بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

مدى سيادة الدولة في المسائل الجنائية

مجلة المحاماة - العدد الثالث
السنة التاسعة1928

مدى سيادة الدولة في المسائل الجنائية
بحث في القانون الجنائي الدولي مع بعض تطبيقات بالنسبة لمصر

سيادة الدولة من الوجهة الخارجية:
سيادة الدولة بصفة عامة “ Souveraineté ” هي حقها في العمل داخل البلاد وخارجها بما تراه في صالح الوطن وذويه فبالنسبة للخارج أي بعلاقات الدولة مع غيرها من الدول تعتبر السيادة خارجية وتظهر في الوجود حيث التمثيل الخارجي للدولة وحتى إعلان الحرب وإجراء المفاوضات مع الدول الأجنبية.
من الوجهة الداخلية:
أما بالنسبة لأعمال الدولة داخل إقليمها فتعتبر السيادة داخلية فالدولة حرة في اختيار نظام الحكم الذي تسير عليه ووضع الأنظمة الداخلية التي تراها ومن مقتضيات هذه السيادة أن يكون للدولة الحق في وضع قوانينها وإنشاء المحاكم لتطبيق هذه القوانين ومجازاة من يخالف أحكامها ومنع الأجرام في إقليمها.
تحديد السيادة بإقليم الدولة:
كل هذا ناتج من السيادة الداخلية ولكن هذه السيادة محدودة بحدود إقليم الدولة - أي تنتهي هذه السيادة عند الحد الجغرافي لأرض الدولة - فإذا ارتكب مجرم جريمة على هذه الأرض وفرّ إلى خارج حدود البلاد فلا تستطيع رجال الدولة أن تتبعه لتقبض عليه ولكن لا يفيد هذا أنها تتركه وشأنه بل لها أن تطلب بالطرق السياسية تسليمه من الدولة التي لجأ إليها - ويتم التسليم طبقًا لقواعد يحددها القانون الدولي ويمكن بيان أهمها فيما يلي:
مقارنه التسليم بالأبعاد:
1 - تسليم المجرمين (Extradition)- هذا التسليم هو عبارة عن التخلي عن الشخص المتهم بارتكاب جريمة أو المحكوم عليه جنائيًا للدولة التي يحق لها محاكمته وتوقيع العقاب عليه وهو يخالف الطرد أو الأبعاد (Expulsion) وهو تخلص الدولة من أجنبي تجد في وجوده خطرًا على الأمن في إقليمها أو ترى أن بقاءه في أرضها يدعو لعدم الطمأنينة فتبعده إلى خارج الحدود دون أن تسلمه لأي دولة - ولا يهم في حالة الطرد أن تكون هناك دولة أخرى تطلب تسليم هذا الشخص بل قد يحدث أن يكون الشخص المبعد غير متهم بارتكاب جريمة في أي بلد من البلاد وإنما تطرده الدولة لأنها تجد أن مصلحتها تدعو لذلك - فالطرد أو الأبعاد هو عمل إداري لا تنظر فيه الدولة لصالح دولة أخرى أجنبية بل هي تراعي فيه صالحها الخاص.
معاهدات التسليم:
أما تسليم المجرمين فهو عمل له صبغة قضائية ويحصل بالطرق السياسية وينظم عادةً في معاهدات تعقدها الدول فيما بينها - وقد عرف التاريخ معاهدات عديدة من هذا القبيل ويقال إن أقدم معاهدة عقدت في سنة 1300 قبل الميلاد بين رمسيس الثاني فرعون مصر وبين ملك الحيثيين في ذاك الوقت وكان الغرض منها توثيق عرى المودة والتحالف بين الملكين ونص فيها على ضرورة تبادل تسليم المجرمين الذين يهربون من أحد البلدين إلى الآخر - وعقدت في القرون الوسطى معاهدات أخرى خاصة بتسليم المجرمين منها معاهدة في سنة 1174 ميلادية بين إنجلترا وأيقوسيا ومعاهدة في سنة 1303 بين إدوارد الثالث ملك إنجلترا، وفيليب الرابع ملك فرنسا - غير أن هذه المعاهدة هي في الواقع اتفاق خاص بإبعاد أشخاص خطرين معينين في مدة خمسة عشر يومًا من تاريخ طلب ذلك - وقد توالى عقد الاتفاقات الخاصة بالتسليم في العصور الحديثة وخصوصًا في القرن التاسع عشر.
قوانين التسليم:
وعقدت الحكومة المصرية اتفاقًا مؤقتًا مع حكومة فلسطين بشأن تسليم المجرمين بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1922 كما أن هناك اتفاق آخر بين حكومتي مصر والسودان بشأن تسليم المجرمين وتبادل إعلان الأوراق القضائية صدر به قرار مجلس الوزراء بتاريخ 17 مايو سنة 1902، وكذلك صدرت في كثير من البلاد قوانين لتحديد قواعد تسليم المجرمين وكانت بلجيكا أول الدول في سن مثل هذه القوانين في الأزمنة الحديثة إذ أصدرت قانونًا بهذا الشأن في سنة 1833، وتعدل على عدة مرات حتى سنة 1893، وكذلك أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والبرازيل واليابان والمكسيك وهولندا وغيرها قوانين خاصة بتسليم المجرمين ونصت بعد الدول على قواعد التسليم في قوانينها الجنائية من ذلك ألمانيا حيث جاء ذكر هذه القواعد في المادة التاسعة من قانون العقوبات الألماني وفنزويلا حيث نص عليها في القانون الجنائي الذي أصدرته سنة 1903.
القواعد العامة لتسليم المجرمين:
ولكن ليس من الضروري لإمكان تسليم المجرمين أن تكون هناك اتفاقات أو قوانين تنظم ذلك بل يقضي الرأي الراجح بجواز التسليم ولو لم يكن هناك اتفاق أو قانون إذ يرجع أساس تسليم المجرمين إلى التضامن العام الذي يجب أن ترتبط به الدول لمنع الإجرام وفي الواقع تقبل دول كثيرة تسليم مجرمين لدول أخرى دون أن تكون هناك معاهدات تنظم هذا التسليم وقد نص في اتفاقية جنيف التي عقدت في 30 سبتمبر سنة 1921 لمنع الاتجار بالرقيق الأبيض على إلزام الدول المتعاقدة بتسليم المتجرين به حتى ولو لم تكن هناك معاهدات خاصة بذلك ولكن لا يعني هذا أنه عند عدم وجود معاهدات أو قوانين لا تكون هناك قواعد لتنظيم تسليم المجرمين فأحكام القانون الدولي العام قد حددت كثيرًا من هذه القواعد العامة وهي تطبق في أحوال عديدة وكثيرًا ما أشير إليها في المعاهدات والقوانين الخاصة بالتسليم ويمكن تلخيص أهمها فيما يأتي:
عدم تسليم الوطنيين:
أولاً: لا يجوز تسليم الوطنيين الذين يرتكبون جرائم في الخارج - وهذا هو الرأي المتبع في البلاد الغربية ما عدا إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية إذ القانون الجنائي فيهما إقليمي محض أي يطبق على الجرائم التي ترتكب داخل الإقليم ويستند أنصار الرأي القائل بعدم تسليم رعايا الدولة على أن هؤلاء يجدون في دولتهم ضمانة قوية وعدلاً تامًا بعيدًا عن الهوى - وقد يكون في تسليمهم للقضاء الأجنبي تعريضهم لسلطة أجنبية تتحيز ضدهم بسبب جنسيتهم ويقولون أيضًا أن في تنازل الدولة عن شخص من رعاياها ليحاكم في دولة أخرى تنازل عن جزء من سيادتها وليس هناك ما يدعو لذلك إذ المتهم الوطني لن يفلت من العقاب على ما اقترفه في الخارج فهو سيحاكم أمام محاكم دولته أي أمام قضاته الطبيعيين [(1)].
أدلة الرأي القائل بتسليمهم:
ويقول أنصار الرأي العكسي القاضي بوجوب تسليم الوطنيين أنه لا يوجد في ذلك ما يمس سيادة الدولة أو كرامتها بل فيه مساس بالدولة الأجنبية للاعتقاد بأن محاكمها تتحيز ضد الأجانب وإذا كان هذا الاعتقاد صحيحًا فلا يجب إذن تسليم المجرمين كلية سواء أكانوا من الوطنيين أو من غيرهم ما دام يخشى تعريضهم لسلطة متحيزة ثم أن تسليم المجرم للدولة التي ارتكب جريمته في أرضها هو في الواقع تسليم للقضاة الطبيعيين الذين يحق لهم الحكم فيما وقع من الجرم إذ ليس قضاة الدولة التي يتبع المجرم جنسيتها بالقضاة الطبيعيين في هذه الحالة وإنما القضاة الطبيعيين هنا هم قضاة المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة حيث اختل النظام الاجتماعي وحيث يمكن إجراء التحقيق بدقة والحكم على ما وقع حكمًا عادلاً - ويظهر الضرر من رفض تسليم المجرم الوطني ظهورًا جليًا عندما يكون شريكًا لأجنبي في ارتكاب الجريمة فيسلم أحدهما للدولة التي ارتكبت الجريمة في بلادها ويحاكم الوطني أمام محاكم دولته فينتج من ذلك وجود قضيتين مختلفتين عن جريمة واحدة وقد يحدث أن يصدر حكمان متناقضان أو عقوبتان مختلفتان مع أن ذلك ليس في مصلحة العدل.
رأي وسط:
هذه هي أدلة الرأيين في مسألة تسليم الوطنيين ولكن الرأي المتبع للآن في أكثر الدول هو رأي القائلين بعدم التسليم ومحاكمة الوطنيين أمام دولتهم [(2)]، واعتقد أن كلا الرأيين فيه شيء من التطرف وأنه وإن كان يحسن الأخذ بنظرية عدم تسليم الوطنيين بصفة عامة إلا أنه من الأفضل عدم وضع قواعد جامدة لمثل هذه المسألة فيجاب مثلاً طلب تسليم الوطني إذا كان مشتركًا في الجريمة مع آخرين ستجري محاكمتهم في الدولة التي تطلب التسليم، وذلك حتى تتوحد محاكمة المتهمين في ارتكاب جرم واحد وكذلك يسلم الوطني إذا كانت محاكمته في الدولة الطالبة في مصلحته كأن يكون العقاب الذي ينص عليه قانونها أخف من العقاب الذي ينص عليه قانون الدولة المطلوب منها التسليم - وبعبارة أخرى يجاب طلب تسليم الوطني إذا كان في تسليمه مصلحة للعدل أو للمتهم أما إذا لم توجد هذه المصلحة فمن الأفضل محاكمة الوطني أمام محاكم دولته.
التجنس اللاحق:
أما التجنس اللاحق فلا يمنع من التسليم أي أن الأجنبي الذي يرتكب جريمة في الخارج ثم يقيم في إقليم الدولة ويتجنس بجنسيتها يجوز تسليمه لمحاكمته عن الجريمة التي ارتكبها قبل تجنسه وقد نص على هذا المبدأ في كثير من الاتفاقات الخاصة بالتسليم كالاتفاق الذي عقد بين إنجلترا والبرازيل في 18 نوفمبر سنة 1872 والاتفاق الذي عقد بين إنجلترا وفرنسا في 14 أغسطس سنة 1876، وهذا المبدأ وإن كان متفقًا مع القواعد العامة إلا أن الرأي عليه ليس إجماعيًا بل تقرر عنه في بعض القوانين من ذلك القانون البلجيكي الخاص بتسليم المجرمين الذي صدر في سنة 1874 إذ قرر أن التجنس يكون له أثر رجعي، وكذلك جاء أيضًا في المعاهدة التي عقدت في 5 فبراير سنة 1873 بين إيطاليا وبريطانيا والمعاهدة التي عقدت في 28 مارس سنة 1877 بين فرنسا والدانيمارك نص يبيح التسليم في هذه الحالة وإنما يشترط له مدة معينة.
عدم تسليم المجرمين السياسيين:
ثانيًا: لا يجوز تسليم المجرمين السياسيين وذلك مراعاة للإنسانية والشفقة فالدولة التي تطلبهم إنما تريد أن توقع بهم شر عقاب وفضلاً عن ذلك فالجرائم السياسية تتغير بتغير الأحوال والمجرم السياسي قد يصبح رئيسًا للدولة إذا نجح وقد اتفق على هذا المبدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر - أما قبل ذلك فلم يكن هناك مبدأ مسلم به بهذا الشأن بل كان كثيرًا ما يحصل التسليم لأسباب سياسية ولكن دون أن تكون هناك قاعدة لذلك إذ كان الأمر يتبع الميل الموجود في الدولة اللاجئ لها المجرم نحو الدولة الطالبة له فكان يحصل التسليم من باب المجاملة أو بسبب خوف الدولة من جراء رفضه أو بناءً على الضغط عليها من الدولة التي تطلب المجرم [(3)] أو غير ذلك من الأسباب - على أن الرأي القائل بعدم تسليم المجرمين السياسيين لم يعدم إذ ذاك أنصارًا يعترضون على حصوله - فمن ذلك ما وقع من بونابرت سنة 1801 إذ اعترض على ما فعله مجلس شيوخ هامبورج إذ ذاك من تسليم بعض أرلنديين متهمين بالثورة إلى إنجلترا التي طلبت تسليمهم لمحاكمتهم وقد كان اعتراض بونابرت قويًا إذ قال إن هذا العمل يخالف قواعد الضيافة بشكل تخجل منه القبائل الرحالة في الصحراء وهاك بعض ما كتبه بونابرت في ذلك

(….. la vertu et le courage sont le soutien des Etats, la servilité et la bassesse les ruinent, vous avez volé les lois de I’hospitalité d’une manière qui aurait fait rougir les tribus nomades du désert.)

أما الآن فلم يبقَ شك في أن عدم تسليم المجرمين السياسيين أصبح من القواعد المسلم بها في القانون الدولي العام وقد نص عليه في قوانين أكثر البلاد المتمدينة وفي كثير من الاتفاقات الدولية وهو وارد في الدستور المصري في المادة (151) التي تقضي بأن تسليم اللاجئين السياسيين محظور (وهذا مع عدم الإخلال بالاتفاقات الدولية التي يقصد بها المحافظة على النظام الاجتماعي)، وقد ورد أيضًا في الاتفاق المؤقت الذي عقد بين الحكومة المصرية وحكومة فلسطين بشأن تسليم المجرمين بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1922 إذ نص فيه على استثناء الجرائم السياسية من أحكام التسليم.
الجرائم السياسية - الجرائم المختلطة:
وليست هناك صعوبة في تمييز الجريمة السياسية البحتة إذ هي الجريمة التي يكون موضوعها سياسيًا صرفًا كالمؤامرات التي تدبر لتغيير نظام حكومة من الحكومات وإنما هناك صعوبة في تمييز الجرائم المختلطة أي التي تدخل ضمن جرائم القانون العام وإنما تقع لغرض سياسي كالقتل والتعدي على الملكية - ويرى بعض الكتاب أن هذه الجرائم لا تخرج عن كونها جرائم عادية [(4)]، وقد جاء في الاتفاق المؤقت الذي عقد بين الحكومة المصرية وحكومة فلسطين ما يفيد الأخذ بهذا الرأي إذ نص في المادة الثامنة منه أنه لا تعد من الجرائم السياسية الجرائم الآتية:
(جرائم الاعتداء والنهب والسرقة بإكراه والتعدي على شخص جلالة ملك مصر أو شخص المندوب السامي لحكومة بريطانيا في فلسطين).
آراء مختلفة:
وبعبارة أخرى اعتبر الاتفاق المشار إليه أن هذه الجرائم لا تخرج مطلقًا عن الجرائم العادية - ولكن هذا الرأي ليس متفقًا عليه إذا يرى البعض أن تعتبر جرائم القتل والتعدي على الملكية من الجرائم السياسية إذا وقعت لغرض سياسي وورد ذلك فعلاً في بعض المعاهدات كمعاهدة فرنسا مع سويسرا المعقودة سنة 1869، وفي بعض القوانين أيضًا كالقانون الإيطالي - ويرى البعض الآخر أن يفرق بين الجريمة السياسية وبين الجريمة العادية فيسلم المتهم ليحاكم عن الجريمة العادية فقط [(5)]، وهناك فريق آخر يبحث عن العنصر الأكبر في الجريمة فإذا كان هو العنصر السياسي كانت الجريمة سياسية وإذا كان غير ذلك كانت عادية [(6)]، وقد أخذ بهذا الرأي القانون السويسري الصادر في سنة 1862 إذ ورد في المادة العاشرة منه أنه يجوز التسليم حتى ولو ادعى المتهم وجود غرض أو قصد سياسي إذا كانت الجريمة تكون في الغالب جريمة عادية على أن يترك تقدير هذه الصفة للمحكمة المركزية السويسرية وعلى أن يشترط عدم التشديد على المتهم بسبب غرضه السياسي وها هو نص المادة

L’extradition ne sera pas accordée pour les infractions politiques = elle sera accordée, alors même que le coupable alléguerait un motif ou un but politiqe, si I’infraction pour laquelle elle est demandée constitue principalement un délit commun.
Le tribuna fédral appréciera, dans chaque cas particulier, le caractèr de I’ifraction selon les faits de la cause.
Lorsque l’extradition sera accordée, le Conseil fédéral y mettra la condition que Ia personne don’t l’extradition est demandée, ne sera pas traitée d’une facon plus rigoureuse à cause de son motif ou de son but politique.

وقد جاء في القانون البلجيكي الذي صدر في 22 مارس سنة 1856 وفي أكثر معاهدات التسليم نص خاص يقضي باستثناء الاعتداء بالقتل أو بالسم على شخص رئيس حكومة أجنبية أو أعضاء عائلته وعدم اعتبار هذا الاعتداء من الجرائم السياسية [(7)]، وقد انتقد بعض الكتاب هذا النص وقالوا بأن الواجب توسيع الاستثناء حتى يشمل جرائم الاعتداء على كل رجال الحكم في الدولة من أكبر الرؤساء إلى أبسط الجنود (راجع في ذلك كتاب الأستاذ لورنس المطول صفحة 242 من الطبعة السابعة
(Laurence, Principles of International Law p. 242).
أما الجرائم التي تقع أثناء ثورة داخلية أو حرب أهلية فالرأي الراجح بشأنها أنها تعتبر من الجرائم السياسية إذا كانت مما يقع عادةً في الحروب المنظمة وتسمح به قواعد الحرب وعاداتها وقد قرر المعهد الدولي الذي عقد في جنيف سنة 1892 بجواز التسليم في حالة ارتكاب أعمال متوحشة تمنعها قواعد الحرب وإنما يكون ذلك بعد انتهاء الثورة - وقرر هذا المعهد أيضًا أن لا يعتبر ضمن الجرائم السياسية الجرائم التي توجه ضد قواعد النظم الاجتماعية بصفة عامة دون أن تقصد بها دولة خاصة أو شكل حكومة معينة.

Ne sont point réputée délits politiques, au point de vue de l’application des règles qui précèdent, les faits délietueux qui sont dirigée contre les bases de toute organisation sociale et non pas seulement contre tel état déterminé ou contre une telle forme de gouvernment.

وعلى ذلك يمكن تطبيق هذا النص الآن على جرائم الشيوعية والجرائم التي يقصد بها هدم نظام الملكية فلا تعتبر من نوع الجرائم السياسية التي تعفي من التسليم.
ونفس الأسباب التي دعت لتقرير إعفاء المجرمين السياسيين من التسليم دعت أيضًا إلى تقرير إعفاء الفارين من الخدمة العسكرية فهم لا يسلمون للدولة التي فروا من خدمتها إذ لا يعدون من طبقة المجرمين العاديين الذين يجب على الدول أن تتضامن لمجازاتهم والدول ترفض عادةً تسليم هؤلاء الفارين إلا إذا كانت هناك معاهدات تقضي بعكس ذلك كما حصل أثناء الحرب العظمى بين بعض الدول [(8)]، ولكن لا تسري هذه القاعدة على الفارين من البحارة إذ يجاب دائمًا طلب تسليمهم سواء أكان فرارهم من سفينة بحرية أو سفينة تجارية، وذلك حرصًا على الملاحة ومنعًا لتعطيل السفن إذ فرار بحارة سفينة عند رسوها في ميناء دولة أجنبية قد يؤدي إلى الإضرار بالسفينة ويمنعها من متابعة سيرها.
وكذلك تعفى من التسليم الجنود المتهمين بجرائم عسكرية غير الفرار مثل عدم إطاعة الأوامر أو الخيانة أو التجسس أما الجرائم العادية التي يرتكبها الجنود فلا تعفى من التسليم بحجة وقوعها من عسكريين بل ينظر إليها كما ينظر للجرائم السياسية المختلطة التي سبقت الإشارة إليها وقد حصل فعلاً أثناء الحرب العظمى أن طلبت ألمانيا من حكومة هولندا تسليم بعض الفارين من الجيش الألماني الذين ارتكبوا جرائم عادية يجوز فيها التسليم طبقًا لمعاهدة تسليم المجرمين المعقودة بين هولندا وألمانيا فأجابت الحكومة الهولندية بأنها مستعدة لتسليم هؤلاء الجنود بشرط أن تؤكد لها ألمانيا بأن تعطي لهم الفرصة في ترك الأراضي الألمانية بعد انتهاء الإجراءات واستيفاء العقوبة المتعلقة بالجرائم التي طلب التسليم من أجلها - ولقد رفضت ألمانيا قبول هذا الشرط بصفة عامة ولم تعطَ التعهد الذي طلبته هولندا إلا في بعض أحوال استثنائية.
أما الأعمال التي يرتكبها الجنود في حرب من الحروب وتكون مخالفة لقواعد الحرب وعاداتها فالرأي الراجح أنه يجوز تسليم المتهمين بارتكابها لأنها بعيدة عن الجرائم السياسية التي يكون أساسها اختلاف في الرأي أو المذهب السياسي لأن الأعمال المخالفة لقواعد الحرب كالنهب والتخريب والسرقة هي كالجرائم العادية وليس هناك ما يبرر ارتكابها [(9)].
ثالثًا: من القواعد المتفق عليه بين جمهور العلماء أنه لا يجوز التسليم إلا إذا كان العمل المطلوب التسليم من أجله معاقبًا عليه في الدولة الطالبة وفي الدولة المطلوب منها التسليم وإذا كان التسليم مطلوبًا لتنفيذ حكم صادر على المتهم فيشترط أيضًا أن لا يكون الحكم نفذ بتمامه ويستثني بعض الكتاب الحالة التي يكون فيها العمل غير ممكن الوقوع في الدولة المطلوب منها التسليم بسبب أنظمتها الخاصة أو موقعها الجغرافي كأن يكون التسليم مطلوبًا عن تعدٍ وقع على السكك الحديدية ولم يكن هناك نص يعتبر مثل هذا العمل معاقبًا عليه في البلد المطلوب منها التسليم بسبب عدم وجود سكة حديدية فيها.
وهذه القاعدة من القواعد التي وضعها المعهد الدولي في اجتماعه باكسفورد سنة 1880 إذ قرر النص الآتي:

En règle, on doit exiger que les faits auxquels s’applique l’extradition soient punis par la législation des deux pays excepté dans le cas, où à cause des institutions particulières ou de la situation géographique du pays de refugé, Ies eirconstances de fait constituant le délit ne peuvent se produire.

ومتى سلم شخص فلا تجوز معاقبته عن عمل آخر خلاف العمل الذي اتهم بارتكابه والذي بني عليه طلب التسليم - فإذا سلم شخص لارتكابه جريمة سرقة مثلاً فلا تجوز محاكمته عن جريمة أخرى وقعت قبل التسليم كنصب أو قتل الأبناء على طلب تسليم آخر يقدم للدولة التي لجأ إليها - وتسمى هذه القاعدة بقاعدة التخصص [(10)] (Principe de la spécialite)
وقد توسع بعض الكتاب في ذلك فقالوا بضرورة تقديم طلب تسليم آخر حتى ولو قبل المتهم أن يحاكم على الجريمة الثانية وذلك خوفًا من أن يكون هذا القبول قد حصل بطريق الإكراه.
رابعًا: من المسلم به أيضًا في موضوع تسليم المجرمين أن للدولة التي يطلب منها التسليم الحق في فحص الموضوع ويحصل هذا الفحص في بعض البلاد بمعرفة السلطة التنفيذية كما في ألمانيا وفي البعض الآخر يحصل بمعرفة السلطة القضائية كما في فرنسا وإنجلترا، ويشترط بعض الدول تقديم مستندات تبرر إحالة المتهم على المحاكم الجنائية وتشدد كل من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية فتطلب تقديم الأدلة التي تثبت الجريمة المطلوب التسليم من أجلها - وهناك دول أخرى تكتفي بالاطلاع على أمر القبض على المتهم أو ما يماثله فتقرر التسليم دون حاجة لمستندات أخرى وهذه الطريقة مقررة في بعض المعاهدات كالمعاهدات التي عقدت بين فرنسا وبلجيكا في 15 أغسطس سنة 1874.
وقد نص الاتفاق المؤقت الذي عقد بين الحكومة المصرية وحكومة فلسطين في سنة 1922 في المادة الخامسة منه على ضرورة إرفاق طلب التسليم بجميع ما يتيسر من البيانات التي تكون من شأنها إثبات شخصية من يطلب تسليمه وتعيين محل وجوده وبالمستندات التي تثبت الجريمة كأصل أمر القبض أو صورة مصدق عليها منه، وكذلك صورة من شهادات الشهود التي أديت أمام القاضي أو أي شخص آخر مكلف بالتحقيق ومن أي دليل آخر بني عليه الاتهام وإذا كان هناك حكم صادر في غيبة المتهم في جنحة أو جناية وجب أن يصحب الطلب بصورة مصدق عليها من الحكم أو من أمر التنفيذ الصادر بناءً على هذا الحكم - وكذلك عندما يكون الطلب مبنيًا على حكم صادر في مواجهة المتهم يرفق الطلب بصورة مصدق عليها من الحكم أو من أمر التنفيذ الصادر بناءً عليه وشهادة من وزارة الحقانية أو أي سلطة أخرى مماثلة لها في القطر الصادر منه الطلب دالة على أن الحكم أصبح واجب التنفيذ - وقضت المادة السادسة من هذا الاتفاق على أن لكل من الحكومتين المتعاقدتين السلطة التامة في البت فيما إذا كان هناك وجه لقبول الطلب الصادر من الحكومة الأخرى بتسليم مجرم هارب بناءً على أحكام هذا الاتفاق ويتولى الحكم بذلك السلطة القضائية أو أية سلطة أخرى يكون ذلك من اختصاصها بناءً على القوانين السارية في القطر صاحب الشأن ونصت المادة السابعة على أن ترخص السلطة المختصة بتسليم المجرم الهارب إلا متى ثبت لديها.
( أ ) عندما يكون الطلب مبنيًا على أمر بالقبض أن الأدلة المقدمة كافية لمحاكمة المتهم.
(ب) عندما يكون التسليم مبنيًا على حكم أن الأدلة كافية لتبرير الحكم الصادر.
(ج) أن لا تكون الجريمة المنسوبة للمتهم أو التي حكم عليه من أجلها في جميع الأحوال من الجرائم السياسية وأن لا تكون الغاية من طلب التسليم هي محاكمة المجرم الهارب أو توقيع العقوبة عليه من أجل جريمة سياسية.
وقد قضى قرار مجلس الوزراء الصادر في 17 مايو سنة 1902 بشأن الوفاق بين حكومتي مصر والسودان بشأن تسليم المجرمين وتبادل إعلان الأوراق القضائية أن يرفق طلب التسليم المقدم من إحدى الحكومتين للأخرى بالمستندات القوية التي تثبت الجريمة أو تبرر الحكم على المتهم (المواد (11) و(12) و(13) و(14) و(15) إلخ…).
هذه هي خلاصة القواعد المهمة في موضوع تسليم المجرمين وهو موضوع يهم المشتغلين بالمسائل الجنائية أو الدولية إذ قد يحدث أن يتعدى أحد رجال الدولة سلطته فيقتص أثر مجرم هارب خارج حدود دولته أو يقبض عليه في إقليم الدولة الأجنبية دون أن يتبع في ذلك إجراءات طلب التسليم وقد يؤدي عمله هذا إلى وقوع مشاكل بين دولته وبين الدولة الأجنبية - كما أن القبض الذي يجريه في هذه الحالة يقع باطلاً ويجب رد المتهم إلى الدولة التي كان لاجئًا إليها - وكذلك قد يحدث من باب الخطأ أو عدم العلم بالقواعد المتبعة أن يسلم أحد رجال الدولة متهمًا هاربًا من دولة أجنبية إلى رجال هذه الدولة الأخيرة دون أن تتبع في ذلك إجراءات التسليم - والرأي الراجح في مثل هذه الحالة أنه إذا كان هذا العمل قد وقع بحسن نية فليس هناك ما يدعو لطلب إعادة المتهم الذي سلم خطأ - وقد وقعت حادثة من هذا القبيل في سنة 1910 حيث رست في ميناء مارسيليا الفرنسية سفينة إنجليزية تسمى موريا More، وكانت تحمل رجلاً هنديًا مقبوضًا عليه ومأخوذًا إلى الهند ليحاكم على جريمة قتل ارتكبها أثناء حركة ثورية ولكنه تمكن من الفرار من السفينة ولجأ إلى داخل الميناء فطلب ربان السفينة إعادته وفعلاً قبض عليه رجال البوليس الفرنسي وأعادوه بدون اتباع إجراءات التسليم اعتمادًا منهم على وجود تعليمات صادرة لهم بعدم تمكين هذا المتهم من الهرب إلا أن الحكومة الفرنسية تنبهت للأمر بعد إقلاع السفن وطلبت إعادة المتهم للأراضي الفرنسية بحجة أن تسليمه كان غير قانوني فعارضت إنجلترا في ذلك وعرض المسألة على محكمة التحكيم في الهاي ولكن هذه المحكمة قضت في 24 فبراير سنة 1911 بجواز بقاء هذا المتهم تحت يد السلطة الإنجليزية ما دام لم يقع منها غش ولم يقع منها اعتداء على حقوق السيادة الفرنسية.
وكانت مثل هذه المشكلة لا تقع لو تنبه رجال البوليس الفرنسي للقواعد الخاصة بتسليم المجرمين - ومسائل تسليم المجرمين من المسائل التي تعرض كثيرًا في القطر المصري وقد حدث مرارًا أن طلبت الحكومة المصرية تسليم بعض المجرمين الذين تمكنوا من الهرب إلى بلاد أجنبية كما حدث أيضًا أن طلبت بعض الدول الأجنبية تسليم أشخاص لجأوا للقطر المصري.
ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن وزارة الداخلية لاحظت أن بعض السلطات المحلية تسلم مجرمين من تلقاء نفسها بناءً على طلب حكومة أجنبية دون أن تتبع القواعد الخاصة بذلك فوضت في أوائل سنة 1927 منشورًا لمنع ذلك نذكر منه ما يأتي:
(ولما كانت الحكومة المصرية تقوم عادةً بتسليم المجرمين الأجانب إلى الدول التابعة لها على قاعدة التبادل إذا كان ما ارتكبوه من الجرائم يقع تحت طائلة القانون العام على شرط أن يصل أولاً إلى وزارة الخارجية من الحكومة الراغبة في تسليم المجرمين طلب رسمي بالطريق السياسي المتبع مصحوبًا بكافة الأوراق التي تثبت أنهم من رعاياها وأن جريمتهم تقع تحت طائلة القانون العام.
فنرجو التنبيه بالعمل على موجبه وعدم تسليم المجرمين الأجانب إلا بعد الحصول على موافقة وزارة الخارجية.

حدود السيادة داخل الإقليم

تبين لنا مما سبق أن سيادة الدولة تنتهي عند تخومها فرجل البوليس أو المحقق القضائي أو القائد العسكري لا يستطيع اللحاق بمجرم تعدى حدود دولته ولا القبض على جندي فرّ إلى ما ورائها…
ولكن هل هذه السيادة مطلقة غير محدودة داخل هذا الإقليم وبعبارة أخرى هل هي سارية على جميع سكان إقليم الدولة بدون استثناء ؟ الجواب على ذلك أن سيادة الدولة ليست مطلقة كل الإطلاق داخل إقليمها بل هناك قيود تقلل من هذه السيادة في أمور معينة، ولكن هذه القيود لا تخرج عن كونها استثناءات من حق السيادة الإقليمية إذ الأصل أن تكون سيادة الدولة كاملة في بلادها وسارية على كل السكان فإذا وجد استثناء خارج عنها فلا يكون من شأنه إعطاء حق من حقوق السيادة لدولة أجنبية إذ لا توجد أكثر من سيادة واحدة على الإقليم الواحد.
استثناءات من السيادة الإقليمية - الممثلون السياسيون:
ويمكن أن نذكر أهم هذه الاستثناءات فيما يلي:
1 - استثناء السفراء والممثلين السياسيين ومن هم في حكمهم من السيادة الإقليمية فهم يتمتعون بامتيازات خاصة تخرجهم من سلطة الدولة التي يقيمون فيها.
القوى الحربية الأجنبية:
2 - استثناء القوى الحربية لدولة أجنبية كالسفن الحربية الأجنبية الراسية في مياه الدولة الإقليمية إذ هي خارجة عن سلطتها وكذلك الجيوش الأجنبية التي توجد أثناء السلم في إقليم الدولة برضائها أو نتيجة لاتفاق خاص.
الأجانب المتمتعون بالامتيازات:
3 - رعايا بعض الدول الأجنبية في البلاد التي يتمتع فيها الأجانب بالامتيازات وسنتكلم على كل من هذه الاستثناءات فيما يلي:

1 - امتيازات الممثلين السياسيين

مهمة الممثل السياسي:
يتمتع الممثلون السياسيون بحقوق وامتيازات خاصة وضعت - لحمايتهم ولتمكنيهم من القيام بمهمتهم، وهذه الامتيازات قديمة يرجع بعضها إلى أقدم العصور إذ يذكر التاريخ أنه في العصور القديمة والعصور الوسطى كانت الدول تتبادل الممثلين وكانت تكرم وفادتهم في البلاد التي يبعثون إليها [(11)].
من يتمتع بالامتيازات السياسية - الممثلون السياسيون ومن يتصل بهم:
وهذه الامتيازات تجعل الممثل السياسي غير خاضع لسلطان الدولة التي توفد إليها إذ هو يمثل دولة أجنبية مستقلة ويجب أن يكون بمأمن من سلطة الدولة التي يقيم فيها حتى يتمكن من القيام بمهمته على الوجه الأكمل لا سيما وأن مهمته كبيرة دقيقة فهو يوثق العلاقات بين دولته والدولة المقيم لديها ويقوم بالمفاوضات اللازمة بينهما ويراقب سير الأحوال في الدولة التي يقيم فيها ويخطر دولته بما يهم منها ثم هو يحمي رعايا دولته ويشرف على أمورهم وبعبارة أخرى يمكن تلخيص مهمة الممثل السياسي في ثلاث كلمات وهي المفاوضة والمراقبة والحماية ولا يمكنه القيام بكل ذلك إذا كان مهددًا بأعمال السلطة التي يمكن أن تتخذها الدولة بناءً على سيادتها الإقليمية، لذلك كانت هذه الامتيازات متعلقة بالقائمين بأعمال التمثيل السياسي والأشخاص المتصلين بهم فهي تحمي رئيس الهيئة التمثيلية وزوجته وأفراد عائلتيه الذين يقيمون في دار السفارة دون أن يكون لهم عملاً آخر، وتحمي أيضًا رجال الحاشية الرسمية للمثل السياسي كمستشاري السفارة وسكرتيريها وقد جرى العرف من باب المجاملة على مد نطاق هذه الامتيازات إلى الحاشية الغير رسمية كالخدم والتابعين الخصوصيين، وذلك بشرط أن لا يكون من رعايا الدولة صاحبة الإقليم - إلا أنه يجوز للمثل السياسي أن يتنازل عن الحماية التي يتمتع بها أفراد حاشيته الغير رسمية ويتركه للقضاء المحلي إذا ارتكب جريمة تستدعي العقاب - أما امتيازات الممثل السياسي ذاته فلا يكفي في رأي كثير من الشراح أن يتنازل هو عنها إلا إذا كان قد فعل ذلك بأمر حكومته أو قبلت حكومته هذا التنازل ويسري هاذ الشرط على أفراد عائلة الممثل الذين يتمتعون معه بالامتيازات وقد حدث في سنة 1906 أن اتهم ابن القائم بأعمال سفارة شيلي في بروكسل المدعو كارلوس وادنجتون بارتكاب جريمة قتل ورضي المتهم ووالده باختصاص القضاء المحلي فلم تكتفِ حكومة بروكسل وانتظرت ورود قبول من حكومة شيلي، وقد قبلت فعلاً هذه الحكومة إجراء المحاكمة في بلجيكا فقدم المتهم لمحكمة جنايات بريان البلجيكية وقضت هذه المحكمة ببراءته، ولتعلق هذه الامتيازات أصلاً بالممثلين السياسيين أطلق عليها تعبير الامتيازات السياسية.
رؤساء الدول:
إلا أنها ليست قاصرة على الممثلين السياسيين وحدهم بل يتمتع بها أيضًا رؤساء الدول كالملوك ورؤساء الجمهوريات الذين يمرون بأرض دولة غير دولتهم أثناء توليهم الحكم لأن الملك أو رئيس الجمهورية هو الممثل الأعلى لدولته بل هو رمزها ويجب أن يتمتع بهذه الامتيازات احترامًا لسيادة دولته ولا تقتصر الحماية على شخصه بل تمتد إلى أفراد عائلته الذين يصحبونه وكذلك رجال حاشيته إذ لا يخضعون جميعًا لسلطة الدولة التي يمرون بأرضها - وإنما تسقط هذه الامتيازات عن رئيس الدولة إذا وجد في إقليم دولة أخرى ممنوع من الإقامة فيها أو أقام في إقليم دولة مشتبكة في حرب مع دولته ويرى فريق من الكتاب إن الامتيازات تسقط عنه إذا كان مسافرًا بحالة تنكر ineognito على أنه يستطيع في الواقع أن يظهر شخصيته ليحتمي بالامتيازات [(12)]، ويتمتع بالامتيازات السياسية أيضًا طبقات أخرى من الأشخاص الذين يقومون بأعمال تعتبر في حكم تمثيل الدول فيتمتع بها أعضاء لجنة التعويضات التي أنشئت طبقًا لمعاهدة فرساي (المادة (333) وما يليها) لتحديد الأضرار التي يجب دفع تعويض عنها من الدول المهزومة وأعضاء بعض لجان الدول الأخرى كلجنة نهر الدانوب التي تشرف على الملاحة فيه ويتمتع بها ممثلو الدول لدى عصبة الأمم وممثلو العصبة ذاتها وأعضاء محكمة العدل الدولية التي أنشئت طبقًا لعهد عصبة الأمم وأعضاء محكمة التحكيم التي أنشئت طبقًا لقرارات مؤتمر السلام الدولي الذي عقد في الهاي سنة 1907، ويتمتع بها أيضًا ممثلو البابا إذ يعتبر أن للبابا شخصية دولية تشبه شخصية الدول المستقلة وإنما من نوع شاذ إذ ليس له إقليم أو رعية.
مدى سريان الامتيازات:
ويبدأ سريان الامتيازات بالنسبة للممثل السياسي من الوجهة القانونية من وقت تقديم أوراق اعتماده وتنتهي بانتهاء وظيفته إذ هذه هي الفترة التي يقوم فيها الممثل السياسي بالمهمة التي وضعت الامتيازات من أجلها، ولكن قضت المجاملات بمد أثر الامتيازات وجعلها سارية من يوم وصول الممثل السياسي لمحل وظيفته إلى اليوم الذي يغادره فيه، وإنما يستثني كثير من الكتاب الممثلون الذين يكونون من جنسية الدولة التي يوجد بها مقر التمثيل السياسي فالوطني الذي تكلفه دولة أخرى بتمثيلها في بلاده لا يعتبر بذلك خارجًا عن اختصاص السيادة الإقليمية لدولته وقد نصت بعض الدول على ذلك في قوانينها فقضى بذلك مثلاً القانون الألماني الخاص بالترتيب القضائي (المادة الثامنة عشرة)، ويستند أصحاب هذا الرأي على أن الوظيفة لا تكفي وحدها لإخراج الشخص من سيادة الدولة التي يدين لها بالرعوية وإذا قيل بإخراجه منها فهناك صعوبات أخرى تحول دون إدخاله تحت سيادة الدولة التي يمثلها، وبذلك لا يكون خاضعًا لسيادة أي دولة وفضلاً عن ذلك فيقولون إن الدولة التي تعين سفيرًا لها من رعايا الدولة التي توجد بها دار السفارة تقبل بذلك إخراجه من دائرة الامتيازات السياسية ومع أن هذا الرأي هو الرأي الراجح إلا أنه غير متفق عليه إذ يقول آخرون بأن الممثل السياسي يخرج عن سلطة السيادة الإقليمية للدولة ولو كان من رعاياها ويستند أصحاب هذا الرأي على أن الامتيازات السياسية متعلقة بالوظيفة وعلى أن الدولة التي تقبل بدون تحفظ أن يكون أحد رعاياها سفيرًا لدولة أجنبية إنما تتنازل بذلك ضمنًا عن حقوق سيادتها عليه متى كانت تتناقض مع الامتيازات السياسية [(13)].
ولا تسري الامتيازات السياسية إلا في الدولة التي يباشر فيها الممثل السياسي وظيفته، فلا يتمتع بها في إقليم دولة أخرى ولو كان مارًا به في طريقه إلى مقر عمله وذلك لأن هذه الامتيازات إنما تقررت على سبيل الاستثناء فلا يجب التوسع فيها كما يجب أن لا تتعدى الحكمة التي وضعت من أجلها وهي تمكين الممثل السياسي من القيام بمهام وظيفته بعيدًا عن أي مؤثر في الدولة التي يعمل فيها وبما أن وظيفته قاصرة على الدولة التي يعتمد فيها فيجب أن تكون الامتيازات التي يتمتع بها قاصرة على إقليم هذه الدولة على أن بعض الكتاب يقولون بعكس ذلك ويقولون إن القبض على ممثل سياسي أثناء وجوده في إقليم دولة غير الدولة المعتمد لديها أو حرمانه من الامتيازات السياسية يمس بسيادة الدولة التي يمثلها وأن الدولة التي تقبل مروره في إقليمها تعترف ضمنًا بصفته وبذلك يجب عليها احترامه ولكن في هذا الرأي مغالاة في صفة التمثيل السياسي إذ هذه الصفة لا توجد في الحقيقة إلا في الإقليم الذي يعتمد فيه الممثل والذي أوفد له خصيصًا أما في غير هذا الإقليم فهو لا يخرج عن كونه شخصًا عاديًا وشأن التمثيل السياسي في شأن الوظائف الأخرى التي لا ينتج أثرها إلا في الدائرة المعينة لها - وهناك من الكتاب من يقول بأن الممثل السياسي تكون له حرمة في الأقاليم الأخرى التي يمر بها وإنما لا يعفي من قضائها المحلي إذا أتى عملاً يختص هذا القضاء بنظره [(14)] كما إذا ارتبط بدين في تلك الأقاليم أو ارتكب فيها جريمة - على أنه لا يوجد في الواقع ما يدعو للتفرقة بين حرمة الممثل السياسي وبين إعفائه من القضاء المحلي إذ كلاهما من الامتيازات السياسية فإذا قيل بأن الممثل يحتفظ بصفته السياسية حتى في البلاد التي لم يعتمد فيها فلا بد من منحه كل الامتيازات السياسية دون تمييز أما القول بأنه يتمتع بالحرية التي للسفراء ولكن يخضع للقضاء المحلي ففيه تناقض وكان أولى بالكتاب الذين يأخذون بهذا القول أن ينضموا للقائلين بحرمان الممثل من الامتيازات عند وجوده في بلاد ليس معتمدًا فيها.
بيان الامتيازات السياسية:
والآن وقد عرفنا الأشخاص الذين يتمتعون بالامتيازات السياسة ومعناها ننتقل إلى بيان هذه الامتيازات خصوصًا ما كان منها متعلقًا بسلطة الدولة في المسائل الجنائية - فهذه الامتيازات يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 - الحرمة الشخصية وحرمة المسكن.
2 - الإعفاء من القضاء المحلي.
3 - الإعفاء من الضرائب.
أولاً: الحرمة:
يتمتع الممثل بحرمة لشخصه ولمسكنه فالحرمة الشخصية تجعل ذات الممثل السياسي مصانة كما تجعل الحكومة المعتمد لديها مكلفة بحمايته من كل اعتداء وإذا وقع عليه أي تعدٍ وجب عليها أن تتخذ الإجراءات اللازمة للقبض على المعتدي وتقديمه للمحاكمة - وقد وضع في كثير من القوانين نصوص خاصة تقضي بعقاب من يعتدي على الممثلين السياسيين أو يقذف في حقهم ومن ذلك قانون العقوبات الأهلي إذ نص في المادة (161) على عقاب من يعتدي بسبب وكلاء الدول السياسيين والقناصل والافتراء عليهم بسبب يتعلق بوظائفهم، وذلك بإحدى طرق العلنية المنصوص عنها في باب الجنح والجنايات التي تقع بواسطة الصحف وإنما يشترط لحماية الممثل السياسي أن لا يتسبب بخطئه أو بعمله في حصول الاعتداء عليه كأن يشترك في نزاع أو ثورة أو يعتدي على أشخاص فيضطرهم إلى مقابلة عمله بمثله، وكذلك يشترط أن تكون العلاقات السياسية قائمة ومنتظمة بين دولته وبين الدولة التي يقيم فيها أو تكون هذه الدولة معترفة قانونًا بدولته وبصفته السياسية فإذا لم يكن هناك علاقات سياسية فلا توجد تلك الحرمة الخاصة وقد أثيرت هذه المسألة في بعض الدول الأوروبية فحدث في سنة 1921 إن اعتدى إيطالي بالقذف والتهديد على أحد أعضاء بعثة روسية اقتصادية في إيطاليا وبالرغم من أن حكومة إيطاليا كانت قد عقدت اتفاقًا مع حكومة السوفيت الروسية تقرر بمقتضاه تمتع أعضاء هذه البعثة بالامتيازات السياسية فإن محكمة الجنح في روما قضت بتاريخ 20 مايو سنة 1921 بأن هذه الجريمة تعتبر أنها ارتكبت ضد شخص عادي وليس ضد ممثل سياسي لأن إيطاليا لم تعترف بعد قانونًا بجمهورية السوفيت ولم تنشأ بينهما علاقات سياسية [(15)]، وكذلك وقع في سنة 1923 أن قتل المندوب الذي أرسلته حكومة السوفيت أثناء انعقاد مؤتمر لوزان فاحتجت الحكومة السوفيتية على ذلك باعتبار أن الحكومة السويسرية قصرت في واجبها نحو حماية الممثل الروسي، ولكن حكومة سويسرا أجابت بأنها لم تقصر مطلقًا إذ لم تكن تعلم بوجود ممثل رسمي للسوفيت حتى تتكفل بحمايته.
المسكن - إيواء المجرمين:
ولمسكن الممثل السياسي حرمة أيضًا فلا يجوز لرجال السلطة في الدولة أن يدخلوه بدون تصريح منه ولا أن يجروا فيه أي عمل رسمي كتحقيق أو تفتيش أو إعلان وقد كانت هذه الحرمة مقررة قديمًا لكل الحي الذي توجد فيه دار السفارة وفعلاً يوجد مثل هذا النص في بروتوكول بكين الصادر في سنة 1901 بالنسبة لحي السفارات في تلك المدينة - ولكن لا يحق للممثل السياسي بناءً على هذه الحرمة أن يحمي المجرمين أو يسمح بإيوائهم في دار السفارة فالمجرمون الذين يحتمون بهذه الدار يجب تسليمهم للسلطات المحلية التي تطلبهم سواء أكانوا من المجرمين السياسيين أو من المجرمين العاديين - ولا يعد هذا من نوع التسليم الذي ذكرناه آنفًا لأن دار السفارة لا تخرج عن كونها جزءًا من إقليم الدولة التي توجد بها [(16)] - ولذلك إذا أصر السفير على عدم تسليم مجرم احتمى بدار سفارته لرجال الدولة صاحبة السيادة الإقليمية كان لوزير خارجية هذه الدولة أن يطلب من حكومة السفير إصدار أمرها بتسليم المجرم فإذا امتنعت هي الأخرى كان لرجال السلطة المحلية أن يدخلوا عنوة في دار السفارة ويقبضوا على المجرم وللسلطة المحلية أن تحيط برجالها دار السفارة في أثناء هذه المفاوضات حتى تأمن هروب المجرم وقد حصل ذلك في الحادثة التي أشير إليها آنفًا وهي حادثة القتل التي ارتكبها نجل القائم بأعمال سفارة شيلي في بروكسل إذ حاصر رجال الدولة البلجيكية دار السفارة حتى انتهت المفاوضات بقبول حكومة شيلي بأن تتنازل عن الامتيازات بالنسبة للمتهم وتسليمه للسلطة المحلية - وفي الواقع لا يوجد من الوجهة القانونية ما يبرر إيواء مجرم بدار سفارة إذ لا يجوز للسفير أو الممثل السياسي أن ينتزع شخصًا من يد العدالة مستندًا في ذلك على حرمة مسكنه لأن هذه الحرمة استثنائية ولا توجد إلا بالقدر اللازم لتمكين الممثل السياسي من أداء وظيفته ولا يدخل في هذه الوظيفة مساعدة مجرم على الإفلات من العقاب الذي يجب على الدولة المختصة أن توقعه عليه جزاء ما قدمت يداه لا سيما وأن ذلك من الأمور الداخلية التي يجب أن لا يتداخل السفير الأجنبي فيها حتى لا يشجع المجرمين أو يساعد على انتشار الفوضى - على أنه أصبح من المسلم به الآن من الدول الأوروبية أن ليس للممثلين السياسيين حق إيواء المجرمين في دور السفارات، وذلك بدون تمييز بين المجرمين العاديين والمجرمين السياسيين [(17)]، ولكن هذا الحق لا يزال موجودًا للسفراء في أمريكا الجنوبية بالنسبة للمجرمين السياسيين، وذلك بسبب القلاقل والثورات المتعددة بل قد نظم هذا الحق في المعاهدة التي عقدت بشأن القانون الجنائي الدولي في مونتفيديو بتاريخ 23 يناير سنة 1889 بين الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وشيلي وبراجواي وبيرو وأراجواي وقد نص في المادة السابعة عشرة منها على احترام إيواء اللاجئين السياسيين في دور السفارات إنما يجب على رئيس السفارة أن يخطر الحكومة المعتمد لديها بكل حالة ولهذه الحكومة أن تطلب إخراج اللاجئ من الإقليم الوطني في أقرب وقت مع إعطائه كل الضمانات للمحافظة على حرمة شخصه، أما المجرم العادي الذي يلجأ لدار سفارة فقد قضت هذه المادة أيضًا بوجوب تسليمه للسلطات المحلية في الدولة الإقليمية إما فورًا أو بناءً على طلب وزير الخارجية فيها ولا تقضي حرمة المسكن بإعطاء السفير الحق في حبس أفراد داخل دار سفارته دون أن يكون للسلطة المحلية أن تتداخل لمنع ذلك لأن دار السفارة ليست جزءًا من إقليم الدولة التي يمثلها السفير كما سبق القول وقد حدث في سنة 1896 أن صينيًا يدعى سون بتن اتهم بالاشتراك في مؤامرة ضد ولي عهد كانتون وهرب إلى لوندرة فحدث أنه كان مارًا أمام السفارة الصينية في العاصمة الإنجليزية فقبض عليه بعض خدمها وأدخلوه فيها بالقوة وحبس هناك فتداخلت الحكومة البريطانية في الأمر وأخذت تراقب دار السفارة برجال من البوليس الإنجليزي وطلبت إطلاق سراح الصيني وانتهى الأمر فعلاً بإطلاق سراحه وكان تداخل الحكومة الإنجليزية في هذه الحالة تقصد به وضع حد للجريمة التي ارتكبها رجال السفارة بحبسهم ذلك الصيني بدون وجه حق على أرض الدولة الإنجليزية ولكن السلطة القضائية لم تتدخل في هذا الموضوع [(18)].
وليس للسفير أو الممثل السياسي اختصاص قضائي juridiction contentieuse على رجال سفارته فلا يمكنه أن يفصل في قضاياهم أو يحاكمهم أو يقضي عليهم بعقوبات مدنية ولكن نجد في بعض العصور السابقة أمثلة غريبة تدل على أن السفير كان يستعمل أحيانًا بعض حقوق السلطة القضائية والتنفيذية على موظفي سفارته فقد روي أن سفيرًا إسبانيًا في فينسيا شنق أحد خدمه على شباك دار السفارة - ولكن اتفق أكثر الشراح وجرى العمل على أن يكون للسفير إجراء بعض أعمال السلطة الولائية guridiction gracieuse كقبول الوصايا وكتحرير شهادات ميلاد أو وفاة والتصديق على العقود وغير ذلك.
ولا يفوتنا أن نقول إن لمراسلات الممثل السياسي مع دولته حرمة فهو حر في إرسال ما يشاء لدولته دون أن تمس مراسلاته أو تفضي سريتها، وكذلك لا تنتهك حرمة محفوظات السفارة ومسجلاتها بل يجب احترامها حتى في حالة قيام حرب بين الدولتين.
ثانيًا: الإعفاء من القضاء المحلي - القضاء المدني:
تقضي الامتيازات التي يتمتع بها الممثلون السياسيون بإعفائهم من القضاء المحلي ما دام معترفًا بدولتهم قانونًا [(19)] فلا يخضعون للقضاء المدني في البلاد التي يؤدون فيها وظائفهم فمثلاً إذا استدانوا فيها لا يمكن لدائنيهم أن يقاضوهم أمام المحاكم المحلية ولكن لا يفيد ذلك أن يفقد الدائن حقه بل له أن يقاضي الممثل السياسي في محاكم دولته إذ يعتبر أن محله القانوني Domécile legal لا يزال هناك كما أن له أن يلجأ لوزير الخارجية ليتخذ ما يراه من الوسائل السياسية حتى يدفع الممثل ديونه.
القضاء الجنائي:
وكذلك يعفى الممثل السياسي من القضاء الجنائي فلا يمكن اتخاذ إجراءات جنائية ضده أثناء قيامه بوظيفته ولو كانت خاصة بأعمال ارتكبها قبل تعيينه فيها وكذلك لا يمكن اتخاذ هذه الإجراءات بعد انتهاء وظيفته إذا كانت متعلقة بأعمال ارتكبت إبان تأديته لهذه الوظيفة ولكن لا يعني هذا الإعفاء أنه يفلت من العقاب إذ يمكن للحكومة المحلية التي ارتكب الممثل جريمته في أرضها أن تطلب من حكومته محاكمته لدى سلطتها المختصة وتوقيع الجزاء عليه ولا ترفض الدولة إجراء ذلك وإلا اعتبرت شريكة للممثل المجرم على أن للدولة أن تتخذ الإجراءات الشديدة لمنع الممثل السياسي المقيم على أرضها من الاستمرار في ارتكاب جرائم تخل بنظامها أو تمس الأمن فيها خصوصًا ما كان من نوع خطير كالمؤامرات وتدبير الفتن إذ يجوز لها في هذه الحالة أن تحاصر دار السفارة برجال البوليس وأن تراقبها مراقبة دقيقة كما يمكنها أن ترسل الممثل بحراس حوله إلى الحدود وتطلب من دولته معاقبته - وقلما يحدث أن يرتكب الممثلون السياسيون جرائم تدعو لمثل هذه الإجراءات ولكن حصل أثناء الحرب العظمى أن وقع من بعض الممثلين السياسيين في البلاد المحلية أعمالاً مخالفة للقانون فحدث في سنة 1915 أن البرنس دي روس سفير ألمانيا في طهران أخذ يجمع في إيران عصابات مسلحة لمحاربة الروسيين ودبر سفير النمسا في واشنطن قبل دخول أمريكا في الحرب بعض اعتصابات أراد بها منع صنع الأسلحة في المصانع الأمريكية وقام سفراء ألمانيا والنمسا وبلغاريا لدى الحكومة اليونانية ببعض أعمال التجسس ولكن انتهى الأمر في كل هذه الحالات بإخراج السفراء الذين ارتكبوا هذه الأفعال.
ولكن لا تتخذ هذه الإجراءات الشديدة إذا كانت الجريمة التي ارتكبها الممثل السياسي قليلة الأهمية إذ يكفي في هذه الحالة أن تنبهه الحكومة المحلية بصفة سرية أو تخابر حكومته بصفة خاصة ومن القواعد المسلم بها أنه يجب على الممثل السياسي أن يحترم تشريع البلد الذي يقيم فيه وأن يتبع أحكام لوائح البوليس والصحة وغيرها من الأنظمة الإدارية التي تضعها السلطة المحلية وإنما لا يمكن استعمال طرق إكراه ضده إلا إذا دعت إلى ذلك الضرورة كضبط ممثل سياسي أثناء تلبسه بجريمة معاقب عليها، وذلك لحمايته وحماية الجمهور إنما يجب الاقتصار في هذه الحالة على الضبط فلا تتخذ أية إجراءات جنائية بعد ذلك ضد الممثل كالتحقيق أو المحاكمة.
تأدية الشهادة:
وكذلك تقضي امتياز الإعفاء من القضاء المحلي بعدم إعلان الممثل السياسي لأداء الشهادة أمام السلطة المحلية ولا يمكن أن يكره على أداء شهادته ولكن يمكن أن يطلب منه إرسال شهادته كتابةً، ولا يجوز أن يطلب للحضور أمام المحقق في مكتبه بل على المحقق أن يذهب بنفسه لدار السفارة لأخذ المعلومات التي يريدها إذا وافق الممثل السياسي على ذلك [(20)].
وفي الواقع لا يحجم الممثلون السياسيون عن إنارة رجال التحقيق والسماح لهم بدخول دور السفارات لأخذ المعلومات التي يمكن أن ترشدهم للوصول إلى الحقيقة ما دام إبداء هذه المعلومات لا يضر بالمصالح الموكولة للممثلين أو يمس سر مهنتهم - إلا أن ذلك متروك لتقديرهم فلهم أن يمتنعوا عن مساعدة رجال السلطة المحلية ورفض إبداء أي معلومات وقد تشدد سفير إيطاليا في إنجلترا في سنة 1916 فمنع البوليس الإنجليزي من تحقيق حادثة موت السكرتير الأول للسفارة الإيطالية بعيار ناري في حجرته محتجًا في ذلك بإعفاء الممثلين السياسيين من القضاء المحلي.
ثالثًا: الإعفاء من الضرائب:
لا نُطيل كثيرًا في هذه النقطة إذ هي خارجة عن موضوع بحثنا في سلطة الدولة في المسائل الجنائية، ولكن نذكر عنها كلمة تكملة لبحث الامتيازات السياسية - إذ تقضي هذه الامتيازات بإعفاء الممثلين السياسيين من الضرائب الشخصية والمقررة وإنما لا يسري هذا الإعفاء على ما يمتلكه الممثل بصفة خاصة من عقارات في البلاد التي يقوم بأعماله الرسمية أما العقار الذي تملكه حكومته ليكون دارًا لسفارتها فيعفى من الضريبة - وقد جرى العرف من باب المجاملة على إعفاء لممثلين السياسيين أيضًا من رسوم الجمارك.

2 - خروج القوى الحربية الأجنبية من دائرة اختصاص السلطة المحلية

مقارنةً بالامتيازات السياسية:
وهناك استثناء ثانٍ من السيادة الإقليمية أو من اختصاص السلطة المحلية وهو استثناء القوى الحربية لدولة أجنبية كالجيوش والسفن الحربية وليس الغرض من هذا الاستثناء ضمان مركز أشخاص معينين وتمكينهم من تأدية وظائفهم باطمئنان واستقلال كما هو الحال في الامتيازات السياسية، وإنما الغرض منه تمكين الدولة الأجنبية مباشرةً من القيام ببعض وظائفها العامة إذ متى سمحت دولة الجيش أجنبي أو لسفينة حربية تابعة لدولة أجنبية بالدخول في إقليمها فقد قبلت بمقتضى ذلك أن تباشر تلك الدولة الأجنبية على الإقليم المذكور شيئًا من سلطتها العامة بالنسبة للجيش أو السفينة، ولا يجوز للدولة الإقليمية بعد ذلك أن تعطل استعمال هذه السلطة أو تشترك في مباشرتها فخروج القوى الحربية الأجنبية من سلطة الدولة الإقليمية إنما أريد به تمكين الدولة التي تتبعها هذه القوى من الانفراد بالسلطة بشكل فعالٍ على قواتها المسلحة التي تعتمد عليها في الدفاع عن كيانها.
وهذه القوى الحربية لا تدخل في إقليم أجنبي إلا برضاء الدولة صاحبة السيادة على الإقليم وهي إما أن تكون جيوشًا أو سفنًا حربية أو طائرات حربية وقد تحدد حقوقها وواجباتها أثناء إقامتها بذلك الإقليم بمقتضى اتفاقات خاصة على أن قواعد القانون الدولي تقرر لها مركزًا خاصًا ولو لم يوجد اتفاق بشأنها.
الجيوش:
فالجيش الأجنبي الذي يقيم أثناء السلم [(21)] في إقليم دولة أجنبية برضائها يعتبر خارجًا عن اختصاصها الجنائي طالما توفر فيه النظام العسكري وكون أعضاؤه وحدة كاملة مرتبطة بروابط درجات الرئاسة العسكرية فإذا وقع من أحد أفراده جريمة فليس لرجال السلطة المحلية أن يقوموا ضده بإجراءات جنائية وإنما يشترط لذلك أن تكون الجريمة قد وقعت داخل المنطقة التي يوجد بها الجيش وأن لا يكون رجال الجيش قاموا بأعمال عدائية ضد الدولة التي يقيمون بإقليمها، وكذلك لا يمكن إعلان بعض أفراد الجيش الأجنبي وطلبهم أمام السلطة المحلية إلا إذا أذن قائد الجيش بذلك - كما أنه لا يمكن لرجال هذه السلطة أن تدخل ثكنات هذا الجيش أو المكان الذي يقيم فيه بدون إذن قائده - وتبقى لهذا القائد السلطة التي يخولها له قانون بلاده العسكري إذ تستمر أحكام هذا القانون سارية على أفراد الجيش أثناء إقامته بالإقليم الأجنبي تبعًا للقاعدة التي تقضي بأن القانون يتبع العلم La loi suit le drapeau.
على أن أفراد الجيش الأجنبي لا يعفون من الاختصاص المدني إذ لا توجد فيه الإجراءات الكيدية التي يمكن أن توجد في حالة الاختصاص الجنائي.
السفن الحربية الأجنبية:
ويتمتع أيضًا بالإعفاء من القضاء المحلي السفن الحربية التي للدول الأجنبية عند رسوها بموانئ الدولة أو مياهها الإقليمية في حالة السلم وللدولة أن ترفض السماح لهذه السفن بدخول موانئها ولكن متى قبلت دخولها فلا تستطيع أن تخضعها لاختصاصها لأن هذه السفن تمثل دولة أجنبية وتكون جزءًا من قوتها المسلحة ولكن يجب أن تتبع السفينة اللوائح الإدارية للدولة الساحلية كلوائح الجمارك والصحة ولا تقوم بعمل عدائي ضد هذه الدولة.
ويقضي إعفاء هذه السفن من الاختصاص الوطني أن رجال السلطة المحلية لا يستطيعون دخول السفينة بدون إذن قائدها فإذا لجأ مجرم لسفينة حربية فليس لهم أن يتبعوه إلى داخلها وإنما يطلبون من القائد إخراجه وإعطائه لهم ولا يعد ذلك من قبيل تسليم المجرمين الذي تكلمنا عنه آنفًا ولكن جرى العمل على قبول إيواء المجرمين السياسيين في السفن الحربية وعدم تسليمهم إلى السلطة المحلية إذا كانت دواعي الإنسانية تقضي بذلك.
وكذلك تعفى السفينة الحربية من الاختصاص المدني المحلي فلا يمكن توقيع الحجز عليها ولا مقاضاة رجالها أمام المحكمة المدنية عن أمور متعلقة بأعمالهم الرسمية وقد قضت محكمة الاستئناف بسنتياجو في شيلي بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1907 بأن السفينة الحربية الأجنبية لا تخضع للقضاء الوطني وبذلك تكون المحاكم المحلية غير مختصة بنظر الدعاوى التي ترفع من التجار للمطالبة بأثمان أغذية قدموها لرجال السفينة ولم يدفع ثمنها.
وليس لرجال السلطة المحلية أن تتخذ إجراءات جنائية بشأن جريمة وقعت على سطح السفينة الحربية الأجنبية إذ يعتبر ذلك من اختصاص الدولة التي تمتلك السفينة، وكذلك لا يخضع رجالها للقضاء الجنائي إذا كانوا خارج السفينة بشرط أن يكونوا سائرين تحت قيادة رئيس ويؤدون خدمة أمروا بها إذ يعتبرون في هذه الحالة كأفراد الجيوش التي سبق الكلام عليها ولا يخضعون إلا لقضاء دولتهم أما إذا وجد بعض أفراد منفصلين من رجال السفينة أو غير قائمين بخدمة مكلفين بها فإنهم لا يتمتعون بأي امتياز شأنهم في ذلك شأن أفراد الجيش المنفصلين عنه.
السفن التجارية:
أما السفن التجارية الراسية في مياه الدولة فيقضي الرأي الراجح بعدم إعفائها من الاختصاص المحلي إذ تعتبر كالأشياء المنقولة التي تملكها الأجانب في إقليم الدولة وإنما يقول بعض الكتاب بأن مسائل النظام الداخلي البحت للسفينة تخرج من دائرة الاختصاص المحلي وتخضع لسلطة الربان.
الطائرات الحربية:
وتسري القواعد الخاصة بالسفن الحربية على الطائرات الحربية للدولة الأجنبية فإذا سمحت دولة بدخول طائرة حربية لدولة أخرى في إقليمها الجوي فإن ذلك يقتضي عدم خضوع هذه الطائرة للسلطة المحلية إذ هي ممثلة للدولة التي تحمل علمها وإنما يجب عليها أن تتبع القوانين واللوائح الداخلية التي وضعت لضمان أمن الملاحة الجوية أو صيانة المصالح الحربية أو الصحية أو المالية للدولة الإقليمية إذ في ذلك احترام لحقوق الغير، ويجب على كل دولة أن تحترم حقوق غيرها من الدول، وبذلك يجب على الطائرات الأجنبية أن تمتنع عن الاقتراب من الحصون أو الأماكن الخاصة الممنوع المرور فوقها كما يجب أن تمتنع عن كل عمل عدائي ضد الدولة التي تطير فوق إقليمها فإن خالفت ذلك كان للدولة الإقليمية أن تخابر الدولة المالكة للطائرة وتطالبها بتعويضات عما حدث.
ولا تخضع الطائرات الحربية الأجنبية ورجالها للقضاء المحلي فلا يمكن لعمال السلطة المحلية أن يدخلوها بدون إذن أو يجروا فيها عملاً من الأعمال الرسمية كما أن الجرائم التي ترتكب على سطحها لا تدخل في اختصاص السلطة الجنائية المحلية وإنما تختص بنظرها سلطة الدولة المالكة للطائرة وكذلك لا تخضع لطائرات الحربية للقضاء المدني ولا يمكن الحجز عليها.
وقد نصت على هذه الامتيازات المعاهدة الدولية التي عقدت في 13 أكتوبر سنة 1919 بشأن الملاحة الجوية، وإنما لا تتمتع بها إلا الطائرات الحربية المملوكة لدولة أجنبية أما الطائرات الخصوصية أو المملوكة للدولة دون أن تكون حربية فلا تتمتع بهذه الامتيازات.

3 - الأجانب المتمتعون بالامتيازات

بقي هناك استثناء ثالث من اختصاص السلطة الإقليمية وإنما ليس عامًا كالاستثناءات التي سبق ذكرها بل هو استثناء قاصر على بعض البلاد الشرقية بل يكاد الآن يكون قاصرًا على القطر المصري، وهو استثناء الأجانب المتمتعين بالامتيازات من السلطة المحلية وقد كانت هذه الامتيازات قبلاً عبارة عن منح أعطيت في البلاد العثمانية وبعض البلاد الشرقية للأجانب حتى لا تنطبق عليهم قواعد هذه البلاد فالدولة العثمانية عندما منحت هذه الامتيازات لرعايا بعض الدول الأجنبية لم تكن ضعيفة تخشى بأس الأجانب أو دولهم بل كانت قد بلغت ذرا مجدها وكان في هذه الامتيازات فوائد عديدة لرعايا الدول الأجنبية إذ بدونها كان يعامل الأجنبي طبقًا لقواعد الشريعة الإسلامية باعتبار أنه مستأمن والمستأمن لا يكون حرًا في أعماله إلا لمدد معينة ثم تطبق عليه بعد ذلك أحكام الشريعة كما أنه كان يدفع جزية للحكومة وقد يجبر على سلوك مخصوص فألغت الامتيازات هذه القيود وأعطت للأجانب الحق في دخول الأراضي العثمانية والسكني بها ومباشرة التجارة بدون أي قيد والتمتع بحرية الأديان وحرمة المسكن وتطبيق قوانينهم الشخصية في التوارث وإعفائهم من القضاء المحلي وغير ذلك، وكذلك كان الحال في القطر المصري إذ وجد ساكن الجنان محمد علي باشا أن يشجع الأجانب على الحضور لبلاده حتى تستفيد من متاجرهم وعلومهم وفنونهم بعد أن كانوا ولوا وجههم عنها أيام المماليك بسبب ما كانوا يلاقونه من عسف وجور لذلك فتح لهم أبواب البلاد ورفع عنهم القيود التي كانت تفرض عليهم قبل ذلك وكان ينصفهم إذا أصابهم حيف بل كان يعطي أوامر لموظفيه ومرؤوسيه لمساعدتهم وتوفير سبل الراحة لهم وكانت تسلم بعض هذه الأوامر للأجانب أنفسهم ليقدموها لحكام البلاد حتى يعاملوا معاملة خاصة [(22)]، وقد أريد بذلك تمكين الأجانب من الإقامة في البلاد باطمئنان.
وقد توسعت مصر في الحقوق التي منحتها للأجانب أكثر من الدولة العثمانية ففي الوقت الذي كان فيه اختصاص القناصل في تركيا قاصرًا على ما يقع من الجرائم بين الأجانب التابعين لدولة واحدة كان اختصاصهم في مصر واسعًا يشمل كل الجرائم التي يرتكبها الأجانب ولو كانت ضد وطنيين ثم تأيد ذلك بلائحة وضعت في سنة 1857 تقرر فيها إعفاء الأجنبي الذي يرتكب جريمة من القضاء المحلي إلا إذا كان غير تابع لإحدى القنصليات وفي غير هذه الحالة تبلغ الجريمة للقنصل
التابع له المتهم وهو الذي يتولى محاكمته وقد قضى التوسع في تطبيق الامتيازات في مصر بتفسير معنى السكن الذي يتمتع فيه الأجنبي بحرمة خاصة تفسيرًا واسعًا فلم يقتصر على المنزل وملحقاته الملاصقة كما كان الحال في تركيا بل شمل أيضًا كل مكان يستعمله الأجنبي في تجارة أو صناعة أو عمل أو مهنة إذ ما دام المكان يستعمله أجنبي فإن له حرمة خاصة تمنع رجال السلطة المحلية من دخوله بدون مندوب القنصلية التي يتبعها الأجنبي إلا في أحوال استثنائية كحصول استغاثة أو تلبس بالجناية.
وكذلك كان الحال في الدعاوى المدنية أيضًا إذ كانت ترفع في مصر للقنصل الذي كان الخصم تابعًا له مهما كان نوعها بخلاف الحال في الدولة العثمانية إذ كانت الدعاوى العقارية تنظر أمام المحاكم العثمانية وقضت الامتيازات التي منحتها تركية سنة 1675 أن القضايا التي تزيد قيمتها عن 4000 آسير - (والآسير عملة فضية تساوي ثلاثة سنتيمات) تنظر أمام القاضي الوطني بحضور ترجمان القنصلية أما القضايا التي تتجاوز هذه القيمة فتنظر أمام الباب العالي فقط ولما كانت مصر بعيدة عن الباب العالي اعتاد الناس على رفع قضاياهم أمام القنصل في القضايا الكبيرة، وكذلك اعتادوا رفعها أمامه في القضايا الصغيرة لكي يصلوا إلى حقهم بسرعة ويضمنوا مساعدة القنصل في التنفيذ.
وهكذا أخذت حقوق الأجانب تزيد في مصر عما كانت عليه في تركيا فأعطى لهم حق امتلاك العقارات في القطر المصري في الوقت الذي كان محظورًا عليهم امتلاكها في البلاد العثمانية إذ لم ينشأ لهم هذا الحق في تركيا إلا بقانون صدر في يونية سنة 1867 بناءً على الخط الهمايوني الصادر في 18 فبراير سنة 1856 الذي أجاز فيه السلطان تملك الأجانب للعقارات أما في مصر فقد أعطى لهم هذا الحق قبل صدور الخط الهمايوني بمدة فكان المغفور له محمد علي باشا يسمح لهم بامتلاك العقارات بل كان يهبهم بعض الأراضي أسوة بالوطنيين (مثل أراضي الأبعادية وهي أراضٍ غير مزروعة كان يهبها لبعض أشخاص لزراعتها ويعفيهم من الضريبة المقررة عليها ثم أصبحت هذه الأراضي تورث عنهم بمقتضى أمر عالٍ صدر في سنة 1836) - ولما تولى المغفور له عباس الأول أمر القضاة بأن لا يعطوا حجة للأجنبي الذي يشتري أملاكًا عقارية في مصر ولكن لم يستمر هذا لأن المغفور له سعيد باشا أصدر أمرًا في مارس سنة 1858 أعلن فيه بيع الأراضي الخراجية التي تركها واضعوا اليد عليها وأباح للأجانب شراء هذه الأراضي (وكان هذا أيضًا قبل القانون التركي الصادر في يونية سنة 1867) بل هناك ما هو أكثر من ذلك إذ أن الأجانب كانوا يدفعون كل الضرائب العقارية في تركيا ولكنهم كانوا في مصر يمتنعون عن دفعها حتى اضطر نوبار باشا إلى مفاوضة الدول في ذلك ومما يدل على أهمية ما يدفعه الأجانب أنه لما تقرر في مؤتمر لندرة سنة 1885 عدم إعفائهم من دفع ضرائب الأملاك المبنية وصدر أمر عالٍ بذلك في سنة 1887 ارتفع دخل هذه الضريبة في تلك السنة من 45000 جنيه إلى 110000 جنيه ولا تزال توجد للآن ضرائب لا يدفعها الأجانب فكثيرين منهم يمتنعون عن دفع ضريبة الخفر التي يدفعها المصريون، وكذلك لا يمكن للحكومة فرض ضرائب جديدة عليهم إلا بعد مصادقة دولهم [(23)]، وقد حصل ذلك فعلاً عندما أرادت الحكومة المصرية زيادة عوائد الأملاك المبنية في سنة 1909 بمناسبة إنشاء المجاري في القاهرة إذ ورد في ديباجة القانون أنه صدر بعد مصادقة الدول وجاء في المادة الثانية منه أنه يجوز تعميم الزيادة في سائر المدن الأخرى التي تباشر فيها الحكومة إنشاء مجارٍ أو أعمال صحية مماثلة لها ويكون هذا التعميم بمقتضى أوامر مخصوصة تصدر بعد مصادقة الدول.
يتضح لنا من ذلك أن الامتيازات الأجنبية كانت عبارة عن منح للأجانب وكان كرم مصر في إعطائها واسعًا حاتميًا فنشأ من ذلك أن اعتبرتها الدول حقوقًا ثابتة لرعاياها بل هي لا تزال تطمع في ذلك الكرم المصري إذ اتفقت على إلغائها في أكثر البلاد دون القطر المصري فألغيت هذه الامتيازات في أكثر بلاد البلقان بعد سنة 1878 وكان آخر العهد بها في بلغاريا في سنة 1919 حيث قررت الدول في معاهدة الصلح التي عقدت مع بلغاريا (معاهدة نولى Neuilly) في المادة (175) أن تعقد اتفاقات مع بلغاريا لإلغاء الامتيازات نهائيًا وألغيت الامتيازات في الجزائر وتونس وطرابلس ومراكش وألغيت في اليابان بين سنتي 1894 و1900، وفي كوريا في سنة 1910 وألغيت في تركيا بمقتضى معاهدة لوزان التي عقدت في 24 يولية سنة 1923 وبدئ بإلغائها في سيام في سنتي 1925 و1926 مع وجود بعض قيود تقرر إزالتها عندما تضع سيام قوانينها الجنائية والمدنية وها هي الصين تكاد تصل الآن إلى إلغائها وفعلاً قد تنازلت لها بعض الدول عن امتيازاتهم من ذلك ألمانيا التي صرحت بهذا التنازل في 20 مايو سنة 1921 وروسيا التي عقدت اتفاقًا يتضمن ذلك مع الصين في 31 مايو سنة 1925، وكذلك أيدت أغلبية الدول بمناسبة الحركة القائمة في الصين الآن رأيها بأن الامتيازات أصبحت غير لازمة وغير متفقة مع المدنية الحاضرة وصرح بعض كبار الساسة بذلك كالمستر أوستن تشامبرلن والمستر لويد جورج وغيرهما - أما في مصر فلا تزال تلك الامتيازات العتيقة باقية وهي تقف عقبة دون كل إصلاح.
ولقد خف شيء من أثر الامتيازات بإنشاء المحاكم المختلطة بموافقة الدول المتمتعة بالامتيازات [(24)]، وبدأت أعمالها في فبراير سنة 1876 إذ جعلت مختصة بنظر القضايا المدنية التي ترفع بين أجانب مختلفة الجنسية أو بين أجانب ومصريين وتنظر بعض المسائل الجنائية وهي قضايا المخالفات التي تقع من الأجانب وكذلك أنواع معينة من الجنح والجنايات وهي ما يوجه ضد رجال القضاء المختلط أو يقع منهم بسبب تأدية وظائفهم أو أثناء تأديتها والجرائم التي ترتكب ضد تنفيذ أحكام المحاكم المختلطة وأضاف الأمر العالي الصادر في 26 مارس سنة 1900 على اختصاص المحاكم المختلطة جرائم التفاليس ومع ذلك فتقضي لائحة ترتيب المحاكم المختلطة في المادة (13) بضرورة إخبار قنصل الدولة التابع لها المدعى عليه بالدعوى المقامة عليه بالجناية أو الجنحة كما أنها تقضي بأن إجراءات التحقيق مع أحد الأجانب وإدارة المرافعات الشفوية قبيل الحكم تناط بأحد القضاة الأجانب سواء كانت الدعوى متعلقة بمادة من مواد المخالفات أو الجنايات أو الجنح وإذا لم يكن للمتهم بجناية أو جنحة مدافع عنه يعين له مدافع بمعرفة المحكمة عند استجوابه وإلا كان التحقيق لاغيًا وكذلك تنص المادة (16) من هذه اللائحة بأن المتهم المسجون تحت الشبهة يسلم إلى قنصل الدولة التابع لها عقب استجوابه في ظرف أربعة وعشرين ساعة على الأكثر من وقت ضبطه إلى أن يثبت وجود محلات لائقة للسجن بالقطر المصري - ما لم يأذن القنصل بحجزه في سجن الحكومة وتقضي المادة (20) أنه إذا اقتضى الحال في أثناء التحقيق الدخول في محل المتهم فيخبر بذلك قنصل الدولة التابع لها ويحرر محضر بهذا الإخبار تسلم صورته إلى القنصلية، وكذلك لا يسوغ الدخول ليلاً في محل بدون حضور القنصل أو مندوبه أو تصريح منه بالدخول في غيبته إلا في حالة مشاهدة الجاني حين تلبسه بالجناية أو في حالة الاستغاثة من داخل المحل.
هذه هي الجرائم التي تخص المحاكم المختلطة أما فيما عدا ذلك مما ترتكبه رعايا الدول المتمتعة بالامتيازات فخارج عن اختصاص المحاكم المصرية أهلية ومختلطة وعن نطاق القانون المصري - وهناك نص صريح على ذلك في قانون العقوبات الأهلي إذ نصت المادة الأولى منه على أنه يستثنى من أحكامه من كان غير خاضع لقضاء المحاكم الأهلية بناءً على قوانين أو معاهدات أو عادات مرعية.
فهذا الاستثناء يُعد من حقوق السيادة المصرية ويخرج من سلطة القضاء المصري أشخاصًا يرتكبون جرائم على الأراضي المصرية ويخلون بنظام الأمن فيها فتحاكمهم محاكم أجنبية قد تكون قوانينها مخالفة للقوانين المصرية بل قد يحدث أن يرتكب الجريمة شخصان أحدهما خاضع لاختصاص القضاء المصري والآخر غير خاضع له فتنظر القضية أمام محكمتين مختلفتين ويطبق عليهما قانونان مختلفان كما حدث أخيرًا في قضية مقتل المسيو شيكوريل في شهر مارس سنة 1927 إذ كان أحد المتهمين بقتله خاضع للقضاء المصري فتم التحقيق بشأنه بمعرفة رجال البوليس والنيابة المصريين بشكل أعجب به الأجانب ذاتهم ثم قدم لمحكمة الجنايات المصرية فقضت عليه بالإعدام في شهر إبريل أمام المتهمين الآخرين فتركوا لقضائهم الأجنبي وعلى ذلك صدر في القضية أحكام مختلفة.
ومن النتائج المحزنة للامتيازات إفلات بعض طبقات من المجرمين من يد البوليس والقضاء المصري كالأجانب الذين يتجرون بالمواد المخدرة أو بالرقيق الأبيض وغير ذلك ومن المدهش أن أغلب الدول الغربية الممثلة في عصبة الأمم تبذل جهدها لوضع حد في مثل هذه المسائل أما الحكومة المصرية فتقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه الجرائم الخطيرة [(25)] - لهذا بدأت الحكومة المصرية بالسعي لإخضاع الذين يرتكبون جرائم على أرض مصرية للقوانين المصرية وقد قرر مجلس الوزراء فعلاً في 3 مارس سنة 1927 الترخيص لوزير الحقانية بوضع مشروع نصوص تشريعية يكون أساسًا لاقتراح تقدمه الحكومة إلى الدول يقضي بتوسيع سلطة المحاكم المختلطة في المواد الجنائية بحيث تشمل الجنح المنصوص عليها في قانون الاتجار بالمواد المخدرة وبعض الجرائم الأخرى، وذلك حرصًا على الآداب العامة ومحافظة على نظام المحال العمومية، والحكومة المصرية جادة في تنفيذ ذلك وإنا نرجو أن نتمكن من الوصول إلى إخضاع الأجانب المقيمين في القطر المصري إلى القوانين المصرية كما هو الحال في جميع الأمم المتمدينة ومنها ما يقل في المدنية والنظام عن الدولة المصرية - إذ ليست مصر بأقل درجة من سيام مثلاً التي وافقت الدول في سنتي 1925 و1926 أي في هذه السنين الأخيرة على إلغاء الامتيازات فيها والتي كتب عنها أحد أساتذة القانون في فرنسا تعليقًا على المعاهدات التي ألغت هذه الامتيازات أنه تتوفر في سيام الشروط اللازمة لتعامل من الآن كشخص بالغ (أي غير قاصر) في المجتمع الدولي

(Le Ciam remplit largement les conditions nécessaires pour être désormais traité en personne majeure dans la communauté internationale).

(انظر مقالة للمسيو مونكار فيل الأستاذ بكلية الحقوق باستراسيورج في مجلة القانون الدولي العام عن ديسمبر سنة 1926 صفحة 330.
“ M. Moncharville. Revue de Droit Int. Pub. - Sep. et Déc. 1926, P. 330 ”
فإذا قيل أن سيام أصبحت شخصًا دوليًا بالغًا في المجتمع الدولي فإن مصر قد تجاوزت دور البلوغ ووصلت إلى درجة الكمال بين أعضاء هذا المجتمع - ويقيننا أن الدول ستتنبه لهذه الحقيقة وتعترف بها قريبًا فتتنازل عن امتيازاتها العتيقة ويصبح الأجنبي والمصري سواء أمام القانون ما داموا يعيشون فوق أرض واحدة ويستظلون بسماء واحدة.

محمد رياض عبد المنعم

محاولة لوضع نظرية عامة لجرائم الاشتباه المنصوص عنها في المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945

مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الرابعة والثلاثون1954

محاولة لوضع نظرية عامة لجرائم الاشتباه
المنصوص عنها في المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945
بحث للسيد الأستاذ طاهر شاش وكيل نيابة بور سعيد

دفعني إلى هذا البحث ما نلاقيه نحن المشتغلين بالقانون من صعوبات كثيرة في تطبيق أحكام المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945 فيما يتعلق بجرائم الاشتباه، فلقد ذهبت المحاكم المختلفة في تفسيره وتطبيقه مذاهب شتى يختلف كل منها عن الآخر تمام الاختلاف ولا تربط أحكامه روابط معينة يمكن تجميعها لاستخلاص قواعد محددة يُعتمد عليها في تفسير نصوص هذا المرسوم بقانون اللهم إلا أحكام مفرقة أصدرتها محكمة النقض المصرية وضمنتها مبادئ معينة يجوز الاعتماد عليها في وضع نظرية عامة لجريمة الاشتباه في القانون المصري.
وبعد، فقد نصت المادة (5) من هذا المرسوم بقانون على أنه:
(يعد مشتبهًا فيه كل شخص يزيد سنه على خمس عشرة سنة حُكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم الآتية أو اشتهر عنه لأسباب مقبولة بأنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم:
1 - الاعتداء على النفس أو المال أو التهديد بذلك.
2 - الوساطة في إعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة.
3 - تعطيل وسائل المواصلات أو المخابرات ذات المنفعة العامة.
4 - الاتجار بالمواد السامة أو المخدرة أو تقديمها للغير.
5 - تزييف النقود أو تزوير أوراق النقد الحكومية أو أوراق البنكنوت الجائز تداولها قانونًا في البلاد أو تقليد أو ترويج شيء مما ذُكر).
وواضح من هذا النص أن المشرع قد قصد أن يضع تعريفًا للشخص الذي يُعتبر مشتبهًا فيه فحدد جرائم معينة ظاهر من المادة أنه ذكرها على سبيل الحصر واعتبر الشخص (مشتبهًا فيه) في أحد حالين:
أولاً: إذا حُكم عليه أكثر من مرة في إحدى هذه الجرائم.
ثانيًا: إذا اشتهر عنه لأسباب مقبولة أنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم.
وتثور الصعوبة لأول وهلة عند هذا التعريف، فالمعتاد أن يكون الركن المادي لأية جريمة فعلاً محددًا سواء كان فعلاً إيجابيًا أو فعلاً سلبيًا (امتناعًا) فيقال مثلاً السرقة هي اختلاس مال منقول مملوك للغير بقصد امتلاكه، وجريمة الامتناع عن الشهادة تقوم بامتناع الشاهد عن الحضور للأداء بشهادته أمام القاضي.
أما في تعريف المشرع للشخص المشتبه فيه أو بمعنى آخر تعريفه لجريمة الاشتباه فقد أورد النص حالين هما:
1 - الحكم على الشخص أكثر من مرة.
2 - الشهرة باعتياده ارتكاب بعض هذه الجرائم المحددة.
وليس (الحكم) أو (الشهرة) فعلاً محددًا يرتكبه المجرم فيعاقب عليه، هذه الصعوبة في رأينا هي الصعوبة الأساسية التي تتفرع منها وتقوم عليها الصعوبات العملية في تطبيق هذا التشريع.
فمن الأسئلة التي يثيرها هذا النص…
متى تقوم هذه الجريمة ؟.. هل بمجرد أن يُحكم على شخص أكثر من مرة في إحدى هذه الجرائم المعينة.. وهل تقوم الجريمة إذا حُكم عليه مرة في جريمة من المنصوص عليها في البند الأول مثلاً وفي أخرى من المبينة في البند الرابع من المادة الخامسة.
- هل تشترط مدة معينة يُحكم على الشخص خلالها أكثر من مرة لكي يُعتبر مشتبهًا فيه ؟
- متى تسقط هذه الجريمة بمضي المدة ؟
- أي المحاكم تختص محليًا بنظر الدعوى عن هذه الجريمة ؟ هل المحكمة التي أصدرت أيًا من الأحكام التي سبق صدورها ضد المتهم أم المحكمة التي أصدرت آخر حكم عليه أم هل هي المحكمة التي يقيم المتهم بدائرتها ؟
- هل تقوم الجريمة إذا كان الحكم الأول الصادر ضد هذا الشخص قد صدر ضده قبل صدور هذا المرسوم بقانون.
- في أية صورة يتحقق العود لحالة الاشتباه إن كانت الجريمة نفسها لا تقوم إلا بصدور أكثر من حكم على المشتبه فيه ؟
- ما معيار هذه الشهرة وما المقصود بالأسباب المقبولة المنصوص عليها في تلك المادة ؟
هل هي شيء آخر يختلف عن صدور أحكام كثيرة على هذا الشخص المراد نسبة الجريمة إليه ؟
… وأسئلة أخرى كثيرة لا نجد الإجابة الشافية لها عند مجرد النظر إلى هذا النص سالف الذكر.
واعتقد أنه من الممكن أن نهتدي إلى إجابة لكل من هذه الأسئلة وغيرها لو أمكن تحديد نوع جريمة الاشتباه أي لو استطعنا وضعها في فصيلة من الفصائل التي جرى شراح القانون الجنائي على أن يقسموا الجرائم إليها فإن نوع كل جريمة هو الذي يحدد وضعها من القانون الجنائي ومن قانون الإجراءات الجنائية.
يقسم فقهاء القانون الجنائي الجرائم بالنظر إلى ركنها المادي إلى:
1 - جرائم إيجابية وجرائم سلبية.
2 - جرائم وقتية وجرائم مستمرة.
3 - جرائم بسيطة وجرائم عادية.
4 - جرائم مادية وجرائم شكلية.
فما وضع جريمة الاشتباه بالنسبة لهذا التقسيم ؟
يُحسن قبل أن نحاول إدراج جريمة الاشتباه في إحدى الأنواع السابقة أن نبين أهمية هذه المحاولة في حل المشكلات التي تصادفنا عند تطبيق مواد الاشتباه في العمل والتي أشرنا إلى بعض منها فيما سبق.
فالقول بأن جريمة الاشتباه من الجرائم الوقتية أو المستمرة يضع لنا حدًا للمشكلات التي تصادفنا عند بحث انقضاء الدعوى الجنائية فيها بالتقادم إذ في الجريمة الوقتية تبدأ مدة سقوط الدعوى من وقت ارتكاب الجريمة أما في الجريمة المستمرة فلا يبدأ سريان المدة إلا من وقت انتهاء حالة الاستمرار وكذلك بالنسبة للاختصاص المقرر فإن المحكمة المختصة بنظر الدعوى في الجريمة الوقتية هي التي وقعت هذه الجريمة في دائرتها دون غيرها أما في الجريمة المستمرة فالأصل أن تختص بنظرها جميع المحاكم التي قامت في دائرتها حالة الاستمرار - كما تهم هذه التفرقة في بحث قاعدة قوة الشيء المحكوم فيه فالحكم الصادر في جريمة وقتية لا يمنع من إعادة المحاكمة عن واقعة أخرى من نفس النوع الذي حُكم فيه تكون قد وقعت قبل رفع الدعوى أما الحكم الصادر في جريمة مستمرة فهو يحوز قوة الشيء المحكوم فيه بالنسبة لجميع الوقائع التي شملتها حالة الاستمرار قبل رفع الدعوى.
وكذلك الحال عند القول بأن جريمة الاشتباه من الجرائم البسيطة أو من جرائم العادة إذ تشبه جريمة الاعتياد الجريمة المستمرة في القواعد المقررة بالنسبة للاختصاص والتقادم وحجية الشيء المحكوم فيه.
فهل من الممكن أن نضع جريمة الاشتباه في نوع معين من أنواع الجرائم التي أشرنا إليها ؟
أن تقسيم الجرائم كما أسلفنا يتصل بركنها المادي والركن المادي لجريمة ما يستخلص من صياغة النص بها ولذا يتعين الرجوع إلى نص المادة الخامسة من قانون الاشتباه لاستخلاص هذا الركن المادي.
تُعرف المادة الخامسة المشتبه فيه بأنه الشخص الذي حُكم عليه أكثر من مرة… والشخص الذي اشتهر عنه أنه اعتاد… إلخ.
والحكم والشهرة أمران لا دخل لنشاط الجاني مباشرةً فيهما فالحكم يصدر من القاضي والشهرة تقوم لدى الناس ولا دخل للجاني في إذاعتها - فكأن الجاني يعاقب عن أمر لا يقوم مباشرةً بارتكابه وإنما يرتكب نوعًا معينًا من الجرائم فيحكم عليه فيها أو لا يحكم عليه وإنما يذيع عنه أنه معتاد ارتكابها - ففي الحالة الأولى يلقى الجاني جزاءين - جزاء يوقع عليه بالحكم عليه في الجرائم التي يرتكبها وجزء آخر يوقع عليه باعتباره مشتبهًا فيه بسبب صدور تلك الأحكام ضده - وفي الحالة الثانية يكون الجاني قد أفلت من العقاب على الجرائم التي ارتكبها لسبب ما فيلحقه عقاب الاشتباه.
غير أننا نلاحظ أنه في الحالة الأولى يلقى الجاني جزاءين عن فعل واحد ارتكبه وهو أمر غريب في باب التجريم إذ القاعدة ألا يحاكم الشخص جنائيًا مرتين عن فعل واحد ارتكبه قد يعاقب الشخص جنائيًا ومدنيًا أو جنائيًا وتأديبيًا لارتكابه فعلاً مجرمًا ولكن أن يعاقب مرتين بعقوبتين جنائيتين لارتكابه فعلاً واحدًا فهو أمر يدعو إلى التساؤل.
ينبغي إذا أن نفسر هذا الأمر تفسيرًا يفصل بين جريمته الأولى وجريمته الأخيرة فلا يكون الركن المادي في الجريمة التي ارتكبها الجاني في أول الأمر هو بذاته الركن المادي لجريمة الاشتباه فلا نقول مثلاً إن الركن المادي في جريمة الاشتباه هو بذاته فعل السرقة الذي ارتكبه الجاني مرتين فُحكم عليه مرتين فصار مشتبهًا فيه.
ويتعين علينا عندئذٍ ألا نخوض فيما هو أبعد من النص للوصول إلى النشاط الغير مباشر التي قام به الجاني ولكن يجب أن نعترف بأن المشرع قد خالف القاعدة العامة المتعارف عليها في تعريف الجريمة وهو وإن اختلفت الصيغ التي وضعها فقهاء القانون ينحصر في القول بأن الجريمة (كل عمل خارجي إيجابي أو سلبي نص عليه القانون وقرر له عقوبة جنائية إذا صدر بغير حق يبيحه عن إنسان مسؤول أخلاقيًا).
فالمشرع لم يحرم هذه المرة عملاً ارتكبه الجاني سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا بل حرم صفة قامت لديه هي صفة الاشتباه.
ولكن ما هي صفة الاشتباه، ما تعريفها، ما حدودها وعناصرها وأركانها ؟
تعرفها المادة (5) بأنه الحكم على الشخص أكثر من مرة لارتكابه جرائم معينة أو اشتهار هذا الشخص بأنه اعتاد ارتكاب هذه الجرائم.
وأول ما يثور من الأسئلة بصدد هذا التعريف السؤال عما إذا كان مجرد الحكم على شخص مرتين يجعله مشتبهًا فيه - حُكم على شخص مثلاً عام 1920 في جريمة سرقة ثم حُكم عليه 1945 في جريمة سرقة أيضًا فهل يعد مشتبهًا فيه رغم مضي المدة الطويلة بين هذين الحكمين ؟
للإجابة على هذا السؤال ينبغي ألا نقف عند النص لتفسيره بما يظهر من عبارته وإلا كان تفسيرنا تحكميًا مجحفًا بالنسبة للمتهم - خاصةً وأن المشرع قد أورد في قانون الإجراءات الجنائية نصوصًا تقضي بأن المحكوم عليه بعقوبة ما يرد اعتباره قانونًا وبغير حكم من المحكمة إذا مضت مدة معينة تختلف بحسب الأحوال ويترتب على رد اعتباره محو الحكم القاضي بالإدانة بالنسبة للمستقبل وزوال ما يترتب عليه من انعدام الأهلية والحرمان من الحقوق وسائر الآثار الجنائية (المواد من 550 إلى 553 إجراءات جنائية) وإن كان الأمر كذلك فليس مستساغًا أن يعتد بحكم صدر على المتهم من مدة طويلة مضت.
وعلى ذلك ينبغي أن نتعرف على حكمة الشارع من سن نصوص خاصة بالاشتباه واهتمامه بتعريف الشخص المشتبه فيه ويبدو من استقراء الحالتين اللذين اعتبر المشرع الشخص مشتبهًا فيه عند قيام إحداهما أنه أراد حصر طائفة من المجرمين رأى بسبب خطورتهم أن يسن لهم أحكامًا خاصة بمعاملتهم وعقابهم، فالمعيار عنده إذا هو خطورة الشخص على المجتمع وهذه الخطورة تعرف في شخص ما إذا حُكم عليه أكثر من مرة لارتكابه هذا النوع المعين من الجرائم أو إذا اشتهر عنه أنه اعتاد أن يرتكبها وكانت الشهرة مبنية على أسباب مقبولة.
ولقد كانت المادة الثانية من القانون (24) لسنة 1923 بشأن المتشردين والأشخاص المشتبه فيهم تحدد فئات الأشخاص الذين يجوز اعتبارهم من المشتبه فيهم في ست فقرات وهم:
أولاً: الأشخاص المحكوم عليهم للقتل عمدًا أو الذين حُكم عليهم أكثر من مرة واحدة لارتكاب جريمة من جرائم التبديد وخطف الأشخاص والحريق عمدًا وتعطيل المواصلات والسرقة والنصب وتزييف النقود وإتلاف المزروعات وإعدام المواشي وانتهاك حرمة المساكن بقصد ارتكاب جريمة أو الشروع في ارتكاب هذه الجرائم إلا إذا كان مضى خمس سنين على عقوبته أو كانت تلك العقوبة قد سقطت بالتقادم.
ثانيًا: من تولت النيابة أكثر من مرة عمل تحقيق ضدهم أو إقامة الدعوى عليهم لجريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفقرة السابقة أو لشروع في إحدى تلك الجرائم ولكن بسبب عدم كفاية الأدلة حفظت القضية أو صدر قرار بأن لا وجه لإقامتها أو حُكم فيها بالبراءة إلا إذا كان قد مضى خمس سنين على حفظ القضية أو إصدار القرار بأن لا وجه لإقامتها أو الحكم فيها بالبراءة أو كانت الدعوى العمومية قد سقطت بالتقادم.
ثالثًا: من صدر عليهم مرة واحدة حكم مما نص عليه في الفقرة الأولى من هذه المادة وكانوا مرة واحدة أيضًا محلاً لتحقيق أو لدعوى مما نص عليه في الفقرة الثانية إلا إذا أمكنهم الانتفاع بالمواعيد المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين.
رابعًا: من يوجدون أكثر من مرة بين غروب الشمس وبين شروقها جائسين أو مختبئين في جوار قرية أو عزبة أو ضاحية أو أي مكان آخر يدعو إلى الشبهة ومن غير أن يكون لوجودهم سبب ما.
خامسًا: من اشتهر عنهم لأسباب جدية الاعتياد على الاعتداء على النفس أو على المال أو الاعتياد على التهديد بالاعتداء على النفس أو على المال أو الاعتياد على الاشتغال كوسطاء لإعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة.
سادسًا: من اعتادوا الاتجار بطريقة غير مشروعة بالمواد السامة أو بالمغيبات كالحشيش والأفيون والداتورة والكوكايين وغير ذلك.
وهذه المادة كما هو ظاهر قد أراد منها المشرع أن يحصر الفئات التي يعتبرها خطرة على المجتمع فنظم لها وضعًا معينًا وترك للبوليس والنيابة تطبيق هذا الوضع والمادة قد تعاوننا في تفهم غرض الشارع من تعريف الأشخاص المشتبه فيهم - فالفقرتان الثانية والثالثة من المادة سالفة الذكر تجعلان من بين الأشخاص المشتبه فيهم أشخاصًا لم يُقدموا للمحاكمة بالرغم من اتهامهم فهم وإن كانوا قد تمكنوا من الإفلات من العقوبة بسبب عدم كفاية الأدلة التي قامت ضدهم إلا أن هذا الأمر لا ينفي أنهم أشخاص خطرون بحيث يجوز اعتبارهم من المشتبه فيهم الذين يجب تمييزهم عن غيرهم بأوضاع قانونية خاصة.
فالأمر إذن أمر خطورة على المجتمع قبل أي شيء وليس أمر أحكام تصدر ضد أشخاص ما لمجرد صدورها ضدهم أكثر من مرة ما لم تدل هذه الأحكام على الخطورة.
ونلاحظ أن المادة الثانية من قانون الاشتباه القديم تحدد مدة معينة لإمكان الاعتماد على الأحكام أو قرارات الحفظ أو الأوامر بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى خلالها مما يدل على أن الشارع لم يشأ في ذلك الوقت أن يترك تقدير الخطورة التي يتهم بها الشخص بغير رابط بل حاول أن يضع لها حدًا معينًا وهذا لا يعني أن المشرع قد أراد استبعاد هذا القيد أن يترك الأمر للفصل فيه كمسألة حسابية مجردة باعتبار الشخص مشتبهًا فيه عند الحكم عليه أكثر من مرة وإنما أراد أن يضع تقدير خطورة المتهم في يد القضاء حسبما يراه من أوراق الدعوى وهو إذ رفع الجزاء الذي كان يوقعه رجل البوليس أو رجل النيابة على المشتبه فيه ووضعه في يد القاضي قد اطمأن إلى حُسن تقديره لهذه الصفة لدى المتهم ووضع له قرينة يعتمد عليها في تقدير خطورة المتهم هي أن يحكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم المعينة - فكأن هذه القرينة لم تُوضع للقاضي لتحد من حريته في التقدير وإنما وضعت لتهديه فله أن يطرحها إذا رأى من بعد البون بين هذه الأحكام مثلاً أنها غير دالة على خطورة المتهم.. هي إذن قرينة قابلة لإثبات العكس وليست قاطعة ملزمة للقاضي.
هذا هو التفسير الذي يبدو لنا سليمًا لجريمة الاشتباه (الاشتباه صفة تقوم لدى أحد الأشخاص مؤداها أنه خطر على المجتمع بسبب ارتكابه جرائم معينة أو اشتهاره بأنه اعتاد ارتكابها - يدل عليها الحكم عليه أكثر من مرة فيها أو أسباب أخرى مقبولة).
فكأن الذي يطرح أمام القضاء هو (اتصاف شخص ما بأنه خطر على المجتمع لارتكابه أو اشتهاره بأنه اعتاد ارتكاب جرائم معينة).
ولنعد بعد هذا إلى ما سبق أن حاولناه من إدراج هذه الجريمة تحت نوع معين من الأنواع التي ذكرناها.
يبدو لنا لأول وهلة أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل أن ننجح في هذه المحاولة لأنه كما قلنا ليس لهذه الجريمة الركن المادي المعتاد من ارتكاب فعل أو الامتناع عن فعل بل هو صفة لدى الجاني نعاقبه عليها، وليس ممكنًا أن نقول إن هذه الصفة تكون جريمة وقتية أو جريمة مستمرة، جريمة بسيطة أو جريمة عادية.
فهي إذن جريمة من نوع خاص، جريمة غير محددة في التشريع وإنما متروك تحديدها لتقدير القاضي يقدر قيامها أو عدم قيامها فإن رأى أن الأحكام التي حكم بها على المتهم لا تكفي للدلالة على خطورته بسبب طول المدة التي تفصل بين كل منها أو التي تفصل بين الحكم الأخير وتاريخ رفع دعوى على المتهم أو بسبب تفاهة الجرائم التي ارتكبها أو عدم تماثل النشاط الإجرامي لدى المتهم أو إذا رأى أن الشهرة التي ذاعت عنه بأنه معتاد ارتكاب هذه الجرائم غير قائمة على سبب مقبول إذا رأى هذا الأمر أو ذاك قضى ببراءة المتهم.
ويبدو من الأحكام التي أصدرتها محكمة النقض المصرية في هذا الصدد أن هذا هو الرأي الذي تدين به فهي تقول (إن السوابق لا تُنشئ الاتجاه الخطر الذي هو مبنى الاشتباه والذي يريد الشارع الاحتياط منه لمصلحة الجماعة بل هي تكشف عن وجوده وتدل عليه فهي والشهرة بمنزلة سواء) (مجموعة القواعد القانونية الجزء السابع صـ 243 في القضية 8 سنة 17 قضائية).
كما تقول (إن الشارع إنما أراد بالمرسوم بقانون (98) لسنة 1945 أن يوسع في سلطة القاضي بعد أن انتقل إليه ما كان قد عهد به في القانون السابق للبوليس والنيابة من سلطة الإنذار وتقدير حالة الاشتباه وذلك زيادة منه في تقرير الضمانات للمتهمين.. وإذن فإذا ما استقرأ القاضي من حال الشخص وسوابقه ما يقنعه بقيام الحال الخطرة والاتجاه الإجرامي اللذين يجعلان من صاحبهما مشبوهًا يخشى شره عجل بمراقبته أو اكتفى بإنذاره تبعًا لدرجة خطورته وإن استبان بأنه برغم الحكم عليه أكثر من مرة لم يندمج في ذمرة الأشرار الخطيرين أو اندمج ولكن أقلع واستقام بعد عثراته الماضية أخلى سبيله كما هو الشأن فيمن يعد مشبوهًا بناءً على الاشتهار لأن الاشتهار والسوابق قسيمان إبراز حالة واحدة ويتعادلان في الاستدلال على وجودها) (الكتاب السابق صـ 175 القضية 1415 سنة 16 قضائية).
وتقدير القاضي لخطورة المتهم كما قلنا غير محدد وليس يحكمه ضابط معين وإنما قد يعتمد القاضي على أن الأحكام الصادرة ضد المتهم (من الجسامة أو الخطرة أو التعاقب أو التعاصر أو التماثل.. إلخ تكفي لإقناع القاضي بأن صاحبها ما زال خطرًا يجب التحذر منه) (نقض المجموعة السابقة في القضية رقم 8 سنة 17 قضائية).
وهذا الفهم لجريمة الاشتباه يضع لنا حلولاً مقبولة للمشكلات العديدة التي تصادقنا أثناء تطبيق نصوص القانون.
فقد تساءلنا في بداية هذا البحث عن المدة اللازم مضيها بين كل حكم صادر ضد المتهم - أو بين الحكم الصادر أخيرًا ضده وبين تاريخ رفع الدعوى عليه أو بعبارة أخرى تساءلنا عن المدة اللازم مضيها لانقضاء الدعوى الجنائية عن هذه الجريمة بالتقادم.
وتطبيق النظرية العامة التي فصلناها فيما سبق نضع إجابات مقبولة لهذه الأسئلة فالقانون لا يشترط مضي مدة معينة بين كل حكم صادر ضد المتهم كما أنه لا يمكن القول بأن هذه الجريمة تسقط بالتقادم لمضي مدة معينة أيضًا - إذ ما دمنا نعاقب المتهم على صفة فيه فالعبرة بالاقتناع بوجود هذه الصفة لديه أو بعدم وجودها أيًا كانت المدة التي تمضي بين هذه الأحكام وبين تاريخ رفع الدعوى الجنائية ضده أو بين الأحكام بعضها البعض فما الأحكام كما قلنا إلا قرينة على خطورة المتهم فإذا كانت قاطعة في الدلالة على هذا الأمر فإنه يستحق العقاب وإلا فيتعين الحكم ببراءته.
ولقد ذهب رأي إلى أن جريمة الاشتباه من جرائم العادة التي يجب طبقًا لما ذهب إليه الفقه الجنائي ألا تنقضي أكثر من ثلاث سنوات بين كل فعل من الأفعال التي تتكون بها هذه الجريمة كما أنه يجب ألا تنقضي أكثر من ثلاث سنوات على آخر فعل تتم به الجريمة وبين تاريخ رفع الدعوى وقد أسس أصحاب هذا الرأي رأيهم على ما ظهر لهم من عبارة المادة الخامسة من قانون الاشتباه من أنها تشير إلى (الحكم أكثر من مرة).. و(الاشتهار باعتياد ارتكاب بعض هذه الجرائم) ولكن هذا الرأي يصطدم كما قلنا بطبيعة جريمة الاشتباه التي لا يتفق ركنها (أنها صفة لدى الشخص) مع ركن جريمة العادة (وهي أفعال يلزم أن تنبئ عن العادة) وهذا الأمر وحده يكفي لإهدار هذا الرأي فإن كل المقصود من التشريع هو عقاب من توافرت لديهم صفة الخطورة فلا معنى لوضع حدود زمنية تحكمية وإنما الأمر متروك للقاضي تقديره - وقد يصلح عنصر الزمن إلى جانب العناصر الأخرى كأساس يقيم عليه القاضي اقتناعه أو عدم اقتناعه بخطورة المتهم الذي يحاكمه.
وتضع لنا النظرية العامة التي أشرنا إليها كذلك حدًا لمشكلة الاختصاص إذ أن معاقبة المتهم على صفة فيه تجعل المحكمة المختصة بنظر الدعوى هي المحكمة التي يقيم المتهم بدائرتها لأن هذه الصفة لاحقة به ويسهل إثباتها في المحيط الذي يقيم فيه.
كما تضع لنا أيضًا حدًا للمشكلة التي قد تثور عما إذا كانت الجرائم التي حددتها المادة الخامسة تستقل كل منها عن الأخرى بمعنى أنه يشترط لكي يعتبر الشخص مشتبهًا فيه أن يحكم عليه في نوع معين من الجرائم - جرائم الاعتداء على المال وحدها مثلاً أو جرائم الاتجار بالمخدرات..
ففي إلقاء نظرة على هذا النص نجد أن المشرع وإن كان قد رتب كل نوع من الجرائم في فقرات مختلفة إلا أن النص خالٍ مما يدل على وجوب أن يكون النوع الذي دأب المتهم على ارتكابه واحدًا بل هو تنظيم من لدى الشارع في الإمكان غض النظر عنه كأن لم تكن هذه الجرائم مقسمة إلى فقرات مختلفة - وذلك لأنه ما دام المقصود هو البحث فيما إذا كان المتهم متصفًا بصفة الخطورة على المجتمع فإن هذه الخطورة قد تستفاد من ارتكابه جرائم من أنواع مختلفة مما نص عليه الشارع، فقد يحكم عليه لجريمة قتل ويحكم عليه أيضًا لجريمة سرقة وجريمة الاتجار بالمخدرات ومع ذلك يرى القاضي نفسه إزاء متهم خطير على المجتمع نظرًا لتقارب هذه الأحكام وجسامة الجرائم التي ارتكبها فيحكم عليه باعتباره مشتبهًا فيه.
وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن المتهم قد يعتبر مشتبهًا فيه إذا حكم عليه مرة لسرقة وأخرى للاتجار بالمخدرات وقالت في حكمها إنه (لا أهمية لكون المتهم لم يحكم عليه إلا مرة واحدة في جنحة مخدر ما دام القانون قد ذكر جريمتي السرقة والاتجار بالمخدرات بصدد تكوين حالة الاشتباه ولم ينص على وجوب أن تكون الجرائم التي ذكرها من نوع واحد بالنسبة إلى المتهم) (القضية 2105 سنة 17 قضائية جلسة 22/ 12/ 1947 - المجموعة السابقة صـ 431).
كذلك قد يثور التساؤل عما إذا كانت جميع الجرائم التي تتدرج تحت نوع معين مما نصت عليه المادة الخامسة تكون جريمة الاشتباه - مثلاً نصت المادة على جرائم الاعتداء على النفس فهل تعتبر جريمة الإصابة الخطأ مما يشمله هذا النص ؟
النظرية التي ذكرنا أساسها تضع حلاً لهذا السؤال - فالأمر ليس تطبيقًا مجردًا للنص كما قلنا وإنما يلزم أن تدل الجريمة على أن المتهم قد اتسم بالخطورة وفي أغلب الأحيان مثلاً لا تكون جريمة الإصابة الخطأ مما يدل على ذلك، وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن جرائم الغش والتدليس لا تعتبر بصفة عامة من جرائم الاعتداء على المال فيجب للاعتداد بها في مقام الاشتباه أن يبين الحكم ما يبرر عدها اعتداءً على المال (القضية رقم 1951 سنة 18 قضائية جلسة 28 فبراير سنة 1949 المجموعة السابقة صـ 783).
بقي سؤال آخر قد يثور عنه تطبيق نص المادة الخامسة - سؤال عن حجية الشيء المحكوم فيه - متهم قُدم للمحاكمة في جريمة اشتباه بسبب الحكم عليه عام 1945 مثلاً لسرقة وعام 1950 لضرب ولكن المحكمة رأت أن هذين الحكمين لا يدلان على خطورة المتهم فقضت ببراءته وأصبح حكم البراءة نهائيًا ثم حكم على هذا المتهم عام 1951 لسرقة فهل من الممكن أن يُقدم للمحاكمة في جريمة اشتباه من جديد ؟
الصعوبة الظاهرة لأول وهلة مرجعها إلى أن الحكمين الأولين قد طرحا أمام المحكمة فقضت ببراءة المتهم فهل يعتمد عليها من جديد بالرغم من كونهما من عناصر الدعوى المحكوم فيها.
ولكن تطبيق النظرية التي فصلنا أحكامها والتي تقضي بأن الأحكام الصادرة ضد المتهم ما هي إلا قرائن على الخطورة لا تمنع القاضي من الاستدلال بها بالإضافة إلى عناصر أخرى على أن المتهم قد أصبح خطرًا يجب التحرز منه، وعلى ذلك فمن الجائز للقاضي أن يعتمد عليها في تكوين اقتناعه بخطورة المتهم.
وقد جرى قضاء محكمة النقض المصرية على أنه من الممكن الاستعانة بالأحكام السابقة على صدور المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 في تكوين القاضي عقيدته عن خطورة المتهم والحكم عليه في جريمة الاشتباه وأوضحت أنها ترى أن السوابق لا تُنشئ الاتجاه الخطر بل هي تكشف عن وجوده فقط كما سبق أن ذكرنا.
ونتعرض الآن للشهرة باعتياد ارتكاب الجرائم الواردة في الفقرة الثانية من المادة الخامسة سالفة الذكر ولا أظن أننا في حاجة إلى تفصيل في شرحها بعد أن اعترضنا لتفصيل النظرية التي نأخذ بها في جريمة الاشتباه فشأنها شأن الأحكام الصادرة ضد المشتبه فيه - هي دليل على خطورته يستشفها القاضي من أوراق الدعوى وله كامل الحرية في تقدير قيامها وإنما يشترط الشارع أن تكون هذه الشهرة مبنية على أسباب مقبولة، وعلى القاضي أن يبين هذه الأسباب في حكمه - وقد يعتمد القاضي على شهادة رجال الحفظ كما قد يعتمد على شهادة أشخاص آخرين إنما يجب أن تدل هذه الشهادة بوضوح على أن المتهم قد ذاع عنه هذا الأمر حتى بلغ حد الشهرة - كذلك من الممكن أن يهتدي القاضي بما ورد في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة الثانية من القانون (24) لسنة 1923 من تحديد للأشخاص الخطرين كأن يكون المتهم قد سبق اتهامه عدة مرات بارتكاب هذه الجرائم وحفظت الدعوى الجنائية فيها لعدم كفاية الدليل أو بُرئ منها لبطلان شاب إجراءات التحقيق كبطلان التفتيش في قضايا الاتجار بالمخدرات أو بطلان الاعتراف المنسوب للمتهم وهكذا.
والمناط في كل هذا الأمر أن يقوم لدى القاضي الاقتناع بأن المتهم قد اتصف بالخطورة لاشتهاره بأنه اعتاد ارتكاب هذه الجرائم التي حددها القانون.
وأخيرًا، وبعد أن فصلنا النظرية السابقة وحاولنا تطبيقها فيما يتعلق بجريمة الاشتباه المنصوص عنها في المادة الخامسة من المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 - هل تسعفنا هذه النظرية في تفهم الجريمتين الأخريين المنصوص عنهما في المادتين السادسة والسابعة من هذا المرسوم بقانون ؟
تنص المادة السادسة على أنه (يعاقب المشتبه فيه بوضعه تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنين، وفي حالة العود تكون العقوبة الحبس والوضع تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنين).
كما تنص المادة السابعة على أنه (يجوز للقاضي بدلاً من توقيع العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة السابقة أن يصدر حكمًا غير قابل للطعن بإنذار المشتبه فيه بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا فإذا وقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه فيه في خلال السنوات الثلاث التالية للحكم وجب توقيع العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة السابقة).
وظاهر من نص هاتين المادتين أنهما تشيران إلى جريمتين مختلفتين:
الأولى: العود للاشتباه بعد الحكم بمراقبته.
الثانية: وقوع عمل من المشتبه فيه من شأنه تأييد حالة الاشتباه وذلك خلال ثلاث سنوات من الحكم بإنذاره.
ويبدو لنا أنه من المستحسن أن نحاول شرح المقصود من هاتين المادتين معًا ولنبدأ بالجريمة الثانية.
أعطى المشرع للقاضي الحق في أن يمهد للمتهم الطريق للعدول عن الميول الإجرامية التي بدت لديه بأن يصدر عليه حكمًا بالإنذار بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا بدلاً من توقيع عقوبة المراقبة عليه كما أعطى للمتهم فرصة ثلاث سنوات يصلح فيها من شأنه ويتبع الطريق المستقيم بحيث إنه إذا نقضت هذه الفترة دون أن يتجه بنشاطه اتجاهًا إجراميًا فإن هذا الحكم بالإنذار يسقط عنه - وإلا فإذا وقع منه عمل يؤيد حالة الاشتباه لديه فإنه يستحق العقاب.
فما هو العمل الذي قد يقع من المشتبه فيه ويؤيد حالة الاشتباه لديه ؟
طبقًا للنظرية التي ذكرنا أساسها - يكون هذا العمل هو الذي يدل على أن المتهم لا يزال يتصف بالخطورة على المجتمع لارتكابه جرائم معينة، فإن حكم على هذا المشتبه فيه في جريمة من هذه الجرائم فالأمر واضح ولكن هل مجرد اتهامه يدل على توافر حالة الاشتباه لديه من جديد ؟
النظرية التي اعتنقناها تجعل التقدير للقاضي فهو الذي يضع أمام بصره هذا الاتهام ليرى مدى جديته فإن ثبت لديه أنه اتهام جدي فقد توافرت أركان الجريمة.
كذلك إذا اُتهم هذا الشخص وحُفظت القضية ضده لعدم كفاية الأدلة أو اُتهم وقُدم للمحاكمة ولكنه بُرئ بسبب بطلان في إجراءات التحقيق أو لعدم كفاية الدليل.. كل هذه الأمور يمكن أن يعتمد عليها للحكم على المتهم في هذه الجريمة.
وإنما يجب أن يكون هذا العمل الذي يعتمد عليه القاضي في إدانة المتهم قد وقع خلال ثلاث سنين من الحكم بإنذار، فالعبرة بتاريخ الفعل نفسه وليس بالحكم أو التصرف القانوني الصادر فيه.
وكما قلنا يجب أن يتثبت القاضي من أن الاتهام الموجه للمتهم اتهام جدي وهذا ما حكمت به محكمة النقض المصرية (القضية رقم 1645 سنة 18 قضائية جلسة 4/ 1/ 1949 المجموعة السابقة).
لا صعوبة إذن فيما يتعلق بالجريمة السابقة الذكر وإنما تثور الصعوبة فيما يتعلق بجريمة العود للاشتباه - فالعود قد نظمت أحكامه في الباب السابق من الكتاب الأول من قانون العقوبات وقد نصت المادة العاشرة من المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 على أنه (تعتبر عقوبة الوضع تحت مراقبة البوليس المحكوم بها طبقًا لأحكام هذا المرسوم بقانون مماثلة لعقوبة الحبس فيما يتعلق بتطبيق أحكام قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات أو أي قانون آخر) - فإذا اعتبرنا عقوبة المراقبة المنصوص عنها في المادة السادسة من قانون الاشتباه في حكم الحبس المنصوص عنه في المادة (49) من قانون العقوبات نجد أنه لا ينطبق على حالة العود للاشتباه سوى نص الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (49) عقوبات لأن الفقرة الأولى خاصة بحالة ما إذا كانت السابقة عقوبة جناية.
وعلى ذلك نجد أن العود يتحقق في حالتين:
1 - إذا حُكم على شخص في جريمة اشتباه بالمراقبة مدة سنة أو أكثر وثبت أنه ارتكب جريمة اشتباه قبل مضي خمس سنين من تاريخ انقضاء هذه العقوبة أو من تاريخ سقوطها بمضي المدة.
2 - إذا حُكم على شخص في جريمة اشتباه بالمراقبة مدة أقل من سنة واحدة وثبت أنه ارتكب جنحة اشتباه مماثلة للجريمة الأولى قبل مضي خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة.
وقد كان بحثنا السابق عن الركن الأول للعود (أي السابقة) وبعبارة أخرى كان كلامنا عن جريمة الاشتباه والآن لنبحث في الركن الثاني أو الجريمة اللاحقة التي يتكون بها ظرف العود للاشتباه.
هل يشترط أن تتوافر جريمة اشتباه جديدة بعناصرها من الحكم على المتهم أكثر من مرة لارتكابه جرائم من المبينة في المادة الخامسة أو تقوم لديه شهرة جديدة بأنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم ؟
صعوبة الأمر ناتجة من أن جريمة الاشتباه كما قلنا صفة وليست فعلاً أو امتناعًا محددًا حتى يمكن تعيين مبدئه ونهائيته فيستحيل إذن أن يكون الشارع قد قصد بالعود للاشتباه المعنى المقصود في المادة (49) عقوبات وإلا كان من المستحيل تطبيقها إذ كيف نصل إلى معرفة أن الشهرة قد توافرت لدى المتهم من جديد خلال خمس سنين من تاريخ انقضاء عقوبة المراقبة أو من تاريخ سقوطها بمضي المدة، كما تنص المادة (49) فقرة (2) عقوبات أو قبل مضي خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة كما تنص المادة (49) فقرة (3) عقوبات.
وما معنى أن يغير المشرع طبيعة الجريمة في حالة الحكم بالإنذار عنه في حالة الحكم بالمراقبة ؟
لا شك أن الشارع لم يقصد أن العود للاشتباه هو بذاته العود المنصوص عليه في المادة (49) عقوبات كما أنه لم يقصد أن يغير الحكم في حالة الإنذار عنه في حالة المراقبة، فكل اختلاف بين جريمتي ارتكاب فعل من شأنه تأييد الاشتباه والعود للاشتباه هو أن الجريمة الأولى تقع بارتكاب الفعل في خلال ثلاث سنين من تاريخ الحكم بالإنذار في حين أن الثانية تقع بارتكابه في خلال خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة، وهذا هو ما قضت به محكمة النقض المصرية إذ قالت (إنه يبين من مقارنة نص المادتين (6) و(7) من المرسوم بقانون رقم (98) سنة 1945 أن المراد بما ذكرته الفقرة الثانية من المادة السادسة من عبارة (حالة العود) ليس هو العود بالمعنى الوارد في المادة (49) من قانون العقوبات وإنما المراد به هو أن يقع من المشتبه فيه بعد الحكم عليه بالاشتباه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه السابق الحكم بها عليه وذلك وفقًا لما جاء في الفقرة الثانية من المادة (7) من المرسوم المذكور - إذ لا يوجد أي مبرر للقول باختلاف معنى العود في حالة سبق الحكم بالإنذار وحالة سبق الحكم بالمراقبة) (القضية 893 سنة 19 قضائية جلسة 7/ 6/ 1949 المجموعة السابقة صـ 918. وحكم في القضية 1112 سنة 22 قضائية جلسة 30 ديسمبر سنة 1952 مجموعة الأحكام الصادرة من الدائرة الجنائية بمحكمة النقض - السنة الرابعة - العدد الأول صـ 295).
وقد يبدو لأول وهلة أن المشرع عندما ميز جريمة ارتكاب فعل من شأنه تأييد حالة الاشتباه لدى الجاني عن جريمة الاشتباه بأن حدد ركن الجريمة الأولى بفعل مادي تقع به هذه الجريمة قد قصد أن يخالف النظرية المفهومة من نص المادة الخامسة من قانون الاشتباه إلا أن تطبيق هذه النظرية التي استخلصناها كما سبق من روح التشريع والحكمة منه وتطور التقنين يدعو إلى القول بأن المشرع قصد العقاب على خطورة المتهم التي يدل على وقوع هذا الفعل منه من جديد ومن ثم يخضع لتقدير القاضي شأنه شأن الأحكام الصادرة ضد المتهم (السوابق) أو الشهرة في جريمة الاشتباه المنصوص عنها في المادة الخامسة، غير أنه بالرغم من تطبيق هذه النظرية يتعين علينا القول بأنه ما دام الركن المادي في جريمة (وقوع فعل يؤيد حالة الاشتباه) وتبعًا في جريمة (العود للاشتباه) قد تحدد بفعل معين فقد أصبحت الجريمة شأنها شأن بقية الجرائم ومن ثم تخضع للتقسيم الذي يقول به الشراح.
فما موضع هاتين الجريمتين من هذا التقسيم ؟
ظاهر من أن المشرع في المادة السابعة قد عبر عن الجريمة بقوله (.. فإذا وقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد الاشتباه..)، قد جعل ركنها المادي هو وقوع هذا العمل وبذلك تكون هذه الجريمة جريمة وقتية لا جريمة مستمرة لأنها تقوم بوقوع هذا العمل كما تعتبر جريمة بسيطة لا جريمة عادةً لأن القانون يعاقب على وقوع هذا العمل لا على تكراره، وبذلك يكون وضع هذه الجريمة من القانون قد تحدد فتسري عليها أحكام الجريمة الوقتية والجريمة البسيطة.
وكما سبق أن ذكرنا يجب أن يضع القاضي أمام عينيه على الدوام أن المشرع لا يعاقب الشخص لمجرد ارتكابه هذا الفعل - كما أنه لا يعاقبه لسوابقه أو لاشتهاره - وإنما يعاقبه على ميوله الإجرامية الخطرة ولذا يجب أن يتثبت من أن هذا العمل الذي ارتكبه الجاني بالنسبة للجريمة المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة من قانون الاشتباه يدل دلالة كافية على خطورة هذا الشخص.
وبعد، فإن محكمة النقض المصرية قد كفتنا مشقة البحث في جرائم الاشتباه فلم نكن أكثر من جامعين لهذه الأحكام الكثيرة التي صدرت منها في هذا الشأن وقد استخلصنا منها ما نعتقد أن محكمتنا العليا قد اعتنقته من قواعد لهذه الجرائم ووضعنا هذه القواعد كلاً بجانب الآخر ثم حاولنا استخلاص نظرية عامة هي التي حاولنا فيما سبق بيانها.
ولعلي قد وفقت في عرض هذه النظرية.
وما توفيقي إلا بالله رب العالمين.

في السندات تحت إذن التجارية

مجلة المحاماة - العدد السابع
السنة الحادية والعشرون 1941

في السندات تحت إذن التجارية

لم تعرف قوانين التجارة الأهلي والمختلط والفرنسي السندات تحت إذن وإنما نصت على الشروط الشكلية الواجب توافرها فيها لصحتها واعتبارها كسندات تحت إذن تنتج آثارها التي رتبها لها القانون، ويمكن تعريف السند تحت إذن من مراجعة نصوص هذه القوانين بأنه صك مكتوب مؤرخ يشتمل على تعهد يلتزم فيه موقعه بدفع مبلغ من المال لآخر لأمره وإذنه في زمن معين أو بعد مرور وقت محدد على تاريخ تحريره أو بمجرد الاطلاع على السند أو بعد مرور وقت على الاطلاع، وذلك في مقابل شيء حصل عليه منه وقت التوقيع على السند أو قبل ذلك، ويسمى المتعهد في السند تحت إذن Soueur والمحرر لصالحه السند الدائن المستفيد Bénificiaire du billet.

أوجه الاختلاف بين السند تحت إذن والكمبيالة

ويختلف السند تحت إذن عن الكمبيالة في الأمور الآتية:
أولاً: تحتوي الكمبيالة على ثلاثة أشخاص ساحب الكمبيالة tireur والمسحوب عليه الكمبيالة tire والمسحوب لصالحه الكمبيالة ويسمى المستفيد bénéficiaire، وليس الحال كذلك في السند تحت إذن حيث يحتوي على طرفين المتعهد في السند والمستفيد منه فقط.
ثانيًا: لا يشتمل السند تحت إذن على وكالة بالدفع صادرة من المحرر عليه السند كما هو الحال في الكمبيالة إذ تتضمن الأخيرة وكالة أو أمر أو حوالة من الساحب للغير بدفع مبلغ معين لآخر.
ثالثًا: يتضمن السند تحت إذن بمجرد إتمامه:
1 - اعترافًا من المتعهد فيه بمديونيته للمحرر لصالحه السند في مبلغ من المال حصل على مقابله منه وقت تحرير السند أو قبل إذن.
2 - تعهده بدفع هذا المبلغ للمستفيد أو لأي شخص آخر يرى الأول تحويل السند إليه أي لأمره بخلاف الكمبيالة فإنه لا يشترط لسحبها وصحتها أن يكون المسحوب عليه الكمبيالة تحت يده مقابل الوفاء ومدينًا للساحب وقت تاريخ السحب وإنما يكفي في ذلك أن يكون مقابل الوفاء موجودًا تحت يده وقت قبول الكمبيالة أو وقت استحقاقها لا قبلها، وعلى ذلك يجوز لساحب الكمبيالة تقديم مقابل الوفاء للمسحوب عليه حتى تاريخ الاستحقاق ويكون المقابل إما دين في ذمة المسحوب عليه للساحب أو قيمة بضاعة اشتراها الأول من الثاني أو أشياء ذات قيمة حصل عليها منه. رابعًا: لا يشترط في السند تحت إذن إجراء بروتستو عدم القبول كما هو في الكمبيالة لانتفاء الضرورة التي تستوجب ذلك.
خامسًا: يُشترط لاعتبار السند تحت إذن عملاً تجاريًا أن يكون سببه تجاريًا بخلاف الحال في الكمبيالة كما سيأتي الكلام على ذلك.

أوجه الاختلاف بين السند تحت إذن والشيك

ويختلف السند تحت إذن عن الشيك فيما يأتي:
أولاً: يحتوي الشيك على وكالة من ساحب الشيك لآخر (المسحوب عليه) أو أمر له بالدفع بخلاف السند تحت إذن فلا يشمل شيئًا من ذلك كما تقدم.
ثانيًا: يجوز الاتفاق في السند تحت إذن على الدفع في تاريخ معين أو شهر معين أو بعد مرور وقت معين على تاريخ تحريره أو بمجرد الاطلاع عليه أو بعد مرور وقت على الاطلاع عليه بخلاف الحال في الشيك إذ يشترط لصحته وقيامه أن يكون الدفع فيه بمجرد الاطلاع عليه.
ثالثًا: السند تحت إذن كالكمبيالة تعتبر سندًا للمديونية instrument de crédit، وسندًا للدفع بخلاف الشيك فإنه يعتبر في العادة من أوراق النقد.
رابعًا: في السند تحت إذن يعرف الموقع عليه بالتزامه ومداه بمجرد التوقيع على السند ويمكن بذلك من تدبير أمره والحصول على المال الواجب دفعه بمقتضى هذا السند بخلاف الحال في المسحوب عليه الشيك فإنه لا يعرف بملزوميته بالدفع بمجرد تحرير الشيك وإنما من وقت تقديمه إليه ويجب عليه دفع المبلغ بمجرد التقديم والاطلاع على الشيك وبغير أن يكون لديه من الوقت ما يسمح له بجمع المال اللازم لوفاء قيمته أو سداده.
خامسًا: لا يجوز توقيع الحجز التحفظي على منقولات التاجر الساحب للشيك.
سادسًا: لا يشترط ذكر مقابل القيمة في الشيك بخلاف السند تحت إذن.

أوجه الشبه العامة بين السند تحت إذن وبين الكمبيالة والشيك

توجد أوجه شبه عامة بين السند تحت إذن وبين الكمبيالة والشيك وهذه الأوجه هي: أولاً: يشترط القانون في تحرير السند تحت إذن توافر شروط شكلية معينة هي نفس الشروط الواجب توافرها في الكمبيالة والشيك مع الفوارق المتقدمة.
ثانيًا: يجوز اشتراط الدفع بمجرد الاطلاع في السند تحت إذن والكمبيالة كما هو الحال في الشيك.
ثالثًا: تنتقل الملكية في السند تحت إذن بطريق التظهير كما هو الحال في الكمبيالة والشيك.
رابعًا: يشترط لصحة التحاويل الناقلة للملكية في السند تحت إذن نفس الشروط الواجب قيامها في التحاويل الناقلة للملكية في الكمبيالة والشيك.
خامسًا: يتضمن كل من السند تحت إذن والكمبيالة والشيك اعتراف بدين.
سادسًا: يضمن المحيل في السند تحت إذن والكمبيالة والشيك وفاء الدين ويسر المدين في الحال والاستقبال.
سابعًا: لا يجوز للمدين في السند تحت إذن التمسك في مواجهة المحال إليه الحسن النية بالدفوع التي يجوز له التمسك بها ضد المستفيد الأصلي والمحيلين السابقين كما هو الحال في الكمبيالة والشيك.
ثامنًا: يضمن الموقعين على السند تحت إذن والكمبيالة والشيك وكذا المحيلين وفاء الدين لحامل هذه الأوراق بالتضامن.
تاسعًا: لا يجوز للقضاء عند الحكم في دعاوى تتضمن منازعات بسند تحت إذن أو كمبيالة أو شيك أن يعطي مهلة للمدين لسداد الدين أو يقسطه عليه.
عاشرًا: يثبت عدم الدفع في السند تحت إذن بنفس الإجراء Acte الذي يثبت عدم الدفع في الكمبيالة والشيك وهذا الإجراء هو بروتستو عدم الدفع.
حادي عشر: يشترط لرجوع حامل السند تحت إذن على المحيل له أو المحيلين السابقين والمستفيد الأصلي نفس الشروط الواجب توافرها لرجوع حامل الكمبيالة أو الشيك.
ثاني عشر: تسري قواعد الضمان الاحتياطي المنصوص عنها في القانون في باب الكمبيالات على الضمان الاحتياطي في السند تحت إذن والشيك.
ثالث عشر: تسري قواعد الفوائد والمصاريف الأخرى كرسم البروتستو ومصاريف البنك وخلافه المنصوص عنها في باب الكمبيالات على السند تحت إذن.
رابع عشر: يسقط الحق في المطالبة بالسند تحت إذن بنفس المدة المقررة لسقوط الحق في المطالبة بالكمبيالة أو الشيك وتسري عليها نفس القواعد التي قررها القانون في ذلك.

السند تحت إذن والسند الذي يدفع لحامله

يجوز أن يكون السند لحامله au porteur وفي هذه الحالة تنتقل ملكية السند بمجرد التسليم من يد إلى أخرى، ولا يشترط لذلك حصول التحويل بطريق التظهير كما هو الحال في السند تحت إذن والكمبيالة والشيك المتفق فيه على الدفع لأمر شخص معين وتحرير السند لحامله نادر الوقوع في المعاملات التجارية بين التجار وبعضهم أو بين البيوتات التجارية وأقرب مثل على ذلك أوراق البنكنوت التي تدفع لحاملها فهي تتضمن سندًا لحامله بشروط خاصة.

أهمية الأوراق التجارية

وتلعب الأوراق التجارية من سندات تحت إذن وكمبيالات وشيكات وحوالات دورين مهمين في التجار (الدور الأول) التعامل بها بدلاً من النقد بين التجار في معاملاتهم اقتصادًا في الوقت وتمشيًا مع السرعة التي تصحب كل عمل تجاري واجتنابًا للمتاعب والمصاعب التي تحوط بنقل النقود الفضية أو الذهبية أو الأوراق المالية من بلدة إلى أخرى ومن مملكة إلى ثانية (الدور الثاني) أنها تتضمن اعترافًا بدين أي تعتبر كسند لإثبات الدين.

الشروط الشكلية الواجب توافرها في السندات تحت إذن

ولو أن القانون لم ينص على اعتبار السندات تحت إذن من الأوراق الشكلية أي التي يلزم تحريرها في شكل معين وبعبارات خاصة إلا أنه يشترط لصحتها وإحداث أثرها القانوني استيفاء شروط وذكر بيانات مخصوصة ولازمة يترتب على إغفالها كلها أو بعضها وجود عيب جوهري في شكل السندات وعدم اعتبارها كسندات تحت إذن بل مجرد سندات عادية تتضمن إقرارًا أو اعترافًا بدين.
وبطلان السندات تحت إذن لوجود عيب شكلي فيها بطلان مطلق ويترتب على ذلك النتيجتين الآتيتين:
الأولى: أنه يجوز لكل ذي مصلحة التمسك بالدفع بالبطلان فيجوز ذلك للمدين في السند تحت إذن والمحيل والمستفيد الأصلي والضامن الاحتياطي فيه كما يجوز للمحكمة مراعاة ذلك من تلقاء نفسها أثناء الفصل في الدفاع والحكم على مقتضى ما رتبه القانون من آثار لهذا البطلان.
الثانية: أنه يجوز التمسك به في مواجهة حامل السند الحسن النية - أي ضد الشخص المالك للسند بطريق التظهير الناقل للملكية والذي لا يعلم وقت تحويل السند إليه بالعيوب التي يتضمنها السند أو الدفوع التي يجوز الدفع بها في مواجهة المستفيد الأصلي أو المحيلين السابقين.
والبيانات التي يشترط القانون وجودها في السندات تحت إذن هي:
أولاً: وضع تاريخ للسند أي ذكر الشهر واليوم والسنة التي حرر فيها.
ثانيًا: ذكر القيمة المراد دفعها.
ثالثًا: ذكر تاريخ الاستحقاق.
رابعًا: ذكر اسم المستفيد من السند.
خامسًا: ذكر عبارة لأمر وإذن أو ما يفيد ذلك.
سادسًا: ذكر عبارة القيمة.
سابعًا: التوقيع على السند.
ولا يؤثر على صحة السندات تحت إذن اشتمالها على بيانات أخرى إضافية خلاف البيانات الجوهرية التي يلزمها القانون كذكر مبلغ معين كتعويض في حالة عدم وفاء المحرر عليه السند للقيمة في الميعاد أو التوقيع على السند من آخرين كشهود أو ذكر شرط في السند على ضرورة إثبات التخالص عنه بكتابة صادرة من الدائن المالك للسند أو باستلامه أصل السند موقعًا عليه بالتخالص وغير ذلك من البيانات الأخرى التي قد يضعها المتعاقدان على السند تحت إذن وقت تحريره والتي لا تؤثر على ماهيته وكيانه كسند تحت إذن. [(1)]

الفرق بين السندات تحت إذن والسندات العادية التي تضمن اعترافًا بدين [(2)]

ويختلف السند تحت إذن عن السند العادي الذي يتضمن اعترافًا بدين فقط في الأمور الآتية:
أولاً: يجوز للمدين في السند العادي المتضمن اعترافًا بالدين الدفع في مواجهة حامل السند الحسن النية بجميع الدفوع التي يجوز له الدفع بها في مواجهة الدائن الأصلي والمحيلين السابقين من تخالص وبطلان السند لتحريره بطريق التدليس أو لعدم وجود سبب صحيح قانوني له وغير ذلك من الدفوع بخلاف الحال في السند تحت إذن.
ثانيًا: يجوز للقاضي إعطاء مهلة قضائية للدفع أو تقسيط المبلغ في السند العادي بخلاف السند تحت إذن حيث يمنعه القانون من ذلك عملاً بنص المواد (156) تجاري أهلي، و(163) مختلط، و(157) فرنسي.
ثالثًا: عدم تضامن المحيلين أو الموقعين على السند العادي المتضمن اعترافًا بدين بخلاف الحال في السند تحت إذن.
رابعًا: لا يترتب على إجراء بروتستو عدم الدفع المعمول في الميعاد بدء سريان الفائدة عند عدم الاتفاق عن سريانها من تاريخ الاستحقاق كما هو الشأن في السند تحت إذن.
خامسًا: لا يجوز توقيع الحجز التحفظي على منقولات المدين التاجر بالسند العادي المشتمل على اعتراف بدين حتى ولو عمل عنه بروتستو عدم الدفع في الميعاد.
سادسًا: لا يجوز تحويل السند العادي بطريق التظهير إذا لم يذكر فيه عبارة لأمر وإذن أو أية عبارة أخرى تفيد ذلك.
سابعًا: لا يجوز اختصام الضامن الغير تاجر وحده أمام المحكمة التجارية في السند العادي بخلاف الحال في السند تحت إذن حيث يجوز اختصام الضامن الاحتياطي أمام المحكمة المدنية حتى ولو يختم معه المدين الأصلي في السند.
ثامنًا: لا يسقط الحق في المطالبة بالسندات العادية التي تتضمن اعترافًا بدين بمضي خمس سنوات هجرية كما هو الحال في السندات تحت إذن التجارية بل يسقط الحق بالمطالبة بالأولى بحسب الرأي الراجح بمضي خمس عشرة سنة كما سيأتي الكلام عليه بعد.
تاسعًا: عدم أحقية حامل السند العادي في الرجوع على المستفيد الأصلي والمستفيدين السابقين. [(3)]

أوجه الشبه بين السندات تحت إذن والسندات العادية المتضمنة اعترافًا بدين

وتتشابه السندات تحت إذن مع السندات العادية فيما يأتي:
أولاً: يجوز تحويل السندات العادية المشتملة على أمر وإذن أو على أية عبارة أخرى تفيد ذلك بطريق التظهير كما هو الحال في السندات تحت إذن.
ثانيًا: يتضمن كلا النوعين على اعتراف من المحرر عليه السند بالدين الوارد فيه والتزامه بوفائه.
ثالثًا: تختص المحكمة التجارية في القانون الأهلي بنظر الدعوى المرفوعة بسند تحت إذن أو بسند عادي متى كان سبب الدين تجاريًا في كلتا الحالتين وذلك إما بترتبه على معاملة تجارية أو بالتوقيع عليه من تاجر [(4)] أما في القانون المختلط فالرأي المعمول به هناك - ولو أننا لا نوافق عليه كما سيذكر بعد - هو اختصاص المحكمة التجارية بنظر الدعوى المرفوعة بسند تحت إذن مهما كان سبب تحرير السند مدنيًا كان أو تجاريًا بخلاف الحال في السند العادي فإنه يشترط لاختصاص المحكمة التجارية بنظر الدعوى عنه أن يكون سببه تجاريًا.
رابعًا: تسري سعر الفائدة التجاري في السند تحت إذن والسند العادي من كان سببًا تجاريًا.

الشروط الشكلية الواجب توافرها في السندات تحت إذن

أولاً: تحرير تاريخ السند:
يشترط القانون لصحة السندات تحت إذن ذكر تاريخ تحرير السند ويكون بذكر تاريخ اليوم والشهر والسنة الحاصل فيها تحرير السند ولا يشترط في ذلك أن يكون التحرير بالكتابة بل يكفي أن يكون بالأرقام.
وذكر اليوم والشهر والسنة ضروري لصحة التاريخ ولا يكفي في ذلك ذكر السنة أو الشهر فقط ولا يلزم لصحة التاريخ إعطائه تاريخًا ثابتًا أو تسجيله بل يكفي بيانه على السند، ويعتبر هذا البيان كافيًا لإثبات صحته حتى يُقام الدليل على العكس وذلك بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة وقرائن الأحوال.
ولا يغني عن ذكر تاريخ السند تحت إذن إجراء أي عمل قضائي آخر يذكر فيه التاريخ كالبروتستو أو إعلان صحيفة الدعوى وكذلك لا يغني عن ذلك ذكر تاريخ الاستحقاق في السند وانعدام تاريخ تحرير السند يترتب عليه بطلانه كسند تحت إذن واعتباره سندًا عاديًا متضمنًا اعترافًا بدين فقط. [(5)]
ولا يصحح عيب إغفال تاريخ تحرير السند إثبات هذا التاريخ في دفاتر التاجر المحرر لصالحه السند أو في المكاتبات التي تدور بينه وبين المدين فيه وكذلك لا يصحح هذا العيب تحويل السند في نفس تاريخ التحرير وذكر تاريخ التحويل أو الإشارة إلى السند في عقد رسمي أو عرفي ذي تاريخ ثابت عمل بين الدائن والمدين في السند. [(6)]
14 - وتقديم تاريخ السند تحت إذن أي ذكر تاريخ للسند مقدم عن تاريخه الحقيقي l’antidate يبطل السند حتى باعتباره سندًا عاديًا إذا كان المقصود من تقديم التاريخ إخفاء عدم أهلية أحد المتعاقدين أو الموقعين على السند.
إنما لا يجوز لعديم الأهلية في هذه الحالة التمسك بالبطلان في مواجهة حامل السند حسن النية إذا كان له شأن في إجراء التقديم لأنه يعتبر في هذه الحالة مدلس وغاش والقانون لا يحمي الغاش أو المدلس.
15 - وتغيير تاريخ تحرير السند لا يترتب عليه أصلاً بطلانه كما هو الحال في إغفال ذكر التاريخ أصالة إذا كان التغيير عمل باتفاق الطرفين - المدين والدائن الأصلي - بشرط ألا يكون الغرض منه إخفاء عيب متعلق بالأهلية وعدمها وبشرط ألا يؤثر على تاريخ الاستحقاق الملحوظ وقت التعاقد. [(7)]
16 - والأصل أن الدفع ببطلان السند لصدوره من غير ذي أهلية يجوز التمسك به ضد حامل السند الحسن النية لتعلقه بالنظام العام وبأحد أركان صحة التعاقد إنما لا يجوز التمسك بمثل هذا الدفع في مواجهة حامل السند إذا بنى الدفع على حصول تغيير في تاريخ السند إذا كان التاريخ الثابت والظاهر في السند يجعل المدين في حالة أهلية للتعامل والتعاقد وكان حامل السند يجهل التغيير الحاصل في التاريخ لإخفاء عيب عدم الأهلية - أي متى كان حسن النية. [(8)]
17 - ولا يعتبر تغيير تاريخ تحرير السند تحت إذن أو تقديمه تزويرًا كما هو الحال في التحاويل.
18 - ويجوز إثبات عدم صحة تاريخ تحرير السند بكافة أوجه الثبوت العادية بغير حاجة للطعن بطريق التزوير.
ثانيًا: ذكر قيمة المبلغ الواجب أداؤه:
19 - يُشترط لصحة السند تحت إذن ذكر قيمة المبلغ الواجب أداؤه ولا يلزم لذلك بيانه بالحروف والأرقام بل يكفي إثباته بالأرقام فقط ولو أن العمل جرى على ذكره بالأرقام والحروف. [(9)]
وإذا وجد خلاف بين مقدار المبلغ المبين بالحروف والمقدار المبين بالأرقام فيؤخذ بالأول دون الثاني. [(10)]
ويجب أن يكون محل التعهد مبلغًا من المال وعلى ذلك فلا يعتبر سندًا تحت إذن تعهد شخص بتوريد مقدار من القطن في وقت معين ولا يصحح من التعهد في هذه الحالة اتفاق الطرفين على التزام المتعهد بدفع مبلغ معين بصفة تعويض في حالة التقصير في الوفاء أو التأخير فيه. [(11)]
ولا يشترط ذكر نوع النقود الواجب دفعها إذ في هذه الحالة يحصل الوفاء من نوع النقود المعمول بها في زمان ومكان محل الدفع.
وإذا اتفق على الوفاء من نقود من نوع آخر خلاف نوع نقود محل الدفع ففي هذه الحالة يتعين النص على نوع النقود الواجب الوفاء بها. [(12)]
20 - ويشترط وحدة المبلغ الواجب دفعه l’unité de la detté أي تعيين مبلغ الدين الواجب دفعه وعدم ذكره مجزءًا فإذا خلا السند من وحدة المبلغ زالت عنه صفة الإذنية وأضحى سندًا عاديًا مثبتًا لاعتراف بدين. [(13)]
ولا يؤثر على وحدة المبلغ ذكر المبلغ الواجب دفعه مع الاتفاق على الفوائد بسعر معين في حالة الاستحقاق إذ يسهل في هذه الحالة احتساب الفوائد الواجب المطالبة بها بعملية حسابية بسيطة ويكون لذلك الإنفاق عليها لم يؤثر على وحدة المبلغ الواجب المطالبة به وتعيينه تعيينًا كافيًا. [(14)]
21 - ويجوز للطرفين الاتفاق على احتساب الفوائد مقدمًا وضمها إلى قيمة الدين المطالب به واتفاقهما في هذه الحالة مشروع ولا يُخالف القانون ولا يؤثر على وحدة المبلغ المطالب به. [(15)]
ثالثًا: تاريخ الاستحقاق:
22 - يشترط لصحة السند تحت إذن ذكر تاريخ الاستحقاق ويجب أن يكون هذا التاريخ معينًا ومحددًا وغير معلق على شرط توقيفي. [(16)]
فإذا علق الاستحقاق على شرط توقيفي ضاعت عن السند صفة الإذنية وأضحى سندًا عاديًا وعلى ذلك يعتبر سندًا عاديًا تعهد شخص بدفع مبلغ من المال لأمر وإذن آخر في حالة وفاة شخص معين أو في حالة قيامه بعمل عهد إليه به أو في حالة رجوعه من سياحة أو في حالة نجاحه في مشروع خاص وهكذا. [(17)]
23 - ويجب أن يكون تاريخ الاستحقاق معينًا تعيينًا نافيًا للجهالة يساعد على انتشار التداول بالسندات تحت إذن بطريق التظهير باعتبارها من أوراق التعامل التجارية ولا يعتبر تاريخ الاستحقاق معينًا تعيينًا كافيًا إذا اتفق في السند تحت إذن على أن للمدين الحق في تجديد السند عند الاستحقاق بدلاً من القيام بالوفاء ودفع قيمته [(18)]، وكذلك إذا ذكر المدين في السند أنه يتعهد بدفع المبلغ في كل مرة إذا ما toutefois et quand لعدم دلالة هذه العبارة على التعيين ولا تؤدي بجلاء إلى التعهد بالدفع عند الاطلاع أو بمجرد تقديم السند.
24 - ويشترط أن يكون تاريخ الاستحقاق واحدًا لا تواريخ متعددة ويترتب على ذلك أنه لا يجوز في السندات تحت إذن الاتفاق على دفع المبلغ مجزءًا أو على أقساط فإذا اتفق فيها على التقسيط انمحت عنها [(19)] لازمة الإذنية وأصبحت سندًا عاديًا، ولا يؤثر على ماهية السند تحت إذن المتضمن على تاريخ معين للسداد قيام المدين في السند بدفع مبلغ الدين بعد تحرير السند على أقساط باتفاق الدائن واستنزال المبلغ المدفوع من تحت الحساب على ظهر السند. [(20)]
25 - ويمكن ذكر التاريخ طبقًا لأي تقويم فيجوز ذكره على اعتبار التاريخ العبري أو الإفرنجي أو القبطي وكل ذلك بشرط أن يوضح بطريقة جلية واضحة لا تقبل الشك ولا التأويل. [(21)]
ويكون ذكر التاريخ معينًا إما بذكر تاريخ معين أو ذكر عبارة الدفع بمجرد الاطلاع على السند أو بعد مرور أيام أو أشهر معينة على الاطلاع على السند أو الدفع في عيد معين.
26 - ولا يشترط لتحديد تاريخ الاستحقاق المتفق على إجرائه في زمن معين ذكر تاريخ اليوم بل يكفي في ذلك ذكر الشهر والسنة المتفق على القيام بالسداد فيها ويكون الاستحقاق في هذه الحالة ممتدًا إلى آخر الشهر المبين في السند، ويصح بروتستو عدم الدفع إذا عمل في أول اليوم من الشهر التالي [(22)] أما إذا عمل قبل ذلك فلا يعتبر ولا يترتب عليه أي أثر قانوني لحصوله قبل تاريخ الاستحقاق.
27 - وإذا وافق حلول ميعاد دفع قيمة السند يوم عيد رسمي فدفعه يكون مستحقًا في اليوم السابق للعيد.
ولا يتعارض ذلك مع نص المادة (162) تجاري أهلي، و(169) تجاري مختلط التي تقول بضرورة إجراء بروتستو عدم الدفع في اليوم التالي لتاريخ الاستحقاق لحفظ حقوق حامل السند التي رتبها له القانون وكل ما هنالك أن السند يكون واجبًا الدفع في اليوم السابق ليوم العيد أو العطلة والبروتستو يعمل في اليوم اللاحق ليوم العيد أو العطلة. [(23)]
28 - واختلف في ميعاد الاستحقاق في السندات تحت إذن المستحقة الدفع بمجرد الاطلاع على السند حيث يقول البعض إنه يندمج في تاريخ تحريرها ويقول البعض الآخر أنه يكون في تاريخ تقديمها والمطالبة بها ونرى التمييز بين حالتين:
الحالة الأولى: مبدأ تاريخ الاستحقاق في حالة التمسك بسقوط الحق بالمطالبة بقيمة السند المستحق الدفع وقت الاطلاع أو بمجرد الطلب.
الحالة الثانية: مبدأ تاريخ الاستحقاق في حالة المطالبة بقيمة السند وأحقية حامل السند في المطالبة به من عدمه ففي الحالة الأولى يعتبر تاريخ الاستحقاق مندمجًا في تاريخ تحرير السند وتبدأ مدة السقوط من اليوم التالي لهذا التاريخ وهو اليوم الواجب فيه عمل بروتستو عدم الدفع أما في الحالة الثانية فيعتبر تاريخ الاستحقاق من تاريخ تقديم السند للمطالبة بقيمته [(24)]، وهناك حالة أخرى وهي الخاصة بتعيين ميعاد الاستحقاق في هذه السندات ضد التحاويل وما يترتب على ذلك من اعتبار التحاويل ناقلة للملكية من عدمه وسنتكلم عليها بعد شرح التحاويل.
29 - وعبارات مجرد الاطلاع à vue أو عند تقديم السند a présentation ليست لازمة sacramentelles في السندات تحت إذن المستحقة الدفع عند الاطلاع بل يكفي لاعتبار ذلك كل عبارة يُستفاد منها هذه الرغبة كالنص في السند على الدفع بمجرد المطالبة بقيمته أو بمجرد أول مطالبة بقيمته أو على عبارة تحت الطلب وغير ذلك من العبارات التي تؤدي إلى دفع السند بمجرد تقديمه للمدين. [(25)]
30 - وإذا نص في السند على ميعاد دفع القيمة بعد يوم أو أكثر أو شهر أو أكثر من وقت الاطلاع عليه فيعتبر هذا الميعاد من تاريخ تأشير المدين على السند بما يفيد الاطلاع عليه والتوقيع على ذلك من جديد أو من تاريخ بروتستو يعمل للمدين في هذه الحالة. [(26)]
31 - والأصل كما تقدم أن تاريخ الاستحقاق يكون طبقًا للقوانين المعمول بها في البلد المستحق دفع المبلغ فيه وطبقًا للتقويم المعمول به هناك إلا إذا اتفق على عكس ذلك. [(27)]
32 - وعدم ذكر تاريخ الاستحقاق ولو أنه يترتب عليه اعتبار الدين حالاً وواجب الأداء وأحقية حامل السند في المطالبة بقيمته بمجرد تقديمه ثم استصدار حكم به في حالة التقصير في الوفاء إلا أنه يعيب السند ويترتب على ذلك اعتباره كسند دين عادي لفقدانه بيان من البيانات الجوهرية التي ألزمها القانون لصحة السند تحت إذن من حيث الشكل. [(28)]
رابعًا: ذكر اسم المستفيد من السند:
33 - يُشترط لصحة السند تحت إذن ذكر اسم المستفيد من السند أي الدائن الأصلي فيه أو الإشارة إلى أن الدفع يكون لحامله.
والمستفيد إما أن يكون شخصًا طبيعيًا أو اعتباريًا، وذكر الشخص الاعتباري يكفي لتعيين اسم المستفيد من السند.
وعدم ذكر اسم المستفيد في السند تحت إذن يترتب عليه بطلان السند واعتباره كسند عادي ولا يرد على ذلك أن الإغفال عن ذكر الاسم معناه أن يكون السند لحامله.
خامسًا: ذكر عبارة لأمر وإذن:
34 - عبارة لأمر وإذن لازمة لصحة السندات تحت إذن ويترتب على إغفالها وجود عيب جهري في السند واعتباره كسند عادي كما تقدم وعلى ذلك فيعتبر سندًا عاديًا السند الذي ثبت به أن الدفع يكون لشخص يعين بالذات[(29)].

محمد علي راتب
مفتش لجنة المراقبة القضائية


[(1)] استئناف مختلط في 23 ديسمبر 1912 الجازيت 3 صـ 1364، و19 يناير 916 الجازيت 6 صـ 73 - 228.
[(2)] استئناف مختلط في 31 يناير 934 المجموعة 46 صـ 146.
[(3)] استئناف مختلط في 1 فبراير سنة 910 المجموعة 22 صـ 142.
[(4)] مصر تجاري جزئي أهلي في 3 أكتوبر سنة 940 في القضية رقم (2282) سنة 94 المرفوعة من صمويل كوهين ضد حافظ وعثمان مصطفى ولم ينشر بعد.
[(5)] ليون كان ورينو جزء 4 صـ 343 نبذة (بواسيل 725)، وبيرسيل صـ 33، وبيداريد جزء 1 صـ 6 وفوجويه جزء 4 نبذة 1234.
[(6)] يراجع عكس ذلك حكم منم في 5 يوليه 1819 سيريه 1819 ويقول بأن إغفال ذكر التاريخ لا يعيب السند تحت إذن إذا كانت ظروف تحرير السند لا يترتب عليها تغيير في الحق الثابت في السند وهذا الحكم مرجوح وغير معمول به.
[(7)] استئناف مختلط في 28 نوفمبر 1928 المجموعة 40 صـ49.
[(8)] استئناف مختلط في 21 ديسمبر 904 المجموعة 17 صـ 42.
[(9)] بيرسيل 231 بارديسيه 334 وليون كان جزء 4 نبذة 80 دالوز 2 جزء 4 نبذة 1235.
[(10)] بيرسيل 331 وفوجيه جزء 1 نبذة 122 وليون كان جزء 4 صـ60.
[(11)] استئناف مختلط في 4 يناير سنة 905 المجموعة 17 صـ 55 في 18 يناير سنة 1905 المجموعة 18 صـ 9.
[(12)] دالوز جزء 4 نبذة 1235 وفوجيه جزء 1 نبذة 127.
[(13)] استئناف مختلط في 27 مارس 1889 المجموعة السنة الأولى صـ 113 و14 نوفمبر سنة 1889 المجموعة السنة الأولى صـ 320 و4 ديسمبر سنة 1939 المجموعة 42 صـ 67 و18 نوفمبر سنة 912 المجموعة 25 صـ 28.
[(14)] النقض الفرنسي في 5 فبراير سنة 1868 دالوز 68 جزء 1 صـ 386.
[(15)] حكم محكمة بورج في 27 يناير سنة 1857 دالوز 57 جزء 2 صـ 68.
[(16)] استئناف مختلط في 4 يناير سنة 1905 المجموعة 17 صـ 55 و4 ديسمبر سنة 1929 المجموعة 42 صـ 67.
[(17)] ريوم أول يونيه سنة 1846 دالوز 47 جزء 2 صـ 47.
[(18)] باريس في 2 فبراير سنة 1830 سيريه 1830.
[(19)] استئناف مختلط في 18 ديسمبر سنة 929 المجموعة 42 صـ 111 و4 ديسمبر سنة 929 المجموعة 42 صـ 67، ومصر جزئي أهلي تجاري في 18 إبريل 940 المحاماة.
[(20)] استئناف مختلط في 7 نوفمبر سنة 934 المجموعة 47 صـ10.
[(21)] إسكندرية جزئي مختلط في 30 نوفمبر سنة 1916 الجازيت 7 صـ 150052.
[(22)] استئناف مختلط في 29 إبريل 924 الجازيت 14 صحائف 231 - 327.
[(23)] استئناف مختلط في 22 مارس 1887 r. o. xxi 814.
[(24)] استئناف مختلط دوائر مجتمعة في 22 يناير سنة 1930 المجموعة 42 صـ 206 و30 يناير سنة 1935 المجموعة 27 صـ 137.
[(25)] بيزانسون في 8 ديسمبر 1897 دالوز 1899 جزء 2 صـ 421.
[(26)] باريس في 10 يناير 1893 الباندكت 93 جزء 2 صـ 124.
[(27)] ليون كان ورينو جزء 4 نبذة 655 وبراتيل نبذة 723.
[(28)] ليون كان ورينو تجاري جزء 4 صـ 422، واستئناف مختلط في 3 يناير 935 المجموعة 47 صـ 87.
[(29)] بارديسة pardesuss جزء 2 نبذة 339 وتوجيه جزء 2 نبذة 195 وليون كان ورينو جزء 4 نبذة 27 وبرافاررديجا نحياه جزء 3 صـ 71.

قضاء الأمور المستعجلة

مجلة المحاماة – العدد العاشر
السنة السابعة عشرة1937

قضاء الأمور المستعجلة [(1)]

سادتي وأخواني،
دفعني إلى اختيار هذا الموضوع عاملان قويان:
الأول: أهمية القضاء المستعجل في ذاته ثم بالنسبة لما يعرض عليه في كل يوم من القضايا العديدة وكثير منها مبتكر حديث.
الثاني: الإبهام والغموض اللذان يحوطان بهذا القضاء في المحاكم الأهلية ويجعلان اختصاصه محل جدل ومناقشة ومحل خلاف في الرأي أيضًا من جانب من يتولونه من القضاة.
والخلاف القائم بشأن تحديد دائرة القضاء المستعجل أمام المحاكم الأهلية يرجع إلى سببين أحدهما عام والثاني خاص:
أما الأول: فهو إجمال النص التشريعي المنشئ للقضاء المستعجل فالمادة (806) من قانون المرافعات الفرنسي تقول:

(Dans tous les cas d’urgence où lorsqu’il s’agira de statuer provisoirement sur les difficutltés relatives à l’exécution d’un titre exécutoire ou d’un jugement, il sera procédé ainsi qu’il va être réglé ci - après).

والمادة (34) من قانون المرافعات المختلط تقول:

(Le Tribunal des référes………….. statuera… tant en matière civile que commerciale sur les mesures urgentes à prendre sans préjudice du fond et sur l’exécution des jugements sans préjudice des questions d’interprétation.

والمادة (28) من قانون المرافعات الأهلي تقول:
(يحكم قاضي الأمور المستعجلة……. في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ………. ويحكم أيضًا في الأمور المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت).
وهذه النصوص لم تحدد المسائل المستعجلة ولا المنازعات الخاصة بالتنفيذ تحديدًا يجعلها بعيدة عن النزاع أو على الأقل يقلل من النزاع الذي يقوم بشأنها.
أما الثاني: وهو خاص بالتشريع المصري الأهلي فهو أن المشرع المصري عندما وضع نظام القضاء أمام المحاكم الأهلية لم يجعل (كما فعل أمام المحاكم المختلطة) الفصل في الأمور المستعجلة من اختصاص قاضٍ خاص بها بل جعلها من اختصاص القاضي الجزئي علاوة على اختصاص العادي وتظهر أهمية هذا السبب الثاني وتأثيره في حقوق المتقاضين عندما يتفق المتخاصمان على اختصاص قاضي الأمور المستعجلة بالفصل في المنازعات الموضوعية ويدفع المدعي عليه بعدم الاختصاص بناءً على أن اختصاص قاضي الأمور المستعجلة من النظام العام ويترتب على ذلك بطلان الاتفاق على تحكيمه في المسائل الموضوعية فيرد المدعي على هذا الدفع بأنه تحصيل حاصل لأنه ما دام القانون قد سمح بتحكيم القاضي الجزئي وجعله مختصًا باتفاق الخصوم بالفصل نهائيًا في المنازعات مهما كانت قيمتها وما دام أن القاضي الجزئي هو قاضي الأمور المستعجلة فلا تكون للمدعي عليه أية مصلحة من دفعه، وكثير من القضاة يتبع هذا الرأي ويقولون بتحكيم الذوق السليم في المسألة وهذا الذوق السليم في نظرهم يقضي بعدم التفرقة بين قاضي الأمور المستعجلة والقاضي الجزئي.
والحق يقال إني لا أستطيع أن أفهم كيف تهمل نصوص القانون الصريحة ويعمل بالذوق السليم.
أنا أفهم أن الذوق السليم يستخدم في تقدير الوقائع وتكييفها وفي تطبيق نصوص القانون على الوقائع، أما الحكم بالذوق السليم وحده مع وجود النص القانوني فمعناه أن القاضي يشرع لنفسه، وهذه الطريقة لو انتشر استعمالها يكون لها نتائج في غاية الخطورة على النظام القضائي لأن أمور الناس تصبح تحت رحمة ذوق القاضي وهو شيء مجهول وغير خاضعة لأحكام القانون المعروفة ويترتب عليها أيضًا أن تسقط قيمة القانون في عيون الناس وتنعدم في نفوس المشتغلين به ملكة البحث والاجتهاد.
ما هو قضاء الأمور المستعجلة؟
لم يعطِ له تعريف ما لا في القانون الفرنسي ولا في القانون المصري وفي اعتقادي أن التعريف الجامع المانع هو:
(القضاء المستعجل هو الفصل قضائيًا بإجراءات سريعة في طلب اتخاذ إجراء وقتي لمنع وقوع ضرر يتعذر إصلاحه بفوات الوقت بشرط أن لا يمس هذا الإجراء أصل الحق المتنازع بشأنه، وفي طلب الفصل في الإشكالات المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ بشرط عدم التعرض لتفسيرها).
حكمة وضع هذا النظام:
والحكمة من وضع هذا النظام هي ضرورة إيجاد قضاء مؤقت ذي إجراءات سريعة لحماية الحقوق المهددة بالخطر العاجل ولضمان عدم تعطيل تنفيذ الأحكام ذلك التنفيذ الذي بدونه لا تكون هناك قيمة للأحكام والسندات الواجبة التنفيذ وتضيع على أصحابها مجهوداتهم وما صرفوه في سبيل الحصول عليها.
ما يترتب على أحكام القضاء المستعجل:
كل ما يصح أن يترتب على هذه الأحكام هو إجراء مؤقت يأمر به القضاء لحماية الحقوق المتنازع بشأنها من الأخطار التي تتهددها إذا تركت من غير هذا الإجراء أو يأمر به لإخلاء طريق التنفيذ من العقبات أو لوقف التنفيذ متى كان غير واجب.
ولا يصح أن يترتب على الحكم المستعجل أي مساس بأصل الحق المتنازع بشأنه أو أي تفسير للأحكام والسندات الواجبة التنفيذ.
ومعنى ذلك أن يكون للخصوم دائمًا حق الالتجاء إلى قاضي الموضوع وعرض موضوع النزاع عليه ليفصل فيه ويكون حكمه ملغيًا أو مؤيدًا لما قضى به القاضي المستعجل من الإجراءات الوقتية والمثل الظاهر لهذه القاعدة هو الدعوى المستعجلة بطلب إيقاف التنفيذ والدعوى الموضوعية بطلب بطلان إجراءات التنفيذ فإذا حكم برفض طلب إيقاف فلا يترتب على ذلك الحكم بعدم قبول دعوى البطلان وإذا حكم بإيقاف التنفيذ فلا يترتب على ذلك حتمًا الحكم ببطلان الإجراءات.
كذلك الحال في الدعوى المستعجلة بوقف البناء فالحكم بوقف البناء بناءً على حق ظاهر لا يمنع قاضي الموضوع من الحكم بعدم وجود الحق ولا غرابة في ذلك كله لأن قاضي الأمور المستعجلة ليس له في دائرة الاختصاص القضائي ما لقاضي الموضوع من سلطة ووقت غير محدودين لتحري حقيقة الواقع فيما يدعيه الخصوم.
كيف أدخل الشارع المصري هذا النظام في مصر؟
عندما وضع الشارع المصري قانون المحاكم المختلط أدخل فيه نظام القضاء المستعجل مأخوذًا عن القانون الفرنسي، فبالرجوع إلى قانون المرافعات الفرنسي نجد ما يأتي.
(فالمادة (806) تقول:
في جميع الأحوال المستعجلة أو في حالة طلب الحكم بصفة مؤقتة في المنازعات المتعلقة بتنفيذ السندات الواجبة التنفيذ أو بتنفيذ حكم يتبع ما يأتي من الإجراءات والمادة (807) تقول:
يقدم الطلب في جلسة يعقدها لهذا الغرض رئيس المحكمة الابتدائية أو القاضي الذي ينوب عنه في اليوم والساعة المحددين من المحكمة).
والمادة (808) تقول:
(إذا كانت الحالة تدعو إلى الاستعجال يجوز لرئيس المحكمة أو من يقوم مقامه أن يرخص بحضور الأخصام في الجلسة أو في منزله في الساعة التي يحددها ولو كان ذلك في أيام الأعياد).
والمادة (809) تقول:
(لا تمس الأحكام الصادرة في المواد المستعجلة أصل الحق وتكون قابلة للنفاذ العاجل بلا كفالة إذا كان القاضي لم يأمر بتقديمها، ولا تقبل المعارضة في هذه الأحكام ويجوز استئنافها قبل مضي ثمانية أيام من تاريخها ولا يكون استئنافها مقبولاً إذا رفع بعد مضي خمسة عشر يومًا من تاريخ إعلانها).
والمادة (810) تقول:
(تودع أصول الأوامر المستعجلة بقلم الكتاب).
والمادة (811) تقول:
(يجوز للقاضي في حالة الضرورة القصوى أن يأمر بتنفيذ أمره بنسخته الأصلية) ثم بمراجعة قانون المرافعات أمام المحاكم المختلطة نجد.
(المادة (26) منه تقول:
المحاكم التي تحكم ابتدائيًا هي:
1 - المحاكم الجزئية.
2 - المحاكم المدنية.
3 - المحاكم التجارية.
4 - محكمة الأمور المستعجلة.
والمادة (34) منه تقول:
(تتشكل محكمة الأمور المستعجلة من قاضٍ تعينه المحكمة ويفصل بموجهة الأخصام في المسائل المدنية والتجارية في طلب اتخاذ الإجراءات المستعجلة بدون مساس بأصل الحق وفي المسائل المتعلقة بتنفيذ الأحكام بدون تعرض لتفسيرها).
والمادة (136) تقول:
(يعقد رئيس محكمة الأمور المستعجلة في الأيام والساعات التي ستحدد في اللائحة جلسات يعرض عليه فيها أمر الفصل في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ وفي طلب اتخاذ إجراءات وقتية بدون مساس بأصل الحق).
والمادة (137) تقول:
تعلن طلبات الحضور قبل ميعاد الجلسة بيوم كامل.
والمادة (140) تقول:
(في الأحوال الأخرى التي تستوجب استعجالاً مطلقًا يكون للقاضي أن يأمر بإجراء الإعلان لحضور الأخصام بالجلسة أو في منزله بميعاد ساعة ولو كان ذلك في أيام الأعياد).
والمادة (142) تقول:
(لا تمس الأوامر المستعجلة مطلقًا بأصل الحق).
والمادة (143) تقول:
(تكون واجبة التنفيذ تنفيذا مؤقتًا بلا كفالة إلا إذا أمر بها القاضي)
والمادة (144) تقول:
(لا يجوز الطعن فيها بطريق المعارضة).
والمادة (145) تقول:
(يجوز للقاضي أن يأمر بأن يكون تنفيذ الأمر بنسخته الأصلية إذا رأى ضرورة لذلك)
والمادة (146) تقول:
(تودع أصول الأوامر المستعجلة بقلم الكتاب)
والمادة (407) تقول:
(يقصر الميعاد (ميعاد الاستئناف) إلى خمسة عشر يومًا في الأمور المستعجلة).
وبالرجوع إلى قانون المرافعات الأهلي نجد:
المادة (28) تقول:
(وكذلك يحكم قاضي الأمور الجزئية بمواجهة الأخصام في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ بشرط أن لا يتعرض في حكمه لتفسير تلك الأحكام ويحكم أيضًا في الأمور المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت بحيث لا يكون لحكمه تأثير في أصل الدعوى).
المادة (36) تقول:
(يجوز تكليف المدعى عليه بالحضور أمام قاضي المواد الجزئية بمقتضى علم خبر في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ وكذلك في الأمور المبينة في المادة (28))
والمادة (39) تقول:
(إذا حصلت المنازعات المذكورة في المادة (36) في وقت التنفيذ وجب على المحضر أن يكلف المدعى عليه بالحضور في ميعاد قصير ولو بميعاد ساعة واحدة ويكتب ذلك في محضر التنفيذ).
والمادة 49/ 2 تقول:
(وكذلك يجوز تكليف المدعى عليه بالحضور أمام المحكمة في ميعاد ساعة واحدة في المواد التجارية والجزئية في حالة شدة الضرورة على حسب ما يرى القاضي).
والمادة (355) تقول:
(يكون ميعاد الاستئناف خمسة عشر يومًا في الأحكام الصادرة في المنازعات المتعلقة بالتنفيذ وفي الأمور المستعجلة المبينة في المادة (28)).
والمادة (395) تقول:
(التنفيذ المؤقت يكون واجبًا لكافة الأحكام الصادرة من محاكم المواد الجزئية في المنازعات والأمور المذكورة في المادة (28).
والمادة (396) تقول:
(وفي الأحوال المستوجبة للاستعجال أو التي يخشى من تأخيرها حصول ضرر يجوز للمحكمة أو لقاضي المواد الجزئية الأمر بأن التنفيذ يكون بموجب نسخة الحكم الأصلية).
وبمقارنة نصوص هذه القوانين الثلاثة يتضح ما يأتي:
1 - إن قاضي الأمور المستعجلة في فرنسا هو رئيس المحكمة المدنية أو من ينوب عنه وفي المحاكم المختلطة هو القاضي الذي تندبه المحكمة الابتدائية وفي المحاكم الأهلية هو قاضي المواد الجزئية.
2 - في فرنسا والمحاكم المختلطة لقاضي الأمور المستعجلة دائرة خاصة وفي المحاكم الأهلية تدخل القضايا المستعجلة في دائرة المواد الجزئية.
3 - في فرنسا والمحاكم المختلطة لا تجوز المعارضة في الأحكام الغيابية الصادرة من قاضي الأمور المستعجلة أما في المحاكم الأهلية فهي قابلة للمعارضة لعدم وجود نص على الحرمان منها.
4 - في فرنسا والمحاكم المختلطة تستأنف الأحكام المستعجلة أمام محكمة الاستئناف وفي المحاكم الأهلية تستأنف أمام المحكمة الابتدائية كباقي الأحكام الجزئية.
ومما تقدم يتبين أن نظام المحاكم المختلطة يكاد يكون مطابقًا في كلياته وجزئياته لنظام المحاكم الفرنسية أما المحاكم الأهلية فلها نظام خاص شاذ هو دائمًا مثار للتردد والحيرة.
الفرق بين القضاء العادي والقضاء المستعجل:
من مقارنة النصوص السالفة الذكر الخاصة بالأمور المستعجلة بالنصوص الأخرى الخاصة بالأمور الموضوعية نتبين الفروق الآتية (في التشريع الأهلي).
1 - قصر مواعيد الإعلان بالحضور، فهي في القضاء المستعجل أقصر من مثلها أمام المحاكم الموضوعية.
2 - في النفاذ، فإن الأحكام المستعجلة واجبة النفاذ المعجل ولو لم ينص فيها على ذلك بخلاف الأحكام الأخرى فإنها لا تكون واجبة النفاذ معجلاً إلا في أحوال مخصوصة كما أن الأحكام المستعجلة يصح تنفيذها بنسختها الأصلية وهذا أمر غير جائز بالنسبة للأحكام الأخرى.
3 - ميعاد الاستئناف، هو خمسة عشر يومًا بالنسبة للأحكام المستعجلة مع أنه ثلاثون يومًا بالنسبة للأحكام الجزئية وستون يومًا بالنسبة للأحكام الابتدائية.
يضاف إلى هذه الفوارق فارق عظيم وهو أن الأحكام المستعجلة لا تحوز قوة الشيء المحكوم فيه بالمعنى المعروف بالنسبة للأحكام الأخرى كما أن الأحكام المستعجلة تفقد مفعولها بزوال توقيتها أو بصدور حكم نهائي في الموضوع.
الدعوى المستعجلة هي دعوى ككل الدعاوى الأخرى:
يجب أن يتوفر في الدعوى المستعجلة ما يجب أن يتوفر في كل دعوى أخرى من أركان ثلاثة:
1 - الحق Droit.
2 - الصفة Qualité.
3 - المصلحة Intérêt .
ومن حق القاضي المستعجل بل من واجبه أن يتحقق قبل الحكم في الدعوى من توفر هذه الأركان فإذا وجدها متوفرة حكم في موضوع الطلب وإذا وجدها غير متوفرة كلها أو بعضها يقضي بعدم قبول الدعوى أو برفضها.
ويجب أن تتوفر هذه الأركان حتى في دعوى إثبات الحالة التي يقصد بها مجرد الحصول على دليل في الدعوى الموضوعية المزمع رفعها فيما بعد.
ولا يصح القول بأن بحث قاضي الأمور المستعجلة في توفر ركن الحق هو بحث موضوعي خارج عن اختصاصه ذلك لأن القاضي المذكور عند تعرضه للبحث في الحق لا يتعمق في بحثه بل يكتفي بقيام الدليل على احتمال وجود الحق ولنضرب لهذه المسألة مثلاً.
إذا جاء شخص وطلب إثبات حالة زراعة لحقها ضرر من فعل شخص آخر ولم تكن هذه الزراعة مملوكة له ولا له أي حق عليها فالقاضي يحكم في هذه الحالة بعدم قبول دعواه أو برفضها أما إذا ادعى أن له حقًا عليها ونازعه خصمه في دعواه فإن القاضي ينظر في حجج الطرفين وأدلتهما فإذا استخلص من ظاهرها ما يدل على احتمال وجود الحق يقبل الدعوى ويفصل فيها، أما إذا وجدها لا تؤيد هذا الاحتمال فإنه يقضي برفضها.
وكذلك يكون الحال بالنسبة للبحث في توفر ركني الصفة والمصلحة.
تحديد اختصاص قاضي الأمور المستعجلة:
يجب أن يلاحظ أن القاعدة العامة Tout tribunal est juge de sa competence) تنطبق أيضًا على قاضي الأمور المستعجلة.
فهو إذا صاحب السلطة في تحديد اختصاصه وحكمه خاضع لرقابة المحكمة الاستئنافية بطبيعة الحال، ولقد تبين مما تقدم بأن نصوص التشريعين الفرنسي والمصري جعلت اختصاص القاضي المستعجل محصورًا في أمرين.
1 - المسائل المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت.
2 - المنازعات المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ.
وأنها قيدت الأمر الأول بعدم المساس بأصل الحق وقيدت الأمر الثاني بعدم تفسير الأحكام ويتضح من ذلك أن المنازعات المتعلقة بتنفيذ الأحكام تعتبر في ذاتها وبطبيعتها من اختصاص القاضي المستعجل.
أما المسائل الأخرى التي يخشى عليها من فوات الوقت فيجب أن يتوفر فيها شرط الاستعجال وهذا الاستعجال معناه الخطر من فوات الوقت وهذا الخطر يجب أن يكون محققًا ومهددًا بالوقوع في أقرب وقت.
فإذا لم يكن هناك خطر أو كان الخطر غير محقق أو كان وقوعه غير منتظم في الحال أو في وقت قريب خرجت المسألة عن اختصاص القاضي المستعجل.
ولقد كان قضاء المحاكم المختلطة صريحًا حاسمًا في هذه المسألة فإذا وصفت الدعوى بصفة الاستعجال وقبل المدعي تأجيلها أجلاً واسعًا اعتبرها القاضي غير مستعجلة.
وكذلك الحال إذا سكت المدعي عن رفع الدعوى مدة طويلة من الزمن واحتمل خطر الانتظار اعتبرت دعواه غير مستعجلة.
وبكل أسف أقول إن في القضاء الأهلي في كثير من الأحيان لا يشعر القاضي الجزئي بحكمة الاستعجال فيؤجل الدعوى عدة جلسات للمرافعة ويؤجلها عدة جلسات للحكم.
وأعرف قضية حراسة كنت أترافع فيها عن المدعى عليه مكثت أمام القاضي تسعة شهور تقريبًا ثم صدر فيها حكم تمهيدي بتعيين خبير لمراجعة الحساب، واسمحوا لي أن أسرد لكم على سبيل التمثيل بعض المسائل الداخلة بلا خلاف في اختصاص القاضي المستعجل.
1 - المسائل المستعجلة:
1/ المنازعات الخاصة بإجراء الإصلاحات الوقتية وتمكين المالك من فعلها رغمًا من ممانعة المستأجر.
2/ إيقاف البناء على أرض ليس للباني عليها حق البقاء أو للغير عليها حق ارتفاق ثابت يقضي بتركها بلا بناء.
3/ هدم البناء الآيل للسقوط والمهدد لحياة الغير بالخطر أو اتخاذ الاحتياط اللازم لمنع سقوطه.
4/ إيقاف البناء الذي يقوم به المقاول مخالفًا للشروط.
5/ إخراج المستأجر من المنزل لإجراء إصلاحات مستعجلة أو هدم محكوم به.
6/ إخراج المستأجر من العين المؤجرة بعد نهاية الإيجار أو بعد أن أصبح العقد مفسوخًا بحكم أو بنص العقد بدون حاجة إلى حكم.
7/ تسليم العين لصاحب الصفة في إدارتها أو لمالكها بعد الحكم له بذلك.
8/ إثبات الحالة وتقدير التعويض بمعرفة خبير.
9/ بيع المنقولات المحجوز عليها وإيداع ثمنها بالخزينة.
10/ تعيين الحارس القضائي وتحديد مأموريته.
2 - المسائل المتعلقة بالتنفيذ:
1/ إيقاف تنفيذ الأحكام أو السندات الواجبة التنفيذ.
2/ رفع الحجز الباطل.
3/ إيداع ثمن المبيع بخزانة المحكمة.
ولا يفوتني أن أقول إن المنازعات المتعلقة بالتنفيذ يدخل فيها ما هو متعلق بالشكل وما هو متعلق بالموضوع فالأولى كتحدي المحكوم عليه بعدم توافر شروط التنفيذ لانعدام التنبيه السابق مثلاً أو لعيب في إجراءاته كالتنفيذ على عقار (ماكينة ري ملتصقة بأرض مملوكة للمدين) بطريق التنفيذ على منقول والثانية كأن يدعى المحكوم عليه براءة ذمته من الدين بالتخالص أو كان يثير نزاعًا بشأن حقيقة ما قصدته المحكمة من حكمها.
فالمنازعات المتعلقة بإجراءات التنفيذ الشكلية هي وحدها التي تدخل في اختصاص قاضي الأمور المستعجلة وأما المنازعات الموضوعية فتكون من اختصاص المحكمة الموضوعية التي أصدرت الحكم (مادة (386) مرافعات) أو أي محكمة أخرى تنظر في النزاع الجديد.
ويجب على قاضي الأمور المستعجلة أن يبتعد عن المساس بقوة الشيء المحكوم فيه وعن تفسير الاتفاقات وعن التعرض لأصل الحق المتنازع فيه.
ويخرج عن اختصاصه:
1 - تصحيح الخطأ المادي الواقع بالحكم أو التعرض لتفسيره.
2 - اعتبار العقد مفسوخًا في حالة ما إذا كان هذا الفسخ غير متفق على حصوله بدون حاجة إلى حكم قضائي.
3 - إثبات مخالفة المتعهد لالتزاماته إذا كانت المخالفة تستدعي أبحاثًا ومناقشات موضوعية.
4 - الفصل في صحة العقود أو بطلانها.
5 - الحكم بتقديم كفالة إذا كان الحكم مشمولاً بالنفاذ بغيرها.
6 - إعطاء مهلة للمحكوم عليه لدفع المبلغ.
7 - الأمر بتنفيذ الحكم على شخص غير محكوم عليه.
8 - الحكم ببطلان إجراءات التنفيذ.

هل يزول اختصاص القاضي المستعجل إذا كانت هناك دعوى موضوعية منظورة في الوقت نفسه؟

المسألة خلافية:
ولكن الرأي الواجب العمل به هو أنه متى كان هناك خطر يدعو للسرعة والاستعجال فإن القاضي المستعجل يكون مختصًا رغمًا من قيام دعوى موضوعية أمام محكمة أخرى.
هل هذا الاختصاص من النظام العام؟
هو بلا جدال كذلك
والمسألة ليست خلافية في التشريع الفرنسي والتشريع المختلط ولكن بكل أسف فإن بعض المحاكم الأهلية لا يعتبره كذلك ويعتمد على أن الاختصاص المعتبر من النظام العام هو المنصوص عنه في المادة (15) والمادة (16) من لائحة الترتيب كما تقضي بذلك المادة 134/ 2 مرافعات أهلي.
وهذا خطأ ظاهر لأن اختصاص القاضي المستعجل هو من النظام العام بحكم تحديده في المادة ((28) مرافعات) التي تقول:
(……. بشرط أن لا يتعرض في حكمه لتفسير تلك الأحكام…… وبحيث لا يكون لحكمه تأثير في أصل الدعوى).
ومتى كان التشريع الفرنسي والمختلط يعتبران هذا الاختصاص من النظام العام وجب اعتباره كذلك في التشريع الأهلي لأنها كلها متفقة في تحديد هذا الاختصاص.
وكون القاضي الجزئي هو المختص أيضًا بالأمور المستعجلة لا يحمل مطلقًا على الخلط بين الاختصاصين.
مثل القاضي الجزئي وهو يعمل كقاضي للأمور المستعجلة كطبيب الإسعافات الوقتية هو في ذاته يستطيع أن يقوم بعمل العمليات الجراحية ولكنه باعتباره طبيب إسعاف لا يستطيع أن يفعل أكثر من ثم يرسل المصاب إلى المستشفى لعمل العملية اللازمة له.
هو مثل الآلة التي تستطيع أن تدور مائة دورة في الدقيقة مثلاً ولكنها تربط لتدور خمسين فقط هو كالممثل الذي يستطيع أن يمثل دورين مختلفين ولكنه متى لبس ثياب أحدهما لا يستطيع أن يمثل بها الدور الآخر.
ويجب أن لا يفهم من قول الشارع في المادة (28) مرافعات أهلي (وكذلك يحكم قاضي المواد الجزئية في المنازعات المستعجلة) أن الشارع قصد أن يخلط بين القضاء في الأمور المستعجلة والقضاء في المواد الجزئية، كلا، بل أنه قصد مجرد إحالة أمر الفصل في الأمور المستعجلة إلى القاضي الجزئي بطريق الندب القانوني.
ماذا يترتب على اعتباره من النظام العام؟
يترتب على هذا الاعتبار:
1 - عدم جواز اتفاق الخصوم على ما يخالفه فإن اتفقوا على مخالفته كان اتفاقهم باطلاً وكان لأي طرف منهم حق التحدي بهذا البطلان.
2 - جواز حكم القاضي من تلقاء نفسه بعدم اختصاصه.
3 - حق التمسك بعدم الاختصاص في أي حالة كانت عليها الدعوى وفي جميع أدوار التقاضي.
سادتي وإخواني،
أرجو أن أكون قد وفقت إلى أن أقدم لكم صورة صحيحة مصغرة عن القضاء المستعجل ومدى اختصاصه وإلى تنبيه الأذهان إلى أهمية هذا الاختصاص ووجوب وضعه في دائرته الحقيقية وإني أشكر لكم تفضلكم بالاستماع إلى هذا الحديث القانوني، والسلام عليكم ورحمة الله.


[(1)] محاضرة ألقاها حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد بك زكي علي المحامي (والمستشار بمحكمة استئناف مصر الأهلية حالاً) على المحامين تحت التمرين في يوم 5 مارس سنة 1926 بقاعة محكمة الاستئناف الأهلية، طلب منا نشرها بمناسبة العناية الموجهة إلى القضاء المستعجل في الوقت الحاضر، وما أضحى له من مكانة في المحيط القضائي، ومعلوم أنه قد استحدث الآن وبقرار من وزير الحقانية أمام محكمتي مصر وإسكندرية الأهليتين نظام القضاء المستعجل مستقلاً عن القاضي الجزئي فكانت له مميزاته وثمراته.