بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا

مجلة المحاماة - العدد الأول والثاني والثالث والتاسع والعاشر
السنة الرابعة والعشرون - سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر سنة 1943

أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا
محاضرة ألقاها الأستاذ محمود كامل المحامي بنادي المحامين في مساء يوم 26 مايو سنة 1944

المحاماة ضرورة تحتمها فكرة العدالة - نظرة الفقه والقضاء في فرنسا إلى المحامين - بيريه - نافر - لابوري - بريسون - فيفاني - هنري روبير - ميليران - اقتراحات في سبيل المحاماة بمصر.
يقول النقيب فرناندباين Fernand Payen والأستاذ جاستون دوفو gaston Duveau في كتابهما (مهنة المحامي وتقاليد المحاماة) La profession de l’Avocat et les usages du Barreau.
(لقد وجد المحامون منذ حرم على الناس أن يفضوا الخلافات التي بينهم بالقوة وسواء كانت القوانين مسهبة مفصلة أو موجزة مقتضية فإنها - في الواقع - تبدو دائمًا غامضة وناقصة فلا يمكن أن تكفي بعض صيغ تصاغ فيها مواد قانون لحل الخلافات التي لا حصر لها والتي يحتمل أن تنشب بين الناس، بل كيف يمكن للشارع أن يتنبأ بكل أنواع تلك الخلافات لكي يواجهها بتشريعه ؟ ففي كل مكان حيث يوجد نص من نصوص القانون يجب أن يوجد أولاً قاضٍ لتفسيره وتطبيقه على الحقائق، وحيث يوجد القاضي يجب أن يوجد إلى جانبه - على الأقل - محاميان.
وكل متقاضٍ يخلط بين مصلحته وحقه وبين حقه الذي يطالب به والحق الذي يقره القانون نفسه وأكثر المتقاضين تمسكًا بأحكام الضمير لا يتورع عن تضحية كل الاعتبارات ما دام في ذلك تمكينًا له من الوصول إلى حقه الذي يقره القانون.
ولذلك اتضحت فائدة اتخاذ بعض وسائل الحيطة لحماية القضاة - بقدر الإمكان - من الوقوع في الخطأ، ولكي يظل المتقاضون - رضوا أو كرهوا - ملتزمين حدود العدل في خصوماتهم، ولم يجدوا لتحقيق ذلك أصلح من أن يوسطوا بينهم وبين القضاة رجالاً يحترفون مهنة الدفاع عن المصالح العادلة، ويتخذون أساسًا لحرفتهم الحرص على قواعد العدل والخلق القويم.
هذا سبب أول من أسباب وجود المحامين، ولكنه ليس السبب الوحيد، فحتى لو راعى المتقاضون ضمائرهم فإن وجود المحامين يظل ضرورة حتمية.
وإذا سأل أحدهم عن السبب فيكفي أن يستمع في مكتب محامٍ إلى صاحب قضية وهو يعرض قضيته على محاميه، ثم يستمع إلى نفس القضية بعد ذلك من المحامي في ساحة المحكمة وهو يعرضها ويناقش وجهات النظر فيها.
أي عمل شاق قام به المحامي في تلك الفترة !
فهم ما قاله صاحب القضية، والتنبؤ بما سكت عنه واستخلاص المهم، ونبذ التافه، واستنباط تاريخ الدعوى من واقع مستنداتها، وشرح الأسباب، وإبداء الدوافع، وتبرير الأخطاء، كل ذلك يقوم به المحامي أثناء عرض الوقائع، وإيضاح النقط الغامضة، وسد الثغرات الناقصة، والتوفيق أحيانًا بين طرفي الخصومة، يقوم به المحامي أثناء تفسيره للعقود المحررة بين المتقاضين، وتحليل المبادئ القانونية والبحث عن الأحكام السابقة التي قررت نفس المبادئ فيما مضى والتعليق عليها، والتوفيق بينها وتطبيقها على النزاع المعروض، يقوم به المحامي عند مناقشة الناحية القانونية من القضية.
آه ! كم يُعاني القضاة لو تركوا وجهًا لوجه مع المتقاضين:
ولكن هذا ليس كل شيء، فحتى لو وهب القضاة القدرة على معرفة كل شيء فإن وجود المحامي تحتمه - مع ذلك - ضرورة نفسية عميقة، فإن الله يعرف كل شيء ومع ذلك فإن بينه تعالى وبين الناس وسطاء، وإلى هؤلاء الوسطاء القديسين يتوجه الناس بما يريدون لا إلى الله تعالى مباشرةً، فيجب أن يكون أمام المتقاضين شخص يطمئنون إلى الاعتراف له بدخيلة نفوسهم رجل مثلهم، رجل يختارونه هم، ينصت إليهم دون أن يكون شريكًا لهم في آثامهم أو أخطائهم ولكن في رفق ودعة، إن النفوس المتأثرة بالنظريات الهندسية، والنفوس الفقيرة الساذجة لا تستطيع أن تهضم كل ذلك إلا بصعوبة، فإذا كانت تقتنع بالنظر إلى المرئيات فإنني على استعداد لأن أضع أمامها لوحة فنية رمزية قديمة موضوعة في أحد متاحف إيطاليا، ففي الوسط جلباب العدالة وفي يدها سيف وميزان وفي طيات ثوبها لعب صغيرة ترمز إلى القضايا، حقيبة نقود وقطيع من الماشية، ومنزل، وقلب، ومن كل جهة أقبل المتقاضون وقد أعمتهم مصالحهم، وتقلصت أصابعهم على عقود ورسائل، وصفحات من كتب القانون وشهادات وإقرارات ونشرات مطبوعة.. مساكين.. فهل يعلم أكثرهم دراية قيمة ما بيده وقيمة ما يقدمه إلى الآلهة ؟ ولكن بين العدالة والمتقاضي يرى في الصورة رجل آخر هادئ لا مصلحة شخصية له، وهو أول من يصلح لكي يدرس ويقدر كل تلك الأوراق المبعثرة، وهو الذي سينبذ ما يثير الشك وما ينم عن التلفيق، وهو الذي سيضع في كفة الميزان ما له وزن صحيح، ومن يدري ؟ ربما التقط من تحت قدمي موكله ورقة قاطعة في الدعوى ألقاها الموكل جهلاً منه مع أن عليها تتوقف ثروته وشرفه وحياته).
ولقد هضم الفرنسيون الذين أخذنا عنهم مجموعة قوانيننا كما أخذنا عنهم أنظمتنا القضائية بما فيها نظام نقابتنا هذه الفكرة الرائعة عن المحاماة وسأقتصر هنا على إعطاء حضراتكم مثلاً واحدًا عن مدى تقديرهم للمحامي… مثلاً عمليًا ناطقًا، رأيته عند زيارتي لسراي محكمة الاستئناف بباريس أو (سراي العدل)، كما يسميها الفرنسيون إذ لفت نظري تماثل بيريه Berryer النقيب الفرنسي وقد نحته المثال شابو Chapu ليقام في تلك المحكمة وهو يمثله مرتديًا ثوب المحاماة وقد اعتمد بيده اليسرى على منصة ووضع يده اليمنى على قلبه، وقد علمت أن هذا التمثال يلعب دورًا فعالاً في حياة المحامين الذين يترددون على محكمة باريس، فقد جرت العادة على أن يحدد المحامون وموثقو العقود وكتبتهم مواعيدهم أمام ذلك التمثال الذي يذكرهم بالرجل الذي كان مجده مجدًا للمهنة التي يتشرفون بالانتساب إليها.
وأثارت زيارتي لسراي العدل في باريس في نفسي الطلعة إلى معرفة الكثير عن (بيربيه) فاتضح لي أن ذلك التماثل المقام له في داخل محكمة باريس ليس هو الوحيد، إذ أن له تمثالاً آخر من البرونز نحته المثال (بار) Barre أقيم في مارسيليا أمام سراي العدل عام 1875 يمثله واقفًا وقد اعتمد بيده اليسرى على منصة الخطابة.
ولم يقتصر الأمر لتخليد ذكرى كبار المحامين في فرنسا على إقامة التماثيل بل إن الأجيال الحديثة من رجال القانون قد اشتركت في ذلك التخليد بوضع رسائل الدكتوراة عن أولئك المحامين، فقد نشرت إحدى تلك الرسائل التي كانت معدة لتقديمها إلى جامعة فرنسية عن (آراء بيرييه) Les Idées de Berryer وواضعها هو لويس مارشان Louis Marchand وكاتب مقدمتها هو شارل مورا Charles Murras المفكر الفرنسي الكبير.
استعراض حياة كبار المحامين إذن، كيف تكونوا، كيف نجحوا ماذا فعلوا لمهنتهم ولوطنهم، طريقتهم في التفكير، وسائلهم في العمل - هذا الاستعراض (البيوجرافي) يكفي لإعطائنا فكرة موجزة سريعة عن الذروة التي وصلت إليها المحاماة في فرنسا وعن الأثر الإيجابي الذي أحدثته في المدنية الفرنسية بكافة مظاهرها، قضائية، أو اقتصادية، أو أدبية، أو سياسية، وسأكتفي في هذه باستعراض حياة عشرة من كبار المحامين الفرنسيين الذين برزت أسماؤهم في تاريخ المحاماة بفرنسا، بل في العالم، والذين أهلتهم المحاماة لكي يلعبوا على مسرح الحياة الدولية أدوارًا هامة تثبت بالدليل القاطع أن تكوين المحامي تكوينًا علميًا وخلقيًا سليمًا هو خير ذخيرة يدخرها الوطن لوقت شدته.

بيير بيرييه Pierre Berryer

ولد بيير بيرييه في باريس عام 1790 وتوفي عام 1868، ورغم ميوله الملكية الكاثوليكية - في مستهل حياته - فإنه تولى الدفاع عن أنصار الجمهورية بعد أن عادت الملكية إلى فرنسا للمرة الثانية، شهرته تعود إلى القضايا التي تولى فيها الدفاع عن حرية الصحافة وفي عام 1826 تولى الدفاع عن لامنيه Lamennais الذي حوكم بسبب نشره كتاب (الدين وعلاقته بالنظام السياسي والمدني) De la religion consideree dans ses rapports avec l’ordre politique et civil.
وفي عام 1830 تقدم إلى الانتخابات العامة كملكي متطرف فانتخب نائبًا ولما عرض عليه بوبشياك polignac الاشتراك معه في الوزارة رفض.
وقد أوفده ملكيو باريس المناصرون لأسرة بوربون ضد أسرة أورليان عام 1832 إلى دوقة بيري Berry ليحاول أن يثنيها عن عزمها الجنوني وهو الهرب إلى غرب فرنسا ولكنه خاب في تلك المحاولة وقبض عليه وقدم إلى محكمة الجنايات إلا أن النيابة العامة تنازلت عن اتهامه وصدر الحكم ببراءته بإجماع الآراء..، ولم يكد يبرأ حتى تولى الدفاع عن شاتو بريان وأيد الالتماسات التي قدمت للإفراج عن دوقة بيري.
ويبدو من مجموعة خطب بيرييه أنه وإن كان ملكيًا يؤمن بحق أسرة بوربون في الحكم إلا أنه كان نصيرًا للآراء الحرة الديموقراطية، وهي آراء أوذي أصدقاؤه بسببها.
ولما سقطت الملكية في فرنسا عام 1848 أصبح الخطيب العظيم الذي ناصرها من مؤيدي الجمهورية، فانتخب نقيبًا للمحامين وفي العام التالي انتخب عضوًا في (الأكاديمي فرانسيز) وأعفاه الإمبراطور من التقليد القديم الذي كان يقضي بأن يتوجه العضو الجديد لزيارة رئيس الدولة، وفي عام 1863 اجتمعت نقابات المحامين الفرعية واحتفلت به احتفالاً رائعًا بمناسبة مضي خمسين سنة على اشتغاله بالمحاماة، وقد ظل خلال الأعوام الخمسة الأخيرة من حياته عضوًا في المجلس التشريعي نائبًا عن مارسيليا.
كان بيرييه خطيبًا مفوهًا امتاز بصوت حبيب إلى آذان المستمعين له رنين مؤثر كما امتاز بخيال لامع وذكاء تسمو به بديهة حاضرة نادرة المثال، وقد جمعت خطبه البرلمانية ومرافعاته في كتاب باسم (مؤلفات بيرييه) Oeuvres de Berryer نشر عام 1868.
ولقد شرح لويس مارشان Louis Marchand في رسالة الدكتوراة التي أعدها عن (آراء بيريه) كيف كان ذلك المحامي العظيم يتقدم العصر الذي عاش فيه باعتناقه لآراء تخالف الآراء السائدة إذ ذاك فإن آراء جان جاك روسو الفلسفية والاجتماعية عن الفردية l’individualisme والتي بسطها في إعلانه لحقوق الإنسان Droits de l’homme قد سيطرت على أفكار الناس في القرن التاسع عشر كما أنها أوحت بكل التشريعات الفرنسية ولكن بيرييه خالف رجال عصره ونهض للدفاع عن حق (الجماعة) التي كان يعدها الهدف الحقيقي لكل إصلاح، فالفرد يجب أن يكون تابعًا للمجموع الذي يعيش فيه وللنوع الذي ينتمي إليه والذي لا يمكن النظر إليه منفصلاً عنه، وفي رأي بيرييه أن الفرد يجب أن يوضع وسط الحياة الصحيحة التي يعيشها، وسط حياته العائلية، أو الريفية أو البلدية أو الصناعية حيث يتجلى بكامل قيمته.
وكان بيرييه خصمًا عنيدًا لكل طغيان ولذلك عارض الفكرة التي كانت سائدة في عصره عن وجوب إحاطة الأسرة بهالة مقدسة، فكان يرى - مع المحافظة على الحقوق العائلية ومع معارضة فكرة الطلاق - أن العلاقة بين الابن وأبيه يجب أن تكون على أساس من الصداقة والود المتبادل وكان يسمح بأن يخالف أحد أبناء الأسرة آراء غيره من أعضائها وكثيرًا ما أعلن بيريه آراء سياسية تخالف آراء أبيه.
ومن آرائه التي تضمنتها رسالة الدكتوراة التي وضعها مارشان والتي أعلنها عام 1831 (في أثناء حياة الشعب الطويلة تتكون مبادئ دستوره الثابتة)، وبعد عشرين عامًا أصر على ذلك الرأي وفسره قائلاً (عندما يتضح أن مبدأ ما قد حمى الشعب وثبتت صلاحيته له وأن ذلك الشعب قد تقدم في ظل قانون ما فإن الواجب احترام ذلك المبدأ المنقذ وعدم تعريضه للمناقشة).

جول فافر Jules Favre

قيد جول فافر اسمه بجدول المحامين بليون عام 1831 وعاش حياة سياسية صاخبة جللها موريس لو كلو Mourice Leclus في كتابه Essai de Biographie Historique et morale المطبوع في باريس عام 1912، وقد قدم للمحاكمة عام 1834 لأنه غالى في نقد حكم أصدرته محكمة ليون بإدانة طالب حر النزعة، ولما دافع عن المتهمين في (قضية إبريل سنة 1835)، وجد من الجمهوريين - أنصاره - من ظنوا أنه ما حضر إلى باريس إلا للبحث عن مسرح أجدر بعرض مقدرته الخطابية الرائعة من ليون ! وقد ذاعت هذه الفكرة عنه وطاردته طول حياته فكان يوصف بأنه (المحامي الذي لا قلب له ولا إيمان له والفصيح بلا مثل أعلى ولا اقتناع الذي يسخر موهبته العظيمة لخدمة الأحقاد والمطامع الشخصية).
ولكن هذا الرأي القاسي إنما كان وليد الفورة الوقتية وتأثر خصومه السياسيين باعتبارات الوقت الراهنة إذ أن جول فافر قد اشتغل إلى جانب المحاماة بالسياسة والصحافة اشتغالاً آثار اهتمام الرأي العام به فكان ينشر مقالاته الداعية إلى تحبيذ الحكم الجمهوري في جريدة Le precurseur بليون، ولكن اشتغاله بالسياسة وبروزه فيها لم يمنعاه يومًا عن أداء واجبه كمحامٍ حتى ولو أغضب رجال حزبه، ولعل أكبر شاهد على ذلك مرافعته الخالدة في القضية المعروفة باسم (قضية إبريل سنة 1835)، فإن أحد رجال بوليس باريس واسمه (باسكييه) خالف القانون ففرض على بعض المتهمين في قضية سياسية محامين معينين ومنعهم من اختيار محامين من أصحاب الآراء السياسية الحرة، وقد تناقش الجمهوريون - الذين كان جول فافر أحد أقطابهم - فيما إذا كان المحامون منهم يتولون الدفاع عن أولئك المتهمين وانتهوا إلى قرار بالامتناع عن ذلك ولكن جول فافر كان الوحيد الذي رأى أن تسخر كل موارد الفصاحة القضائية لخدمة أولئك المتهمين، وغادر ليون إلى باريس وتولى الدفاع عنهم باعتبار أن أداء ذلك الواجب احترام لمبدأ لا يمكن المساس به وهو مبدأ إسمي من كل اعتبار من اعتبارات الخطط الحزبية السياسية، ورغم المجهود الجبار الذي بذله من أجل أولئك المتهمين وسخر فيه نبوغه فقد حكم بإدانتهم ووقع بعد القضية صريع المرض.
ومن آرائه السياسية التي كان يتخذ مرافعاته وسيلة لإعلانها قوله أثناء مرافعته في قضية (أورسيني).
(إن الحكومات تسقط بسبب الأخطاء التي ترتكبها هي نفسها، والله - الذي يحصى ساعاتها في سر حكمته - يعد لأولئك الذين لا يعترفون بقوانينه الأبدية نكبات لا يتوقعونها).
وكان معتزًا بكفاءته إلى حد أنهم عندما طلبوا إليه أن يخطب جماهير الناخبين للإدلاء ببرنامجه السياسي أبى وأجاب.
(إن على الناخبين أن يعرفوا إذا كانوا في حاجة إلي).

فرناند لابوري Fernand Labori

ولد فرناند لابوري بمدينة (ريمس) في 18 إبريل سنة 1860 ومات في باريس عام 1917، وقيد اسمه في جدول المحامين في 11 نوفمبر سنة 1884، وعين عام 1888 سكرتيرًا لمؤتمر المحامين وألقى في ذلك المؤتمر خطابًا رائعًا عن قضيته Collier، وقد كشف هذا الخطاب عن روحه النفاذة المتجردة تمامًا عن الهوى وتحقق ذلك فيما بعد عند مرافعته عن Vaillant في قضية اتهامه بإهانة مجلس النواب عام 1894 وقضية الشريف عبد الحكيم ضد وزارة الخارجية الفرنسية عام 1904، وقضية الشيخ شارل هومبير ضد جريدة (الماتان) عام 1908، وقضية مدام Caillaux التي اتهمت بقتل رئيس تحرير جريدة (الفيجارو) عام 1914، وقد انتخب نقيبًا للمحامين من عام 1911 إلى عام 1913، وقد دعي إلى إنجلترا عام 1901، ورأس المحامي الإنجليزي Mathews - بصفته رئيس جمعية المحامين الإنجليز المعروفة باسم The Hardwick Society - الحفلة التي أقيمت لتكريمه فلما مات (لابوري) قال (ماتيوز) عنه:
(إن لابوري بالجرأة المزهوة والوفاء لعمله كمحامٍ يحتل مكانة عالية في قائمة أكبر محامي العالم، أن اسمه وشهرته لا يمكن أن يزولا بل سيعيشان طويلاً، ما دام نظام المحامين قائمًا على الأرض)، وكتب عنه النقيب Chenu الذي كان محامي الخصوم في قضية مدام كابو.
(إن قامته العالية المستقيمة، وصدره العريض، وكتفيه اللتين تشبهان أكتاف المصارعين - كل ذلك في تجانسه وانسجامه ينم عن قوة لا يمكن قهرها، وقسمات وجهه الجميلة المنتظمة كانت تتفجر حياة في حدة الصراع، كما كانت عيناه ترسلان شررًا وكانت عاطفته المهتاجة تنشر الشحوب على وجهه، وإذا بصوته يرتفع وينتفخ ويدوي منفجرًا كصوت الرعد).

Sa stature haute et droite, sa large poitrine, ses epaules athlethiques donnaient l’impression d’une force irrisistible en son harmonie, Ses beaux traits reguliers s’animaient at souffle du combat, ses yeux lancaient des flames, L’emotion repandait la paleur sur son visage, La voix grandissait, s’enflait, grondait dans un fracas de tonnere.

ولا شك أن مرافعة لابوري في قضية الضابط دريفوس وفي قضية أميل زولا تعتبر عملاً تاريخيًا ارتفع بذلك المحامي العبقري إلى أسمى مراتب البطولة في الانتصار لفكرة العدل ومقاومة الظلم وتثبيت دعائم حرية الرأي إذ أنه لما أدين الضابط دريفوس، واقتنع الكاتب الفرنسي الخالد أميل زولا أن المجلس العسكري الذي أدانه قد تجنب سبيل العدل نشر مقاله المعروف بعنوان (إني أتهم J’accuse) في جريدة الفجر L’aurore فقدم إلى محكمة جنايات السين بتهمة إهانة المجلس العسكري بباريس وتولى لابوري الدفاع عنه وظل يترافع من 7 إلى 23 فبراير 1893، ورغم ذلك حكم بإدانة زولا وكان الحكم يقضي بحبسه سنة وغرامة ثلاثة آلاف فرنك واضطر زولا بعد ذلك إلى هجرة وطنه كمدًا لأنه كان لا يزال يؤمن بأن العدل لم يجرِ مجراه السليم في محاكمة دريفوس ولم يعد إلى فرنسا إلا لما تقررت إعادة المحاكمة أمام المجلس العسكري بمدينة (رين)، وعاد لابوري إلى المرافعة عن الضابط دريفوس أمام ذلك المجلس العسكري واستمرت مرافعته من 7 أغسطس إلى 9 سبتمبر سنة 1899 وفي أثناء هذه المرافعة أطلق عليه رصاص مسدس كاد يرديه قتيلاً فلما حضر جلسة 22 أغسطس سنة 1899 امتنع عن المرافعة ونشر أسباب امتناعه وهذه الأسباب تعود إلى الخلافات السياسية الشديدة بين أحزاب فرنسا التي اتخذت قضية دريفوس ذريعة لتحقيق مآرب شخصية كان يرى المحامي الخالد أن العدالة يجب أن تكون بمنأى عنها.
وكان لابوري يصدر مجلة (المجلة الكبيرة La Grande Revne )، وقد نشر فيها مذكراته عن قضية دريفوس.

تابع المحاضرة التي عنوانها أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا لحضرة الأستاذ محمود كامل المحامي والمنشورة في العدد الأول والثاني والثالث من مجلة المحاماة السنة الرابعة والعشرون
إوجين بريسون Eugiéne Brisson

ولد في Bourges في 31 يوليو سنة 1835 ومات في باريس في 13 إبريل سنة 1912 واختفى بموته منظم من أنشط منظمي الجمهورية الثالثة، وأحد المدافعين المتحمسين عن السياسة الحرة اللادينية، وقد قيد بريسون اسمه في جدول المحامين بباريس عام 1854، وساهم في تأسيس جريدة L’Avenir أول صحيفة جمهورية صدرت في الحي اللاتيني، وفي عام 1864 التحق بتحرير جريدة الـ Temps، وفي عام 1865 ساهم في تحرير الـ L’Avenir national وفي عام 1869 أسس الـ La Revue politique التي عطلتها الحكومة الإمبراطورية بعد سنة من صدورها، وفي تلك الأثناء أصبح بريسون من قادة المعارضة الجمهورية لحكم نابليون الثالث، فحشد لمعارضة الإمبراطورية نشاط المحافل الماسونية التي بدا نفوذه عليها جليًا منذ عام 1856، وقد انتخب عضوًا عن باريس في الجمعية العمومية، ونجح أكثر من مرة في إقناع تلك الجمعية بوجهات نظره في المسائل العامة، وعرف عن نائب باريس إتقانه فن الكلام، وكانت خطبه غالبًا موجزة ولكنها امتازت بالوضوح وقوة الحجة، وفصاحة اللسان، والنغم الملون والردود المفحمة القوية، فهو الذي قاوم في تلك الجمعية اقتراح Ernoul الذي كان يرمي به إلى أن تكون اللجنة الدائمة بتلك الجمعية مختصة بنظر القضايا الصحفية التي يكون المتهمون فيها قد ارتكبوا جريمة إهانة الجمعية حتى عند انتهاء دور انعقادها، وفي عام 1874 طالب بحق الدولة دون غيرها من الهيئات الدينية في منح الدرجات الجامعية، وقد انتخب بعد حل الجمعية العمومية عضوًا في مجلس النواب، ثم رئيسًا للجنة الميزانية ثم - في نوفمبر عام 1881 - رئيسًا لمجلس النواب بدلاً من جامبيتا، وكان قد أصبح في تلك الأثناء الرئيس الذي لا ينازع لحزب اليسار المتطرف وللحزب الراد يكالي وتولى الحكم مرتين إحداهما عام 1885، والأخرى عام 1898 وفي كلتا المرتين كان يدعى إلى الحكم في ظروف دقيقة، بل خطرة، ولكنه كان يضطلع بالمسؤولية في جرأة سجلها له التاريخ بالتقدير، ففي عام 1885 خلف Jules Ferry، وتولى إجراء الانتخابات فكان أول ما فعله أن نصح الموظفين بالحيدة التامة، وفي عام 1889 هدد النظام البرلماني الجمهوري بالخطر فقد قام الجنرال بولانجييه Boulanger بحركة انضم إليها الساخطون على ذلك النظام فأحيل الجنرال إلى الاستيداع وتقدم إلى الانتخابات العامة وانتخب عن دائرتين وكان من برنامجه تعديل الدستور فقدم إلى المجلس اقتراحًا بهذا المعنى، ولكنه أمام المعارضة القوية التي لقيها استقال لكي يتقدم من جديد إلى ثلاث دوائر انتخابية فانتخب عن واحدة منها ومنذ ذلك الوقت اعتبر الجمهوريون الجنرال بولانجييه خطرًا على الجمهورية وصدر أمر بالقبض عليه فهرب إلى بروكسل ولم يجد الدستور الفرنسي حصن الجمهورية الحصين محاميًا يذود عن كيانه وقتئذٍ إلا (بريسون) فألقى خطابًا حماسيًا قرر المجلس بعد الاستماع إليه طبعه ونشره.
وقد دعي (بريسون) إلى الحكم للمرة الثانية في ظروف لا تقل دقة وحرجًا بعد أن استقالت وزارة ميلين Meline بسبب قضية دريفوس التي تولى المرافعة فيها النقيب لا بوري كما قدمنا ولما اقتنع المحامي الوزير بوجوب إعادة النظر في تلك القضية صمم على ذلك رغم معارضة وزراء الحربية الثلاث الذين كانوا يتعاونون معه وهم كافيناك Cavaignac وزير لندن Zurlinden وشانوان Chanoine وقد اضطر الأخير إلى الاستقالة أمام النواب في جلسة 25 أكتوبر سنة 1898 واضطر بريسون إل اعتزال الحكم.
ولم يعتبر بريسون استقالته انتهاء لعمله السياسي، بل استمر يقاوم فكرة التوسع الاستعماري لأنه تبين أن وراء ذلك التوسع تختفي بعض عوامل الرجعية العسكرية التي تهدد كيان الجمهورية كما قاوم نفوذ الكنيسة.
وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن بريسون كان مثالاً لإنكار الذات، وأنه طول مدة رياسته لمجلس النواب - وقد تولى تلك الرئاسة تسع عشرة مرة وتوفي وهو رئيس للمجلس - كان نموذجًا رائعًا لها وقد امتاز بقدرته على تفادي المناقشات المجدبة وسيطرته على سير المناقشات وكانت تكفي كلمة واحدة منه لإيقاف مناقشة واحدة يرى المصلحة في إيقافها، كلمة قوية أو لاذعة… كان محايدًا حيدة مطلقة، وقد أثرت عنه كلماته التي أبان بها خصومه السياسيين عند موتهم.

رينيه فيفياني Rene Viviani

ولد فيفاني في 8 نوفمبر سنة 1863 وتوفي في 6 سبتمبر سنة 1925 وهو مدين بحياته السياسية إلى المحاماة فقد درس الحقوق في باريس ثم بدأ الاشتغال بالمحاماة في الجزائر ولما عاد إلى باريس اشتهر بالدفاع عن قضايا العمال والداعين إلى حركات الإضراب وكان يروج للآراء الاشتراكية في جريدة La Petite Republique وفي عام 1893 انتخب نائبًا عن الحي اللاتيني، وكان يتخذ مقعده في مجلس النواب إلى جانب جوريس Jaurès الزعيم الفرنسي الاشتراكي، وقد تولى إدارة مكتبي الأستاذين Waldeck Rousscau, Brisson المحامين الفرنسيين الذائعي الصيت نفس الوقت الذي كان يتولى أثناءه تحرير جريدة المصباح La Lanterne مع ميليران.
وفي عام 1899 حمل مجلس النواب على إعطاء النساء حق الاشتغال بالمحاماة، وبلغ من إيمانه بقضية المرأة ومساواتها للرجل أن كان المقرر للمؤتمر النسوي الذي عقد عام 1900.
وفي عام 1901 بدأ المناقشة في مشروع القانون الخاص بالنقابات والجمعيات بخطبة كبرى قال فيها:
(إن الأديان السماوية تعزي الناس عن شقائهم بأن تعدهم بتعويض هذا الشقاء في الآخرة، وأنا أطلب منكم أن تعارضوا الأديان الأرضية التي تحاول هي الأخرى أن تعزي الناس عن شقائهم وذلك بأن تضمنوا لهم سعادة أبنائهم)، وفي عام 1906 استدعاه كليمنصو لكي يتولى منصب وزير العمل والتأمين الاجتماعي وقد جاء في خطاب فيفياني وهو يحمل على النظم الاجتماعية العتيقة التي كان يرمي إلى تعديلها جملته المشهورة.
(لقد أطفأنا في السماء أنوارًا لا يمكن أن تضيء بعد).

Nous avons eteint dans le ciel des lumieres qu’on ne rallumera pas

وفي عام 1913 تولى وزارة المعارف العمومية في وزارة دوميرج، ولما قدم مشروع قانون التعليم الحر (اللاديني) إلى مجلس الشيوخ خطب مؤيدًا المشروع فقال مشيرًا إلى مؤلفات روسو وفولتير:
(إن آلاف الرجال قد استجابوا لصوت فلاسفة القرن الثامن عشر الأحرار فانفصلوا عن التقاليد القديمة وأبو أن يسلموا بالعقائد التي كانت تنام بين السحب إلى جانب الخرافات، كما أبو أن يستمروا على إحناء جباههم صاغرة تحت سماء وعدتهم بمعجرات لم تضِء أبصارهم قط، واعتنقوا عقيدة جديدة، إن الإنسانية يجب أن تشتري نفسها، بشقائها وبعملها)، وهذا الرأي - وإن تضمن مهاجمة عنيفة ظالمة للأديان السماوية جميعها - إلا أنه يدل على طريقته في الخطابة ووسيلته في إحداث التأثير.
وفي 13 يونيه سنة 1914 تولى فيفياني رئاسة الوزارة، ولما بدأت الجيوش الألمانية هجومها خطب يوم 4 أغسطس في مجلس النواب خطبة تفيض حماسة قال فيها إحدى جملة المشهورة وهي:
(لا لوم علينا الآن ولذلك لن يتطرق الخوف إلينا فيما بعد) Nous sommes sans reproche, nous serons sans peur وعقب هذه الخطبة نهض النواب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وهتفوا له طويلاً.
وفي إبريل سنة 1917 عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب مع الحلفاء ضد ألمانيا سافر مع الجنرال جوفر إلى واشنجتون وسمح له بالخطابة على منبر (الكونجرس) ومما قاله إذ ذاك:
(سمعت أول أمس أحد خطبائكم يقول في تأثر - قسما بقبر واشنجتون ! أجل، قسمًا [(1)] أيتامًا ! قسمًابمهاد الأطفال وبالقبول ! قسمًا).
وقد جمعت خطبه السياسية بعنوان (الجمهورية والعمل) Republique, Travail (1907) معاشات عمال المصانع والعمال الزراعيين، Les Retraites ouvrieres et paysannes (1910) البعثة الفرنسية إلى أميركا La Mission francaise en Amerique (1917)، وقد كتب بضعة فصول في كتاب جان جوريس الذي أسماه (التاريخ الاشتراكي) L’Historie socialiste.

هنري روبير Henri Robert

ولد هنري روبير في باريس عام 1863 وقيد في جدول المحامين أمام محكمة الاستئناف عام 1885 وبدأ حياته القضائية سكرتيرًا للنقيب (دورييه) ثم تصدر محامي محكمة الجنايات بمرافعاته الواضحة، الملتهبة المثيرة وقد جمع كل المظاهر الخارجية التي تحتاج إليها مهنة المحاماة، فله وجه معبر شديد التأثير تضيئه عينان تشعان حيوية وتنفذان بنظراتهما إلى النفس من خلف (نظارته).
وكان يُخيل إلى الكثيرين خطأ أن دور المحامي ينحصر في الكلام ولكن عند هنري روبير رسالة أخرى هي الإصغاء، متابعة الشهود أثناء أداء شهادتهم وعدم إضاعة شيء مما يقولونه، وتسجيل جملة ما أفلتت من ممثل الاتهام للاستفادة منها عند الحاجة، وتنسيق كل هذا في ذاكرته لاستخدامه أثناء المرافعة، هذا العمل يستدعي دقة نفاذه، وقدرًا كبيرًا من السرعة في وزن الأمور، وقد جعل من ذلك كله (فنًا) نبغ فيه، فن أن يتمكن في لباقة من أرجاء التصريح بالنتيجة النهائية لمناقشة الوقائع، النتيجة التي يشوق إلى معرفتها بالتلويح لها أكثر من مرة تلميحًا يثير الطلعة وينتهي بفتنة المستمعين إليه، وبتلهفهم وهم يحبسون أنفاسهم في انتظار تلك النتيجة فإذا أبرز تلك النتيجة أخيرًا - فإن أولئك المستمعين يحسون براحة الاقتناع..، وعندئذ يكسب الموقف تمامًا.
وقد انتخب هنري روبير نقيبًا عام 1913 ففاز على النقيب لابوري وظل نقيبًا إلى عام 1919 وأصدر كتابًا أسماه المحامي L’avocat.
ومن أشهر القضايا التي شهدت أروع مرافعاته قضية الأومباشي جيوميه Jeomay الذي اتهم بقتل بائعة نبيذ في شارع (سان جيرمان) بباريس انتهت بالحكم على المتهم بالإعدام رغم الجهد الذي بذله هنري روبير وقضية جبرييل بومبارد Gabrielle Bompard البغي التي استدرجت محضرًا من محضري المحاكم إلى غرفة بأحد الفنادق بالاشتراك مع عشيقها ميشيل إيرو Michel Eyaurd وقتلاه خنقًا انتهت بالحكم بالإعدام على إيرو وبسجن جبرييل عشرين عامًا مع الأشغال الشاقة.
وهنري روبير هو القائل (إن كلمة جملة لا فائدة منها يقولها المحامي أثناء مرافعته تهدد مصلحة الموكل بالخطر) Dans une plaidoirie, toute phrase inutile est dangereuse.
وهو القائل (إننا ممثلون نلعب أدوارنا بدون إجراء تجارب سابقة عليها Nous sommes des acteurs qui ne jouent qu’en repétition générale.

إليكساندر ميليران Alexandre Millerand

ولد بباريس في 10 فبراير سنة 1859 وتلقى دراسة الحقوق بها ثم قيد في جدول المحامين المقبولين أمام محكمة الاستئناف، واختير - بعد بوانكاريه - ليكون سكرتيرًا لمؤتمر المحامين وسرعان ما برز اسمه في الأوساط القضائية حتى أصبح مكتبه في مقدمة المكاتب وأهمها، وفي عام 1885 تقدم إلى انتخابات مجلس النواب فلم ينجح ولكنه أعاد الكرة في الانتخابات التكميلية وانتخب نائبًا، وعندئذ اتخذ مكانه في أقصى اليسار إلى جانب كليمانصو، ورغم حداثة عهده بالحياة البرلمانية فإنه سرعان ما اشترك في بضع مناقشات سياسية كشفت عن مواهبه وساهم في التشريعات الخاصة بتعديل قانون العقوبات، وتعديل المواد الخاصة بالتفليس، ولم يكن للحزب الاشتراكي وقتئذٍ إلا عدد محدود، كما أنه كان مفتقرًا إلى التنظيم البرلماني، فامتاز ميليران من بين أعضائه بتوجيهه نشاطه إلى المسائل الاجتماعية، وبدا ذلك النشاط منذ عام 1888 في اهتمامه بتشغيل النساء والأطفال في المصانع، ولما تقدم إلى انتخابات عام 1889 كان من برنامجه الاقتصار على مجلس نيابي واحد واختيار القضاة بواسطة الانتخاب العام، وظل ميليران مدة طويلة متأثرًا بمدرسة كليما نصو السياسية، وتلميذًا له، فاقتبس عنه روح الكفاح واتخاذ موقف الهجوم العنيف، وفي عام 1893 تولى رئاسة تحرير جريدة (الجمهورية الصغيرة) La Petite Republique وهي جريدة كان قد أسسها جامبيتا وتولى تحريرها فيفياني فجعل منها ميليران لسان حال الحزب الاشتراكي في الدعوة إلى الإصلاح، وقد ألف يوم 30 مايو سنة 1896 في مؤتمر المجالس البلدية الاشتراكية خطابه التاريخي الذي دعا فيه إلى نظام الـ Collectivism وقد قال في ذلك الخطاب جملته المشهورة (إننا وإن كنا دوليين إلا أننا في نفس الوقت فرنسيون ووطنيون فلم تخطر لنا قط تلك الفكرة الكافرة المجنونة فكرة أن نبعد عنا ذلك العامل الذي لا مثيل له من عوامل التقدم المادي والأدبي الذي صهرته القرون كما يصهر الحديد، والذي يسمى الوطن الفرنسي).
ولما تولى تحرير جريدة (المصباح) La Lanterne مع فيفياني وبريان عام 1898 دعا إلى الاشتراكية بطريقته الخاصة وهي المزج بين المثل العليا واعتبارات العقل العملية، فكان يرى أن الحزب الاشتراكي يمكنه أن يتولى السلطات العامة بابتعاده عن أعمال العنف واقترابه من الحقائق، وفي عام 1899 عهد إليه فالديك روسو - في وزارته - بمنصب وزير التجارة فاعتبر الاشتراكيون قبوله الاشتراك في وزارة (برجوازيه) خيانة لمبادئهم وعرضوا الموضوع على المؤتمر الاشتراكي الذي عقد في باريس، وبعد مناقشات حادة انتهى إلى قرار بمشروعية الموقف الذي اتخذه ميليران.
وقد أثبت ميليران بعد ذلك في مختلف المناصب الوزارية التي تولاها كيف يستطيع المحامي أن يعمل وينتج ويفيد حتى في الوزارات (الفنية) البعيدة الصلة بالقانون، إذ أنه قبل أن يتولى وزارة الأشغال عام 1909 في وزارة بريان درس التنظيم الاقتصادي للمراكز التجارية في فرنسا فأعاد تنظيم الإدارة المركزية لتلك الوزارة، وأنشأ إدارة للمناجم، وعدل تشكيل المجلس العام للطرق والكباري واللجنة الاستشارية للسكك الحديدية، وخلق مكتب السياحة وجعل للمواني استقلالاً عن الإدارة المركزية في باريس وأدخل عدة إصلاحات على أنظمة البريد، ولما أضرب عمال السكك الحديدية أثناء توليه تلك الوزارة في أكتوبر عام 1910 لم يتردد ميليران - رغم انتمائه هو ورئيس الوزارة إلى الحزب الاشتراكي - في قمع حركة الإضراب بالشدة، كما أنه لما تولى وزارة الحرب من يناير عام 1912 إلى يناير عام 1913 في وزارة بوانكاريه امتاز بتنفيذ عدة مشروعات هامة منها استصدار القانون الخاص بالرتب العسكرية والدعوة إلى التوسع في استغلال موارد إفريقيا، وترقية معسكرات التدريب والأخذ بفكرة المدفع الخفيف في سلاح الفرسان وتشجيع سلاح الطيران وإعادة تنظيم هيئة أركان الحرب.
وفي 18 يناير سنة 1920 عهد إلى ميليران برئاسة الوزارة بعد كليمانصو فشكل وزارته في ثماني وأربعين ساعة عقب استقالة (النمر)، واحتفظ لنفسه بوزارة الخارجية وعكف على حل المشاكل المعقدة التي أنشئت عقب السلم.
وفي 23 سبتمبر عام 1920 انتخب رئيسًا للجمهورية الفرنسية بأغلبية 695 صوتًا من 892 وقد صرح قبل قبوله الترشيح لذلك المنصب السامي بأنه لن يقنع بسكنى (الإيليزيه) كرئيس دولة لا عمل له إلا إمضاء المراسيم بل أنه يحتفظ لنفسه بالحق في التدخل تدخلاً لم يجرؤ عليه أسلافه من رؤساء الجمهورية في توجيه السياسة الخارجية لكي يضمن استمرارها على النسق الذي وضعه لها، وقد أثار ذلك التصريح سخط بعض البرلمانيين الذين لا يوافقون على أن تكون لرئيس الجمهورية سياسة شخصية وجعله يفقد بعض الأصوات.
وقد ظلت حياة ميليران في المحاماة حافلة بأهم القضايا التي عرضت على المحاكم الفرنسية ومن مرافعاته التي تهم المحامين المصريين مرافعته بالإسكندرية أمام محكمة الاستئناف المختلطة بجلسة 18 مارس سنة 1913 عن شركة هليوبوليس ضد الحكومة المصرية في قضية الخلاف بينهما على ضريبة المباني، فإن الشركة نازعت الحكومة حقها في اقتضاء ضريبة على تلك المباني باعتبار أنها شركة أجنبية تتمتع بامتياز عدم الخضوع للتشريع المحلي وكانت الحكومة المصرية قد حصلت على موافقة الدول صاحبة الامتيازات على فرض تلك الضريبة على مباني مدينة القاهرة فاعتبرت هليوبوليس جزء من القاهرة وأصدرت مرسومًا في 15 يونيو سنة 1909 بسريان الضريبة وحكم لصالح الشركة ابتدائيًا فاستأنفت الحكومة الحكم وترافع عنها الأستاذ جرانمولان.
ولعل خير وصف لطريقة ميليران في مرافعاته هو ما نشره فارين Henri Varenne في مجلة Revue du Palais عام 1905 إذ قال: أرأيت أمام المنازل التي تبني تلك الآلة القوية التي ترفع الصخور إلى قمة المبنى ؟ إن حركتها بطيئة، بل ثقيلة، ولكن المحرك يدور بلا انقطاع دورات متسقة النغم، بينما ترتفع الصخرة بجهد وفي غير اهتزاز، مشدودة بالسلسلة دون أن يحدث قط أن تتوقف أثناء ارتفاعها، وفجأة تتعالى الأصوات الحديدية وتحتد، وتتجمع الأدلة وتعلو إلى الذروة وتنفصل الصخرة عن الآلة الرافعة وتدور السلسلة دورات جنونية ثم تهوي نتيجة المرافعة بكل ثقلها، موجزة مفترسة مجهزة على الخصم كتلة واحدة في سخرية ساحقة.
اقتراحات في سبيل المحاماة بمصر
حضرة الأستاذ النقيب - حضرات الزملاء،
لو أنني تلوت على حضراتكم بعد هذه الصورة السريعة التي قدمتها لبعض النقباء وكبار المحامين في فرنسا ما قيل في تمجيد المهنة التي نتشرف بالانتساب إليها والسمو بها إلي ذروة أشرف المهن العقلية لما انتهيت الليلة ولكني أكتفي بأن أقول لحضراتكم بأن فولتير قد قال (إن شيشرون لم يكن قنصلاً أي أول رجل في العالم إلا لأنه كان محاميًا) Cicèron ne fut Consul, c’est à dire le premièr homme de l’Univers, que pour avoir été Avocat وإن جان ده لابرويير Jean de La Bruyére قد قال (إن مهنة المحامي شاقة، مرهقة، وتتطلب فيمن يزاولها ذخيرة غنية وموارد عدة.. إنني أجرؤ على القول إنه في نوعه يشبه في نوعهم أوائل الرجال الذين بشروا بالأديان السماوية).
فماذا فعلنا في مصر لتدعيم كيان هذه المهنة السامية ؟
إنني أؤمن بأن نقابتنا قد أدت معظم الواجب عليها وأن التشريعات المتوالية منذ تأسيس النقابة في عهد المحامي الزعيم سعد زغلول باشا عام 1912 أيام كان وزيرًا للحقانية إلى حين صدور القانون رقم (135) لسنة 1939 قد حققت للمحامين كثيرًا من مطالبهم وساوت بين حقوق وواجبات رجال القضاء الجالس وهم القضاة وحقوق وواجبات رجال القضاء الواقف وهم المحامون ولكنني أعتقد أن هناك أشياء أخرى يجب عملها للمحاماة في مصر وإنني أتقدم إلى الأستاذ النقيب الذي تكرم بتوجيه الدعوة إلى هذه المحاضرة بهذه الاقتراحات موجزة.
أولاً: أن ينتدب مجلس النقابة بعضًا من المحامين في مصر والإسكندرية لإلقاء محاضرات على طلبة السنة النهائية بكليتي الحقوق بجامعتي فؤاد الأول وفاروق الأول عن تاريخ المحاماة في مصر وفرنسا وتقاليد المهنة وواجبات اللياقة بين الزملاء وحياة كبار المحامين في مصر وفرنسا مع تحليل (بيوجرافي) لهم في مختلف نواحي نشاطهم القضائي وغير القضائي وأن تكمل هذه الدراسة بنماذج تعطى لأولئك الطلبة عن الطريقة التي تولى بها كبار أبناء المهنة المرافعة في القضايا الهامة التي نظرتها المحاكم المصرية.
ثانيًا: إقامة تمثال في بهو محكمة الاستئناف لمحامٍ مصري يجمع المحامون على أنه شرف المهنة واحترم تقاليدها وخدمها وإنني أعتقد أن هذا الإجماع سينعقد على اختيار المحامي الذي كان أول من رفعته المحاماة إلى مناصب القضاء العالي ثم إلى منصب الوزارة والذي صدر قانون النقابة في عهده وهو المغفور له سعد زغلول باشا.
ثالثًا: مطالبة وزارة العدل بتخصيص غرفة داخل محكمة الاستئناف لنقيب المحامين على أن يتولى سكرتاريته موظف من وزارة العدل وأن تحاط هذه الغرفة بكل مظاهر التبجيل التي تحاط بها غرفة رئيس محكمة النقض وأن تتولى الدولة دفع مرتبات الحجاب والسعاة التابعين لها لا لأن النقابة عاجزة عن دفعها ولكن احترامًا للمبدأ الساري في فرنسا وفي النظام المختلط المصري والذي يقضي بأن رئيس رجال القضاء الواقف لا يقل قدرًا عن رئيس رجال القضاء الجالس وأن خير وسيلة لحسم كل خلاف يحتمل أن ينشأ بين قاضٍ ومحامٍ هو الالتجاء فورًا إلى النقيب أو من ينوب عنه عند غيابه للبت فيه على أساس الزمالة المتبادلة بين القضاءين.


[(1)] غير واضح بالأصل.

الخدمة العامة والغرض الأسمى من المحاماة

مترجمة عن المستر ديكر شام المحامي بمدينة نيويورك بأمريكا
وواردة بمجلة هار فارد القانونية عدد نوفمبر سنة 1922

يُقدر عدد محامي الولايات المتحدة بنحو مائة وثلاثين ألف أدى كل واحد منهم إلا من استثني من محامي (إنديانا) امتحانًا خاصًا وضعت نظامه المحاكم ونص عليه القانون ليتبين منه سعة مداركه وقيمته الأدبية، وليس الأمر قاصرًا على هذا بل ينبغي على كل محامٍ أن يحافظ على شرف مهنته وأن يراعي الروابط الأدبية التي تضمن دوام التفاهم بين القضاء والدفاع،
ومما ساعد على تحقيق السير بمقتضى هذه القواعد ما للمحاكم من حق فصل المحامي الذي يأتي أمرًا يمس شرف مهنته أو كرامتها ومن ثم فقد جمع هذا النظام الذي لا مثيل له في أنظمتنا بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو ديمقراطي لأنه أفسح باب الدخول في المحاماة لكل من توفرت فيه الشروط الواجبة وأرستقراطي بالمعنى الصحيح لاقتصاره على فئة معينة من أهل العلم والأدب يستعان بهم على فهم قوانين البلاد ويركن إليهم في تمثيل الخصوم أمام القضاء.
على أنه يجب اعتبار مهنة المحاماة من وجهتين الأولى أنها تجمع بين الاستشارة وتمثيل الموكلين في مسائلهم القضائية والثانية أنها تضم نخبة من المتعلمين يمتازون بصفات خاصة فيهم لإلمامهم المتين بقوانين البلاد ودرايتهم بالوسائل المنطقية التي تساعد على التفكير وعلمهم بالنظام الدستوري وشكل الحكومة ولكفاءتهم التي تمكنهم من الاشتراك بطرق عدة في توجيه المجتمع في خطته السياسية.
ولذلك نجد طالب القانون أشد ما يكون حاجة إلى أمرين أولهما الإلمام بالقوانين إلمامًا يؤهله للنجاح فيما وضع من الاختبارات كشرط للاندماج في سلك المحاماة مع قوة فكر وغزارة مادة يساعدانه على إبداء أصوب الآراء للمسترشدين وإجادة درس القضايا والقيام بواجبه على الوجه الأكمل وبهذا يستطيع التغلب على صعوبات العيش الذي هو في الحقيقة منتهى أمل السواد الأعظم من طلاب الحقوق وإن تنوعت بقية الآمال لأن الأغلبية الساحقة لا تدرس القانون إلا لاتخاذه وسيلة من خير الوسائل وأفضل الطرق لاكتساب العيش، ولكن ما لهذا كانت المحاماة، والواجب أن يكون هم المحامي غير ذلك، لأنها مهنة أشرف مما يظن, وإلا لما اختلفت عن غيرها من المهن قيمة ولساوتها شأنًا ولكانت هي وصناعة السباك سواء.
والاشتغال بالقانون يتطلب الرسوخ فيه مع تعمق في البحث بعزيمة لا تعرف الكلل.
وينبغي أيضًا على المحامي أن يكون ملمًا بتاريخ البلاد وحضارتها، وعلى الأخص معرفة مدنية البلاد التي استمدت منها قواعد قانوننا الحديث مع دراية بالفلسفة حتى لا يخطئ في تطبيق القانون على الأعمال التي يأتيها الإنسان حتى درس العوامل الداخلية التي تجول في خاطره وعلم أخلاقه في المجتمع الذي يعيش فيه وعاداته وحالاته النفسية وفهم كل أسباب التطورات وماهيتها.
ليس القانون بتلك الكلمات الصامتة ينطق بها الشارع فتصبح قانونًا بل هو قابل للتطور والنمو تبعًا لنظام التطور الاجتماعي.
نعم قد تكون هناك بعض مبادئ دلتنا عليها التجارب يجب أن تبقى ثابتة ولكن هذا لا يمنع أن تكون معظم أحكام القانون في تقدم مستمر وأن المحامي الذي يودي الاستمرار في مهنته طبقًا لما تقتضيه الذمة يجب أن يتتبع تلك التطورات عن كثب وإلا عجز عن معاونة موكليه في معضلات أمورهم.
ومن أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المحامي متانة الخلق، لأن كثيرًا ما يكون لأخلاق من يتولى تسوية الشؤون بين الأفراد وبعضهم أو بينهم وبين الحكومة أثر كبير في حسم النزاع الذي قد يقصر عن الفصل فيه مجرد تطبيق القانون، وأن خير ما يضرب من الأمثلة على ذلك حالة المحامي ذي الضمير الحي الذي يسعى بنفوذه في فض خصومة قد يعلم أن الفوز فيها له ولكنها ربما كلفت موكله نفقات يثقل كاهله بها وتقضي مضجعه وتقل راحته وتفصم عرى الصداقة بينه وبين رفاق هم له غنية في الحياة لا لشيء سوى شفاء غليل حقد أو إشباع نهمة كيد، على أن مجاراة الموكلين في أميالهم قد تدر نفعًا للمحامي وتكسبه الشهرة الواسعة في مهنته ولكن إذا كانت أخلاق المحامي على ما وصفنا فإنه لن يتأثر في إرشاده لموكله بالمطامع المادية أو الرغبة في ذيوع الصيت.
ولئن كان أول واجب على المحامي أن يبذل قصارى جهده في إعداد نفسه للمهنة التي سيشتغل فيها ولما تتطلبه هذه المهنة من الجهود العظيمة في أول عهده بها فإن هناك أمرًا آخر أهم من هذا اعتبارًا يجب أن يكون نصب عين كل محامٍ مبتدئ ذلك هو الواجب الذي يدين به كل محامٍ للمجموع الذي هو أحد أفراده، فإن درس المحامي للقانون النظامي والقانون الوصفي درسًا متقنًا يجعله أقرب من غيره إلى إدراك تأثير ما يقترح من التدابير التي تتخذها الحكومة على الصالح العام وهذا يحتم عليه أن يقوم بنصيبه من الاشتراك في الشؤون العامة وأن يساعد مواطنيه على فهم الفرق ما بين التدابير النافعة وغير النافعة من أعمال الحكومة، فالتدريب على الزعامة وقيادة الجمهور هو ركن من أهم أركان العمل الذي يجب على كل محامٍ أن يعد نفسه له، وليس من الضروري أن يسعى لتقلد المناصب العامة، فإن المحامي الصغير الذي يعتمد في رزقه على مهنته قل إن يستطيع حمل أعباء وظيفة عامة ولكن أمامه أعمالاً كثيرة أخرى في إمكانه الاشتراك فيها كالعمل مع الحزب السياسي الذي ينتمي إليه أو حضور الاجتماعات السياسية المحلية وفي وسعه أيضًا أن يشترك من آن لآن فيما يسبق الانتخابات من المناقشات العامة وأن يكون دائمًا ملمًا بالأمور التي تكون موضع البحث والمناقشة بين الجمهور كالمسائل التشريعية التي لم يبت فيها والمزايا النسبية في الأشخاص الذين يرشحون أنفسهم للوظائف فإن في الأمة كثيرًا من الممالئين والمأجورين الذي يضرون بالناس تحت ستار النصح لهم كذلك كثيرًا ما تكون إرشادات الصحف وانتقاداتها منبعثة عن اعتبارات هي أبعد ما تكون عن فائدة المجموع فالمحامي النابه الذكي الفؤاد الذي يكلف نفسه مشقة فهم هذه المسائل يغلب أن يكون في استطاعته إمداد الجمهور برأي سديد واضح مقنع بعيد عن الأهواء والغايات فيسود رأيه هذا على رأي غيره من الكتاب المتحيزين أو الخطباء المأجورين مهما كثر عددهم.
وهناك طرق أخرى عديدة يستطيع أن يسلكها المحامون ليخدموا الجمهور، ولقد اشتهر عن المحامين في الجيل الأخير أنهم يؤثرون الفائدة الشخصية وإن تعارضت مع المصلحة العامة وأن حب المال وإن كان في الوصول إليه ما يمس بكرامة المهنة كثيرًا ما كان رائد أولئك النفر الذي بلغوا ذروة المجد في مهنة المحاماة، غير أن هذا النقد لا يخلو من شيء من التحامل والمبالغة لأن الغرض الأساسي من المهنة القيام بالواجب بصدق نحو الموكل وخدمة القضية وقلما رأينا محاميًا دعي إلى خدمة عامة فتأثرت أمياله وعواطفه بمصالح موكليه السابقين بل بالعكس نراه يبذل قصارى جهده في خدمة موكله الجديد وهو الشعب بمثل الإخلاص والنشاط اللذين هما أُس نجاحه في خدمة الأفراد الخاصة، وبقدر ما يستخدم المحامي وتجاربه لخدمة الجمهور تتحقق رغبته في نيل الشرف الرفيع وإعلاء شأن المهنة وأن صاحب الثروة أو العلم أو الكفاءة يحمل في عنقه واجبًا لمواطنيه هو أن يستخدم هذه الأمور للمصلحة العامة وأن الرغبة في تحمل المسؤوليات العامة ومشاركة الغير في أوطارهم وميولهم وأعمالهم المشتركة لمصلحة المجموع لا كبر مظاهر الأرستقراطية كما أبان ذلك إميل فاجيه.
إن ما للمحاماة في الولايات المتحدة من مكانة سامية راجع إلى ما يقدمه أفرادها من الخدمة العامة, فهذا المبدأ وهو مداومة العمل على خدمة الجمهور خدمة خالية من الغرض يجب أن يكون وجهة نظر كل طالب في الحقوق وكل محامٍ حديث العهد بالمحاماة فإنه هو السبيل الموصل للنجاح الذي يصبو إليه كل منهما.

مسؤولية المحامي في الجلسة أمام قاضي الإحالة

مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة الثانية عشرة - شهر فبراير سنة 1932

مباحث في مسؤولية المحامي في الجلسة أمام قاضي الإحالة
(1)

إن سلطة الحكم، في اعتداء وقع على المحكمة، سلطة استثنائية تتناقض مع كل أصول القضاء، ومع قواعده، ومع كل ضمانات العدالة، وهي ترتبط بكرامة القاضي نفسه، فالقاضي خصم، يوجه الدعوى ويحكم فيها، ثم هو يحكم لنفسه ولذاته، بل ولشهوة غضبه، ثم ينفذ الحكم حالاً، ولو مع الاستئناف، فهذه سلطة هائلة لا مثيل لها في أنظمة القانون، فلا تعطي إلا بنص صريح يؤكدها.
ولقد عنى الشارع، ببيان هذه السلطة في مواد متعددة - فوردت في المواد من (85) إلى (90) مرافعات، وهو خاص بالمحاكم المدنية، ولم تكن واردة في قانون تحقيق الجنايات الأول، فصدر بها دكريتو خاص في 27 نوفمبر سنة 1896 حيث جعل في المادة (244) من ذلك القانون، بنص معين، سنبحث فيه في موضع آخر، ثم تعدلت هذه السلطة في قانون تحقيق الجنايات الحالي، فتقررت في المادة (237) بحدود أوسع.
ويظهر من هذه المواد جميعها، أن ولاية الحكم في جنحة الجلسة إنما هي للمحاكم المدنية على اختلافها، وللمحاكم الجنائية كذلك، إذا جلست للحكم تعمل بمقتضى ولاية قضائية معينة فإذا وقعت جنحة عليها - أو أمام أنظارها، انقلبت محكمة جنحة - لها الحق أن تحكم فورًا على الطريقة المعروفة، فلا يمكن أن تقبل هذه الولاية إلا (لمحكمة) جلست للحكم فما يعرض عليها من النزاع، مدنيًا أو جنائيًا.
تظهر هذه الحقيقة بصفة قاطعة إذا لاحظنا الفارق بين المادتين (244) التي وضعها دكريتو يوليو سنة 1896، وبين المادة (237) الواردة في القانون الحالي، فإن هذه الولاية كانت معلقة في المادة (244)، على أن تكون المحكمة مختصة أصلاً بالفصل في الجنحة التي وقعت أما في المادة الأخيرة فقد محى الشرط وتقررت السلطة للمحاكم المعينة في المواد بغير نظر إلى نوع اختصاصها الأصلي الذي جلست لأجله.
وهذا يدل على أننا في معرض سلطة شاذة لا بد لها من نص خاص، فإنها أولاً لم تكن موجودة، ثم وجدت بقيد معين، ثم رفع القيد.
أما القاضي الذي يجلس لعمل آخر لا يشكل بجلسته محكمة تفصل قضائيًا في نزاع معروض فليس له تلك السلطة، بل كل قاضي يشكل محكمة لا تدخل في حدود تلك النصوص، أي لا تكون منعقدة بمقتضى قانون المرافعات، ولا بمقتضى قانون تحقيق الجنايات، لا يمكن أن يكون له هذه السلطة إلا بنص صريح.

(2)

على أننا إذا قصرنا البحث على التشريع الخاص بقاضي الإحالة لوجدناه قاطعًا في تأييد هذه الحقيقة، فإن قانون تشكيل محاكم الجنايات الصادر في سنة 1905 ورد فيه نظام الإحالة في المواد من (9) إلى (15)، ولم يتقرر فيه سلطة لقاضي الإحالة تنظم ما يجوز أن يحصل أمامه في الجلسة حتى ولو كان متعلقًا بمجرد التشويش، غير أن الشارع رأى أن نظام الجلسة، لا بد أن يكون في يد قاضي الإحالة، ولكن من حيث منع التشويش الذي يحصل فقط، فصدر تعديل بقانون نمرة (7) سنة 1914، أضاف إلى المادة (11)، مادة (11) مكررة، جاء فيها أن لقاضي الإحالة حقوق القاضي الجزئي ولكن فقط فيما يختص بنظام الجلسة discipline وإعلان الشهود وسماعهم.
ولا شك أن تقرير السلطة على هذا الوجه بالقيد المعين، لا يقبل المزيد ولا يدخل حق الحكم في جنحة تقع في الجلسة.
أراد القاضي أن يقدم دليلاً على ولايته فذهب إلى قانون المجالس الحسبية يستدل بنص فيه، على أن الشارع قيد رئيس المجلس الحسبي فجعل سلطته قاصرة على التشويش لا تمتد إلى الحكم في جنحة تقع في الجلسة.
التدليل غريب، فإن ولاية القضاء لا بد لها من نص يبينها، فلا تأتي من طريق التدليل النظري، ولا من طريق القياس أبدًا.
على أنه ليس قياسًا صحيحًا، أن نقول إن حرمان قاضي من ولاية معينة، معناه، إثباتها لقاضي آخر لم تقرر له تلك الولاية بذاتها، في أي نص من النصوص، فالقياس خارج عن حد المنطق خروجًا ظاهرًا.
بل إذا شئت الاستنتاج على الطريق الصحيح فلا بد أن تقول إن الشارع إذا كان قد منع قاضي المجلس الحسبي ورئيس جلسة من الحكم في الجنحة، فهو قد منع ومن باب أولى قاضي الإحالة من الحكم فيها أيضًا، لأن قاضي المجلس الحسبي إنما جلس ليحكم في حقوق الناس بل في أعز ما يحرص عليه الناس من حقوقهم، فليس غريبًا أن يكون له حق الحكم في جنحة وقعت في جلسته، فمنعه من هذا الحق يقتضي من باب أولى منع قاضي الإحالة منه.
ونرجع إلى القول بأن المسألة ليست مما يفصل فيها من طريق الاستنتاج، بل لا بد لها من نص صريح، وهو غير موجود بل النص الموجود قاصر على أن للقاضي (نظام الجلسة) وهذا صريح في أنه ممنوع من الحكم في جنحة.

(3)

على أن قاضي الإحالة ليس محكمة بحال من الأحوال، فلا هو محكمة مصر، ولا أية محكمة مدنية أخرى، ولا هو محكمة ابتدائية، ولا محكمة جزئية، ولا محكمة استئناف، لكنه قاضي إحالة فقط.
أنه لا يحكم في شيء أبدًا، لا في موضوع القضية المعروضة عليه ولا في أي أمر آخر لأنه لم يجلس ليحكم، وليس له أية ولاية من ولايات القضاء.
إنما ينحصر اختصاصه في أن يسمح للنيابة بتقديم الدعوى لمحكمة الجنايات، أو لا يسمح فعمله إذا بالخصومة إذا رأى أن يأذن، أو منع منها إذا رأى أن يمنع، وفرق بين الإذن بالخصومة وبين القضاء فيها، فسلطته إدارية، بل لا سلطة له في الواقع، فإن رئيس النيابة يستطيع أن يحفظ القضية بناءً على عدم صدق الشهود، أما قاضي الإحالة فهذا العمل متنازع فيه إذا صدر منه.
من أجل هذا، ورد في قانون تشكيل محاكم الجنايات أن قاضي الإحالة، ليس من الضروري أن يعقد جلسة بل يصح أن يؤدي مأموريته، بعد اطلاعه على الأوراق وبدون تحديد جلسة ولا إعلان أحد.
بل هو لا يختص بالحكم، حتى ولا بمصاريف الدعوى، فإذا كانت القضية فيها مدعي مدني وقرر القاضي بأن لا وجه لإقامة الدعوى، فلا يستطيع أن يحكم بإلزام المدعي المدني بالمصاريف ولا أن يقدرها بأمر يصدر منه بناءً على طلب المتهم.
وهذا يؤكد أنه ليس له أي ولاية قضائية في أي أمر من الأمور حتى ما كان ملحقًا بما ينظر فيه كالمصاريف، فمحال أن يكون له حق الحكم في جنحة تقع في جلسته.

(4)

ولا بد لنا أن نقارن بين نصوص القانون الفرنسي، والنصوص المصرية، فإن ذلك قاطع في أن قانوننا لا يمكن تطبيقه إلا على أساس أن قاضي الإحالة لا يجوز له أن يستعمل هذا الحق، ذلك أن قانون تحقيق الجنايات الفرنسي قضى في المادتين (504) و(505) أنه يعطي حق الحكم في جنحة الجلسة لكل محكمة، ولكل قاضٍ يجلس للقيام بأية مأمورية قضائية سواء كانت للحكم في نزاع أو للتحقيق البسيط، ما دام أن العمل حاصل علنًا، ولهذا كان لا بد للمفسرين والأحكام أن تتفق على أن هذا الحق مقرر لجميع القضاة على وجه العموم حتى لقاضي التحقيق.
أما الشارع المصري، فإنه وهو ينقل عن القانون الفرنسي لم يرد الأخذ بهذا التعميم، بل اختصر في نصوصه سواء في المرافعات أو في تحقيق الجنايات، على تقرير هذا الحق للمحكمة فقط، فالخلاف بينه وبين القانون الفرنسي، في أنه حذف كليمات (كل قاضي)، وفي هذا الحذف والعدول عن التعميم، وتقييد الحق بأنه للمحكمة، الدلالة القاطعة على أن قاضي الإحالة ليس له هذا الحق.

إن الحادثة ليست جنحة جلسة

أولاً: إن الحكم قد جردها من هذه الصفة:
قد يدهش القارئ لهذا الكلام، فيسأل، ولكن كيف جردها الحكم من هذه الصفة !! والحكم صريح في أنه يعتبرها جنحة وقعت في الجلسة !!!
إن لجنحة الجلسة، صفة خاصة، وأحكامًا كلها شاذة، ولا نريد أن نعيد منها هنا للمرة الثالثة ما كتبناه من قبل، ولكنا نذكر هنا ما لم نذكره فيما تقدم.
ذلك إن جنحة الجلسة هي الواقعة التي تقع ماديًا على المحكمة أو على أحد الناس، بحيث يلحظها الجمهور الحاضر، يشاهدها رؤى العين، ويدركها إدراكًا تامًا مهما كان إدراكه ضعيفًا، بحيث لا يتردد أحد في أنها جنحة وقعت فعلاً.
عند هذا تكون عقوبتها واجبة، وواجبة حالاً بلا إمهال، على اعتبار أن العقوبة هنا إنما هي في الواقع دافع عن النفس ومن شأن الدفاع عن النفس أن يكون ردًا سريعًا وأن يحصل في لحظة الاعتداء بلا إمهال ولا تأجيل !!
هنا يمكننا أن ندرك لماذا ثبت هذا الحق الشاذ للقاضي، فهو خصم، ومع ذلك فهو حكم، لأن هذا هو شأن حق الدفاع على وجه العموم، فلم تقرر هذه السلطة للمحافظة على كرامة القاضي كما يقال عادةً، فإن كرامة القاضي لا تتأثر باعتداء أي معتدٍ، بل يبقى جلاله بعد الاعتداء كما كان قبله أن المسألة أبسط من هذا، فقد رأى الشارع أن يعطي للمحكمة إذا انعقدت جلستها أن تدافع عن تلك الجلسة أو عن نفسها بطريق عينه، فلا بد أن يكون الاعتداء هنا ماديًا لا تختلف فيه الآراء ولا يحتاج لبحث، ولا لمداولة، وحينئذٍ يتحقق شرط الدفاع، وإلا فلا سلطة للمحكمة بأي حال من الأحوال.
ومن شروط الدفاع، بل شرطه الجوهري، أن يكون المعتدى عليه في حالة لا تمكنه من الالتجاء إلى السلطات العامة، بل يكون مضطرًا ماديًا أن يقابل الاعتداء بمثله، أما إذا كان في وسعه أن ينتظر، وأن يشكو، فقد سقط حق الدفاع.
ولقد حصل في حادثتنا، أن حضرة القاضي بعد أن وجه الاتهام ثم سمع الدفاع أجل الحكم إلى جلسة أخرى، فأثبت أن الواقعة قد خرجت من حدود الاعتداء المادي الظاهر وأنها تحتاج إلى مداولة، وتقبل اختلاف الآراء، فلا القاضي واثق أنه اعتدى عليه لأنه لا يزال في حيرة، ولا الجمهور من باب أولى يدرك هذا الاعتداء.
لهذا قرر القاضي، أن المسألة نزاع عادي لا بد من إحالته على الجهات المختصة، فلم يعد له الحق في أن يحكم في الواقعة بوجه من الوجوه.
إننا سواء بحثنا في نصوص القانون، أو في مطولات المفسرين، نجد تلك القاعدة مقررة بالنص هناك وهنا، ونجدها ثابتة بإجماع المفسرين.
إن قانون المرافعات جعل القاضي المدني مخيرًا بين أمور ثلاثة، فأما أن يحكم حالاً، وأما أن يؤجل الحكم ليوم معين، وأما أن يحرر محضرًا ويترك الفصل في الواقعة للحكم فيها بالطرق المعتادة مادة (89) و(90).
وإذا سألت ما هي الأسباب التي تقضي اختيار أحد هذه الأمور الثلاثة لا نجد لذلك قاعدة في القانون.
أما إذا أردت أن تتبين حكمة قانونية لكل من هذه الأمور الثلاثة، فلا تتردد في أن الحكم حالاً إنما يكون في حالة الاعتداء المادي الظاهر الذي لا يقتضي نزاعًا ولا يقبل دفاعًا ولا يحتمل مداولة، بل يكون الحكم فيه قاصرًا على مجرد تدوين واقعة مادية لا نزاع فيها، شاهدها الجمهور الحاضر، والجمهور في كل نظام هو ضمانة عدالة القاضي، فالعقوبة إنما تكون نتيجة حتمية أو ميكانيكية لتلك المشاهدة العامة وهذا القيد بذاته يرجع بنا إلى طبيعة حق الدفاع وسببه. ولقد قبل الشارع في المادة (90) من باب التساهل، وللمحكمة المدنية فقط جواز تأجيل الحكم إلى يوم معين، أما إذا توجه الاتهام وسمع القاضي المرافعة، ثم لم يعين يومًا محددًا للحكم فقد سقطت ولايته وارتفع اختصاصه وضاعت الإجراءات التي وقعت، ووجب تقديم الحادثة للفصل فيها بالطرق العادية.
أما في المحاكم الجنائية وقاضي الإحالة محضر لتلك المحاكم ودستوره في جميع أعماله إنما هو قانون تحقيق الجنايات، فقد جاءت نصوص القانون مخالفة لقانون المرافعات، وذلك سواء في القانون القديم أو في التعديل الجديد، ونصت صراحةً على ضرورة الحكم في الجلسة بدون تأجيل هذا نص المادة (244) في القانون القديم:
(الجنح والمخالفات التي تقع في الجلسة يحكم فيها حال انعقاد الجلسة، وذلك إذا كانت المحكمة مختصة والحكم الذي يصدر في هذه الحالة يكون نافذًا حالاً ولو مع الاستئناف).
أما القانون الجديد فقد أراد أن يزيد في التأكيد على ضرورة الحكم حالاً، فجاء نص المادة (237) كما يأتي:
(إذا وقعت جنحة أو مخالفة في الجلسة يحكم فيها في نفس تلك الجلسة).
وفي النسخة الفرنساوية: استعمل كلمتي seance tenante أي بدون أن يقوم القاضي للمداولة.
كل هذا لا يفهمه أحد إلا إذا فهم معنا، أن هذا حق دفاع، والدفاع من شأنه الاعتداء الذي لا يختلف فيه أحد، ومن شأنه أن يحصل ردًا سريعًا للاعتداء، وفي لحظته فإذا كان التأجيل في الاستطاعة فقد خرجنا عن حدود الاعتداء المادي الواضح، فتجاوزنا حدود الدفاع فسقطت سلطة القاضي ولا يجوز له الحكم.
لهذا اتفق جمهور المفسرين، عملاً بالنص عندهم أيضًا وهو موافق النص عندنا، على أن القاضي إذا أجل الحكم فقد سقط اختصاصه وتجرد عن حق الحكم في الدعوى وإن اختلف فقه المحاكم في هذه النقطة بذاتها.
يقول أصحاب البنديكت جزء (11) ما يأتي:

صفحة

فقرة



131

564

أن للقضاة أن يختاروا استعمال هذه الولاية الاستثنائية ولهم أن يقتصروا على تحرير محضر بالوقائع التي حصلت في جلستهم ويحيلوا صاحبها على المحكمة المختصة.



566

ولكن إذا اختاروا استعمال هذه السلطة فيجب عليهم أن يحكموا حالاً والجلسة قائمة، بمجرد إثبات الوقائع في المحضر. (فقد أراد الشارع بالمادة (505) أن يطبع في الأذهان بواسطة)





(العقوبة السريعة والشديدة روح احترام السلطة القضائية والأعمال العامة والقضاة الذين يؤدون التحقيقات المطلوبة). (فوستان هيلي جزء (6) فقرة (2928) ثم لوجرافون جزء (1) صفحة
(568) ثم كارنو جزء (3) صفحة (396) ثم بورجيون جزء (2) صفحة (454) ثم لوسيليه جزء (3) فقرة (1693) ثم شاسان جزء (2) فقرة (2054)



569

ولهذا فقد حكم أن قاضي الجنح الصغيرة والمخالفات إذا أجل الحكم في واقعة سب حصلت في جلسته إلى ثمانية أيام فقد تجاوز بذلك حدود اختصاصه حكم النقض 3 أكتوبر سنة 1851 سيرى سنة 52 جزء (1) صفحة 280. حكم النقض 17 أغسطس سنة 1860 سيرى سنة 62 جزء (1) صفحة 752.
وقد قلنا - ولا يجوز للباحث المنصف أن يخفي شيئًا - أن في فقه المحاكم خلافًا - ولهذا تجد بعد هذه العبارات في نفس الصفحة ما يأتي:



570

ومع هذا فإن الأحكام ترى أنه إذا حصل تحقيق الواقعة في الجلسة فيستطيع القاضي أن يؤجل الحكم، فإن هذا التأجيل يفيد الاتهام والمتهم وقد يكون لازمًا لتنوير القاضي، ولكن أصحاب الكتاب رجعوا بعد ذلك إلى الرأي الأول، فجاء في صفحة 132/ 576 (إذا لم يصدر حكم العقوبة حالاً يسقط ذلك الاختصاص الاستثنائي المقرر في المادة (505) ويجب أن يتبع في الحادثة طرق المحاكمة العادية) النقض والإبرام 19 مارس سنة 1812.

وأمام هذا الخلاف في رأي الأحكام - فإن النص صريح في القانون حاسم في الأخذ بالرأي الذي يقول به - لأنه قرن الاختصاص بضرورة الحكم في الجلسة، وجمهور المفسرين مع رأينا كما رأيت.
على أن الذي جعل بعض الأحكام أو أكثرها يشذ عن إجماع المفسرين إنما هو الخطأ في فهم أصل هذا الحق ومقصوده، فإنهم على الدوام يرجعون به إلى تأكيد احترام القضاة والواقع أن هذا سبب لا معنى له كما قدمنا، فإن كل فرد من الناس له حق الاحترام، وإن تنوعت العقوبة باختلاف الحالات - ووهم قولهم إن اعتداء أي إنسان على القاضي هادم لكرامة القضاء أو احترامه، ولكن الأصل الذي صدر عنه هذا الحق إنما هو حق الدفاع المقرر للفرد، فكان يجب تقديره من باب أولى للقاضي وهو جالس لتوزيع العدالة بين الناس، فإذا فهم هذا الأصل ظهر واضحًا لماذا اشترط الشارع ضرورة الحكم حالاً ؟
بل إن النصوص تقول كذلك: إن هذا الحكم ينفذ في الحال رغمًا عن الاستئناف، وهذا أيضًا لأن الواقعة انتقلت من مجال التقاضي العادي إلى مجال الدفاع، وكل دفاع مرتبط تنفيذه بلحظته على هذا - فالأدلة على ترجيح بطلان الحكم إذا حصل تأجيله إلى جلسة أخرى أرجح من الرأي الذي يقول بصحته مع التأجيل.
وأقرب ما يقال في هذا الرأي الأخير إنه يجمع بين المتناقضين، إذ هو يقتضي اعتبار الحادثة اعتداءً ماديًا شاهده الجمهور فلا يقبل النزاع، ولأجل هذا تنعدم كل ضمانات القضاء، ثم في الوقت نفسه يؤكد بل إن الحادثة غير واضحة ووجه الحق فيها يحتاج إلى مداولة، وغريب أن يكون القاضي في نفسه شك في هل أهين، ولا يجد من هذا الشك سببًا لإحالة دعواه على زملائه، فيحكمون فيها في جوهم الهادئ ومع استيفاء جميع الضمانات.
ولا نفهم حقيقة كيف ينازعنا منصف في أن هذا أولى بكرامة القاضي، وبجلال القضاء على وجه العموم.
ثانيًا: لأن الحكم ومحضر الجلسة يؤكده - صريح في أنه صادر في قضية رفعتها النيابة. بقوله (قضية النيابة نمرة…).
وهنا نرجع إلى ما أشرنا إليه في آخر البحث الأول.
هذه الجملة تخرج بالحادثة عن أنها جنحة جلسة، وتخرج بالحكم عن أنه صدر في جنحة جلسة ضد أحد أعضاء المحكمة.
ذلك إن الجنحة، التي من هذا القبيل لا يرفع الدعوى فيها غير المحكمة نفسها، أما وكيل النيابة فلا يملك رفعها.
هو يبدي رأيه بناءً على طلب المحكمة منه، وفرق بين إبداء الرأي بناءً على طلب المحكمة وبين سلطة تقديم الدعوى فعلاً، فإن النيابة لا تملكها في الجلسة.
ذلك هو نص القانون، بل نصوصه الصريحة، فإن المواد (85) إلى (89) مرافعات صريحة في أن رئيس الجلسة هو الذي يملك وحده سلطة بوليس الجلسة وهو الذي يرفع فيها الدعوى وهو الذي يحقق ثم يحكم في الجلسات المدنية، حيث لا يوجد ممثل للنيابة - فالمحكمة وحدها هي التي تقدر أولاً ووحدها هل وقعت أمام أنظارها وأنظار الجمهور جنحة يجوز المحاكمة من أجلها أو لم تقع.
كذلك نجد هذا صريحًا من المقارنة بين المادتين (244) من قانون تحقيق الجنايات القديم و(237) من القانون الأخير، فإن الأولى وكان القانون في عهدها لا يجيز للمحكمة أن تحكم في جنحة في الجلسة إذا وقعت عليها، بل عليها أن تحيلها فقط إلى النيابة نراها تقضي بأن المحكمة لا تحكم في الدعوى إلا بناءً على طلب النيابة، فصاحب الدعوى قديمًا هي النيابة أما المادة الأخيرة (237)، وهي التي صدرت في يونيو سنة 1896 في نفس التاريخ الذي صدر فيه تعديل المادة (89) مرافعات، فقد اتفقت هي والمادة (89) في النص، فانتقل حق إقامة الدعوى من النيابة إلى المحكمة ولم يبقَ للنيابة إلا إبداء الرأي بعد أن ترفع الدعوى فعلاً.
وقد كان هذا ضروريًا ومتمشيًا مع منطق الشارع ومع أحكام النصوص ومقتضيات الوقائع. أما مع منطق الشارع فلأن القانون إذا أعطى حق مراقبة الجلسة وضبط نظامها إلى المحكمة، فمن الضروري أن تكون هي وحدها صاحبة الحق في تأكيد أنه وقعت أمامها جنحة أو لم تقع وفي رفع الدعوى بناءً على تدوينها هي، فإن تقديم الدعوى جزء من حق البوليس العام، أو المسيطر على النظام العام.
أما أنه متمشيًا مع أحكام النصوص، فلأنه أعيد ما كان التشريع القديم لا يعطي للمحكمة أن تحكم من تلقاء نفسها إلا في التشويش فقط، لا في الجنحة التي تقع، على شرط أن يكون على غير المحكمة، كان منطقيًا أن لا ترفع الدعوى العمومية في ما عدا التشويش، إلا من السلطة التي تملكها في جميع الأحوال فكان لا بد للمادة (244)، أن تقول بناءً على طلب النيابة أما بعد إن أدخل الشارع الجنحة التي تقع على المحكمة، أو على الغير في حكم التشويش فجعلها من سلطة المحكمة، فكان لا بد لهذا من أثره في حق رفع الدعوى، فانتقل الحق إلى المحكمة بذاتها واقتصرت وظيفة النيابة على إبداء الرأي إذا كانت ممثلة في الجلسة وإن لم تكن ممثلة فرأيها ليس جوهريًا، ولا لزوم له أصلاً.
أما أنه تمشيًا مع مقتضيات الوقائع التي يجوز أن تحصل ومع السلطة الجديدة أيضًا، فلأن القانون أعطى للمحكمة سلطة الحكم حتى على الموظفين الموجودين في الجلسة إذا وقعت الجنحة من أحدهم، فإذا ما وقعت الجنحة من وكيل النيابة، وكان حق دفع الدعوى العمومية منحصرًا في شخصه فقد انعدم حكم النصوص، وتعطلت سلطة المحكمة وهي مقررة بالنص. بناءً على هذا فلا بد لنا من القول إن (المحكمة) هي وحدها التي تملك رفع الدعوى العمومية في حالات جنحة الجلسة بجميع أنواعها.
ولا بد لنا أن نرجع هنا أيضًا إلى أن هذا الرأي هو الذي يتفق وحده مع الحكمة التي تؤكدها على أنها هي السبب الوحيد لاعتبار جنحة الجلسة قائمة، تلك الحكمة، هي أن جنحة الجلسة لا بد وأن تكون مكونة من واقعة مادية لا نزاع فيها تقع على المحكمة ويلحظها الجمهور، ويشعر القاضي بسببها أن كرامته أو كرامة مجلسه قد اعتدى عليها، وهو وحده الذي يستطيع أن يقدر هذا الشعور، ولا يستطيع غيره أن يقدره، إذ من المحال أن يشاركه في شعوره أحد مهما كان مركزه في الجلسة، فليس لوكيل النيابة أن يشعر بالنيابة عن القاضي وأن يعلن أن جنحة وقعت في الجلسة حيث لا يراها القاضي وقعت، بل هو لا يملك مجرد إلفات النظر إليها، لأن إلفات النظر يستدعي التسليم حتمًا بأن الواقعة لم يلحظها القاضي، ولم يضطرب لأجلها، وهذا وحده كافٍ لإخراجها من دائرة جنحة جلسة وقعت على المحكمة أولاً وبالذات. على أن حق الإلفات هذا الذي لا تقبله طبيعة الاتهام والواقعة إذا تقرر على خلاف ما يدركه العقل، فإنه ولا شك ينتهي بأن يترك مجال الاستنتاج واسعًا، فللنيابة أن تنتزع كلمة لم تثر في نفس القاضي أي أثر سيئ، فهي بطبيعة الحال لم تحدث أثرًا في نفس الجمهور نقول للنيابة حينئذٍ إن تنتزع من هذه الكلمة بطريق التأويل ثم الاستنتاج البعيد من حلقة لأخرى ومن مقدمة إلى نتيجة، جنحة فكرية لم يلحظها أحد، وبهذا يتحول ميدان الجلسة إلى ميدان قتال، وتحكيم للشهوات، ومفاجآت، لا يجوز أن يكون هذا مجالها.
لا نظن أن هذه مسألة منحوتة من الألفاظ بدون مراعاة للواقع ولا تفترض بأن موافقة المحكمة للنيابة على طلبها قد يكون رفعا للدعوى، وبهذا التصديق قد انتهى الأمر وتم ما يريده القانون أما:
أولاً: فلأن تعيين السلطات التي ترفع الدعوى أو التي تحكم، إنما هو أمر أساسي ترتبط به السلطة القضائية، فيجب أن تكون الأعمال في حدود النصوص وإلا كان القانون لهوًا، ولا يحتال عليه بمثل هذه الاعتراضات.
وإما ثانيًا: فلأن حق الدفاع الذي يمثله المحامي وحق الاتهام الذي يمثله وكيل النيابة متساويان في الجلسة، إن لم يكن الترجيح لحق الدفاع، فلا نريد أن ندخل في ميدان تفاضل، فالمحامي وعضو النيابة متساويان تمام المساواة بالجلسة، لا يملك أحدهما على الآخر أية نوع من أنواع السلطات والمراقب على الجلسة، والمسؤول عنها وحده بلا شريك، ولا مرشد، إنما هو القاضي، فإذا أعطيت لعضو النيابة حق الإرشاد فقد جعلته قيمًا على المحكمة، وهذا غير مقبول.
وإما ثالثًا: فلأن طبيعة جنحة الجلسة تأبى الإرشاد كما قدمنا، فالواقعة لا تحتمل مثل ذلك مطلقًا.
وأما رابعًا وأخيرًا: وهذا يصلح وحده وجهًا لبطلان الحكم وسيأتي الكلام عليه في موضع آخر، فلأن حضرة رئيس النيابة اغتصب فعلاً وفي الواقع سلطة بوليس الجلسة لنفسه وأكد هذا الاغتصاب علنًا بمجرد افتتاح الجلسة حيث أكد أنه هو الذي سيتولى بوليس الجلسة وأنه هو الذي سيرفع الدعوى إذا صدرت أية كلمة يراها هو في نظره، ويصرف النظر عن سلطة القاضي يستحق المؤاخذة، فيكون له أن يعتبرها جنحة جلسة.
بل إنه أقام نفسه مقام القيم على حضرة القاضي حيث سمح لنفسه، أن يوجه له نصائح المسيطر على شعوره والمسير لحركات نفسه، فإذا به يلقي عليه الدرس، بأن يخرج عن حلمه وصبره مع قوم لا ينفع معهم إلا الضرب من حديد، وأنه سيضرب ولا بد ضربته. ولقد أقره حضرة القاضي على هذا الاغتصاب، وتركه يشتغل في خطبته من جملة إلى ما بعدها، ولقد وافق على هذا الاغتصاب في حكمه حيث يقول في رواية الواقع، إنه عقب (كلمة) ألقاها رئيس النيابة حصل كذا وكذا كأنها كلمة مشروعة ومما يقال في جلسته، وكان اغتصاب سلطته كان حقًا لا نزاع فيه.
من هنا حينئذٍ نقطع بأن المسألة اغتصاب لحق وقع بالاتفاق، كان حضرة القاضي يملك أن يتنازل عن ولايته، فيلقي بها بتصرف حضرة رئيس النيابة، وهذا كله خطأ في خطأ.
ومن هنا نستطيع أن نقول أيضًا إذا شئت التدقيق في النتائج القانونية إن المحامين ورئيس النيابة والقاضي إنما كانوا في جلسة رئيس النيابة لا في جلسة محكمة، فوصف الواقعة بأنها جنحة جلسة، يتصادم مع الوصف القانوني المقرر في المحضر.
ورابعًا: إن اغتصاب سلطة المحكمة على هذا النحو هو بذاته اعتداء على المحكمة، فهو مكون لجنحة وقعت في الجلسة، وقد كان هذا الاعتداء وسيلة للاعتداء على المحامين بالإغراق في السب والتفنن في وضع صيغته تفننًا غريبًا، عجزنا عن أن نرجعه إلى ما نعرفه عن حضرة رئيس النيابة من الهدوء وحسن الآداب، فوقعت جنحة ثانية على غير المحكمة، أي على المحامين، فكيفما كان رد المحامين ولا أجده ردًا مقنعًا، فهو نتيجة للواقعة الأصلية التي وقعت من حضرة رئيس النيابة وليست أقوال المحامين كيفما قدرناها، إلا صرخة المفجوع من جنحة وقعت عليه، فانتزاع صرخة الاستغاثة أورد الفعل من واقعة أصلية ظاهرة واقعتها، ومؤكد حكمها وجعل تلك الصرخة هي الأصل، وهي المكونة للجنحة تصرف غريب في ذاته لا يقبله العقل ولا القانون، ولا الشعور، كأنك تأخذ الذي ضرب في الجلسة فصرخ مستغيثًا أو مستنكرًا، فيقول يا هذا لقد شوشت بصراخك على الجلسة فتكون جنحة التشويش، أما الذي ضرب فلا جناح عليه ولا مسؤولية لأن من حقه أن يضرب.
ولقد كانت صرخة الأستاذ مكرم هي صرخة الذوق السليم، حيث طلب محاكمة النيابة، وإن وقعت به الفجيعة عن إدراك أن جنحة الجلسة لا يجوز لأحد غير القاضي أن يرفع الدعوى العمومية بشأنها، ولكنها كانت صرخة الحق، لأن حضرة رئيس النيابة اعتدى بلا نزاع على القاضي فاغتصب سلطته، وعلى المحامين فأهانهم، وعلى الواقع حيث أخذ من نتيجته استنكار إهانته جسمًا لجنحة مستقلة فجاراه حضرة القاضي على ما أراد، فكان من هذا الخليط حكم لا نستطيع أن نفهم سنده كيفما كانت وجهة النظر.
يحضر المحامي في الجلسة لا متفرجًا، ولا متطفلاً على المحكمة أو على النيابة، ولا يستوي مركزه في الجلسة مع فرد من الجمهور، بل هو يحضر بمقتضى القانون ليؤدي مأمورية مقررة اعتبرتها الأنظمة في كل زمان ومكان أساسًا لإقامة العدل بين الناس، فهو ذو شأن في الجلسة، وشريك للقاضي، وللنيابة وله أعمال معهم، وعليه واجبات يؤديها لا للقضاة ولا للنيابة، بل للمصلحة الاجتماعية العامة، وهو في تأدية واجباته له حقوق قد يعترض بها سلطة القاضي، فله مثلاً أن يمنعه من استجواب المتهم.
ومن الطبيعي أن تأدية مثل هذه المأمورية تقتضي مناقشة وجدالاً بين الذين يشتركون في عمل واحد.
والمناقشة بما تستدعيه من التمسك بالرأي والحرص عليه قلما تخلو من حركة، أو ظاهرة يبدو منها أن صاحب أحد الرأيين لا يحترم رأي الآخر، أو لا يحفل به، فمن السهل جدًا أن ينتزع منها اتهام بالإهانة.
ولكن هذه المناقشة في ذاتها، إنما هي قيام بواجب، فلا تتحول عن أصلها، ولا يمكن أن ينتزع منها جنحة.
لهذا كان لا سبيل لأن يعتبر المحامي في تأدية واجباته فردًا من الجمهور الحاضر فإذا تكلم وهو يؤدي ذلك الواجب كان معتديًا تطبق عليه المواد المعروفة.
عرضنا هذا البحث بتفصيل مستفيض على محكمة النقض والإبرام، فصدر حكمها بأن المحامي تصح مؤاخذته وقد ورد في الحكم المستأنف الآن أن حكم محكمة النقض قد فصل في هذا البحث فلا محل للرجوع إليه.
الواقع أن هذا فهم غير صحيح، فإن محكمة النقض لم تبحث فيما عرضناه عليها ولم تتعرض له بكلمة، ولعلها أرجأت البحث إلى فرصة أخرى، ولعلها رأت أن الواقعة المعروضة عليها لا تحتمل هذا البحث لأنها بماديتها وكما ثبت واقعتنا تبيح توقيع العقوبة إذ كان موضوعها أن المحامي، بعد أن أصدرت المحكمة حكمها، فانتهت بذلك مأمورية المحامي ولم يبقَ له صفة في أن يتكلم ولا حق له في أن يعترض وجه كلامه للمحكمة وقال إن هذا خطأ.
رأت محكمة النقض أن الواقعة على هذا الشكل لا تسمح بالقول إن المحامي كان يؤدي واجبه أمام القضاء، فاكتفت بتدوين ذلك في حكمها، وأخذته أساسًا لرفض النقض، فالبحث لا يزال باقيًا وسنده على رأينا واضح يرجع إلى نصوص القانون وإلى المبادئ العامة.
على أن في الموضوع بحثًا جديدًا وهو الذي عقدنا له هذا التمهيد.
ذلك أن الشارع، بعد أن قرر مأمورية المحامي ووضع له من الأنظمة ما أراد، فعين واجباته ولا نقول وحقوقه، لأن المحامي في الواقع مثقل بالواجبات وليس له حق من الحقوق، حتى ما ظهر أنه حق، فإنك في الواقع إذا تأملته رأيته واجبًا ثقيلاً.
نقول بعد أن قرر الشارع كل هذا، وضع المحامي في أداء مأموريته وفي طريقة أدائها تحت مراقبة سلطة التأديب، وقد اختار لها أعلى محكمة قضائية تشرف على تطبيق القانون في البلاد - وهي محكمة النقض - فالنظر في هل عمل المحامي في الجلسة كان في حدود مأموريته حقيقة أو هو قد تجاوزها إلى الاعتداء - إنما هو بحث فني تأديبي صرف - لا ينظر فيه إلا تلك السلطة التي عهد إليها أن تفصل في شأن المحامي لتقدر عمله بهذه الصفة. هذه مسألة أولية، يجب الفصل فيها قبل النظر في جنحة الاعتداء، مثلها مثل المسائل الأولية التي يتوقف عليها الحكم في الموضوع المطروح، إذ لا يخلو الحال من أمرين:
فأما أن تفصل محكمة النقض أن المحامي كان في حدود واجباته، إذا اضطرته الظروف أن يقول ما يدعي إنه إهانة - وحينئذٍ فلا مسؤولية عليه، وإما أن تفصل بالعكس أن الحال لم يكن يقتضي ذلك الكلام وحينئذٍ تجوز محاكمته على أساس أنه خرج عن حدود واجباته، فحقت عليه مسؤولية الاعتداء.
من الواضح أن ما جعله الشارع تحت حماية سلطة معينة، لا يجوز لسلطة أخرى أن تفصل فيه، إلا بعد أن تنتهي تلك السلطة من النظر فيما كان من اختصاصها، وحينئذٍ يمهد الطريق للسلطة المختصة بتوقيع العقوبة - فتستقيم المسؤوليات - ويتأكد للمحامي أداء واجبه أمام القضاء ولا تكون سلطة القاضي في إزعاج المحامي كلما تناقش سيفًا معلقًا على رأسه يمنعه من تأدية واجباته في دائرتها الحقة.
إن الرأي الذي يخالفنا يلغي كل تشريع يختص بالمحاماة، وينتهي بنا إلى التسليم بأن الشارع إنما يكتب في تشريعه فيصدر القوانين متناقضة تهدم بعضها البعض، وإن قانون المحاماة بما فيه من الأنظمة والضمانات والسلطات المحددة لا أثر له إذا حصلت مناقشة توهمها القاضي أو وكيل النيابة إنها غير لائقة فيصبح للقاضي الجزئي مثلاً أو لقاضي الإحالة أن يحل نفسه محل سلطة محكمة النقض والإبرام - ويحكم أن المحامي قد خرج عن حدود واجباته - وهذا من اختصاص السلطة التأديبية العليا، ونعيد أنها هي السلطة العليا في البلاد لمراقبة تنفيذ القانون والإشراف على القضاء والمحاماة معًا ليقوم كل منهما بتأدية مأموريته في دائرتها الواجبة.
هب أن المحكمة المدنية جزئية أو ابتدائية حكمت على المحامي مرة، ثم أخرى، فإن هذا يكون داعيًا حتمًا إلى تقديمه إلى محكمة النقض للنظر في أمره حيث ثبت أن اعتاد أن يخرج عن حدود مأموريته وتكرر منه الاعتداء على القضاء فماذا يكون من الأمر حينئذٍ !!
إذا قلت إن محكمة النقض تكون ملزمة أن تأخذ بالأحكام التي صدرت من المحكمة الجزئية على اعتبار أنها قد حازت قوة الشيء المحكوم فيه فقد عطلت سلطة النقض وجعلتها تابعة في قضائها إلى محكمة هي موضوعة في جميع أحكامها تحت مراقبة تلك المحكمة العليا، بل قد نقلت سلطة التأديب في الواقع من محكمة النقض إلى المحكمة الجزئية التي حكمت وهذا لا يجوز، وإن اضطرت خضوعًا للحق أن تقول إن محكمة النقض هي صاحبة الحق المطلق في النظر في هل المحامي تجاوز واجبه أو كان في دائرته، فماذا تعمل بتلك الأحكام إذا حكمت محكمة النقض أن المحامي إنما قام بواجبه خير قيام وأنه لم يعتد أصلاً !!!
ترى من هذا حقًا أن محاكمة المحامي بسبب تأدية مأموريته في الجلسة، إنما يأتي بنا إلى إلغاء هذه المأمورية، وإلى إلغاء سلطة محكمة النقض معها، وهذه متناقضات لا يمكن أن يسلم بها في نظر الذين يطبقون القوانين على ما تقتضيه من الحقوق والواجبات واحترام توزيع السلطات ومراعاة قواعد الاختصاص.
وإني في هذا المقام أرجو أن لا يشوب البحث الرجوع إلى المفسرين للاختلاف العظيم بين التشريعين الفرنساوي والمصري.
ذلك أن الشارع الفرنسي أصدر لظروف سياسية وانقلابات اجتماعية خطيرة قوانين عدة للحد من حرية الخطباء خصوصًا المحامين فصدر قانون في 30 مارس سنة 1808 يعطي للمحكمة الحكم على المحامي في الجلسة تأديبيًا وجنائيًا معًا.
وصدر كذلك قانون في 20 نوفمبر سنة 1822 وفرض على المحامي أن لا يعترض في مرافعاته إلى نظام الحكم وإلا جاز للقاضي أن يحكم عليه في الحال.
وصدر قانون في 29 يوليو سنة 1881 فأعطى للقضاة سلطة إيقاف المحامي إلى ستة شهور وأخيرًا، فإن قانون المرافعات عندهم يعطي للقضاة الحق بنص صريح في إبعاد كل مرافعة من الدوسيه أو اعتبارها مشطوبة.
وكل هذا التشريع المتوالي لا أثر له عندنا.
ومع وجوده هناك فقد رأى فريق كبير من المفسرين أن مادة قانون المرافعات لا تنطبق على المحامي، ورأى فريق آخر متأثرًا بهذه القوانين أنها تنطبق.
وترى أن ذلك التشريع بذاته دليل على تفسير القانون المصري إلى الناحية التي نراها فلقد كان عندهم قانون المرافعات بنصه الذي عندنا وقد كان عندهم قانون تحقيق الجنايات بنصه الذي عندنا بل هو أوسع وأعم كما قدمنا، ومع هذا أحس الشارع الفرنسي أن تلك النصوص لا تنطبق على المحامي فدفعته الحاجة إلى كل ما تجددت إلى تشريع خاص يدخل المحامي في دائرة المسؤولية إذا شملت مرافعته تعريضًا بالسلطات أو إخلالاً بالواجبات التي رآها ولو أن التشريع الأصلي الأوسع من تشريعنا كان يشمل المحامي، لما صدرت هذه القوانين المتوالية.
وتؤخذ تلك القوانين كذلك معززة للرأي الذي نقول به - لأن القانون الذي قرر للقاضي سلطة الحكم على المحامي - أعطاه في الوقت نفسه سلطة الحكم في مسؤوليته التأديبية، وهذا قاطع في أن الأمرين متلازمان وفي أن الحكم في الجنحة لا سبيل له إلا أن يحكم أولاً في المسألة التأديبية، حينئذٍ كلما بحثنا، ومن أية وجهة كان البحث لا نجد حلاً لتنفيذ القوانين، يوفق بين الواجبات، ويحترم قواعد الاختصاص، إلا بأن نقول إن المحامي إذا اُتهم بالخروج عن حدود واجباته وجب إحالة أمره أولاً على السلطة المختصة بالفصل في هذا الأمر بالذات، فإذا حكمت أنه قد تجاوزها فعلاً أصبح فردًا خاضعًا للمسؤولية المقررة في قانون العقوبات.

إنه لا سبيل للحكم بعقوبة مهما كانت وجهة النظر

إن توقيع العقوبة، مرتبط بنص المادة (117) بأن يكون الاعتداء وقع على الموظف أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها.
إن القانون لا يحمي الموظف، مراعاةً لشخصيته، إذ لا يريد الشارع أن يخلق من الموظفين آلات لتعذيب الناس، فيخرج بهم عن المسؤوليات القانونية، ليكونوا وبالاً على الجمعية التي تقررت وظائفهم لخدمتها، وللدفاع عنها جماعات وأفرادًا، فلا حمية للموظف إلا بقدر ما هو يستحقها، وبشرط أن يكون في دائرتها.
ولا شك أن حضرة رئيس النيابة، قد خرج في تلك الجلسة عن حدود وظيفته خروجًا بينًا لم يقف فيه عند مجرد الخروج عن واجب الوظيفة، بل تجاوز هذا الموقف السلبي إلى الاعتداء فعلاً، فهو حينئذٍ قد ثار على القانون، فليس له أن يطلب حمايته.
ولقد أراد حضرة وكيل النيابة في الجلسة الأخيرة بعد أن علم أن هذا من المباحث التي نعرضها أن يرد فقال إن المفسرين مجمعون والقضاء كذلك مجمع على أن للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه في حدود رد الاعتداء وبشرط أن يخشى الخطر، ولكن ليس له أن يعتدي بالكلام الجارح !! ثم قرأ في الجلسة تلك الفقرات التي أشار إليها في كتاب جرسون.
ونحن لا نرانا في حاجة للتدليل على المبدأ الذي يقول به لأن نرجع إلى مفسرين فإنه استخفاف بالعقل البشري، أن يقال إن الذي يعتدي على القانون، وعلى الناس، فلا يعرف وظيفته، ولا يدرك حرمتها يجب أن يكون اعتداؤه مقدسًا، ويجب أن يفهم المعتدى عليه أنه إذا رد الاعتداء، لا باعتداء مثله بل بمجرد استنكار ذلك الاعتداء ووصفه بأنه منكر لا يجوز العقوبة لأن للمعتدي حرمة !!!
إنه من الخطأ أن يقال إن للمعتدي حرمة، فما كانت الحرمة لأي شخص يعتدي، إنما الحرمة للوظيفة المقررة، فإذا ما اعتدى صاحبها فقد تجرد عن وظيفته، وعن حرمتها، وأصبح في دائرة هي دائرة الأفراد، بل دائرة المعتدين فلا يستطيع بعد الاعتداء أن يتراجع إلى الوراء ليبقى في دائرة الوظيفة، بل إني اكتفى، بتلك الفقرات التي أشار إليها حضرة وكيل النيابة فإنها تؤيد ولا شك بالرأي الذي نقول به - بل إننا لا نعتبره رأيًا - إذ الطبيعة الثابتة لا رأي فيها غير الواقع الحتمي.
تلك الفقرات صريحة في أن المعتدى عليه من الناس، إنما يجب عليه أن لا يتجاوز في رده حد العمل الواجب لرد الاعتداء.
ليس في تلك الفقرات أن رد الاعتداء، غير جائز ولا يستطيع أحد أن يقول هذا، بل هي تقول يجب أن يكون الرد في دائرة الرد حقيقة، ومن نوع الاعتداء الواقع.
وقد ضرب جرسون الوقائع التي حكم فيها فإذا بها كلها، تمثل لنا موظفًا يريد القبض على فرد في غير حدود القانون، أو يريد أن يدخل عقارًا في غير حدود القانون فيقول جرسون إن من حق الفرد في هذه الحالة أن يستعمل كل قوته الجسمية لرد هذا الاعتداء بالقوة، أما الشتم فلا يجوز، لأنه لا يوصل إلى الغاية المقصودة من رد الاعتداء.
هب أن هذا قول لا بد لنا أن نأخذ به، فتقبل عقولنا أن من حق الفرد أن يضرب الموظف الذي يهجم عليه أما للقبض عليه أو ليدخل بيته، ولكن ليس من حقه أن يقتصر على أن ينتهره أو يصرخ في وجهه لعله يرجع !!!
هب أن هذا معقول فما معنى هذا الرأي، وما هي نتيجته الصحيحة !!!
إنما معناه إذا أخذته أساسًا، أن يكون الرد من جنس الاعتداء، ومن طريقه، فليس للمعتدى عليه أن يرد باللسان، حيث يكون الموظف قد اعتدى باليد !!!
على هذا إذا كان اعتداء الموظف قد وقع باللسان، فلا بد حتمًا بناءً على هذا الرأي نفسه أن يحصل الرد باللسان، ولا ينتظر أحد أن يكون الرد تمليقًا وتمجيدًا !!
وإن أردت أن تقول، كلا !! بل كان يجب تنفيذًا لرأي جرسون أن يجد المحامون طريقًا لمنع رئيس النيابة أن يتكلم فقط، فيكون من حقهم، على رأيك أنت لا على رأينا، أن يصعدوا إلى موقف رئيس النيابة وأن يضعوا جميعًا أيديهم على فمه لمنعه من أن يستمر في الاعتداء. وإذا تعذر عليهم هذا، أو وجدوه غير لائق فنطقوا بكلمة استنكار، كان من تلك الكلمة جنحةإنه عبث، نرجو أن يقول القضاة فيه كلمتهم، للحق ولكرامة القضاء.

أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم

مجلة المحاماة - العدد الثاني
السنة الأولى - مصر في أول أغسطس سنة 1920

المباحث القانونية والتشريعية
بحث في أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم

جرت المحاكم على تقدير تلك الأتعاب تقديرًا تافهًا جدًا فهي تتراوح أمام محكمة الاستئناف بين مائة قرش إلى أربعمائة ولا تزيد في الغالب على ألف قرش إلا في بعض قضايا نادرة جدًا لا يمكن أن تكون أساسًا يعتمد عليه عند البحث في هذه المسألة، وتتراوح تلك الأتعاب أمام المحاكم الابتدائية بين مائة قرش وثلاثمائة قرش وهي لا تزيد في الغالب على ستمائة قرش في بعض قضايا تناولت إجراءات عديدة ومطولة، أما في المحاكم الجزئية فلا تزيد تلك الأتعاب غالبًا على مائتي قرش وقد تكون أحيانًا خمسة عشر قرشًا أو عشرة قروش فقط.
والباحث في هذه المسألة يجد نفسه بين عاملين جديرين بالعناية.
العامل الأول: أخلاقي وهو ضرورة العناية في تسهيل التقاضي بين الناس حتى تتربى النفوس على التمسك بالحقوق واحترام حقوق الغير من طريق قوة القانون.
وقد دلت الإحصائيات على أن عدد القضايا مرتبط - في الكثير من الأمور - بمقدار ما يتكلفه المتقاضون من المصاريف.
وبديهي أن الأتعاب التي يحكم بها على الخصم داخلة ضمن ما يتكلفه المتخاصمون متى لجأوا إلى سلطة القضاء.
غير أننا لا نريد أن نبالغ في قيمة هذا العامل لأن رخص التقاضي قد يؤدي أيضًا إلى وجود دعاوى كثيرة ليس لها من أساس وتصبح المغالاة في تسهيل التقاضي مدعاة للشكوى من طريق آخر.
والعامل الثاني: له مساس بالعدالة نفسها من حيث تفاهة تلك الأتعاب فهي لا تعوض من حكم لصالحه ما يكون قد دفعه إلى محاميه أو ما يقرب من ذلك وفي هذا ظلم ظاهر.
نضيف إلى ما تقدم أن كثيرًا من إجراءات التنفيذ لا يحكم فيها بأتعاب على الخصم مع أن سبب الالتجاء إلى تلك الإجراءات هو عناد المحكوم عليهم أو مماطلاتهم بقصد مضايقة المحكوم لهم وبقصد الوصول بذلك إلى صلح ينتزعه أولئك المماطلون من دائنيهم بتنازل الآخرين عن جزء من حقوقهم.
ومما تجب ملاحظته في هذا المقام أن عدد القضايا في مصر كثير جدًا وقد لاحظ جناب المستر جون أدون مارشال في مقال نشرته له (مجلة مصر العصرية) أن عدد القضايا في مصر يساوي عددها في إنجلترا تقريبًا مع أن سكان القطر المصري لا يزيد على ثلث سكان إنجلترا وإن المصالح موضوع تلك الدعاوى أهم بكثير في إنجلترا منها في مصر.
ويظهر مما تقدم أن الخطر في العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير تلك الأتعاب هذا التقدير التافه إنما هو خطر وهمي أكثر منه حقيقي وأنه ليس في زيادة تلك الأتعاب زيادة معقولة تصعيب في التقاضي بهذا المقدار الذي قد يتصوره البعض في أول الأمر من دون التفات إلى الزيادة المضطردة في عدد القضايا والتي يوجد كثير منها على غير أساس جدي ومن دون التفات إلى ما تقتضيه العدالة في رفع نوع من الظلم واقع على المكوم عليهم كما أسلفنا.
لهذا كله يترجح عندنا العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير هذه الأتعاب ووضع مبدأ يقضي بزيادتها زيادة معقولة.
وقبل أن نبدي رأيًا في كيفية هذه الزيادة يحسن بنا أن نبدي الملاحظة الآتية وهي: أننا غير مقيدين بآراء الشراح الفرنساويين في هذا العدد ذلك لأن لائحة الرسوم القضائية في فرنسا الصادر بها الدكريتو المؤرخ 16 فبراير سنة 1807 والتي تعدلت بدكريتو 21 يناير 1845 قد نصت صراحةً في المادة (80) و(82) على تحديد تلك الأتعاب بخمسة عشر فرنكًا داخل باريس وعشرة فرنكات خارجها في الأحكام الحضورية أما في الأحكام الغيابية فقد تحددت بخمسة فرنكات وأربعة فرنكات (راجع مؤلف جرسونيه جزء أول صحيفة نمرة 424 نوتة 254 وتعليقات دالوز على قانون المرافعات صحيفة نمرة 1103 وكذلك البندكت)، ويقول شراح هذه القانون إن هذه الأتعاب ليست في الحقيقة كل ما كان واجب الدفع أتعابًا للمحاماة على الخصم وإنما لوحظ في تقديرها أنها عبارة عن كل ما يمكن أن يكون قد صرف في شؤون المحاماة فهي أشبه شيء بمصاريف الانتقال.
لذلك كانت قيمتها عندهم تافهة جدًا ولا يوجد في قوانيننا نص كهذا يقيدنا ويضطرنا إلى تفسير حكمة تقدير هذه الأتعاب على النحو الذي ذهب إليه الشراح الفرنسويون بل يوجد عندنا نصوص تغاير هذا النص الفرنساوي كما سنبينه فيما يلي.
بعد هذه الملاحظة يحسن بنا أن نعرض أهم الآراء في هذا الموضوع: يوجد رأي قائل بجعل لائحة الرسوم القضائية أساسًا عند الحكم بالأتعاب على الخصم الذي خسر الدعوى فتكون تلك الأتعاب مساوية على الأقل لنصف الرسوم النسبية مثلاً أو مساوية لها.
غير أن هذا الرأي معيب لأن لائحة الرسوم القضائية مبنية على قيمة الدعوى بغض النظر عن قيمة العمل فيها والزمن الذي تستغرقه وثروة الخصوم ومثل هذا لا يصلح أن يكون أساسًا عند تقدير الأتعاب سواء في ذلك أتعاب الوكيل بالنسبة لموكله أو أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم وفوق هذا فإن هذه اللائحة موضع نقد فلا يصح أن نعلق شيئًا على شيء منتقد في ذاته.
ويوجد رأي آخر يقول بأن الواجب عند تقدير هذه الأتعاب ملاحظة كونها المقابل لما يدفعه المحكوم لصالحه إلى محاميه.
وهذا الرأي معيب كذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن الحكم على الخصم الذي خسر الدعوى بأتعاب ملحوظ في تقديرها أنها المقابل تمامًا لما يدفعه من كسب الدعوى إلى محاميه مما قد يؤثر في الاتفاق الحاصل بين من كسب الدعوى ووكيله ويخلق نزاعًا جديدًا قد لا يوجد، وهذا إذا أخذنا بالرأي الغالب القائل بجواز تعديل قيمة هذه الاتفاقات زيادة ونقصانًا متى قام النزاع بشأنها.
ثانيًا: أن ملاحظة ثروة الخصم ليس لها محل هنا وبمعنى أن من خسر الدعوى لا يصح أن يطالب بأتعاب لوحظ عند تقديرها ثروة خصمه وإنما المسؤول عنه عدلاً هو تلك الأتعاب التي لوحظ فيها قيمة القضية وأهمية العمل فيها والزمن الذي استغرقته ويمكننا الآن بعد بيان ما تقدم أن نبدي رأينا في هذا الموضوع.
أمامنا المادة (37) من لائحة الرسوم القضائية للمحاكم المختلطة، والمادة (35) من الأمر العالي المؤرخ 7 أكتوبر سنة 1897 ونصها:
(يجوز طلب أجرة المحامين أو الوكلاء ممن حكم عليه بمصاريف الدعوى بشرط أن تكون هذه الأجرة مقدرة بمعرفة المحكمة أو القاضي، ويراعى في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل الذي باشره والمحامي أو الوكيل والزمن الذي قضاه في ذلك وحالة ثروة المتخاصمين ولا يعتد بالأوراق التي صار تحريرها بغير حاجة إليها).
(وإذا اقتضى الحال لتقدير الأجرة التي يلزم دفعها للمحامي أو الوكيل من موكله فتراعى أيضًا الأحوال المبينة آنفًا).
وقد جرت المحاكم على تطبيق هذه القواعد عند تقدير الأتعاب بين الوكيل والموكل وأهملته عند الحكم بالأتعاب لأحد الطرفين المتخاصمين على الآخر وفي ذلك ما فيه من مخالفة روح التشريع وحرفية النص.
على أن هذا النصر في ذاته معيب من حيث إنه يقضي بمراعاة ثروة الخصوم عند تقدير الأتعاب المحكوم بها على من خسر الدعوى ومن رأينا أن المحكوم عليه لا يكون مسؤولاً إلا عن الأتعاب التي يلاحظ في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل والزمن دون التفات إلى ثروة من حكم لصالحه لذلك نرى أن يعدل هذا النص بالكيفية الآتية:
(حذف عبارة وحالة ثروة المتخاصمين من الفقرة الثانية ووضعها في الفقرة الثالثة).
وبهذا التعديل يصبح النص أقرب إلى العدالة.
أما الفوائد التي تنجم عن تقرير هذا المبدأ فهي كثيرة أهمها:
أولاً: وضع حد للطلبات الباهظة بين المتقاضين.
ثانيًا: تقليل عدد القضايا التي تُرفع على غير أساس جدي.
ثالثًا: رفع ظلم واقع على المحكوم لمصلحته فيما يتعلق بأتعاب المحاماة.
رابعًا: منع تأثير الحكم بالأتعاب على الخصم في عقد الاتفاق بين من كسب الدعوى ومحاميه لأن حالة ثروة من كسب الدعوى ومركز المحامي الذي يترافع فيها لم يكونا من العوامل في تقدير تلك الأتعاب.

متى تسقط أتعاب المحاماة المطالب بها أو الصادر بها حكم

مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة السادسة - عدد فبراير - يناير 1926

متى تسقط أتعاب المحاماة المطالب بها أو الصادر بها حكم

القاعدة العامة في مصر هي أن جميع الحقوق والتعهدات والدعاوى تسقط بمضي 15 سنة على آخر عمل قاطع للمدة قانونًا ما عدا المستثنيات التي منها ما يسقط بمضي خمس سنين كالفوائد والإيجارات ونحوها (مادة (211) مدني، و(275) مختلط، و(2277) فرنسي)، والكمبيالات والسندات التجارية (مادة (194) تجاري، و(201) تجاري مختلط، و(189) تجاري فرنسي) أو بثلاث سنوات الأشياء المسروقة والضائعة (مادة (86) مدني، و(115) مدني مختلط، و(2279) مدني فرنسي) أو سنة ((209) و(210) مدني، و(273) و(274) مدني مختلط) أو بسنتين (مادة (2273) و(2272) مدني فرنسي).
وبحثي الآن في أتعاب الأطباء والمحامين (في القانون الأهلي فقط) والمهندسين وثمن المبيعات لغير التجار إلخ من جهة ورسوم أقلام الكتاب والمحضرين من جهة ثانية، وسبب هذا السقوط الأخير:
أولاً: إن كل هذه الأحوال خاصة بأجور أو بثمن مأكولات ونحوها (ورسوم أقلام الكتاب والمحضرين) أي جميعها مفروض فيه أن أصحابها لا يسكتون عن المطالبة بها.
ثانيًا: لأن العادة قد جرت فيها تقريبًا على عدم أخذ كتابةً بها، وإذا تحررت فلا يحافظ عليها طويلاً الدائن ولا المدين ولكن يجب ملاحظة ما يأتي:
أولاً: إن المبالغ التي تسقط بمرور 360 يومًا هي:
1 - أتعاب المحامين (في القانون الأهلي لا المختلط ولا الفرنسي).
2 - أتعاب الأطباء.
3 - أتعاب المهندسين.
4 - ثمن المبيعات لغير التجار مطلقًا (أي للأفراد).
5 - ثمن المبيعات للتجار فيما عدا ما يتعلق بتجاراتهم (أي لحاجيات التجار الشخصية لا لمحلاتهم التجارية).
6 - أجور مؤدبي الأطفال ومعلميهم.
7 - ماهية الخدمة.
8 - الرسوم المستحقة لأقلام الكتاب أو المحضرين (210 مدني).
ثانيًا: إن أتعاب المحامي ونحوها تختلف مدة سقوطها بحسب الأحوال:
1 - إذا لم يعترف المدعى عليه بالدين صراحةً أو ضمنًا تكون مدة السقوط 360 يومًا من تاريخ إتمام العمل المطالب به حتى لو استجدت أتعاب أو أجور أو… أخرى.
2 - إذا وجد اعتراف بذلك فيسقط الحق بمضي 15 سنة هلالية (لعدول الطرفين على العادة) من تاريخ آخر اعتراف أو عمل قضائي قاطع للمدة.
راجع (فينيه) (fenet) جزء (15) صحيفة 570، و571 محاضر تحضير القانوني المدني الفرنسي (لوران) مدني جزء 32 صحيفة 530، و531 نبذة 543، و544 و545 (أوبرى ورو) طبعة 4 جزء 8 صحيفة 446 (بلانيول) طبعة 2 جزء 2 صحيفة 206 نبذة 674 (ماركاديه) طبعة 6 جزء 12 صحيفة 332 و333 بودري لاكنتنري المطول جزء 25 (سقوط الحقوق) صحيفة 404 نبذة 574 (داللوز) تعليقات على القانون المدني جزء 2 صحيفة 1229 نبذة 3 و4 و9 و14 و15 (من أن إرسال المريض أو صاحب الدعوى خطابًا إلى المحامي أو الطبيب بأنه سيسعى في دفع الأتعاب أو المكافأة أو سيمر على مكتبه أو عيادته للشكر إلخ يحول بينه وبين التمسك فيما بعد بسقوط الحق بالمدة القصيرة بل لا بد من مضي المدة الطويلة أو إبراز مخالصة كتابية)، (والمسيو دوهلس) سقوط الحق نبذة 107 (والتون) جزء 2 صحيفة 553 (والدكتور محمد بك كامل مرسي) الملكية والحقوق العينية صحيفة 418 و419 والاستئناف المختلط 9 مايو سنة 894 (مجلة القضاء والتشريع المختلطة جزء 6 صحيفة 287 محكمة مصر الأهلية في 22 نوفمبر سنة 1916 في القضية نمرة 941 سنة 1916 مدني كلي المرفوعة مني شخصيًا ضد السيد محمد أحمد العفيفي وضد الشيخ حسانين علي يوسف (محجوز لديه)، ومحكمة شبين الجزئية 6 ديسمبر سنة 903 (المجموعة الرسمية الأهلية سنة 5 صحيفة 176)، ومحكمة طنطا الجزئية أول يونيه سنة 1903 (مجلة الحقوق سنة 18 صحيفة 159).
ثالثًا: منازعة المدعى عليه في أصل الحق أو مقداره لأي دين من الديون المذكورة في المادة (209) مدني يعد اعترافًا منه بعدم دفعه - وبالتالي لا يصح له الجمع بين النقيضين الاعتراف بالمديونية والتمسك بسقوط الحق أي الدفع - كما يقول العلامة بودري في الجزء 25 (سقوط الحقوق) صحيفة 488.

(Il ne sera pas non plus recavable ل le faire s’il a avoué tacitement le fait du non paiement, par exemple en commençant par nier la dette et contester qu’il n’ait été débiteur).

وراجع كتاب الملكية والحقوق العينية لحضرة الدكتور محمد بك كامل مرسي صحيفة 420 حاشية 2 محكمة منوف الجزئية 17 إبريل سنة 1917 (المجموعة الرسمية) سنة 18 صحيفة 249.
رابعًا: إذا صدر حكم بأي دين من الديون المنوه عنها في المادة (209) مدني لا يسقط الحق في تنفيذه إلا بمرور المدة الطويلة خلافًا للحكم بالفوائد وغيرها مما هو مذكور بالمادة (211) مدني التي يسقط الحق في تنفيذ الحكم بها فيما زاد عن خمس سنوات من آخر إجراء صحيح كما تقدم في مقالي السابق نشره بمجلة المحاماة سنة 5 عدد 8 صحيفة 665.
خامسًا: أنه وإن جاز للمدعى عليه في حال مطالبته بالفوائد ونحوها الجمع في وقت واحد الاعتراف بعدم الدفع والتمسك بسقوط الحق في المطالبة أو التنفيذ بما زاد عن خمس سنوات منعًا من وقوع المدين في الخراب بتراكم فوائد عشرات السنين عليه لإهمال الدائن أو لسوء نيته إلا أن ذلك غير جائز في حالة المطالبة بشيء مما هو مسطر في المادة (209) مدني أهلي، وبعبارة أوضح اعتراف المدعى عليه صراحةً أو ضمنًا بعدم الدفع يمنعه في الزمن نفسه من التمسك بمضي سنة لأن سبب السقوط في هذه المادة هو:
1 - وجود قرينة فقط على التخالص لاحتمال ضياع سند السداد.
2 - لأن السقوط بمضي سنة مسلط في ذات الحق كله لا على جزء فقط منه أو ملحق له كما في حالة الفوائد ونحوها فإن أصل الدين باقٍ ولا يسقط إلا ما زاد عن فوائد خمس سنوات فقط.
سادسًا: إذا كانت الأجرة مما يدفع مسانهة فالسقوط يكون بمضي خمس سنوات (مادة 211 مدني) لا 360 يومًا (مادة 209 مدني) راجع المسيو دوهلس مضي المدة نبذة 194، وشرح القانون المدني للمرحوم أحمد باشا فتحي زغلول صحيفة 114.
سابعًا: في حالة السقوط بالمدة الطويلة (مادة (208) مدني، و(272) مختلط و(2262) فرنسي) أو السقوط بخمس سنوات في المسائل المدنية (كالفوائد ونحوها مادة (211) مدني، و(275 مختلط، و(2277) فرنسي) أو السقوط بثلاث سنوات (حالة السرقة والضياع مادة (86) مدني، و(115) مختلط، و(2279) فرنسي) تقضي المحاكم لسقوط الحق بمجرد:
1 - طلب المدين السقوط.
2 - تحققها من مضي هذه المدة.
3 - عدم قطعها قانونًا.
أما في الأحوال المذكورة بالمادة (209) مدني أهلي (273 مختلط، و2272 و2273) فلا يتم السقوط قانونًا إلا بعد تحليف المدعى عليه يمين الاستيثاق (مادة (212) أهلي و(276) مختلط، و(2275) فرنسي) أو ورثته أو الأوصياء ونحوهم على أنهم لا يعلمون بوجود الدين (مادة (213) أهلي، و(277) مختلط، و(2275) فرنسي).
ويجب على المحكمة أن تطلب من تلقاء نفسها اليمين من المدعى عليه في هذه الأحوال أو من ورثته أو الأوصياء ونحوها المسيو دوهلس سقوط الحق نبذة 202 وشرح القانون المدني للمرحوم أحمد باشا فتحي زغلول صحيفة 114 ويمين الاستيثاق هذه تختلف عن اليمين المنوه عنها في المادة (194) تجاري لأن المحاكم لا تحلف التاجر المدعى عليه من تلقاء نفسها بل لا بد من أن يطلب الدائن ذلك.
ثامنًا: مبدأ الـ 360 يومًا المذكور في المادتين (209) و(210) مدني هو:
1 - تاريخ استحقاق الدين فمثل إذا باشر المحامي عدة قضايا فيبتدئ سقوط الحق من انتهاء كل قضية على حدتها لذا تقول المادة (209) مدني (ولو استحقت ديون جديدة من قبيل ما ذكر في ظرف الـ 360 يومًا المذكورة).
2 - وأما بالنسبة للرسوم المستحقة لأقلام الكتاب المحضرين (مادة 210 مدني)، فإن السقوط يبتدئ:
أولاً: من تاريخ انتهاء المرافعة في الدعوى التي تحررت في شأنها الأوراق.
ثانيًا: من تاريخ تحرير هذه الأوراق إذا لم تحصل مرافعة في القضية.

أحمد منيب
المحامي
الخطوات الأولى في المحاماة

كتبهااحمد الجمل ، في 29 ديسمبر 2008 الساعة: 03:07 ص


مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة الحادية عشرة - مايو سنة 1931

الخطوات الأولى في المحاماة
المحاضرة

التي ألقاها حضرة صاحب السعادة محمد نجيب الغرابلي باشا نقيب المحامين في حفلة افتتاح المحاضرات السنوية للمحامين تحت التمرين بالقاعة الكبرى بمحكمة الاستئناف الأهلية
في يوم الخميس الموافق 9 إبريل سنة 1931 الساعة الرابعة ونصف مساءً
حضرات السادة،
باسم الله افتتح محاضراتنا في هذا العام لإخواننا المحامين تحت التمرين وأبدأ بشكركم على تفضلكم بتلبية دعوة النقابة إلى احتفالنا المتواضع كما أني أعرب لحضراتكم عن سروري وسرور زملائي بتشريفكم لهذا الاجتماع لأنه ليس أحب إلى نفوسنا من أن يجتمع خدام العدالة على هذا النحو البسيط الخالي من الكلفة والتعقيدات الرسمية ليهبوا شيئًا من ثمرة تجاربهم إلى إخوانهم الناشئين في المحاماة.
فالمحامي الذي يجتاز دور التمرين بحاجة إلى أن يستنير، ليس فقط بتجارب إخوانه الذين سبقوه في المحاماة، بل هو محتاج أيضًا إلى أن يسترشد بتجاريب إخوانه القضاة ورجال النيابة الذين وإن كانوا لا يمارسون مهنته إلا أنه تربطهم به رابطة الغرض المشترك وهو خدمة العدالة، هذا فضلاً عن أن من القضاة من كانوا محامين ومن المحامين من كانوا قضاة وهؤلاء وهؤلاء يستطيعون بفضل ما اكتسبوه من الخبرة والمران أن يسدوا إلى إخواننا المبتدئين خيرًا كثيرًا.
لذلك فإنه مما يزيد سروري وسرور حضرات زملائي أن نسمع في اجتماعاتنا الصغيرة هذه من وقت لآخر كلمة من رجال القضاء أو من رجال النيابة يدلون فيها بما يعن لهم من الأفكار لتوحيد جهود القضاء والنيابة والمحاماة.
كما أننا وقد اعتزمنا أن نقرن محاضراتنا بتمرينات عملية يقوم بها حضرات المحامين المبتدئين أنفسهم يتدربون فيها على تحرير الأحكام والقيام بوظيفة النيابة العمومية إلى جانب تمرنهم على الدفاع ليلمس المحامي بالفعل حاجة القضاء وحاجة النيابة وحاجة المحاماة إلى التعاون الوثيق في خدمة العدالة، نرجو أن لا يضن حضرات رجال القضاء والنيابة بأن يشاركوا حضرات المحامين في إبداء ما يعن لهم من الملاحظات على أعمال هذه المحاكم الإعدادية.
وهذه الطريقة قد سبقتنا إليها نقابة المحامين لدى المحاكم المختلطة فنحن إنما نحذو في ذلك حذو هؤلاء الزملاء المحترمين الذين سبقونا إلى هذا الإصلاح، ولعل نقابة المحامين لدى المحاكم الشرعية ترى من جانبها أيضًا الأخذ بهذه الطريقة فتكون النقابات الثلاث قد وحدت خطتها في إفادة حضرات المحامين تحت التمرين.

وظيفة المحاماة

حضرات الزملاء المحترمين،
إن المحاماة هي دفع الأذى، والإنسان مفطور بطبيعته على دفع الأذى عن نفسه، ولكنه قد يعجز عن ذلك لأسباب شتى، حينئذٍ تقضي المروءة على كل إنسان قادر أن يهب للدفاع عن ذلك العاجز فإذا قام شخص أو أشخاص بذلك الدفاع سقط هذا الفرض عن الباقين لأنه فرض كفاية.
ولما كان تزايد السكان واتساع العمران وكثرة المنشآت واختلاف صور المعاملات يقضي بتخصص بعض الرجال لدراسة الحقوق وطرق المطالبة بها والدفاع عنها كان طبيعًيا أن يلتجئ هؤلاء الضعفاء إلى من انقطعوا إلى دراسة الحقوق لأن نبل المرء ومروءته وشرف مقصده، كل ذلك لا يكفي لجعله مدافعًا حسن الدفاع بل لا بد من أن يكون ملمًا بالحقوق التي يريد أن ينتصر لها عالمًا بأساليب المطالبة بها أو الذود عنها.
فالباعث إذن على احتراف مهنة المحاماة هي نزعة شريفة إلى الدفاع عن المظلومين، وهذه النزعة الشريفة لا تؤتي ثمارها إلا بدراسة الحقوق وتطبيقها تطبيقًا صالحًا وكلا الأمرين لا غنى له عن الأخر، فدراسة الحقوق لا تؤهل الإنسان للمحاماة إذا كان مجردًا عن هذه النزعة الشريفة كما أن هذه النزعة الشريفة وحدها لا تجعل من الإنسان محاميًا إذا هو لم يدرس الحقوق علمًا وعملاً.
فالمحامي هو قبل كل شيء نصير المظلوم ثم هو بعد ذلك الرجل القانوني الذي يستطيع أن ينتصر لذلك المظلوم انتصارًا مفيدًا.
وعلى هذا الأساس يجب أن يفهم الناس وظيفة المحاماة فمن وجد في نفسه ميلاً فطريًا لنصرة المظلوم ومحاربة الباطل فليسلك سبيل المحاماة إذا أراد ومن لا يحس في نفسه بهذا الميل الغريزي فإني أنصحه أن يبتعد عن المحاماة وأن يشق له في الحياة طريقًا أخر.
وإني أوجه القول إلى أولئك الذين يحفزهم حب الكسب إلى الاشتغال بالمحاماة فأقول لهم إنه من الخطر على العدالة أن يكون غرض الإنسان من الاشتغال بالمحاماة مجرد الكسب، لأنه إذا أصبح هم المحامي الإثراء من هذه المهنة كان معنى ذلك أن المحاماة عنده وسيلة وأنتم تعلمون أيها السادة أن الوسيلة عرضة للتعديل والتحوير حتى تؤدي الغرض المقصود بالذات.
فالمحاماة إذن هي في أيدي طلاب المال عرضة للتعديل والتحوير بما يوافق هواهم ويحقق لهم مطامعهم المادية وقد تنتهي بهم الحال إلى أنك تنظر إلى المحاماة بين أيدي هؤلاء الطامعين فلا تكاد تعرفها لما طرأ عليها من التشويه بل إنها قد تنقلب في أيديهم إلى شيء آخر تنكره المحاماة نفسها هو تشجيع الظالمين وأكل أموال المظلومين.
ومتى كان جمع المال غاية فما أشقى المحاماة بهذه الغاية بل ما أشقى العدالة بمحاماة تكون وسيلة لجمع المال لأن كل وظيفة من وظائف العدالة تفسد وتنقلب إلى خطر محقق إذا كان صاحبها طالب عيش قبل كل شيء إذ أن الوظيفة تكون في هذه الحالة مسخرة لخدمة الشخص وليس الشخص هو المسخر لخدمة الوظيفة، فيا لها من جريمة شنيعة جريمة أولئك الذين يستخدمون وظائف العدل لإشباع بطونهم قبل أن يشبعوا العدالة نفسها.

فترة التمرين

ينظر بعض حضرات المحامين المبتدئين إلى فترة التمرين نظرة غير مستحبة مصحوبة بشيء غير قليل من الضجر وعدم الاصطبار، لأن حامل شهادة الحقوق المملوء حماسًا للمهنة يريد أن يبرز وحده لميدان العمل المستقل ويدلي من فوره بدلوه بين الدلاء ويضرب بسهم في هذا الميدان الشريف بلا مهل ويرى أن ارتباطه بمكتب محامٍ يتمرن فيه يفقده لذة الاستقلال بالعمل الذي تصبو إليه نفسه.
كما أن المحامين الذين ألجأتهم الظروف إلى الاشتغال بالمحاماة يستعجلون الوقت الذي تكون لهم فيه مكاتب مستقلة يجدون فيها موارد للكسب.
والواقع أن مدة التمرين متى أحسن استعمالها هي خير وبركة على المحامي المبتدئ فهي لا تحرمه من استقلاله بالعمل إلي حد ما لأنه يمكنه أن يترافع باسمه أمام المحاكم الجزئية وفي الوقت نفسه توفر له معينًا ومرشدًا في خطواته الأولى يأمن بجانبه العثار الخطر ويفتح عينيه على كثير من الحقائق العملية التي يحتاج إلى الإلمام بها قبل أن يتوسط ميدان العمل في المحاماة كما تجعله يتصل بأرباب القضايا اتصالاً نافعًا.
فمواظبته على العمل في المكتب الذي يتمرن فيه وعلى حضور جلسات المحاكم هي دراسة تطبيقية جليلة الفائدة.
والمحامي الذي يؤدي التمرين أداءً شكليًا يعرض نفسه لأذى كبير ويعمل على تأجيل إصلاح الخطأ الذي يتعرض له كل مبتدئ ثم تكون أخطاؤه بعد ذلك محسوبة عليه ولا يلبث أن يؤثر ذلك في عمله أدبيًا وماديًا وعندئذٍ يشعر بالندم ولكن بعد فوات الوقت على تفريطه في مدة التمرين.
وليس بعيب أن يخطئ المحامي المبتدئ لأن التعثر في الخطوات الأولى لا يدل على شيء من العجز بل هو طبيعي في كل بداية ولكن متى انقضت الفترة المعقولة لذلك فعندئذٍ يكون تعثره دليلاً في الغالب على نقص في استعداده ومن شأن ذلك أن يضعف الثقة به والثقة هي رأس مال المحامي.
فلنقبل إذًا على التمرن على أعمال المحاماة في المدة المقررة للتمرين بانشراح ولنفرح كلما عثرنا لأن هذا يدل على أننا نتقدم وأننا كنا بحاجة إلى هذا التمرين لنتحاشى مثل هذا العثار في المستقبل.

إتمام مدة التمرين - ابتداء المحامي في العمل

ولاشك أن من بين حضرات المحامين من أوشك أن يتم مدة التمرين وهؤلاء وقد أصبحوا على قيد خطوات من باب الخروج تتزاحم عليهم خواطر النفس: هل يقيمون في مصر أو في الإسكندرية أو في عاصمة أخرى من عواصم الأقاليم ؟
وكأني بمباهج العواصم تجذبهم إليها ليمتعوا أنفسهم بعد عناء الدرس وفترة التمرين بحياة ناعمة مرحة تجلو صدأ هذه السنين الطوال التي قضوها عاكفين على الدرس والتحصيل، وهم معذورون في هذا التفكير ألم يسهروا الليالي الطوال مدة الدراسة ويعانوا من مضض الامتحانات وغير الامتحانات ما يجعلهم بحاجة إلى نسمات هذه العواصم الكبيرة، أليسو بحاجة إلى أن يتنسموا نسيم السعادة قبل ضياع الفرصة وذبول العمر؟ لا شك أنهم معذورون.
ولكن هل صحيح أن هذا هو طريق السعادة التي يرجونها لأنفسهم، إني أشك في ذلك كثيرًا بل إذا كانت لاختباراتي الضئيلة قيمة فإنني أرى أن الغاية التي يسعون إليها لا يحققها أن يبدأوا عملهم في مصر ولا في الإسكندرية ولا في تلك العواصم الكبيرة التي ترنو إليها أبصارهم الآن فهناك المزاحمة شديدة والجو يكاد يختنق بأنفاس المحامين المقيمين في تلك العواصم وبسبب ذلك يحتاج المحامي المبتدئ إلى زمن أطول لإبراز مواهبه وسط هذا الضجيج.
وسيجد صعوبة في أن يشق له طريقًا وسط هؤلاء جميعًا بالسرعة التي يحلم بها وأخشى أن يؤثر ذلك في نفسيته فينقلب ساخطًا على المحاماة لأنه لم يجد قطوفها دانية بقدر ما كان يتصور وإذا سخط الإنسان على العمل فيالبؤسه وطول شقائه.
فكيفية الابتداء لها أثر كبير في سير العمل نفسه ولقد عرفت زملاء لي في الدراسة كان لهم من الاستعداد للمحاماة ما يغبطون عليه فلما ابتدأوا بداية غير موفقة لم ينجحوا في المحاماة واضطروا إلى أن يلوذوا بوظائف الحكومة بينما نجح غيرهم ممن أحسنوا الابتداء نجاحًا فوق المنتظر.
وكان السبب في عدم توفيق أولئك هو أنهم بدأوا العمل في العواصم الكبيرة فلم تتهيأ لهم الفرصة لإبراز مواهبهم فانطفأت في نفوسهم شعلة التحمس للمحاماة ثم لم يلبثوا أن انقلبوا ساخطين عليها وسعوا للتخلص منها.

اختيار محل الإقامة

وأحسن بداية في رأيي يبدأ المحامي بها عمله بعد إتمام مدة التمرين هي أن يتخذ محل إقامته في محل محكمة جزئية فلن يجد هناك سوى عدد قليل من المحامين المقيمين فعلاً ولا يخفى أن أرباب القضايا يفرحون بالمحامى المقيم ويفضلونه على غيره ممن لا يرون وجوههم إلا يوم الجلسة ولا يجدون الوقت الكافي لبسط معلوماتهم إليهم بسطًا شافيًا.
والمحامي المقيم في مقر المحكمة هو كالطبيب المقيم في المستشفى فمكتب المحامي يعالج الحقوق كما أن المستشفى يعالج الأمراض ومتى كان المحامي مقيمًا سهل اتصال أرباب القضايا به واستفتاؤهم له في شؤونهم القضائية، وبهذا الاتصال الجدي المباشر في العمل يلمسون ما يكون في المحامي من المزايا وحينئذٍ تؤتي هذه المزايا ثمارها الطيبة المباركة بدون توانٍ ثم تأخذ في النمو والزيادة شيئًا فشيئًا كلما طالت مدة إقامته، وبذلك يشعر المحامي بلذة الثقة ولذة العمل ولذة الكسب.
وليست هذه كل مزايا هذا الابتداء بل إن له مزايا مهمة أخرى:
أولا:ً رخص تكاليف الحياة عنها في العواصم الكبيرة وسهولة إيجاد الموازنة بين إيرادات المحامي المبتدئ ومصروفاته.
ثانيًا: المركز الأدبي الممتاز الذي يشعر به المحامي في الجهة التي يقيم فيها.
ثالثًا: ما يستفيده أهل البلد الذي يقيم فيه المحامي من اشتراكه في رفع مستوى الوسط الذي يعيش فيه باعتباره رجلاً مهذبا مثقفًا.
رابعًا: إشعار الناس بحقيقة المحاماة والفرق بينها وبين تلك الصناعة الزائفة التي تنكرها المحاماة.
ولا يتسرب إلى الذهن أنني أشير على المحامين المبتدئين بأن يجعلوا محل إقامتهم في الجزئيات باستمرار، كلا بل هذه هي الخطوة الأولى فإذا ما شعر المحامي من نفسه القدرة على أن يخطو خطوة أوسع فيكون قد مهد لها بهذه الخطوة الأولى حتى لا تزل قدمه في الخطوة الثانية، بل إنه قد يكون لمصلحته ولمصلحة المهنة أن يخطو عندئذٍ هذه الخطوة الثانية وينقل مكتبه إلى مقر محكمة كلية ليخلو مكانه إلى مبتدئ آخر وليضم كفاءته إلى الكفاءات الأخرى بعد أن يكون قادرًا على المزاحمة الشريفة التي هي في مصلحة العدالة تلك المزاحمة التي تقتصر على العمل الصالح المنتج حتى إذا رسخت قدمه في المحاماة نهائيًا أمكنه متى أراد أن يقيم في البلد الذي يحبه فقد ينتهي به المطاف إلى القاهرة ولكنه يضع قدمه فيها حينئذٍ وهو مستعد للكفاح ومنازلة الأقران من كبار المحامين في ميدان الخدمة السامية للعدالة المقدسة من دون أن تضايقه مطالب الحياة.
وهكذا يمكن لمن يبتدئ عمله أمام محكمة جزئية أن ينتهي بالإقامة في القاهرة إن شاء وأن يتمتع بمباهج العاصمة وأوساطها الراقية كما يريد وهو قادر على ذلك مالك لناصية العمل، هذا إذا لم تزهده لذة العمل ولذة الكسب في تغيير الإقامة.
ولا شك أن ذلك أفضل من أن يبتدئ في العاصمة مثلاً ثم تلجئه الحال بعد ذلك إلى أن يقيم في مقر إحدى الجزئيات ساخطًا متبرمًا.

اختيار الكتبة

ويأتي بعد اختيار محل الإقامة اختيار الكتبة.
سيجد المحامون الذين ينزلون إلى مقر الجزئيات فوجًا من الكتبة يتزاحمون عليهم للاشتغال معهم لأن هؤلاء الكتبة يفضلون المحامي المقيم على سواه إذ أنهم أدركوا بالاختبار أن مكتب المحامي المقيم يكون أكثر احترامًا وأكثر دخلاً وبالتالي أقدر على دفع المرتبات الطيبة للمستخدمين فليفتح المحامي عينيه جيدًا عند اختيار كتبته، وليقع اختياره على المعروفين بالأمانة والكفاءة منهم لأن أرباب القضايا يجب أن يشعروا بأن مستنداتهم وأسرارهم ليست عرضة للتلاعب والإفشاء بفعل كاتب مشكوك في أمانته، ولن تفيد أمانة المحامي إذا كان الكاتب موضع ريبة في نفس أرباب القضايا.

السلوك الشخصي وأثره في النجاح

ومتى أحسن المحامي الانتفاع بمدة التمرين ووفق إلى اختيار محل الإقامة الملائم واستخدم في مكتبه عمالاً أمناء لم يبقَ عليه إلا أن يسير على بركة الله في عمله بخطى متئدة مطمئنة وهو مملوء ثقةً بالمستقبل.
ولما كان رأس مال المحامي كما قدمنا هو الثقة فإن لسلوكه الشخصي تأثير كبير على عمله ومن الفضول أن نبين لحضراتكم أن المحامي هو أولى الناس بالتحلي بمكارم الأخلاق فإذا كان التحلي بمكارم الأخلاق واجب على كل إنسان فهو على المحامي أوجب وله ألزم.
رأيت بعض المحامين افتتحوا عملهم بضجة هائلة واشتغلوا وكسبوا ثم لم يلبثوا أن عرفوا فتركوا واندثروا،
ورأيت محامين افتتحوا عملهم برزانة وسكون ثم لم يلبثوا أن عرفوا ففازوا وأكرموا وكان العامل المهم في الحالين هو السلوك الشخصي.
وهكذا الكفاءات تطغى عليها الأخلاق السيئة فتقتلها أو تشرق عليها الأخلاق المرضية فتكسبها لألأ وسناءً.
فعلينا إذًا أن نتواصى بمكارم الأخلاق لنكون محامين صالحين جديرين بشرف مهنتنا فلا نشوه كفاءاتنا ولا نزعزع الثقة بنا فيضيع مستقبلنا،
ولا تقتل كرامة المحامي مثل الإعلان عن نفسه فإنه استجداء للثقة وعنوان على العجز، والثقة تُمنح لا تُطلب والعمل الطيب يفوح شذاه ويتضوع عبيره، والمحاماة نجدة دفاع لا سلعة تُعرض في الأسواق لتباع.

قبول المحامي للقضايا

ومن أكبر الكبائر في المحاماة أن يقبل المحامي القضية عن يد وسيط يشترك معه في قليل أو كثير من أتعابه وعلى من ابتُلي بهذا الداء أن يتصور أنه يعيش على السمسرة لا على الثقة وأنه يعمل في كنف السماسرة لا في ظل المحاماة.
فإذا سعى صاحب القضية إلى المحامي فليفسح له صدره لسماع أقواله بغير ملل ولا ضجر وقد يرافق صاحب القضية أحيانًا قريبه أو صديقه ليقوم مقامه في إبداء معلوماته للمحامي فيجب على المحامي أن يترك صاحب القضية نفسه يتكلم ليرسل الكلام على سجيته بدون تصنع ومن غير لف ولا دوران فإن ذلك أدنى أن لا يغش المحامي في تقدير مركز طالب التوكيل وليُعنَ عناية تامة بالوقوف منه على الوقائع الصحيحة للدعوى وليكن في ذلك مدققًا كل التدقيق لأن الوقوف على الوقائع الصحيحة يمكنه من إعطاء الرأي الصحيح.
فإن تبين أن صاحب القضية ليس على حق فيما يدعيه فعليه أن يصارحه بذلك مبينًا له وجه الضرر من استرساله في الخصومة وما يجره عليه ذلك من خسارة الدعوى وخسارة المال ومرارة الحكم ومشونة الباطل.
فإذا فاز بإقناع المبطل بالارتداد عن باطله فقد غنم:
أولاً: راحة ضميره لأنه أنهى خصومة بين طرفين،
وغنم ثانيًا: ثقة صاحب القضية الذي اقتنع ببطلان خصومته فارتد وهو يحمد الله على توفير الكرامة والمال،
وغنم ثالثًا: حسن الأحدوثة حين يعرف الناس له ذلك وأنه طالب الحق لا طالب مادة، ورب قضية رفض المحامي قبولها كانت سببًا في عدة قضايا يسند إليه فيما بعد مباشرتها،
فليتدبر ذلك حضرات المحامين المبتدئين وليعلموا أنهم لن يخسروا أتعاب القضية التي يرفضون قبولها بحق وأنهم بالعكس سيكسبون بهذا الرفض النزيه أضعافه.
وقد تكون قيمة الدعوى مغرية وقد تكون أتعابها إذا قبلها المحامي ضخمة وقد يكون المحامي حين يرفضها في ضيق من المال لظرف من الظروف، فليحذر المحامي أن يكون لهذه الأمور تأثير على رأيه لأنه إذا قبل قضية خاسرة تحت تأثير هذه الاعتبارات فهو إذًا مخادع.
إن كثيرًا من المنازعات يمكن تسويتها صلحًا بين المتخاصمين غير أن العناد أو الطمع قد يحمل أحد الطرفين على الالتجاء إلى المحاكم فإذا ما أيقن هذا المعاند أو هذا الطامع بأنه لن يبوء من القضية إلا بالفشل وأنه سيخسر الدعوى ويخسر إلى جانبها الأتعاب التي يدفعها للمحامي ومصاريف الدعوى وأتعاب محامي الخصم التي تقدرها المحكمة وأنه فوق ذلك سيخسر الصلح المعروض عليه أو الذي يمكنه الحصول عليه وديًا فقد يعيده ذلك إلى صوابه ويسعى إلى التفاهم مع خصمه بطريقة ودية ويكون الفضل في ذلك للمحامي الشريف الذي أخلص النصيحة وحسم الشر ووفر على المتقاضين الإنفاق على الخصومة والاسترسال في المنازعات.
فعلى المحامين أن يكونوا في هذه الحالة مصابيح للتنبيه إلى الخطر لا مزالق لسقوط الموكلين في الهاوية، أما إذا اطمأن المحامي إلى أن صاحب القضية على حق فليأخذ بيده في ضوء الحقيقة إلى ساحة العدل وليقف بجانبه منتصرًا لحقه مناضلاً عنه بكل مقدرته، بذلك يكون العمل شريفًا لذيذًا مباركًا.

أتعاب المحامي

وليكن مقابل أتعاب المحامي هو آخر ما يفكر فيه بعد تفهم وقائع الدعوى من موكله واستقرار رأيه على قبول التوكيل عندئذٍ يكون في مركز يسمح له أن يحدد مقابل أتعابه مراعيًا مقدار المجهودات التي يبذلها وقيمة الدعوى وحال الموكل.
وليجتنب المحامي المبالغة في تقدير أجره ولتكن هناك موازنة عادلة بينما يعطي وبينما يأخذ فكل ما يأخذه المحامي من الأتعاب زائدًا عن قيمة المجهودات التي يبذلها لا يكون إلا عن وهم أو تبرعًا من الموكل ومحرم على المحامي أن يستفيد من طريق الوهم كما أن كرامته تأبى عليه أن يأكل من تبرعات الناس وتقضي عليه أن يكون في مركز المتكرم المتفضل.
فإذا ساغ للموكل أن يطمع في مجهودات المحامي فلا يسوغ للمحامي أن يطمع في مال الموكل وليعتبر المحامي مقدم الأتعاب وديعة في ذمته للموكل لا يستحله إلا بالعمل فلا يكون مثله مثل الذين يفقدون شهية العمل بعد أن يذوقوا لذة القبض والمحامون جميعًا هم وكلاء عن صاحب كل حق معسر لا يجد ما ينفقه في أتعاب المحاماة فليجد الفقراء في مكاتب المحامين مكانًا يسع المطالبة لهم بحقهم من غير مقابل، وليجعلوا ذلك زكاةً عن عملهم وتطهيرًا لما قد يرتكبونه من الخطأ غير عامدين أثناء قيامهم بواجباتهم.
ومن حق المحامي بل من واجبه ألا يقبل جزاءً على أتعابه يجرح عزة المحاماة،
أما أولئك الذين يقبلون أتعابًا تزري بكرامتهم وكرامة مهنتهم فإنهم يجنون على أنفسهم وعلى زملائهم معًا.

دراسة القضايا

وعلى المحامي متى قبل القضية أن يبدأ فورًا بتحضيرها في مكتبه فيدون وقائعها ويرسم خطة الدفاع فيها ويستوفي المستندات التي تؤيد هذا الدفاع ويشرع في البحوث القانونية التي تساعده على تدعيم مركزه في الخصومة إن اقتضى الحال ذلك.
وليعلم أن أوقاته قد تعلق بها حق موكليه جميعًا فإذا كانت القضايا الموجودة بمكتبه كافية لأن تشغل جميع أوقاته فلا يسوغ له بحال أن يقبل قضايا جديدة لا يتسع لها وقته لأنه إما أن يهملها وإما أن يأخذ لها من الوقت اللازم للعناية بالقضايا التي ارتبط بها فعلاً قبل ذلك وفي كلا الأمرين إخلال بواجبه نحو موكليه.
وليس المحامي البارع هو الذي يزدحم مكتبه بملفات القضايا بل إن المحامي البارع هو الذي لا يوجد في مكتبه سوى قضايا محضرة ومعنيًا بها.
وليفسح المحامي صدره لصاحب القضية كلما أراد أن يدلي إليه بشيء جديد في الدعوى لأنه صاحب حاجة ولرب كلمة يقولها أو واقعة يسردها تفيد المحامي في دفاعه فائدة غير منتظرة وليجعل المحامي اتصال الموكل به شخصيًا في كل ما يتعلق بموضوع الدعوى فلا يكله في شيء من ذلك إلى الكاتب لأن الكاتب لا يمكنه أن يستقصي الوقائع بالدقة الواجبة كما يفعل المحامي ولا يستطيع تقدير هذه الوقائع وتأثيرها في سير الدعوى كما تعود المحامي، مع مراعاة أن يكون عادلاً في توزيع أوقاته على موكليه بدون تفريط ولا إفراط.
وينبغي للمحامي أن يعمل على كسب ثقة المحكمة فلا يترافع في قضية إلا بعد أن يلم بموضوعها تمام الإلمام وبعد أن يستجمع نقط الدفاع فيها ويركزها تركيزًا يصون مرافعته عن الشطط والحشو والتكرار وأن يعبر عن أفكاره بعبارة بسيطة واضحة دقيقة منزهًا آراءه عن سماجة المكابرة ومنزهًا لسانه عن لوثة المهاترة، مراعيًا حرمة القضاء وكرامة المحاماة.
وعليه أن يكون للقاضي مساعدًا ومعينًا على إنجاز العمل وتعرف وجه الحق وإصدار حكمه بالعدل وأن يشعره بالفعل أنه ينتصر للمظلوم ويعمل لاستخلاص حق مهضوم فإن ذلك أدنى إلى استرعاء سمع المحكمة واهتمامها بأقواله واحترامها لآرائه مهما كان رأيها مخالفًا.
وليس كسب ثقة المحكمة بأن يتساهل المحامي في التمسك بحقه وحق موكله بل إن هذا التمسك واجب لا محيص له عنه، فالمحامى الذي يعتذر بأن المحكمة لم تثبت أقواله في محضر الجلسة مثلاً مسؤول عن هذا الإغفال إذ هو لم يلح الإلحاح كله في تدوين أقواله بمحضر الجلسة لأن واجب الكاتب أن يثبت أقوال الخصوم خصوصًا ما يرون أنه من أسس دفاعهم وعلى المحامي أن يثبت من تدوين كل ما يعتبره أساسيًا في دفاعه وليوجه المحامي خطابه في ذلك أولاً إلى القاضي باعتباره المدير للجلسة فإن عارض القاضي فليوجه خطابه للكاتب باعتباره مسؤولاً عن تحرير محضر الجلسة وعليه أن يلح في ذلك بكل أنواع الإلحاح فإذا أصر الكاتب على عدم إثبات ما يطلبه المحامي بادر المحامي فورًا بتقديم طلبه هذا كتابةً أو علانيةً إلى كاتب الجلسة ثم يرفع شكواه بعد ذلك إلى جهة الاختصاص وليكن رد المحامي على الخصم زعزعةً لا جعجعةً، وإفحامًا لا التحامًا، وإقناعًا لا صراعًا.
وليجتنب التأجيلات التي لا مبرر لها والطلبات الشكلية والدفوع الفرعية التي لا تدينه من الحق ولا تحميه من الباطل فإن ذلك مضيعة للوقت وإملال للعدل وإطالة للخصومة وتعطيل لسير العدالة.
كذلك يجب ألا يفوت المحامي أن محكمة النقض هي محكمة قانون لا محكمة موضوع وأن المبادئ الهامة التي تقررها هذه المحكمة العليا أولى بأن تشغل جميع أوقاتها بدلاً من تبديد مجهوداتها في بحث أوجه غير جدية.

المحامي وزملاؤه

وليحافظ المحامي على كرامة زملائه وليتجنب تحميلهم المغارم بحجة الغيرة على حقوق موكليه فلا يطلب إبطال المرافعة مثلاً في قضية يعلم أن الخصم وكل فيها محاميًا لأن الغائب في هذه الحالة هو المحامي للخصم وليس من حق المحامي الحاضر أن يتولى بنفسه تأديب زميله الغائب بتعريضه لخسارة ربما كانت فادحة لا تحتملها كل ثروته في حين لا يخسر الخصم شيئًا متى كان المحامي مليئًا مع أن هناك طريق خاص لتأديب المحامي بسبب إهماله.
ويعمل المحامي أيضًا على كسب ثقة زملائه بأن يحسن الاستماع إليهم وينزه لسانه عن العيب فيهم أو استفزازهم وليعلم أن كرامته من كرامتهم وعزته من عزتهم.
وليترفع المحامون من تلقاء أنفسهم عن مخالفة واجباتهم سرًا وعلانية فإن ذلك أولى بهم وأليق بكرامتهم.

المكاتب الفرعية

وإذا قضيتم مدة التمرين فإياكم والمكاتب الفرعية فإنها تعرض عملكم للفساد وتعرض عيشتكم للكساد لأنها تدار بمعرفة كتبة يقبلون فيها قضايا لم تسمعوا أربابها ولم تعرفوا قبل الارتباط بها حلالها من حرامها.
إياكم وهذه الحوانيت فإنها مقابر المحامين وبلاء المتقاضين تُنتهك في كثير منها حرمات الحق وتُدبر المؤامرات على العدل لأنها ليست تحت إشراف المحامين الفعلي ليصونوها عن هذه المفاسد ويحاربوا فيها وقوع هذه الجرائم.
ولها فوق ذلك أسوأ الأثر في تقدير أتعاب المحامين حتى ضج أكثر المحامين بالشكوى منها وتحمسوا لإعلان الحرب عليها وهي نتيجة طبيعية لشعورهم بكرامتهم واهتمامهم لوضع حد لهذا الاعتداء الصارخ على شرف مهنتهم.
ولي وطيد الأمل في أن يتعاون حضرات المحامين مع نقابتهم على استئصال هذا الداء وتطهير جو المحاماة من هذا الوباء وأنه لا تمضي مدة طويلة حتى تكون جميع المكاتب سعيدة باستقرار حضرات المحامين فيها حتى إذا ما سعى إليها أرباب القضايا وجدوا أمامهم الهداة المرشدين وخدام العدالة الصادقين.
ولا شك عندي في أن ذلك من شأنه أن يوزع العمل على مكاتب المحامين توزيعًا طبيعيًا عادلاً في مصلحة العدالة وفي مصلحة أرباب القضايا وفي مصلحة المحامين أنفسهم فتتخلص العدالة من المنتجات الرديئة التي تنتجها المكاتب الفرعية ويتصل أرباب القضايا بالمحامين رأسًا في كل ما يتعلق بالعمل الفني الذي يهمهم ويرتفع مقابل أتعاب المحامي إلى الحد الذي يكافئ مجهوده ويليق به.
فمتى تعاون حضرات زملائي المحامين على تنفيذ هذه الخطة في وقت واحد جاءت النتيجة وفق مصلحتهم جميعًا.
هذه أيها السادة هي الكلمات التي رأيت أن أدلي بها الآن لإخواني المحامين المبتدئين متمنيًا لهم كل التوفيق راجيًا لهم من الله سبحانه وتعالى كل سعادة.
وإني أكرر لحضراتكم شكر زملائي وشكري ولا يسعني إلا أن أختتم محاضرتي بتلك الكلمات الخالدة التي قالها أبو المحامين:
(يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل وأن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون).