بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

22 يوليو 2011

قانون الكسب غير المشروع بين الشرعية والمشروعية

بعثت ثورة ( 25 ) يناير 2011 ، قانون الكسب غير المشروع رقم 62 لسنة 1975 إلى الحياة بعد أن كان نسيا منسيا ، وكان أخر عهد القانون تطبيقه على محافظ الجيزة الأسبق ورئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة فيما أسند إليه أنه حصل لنفسه وزوجته وولديه القاصرين كسب غير مشروع بسبب استغلاله للوظائف التى تولاها حيث دانته محكمة الجنايات
وإذ طعن المتهم على الحكم قضت محكمة النقض بتاريخ 28/4/2004 ببراءة المتهم مما أسند إليه وهو حكم أثار عند صدوره جدلا ، كما عجت الصحف السيارة بالتعقيب عليه تأييداً وإنكاراً لاعتناقه بأسبابه نعيا على القانون بعدم دستوريته وهو الجدل الذى أعيد إلى المشهد مجدداً فى ضوء ملاحقة رموز النظام السابق ممن رضعوا المال العام حراما ، وشبوا عليه فطاما ، فطاب لهم الحرام وحلا لهم مغنما
وقد أقام حكم النقض عماد ماقضى به على أن المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع رقم 62 لسنة 1975 أقامت قرينة مبناها افتراض حصول الكسب غير المشروع بسبب استغلال الخدمة إذا طرأت زيادة فى ثروة الخاضع لاتتناسب مع موارده متى عجز عن إثبات مصدر مشروع لها ، وهو مايخالف نص المادة ( 67 ) من الدستور من أن الأصل هو البراءة
تقديرنا لقضاء محكمة النقض فى شأن عدم دستورية المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع :
لاجدال فى أن حكم محكمة النقض فيما قضى به من براءة المتهم قد تنكب صحيح القانون ، وخالف المستقر عليه من أحكام المحكمة الدستورية العليا ، بل ومن قضاء محكمة النقض ، بل يخال لنا أن ذلك الأنموذج المثالى للخطأ المهنى الجسيم على تفصيل هذا بيانه :
أولا : عدم أحقية الحكم ـ أو أى محكمة ـ فى رقابة دستورية القوانين أو الامتناع عن تطبيقها
يجمع غالب الفقه على أن جميع المحاكم فى مصر على اختلاف أنواعها ، ودرجاتها فقدت حقها فى التصدى لرقابة دستورية القوانين أو الامتناع عن تطبيقها ركوناً إلى :
1 ـ أفصح الدستور صراحة ـ فى المادة 175 ـ على أن تتولى المحكمة الدستورية العليا ، دون غيرها ، رقابة دستورية القوانين واللوائح ، وفى ذلك دلالة على عدم اختصاص المحاكم العادية بالنظر فى دستورية التشريعات ، كما أكملت المادة ( 29 ) من قانون المحكمة الدستورية تأكيد ذلك بنصها على أن للمحاكم إذا قدرت عدم دستورية أن توقف الدعوى ، وأن تحيله الى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستوريته
2 ـ أن الدستور أكد ولأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية على مركزية الرقابة وحصرها فى المحكمة الدستورية العليا وهو ماأكدته المادة ( 25 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979فى المادة ( 25 )
3 ـ أن نظام مركزية الرقابة يؤدى إلى تفادى عيوب النظام اللامركزية وعدم الاستقرار فى الأحكام القانونية الذى يتحقق من تنافر وجهات النظر ، فقد تقرر جهة دستورية قانون ، على حين تقرر أخرى عدم دستوريته ، وهو ماأكدته المذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة الدستورية العليا بأن القانون قد حرص على أن يكون لهذه المحكمة دون غيرها القول الفصل فيما يثور من منازعات حول دستورية القوانين واللوائح ، وهو اتجاه يكفل القضاء على عدم الاستقرار فى المعاملات ،كما يحقق وحدة فى التفسير ، ويساعد على بث الانسجام فى الصرح التشريعى ، ويجنب إشاعة القلق ،والتضارب فى الأحكام
4 ـ ويؤيد الفقه ماتقدم حيث ذهب الدكتور / وحيد رأفت بأنه لايعارض أحد فى انفراد المحكمة الدستورية العليا بالرقابة على دستورية القوانين ، فتلك هى وظيفتها الأولى ، وأهم أسباب وجودها بدلا من أن ينعقد الاختصاص لشتى المحاكم كبيرها وصغيرها فتتضارب الأحكام ، وتعم الفوضى
5 ـ والقضاء الدستورى كما يرى الدكتور فتحى عبد الصبور متفرد فى اختصاصه بمهمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، فأما انفراده بالرقابة فعلته أن مشاركة جهات أخرى فى هذه الرقابة من شأنه أن تتضارب به الأحكام والآراء حول دستورية القوانين وعدم دستوريتها وهو ماكان يحدث قبل قيام القضاء الدستورى المتخصص
6 ـ أن المحكمة الإدارية العليا قد تواترت أحكامها ـ سواء فى ظل أحكام المحكمة العليا أو المحكمة الدستورية ـ ومن ذلك حكمها فى الطعن رقم 528 لسنة 18 ق ، والطعن 832 لستة 24 ق ـ على أن المحكمة العليا هى الجهة القضائية المختصة دون غيرها بالفصل فيما يثار أمام الجهات القضائية من دفوع بعدم دستورية القوانين ، ويكون ممتنعا على المحاكم الأخرى التصدى للفصل فى هذه الدفوع الدستورية
ووفقا لما تقدم فان محكمة النقض بامتناعها عن تطبيق نصوص قانون الكسب غير المشروع جاوزت ولايتها وهو ماانحاز إليه الأستاذ الدكتور إبراهيم درويش وقتها وطلب إحالة المنازعة الى المحكمة الدستورية العليا
ثانيا : أدلة حكم محكمة النقض بمخالفة قرينة المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع لأحكام الدستور ( عرض وتعقيب )
خلص حكم محكمة النقض إلى أن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد تواتر على القضاء بعدم دستورية جميع النصوص القانونية التى تتعارض وافتراض براءة المتهم وصون الحرية الشخصية من كل عدوان فلاسبيل لدحض البراءة بغير الأدلة التى تقدمها النيابة العامة ، وتبلغ قوتها الاقناعية مبلغ الجزم واليقين مثبتة بها الجريمة التى نسبتها للمتهم فى كل ركن من أركانها وبغير ذلك لاينهدم أصل البراءة ، كما لايملك المشرع أن يفرض قرائن قانونية لإثبات التهمة أو لنقل عبء الإثبات على عاتق المتهم وامتنعت المحكمة عن تطبيق النص وهو قول مردود عليه جملة وتفصيلا :
1 ـ فإما إنكار الحكم على المشرع وضعه للقرائن القانونية فمردود بأن ذلك أمر يقدره المشرع ، وليس للمحكمة أن تتسلط على السلطة التشريعية ، فضلا عن أن المشرع لم يضع هذه القرينة بالنسبة للكسب غير المشروع ، بل وضعه حين قدر أن هذه القرينة مما تلائم قواعد الإثبات ، وحسبنا أن نشير إلى نص المادة (330 ) من قانون العقوبات والتى عد فيها المشرع كل تاجر متفالسا بالتقصير متى كانت مصروفاته الشخصية أو مصاريف منزله مصاريف باهظة وهى قرينة تناهض أصل البراءة بمفهوم الحكم
2 ـ أن قضاء محكمة النقض بدوائر مغايرة قد خالف هذا الحكم حين أقر بحق المشرع فى وضع القرائن القانونية عامة ، وفى سلامة القرينة المقررة بالمادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع خاصة ، فالثابت من قضاء محكمة النقض بجلسة 27/12/1965 فى الطعن رقم 1356 لسنة 35 ق أنه اعتبر عجز الموظف عن إثبات مايملكه قرينة مقبولة على أن الزيادة فى ماله إنما حصلت فى استغلاله لوظيفة هى بذاتها من نوع الوظائف التى تتيح هذا الاستغلال ، ولم تر المحكمة عدم دستورية المادة المشار إليها
3 ـ أن استدلال حكم محكمة النقض بقضاء المحكمة الدستورية العليا فى شأن ماقضى به من نصوص تتعلق بمخالفة نص المادة ( 67 ) من الدستور استدلال فى غير موضع النص ، فالنصوص التى عرضت لها المحكمة كانت تتعلق بآحاد الناس ، ولم تتعلق بمن يشغل وظيفة عامة ، ويتأكد ماتقدم أن المشرع لم يجز إثبات القذف إذا تعلق بآحاد الناس ، وأجاز إثباته إذا تعلق بمن يشغل وظيفة عامة ، ودون أن يعتبر الحكم ذلك إخلالا بمبدأ المساواة المنصوص عليه فى الدستور
4 ـ أن قضاء المحكمة الدستورية العليا ومن ذلك حكمها فى الطعن رقم 42 لسنة 16 ق بجلسة 20/5/1995 ليتشدد فيمن يشغل الوظائف العامة ، وبما يغلب أن تقضى المحكمة بدستورية المادة الثانية إذا طعن بعدم دستورية هذه المادة ، ودليل ماتقدم أن لها قضاء متواتراً بأن انتقاد القائمين بالعمل العام وإن كان مريراً يظل متمتعا بالحماية التى كفلها الدستور لحرية التعبير عن الآراء بما يكفل الحق فى تدفق المعلومات وانتقاد الشخصيات العامة بمراجعة سلوكها وتقييمه وهو حق متفرع من الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشئون العامة الحريصين على متابعة جوانبها السلبية
5 ـ أن ليس من محكمة النقض أن تمتنع عن تطبيق نص قانونى مادام النص لم يلغ من السلطة المختصة التى تملك التشريع ، أو لم يقض من المحكمة الدستورية العليا بتعطيل مفعوله متى قضت بعدم دستوريته
ثالثا : قرينة المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع لم توضع إعتسافاً ، بل مهد لها المشرع بأن افترض البراءة افتراضا ، ثم نقل عبء الإثبات فحسب على الخاضع فى إثبات ماهو ثابت أصلا وفرضا
لم يضع المشرع القرينة المنصوص عليها فى المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع اعتسافا ، بل مهد لهذه القرينة القانونية بأن استوجب على الخاضع لأحكام هذا القانون تقديم إقرارات ثلاث ، أولها : عند بداية خدمته ، ثم الاقرار الدورى ، ثم إقرار نهاية الخدمة
وقد استوجب المشرع أن يقدم الخاضع بالإقرار الأول ( إقرار بداية الخدمة ) بيانا بالذمة المالية ، وذمة الزوجة ، والأولاد القصر ، كما يتعين أن يتضمن الاقرار الأموال الثابتة والمنقولة ، ثم إقرار كل خمس سنوات على تقديم الاقرار السابق ، وكذلك إقرار عند انتهاء الخدمة
والأصل أن هذه الاقرارات حجة على المقر بما دون فيها ، فإن طرأت زيادة عليها فان على الخاضع أن يثبت مصدرها ، فالمشرع نقل عبء الإثبات الى الخاضع بعد أن ثبت لديه ماهو ثابت أصلا وفرضا بإقرار الخاضع ، فهو يستصحب ذلك الثابت ، وعلى الخاضغ إثبات مايخالفه بحسبانه مدعيا بخلافه
ويتأكد سلامة ماسبق أن المشرع لم يرتق بهذه القرينة الى القرائن القانونية القاطعة وهى التى لايجوز إثبات مايخالفها ، بل جعلها قرينة بسيطة ، ويجوز للخاضع أن يثبت بكافة طرق الإثبات مصدر ماطرأ من زيادة على ثروته التى قدرها بنفسه ابتداء وبغير تدخل من المشرع فى ذلك التقدير
مدى اتفاق قانون الكسب غير المشروع مع الشريعة الإسلامية
أولى الإسلام أرباب الوظائف العامة عنايته ، فاستوجب اختيارهم من أهل العلم والدين وذوى الإصلاح والتقوى ، كما استوجب حسابهم حساباً شديداً ، ومن الأثر ماروى به رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعطاه الزكاة قائلا هذا لكم ، وهذا أهدى لى ، فخطب عليه السلام فى الناس منكراً على كل من يعمل بالخدمة العامة أن يجنى من عمله شيئا ، ثم قال فلينظر أحدكم إذا جلس فى بيته أيهدى إليه أم لا
ثم جاء خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده ونهجوا ذات النهج فى محاسبة أرباب الوظائف العامة ، فقد كان عمر بن الخطاب يأمر إذا قدم عليه العمال أن يدخلوا نهاراً ، ولايدخلوا ليلاً كيلا لايحتجبوا شيئا من الأموال
كما روى أن عمرا صادر أموال أبى هريرة عامله على البحرين لأنه اجتمعت له عشرة آلاف وقيل عشرون ألفاً بعد أن عقب بأن خيله تناسلت ، وسهامه تلاحقت ، وأنه أتجر ، فقال عمر انظر إلى رأس مالك ورزقك فخذه ،واجعل الآخر فى بيت المال
كما صادر عمر نص مال عمرو بن العاص عامله على مصر لأنه فشت له فاشية من متاع ورقيق وانية وحيوان ، ولم يكن له حين ولى على مصر ، فادعى عمرو أن أرض مصر مزدرع ومتجر ، وأنها أثمان خيل تناجت ، وسهام اجتمعت ، وأنه يصيب فضلا عما يحتاج إليه لنفقته
كما شاطر عمر أموال النعمان بن عدى عامله على ميسان ، ونافع بن عمرو الخزاعى عاملة على مكة ، ويعلى بن منية عامله على اليمن
وبالجملة فإن أحكام قانون الكسب غير المشروع لايناقض أحكام الشريعة الإسلامية ، وهى المصدر الرئيسى للتشريع فانه لايناقض أحكام أى من مواد الدستور ، سواء كانت أصل البراءة أو غيرها فما يكون لأحكام الشريعة إلا أن تقر إلا ماهو حق وعدل

ليست هناك تعليقات: