم متعهداً له بالرجوع للسجن بعد الوقت لئلا يقع الكفيل في الضرر فكفله ذلك الشخص بناء على التعهد المذكور وجب عليه الحضور، وجاز للكفيل إحضاره وإجباره على الحضور بمقتضى نفوذ التعهد المذكور، وإن لم يستحق المكفول له حضوره، بل كان ظالماً في ذلك، إلا أن يكون الحضور محرّماً فيشكل الأمر، كما إذا كان يتعرض في رجوعه للسجن للهلكة أو لضرر يحرم تحمله.

تتميم:

المعروف من الكفالة هي كفالة النفس التي تبتني على التعهد بحضور المكفول لاستيفاء الحق منه، وهي التي سبق الكلام فيها. والظاهر مشروعية الكفالة المتمحضة في المال، المتعارفة في زماننا هذا، وهي تعهد الكفيل للمكفول له بأداء حقه الثابت له على المكفول، لا بمعنى جعل الحق المذكور في ذمة الكفيل وبراءة المكفول منه ـ كما يأتي في الضمان ـ بل بمعنى تعهد الكفيل للمكفول له بحصوله على حقه بأن يؤديه له المكفول، فإن لم يفعل أداه هو عنه، من دون أن تقتضي الكفالة المذكورة براءة ذمة المكفول من الحق. والظاهر عدم اشتراط إذن المكفول في هذا القسم من الكفالة، بل يكفي اتفاق الكفيل والمكفول له عليها ورضاهما بها.

(مسألة 18): كما تجري هذه الكفالة في الاُمور الذمية تجري في الأعيان الخارجية، كما لو قال: لا تتعقب السارق وأنا كفيل بما أخذ، أو لا تخاصم الغاصب وأنا كفيل بما غصب، على معنى أنه مسئول بإرجاع عين المال ومع تعذره فهو مسئول ببدله، من دون أن تبرأ ذمة صاحب اليد مما أخذ.

(مسألة 19): لا يعتبر في هذه الكفالة ثبوت الحق وانشغال ذمة المكفول فعلاً، بل يكفي تحقق سبب ثبوته وانشغال الذمة به وإن لم تنشغل بعد، كما لو قال: بع زيداً أو آجره وأنا كفيل بالثمن أو الأجر، أو أدخله بيتك وأنا كفيل بما أتلف، أو أعره المتاع وأنا كفيل به، أو لا تغلق باب المنزل وأنا كفيل بما يسرق منه. نعم لابد في جميع ذلك من أن تبتني على أن يترتب عليها شيء من جانب المكفول له على النحو المتقدم في المسألة (4) فلا تنفذ بدون ذلك، كما لو أيس المسروق من الظفر بما له فقال له: أنا كفيل بما سرق منك، أو أحكم الشخص غلق أبوابه أو قام بأقصى جهده في التحفظ على ماله فقال له: إن سرق منك شيء فأنا كفيل به، ونحو ذلك.

(مسألة 20): تصح كفالة درك الثمن لو ظهر المبيع مغصوباً أو غير ذلك مما يوجب بطلان البيع، فإذا باع شخص شيئاً بثمن معين، وخشي المشتري أن يكون المبيع مغصوباً كان له طلب الكفيل بالثمن الذي دفعه، فإذا كفله شخص كان له الرجوع عليه بالثمن الذي دفعه لو ظهر بطلان البيع لكون المبيع مغصوباً. كما تصح كفالة الثمن على تقدير فسخ البيع بخيار، أو بطلانه لتلف المبيع قبل القبض، أو نحو ذلك.

(مسألة 21): إذا لم تكن هذه الكفالة بإذن المكفول لم يكن للكفيل الرجوع عليه بما أدى عنه، وإن كانت بإذنه كان للكفيل الرجوع عليه بما أدى عنه من الحق في وقته على حسب مقتضى الكفالة، إلا أن يبتني إذنه له في الكفالة على عدم ضمانه له لو أدى عنه، وهو يحتاج إلى عناية وقرينة خاصة.

(مسألة 22): يجوز ترامي هذه الكفالة، نظير ما تقدم في كفالة النفس.

(مسألة 23): تجوز هذه الكفالة مع عدم ثبوت الحق على المكفول شرعاً، بل كان مؤاخذاً به ظلماً، فإنها وإن لم تنفذ في حق المكفول له لكونه ظالماً، إلا أنها تنفذ في حق المكفول إذا أذن بها أو طلبها، فيجب عليه أداء المال للكفيل لو أداه عنه بمقتضى الكفالة، نظير ما تقدم في المسألة الأخيرة من كفالة النفس.

الفصل الثالث

في الضمان

وهو عبارة عن تحمل شخص ديناً في ذمة آخر، بحيث تنشغل ذمته بالدين وتفرغ منه ذمة المدين. والمتحمل هو الضامن، والمدين الأول هو المضمون عنه، وصاحب الدين هو المضمون له. ويكفي في إنشائه كل ما يدل على الالتزام بالمضمون المذكور من قول أو فعل، كما تقدم في غيره من العقود.

(مسألة 1): الضمان عقد بين الضامن والمضمون له، فلابد من صدوره عن اختيارهما، ولا يقع مع الإكراه كسائر العقود، كما لابد فيه من كونهما بالغين عاقلين غير محجور عليهما بسفه. وأما عدم الحجر بالفلس فالظاهر اشتراطه في المضمون له إذا كان نفوذ الضمان منافياً لمقتضى الحجر، ولا يعتبر في الضامن، غايته أن المضمون له لا يشارك الغرماء في أمواله التي هي مورد الحجر، ويأتي التعرض لذلك في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى. أما المضمون عنه فلا يعتبر رضاه، كما لا يعتبر فيه ما سبق، بل يصح الضمان عنه وإن كان ميتاً.

(مسألة 2): إذا كان الضامن والمضمون له قاصرين لصغر أو جنون قام وليهما مقامهما، كما يقوم وكيلهما مقامهما لو كانا كاملين.

(مسألة 3): لابد في الضمان من ثبوت الدين في ذمة المدين، سواء كان لازماً ـ كالقرض ـ أم متزلزلاً ـ كثمن المبيع في زمن الخيار ـ فمع عدم ثبوته لا يصح ضمانه، سواء تحقق سببه، كالجعل في الجعالة قبل العمل، أم لم يتحقق، كثمن المبيع قبل البيع. كما لابد في الضمان أيضاً من كون الحق ذمياً، ولا يجري في الأعيان المضمونة كالمغصوب. نعم تصح الكفالة في جميع ذلك من دون أن تبرأ بها ذمة من عليه الحق، كما تقدم.

(مسألة 4): إذا لم يكن الضمان بإذن المضمون عنه لم يكن للضامن الرجوع عليه بما أدى من الحق، أما إذا كان بإذنه فله الرجوع عليه بما أدى، ولا يجوز الرجوع عليه بما لم يؤده لعجز أو إبراء، وكذا لو صالح على الدين بما هو دونه، فإنه ليس له الرجوع إلا بما صالح به.

(مسألة 5): الضمان من العقود اللازمة، فلا يجوز الرجوع فيه للضامن ولا للمضمون له، بل لا يمكن حله حتى بالتقايل منهما، ولا يصح شرط الخيار فيه، كما لا يثبت فيه خيار تخلف الشرط أو الوصف، فإذا رضي المضمون له بالضمان بشرط أن يفعل الضامن شيئاً أو بشرط أن يكون موسراً، فلم يفعل الضامن ذلك الشيء أو بان إعساره حين الضمان لم يكن للمضمون له الفسخ، سواء كان الشرط صريحاً أم ضمنياً. نعم إذا كان الضمان بإذن المضمون عنه فالظاهر صحة شرط الخيار فيه، وثبوت خيار تخلف الشرط أو الوصف فيه إذا كان الاشتراط بإذنه أيضاً. كما أن الظاهر إمكان التقايل فيه بإذن المضمون عنه، بحيث يرضى الثلاثة بحله ورفع اليد عنه.

(مسألة 6): يجوز ضمان الدين الحال مؤجلاً، بحيث لا يستحق المضمون له المطالبة إلا بعد الأجل، كما يجوز العكس، وهو ضمان الدين المؤجل حالاً.

(مسألة 7): إذا أمر شخص صاحب المال بإتلاف ماله، فإن كان الإتلاف محرّماً ـ لكونه تبذيراً ـ وعلم صاحب المال بذلك لم يكن عليه ضمانه، حتى لو تعهد بضمانه على تقدير الإتلاف، كما لو قال: أحرق ثوبك وعلي قيمته، وإن لم يكن محرّماً ـ لوجود غرض عقلائي مخرج له عن التبذير ـ أو كان محرّماً ولم يعلم صاحب المال بذلك، فإن فهم صاحب المال إرادة الآمر المجانية فلا ضمان أيضاً. وكذا إذا وجب الإتلاف على صاحب المال وكان الأمر به من باب الأمر بالمعروف. وفي غير ذلك يتعين الضمان، سواء صرح الآمر بالضمان أم لا، لكن ذلك ليس من الضمان الذي هو محل الكلام، بل هو نظير الضمان بالاستيفاء الذي تقدم في المبحث الأول من خاتمة كتاب الإجارة.

الفصل الرابع

في الحوالة

والمراد بها تحويل المدين للدائن بدينه على غيره، بحيث تبرأ ذمة المدين من الدين وتنشغل به ذمة ذلك الغير. والمدين الأول هو المحيل، والدائن هو المحال، وقد يسمى بالمحتال، والذي يحوّل عليه الدين هو المحال عليه. ويكفي في إنشائها كل ما دل على الالتزام بالمضمون المذكور من قول أو فعل.

(مسألة 1): لابد في الحوالة من رضا المحيل والمحال، أما المحال عليه فلابد من رضاه أيضاً إذا كان بريئاً غير مدين للمحيل، وكذا إذا كان مديناً له وكانت الحوالة بغير الجنس، كما إذا كان مديناً له بدراهم فأحال عليه بدنانير، وأما إذا كان مديناً وكانت الحوالة بنفس الجنس، فإن أريد بالحوالة عليه الحوالة على ذمته ابتداء ـ ولو لتخيل كونه بريئاً ـ فلابد من رضاه أيضاً، وإن أريد بها الحوالة على الدين الثابت في ذمته فلا يعتبر رضاه.

(مسألة 2): لابد في المحيل والمحال من البلوغ والعقل وعدم الإكراه، كما يجب ذلك في المحال عليه في المورد الذي يعتبر فيه رضاه.

(مسألة 3): يعتبر عدم الحجر بسفه أو فلس في المحال والمحال عليه في كل مورد يكون نفوذ الحوالة منافياً لمقتضى الحجر. ولا يسعنا تفصيل ذلك، بل قد يظهر بالتأمل وبملاحظة ما يأتي في كتاب الحجر.

(مسألة 4): تجوز الحوالة على البريء ـ غير المدين للمحيل ـ بإذنه، كما أشرنا إليه، فإن ابتنت الحوالة على رجوعه على المحيل بما أحال عليه انشغلت ذمة المحيل له بمثل الذي أحال به، وإن ابتنت على تبرع المحال عليه فلا تنشغل ذمة المحيل له بشيء.

(مسألة 5): إذا تم عقد الحوالة بشروطه برئت ذمة المحيل من الدين الذي أحال به للمحال، وبرئت ذمة المحال عليه إذا كان مديناً للمحيل من مقدار الدين الذي أحال به عليه، وانشغلت ذمة المحيل للمحال عليه بمثل الدين الذي أحال به إذا كان المحال عليه بريئاً وكان مبنى الحوالة على رجوعه على المحيل بما أحال عليه، ولا يتوقف شيء من ذلك على أداء المحال عليه للمحال الدين الذي أحيل به.

(مسألة 6): لابد في الحوالة من ثبوت الدين في ذمة المحيل حينها، ولا يكفي حصول سببه ـ كالجعل في الجعالة قبل العمل ـ فضلاً عن توقع ثبوته من دون ذلك، كثمن المبيع قبل البيع.

(مسألة 7): الحوالة كالضمان في اللزوم، وعدم إمكان شرط الخيار وغيره إلا إذا كانت بإذن المحال عليه، فيمكن فيها شرط الخيار وغيره والتقايل، نظير ما تقدم في الضمان. نعم إذا كان المحال عليه معسراً حين الحوالة ولم يعلم المحال بإعساره كان له الخيار إذا علم بعد ذلك. وإذا زال إعساره قبل الفسخ ففي بقاء الخيار إشكال، كالإشكال في ثبوت الخيار إذا كان بناء المحال عليه على الاقتراض أو الاستيهاب أو نحوهما وكان يمكنه ذلك، بل الأظهر هنا عدم الخيار.

تتميم

الحوالة المصطلحة للفقهاء والتي دلت عليها النصوص هي الحوالة بالمعنى المتقدم المبتني على نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. أما الحوالة المعروفة في زماننا هذا فهي عبارة عن طلب المحيل من المحال عليه دفع المال عنه للمحال من دون أن تنشغل ذمة المحال عليه للمحال بشيء. ويترتب على ذلك اُمور..

الأول: أنه لا يعتبر في المال المحال به أن يكون ديناً ثابتاً فعلاً في ذمة المحيل، بل كما يكون كذلك يكون ثمناً في بيع حين الحوالة، كما إذا اشترى المحيل شيئاً بثمن يأخذه المشتري من المحال عليه، أو يكون ديناً آيلاً إلى الثبوت، كالجعل في الجعالة قبل العمل، وثمن المبيع قبل البيع، بل يمكن أن يكون مالاً متبرعاً به.

الثاني: أنه لا يعتبر رضا المحال إلا حيث يكون له الامتناع عن أخذ المال المحال به، كما إذا كان ثمناً في بيع، حيث يجوز له الامتناع عن إطلاق الثمن بحيث يشمل المال المحال به، بخلاف ما إذا كان ديناً في ذمة المحيل، فإنه حيث يكون تعيين الوفاء تابعاً للمدين فإذا كان إطلاق الدين يشمل المال المحال به وعيّن المدين الوفاء به لم يكن للدائن الامتناع عن قبضه.

وأما المحال عليه فقد يكون ملزماً بقبول الحوالة، كما إذا كان وكيلاً للمحيل، أو كان بينهما عقد ملزم بالدفع عند التحويل.

الثالث: إذا دفع رجل إلى آخر مالاً في بلد ليأخذ بدله في بلد آخر، فإن اختلف المالان في الجنس فلا إشكال، كما لو دفع في العراق ديناراً عراقياً ليأخذ بدله في خارج العراق عملة اُخرى، لرجوعه إلى بيع إحدى العملتين بالاُخرى. وإن اتفقا في الجنس، فله صور ثلاث..

الاُولى: أن يكون المدفوع أولاً أقل من المأخوذ بدلاً عنه، كما لو دفع في العراق ألف دولار على أن يأخذ في الخارج ألفاً وخمسين دولاراً، وحينئذٍ إن كان الدفع بعنوان القرض كانت الزيادة ربا محرّماً، وإن كان بعنوان البيع، بأن يبيعه ألف دولار في العراق بألف وخمسين دولاراً في الخارج كان حلالاً، لعدم حرمة الزيادة في العوضين في المعدود. نعم الأحوط وجوباً عدم الزيادة المذكورة مع انحصار الفرق بالزمن، كما لو باعه ألف دولار معجلة بألف وخمسين دولاراً مؤجلة إلى شهر مثلاً من دون فارق من جهة اُخرى كالمكان.

الثانية: أن يكونا متساويين، فيحل في البيع والقرض، لأن شرط اختلاف المكان لايحرم بالقرض، كما تقدم.

الثالثة: أن يكون المدفوع أولاً أكثر من المأخوذ بدلاً عنه، كما لو دفع في العراق ألف دولار على أن يأخذ في الخارج تسعمائه وخمسين دولاراً، والظاهر جواز ذلك مطلقاً، سواء كان بعنوان البيع أم بعنوان القرض، لأن أخذ الزيادة إنما تحرم على الدائن لا على المدين.

والحمد لله رب العالمين.

خصائص وسمات حق الامتياز

نجمل الخصائص المميزة لحق الامتياز في :-
- أنه حق لا يقرره سوى نص القانون
- وأنه حق لا يخول لصاحبه في القاعدة سوى ميزة الاولوية
- وأنه حق عادة لا يلزم شهرة بالقيد
- وأنه حق مقرر للحق لصفة فيه
وسوف نوالي شرح ذلك :-
H- الامتياز حق يقرره نص في القانون :-
ومؤدى ذلك أنه لا امتياز إلا بنص 000فإذا كان الحق الممتاز يخول لصاحبه ميزة تقدمه في استيفاء حقه بالأسبقية على غيره من الدائنين المتزاحمين على المدين فإن تحديد الحق الممتاز السابق وهو منوط بإرادة المشرع نفسه
وهو ما يفهم من تعريف حق الامتياز في المادة 1130/1 مدني أولوية يقررها القانون لحق معين
والقانون
المعنى هنا هو ليس كل قاعدة قانونية كالقاعدة العرفية كقاعدة غير مكتوبة بل القانون بالمعنى الضيق وهو التشريع ونص القاعدة القانونية المكتوبة فأراد المشرع الممثلة في نصه المقنن هو الذي يحتكر وحده تعيين الحق الممتاز الذي يكون للدائن صاحبه سلطة الاولوية والتقدم في استيفاء هذا الحق من احوال المدين أو مال معين منه بالاسبقية على باقي الدائنين الآخرين
وهو ما أكده نص المادة 1130 مدني في فقرتها الثانية حين نصت صراحة على القاعدة السابقة ولا يكون للحق امتياز إلا بمقتضى نص القانون
وقد نصت المادة 1137 مدني على معظم الحقوق الممتازة والتي قرر المشرع لها ميزة الأولوية وإلا أن الحقوق التي نصت عليها المادة السالفة ليست هي كل الحقوق الممتازة وعلى
سبيل الحصر ولكن هناك حقوق ممتازة غيرها نص عليها في نصوص أخرى بمقتضى إحالة المادة الاخيرة إليها كالمادة 662 مدني شأن حق امتياز اتحاد ملاك الطبقات في استيفاء مبلغ القروض الممنوحة لاحد الشركات في ملكيتها والمادة 880 مدني التي تقرر حق امتياز لمصفى التركة لاستيفاء نفقات تصفيتها من اعيان التركة الخ
ويترتب على أنه لا امتياز إلا بنص يقرره القانون عدة نتائج :-
النتيجة الأولى أن المتعاقدين لا تملك أرادتهم المحضة في انشاء حق امتياز لأحدهم :-
فإرادة الأطراف في العقد لا يمكنها الاتفاق على نشوء حق الامتياز لا يهما سواء بدعوى ان العقد المتعاقدين أو باسم مبدا سلطان الإرادة وحرية التعاقد . فهي كلها مبادئ لا
تقوى على بناء حق الامتياز بدون نص تشريعي يقرر ذلك بوضوح فإذا كان الرهن الرسمي والرهن الحيازي سواء ورد على عقار أو منقول يمكن أن تنشأ إرادة المتعاقدين ممثلة في ابرام عقد الرهن فإن إرادة المتعاقدين السابقة والعقد لا تقوى بأي حال على انشاء حق الامتياز الذي لا يقدر على انشائه إلا إرادة المشرع ونص القانون وحده دون غيره
وطالما نحن بصدد استيفاء فلا يقاس عليه ولا يتوسع فيه بما مؤداه :-
أولاً : لا يجوز تقرير حق امتياز لم ينص عليه القانون قياسا على حق امتياز آخر قرره القانون
فلا يكون للبائع الذي احتفظ بحق الانتفاع بالعين المبيعة حق امتياز عليه قياسا على امتياز البائع الذي لم يحتفظ لنفسه بحق الانتفاع على المبيع في المثال السابق 00ولا يمكن تقرير حق الامتياز لدين النفقة في ظل المجموعة المدنية القديمة والتي لم تكن تقرر للنفقة امتيازا قياسيا على أن الشريعة الإسلامية تقرر للدائن بحق ميزة التقدم في استيفائها من أموال المدين بها على باقي الديون الأخرى
ثانيا: لا يكون للغير الذي أوفى بالدين الممتاز حق الامتياز نفسه المقرر للدائن تجاه الدين الاصلي بالدين الموفى به عند الرجوع عليه . فمن يقرض المدين بمبلغ ليفي به بدينه الممتاز كأجرة العين المؤجرة لا يكون المقترض بالتقدم على دائني الاخير الأخرين
إلا اذا كان رجوع الغير المقرض على المدين المقترض أنما كان بمقتضى دعوى حلول نص عليها القانون حين يحل الغير الموفي شأنه شأن الكفيل محل الدائن الموفي له تجاه المدين الأصلي . فيحل الموفي الغير محل الدائن في كل حقوقه ومنها الضمانات العينية للوفاء بالدين كالرهن والامتياز
هل معنى أنه لا امتياز إلا بنص السابق في القانون يقرره وانه لا يتوسع في تفسيره أن النص السابق هو بالضرورة متعلق بالنظام العام ؟
الفقه مجمع على ان النص التشريعي الذي يقرر حق الامتياز مع ذلك هو لا يتعلق بالنظام العام لأن حق الامتياز هو حق يحمي مصلحة خاصة هي مصلحة الدائن صاحب الامتياز بألا يتقدم عليه دائن آخر لم يقرر له القانون نفس الحق الممتاز أو ميزة الاولوية
وعليه فلا يوجد ما يمنع ان يتنازل الدائن صاحب حق الامتياز عن امتيازه وأولوية استيفائه لحقه على دائن أو الدائنين الآخرين أنما لا يجوز ان يتفق المدين مع دائن عادي او ممتاز على ان يتقدم على دائن آخر صاحب حق امتياز لكون أن هذا الاتفاق فيه اعتداء على حق الغير الدائن الذي قرر له القانون لحقه الامتياز وبالتبعية اعتداء على المصلحة الخاصة للدائن والتي ادرك المشرع ان يحميها بان قرر لحقه امتيازا وأولوية.
ولكن لنا أن نتسائل أخيرا بان هناك من الضمانات العينية الاخرى التي لا يقررها إلا نص في شأن حق الامتياز وهو ما يسمي في القانون الفرنسي وتشريعات بعض الدول الأوربية الاخرى بالرهن القانوني والذي نص عليه في المادة 2117 مدني فرنسي لمصلحة الدائن الضعيف او ناقص الأهلية تجاه من له سلطة ولائية نحوه فهل الرهن القانوني السابق هو بمثابة نوع من حق الامتياز كضمان عيني ولا يقرر إلا بنص القانون ؟
في الواقع ان الرهن القانوني أو التشريعي وإذا كان القاسم المشترك بينه وبين حق الامتياز أن كلا منهما مصدره إرادة المشرع ونص القانون إلا أن كلاهما يختلف عن الآخر من عدة وجوه
الوجه الاول : للاختلاف :- ففي حين أن حق الامتياز يقرره القانون لصفة في دين معين او حق ممتاز
فإن الرهن القانوني يقرره القانون لصفة في الدائن بانه ناقص الأهلية فيقرر لهي حق الرهن بنص القانون على أعيان من يخشى منهم من الاستيلاء على امواله بسبب حالة قصره وضعفه مثال ذلك : حق الرهن القانوني المقرر للزوجة على أعيان زوجها والمقرر للقاصر الخاضع للوصاية على اعيان الوصي عليه والمقرر للدولة والمقاطعات والمنشآت العامة على أعيان المحصلين والمديرين الحسابيين
الوجه الثاني للاختلاف :-
أنه حين يرد الرهن القانوني إلا على العقارات فإن الامتياز القانوني قد يرد على المنقولات فقط وقد يرد على العقارات فقط كما هو حال الامتياز الخاص المنقولي أو العقاري وقد يرد الامتياز على كلاهما معا المنقول والعقار كما هو حال الامتياز العام
الوجه الثالث للاختلاف :-
أنه حين يرد الرهن القانوني على كافة عقارات المدين وأمواله العقارية الحالة وقت نشوء الدين والمستقلة كذلك والتي قد يحوزها المدين لا حقا
لذا قيل ان الرهن القانوني في فرنسا وهو رهن عام ومستتر حين ان الامتياز اقانوني من ناحية قد يرد على عين معينة كالامتياز الخاص وقد يرد على الأعيان المملوكة للمدين كلها كالامتياز العام
إذا فالامتياز ليس دائما وهو ضمان عيني عام وعلى خلاف الرهن القانوني في فرنسا
H- الامتياز حق لا يخول صاحبه بحسب الاصل سوى ميزة الاولوية :-
فعادة الضمانات العينية مثل الرهون الرسمية والحيازية وحق الاختصاص تخول صاحبها ميزتي التقدم والتتبع . إلا ان ما يميز حقوق الامتياز أنها لا تمنح صاحبها سوى حق التقدم والاولوية دون حق التتبع
وهو ما أثار الشك لدى بعض الفقه في مصر وفرنسا بشأن أن يكون حق الامتياز وهو من الحقوق العينية التبعية .
وهو مايفهم من تعريف حق الامتياز في المادة 1130/1 مدني والتي نصت على ان الامتياز هو أولوية يقررها القانون لحق معين 00 فتجاهل التعريف السابق ذكر ميزة التتبع ثم عدم النص صراحة على ان الدائن صاحب حق الامتياز يتمتع بهذه الميزة الأخيرة التتبع .
يرى الفقه في هذه السمة أن حق الامتياز يخول فقط ميزة الاولوية 00وقد رتب راي في الفقه عدة نتائج على سمة منح الامتيازو ميزة الاولوية
النتيجة الأولى أن الاولوية تفترض وجود دائن آخر :-فحق الامتياز قرر للدائن كي يتقدم استيفاء دينه بأولوية على الدائن أو الدائنين الاخرين تجاه المدين نفسه فلا يكون للمدين صفة له فحق الامتياز ما شرع إلا من أجل التميز على الدائن الآخر لا على المدين الاخر للدائن صاحب حق الامتياز
النتيجة الثانية أن الاولوية تفترض وجود تزاحم للدائن الاخرين :-
فلا يتصور ممارسة حق الامتياز من حق الامتياز من قبل الدائن صاحب الامتياز إلا عند تزاحم الدائن فلو كان مالك الحق في الامتياز وهو وحده الدائن فلن يحتاج إلى هذا الحق بالامتياز والذي سيفقد بالتالي كل أهمية وضرورة له فميزة الأولوية هي بالتقدم على باقي الدائن حين فقط تعدد الدائن الاخرين وتزاحمهم
النتيجة الثالثة الاولية تفرض أن أموال المدين لا تكفي للوفاء بكل حقوق حقوق الدائنين المتزاحمين فلا قيمة لحق الامتياز حين تكون أموال المدين في السعة والكثرة بما يمكن معه السداد كل ديونه تجاه الدائن صاحب حق الامتياز وغيره من الدائنين الاخرين الممتازين والعاديين
النتيجة الرابعة الأولوية تفترض أن أموال المدين موجودة تحت يده ولم تنتقل في حيازة غيره
فحق الامتياز لا يخول لصاحبه سلطة مهن المدين من التصرف في اعيانه ولا في توقيع باقي الدائنين حجزا عليها ولكن فقط تخوله فقط سلطة التقدم على باقي الدائنين . فإذا خرجت العين المثقلة بحق الامتياز لحيازة الغير حسن النية فقد حق الامتياز فاعليته العملية وكل قيمة قانونية له وامتنع على الدائن صاحب الامتياز ممارسة ميزة الاولوية ؟
إذ ليس لصاحب حق الامتياز ميزة أخرى كميزة التتبع للعين المحملة بالامتياز في يد الغير الحائز للعين بعد خرجت من حيازة مدينه الأولوية السابقة وحتى يتسنى أن يستفيد الدائن صاحب حق الامتياز بميزة الأولوية السابقة يلزم أن تحدد درجة الامتياز حق الدائن أو امتياز الحق الممتاز
بمعنى أنه إذا كان حق الامتياز يوفر سمة الاولوية والتقدم على كافة الدائنين العاديين والدائنين الممتازين كالدائن المرتهن رهنا رسميا او حيازيا أو الدائن صاحب حق الاختصاص إلا انه لا يكرر للدائن صاحب الامتياز مثل هذا التقدم مطلقا تجاه كل الدائنين الاخرين اصحاب حق الامتياز بدورهم بل لا يمكن للدائن صاحب الامتياز ان يتقدم إلا على من هو متأخر عنه في درجة امتيازه ومرتبته وفقا لما يقرره القانون
فالنص الذي يكرر امتياز لحق معين يكرر كذلك درجة امتيازه بين الحقوق الممتازة الاخرى
وقد حدد المشرع في القانون المدني الجديد وعلى خلاف القانون القديم درجة امتياز كل حق ممتاز وفقا للقواعد الاتية :-
- ففي المراتب الثالثة الأولى يأتي حق الامتياز المصاريف القضائية فامتياز المبالغ المستحقة للخزانة العامة ثم امتياز نفقات حفظ وترميم المنقول على الترتيب السابق
- وفي المرتبة التالية مباشرتها تاتي الامتيازات العامة على مجموع أموال المدين المنقول على الترتيب السابق .
- وفي المرتبة التالية مباشرتا تاتي الامتيازات العامة على مجموع اموال المدين منقولة وعقارية معا
- ثم تاتي الامتيازات الخاصة المنقولة بحسب ما يحدد النص بشان كل امتياز منها درجة امتيازه .
- واخيرا تاتي الامتيازات الخاصة العقارية بحسب اسبقية قيدها وفقا لقواعد شهر وقيد الرهون الرسمية.
وأخيرا إذا حدد الشرع في نص خاص أ وقانون خاص درجة امتياز معينة تتعارض مع القواعد السابق أو نص في نصوص الامتياز بالمجموعة المدنية كانت الغلبة للنص الخاص ويكون لكون ان الخاص يقيد العام وهو هنا نصوص القانون المدني الذي يمثل الشريعة والنظرية العامة لحق الامتيازو
ويبقى أن نوجه النقد إلى السمة الاخيرة لحق الامتياز :-
فميزة الأولوية دون ميزة التتبع ليست هي السمة المطلقة لكل حق امتياز بين كافة الضمانات العينية الأخرى كالرهن الرسمي الحيازي وحق الاختصاص بل ان بعض حقوق الامتياز شأن كل حق عيني تبعي آخر لها ميزتي الأولوية والتتبع معا وهي :-
- حقوق الامتياز الخاصة والتي ترد على المنقول منقول معين والتي مفضل أن نطلق عليها بحقوق الامتياز المنقولة
- حقوق الامتياز الخاصة التي ترد على العقار عقار معين والتي نفضل ان نطلق عليها بحقوق الامتياز العقارية
- وحقوق الامتياز العامة الخاصة بالمبالغ المستحقة للخزانة العامة واليت تقع على العقارات
فليس صحيحا أن ميزة الأولوية وحدها هي سمة الامتياز كافة بل هي سمة عامة في حقوق الأمتياز العامة فقط ليس إلا بل أن ميزة التتبع شأن باقي الحقوق العينية التبعية يتمتع بها الدائن صاحب حقوق الامتياز الخاصة المنقولة والعقارية على السواء وبلا استثناء وهي صور حق الامتياز الاكثر عددا بين حقوق الامتياز الواردة بالمواد من 1137 - 1149 مدني
لولا أن حقوق الامتياز المنقولة أو الخاصة التي ترد على منقول معين بما تتضمنه من ميزة التتبع في شأن كل امتياز خاص وتنصدم للأسف مع قاعدة حيازة المنقول سند الملكية .
ولكن في نهاية المطاف يمكن القول لأن ميزة الأولوية دون ميزة التتبع هي سمة في بعض حقوق الامتياز هي الامتياز العام دون باقي حقوق الامتياز الأخرى الامتياز الخاص .
H- الامتياز وهو حق عادة لا يلزم شهرته :-
فحين يلزم دائما قيد الحقوق العينية والتبعية واليت ترد على العقارات والتي تبقى في حيازة المدين كالرهن الرسمي لا يلزم ذلك بشأن حقوق الامتياز العامة ولو وردت على عقارات في حوزة المدين
والحكمة من ذلك ان المشرع لم يمنح صاحب حق الامتياز عامة حقوق الامتياز العامة ميزة التتبع فلا يلزم بالتبعية قيد حقوق الامتياز لعدم حجيتها اصلا على الغير حسن النية حين لا يمكن للدائن بحق الامتياز تتبع العين المثقلة به تحت أي يد يكون أو الاحتياج بحق امتيازه عليه فلا يكون بالتالي هناك ضرورة لشهر حق الامتياز وقيده بحسب الأصل
إلا أن المشرع استثنى في ذلك حقوق الامتياز العقارية الخاصة التي ترد على عقار معين من أموال المدين حين يستلزم على العكس واستثناء شهر حق الامتياز العقاري السابق بالقيد
لذا فإن الامتياز الاخير يكون له حجته على الغير حسن النية ويكون للدائن بالحق الممتاز السالف بالتبعية لقيده وشهره حق التتبع على خلاف الاصل في حقوق الامتياز
ويترتب على ذلك00 أن ميزة التقدم بالنسبة لهذا الامتياز السابق هي مقيدة باسبقية القيد
لذا نوجه النقد للاستثناء السابق لأن لزوم قيد هذا الامتياز العقاري السالف مؤداه أن يفقد الامتياز هذه هويته كحق امتياز وان ينزل إلى مصاف حق الدائن المرتهن في الرهن الرسمي
الاختلاف بين الامتياز والرهن ()بحرى()


1- الامتياز يتقرر بقوة القانون اما الرهن فبالاتفاق
2- الامتياز يرد على السفينة حتى ولو كانت غير مملوكة لشخص المالك او المجهز اما حق الرهن يرد على السفينة المملوكة فقط
3-الرهن لا يرد على الاجرة ولا ملحقاتها اما الامتياز يرد على الملحقات
4- حق الامتياز لايرتبط باجراء شكلى اما الرهن لا يتم الا فى صورة رسمية
5- الامتياز يتم فيه الحول العينى بالقانون اما الرهن فلا يكون الا بالاتفاق
6-حق الرهن ينقضى بصفة اصلية او تبعية اما الامتياز ينقضى بالبيع او التقاضى

7- حق الامتياز يعطى الدائنين التبع فى اى يد تكون اما حق الرهن لا يعطى الرهن التبع الا فى مواجهة الحائز الذى حاز السفينة قبل تاريخ قيد رهنه فى سجل السفن

28 مايو 2011

التعسف في إستعمال الحق و تطبيقاته على أحكام شؤون الأسرة((جزائر))

المقدمة

لقد نصت المادة 124 مكرر من القانون المدني في القسم الأول منه و الذي عنوانه المسؤولية عن الأفعال الشخصية ، عن التعسف في استعمال الحق واعتبرته يشكل خطأ ، في حالات حددتها حصرا، توجب قيام المسؤولية و التعويض عن الضرر اللاحق بالغير.
و الخطأ في مجال المسؤولية التقصيرية هو انحراف الشخص عن السلوك المألوف، غير أن هذا الانحراف قد يقع من الشخص و هو يأتي رخصة، و قد يقع منه وهو يستعمل حقا.
فالرخصة ) (simple facultéهي حرية القيام بما لا يحرمه القانون، كالسير، و التعاقد، والكتابة،
و التقاضي، و نحو ﺬلك من الحريات العامة التي كفلتها الدساتير للأفراد.
أما الحق (Droit défini) فهو مصلحة مرسومة الحدود يحميها القانون، كحق الملكية مثلا فالتملك رخصة أما الملكية فهي حق، فإذا جاوز صاحب الحق حدود الرخصة، كان هذا خروجا عن الحق، و هو خطأ يحقق المسؤولية .
فللخطأ على هذا الوجه صورتان ، الانحراف في استعمال الحرية ، والخروج عن حدود الحق، ولكن الشخص قد يستعمل حقا دون أن يجاوز الحدود التي فرضها القانون ، ومع ذلك يلحق بالغير ضررا من استعماله لحقه فهل يتحقق الخطأ إذا لم يخرج الشخص عن حدود حقه ، ولكن تعسف في استعمال هذا الحق ؟
إن الاتجاه السائد في الفقه المعاصر يفرق بوضوح بين الخروج عن الحق ، و بين التعسف في استعمال الحق ، ويجعل كلا منهما صورة من صور الخطأ الموجب للمسؤولية التقصيرية فالخروج عن الحق هو خروج عن حدود الحق و تجاوز لسلطته ، أي أن الشخص عندما يخرج عن حدود حقه يعمل في الحقيقة بغير حق .
أما التعسف في استعمال الحق، فهو انحراف في مباشرة سلطة من السلطات الداخلة في حدود الحق، أي أن صاحب الحق يعمل داخل نطاق حقه، ولكن يتعسف في استعمال هذا الحق.
فالشخص الذي يقيم بناء على أرضه، و يجاوز هذه الأرض وبيني على جزء من أرض جاره، إنما يخرج عن حدود حقه، بينما الشخص الذي يقيم حائطا مرتفعا على أرضه بقصد حجب النور و الهواء عن جاره ، إضرارا به، لا يخرج عن حدود حقه ، ولكنه يتعسف في استعمال هذا الحق.
لكن على أي أساس تبنى المشرع الجزائري فكرة التعسف في استعمال الحق، وما مصدره في ذلك ؟
وهل توجد تطبيقات تشريعية و قضائية في مجال الأحوال الشخصية تتعلق بالتعويض عن الضرر الناجم عن التعسف في استعمال الحق استنادا على المادة 124 مكرر من القانون المدني الجزائري؟
سنحاول الإجابة عن هذه الإشكالات أثناء تعرضنا للموضوع، وعليه نتيجة لما تم ذكره أعلاه فانه يتم التطرق إلى هذه الإشكاليات المطروحة و الإجابة عليها ، و ذلك من خلال معالجتنا لموضوع التعسف في استعمال الحق بانتهاج الخطة الآتية :






الفصل الأول
مفهوم التعسف في استعمال الحق














المبحث الأول: نظرية التعسف في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.
المطلب الأول : نظرية التعسف في الفقه الإسلامي

لقد استعمل الفقهاء المتقدمون لفظ التعسف بمعناه اللغوي الذي هو التعدي والخروج عن الجادة الصحيحة وهذا لا يعني أن النظرية دخيلة في الفقه الإسلامي بل إن هذه النظرية استوت على أصولها في التشريع الإسلامي منذ القدم وفي فقهه أيضا تفسيرا وتطبيقا وفي شتى مذاهبه الجماعية والفردية على السواء أقيمت بذلك معاييرها ومؤيداتها تأصيلا وتفريعا وضبطا ونظرا وعملا(1).
ولهذه النظرية أدلة من الكتاب والسنة والأصول التشريعية والقواعد الفقهية نجملها فيما يأتي :
ففي القرآن الكريم ورد نهي الأب عن التعسف في استعمال ولايته على ابنه بانتزاعه من الأم إذا لم ترضعه (2) لقوله عز و جل: " لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده" البقرة الآية 233“
والتعسف في هذه الحالة يفضي إلى ضرر معنوي والآية في الشق الثاني من المعنى تمنع الأم من التعسف في استعمال حق الرضاع بأن تطلب أجرا على الإرضاع إذا كان غيرها يرضعه مجانا أو بأقل فيمنع الضرر في هذا المثال لأن الأم تقصد المضارة.
و الخلاصة أن الآية الكريمة تفيد وجوب حماية كل من الأب والأم من أن يضر أحدهما بالآخر بسبب الولد باستعمال ما منح من حقوق، وبذلك نعتبر هذه الآية أصلا من أصول نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي.




















وفي الســنة النبوية قضـــى النبي صلـــى الله علـيه وسلم للأنصاري بقلع نخل سمرة بن جندب الذي كان في حائطه بعد أن عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم بيع النخل أو هبته بمقابل ولكن سمرة رفض ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت مضار ثم قال للأنصاري إذهب فاقلع نخله(1).

فالحديث بين جزاء التعسف في استعمال الحق إذا أن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النخل جاء بعد محاولته التوفيق بين مصلحة الأنصاري ومصلحة سمرة ولما لم تجد هذه الوسيلة أمر بقطع الملك (2)
و أساس الترجيح في هذه الواقعة هو قاعدة الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف يبين أن هذا الحديث يعد أصلا لنظرية التعسف في استعمال الحق.
كما أن لهذه النظرية مؤيدات من الأصول والقواعد الفقهية إذ تستند إلى أصل النظر في المآلات الذي يلزم المجتهد أن ينظر في هذه المآلات والنتائج ويمنع الفعل أو يأذن فيه على ضوء منها جريا على سنة الله في اعتبار المصالح في الأحكام.
وللنظر في المآلات صلة قوية بنظرية التعسف إذ يتجه إلى اتجاهين أحدهما جوهري وهو النظر الموضوعي بالمنع أو الإذن على ضوء المآلات وهذا مهما كان الوصف الشرعي والآخر هو النظر إلى الباعث كأمر ثانوي (4)
ولعل هذا يتوافق مع ما تأخذ به الشريعة من ظاهر الإرادة.
و يتفرع عن هذا الأصل كذلك قواعد كقاعدة الذرائع والاستحسان عند الحنفية والمالكية وقاعدة الحيل وقاعدة مراعاة الخلاف عند المالكية.
ويتمثل أثر هذه القواعد في الدور الوقائي للنظرية في التصرفات القولية وبالتعويض عن الضرر وقطع سببه إذا وقع في التصرفات الفعلية(5).








وهذه القواعد تؤدي أصل النظر في مآلات الأفعال وهي بذلك تقوم بدور عظيم في حفظ مقاصد الشرع وتمنع وقوع ما يخالفها.
إلا أن قاعدة الذرائع أهم هذه القواعد لأن أحكامها تطبق على الأفعال المباحة التي تؤدي إلى المآل الممنوع سواء كان ذلك بقصد من المكلف أو بغير قصد منه(1) .



















المطلب الثاني : نظرية التعسف في القانون الوضعي

عرف القانون الروماني تطبيقات مختلفة لنظرية التعسف في استعمال الحق وقيد استعماله بما يحافظ على الأخلاق ويحقق العدالة وانتقلت قواعد النظرية إلى القانون الفرنسي القديم عن طريق الفقيه الذي الذي قرر أن قصد الإضرار بالغير وانعدام المصلحة يعدان تعسفا في استعمال الحق(1) (Domat)
ويقرر دوما أنه لا يسوغ للملك أن يأتي عملا في عقاره من شأنه مضايقة العقار المجاور أو الإضرار به كإحداث دخان كثيف من فرن أوكور(2) وهذا ما يبين أن فكرة التعسف في استعمال الحق لم تكن غريبة بل أوصى بها الذوق السليم والملكية القانونية فطبقوها على أشد الحقوق إطلاقا ألا وهي الملكية ولم تكن فكرة التعسف حبيسة أقلام الفقهاء فحسب بل طبقتها المحاكم والتي كانت تعرف حينها باسم البرلمانات حيث قضت بأنه ليس لأحد أثناء قيامه بعلمه أو صناعته أن يعطل أعمال جيرانه أو أن يجعل سكناهم في منازلهم غير محتملة(3).
غير أن فكرة التعسف وبالرغم من استقرارها في الفقه القانوني وظهورها في تطبيقات قانون المحاكم لم تلبث أن طمست معالمها وزالت أثارها في أواخر القرن التاسع عشر إثر الثورة الفرنسية التي انتهجت وتبنت المذهب الفردي في قيامها والذي يعطي للفرد مطلق الحرية في استعماله لحقوقه غير أنها عادت وعرفت طريقها للتشريع في قضاء المحاكم الفرنسية عقب ذلك.
وقد تطورت هذه النظرية في ظل الاشتراكية التي جعلت وظيفة القانون المحافظة على المجتمع وتحقيق المصلحة الاجتماعية غير أنه و بالرغم من النقد الذي وجه لهذه النظرية نتيجة نزعها بين النزعتين الفردية و الاشتراكية إلا أن التشريعات الحديثة قد أخذت بها كالمادة 02 من القانون المدني السويسري والمادتين 226 و 826 من القانون المدني الألماني والمادة 135 من القانون المدني البولوني والمادة الأولى من القانون المدني السوفيتي والمادة 1295 / 02 من القانون المدني النمساوي ومن التشريعات العربية المادة 124 من قانون الموجبات والعقود اللبناني والمادة 05 من القانون المدني المصري والمادتين 05 و 06 من القانون المدني السوري.


















المبحث الثاني : معايير التعسف في استعمال الحق في الفقه والقانون

المطلب الأول: معايير النظرية في الفقه الإسلامي
يمكن القول بأن نظرية التعسف تقوم على معيارين جمع بينهما وهما المعيار الشخصي أو الذاتي أي ما يتعلق بصاحب الحق في ذاته ودوافع تصرفه والمعيار المادي أو الموضوعي أي ما تعلق بما ينجم وينتج عنه من مضار ومقاصد عند استعمال الحق ويندرج تحتهما ضوابط تضبط التصرف أو الحق عند استعماله.
1/ المعيار الذاتي أو الشخصي: ويندرج تحت هذا المعيار معياران ثانويان،و قصد الإضرار بالغير قصد غرض غير مشروع.
* قصد الإضرار بالغير :
فإذا قصد صاحب الحق باستعماله لحقه وتصرفه فيه إضرارا بغيره ولم تكن له أي مصلحة في هذا الاستعمال كان استعماله تعسفا محرما وجب منعه وتعد المصلحة الذاتية قرينة على قصد الإضرار بالغير(1) ويعد هذا الضابط أو المعيار أوضح معايير التعسف لأن قصد الإضرار بالغير ممنوع في الشريعة دل عليه أكثر من دليل وتجد لهذه المعايير تطبيقات عديدة في الفروع الفقهية مما ورد لدى فقهاء المذاهب كما أراد الزوج أن يسافر بزوجته إلى بلد بعيد وهو غير مأمون عليها لا يريد بذلك إلا الإضرار بها أو إيذائها أو سلب مالها فيقضى بمنعه من السفر بها للإضرار.
وكذا تحريم طلاق المريض ليفر به من ميراث زوجته وتحريم وصية الضرار وبطلانها ويقصد بالإضرار بالتصرف كون الفاعل ناقض قصد الشارع وهدفه من تشريع الحق وإيجاده فوجب منعه أو معاملته بنقيض قصده كما في المطلقة في مرض الموت.
* قصد غرض غير مشروع:
أي قصد صاحب الحق باستعمال حقه تحقيق غرض غير مشروع ينافي ويخالف الغرض والقصد الذي شرع الحق من أجله فيكون بذلك التصرف باطلا لمخالفته قصد الشارع من وضع الحقوق ومن قبيل ذلك استعمال الزوج حق تأديب زوجته الناشز عن طريق الضرب لحملها على الطاعة، فان استعمل الزوج هذا الحق وابتغى به غير التأديب كان يريد به الانتقام والتعبير عن كرهه أصبح فعله تعسفا غير مشروع.






2/ المعيار الموضوعي:
أي تكييف التعسف على أساس الضرر الناتج من استعمال الحق بغض النظر عن نية صاحب الحق فالعلاقات الحقوقية التي من هذا النوع لا شأن لها بالنوايا فسواء كانت حسنة أم سيئة يمنع صاحب الحق من ممارسة حقه مادام يضر بالآخرين ضررا فاحشا، أما الضرر المألوف فلا بد من تحمله والتسامح فيه.
ويمكن القول أنه يندرج تحت هذا المعيار ثلاثة معايير فرعية هي:
1- أن يستعمل الحق يقصد به تحقيق مصلحة أو دفع ضرر فيترتب عليه ضرر بالغير أعظم من المصلحة المجلوبة أو الضرر المدفوع أي عدم التناسب بين المنفعة المشروعة المقصودة لصاحب الحق مع الضرر الكبير اللاحق بالغير جراء ذلك وهذا سواء كان الضرر الناشئ عن هذا الاستعمال للحق يلحق بفرد أو ضررا عاما يلحق الجماعة.
وعليه، فان من ضوابط التعسف في التصرفات واستعمال الحق لحوق ضرر غير معتاد بالغير فاحشا أو مساويا للمصلحة المرادة من التصرف.
2- أن يستعمل حقه الثابت استعمالا غير متعارف عليه بين الناس غير معتاد فيترتب عليه ضرر للغير وذلك كمن سقى زرعه بطريقة غير معتادة عليها الزرع فأتلف بذلك زرع جاره لكثرة الماء، أو يستأجر دارا فيحمل سقوفها مالا تطيق(1).
وكذا رفع صوت المذياع بوجه يزعج الجيران ويؤذيهم، ومقياس الاستعمال كونه معتادا أو غير معتاد هو العرف لا مقدارا لضرر الناشئ أو يستدل عليه بأهل الخبرة والتخصص .
3- استعمال الحق استعمالا فيه إهمال أو خطأ ينشأ عنه ضرر بالغير أي استعمالا لم يراع فيه صاحبه وجه الاحتياط فأضر به غيره وهذا ما يعرف بالخطأ الذي هو أحد أركان المسؤولية التقصيرية فيكون بذلك متعسفا في استعمال الحق وهذا سواء كان الخطأ في الفعل، كمن أراد صيدا فطاش سهمه فرمى إنسانا أو حيوانا ليصيبه بضرر أو أخطأ في القصد كمن قطف ثمرة يظنها ثمرته ويترتب على هذا تعويض الضرر الذي أصاب الغير بهذا التصرف وهذا لوجوب التثبت والانتباه والاحتراس عند التصرف في كل من القصد و الفعل.



















المطلب الثاني : معايير النظرية لدى فقهاء القانون الوضعي
لقد تجاذب الفقهاء في تحديد فكرة التعسف إلى معيارين: المعيار الذاتي الشخصي، والمعيار المادي الموضوعي.
أولا: المعيار الشخصي أو الذاتي
ويقوم هذا المعيار على قصد الإضرار الذي يكون الدافع الأساسي لصاحب الحق عند استعماله(1) فإذا ما استعمل الحق لتحقيق الإضرار والأذى بالغير، فقد الحق صفة مشروعيته وأصبح صاحبه غير محمي قانونا بهذا الوصف وذلك كمن ارتفع ببناء حائط ارتفاعا بالغا قاصدا من وراء ذلك مجرد حجب النور عن جاره ووفقا لهذا المعيار يتوقف التعسف على الحالة النفسية لصاحب الحق وهو يستعمل حقه فان لم يقصد من ورائه إلا الإيذاء والإضرار بمصالح الغير فانه يكون متعسفا ومسيئا لاستعمال حقوقه(2) ومما يؤخذ على هذا المعيار أنه ضيق من نطاق نظرية التعسف، باعتماده على قصد الإضرار وهو معيار دقيق من الصعب إثباته لذلك فان الفقيه "جوسران" لم يقبل به، ومن أجل هذا أدخل الفقهاء توسعه لنطاق التعسف وفق هذا المعيار حالة انتفاء المنفعة، ولو لم يثبت قصد الإضرار كقرينة دالة على معيار قصد الإضرار وتابعا له وذلك كون استعمال الحق دون منفعة قرينة على أنه لم يقصد سوى الإضرار بغيره.(3)
غير أنه مما يلاحظ على هذه الحالة أنها تقترب من المعيار الموضوعي المادي أكثر من المعيار الشخصي لكون قصد الإضرار بالتصرف ناشئ عن انتفاء المنفعة من هذا الحق لا القصد في حد ذاته.
إلى جانب هذا فقد أضاف الفقيه البلجيكي" بودان" حالة أخرى للتعسف تندرج ضمن هذا المعيار وهي استعمال الحق دون تبصر أو إهمال بحيث لو استعمل الحق بيقظة الرجل المعتاد لما تحقق الضرر، لأن عدم الاحتراز أو الإهمال متعلقان بالإرادة إذ هما الوجه السلبي لها وكذلك يمكن القول أن هذه الحالة أيضا تندرج ضمن المعيار الموضوعي المادي كون أن عدم التحرز والتثبت يتنافي وقصد الإضرار والعمد إليه وهو أساس المعيار الشخصي أو الذاتي.
ثانيا: المعيار الموضوعي أو المادي
انقسم أصحاب هذا المعيار إلى مذهبين ولم يتفقوا على نظرية في شأن هذا المعيار.










1/ مذهب المعيار الاقتصادي أو انعدام المصلحة المشروعة:
و مستند هذا المعيار فكرة أن الحقوق لا تعد غايات في حد ذاتها وإنما وسائل لتحقيق غايات ومصالح مشروعة رعاها وحماها القانون فيكون بذلك استعمال الحق تعسفا إذا لم يكن لصاحبه مصلحة من وراء استعماله أو كانت المصلحة المقصودة ضئيلة بحيث لا تبرر ما ينجم عن التصرف من أضرار ومما يظهر فإن هذا المعيار قد استمد فكرته من تعاريف الحق التي تجعله مصلحة يحميها القانون كتعريف "اهرنج" وغيره، فإذا ما حاد صاحب الحق باستعمال حقه عن هذا الغرض ولم يقصد به تحقيق أي مصلحة أو قصد به مصلحة غير مشروعة سقط عن الحق صفة المشروعية والحماية القانونية وعد متعسفا تجب مسؤوليته.
وبهذا الرأي أخذ الفقيه "سالي" حيث يرى التعسف يتولد من الاستعمال غير العادي أو الطبيعي للحق ومن الاستعمال المخالف للغرض الاجتماعي والاقتصادي للحق(1) وكذا الأستاذ جيني حيث يرى، أنه يمكن تحديد الحقوق تحديدا عادلا حقيقيا بتعيين الغرض الاجتماعي والاقتصادي منها وبمقارنة أهميتها بالمصالح التي تعارضها(2) وغيرهم من القانونيين.
2/ معيار الغاية الاجتماعية للحق:
وقال به الأستاذ جوسران كمعيار بديل عن المعيار السابق وينطلق جوسران في تحديد التعسف وفق هذا المعيار من أن القانون ليس إلا قاعدة إلزامية، وكل ما يتفرع عنه يأخذ طابعه والحقوق التي تتولد من القانون تعتبر اجتماعية في نشأتها وروحها والغرض منها، فما الحقوق بهذا المنظار إلا وظائف اجتماعية يجب مباشرتها لتحقيق الغرض الاجتماعي لها فإن خرج صاحبها على هذا الغرض بأن تحايل عليها فقد تعسف في استعمالها لأن التعسف ما هو إلا العمل المخالف لروح الحق والغرض الاجتماعي منه (3)
ومما يلاحظ على هذا المعيار هو مدى تأثره بالمذهب الاجتماعي الذي يغلب المصلحة العامة على مصلحة الفرد تغليبا كبيرا باعتبار أن المصلحة العامة هي المنظور إليها في تقرير الحق فهذا المعيار يخل بالتوازن المقصود من التشريع واعتبار الحق الفردي.
إضافة إلى هذا فانه كذلك يصعب تحديد الهدف الاجتماعي لكل حق من الحقوق يكون منضبطا مما يربط فكرة الهدف الاجتماعي للحقوق بنظرية السلطة ونظرية الحكم (4) وهذا لكونه معيارا مجردا وواسعا وغير محدود، مما يعتبر كذلك تطبيقه في القضاء وذلك لكونه سيخضع للأهواء الشخصية للقضاة كل يفسر الغاية الاجتماعية للحق من منطلق منظوره الشخصي أو فكره السياسي وهذا ما لا يستقيم معه ميزان العدالة (5) .








ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
1/ د. محمد سعيد رشدي مرجع سابق ص 98
2/ د. محمد السعيد رشدي المرجع السابق ص98
3/ // // // // ص 102
4/ إسماعيل العمري مرجع سابق ص 210
5/ د. فتحي الدريني نظرية التعسف مرجع سابق ص ج1 ص398 هامش 3 225

المطلب الثالث: معايير النظرية في التشريعات الحديثة:
لقد أخذت أغلب التشريعات الحديثة بنظرية التعسف في استعمال الحق من خلال ما ورد من نصوص تشريعية خاصة احتوتها القوانين المدنية على خلاف توجهات هذه القوانين من حيث اعتمادها للمعيار الذاتي أو الموضوعي كضابط للتعسف ومن هذه القوانين.
1/ النظرية في القانون الألماني :
الصادر سنة 1896 حيث اقتصر على المعيار الذاتي في أضيق حدوده ،باعتماده قصد الإضرار كضابط التعسف حيث تنص المادة 226 منه على أنه لا يباح استعمال الحق إذا لم يكن له من غرض سوى الإضرار بالغير (1).
2/ النظرية في القانون السويسري :
الصادر سنة 1907 لقد كان هذا القانون أكثر توسعا من حيث المعيار الذي اعتمده حيث تنص المادة الثانية منه على أنه يجب على كل شخص أن يستعمل حقوقه وأن يقوم بتنفيذ التزاماته طبقا للقواعد التي يرسمها حسن النية، أما التعسف الظاهر في استعمال الحق فلا يقره القانون (2) .
فهذا النص لا يقصد التعسف على حالة قصد ونية الإضرار فحسب بل ويشمل كل حالة تثور المسؤولية فيها بقطع النظر عن نية الإضرار.
3/ النظرية في القانون المدني اللبناني:
تنص المادة 124 من قانون الموجبات والعقود والذي هو من وضع الفقيه الفرنسي" جوسران" على أنه "يلزم أيضا بالتعويض من يضر الغير بتجاوز أثناء استعمال حقه حدود حسن النية أو الغرض الذي من اجله وضع الحق"(3) . ومما يلاحظ من خلال هذا النص أخذه بكلا المعيارين الذاتي والموضوعي فيعتبر الشخص متعسفا إذا ما استعمل حقه بنية وقصد الإضرار بغيره وهذا معيار شخصي أو إذا استعمله لغرض يخالف الغرض الذي من أجله شرع الحق وذلك أيا كان هذا الغرض اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا أو غير ذلك وهذا معيار موضوعي.
ويظهر خلال هذا أن القانون اللبناني قد وضع مبدأ عاما للتعسف وهو الانحراف عن غاية الحق بما يوسع دائرة التعسف عند التطبيق إلى مجال أوسع، ويجعل هذا المبدأ أكثر مرونة يتماشى والصور المنظورة للتعسف مما يترك فسحه للقضاء في تكييف التعسف عند استعمال الحقوق من خلال سوء القصد بالحق أو خروجه عن الغرض أو المصلحة التي شرع من أجلها.





بخلاف القانون المدني اللبناني فإن القانون المصري في تناوله لمبدأ التعسف فقد وضعه في صور متعددة دون أن يحدد أي ضابط عام لها وإن كانت الصور في تعددها تشمل كلا المعيارين الموضوعي و الذاتي حيث تنص المادة الخامسة من القانون المدني في الباب التمهيدي " ويكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال التالية:
- إذا لم يقصد سوى الإضرار بالغير
- إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.
- إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة"(1)
ويمكن إضافة معيار رابعا ورد في المادة 807 من القانون المدني في حق الملكية هو معيار الضرر الفاحش وهو موطن تطبيقه الرئيسي(2)















المبحث الثالث: تقدير معايير التعسف في الفقه الإسلامي و القانون الوضعي و موقف المشرع الجزائري
المطلب الأول: تقدير معايير نظرية التعسف في الفقه الإسلامي و القوانين الوضعية
من خلال ما ذكرناه من معايير يتحدد من خلالها التعسف في استعمال الحق، ويبدو واضحا أثر الصراع لدى فقهاء القانون حول فكرة الحق بين المذهب الفردي و المذهب الاجتماعي الذي تجلى في تحديد معايير التعسف غير أنه مما يلاحظ أن كلا المعيارين وإن اختلفا من حيث مظهرهما و تأسيسهما فإنهما يرجعان في الأصل إلى المعيار الشخصي الذاتي، فأصحاب المعيار الشخصي يقيمون فكرة التعسف على أساس قصد ونية الإضرار بالغير وهو معيار ذاتي محض، و أقامها أصحاب المعيار الموضوعي على أساس انعدام المصلحة المشروعة أي قصد صاحب الحق باستعمال حقه مصلحة ممنوعة وأقام "جوسران" التعسف على أساس انعدام الدافع المشروع وهو معيار ذاتي حينما اتهم المعيار الموضوعي بالتجريد وعدم الانضباط والتحديد أي أن قصور هذه المعايير يبدو واضحا لرجوعها إلى معيار واحد مما يجعلها لا تستوعب صورا كثيرة للتعسف تتأسس على معايير موضوعية ويتضح هذا القصور جليا أمام التأصيل الفقهي الإسلامي للنظرية حين شمل بما وضعه من قواعد للتعسف جميع صوره آخذا بذلك كلا المعيارين الموضوعي و الذاتي.
وبهذا التصور الواسع لفكرة الحق، فإن جميع المعايير التي وضعها فقهاء القانون على اختلاف استقراءاتهم للأصول العامة التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية، فالمعيار المادي الذي يبني التعسف على أساس الضرر
نجد له تطبيقات كثيرة في الفقه الإسلامي تحتها قواعد كثيرة و منها" لا ضرر ولا ضرار" و "قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المنافع ، و "قاعدة إذا تعارض المانع و المقتضى يقدم المانع" ، فكل هذه القواعد وغيرها ترمي إلى تحقيق مقاصد التشريع الإسلامي وذلك بجلب النفع للناس ودفع الضرر و الأذى عنهم فهي إذا مرتبطة بنظرية اجتماعية تعود للمصلحة العامة لهذا فقد قيدت الحقوق بهذه الغاية، وكذا النظرية الذاتية التي تنظر إلى قصد صاحب الحق في استعمال حقه وغايته، أي اعتبار النية عند استعمال الحق فقد اعتد به الفقه مستندا إلى القرائن الخارجية كمؤشر على سوء النية ومرد هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام :" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" حيث جعل النية أساسا في الأعمال.
بل حتى من ذهبوا إلى الاعتداد بالغاية أو الغرض الاجتماعي للحق كمعيار للتعسف إذا حاد عنه صاحب الحق فإنها نظرية لها أصولها ومرجعها في الفقه الإسلامي ولكن وفق توازن لا يغلو بموجبه حق الجماعة عن حق الفرد بما يمحو كيانه ويزيل شخصيته فهي نظرية مقررة في الشريعة بقواعد وتطبيقات، منها قاعدة "تحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام" ولعل أبلغ مثال على ذلك، أنها أجازت الحجر على المدين دفعا للضرر الذي يلحق الدائنين إذا كثروا.
ولهذا يذهب اغلب الفقهاء بما فيهم فقهاء القانون، إلى أن نظرية التعسف نظرية مستمدة من الفقه الإسلامي و متأصلة منذ نزوله، إذ يقول الدكتور" حسن كيرة ": والشريعة الإسلامية مكنت لفكرة التعسف في استعمال وأعطتها أوسع تصور ممكن وصلت إليه الشرائع والمذاهب الفقهية الحديثة. (1)








المطلب الثاني: موقف المشرع الجزائري من نظرية التعسف في استعمال الحق
لقد اهتم القانون المدني الجزائري بنظرية التعسف في استعمال الحق وجعلها نظرية مستقلة عن نظام المسؤولية التقصيرية وهذا في المادة 41 التي جاءت صياغتها عامة.(1) قبل أن يقرر ضمها إلى حيز هذا النظام بإلغاء المادة 41 واستبدال مضمونها بالمادة 124 مكرر بموجب التعديل الأخير للقانون المدني .
وسار المشرع الجزائري في تناوله لنظرية التعسف على وفق ما سار عليه المشرع المصري حيث مزج بين الفقه القانوني الحديث في نظرية التعسف و الفقه الإسلامي حيث أنه لم يقف عند نية الإضرار بالغير فحسب، واستمد من الفقه الإسلامي ضوابط ثلاثة تشمل كلا المعيارين الموضوعي والمادي، حيث تنص المادة 124 مكرر على أنه " يشكل الاستعمال التعسفي للحق خطأ لا سيما في الحالات الآتية :
* إذا وقع بقصد الإضرار بالغير.
* إذا كان يرمي للحصول على فائدة قليلة بالنظر إلى الضرر الناشئ للغير.
* إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة.
ومما يظهر من منطوق نص هذه المادة أخذ المشرع الجزائري بكلا المعيارين الذاتي، وذلك فيما تضمنته الفقرة الأولى، و المعيار الموضوعي وهذا ما تضمنته الفقرتان الثانية و الثالثة وقد وردت نصوص تشريعية وتطبيقات قضائية لنظرية التعسف في استعمال الحق في القانون الجزائري فمن التطبيقات التشريعية على سبيل المثال، مثال ذلك ما نصت عليه المادة 434 من القانون المدني التي نصت " يجب على القاضي أن يرفض للمالك استعمال حق الاستعادة إذا أثبت المكتري أو شاغل المحل أن المالك يطلب حق الاستعادة لا من أجل تلبية رغبة مشروعة ولكن بنية الإضرار به أو بقصد التهرب و التملص من أحكام هذا القانون.
والمادة 343 من القانون المدني التي تنص على أنه "يجوز لكل من الخصمين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الأخر على أنه يجوز للقاضي أن يمنع توجيه اليمين إذا كان الخصم متعسفا في توجيهها والجزاء على التعسف في هذا المثال هو منع الضرر قبل وقوعه(2). .







كما نجد نصوصا قانونية أخرى ومنها المادة 73 من القانون رقم 91/29 المعدل المتمم للقانون 90-11 المتعلق بعلاقات العمل التي تلحق البطلان بالتسريح التعسفي للعامل والذي يقع من غير مراعاة ميعاد الإخطار ويترتب عليه إعادة العامل لمنصبه بأمر قضائي مع ثبوت حقه في التعويض.(1)
وقد جوز قانون الأسرة تعويض الضرر الناجم عن العدول عن الخطبة والذي يعتبر العدول فيه تعسفا وبالتالي يستوجب التعويض وفقا لمبادئ نظرية التعسف في استعمال الحق.
أما القضاء الجزائري فقد طبق مبادئ نظرية التعسف في عدد من قراراته ،كإساءة استعمال حق الدعوى في حالة وجود نية الإضرار بالغير أو الاستعمال الكيدي لهذا الحق العام وهو ما حكمت به محكمة وهران، حيث اعتبرت أن من يرفع دعوى مطالبا بشيء يبدو أنه لاحق فيه، فإنه في هذه الحالة يكون متعسفا في استعمال حق الادعاء و مخطئا خطأ تقصيريا موجبا للتعويض(2) ، كما اعتبر طلاق الزوج بدون مسوغ قانوني أو مبرر شرعي مقبول طلاق تعسفيا يستوجب التعويض(3) .

















المبحث الأول : العدول عن الخطبة
الخطبة هي التماس الزواج من امرأة معينة بتوجيه هذا الالتماس إليها وإلى وليها، أو هي طلب الرجل التزوج بامرأة معينة خالية من الموانع الشرعية وذلك بأن يتقدم إليها مباشرة أوالى أهلها أو عن طريق أجانب يبعثهم للتفاهم والتفاوض في أمر العقد و المطالب الخاصة بهذا الشأن فإذا أجابته إلى طلبه تمت الخطبة بينهما، وكما تكون الخطبة صريحة تكون بالتعريض فالخطبة الصريحة هي طلب التزوج بامرأة وإظهار الرغبة في ذلك، بطريقة مباشرة ما كأن يقول الخاطب لمن يخطبها" إني أريد أن أتزوجك أو أرغب التزوج بك "، أما الخطبة بالتعريض فهي تلك التي يستعمل فيها الخاطب الجمل التي يفهم قصد الخطبة من عرضها بالقرائن كأن يقول الخاطب لمن يخطبها " إني فيك لراغب، إنك جميلة، إني أريد أن أتزوج ، ونحو ذلك".
ولقد عرف المشرع الجزائري الخطبة بأنها وعد بالزواج في المادة 5 من ق.أ.ج.
كما نص على أنه" يمكن أن تقترن الخطبة بالفاتحة أو تسبقها بمدة غير محددة" م 6/ 1ق.أ.ج، وعليه فإنه يدخل في حكم الخطبة قراءة الفاتحة من طرف مجلس الرجال وكذا ما جرت به العادة أو العرف من تبادل الهدايا م6/02 من ق.أ.ج.

















المطلب الأول: الطبيعة القانونية للخطبة وموقف المشرع الجزائري
* الطبيعة القانونية للخطبة:
يمكن تقسيم الاتجاهات الوضعية الفقهية والتشريعية والقضائية، إلى طائفتين اثنتين إحداهما تصبغ الخطبة بالصبغة العقدية و الثانية تنزلها منزلة الوعد بالزواج لا غير.
أ/ الاتجاه الأول: الخطبة عقد كامل
تقوم فكرة الطبيعة العقدية للخطبة على أساس أنها عقد بين الطرفين يكون صحيحا وملزما لهما كأي من العقود الملزمة للجانبين التي تتيح لأطرافها التنصل أو الإلغاء بمحض الإرادة المنفرة مع مراعاة الغاية من التعسف حين استعمال الحق في العدول و إلا عد هذا الطرف مرتكبا لخطا يستوجب التعويض.
وتحت هذا التأثير سار القضاء وبعض الفقهاء القانونيين في فرنسا و البلاد العربية، فقد كان القضاء المدني الفرنسي لا يميز بين الخطبة و العقد إذا كان التراضي كافيا لتصبح الخطبة عقدا.
و في مصر بدا التردد كافيا للقول بعدم الفصل في طبيعة الخطبة، حيث يرى بعض رجال القضاء أن الخطبة عقد تمهيدي يسبق عقد الزواج ورتب على هذا القول، نتيجة مؤداها أنه ما دامت الخطبة عقدا فيلزم لانعقادها إيجاب و قبول.
وقد أيد القضاء المصري هذا الرأي في بعض أحكامه، واعتبر الخطبة عقدا ملزما و العدول عن الوفاء به يوجب التعويض... كما أن تلك الأحكام تعبر دائما عن العدول عن الخطبة بأنه حق، و بأن استعماله مقيد بالحكمة التي شرع من أجلها فإن خرج عن هذه الحكمة وجب إلزام فاعلها بتعويض ما ينشا عنها من ضرر وبالتالي فالمحاكم تعتبر الخطبة منشئة لارتباط إلى حد ما(1). وما يمكن قوله إن هذه الآراء ومثلها تكون قد اعتمدت على الإعجاب و القبول الذي يتبادله الخاطبان وقد عولت كثيرة على العلاقات التي تنشأ بين الخاطبين والتي لا يمكن تجاهلها بأي حال، غير أن مناصرة هذا الرأي قد يجر إلى الالتزام بإبرام الزواج وهو ما يطرح إشكال انعدام الرضا في عقد الزواج،و عليه فإن تكييف الخطبة عقدا ملزما قد يكون ممهدا لتوطين بوادر الطلاق لاحقا في هذه العلاقة الزوجية من حيث يراد تحسيس الخاطبين بأهمية ارتباطهما ضمن نطاق هذا التكييف.
ب/ الاتجاه الثاني : الخطبة وعد بالزواج
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الخطبة مجرد وعد بالزواج ولا ترقى لمرتبة العقد وليست لها الصبغة الإلزامية ولا القيمة القانونية حيث لا تزيد عن كونها التزاما أدبيا لا غير.
ويستند هذا الاتجاه إلى ما يأتي :
* إن التشريع الفرنسي لم ينص عليها حيث كانت مجهولة في القانون المدني الفرنسي.












* مبدأ حرية الشخص في اختيار شريكته دون أدنى ضغط أو إكراه لأنه من النظام العام فحرية العدول يجب أن تكون مجردة من كل قيد.
وهذه الطبيعة غير الإلزامية للخطبة سار عليها كثير من الفقهاء في فرنسا وفي مصر وبقية العالم العربي ونصت عليها تشريعات الأحوال الشخصية العربية ودرجت عليها اجتهاداتهم القضائية.
فقد نصت أغلب القوانين العربية على أن الخطبة وعد بالزواج، وهو ما نجده في المادة 02 من مجلة الأحوال الشخصية التونسية و المادة 05 من مدونة الأسرة المغربية الجديدة و المادتين 02 و 03 من القانون السوري للأحوال الشخصية و المادة 02 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي(1) .
وقد سكت المشرع الفرنسي كما سلف ذكره في القانون المدني و لم يتعرض لأي بيان حول طبيعة الخطبة غير أن أغلب فقهاء القانون المدني في فرنسا قد قرر أن الخطبة مقدمة من مقدمات الزواج وليست لها قوة العقد وتخضع لمبدأ الرضائية و الحرية التامة ، وهو ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية بقولها الخطبة لا تلزم الزواج و مثلها الوعد، وقبول تبادل الهدايا .
واستقر القضاء الفرنسي منذ زمن بعيد على تجريد الخطبة من كل قوة ملزمة بل إن من بين أحكام المحاكم الفرنسية ما يقرر في عبارات صريحة إن الوعد بالزواج باطل وغير مشروع باعتباره يمس الحرية التي ينبغي أن تسود الزواج.
و بالنسبة للقانون المصري الذي لم يتضمن أحكاما في الخطبة فقد استقر قضاؤه منذ سنة 1939 على أن الخطبة ليست إلا تمهيدا لعقد الزواج وأنها ليست بعقد ملزم.
وقد اتجهت بعض أحكام المحاكم المصرية هذه الوجهة، إذ كان القضاء يقرر عدم التزام أي من الطرفين بالوفاء بالوعد بالزواج لما في ذلك من مساس بحرية عقد الزواج. وأن الخطبة مجردة شرعا من كل اعتبار قانوني ولا تقيد أحدا من المتواعدين(2).
وقد جاء في حكم محكمة الاستئناف المصرية أن مبدأ حرية الزواج يقضي بأن يكون الطرفان في حل من
العدول عنه إلى أن ينعقد، فالوعد بالزواج باطل حينئذ من الوجهة المدنية لمخالفته للنظام العام(3).
(تاريخ الحكم 29/05/1906).







* موقف المشرع الجزائري
أما بالنسبة لموقف المشرع الجزائري من الطبيعة القانونية للخطبة، فقد صرح في مادته الخامسة (05) بأن الخطبة" وعد بالزواج" ، مستندا في ذلك إلى أرجح الأقوال في الفقه الإسلامي ، متأسيا بالمشرعين العرب وللإشارة فإن وصف الوعد بالزواج، ليس جديدا على القانون الجزائري إذ نصت المادة الرابعة من الأمر رقم (59 - 274) المؤرخ في 04/02/1959 ، على أن الوعد بالزواج الصادر من جانب واحد أو من جانبين لا يعتبر زواجا ،ولا يرتب أي التزام بإبرام الزواج ، وجاء في المادة الأولى من مجلة الأحكام الشرعية الجزائرية الصادرة سنة 1907 ،بأن الوعد بالنكاح في المستقبل و مجرد قراءة الفاتحة دون إجراء عقد صحيح كل منهما لا ينعقد به نكاح، وللخاطب العدول عمن خطبها وللمخطوبة أيضا رد الخاطب الموعود بتزويجه منها .
ولو اقترنت الخطبة بقراءة الفاتحة فهذا لن يرفع من قيمتها الإلزامية شيئا، فستظل وعدا غير ملزم، وليس عقدا وتخضع لنفس أحكام الخطبة. وتكييف الخطبة بأنها وعد بالعقد، يعد أقرب للواقع وأقرب للصواب فمن غير العدل إلزام أحد الخاطبين بالعقد في مرحلة هو في حاجة ماسة إليها ليتعرف على من يشاركه حياته، وبالتالي تنتفي المقاصد التشريعية من مرحلة الخطوبة، وتنتفي معها مقاصد الزواج كلية.
وقد دأب القضاء الجزائري على تكريس ما ذهب إليه قانون الأسرة من خلال اجتهاداته المختلفة،فقد قررت المحكمة العليا بأن الأصل في الخطبة وفي غالب الأحيان أنها مقدمة للزواج وليس زواجا(1)












المطلب الثاني: أثر استعمال حق العدول عن الخطبة
ذكرنا سابقا بأن الخطبة هي من مقدمات الزواج ولا تعتبر زواجا شرعيا، وبأنها مجرد وعد بالزواج لا يربط كل من الخاطب و المخطوبة برباط الزوجية ،بل لكل منهما أن يعدل عن الخطبة، وينقض وعده على أساس عدم وجود فكرة العقد أو الإلزام (م 5 ق.أ.ج) هذا و توجب مشكلة العدول عن الخطبة البحث في نقطتين هامتين هما حكم الصداق و الهدايا و حكم المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي يلحق أحد الطرفين ماديا أو أدبيا.
أ/ حكم الصداق والهدايا حين العدول عن الخطبة:

إذا فسخت الخطبة من الطرفين أو من أحدهما وكان الخاطب قد دفع الصداق كله أو بعضه فله المطالبة باسترداده،فإن كان قائما يجب رده بعينه، وإن كان هالكا أو مستهلكا يجب رد مثله إن كان مثليا،وقيمته إن كان قيميا، وهذا باتفاق العلماء.
وأما ما قدمه الخاطب من هدايا،فالفقهاء متفقون في الجملة على ردها وإن اختلفوا في التفاصيل،ففي المذهب الحنفي تأخذ الهدايا حكم الهبة ،وحكم الهبة أن الواهب له حق الرجوع فيها ما لم يوجد مانع من موانع الرجوع في الهبة،أما الشافعية يذهبون إلى وجوب الرد مطلقا،سواء كانت الهدية باقية أم هالكة بشرط أن تكون الهدية لأجل التزوج، وهو الحكم الذي نجده في القانون الألماني و القانون السويسري.
وأما المالكية فيذهبون إلى أنه إذا كان العدول من جانب الخاطب,فلا يحق له أن يسترد شيئا من الهدية،سواء أكانت مثلية أم قيمية، و سواء أكانت قائمة أم مستهلكة، وأما إذا كان العدول من جانب المخطوبة، فللخاطب أن يسترد جميع ما قدمه من هدايا،فإن كانت قائمة استردها وإن كانت مستهلكة استرد قيمتها، وهذه الأحكام تسري في حال عدم وجود عرف ينافي ذلك.
ويظهر لنا بأن رأي الفقه المالكي هو رأي عادل وعقلاني، لأن الخاطب إذا عدل عن خطوبته،فليس من اللائق مضاعفة ألم المخطوبة، ولعل في ترك الهدايا بعض التخفيف من ألمها و مصابها، أما إذا كان العدول من جانبها فليس من العدالة أن تحرم الخاطب ما قدمه من هدايا وهو لم يقترف ذنبا أو يرتكب أي خطأ.
ب/ حكم الضرر المترتب عن العدول عن الخطبة:
قد يترتب عن العدول عن الخطبة ضرر يلحق أحد الطرفين ماديا أو أدبيا، وخاصة إذا استمرت الخطبة عدة سنوات، كما إذا كلف الخاطب نفسه بإعداد مسكن للزوجة المرتقبة، ثم عدلت المخطوبة عن الخطبة بغير مبرر، أو يطلب الخاطب من مخطوبته ترك دراستها أو الاستقالة من وظيفتها أو إعداد جهاز مهم كما قد يفوت عنها خطابا آخرين، أو يكون في فسخ الخطوبة ما يمس كرامة الطرف الآخر، فما هو حكم العدول في هذه الحالات، والضرر قد أصاب الطرف الأخر ؟
لا نجد في كتب الفقه الإسلامي القديم من تعرض لهذا الموضوع، وذلك لأسباب متعددة أهمها:اختلاف الحياة الاجتماعية و الآراء و العادات في عصرهم عن عصرنا الحالي، واعتبارهم بأن الزواج لا يتم إلا بالرضا الكامل وأن التعويض لا يكون إلا لسبب من أسباب الالتزام، كالإخلال بعقد مثلا، والخطبة ليست عقدا، أما في الفقه الإسلامي الحديث، فنجد في هذه المسالة أربعة آراء:
1-الرأي الأول:
هو ما ذهب إليه الشيخ محمد بخيث رحمه الله (مفتي الديار المصرية سابقا) إلى أنه" لا تعويض في حال العدول عن الخطبة لأن الخطبة ليست بعقد، بل وعد بالعقد ولا إلزام في هذا الوعد، ومن عدل عن خطوبته، إنما يمارس حقا من حقوقه الشرعية "



2-الرأي الثاني:
وقال به الشيخ محمود شلتوت رحمه الله (شيخ الأزهر سابقا) إن العدول عن الخطبة يستوجب التعويض للطرف الأخر
3-الرأي الثالث:
وذهب إليه العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله وهو أن العدول إذا ترتب عليه ضرر مادي استوجب التعويض, أما إذا لم يترتب على العدول ضرر مادي أو ترتب ضرر معنوي فلا تعويض*
وقال الدكتور السنهوري: وهو يتكلم عن المسؤولية في استعمال الحق إن القضاء في مصر انتهى إلى المبادئ الثلاثة الآتية:
1-الخطبة ليست بعقد ملزم.
2-مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سببا موجبا للتعويض.
3-إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعالا ألحقت ضررا بأحد الخاطبين،جاز الحكم بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية(1).

















المطلب الثالث: موقف المشرع والقضاء الجزائري من الأثر المترتب عن العدول:
أ/ موقف المشرع الجزائري:
لقد حسم المشرع الجزائري في قانون الأسرة مسألة تعويض الضرر المعنوي الناجم عن العدول عن الخطبة، وذلك بعبارة صريحة واضحة و قاطعة حيث نصت المادة الرابعة من الأمر رقم 05/02 على ما يأتي:
-" الخطبة وعد بالزواج.
- يجوز للطرفين العدول عن الخطبة ضرر مادي أو معنوي لأحد الطرفين جاز الحكم له بالتعويض". وهذا يعني أن الحكم بالتعويض جائز ومتروك لصلاحيات القاضي.
- ولا شك أن المشرع قد استند إلى أساس معين في المادة قد يكون قانونيا أو شرعيا.
ورأينا كيف أن تكييف الخطبة وعد بالزواج وليست عقدا كان محله الفقه الإسلامي. وبعض التشريعات كالتشريع الفرنسي الذي لم يتوصل لذلك إلا عن طريق القضاء.
وإذا تأملنا نص الفقرة الثالثة من المادة الرابعة ، نجد أن لفظة الجواز أي جواز الحكم بالتعويض، تنصرف لاستيعاب دلالة الخلاف الواردة في المسألة سواء في الفقه أم في القانون، حول مبرر التعويض عن الضرر، ولهذا فيمكن ألا يحكم القاضي بالتعويض، وذلك ما إذا بدت له المبررات المقنعة، كأن لا يكون الضرر معتبر أو ناتجا عن خرق قاعدة شرعية.
وما يمكن قوله حول صياغة نص المادة 4 ف 3 من قانون الأسرة أنها مرنة وتستمد مرونتها من خلاف الفقهاء في الشريعة والقانون حول مسألة التعويض.
ولقد أشار الأستاذ بلحاج العربي إلى رفضه كل الآراء التي أبداها بعض الشراح والمتعلقة بتأثر قانون الأسرة الجزائري بالقانون الفرنسي، مقررا بأن القانون قد استمد من الفقه بكل قوة وأصالة،بعيدا عن التقليد والجمود والأنظمة الدخيلة التي لا تساير الواقع الجزائري(1) .
- غير أن نص المادة 04 يحتاج إلى تقييد بناء على أن النص جاء مطلقا في حكمه بجواز التعويض عن العدول، مما يفهم منه أن الحكم بالتعويض متعلق بالعدول في حد ذاته، وهو قول منتقد، كما ذكرنا باعتبار أن الخطبة وعد لا يترتب عليه أي التزام، وبالتالي فإنه يحق لكلا الطرفين العدول وإنما يطلب التعويض إذا ما ترتب على هذا العدول ضرر، بتوفر شرطين هما:
* أن يكون العدول غير مبني على سبب مقنع ينزع على العادل صفة السلوك الخاطئ، الذي يحمله المسؤولية التقصيرية التي توجب الضمان تبعا.













* أن يكون الضرر اللاحق بالطرف المعدول عنه ناشئا عن تصرف صادر من العادل، مقترنا بالخطبة كما في حالة التغرير بالطرف الآخر ثم العدول عنه.
وعليه فان هذا النص يحتاج إلى تعديل يضبط به أساس التعويض ويقيده بناء على مبدأ التعسف في استعمال الحقوق.(1)
- هذا ويترك تقدير العدول على كونه تعسفا موجبا للمسؤولية إلى القاضي بحسب ما يراه اعتمادا على القرائن الدالة على ذلك.
ب/ موقف القضاء الجزائري من تعويض الضرر المترتب عن العدول:
من المعروف أن القضاء في الجزائر وفي بقية البلاد العربية عموما قد استقر على مبدأ تعويض الضرر الناجم عن العدول عن الخطبة تطبيقا، ولم يكن يخالف ما استقر عليه الفقه والتشريع في هذا الميدان(2).
وفي هذا الصدد قضت المحكمة العليا بتعويض الضرر في قرار جاء فيه:
حيث ثبت من أدلة الملف ومن تصريحات المدعى عليها بجلسة الصلح أن العدول عن الزواج كان بفعلها، وحيث يتبين من الملف أن الآنسة اعترفت في المحكمة أنها هي التي رفضت إتمام الزواج وأن فسخ الخطوبة كان منها وهذا إقرار قضائي حسب المادة (341 من ق.م) لذلك وجب تعويض الطاعن عن الضرر الذي أصابه بسبب العدول عن الخطبة(3)
وفي قرار أخر للمحكمة العليا قضت برفض طلب التعويض المقدم من الطاعنة التي عدلت عن الخطبة بناء على إرادتها، وكان عدولها وفقا لتفسير المحكمة بدون مبرر شرعي أو قانوني(4).
وكان مجلس قضاء مستغانم قد قضى بالتعويض عن الضرر الناجم عن العدول عن الخطبة منذ سنة 1966 مما يدفعنا إلى القول بأن هذا المبدأ قديم في القضاء الوطني حتى قبل صدور قانون الأسرة.
ولا يتوقف دور المحكمة العليا على مجرد تقرير الأحكام ونشرها بل إثرائها وتوضيح الأساس المعتمد عليه، والذي كيفت أساسه التعويض الموجب للمسؤولية التقصيرية، وأن العدول قد صاحبته أفعال أدت إلى الإضرار بالطرف الأخر.







المبحث الثاني: التعسف في استعمال الطلاق
المطلب الأول: مفهوم الطلاق التعسفي
الأصل أن الطلاق حق مباح للرجل يملك إيقاعه بحرية، هذه الأخيرة تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين فالرجل إن تمادى في استعمال حقه في الطلاق بطريقة لا يراعي فيها إلا ولا ذمة بزوجته يعتبر متعسفا في استعمال حقه،مما يوجب عليه تعويض الضرر اللاحق بزوجته التي طلقها تعسفيا لا يستند إلى أي مبرر شرعي،فأساس التعويض عن الطلاق هو التعسف في استعمال الحق.
والشريعة الإسلامية جعلت لكل من الزوجة والزوج حقا في إنهاء الزواج وفق الضوابط الشرعية في ذلك.
غير أن الزوج قد لا يلتزم في ممارسة حقه الإرادي بما ورد في الشرع ،فيتسبب بضرر للزوجة، وتتمثل هذه الممارسة المعيبة للحق في إيقاع الزوج للطلاق دون سبب معقول أو مشروع يبرره.
كما يجب على الزوج كذلك أن يراعي السنة في طلاقه,فلا يطلق امرأته في الحيض مثلا، أخذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في طلاق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض "مره فليراجعها" .
ويجب توفر القصد البريء بالطلاق، بأن لا يقصد الزوج الإضرار بالزوجة،ومن ذلك إيقاع الطلاق في مرض الموت بقصد حرمان الزوجة من الميراث، وأمثلة تطبيقية عديدة عرفت حديثا باسم الطلاق التعسفي،فما هو هذا الطلاق التعسفي، وما هي صوره ؟
أ / تعريف الطلاق التعسفي1:
الطلاق التعسفي مصطلح حديث في تسميته قديم في المعنى يطلق على كل طلاق استبد به الزوج وتتأذى المرأة من ورائه، وقد أشار إليه قانون الأسرة الجزائري في المادة 52
* معنى التعسف:
التعسف في اللغة هو الأخذ على غير الطريق أو سلكها على غير قصد,أما في الاصطلاح فيعرف بأنه: "مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه شرعا بحسب الأصل" (2)
وفي استعمال الحق يراد بالتعسف ذلك الاستعمال على الوجه غير المشروع بمعنى مجاوزة الحق حين مزاولة الإنسان له.






- ولما كان الطلاق حقا للرجل يملك إيقاعه بإرادته المنفردة فإنه يعد متعسفا في ذلك إذا جاوز حدود الحق بأن أوقعه مناقضة لقصد الشارع في الطلاق، متمثل في تجنيب الزوجين المفاسد التي تنجم عما وصلت إليه علاقاتهما من الشقاق، وتفويت لمقاصد النكاح السامية من ألفة ورحمة وغيرها، ولا يخفى ما ينجم عن ذلك من ضرر مادي ومعنوي.
ب/صور الطلاق التعسفي :
إن للطلاق التعسفي تطبيقات وصور عديدة ومن أشهرها تلك التي نص عليها الفقهاء وأسهبوا في ذكر أحكامها وهي :
1)الطلاق في الحيض: وصورة التعسف فيه تتمثل في رغبة الزوج بتطويل العدة، فتكون الحيضة التي حصل فيها الطلاق غير محسوبة من مدة العدة.(1)
وقد أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض بغير رضاها.
2)طلاق الثلاث بلفظ واحد: ويظهر التعسف في مثل هذا الطلاق في إهمال الزوج للحكمة المقصودة في التفريق بين الطلقات الثلاث,ومناقضة قصد الشارع في ذلك,فإنها شرعت ليتدارك المفرط ويعتبر.
وقد ذهب جمهور الأئمة إلى وقوع طلاق الثلاث وبينونة الزوجة به,ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره إلا أن كثــــــيرا من الفقهاء المعاصرين يفــتون باعتبار طلاق الثلاث، واحد يستيسر على الناس وصونا للرابطة الزوجية ومراعاة لمصلحة الأولاد خصوصا في هذا الوقت الذي قل فيه الورع والاحتياط ،وتهاون الناس في التلفظ بهذه الصيغة في الطلاق,وهم يقصدون غالبا التهديد والزجر.
3) طلاق الهازل والسكران:
ويتجلى التعسف في هذا النوع من الطلاق في استخفاف الزوج بقداسة عقد الزواج بحيث لا يعرف قصد الهازل في وقوع الطلاق,والسكران,إذا كان متعديا بسكره,متناولا إياه بكامل إرادته(2)
وجمهور الفقهاء يوقعون طلاق الهازل و السكران إذا كان سكره محرما.
4) الطلاق بقصد الحرمان من الميراث: وهو أن يطلق الرجل المريض مرض الموت زوجته يحرمها من إرثها منه,وهذا بلا شك عدوان لا يرضاه الله و تأباه المروءة.
إذ كيف يطلق الرجل هذه المرأة في أخر أيامه,بعد أن قطعت معه أشواط العمر و ربما تحملته و صبرت على أذيته ليفاجئها بهذه النهاية المحزنة،فعاملته الشريعة الإسلامية على تقيض مقصوده,فقال المالكية بميراث الزوجة,كانت في العدة أم لم تكن و سواء تزوجت أم لم تتزوج ولذلك فهذه التطبيقات وغيرها يظهر فيها جليا مبدأ التعسف في استعمال الحق، في الطلاق و الضرر الذي يصيب الزوجة و الزوج على طرفي سواء،وذلك مثل الطلاق في الحيض و طلاق الثلاث بلفظ واحد.






المطلب الثاني : موقف المشرع و القضاء الجزائري من تعويض الضرر الناجم عن الطلاق التعسفي
1)موقف المشرع الجزائري:
لقد قضى المشرع الجزائري فيما ورد في المادة 52 من قانون الأسرة بالتعويض للمطلقة الذي ثبت تعسف زوجها في طلاقها حيث تنص في الفقرتين الأولى و الثانية "إذا تبين للقاضي تعسف الزوج في الطلاق حكم للمطلقة بالتعويض عن الضرر اللاحق بها، و إذا كانت حاضنة ولم يكن لها ولي يقبل إيواءها يضمن حقها في السكن مع محضونها حسب وسع الزوج" ،هذا وتكييف إطلاق الزوج بكونه متعسف فيه أمر متروك للسلطة التقديرية للقاضي وعليه، فإذا طلق الزوج زوجته و تبين للقاضي أنه تعسف في طلاقه بأن كان دون سبب معقول وأن الزوجة لحقها ضرر بذلك جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حالة و درجة تعسفه، بتعويض عادل متروك تقديره لسلطة القاضي التقديرية وفقا لحالة الزوج المالية(1)
وقد قضى المشرع الجزائري بالمتعة على المطلقة على وفق ما أقره الفقهاء دون التعويض,كتخفيف عن ألم,الفراق عن زوجها,لأنه يعتبر المتعة في حد ذاتها تعويضا.
أما في حال ثبوت تعسف الزوج في طلاقه فإن للمطلقة حقها في المتعة إضافة إلى التعويض عن الضرر الذي لحقها جراء تعسف الزوج.
وعليه فان المشرع الجزائري بقضائه الحكم بالتعويض للزوجة المطلقة بدون سبب معقول يكون مستنده مبدأ التعسف في استعمال الزوج حق الطلاق,حيث أن انتفاء السبب المشروع لإيقاعه يعتبر قرينة للضرر,وهو مبدأ مستمد من الفقه الإسلامي الذي يقضي بأن الحق يصبح غير مشروع إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير(2) وهذا تطبيق لمبدأ التعسف في معيار الذاتي الذي يعتد بالباعث والدافع في استعمال الحق,فإيقاع الطلاق من غير ما سبب وحجة يعتبر قرينة على قصد الضرر والأذى قد يستند عليه القاضي في تقديره الأضرار اللاحقة بالزوجة و الحكم بالتعويض لها.
كما أنه قد بنى الحكم بالتعويض على وفق القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار" وذلك حينما ترك للقاضي مطلقة الحرية في تقدير التعويض عن الضرر اللاحق بالزوجة جراء هذا الطلاق التعسفي,بما يتفق و الحالة المالية للزوج.










2) موقف القضاء الجزائري من تعويض الضرر الناجم عن الطلاق التعسفي:
لقد اطردت المحكمة العليا على تعويض الطلاق التعسفي فقد شددت في قراراتها على أن التعويض واجب على من طلق زوجته تعسفا (1) ومن بين القرارات التي يظهر فيها بينا اعتماد المشرع الجزائري لنظرية التعسف في استعمال الحق, في إيجاب التعويض عن الطلاق التعسفي،

بدل المتعة ما يأتي:"من الأحكام الشرعية أن للزوجة المطلقة طلاقا تعسفيا نفقة عدة,نفقة إهمال,نفقة متعة,وكذلك التعويض الذي قد يحكم به لها من جراء الطلاق التعسفي,والقضاء بما يخالف هذا المبدأ يستوجب نقضا القرار الذي منح للزوجة مبلغا إجماليا من النقود مقابل الطلاق التعسفي(2) ولقد قضت محكمة سيدي امحمد بتاريخ 28/10/1984 بمبلغ 20,00 دج كتعويض عن الضرر الناتج عن الطلاق التعسفي,طبقا لسلطتها التقديرية,طالما أن المشرع لم يحدد حدا أقصى,ولا حد أدنى للتعويض الذي يقدم للمطلقة في حالة التعسف في الطلاق .
وقد حكم القضاء الجزائري بأن حق الطلاق مخول في الشريعة للزوج,ولا يترتب على استعماله من الأحكام سوى استحقاق الزوجة المطلقة لمؤخر صداقها,ونفقة عدتها,التي يراعي في تقديرها حالة المطلق المالية حيث جاء ما يلي:
"القرار المطعون فيه قد خالف أحكام الشريعة في الطلاق الذي هو ملف في عصمة الزوج الذي ما فتئ في كل مراحل الخصام يطلب رجوع زوجته و الحكم بتطليقها من جانب قضاء الموضوع لا مبرر له .(3)
"غير أنه إذا كان الطلاق لغير سبب مشروع يدعو إليه, وجب على المطلق المتعسف التعويض,لما لحق الزوجة من أضرار بسبب هذا الطلاق" (4) .

و في قرار للمحكمة العليا صادر في 22 نوفمبر 1982 مؤداه أن للمطلقة الحق في النفقة و التعويض و سائر توابع العصمة إذا كان طلاق الزوج غير مبرر,ولو كان الزوج غير مسجل بالحالة المدنية (5) .
















المبحث الثالث: التعسف في الوصية
المطلب الأول: تعريف الوصية ودليل مشروعيتها
أولا) تعريف الوصية:
ـ لغة:من أوصى الرجل و وصاه أي عهد إليه، والوصية ما أوصيت به,وسميت وصية لاتصالها بأمر الميت،ووصى الشيء بغيره وصيا وصله.
ـ اصطلاحا: الوصية عند الفقهاء اسم لما أوجبه الموصي في ماله بعد موته،أو هي تمليك مضاف لما بعد الموت بطريقة التبرع سواء كان التملك عينا أم منفعة 1 .
ثانيا) دليل مشروعيتها: الوصية مشروعة بما ثبت من نصوص القرآن والسنة وهي مندوبة على اعتبار أنها عقد من عقود التبرع.
فمن القران قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت،إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) سورة البقرة الآية 180
ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب في حق من لا يرث.
وقوله (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ) سورة المائدة الآية 106.
وقوله عز وجلمن بعد وصية يوصي بها أو دين). سورة النساء الآية 12.
ومن السنة قوله ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) أخرجه مسلم كتاب الوصية. حديث رقم 1627 ج11 ص 63.
والمراد الحث على صاحب مال يمر عليه زمن وله ما يوصي فيه،ولا يكتب وصيته،فالحديث فيه حث على المبادرة على كتاب الوصية.
ولكن مشروعيتها وفق ضوابط وشروط وضعها الفقهاء تضبطها، وهذا حتى لا يضر الموصي بأصحاب الحق في ماله بعد موته، وهم الورثة، وحتى لا تحيد الوصية عن سبيل المقصد الذي شرعت من أجله.
تعريف المشرع الجزائري للوصية: لقد تناول المشرع الجزائري الوصية في قانون الأسرة في الكتاب الرابع الخاص بالتبرعات، حيث عرفها على وفق تعريف الفقهاء لها، فقد نصت المادة 184 منه على أنالوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع). حيث يشمل التعريف جميع أنواع الوصايا، وذلك باستعماله لفظ التمليك بصيغة الإطلاق، مما يشمل الوصية بالأعيان والوصية بالمنافع،أو بإسقاط الديون على الغير،لأنها من باب تمليك الدين للمدين.




وإيراده للفظ التبرع يدل على أن المشرع يقصد بالنص الوصية التي تبنى على محض التبرع ولا يكون في مقابلها أي عوض،فقد أخرج بهذا القيد الوصايا التي تنشأ عن بيع أو إيجار لأن مثل هذه الوصايا هي تمليك ولكن بعوض وليس تبرعا.
المطلب الثاني : مقدار الوصية المشروع:
لقد قيدت الوصية بمقدار الثلث، حيث أن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في الكثير من الثلث لمن ترك ورثه وقد دلت على هذا المقدار السنة النبوية التي قيدت إطلاق لفظ الوصية في القرآن الكريم في قوله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين ) سورة النساء الآية 12 حيث ثبت أن النبي عاد سعد بن أبي وقاص حيث قال: عادني النبي عام حجة الوداع من مرض أشفيت على الموت. فقلت :يا رسول الله بلغ بي من الوجع ما ترى و أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال لا قال سعد: أفأتصدق بشطره؟ قال رسول الله (الثلث يا سعد،والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). أخرجه البخاري في صحيحه ج7. ص 269.
هذا وأن الثلث المعتبر هو مما يكون تركة خالصة من الدين،لأن سداد الدين يكون أولا، وبعد الدين تقدر الوصية بالثلث الباقي، فيخلص للورثة الثلثان كاملين(1) .
وعلى هذا فإنه إذا ما تعدى الموصي في وصيته ما حددت به شرعا بأن أوصى بأكثر من ثلث تركته,فإن نفاذها يتوقف على إذن وإجازة الورثة فان أجازوها نفذت واعتبر ذلك تنازلا منهم عن جزء من حقهم في التركة.
* مقدار الوصية في القانون الجزائري:
لقد قيد المشرع الجزائري كذلك الوصية بمقدار الثلث وجعل نفاذها في حال تجاوز الموصي الثلث المحدد لها على إجازة الورثة كما ذهب إليه الفقهاء حيث نصت المادة 185 من قانون الأسرة"تكون الوصية في حدود ثلث التركة وما زاد على الثلث تتوقف على إجازة الورثة ".











المطلب الثالث: صور المضارة في الوصية وأثر التعسف فيها:
لقد أباح الشرع الوصية لمقصد نبيل وسامي يعود على الموصي، ينال به الثواب حتى بعد موته،ولكن في حدود مشروعة مقيدة بأن لا يضر بأصحاب الحق في ماله بعد موته وهم الورثة،لذا فقد صرح المولى عز وجل بتحريم المضارة فيها في قوله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار) وهذا حتى لا تحيد الوصية عما شرعت من أجله، غير أن الموصي قد يجانب هذا القصد بأن يلحق بوصيته ضررا بالورثة وذلك من خلال صور متعددة لهذه المضارة لا تكيف على كونها تعسف في استعمال حق الوصية بناء على مفهوم التعسف وضوابطه،ومن هذه الصور للمضارة في الوصية:
أولا/ الوصية لوارث:
بأن يؤثر وارثا بوصيته دون باقي الورثة أو إضرارا بهم،وهذه وصية باطلة ولا تجوز باتفاق العلماء وهذا لقوله صلى الله عليه وسلمإن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) أخرجه الترمذي في كتاب الوصايا. الجزء الرابع ص 433
وهذه الصورة من المضارة في الوصية،لا تكيف على أنها تعسف،و لذلك كون التعسف في استعمال الحق في تأسسه يقوم على وجود حق يتم وصفه بكونه متعسفا فيه، وفي الوصية لوارث فإن الحق منتف،وذلك لبطلان الوصية من أصلها(1)
ثانيا: الوصية بما يزيد عن الثلث لغير وارث:
وقلنا إن نفاذها متوقف على إجازة الورثة، فإن هم أجازوها عد ذلك تبرعا وتنازلا منهم عن جزء من حقهم في الميراث، وهو ما ذهب إليه المشرع الجزائري في قانون الأسرة في المادة 185تكون الوصية في حدود ثلث التركة وما زاد على الثلث تتوقف على إجازة الورثة).
وكذلك فإن هذه الصورة لا تعد ولا تكيف على أنها تعسف من الموصى في استعمال حقه في الوصية,وذلك لنفس سبب الصورة الأولى أي انتفاء وجود الحق حتى يوصف بكونه تعسفا،فالوصية بأكثر من الثلث المحددة شرعا هي من باب الخروج عن حدود الحق ، وبالتالي فلا تدخل في نطاق نظرية التعسف أصلا(2)




















ثالثا:الإيصاء في حدود الثلث مع قصد الإضرار بالورثة:
وهذه الصورة هي عين التعسف وذلك أن الموصي قد تقيد بالشروط الموضوعية للوصية ولم يخرج عن الحدود المشروعة لها ، غير أنه قصد بإيقاعها إلحاق الضرر بالورثة.
وعليه فإن أول ما يترتب على هذا التعسف هو الإثم والمؤاخذة باعتبار ارتكابه لمحرم ثابت بصحيح القرآن والسنة وقد قال بن عباس رضي الله عنه:" الإضرار بالوصية من الكبائر(1) ".
ولقد ذهب الفقهاء الذين اعتدوا بالباعث في التصرفات والعقود إلى القول بإبطال الوصية إذا كان الدافع إلى إبرامها هو محض الإضرار بالورثة.
فيقول الإمام ابن القيم الجوزية : " قاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها، أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبادات كما هي معتبرة في القربات والعادات فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما أو صحيحا أو فاسدا.....ودلائل هذه القاعدة تفوق الحصر......فقال تعالىمن بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار) سورة النساء. الآية12. فإنما قدم الله الوصية على الميراث،إذا لم يقصد بها الموصي الضرار،فإن قصده فللورثة إبطالها وعدم تنفيذها."
وعليه فإن الحنابلة يعتدون بالباعث في التصرفات فأيما عقد أو تصرف كان الباعث عليه أمرا محظورا سواء تضمن صيغة ما يدل عليه أو لم يتضمنه وكان أمرا باطنيا فإنه يعد باطلا لكونه استعمال للحق في غير ما شرع له.
ويقول الإمام القرطبي في تفسير لآية الوصية:" إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه لأن ذلك حقه,فله التصرف فيه كيف يشاء،وفي المذهب قول إن ذلك مضارة فترد". ولعل هذا الرأي مرده احترام إرادة الموصي في آخر حياته وصعوبة إثبات قصده على اعتبار وفاة صاحب الوصية.
غير أنه وبالرجوع إلى قواعد المذهب المالكي والذي اعتد بالباعث في التصرفات وتوسع في الأخذ بمبدأ سد الذرائع يرجع القول بإبطال الوصية إذا ما قصد بها محض الإضرار بالورثة.
ويوضح هذا ،الأستاذ علي الخفيف بأن بن القاسم نفسه يرى بأن الوصية للوارث ـ إن قصد به إضرار الورثةـ ترد ولو أجازوا فإذا قال الموصي:إن لم يجز الورثة، فذلك للمساكين فإن وصيته تبطل وترجع ميراثا،لأنه أوصى لبعض ورثته ثم جعلها للمساكين إن لم يجيزوا دل ذلك على قصد الضرر بالورثة،وما قصد به الضرر لا يمضى لقوله تعالى في حق الموصيغير مضار) ولخبر (لا ضرر ولا ضرار). (2)
وعليه نخلص إلى أن حق الوصية قد شرع في حدود ثلث المال كوسيلة من وسائل البر والثواب غير أنها تبطل إذا ما ثبت تعسف الموصي بأن قصد بها محض الإضرار بالورثة، أي إن كان قصد إلحاق الضرر هو الباعث الأساسي على إبرام الوصية.












* موقف المشرع الجزائري:
لم يرد في قانون الأسرة الجزائري ما يتناول موضوع الإضرار بالوصية و التعسف فيها وذلك إحالة منه على مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية وإن كان قد تناول مسألة تجاوز الوصية حدود الثلث في المادة 185 الإيصاء للوارث،في المادة 189 ، غير أن هذين النصين لا يتناولان المضارة في الوصية المتأسسة على التعسف فيها وذلك لكون تجاوز مقدار الثلث في الوصية الإيصاء للوارث،يعدان خروجا وتعديا عن الحق وليس تعسفا وهذا أحد ما يؤخذ على قانون الأسرة الجزائري بإغفاله لأثر التعسف في استعمال حق الوصية بنص صريح باعتباره قد اعتد بهذه النظرية في القانون المدني الجزائري في المواد من 775 إلى 777، وإن كان النصان السابقان قد تناولا موضوع الإضرار بالوصية ولكنه ضرر غير ناشئ عن التعسف فيها وذلك لانتقاء الحق في ذاته كما ذكرنا،والتعسف لا يقوم إلا إذا وجد الحق أصلا.



















المبحث الرابع: حق الزوج في تعدد الزوجات
المطلب الأول : الحكمة من التعدد و شروطه :
أ / الحكمة من التعدد :
إن الحكمة من تعدد الزوجات عظيمة و ذات نفع كبير يعود على المجتمع و الأسرة و الدولة ككل، و يمكن ذكر بعض مبررات التعدد فيما يلي :
1- إن التعدد رحمة من الله سبحانه، و نعمة على الإنسان، حيث أباح الإسلام تعدد الزوجات وأقر هذا النظام و جعله مباحا و ليس واجبا و ربطه بالقدرة على العدل و الإنفاق، كما أن الكثرة العددية في الإنتاج، و سعة النفوذ في العالم، و الزيادة في البشر نعمة، و طاقة هائلة عند حسن استغلالها .
2- الدولة كثيرا ما تتعرض لأخطار الحروب، فتفقد عددا كبيرا من الأفراد، و لابد من رعاية أرامل هؤلاء الذين استشهدوا، ولا سبيل إلى حسن رعايتهن إلا بتزويجهن و حتى لا يسقطن في الرذائل و الفواحش، و الانحراف، فيفسد المجتمع.
3- قد تكون زيادة عدد الإناث في أي شعب أكثر من عدد الرجال، و الأمر مطرد، في أكثر الأمم، و للتكفل بالعدد الزائد من النساء يجب التعدد.
4- أن استعداد الرجل للتناسل يمتد من البلوغ إلى سن متأخرة، و المرأة لا تتهيأ لذلك باستمرار بسبب مدة الحيض و النفاس، و الحمل و الرضاع و المرض و غير ذلك، فكيف يكون حال الرجل؟ و الأفضل أن يحصن نفسه أحسن من اتخاذ خليلة و الزنا محرم.
5- ما يطرأ على الحياة الزوجية من أمور تجعل التعدد ضرورة لازمة مثل عقم الزوجة ورغبة الزوجة في الإنجاب، أو مرضها، و عدم القدرة على القيام بشؤون البيت، و رعاية الأولاد إن وجدوا، وهو ما يفهم من مصطلح المبرر الشرعي الوارد في المادة 08 من ق.أ.ج خاصة إذا كان الزوجان متحابان.
6- إن تطبيق نظام التعدد في العالم الإسلامي له فضل كبير في بقائه نقيا بعيدا عن الرذائل الاجتماعية، و الفضائح الأخلاقية، حيث زاد عدد البغايا عن عدد المتزوجات في بعض الجهات و النتيجة تدفق جيوش من الأولاد غير الشرعيين،فمثلا الولايات المتحدة الأمريكية تستقبل أكثر من 205 ألف طفل غير شرعي كل عام، ونفس الأمر في أوربا الغربية و في روسيا حاليا هناك طفل من ثلاثة هو ابن الزنا و بذلك ضاعت الأنساب الصحيحة و تسربت عوامل الانحلال إلى النفوس، و كذا العقد النفسية و الاضطرابات العصبية، و تفكك الأسرة. كل ذلك و غيره ناتج عن الدعارة المتفشية بشكل مفزع ظهور داء جديد هو عزوبة النساء
تلك هي بعض المبررات التي تستوجب التعدد و المنافع المتولدة عن تطبيق هذا النظام.
ب / شروط التعدد حسب قانون الأسرة الجزائري:
إن المشرع الجزائري أباح التعدد كمبدأ عام، و لكن قيده بضرورة توفر شروط معنية تتضح بجلاء من خلال المادة08 من ق.أ.ج التي تقضي بأنه " يسمح بالزواج بأكثر من واحدة في حدود الشريعة الإسلامية، متى وجد المبرر الشرعي، و توفر شروط و نية العدل ، ويتم ذلك بعد علم كل من الزوجة السابقة واللاحقة، و لكل واحد الحق في رفع دعوة قضائية ضد الزوج في حالة الغش و المطالبة بالتطليق في حالة عدم الرضا"
وهكذا نستشف من نص المادة الشروط الواجب توافرها، حتى يتمكن الزوج من الزواج بأكثر من واحدة و هي :
الشرط الأول : وجود مبرر شرعي للزواج بزوجة أخرى، و هو معيار مرن و شخصي و واسع، كأن يكون عقم الزوجة مثلا، و رغبة زوجها في الإنجاب أو مرضها وعدم قدرتها على القيام بشؤون البيت، كما قد تصبح المرأة غير صالحة للاتصال الجنسي لإصابتها بمرض.
الشرط الثاني : ضرورة توفر شروط ونية العدل بين الزوجات في الحقوق و الواجبات حيث يقول الله تعالى
" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا "(الآية 03 من سورة النساء.)
أباح الله تعالى تعدد الزوجات و قصره على أربع، و أوجب العدل بينهن في النفقة، أي الطعام ،و السكن و الكسوة و المبيت،فإن خاف الرجل عدم الوفاء بحقوقهن جميعا حرم عليه الجمع بينهن، فأن استطاع الوفاء بحق ثلاث نسوة حرم عليه العقد على الرابعة، و من خشي الجور و الظلم بزواج الثانية، حرمت عليه.
فشرط العدل ضرورة للتعدد في الشريعة الإسلامية، و العدل المطلوب هو العدل الظاهر الذي يقدر عليه، و ليس هو العدل في المودة و المحبة، فإن ذلك لا يستطيعه أحد، بل هو أمر خارج نطاق الزوج و إرادته و الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقسم و يعدل، و يقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " فالميل في الحب و القلب لا يؤاخذ الإنسان على ذلك، و هذا هو المعنى الذي يشير إليه الرسول، و هذه النقطة هي التي ذكرها المشرع الجزائري في ق.أ.ج في المادة 08.
و كذلك المادة 37 الفقرة الثانية بقوله "يجب على الزوج نحو زوجته العدل في حالة الزواج بأكثر من واحدة"
الشرط الثالث: لقد أورد المشرع الجزائري شرطا واضحا من نص المادة 08 من قانون الأسرة، و هو ضرورة إخبار الزوجة السابقة التي هي في عصمته برغبته في الزواج بالثانية ، كما يحيط علما المرأة التي ينوي العقد عليها، بوجود زوجة أخرى.
فمن واجب الزوج إخبارهما معا أو إخبارهن إن تعددن، و إذا لم يفعل ذلك فإن المشرع قد جعل ذلك سببا يسمح من خلاله للزوجة السابقة، و كذا اللاحقة بطلب التطليق من القاضي بناء على غش و سوء نية الزوج لهما أو لإحداهما.
و المشرع الجزائري من خلال اشتراط ذلك يهدف إلى تقييد التعدد حتى لا تهضم حقوق الزوجات عند تعددهن، و تفادي الأضرار الناجمة عن تعدد الضرات .
المطلب الثاني: وجه التعسف في حالة تعدد الزوجات:
إن تعدد الزوجات كمبدأ عام هو حق شرعي و قانوني مخول للزوج، غير أن الشريعة الإسلامية و القانون، قيدا هذا الحق فوضعت له حدود و ضوابط، لا ينبغي على الزوج تجاوزها و إلا عد متعسفا في استعمال حقه، و ملحقا ضررا ماديا و معنويا يستوجب التعويض عنه، حال الحكم به أمام القاضي.و يكون الزوج متعسفا في ذلك، إذا خالف أحكام المادة الثامنة و الثامنة مكرر من ق.أ الجزائري، والمادة 37 أيضا.
فالزوج لا يمكنه التزوج بزوجة ثانية أو ثالثة إلا إذا وجد مبرر شرعي لذلك، كما سبق بيانه، و إلا عد متعسفا في استعمال حقه، كأن تكون الزوجة عقيمة مثلا.
كما يجب عليه أن يعدل في الإنفاق على زوجاته، و ينجر عن التفريق بينهن و عدم مساواته ضررا ماديا كبيرا يجب تقييده، و إلا فإن الزوج إذا فعل ذلك مع علمه بأنه مقصر في واجباته، الزوجية تجاه واحدة منهن، فإنه يكون مسؤولا عن ذلك لكونه قد ظلم أسرة، بإهمالها و عدم الإنفاق عليها ، وقصد الإضرار يتضح جليا في إساءة استعمال هذا الحق من قبل الزوج.
و حسن ما فعل المشرع الجزائري عند تعديله لقانون الأسرة الجزائري الفرع بالقانون 05/02 لما أضاف شرطا قانونيا، يعتبر كأداة حماية ووسيلة قانونية تلجأ إليها الزوجة - عند ادعائها أمام القضاء- في حال تعسف الزوج بزواجه من أخرى و تدليسه عليها، إذ نص في القانون الجديد في المادة 08، بقوله:
« يجب على الزوج إخبار الزوجة السابقة، و المرأة التي يقبل على الزواج بها، أن يقدم طلب الترخيص بالزواج إلى رئيس المحكمة لمكان مسكن الزوجية ، يمكن لرئيس المحكمة أن يرخص بالزواج الجديد، إذا تأكد من موافقتها، و أثبت الزوج المبرر الشرعي، وقدرته على توفير العدل و الشروط الضرورية للحياة الزوجية .»
فعدم إخبار الزوجة بواقعة الزواج الجديدة و عدم الحصول على الترخيص من رئيس المحكمة دليل على سوء نية، و قصد محض للإضرار بالغير، كما نصت عنه المادة 124 مكرر من القانون المدني.
ولعل أن حكمة المشرع من وضع قيود على حق تعدد الزوجات، هو الحد من الزواج العرفي الذي استشرى و استفحل في مجتمعنا خاصة في المناطق الصحراوية و يحد من دعاوى إثباته ، إذ في غالب الأحيان ما يلجأ القاضي حين إثباته للزواج العرفي إلى إثبات مسألة النسب مما يصعب دور القاضي في البحث عن الحقيقة.
كما أن المشرع الجزائري تفطن عند التعديل الجديد لقانون الأسرة لمسألة وجوب وضع حماية قانونية للزوجة حتى يتيسر لها الحصول على حقها أمام القاضي عند طلبها للتطليق على أساس المادة 53 فقرة 06 و المادة 08 و 08 مكرر كأثر يترتب عن تعسف الزوج و تدليسه عن سوء نية على زوجته، و عن الضرر المادي و المعنوي اللاحق بالزوجة ، و لا يتمادى في استعمال هذا الحق بوجود هذا الرادع و الضمانة القانونية الفعالة . (1)
المطلب الثالث : تطبيقات قضائية عن الحالة الواردة بالمادة 53 ف 6 من ق ا الجزائري
لقد كان للمحكمة العليا عدة اجتهادات قضائية كان لها من الأهمية في إثراء وتبيان جوانب التعسف والضرر الناجم عنه في مجال تعدد الزوجات، ومن بين القرارات الصادرة ما يلي:
" المبدأ: عدم العدل بين الزوجات يشكل الضرر المعتبر شرعا طبقا للفقرة 6 من المادة 53 من
ق أ و يبرر بالتالي حق الزوجة المتضررة في طلب التطليق " ملف 356 997 قرار بتا ريخ
12/07/2006) مجلة المحكمة العليا العد د الثاني 2006 / 441 ص حيث أنه جاء في تسبيب قضاة المحكمة العليا خلال منا قشتها للأوجه المثارة مجتمعة :
" لكن حيث أن قضاة الموضوع قالوا في حيثياتهم بأن طلب المطعون ضدها مبرر نظرا للضرر الذي لحقها من طرف الطاعن لتقاعسه في العدل بينها وبين ضرتها والاعتداء عليها و هو ما يشكل الضرر المعتبر شرعا طبقا للفقرة 06 من المادة 53 من ق أ ، زيادة على استمرار الشقاق بينهما بالرغم من صدور حكم بالرجوع يوم 26/11/ 2002وتمادي الطاعن في إيذائها بالضرب هذا من جهة.
و من جهة ا أخرى لم يثبت قضاة الموضوع نشوز الزوجة المطلقة طبقا للقانون، ومن ثم حكموا للمطعون ضدها بالتعويض، بالتالي يكون ما ينعيه الطاعن بهذه الأوجه غير سديد يتعين رفضها و تبعا لذلك رفض الطعن".
ـــ (حيث أن قضاة الأساس استنتجوا من وقائع الدعوى بما لهم سلطة تقديرية مطلقة بأن بقاء الزوج مع زوجته الثانية بعيدا عن الزوجة الأولى فيه ضرر ، وأن بقاء الزوجة الأولى وحدها في الواحات بينما يسكن الزوج في العاصمة مع الزوجة الثانية ، مخالف لأحكام العدل المأمور بما شرعا ).
(م.ع.ع.أ.ش03/ 02 / 1971 ن . ق 1972 عدد 02 / ص 41 ).
ــ " حيث أن الزوج لم يقم بواجباته الزوجية تجاه المدعية في الطعن بمضي معظم أوقاته مع الزوجة الثانية ، و بالتالي فإن الزوج لم يطبق قاعدة المساواة بين الزوجتين طبقا للشريعة الإسلامية".

كما ﺃنه ﺃثناء تواجدي بمحكمة ورقلة لقضاء فترة التربص المقررة في السنة الثالثة وجدت حكما صادرا عن قسم الأحوال الشخصية ، تكلم عن التعسف في حالة تعدد الزوجات ،والأثر المترتب عن ذلك ،وقد جاء في تسبيب المحكمة مايلي :
( حيث أنه تبين للمحكمة من خلال الحكم الجزائي الصادر عن محكمة ورقلة بتاريخ 11/03/07، رقم فهرس 1546/ 07، الذي يدين المدعى عليه بجنحة السب والشتم ومخالفة الضرب والجرح العمدي على شخص الضحية التي هي زوجته المدعية ، ﺃنه يسيء معاشرتها ويضربها ، كما تبين للمحكمة من خلال عقد الزواج الصادر عن بلدية الرويسات بتاريخ 04/07/2007، تحت رقم 255 أن المدعى عليه تزوج بزوجة ثانية ، ولم يقدم ما يثبت إخبار زوجته المدعية بهذا الزواج ، مما يشكل مخالفة للمادة 08 من قانون الأسرة مما يجعل طلب المدعية للتطليق مؤسس قانونا طبقا للمادة 53 الفقرة 06 ، والفقرة 09 ، من ق.ﺃ مما يتعين الاستجابة لها.
حيث أن طلب المدعية الرامي إلى تعويضها مؤسس طبقا للمادة 53 مكرر من ق.ﺃ. مما يتعين الاستجابة لها.( حكم بتاريخ 14/10/08 رقم فهرس 1622/08 )
( ﺃنظر في الملحق الخاص ببعض نماذج الأحكام الخاصة بفترتي التربص بمحكمتي برج بوعر يرج و ورقلة ).
المخالف لفحوى المواد 08/ 08 ، مكرر و53 فقرة 06 ، من ق، ﺃ، ج . وقد أرفقت بالملحق بعض النماذج عن الطلاق التعسفي وحالة التطليق للضرر السالف ذكرها.