بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

بحث مدى حجية الترخيص بحمل الأسلحة

مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954

بحث
مدى حجية الترخيص بحمل الأسلحة
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة

1 - تمهيد:
نصت المادة الأولى من القانون رقم (58) لسنة 1949 بشأن الأسلحة وذخائرها على حظر إحراز الأسلحة النارية بجميع أنواعها أو حيازتها بدون ترخيص من وزير الداخلية أو من ينوب عنه وحددت المادة الثانية مفعول الترخيص لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد، ووضحت المادة الثالثة كيفية مباشرة وزير الداخلية أو من ينوب عنه حق منح الترخيص أو رفضه أو تقصير مدته أو قصره على أنواع معينة من الأسلحة أو تقيده بأي شرط أو قيد يرى من المصلحة تقيده به - وحق سحبه له إلى أن جاءت المادة التاسعة التي نصت على عقاب كل من أحرز أو حاز أسلحة نارية مششخنة بالأشغال الشاقة المؤقتة.
وسنبحث في هذا الصدد حالة الشخص المرخص له بإحراز سلاح تطبيقًا للمواد السابقة ثم وجد محرزًا لسلاح آخر لم يشمله الترخيص.
2 - أهمية البحث:
هل إذا كان هذا السلاح الناري الثاني مششخنًا يعتبر مثل هذا الشخص قد ارتكب الجناية المنصوص عليها في المادة التاسعة من هذا القانون، ولعل صعوبة البحث راجعة إلى أنه ظاهر هذا القانون لم يتعرض صراحةً لمعالجة هذه الحالة بين ثنايا نصوصه، مما حدا ببعض رجال الفقه إلى اعتبار هذا الشخص قد ارتكب الجناية المذكورة مستندين في ذلك إلى أن الرخصة قاصرة على السلاح المعين فيها فحسب.
وبرجوعنا إلى القضاء المصري لم نعثر على حكم تعرض لهذه المشكلة القانونية، كما لا يجدينا البحث في تطبيقات أحكام قانون السلاح الفرنسي وهو المرسوم بقانون الصادر في 18 إبريل 1939 للاختلاف البين بين قانوننا والقانون الفرنسي في هذا المجال.
3 - مناط البحث:
ولعل الذي يسعفنا في هذا المقام هو معرفة ماهية هذا الترخيص وتكييفه من الوجهة القانونية بمعنى أنه يجدر بنا أن نتساءل هل رخصة حمل السلاح ذات صفة شخصية أي أنها صدرت للشخص ذاته أم أنها ذات صفة عينية أي عالقة بالشيء وحده.
4 - الترخيص شخصي:
ولا شك أن الذين يذهبون إلى اعتبار مثل هذا الشخص مرتكبًا للجناية المذكورة يؤكدون أن الترخيص عيني خاص بالسلاح الوارد فيه دون غيره من الأسلحة، إلا أننا نخالفهم في زعمهم هذا منادين باعتبار الترخيص شخصي وإلى القارئ الأدلة التي تؤيد ذلك.
أولاً: الثابت من الاطلاع على القرار الوزاري الصادر في 19 إبريل سنة 1952 بتنفيذ أحكام هذا القانون أن إجراءات الحصول على الترخيص تنحصر في تقديم طلب الترخيص إلى الجهة المختصة يرفق به شهادة من إدارة تحقيق الشخصية عن سوابق الطالب وشهادة إدارية بأنه محمود السيرة حسن السمعة لم يسبق إدخاله مستشفى أو مصحة للأمراض العقلية - ثم تجرى التحريات الكافية عن الطالب، ويعطى له الترخيص بعد ذلك مشتملاً البيانات الآتية: اسم الطالب، وصف السلاح المرخص له به، الأغراض التي من أجلها رُخص له في إحرازه أو حيازته، تاريخ منح الترخيص وانتهاء مدته، الشروط التي يرى تقييد الترخيص بها، والمعروف أن القصد من البيانات تقييد الترخيص من أجل المصلحة العامة حماية للأمن والنظام الاجتماعي.
فهل قصد المشرع أن يسري بين حالة مثل هذا الشخص الذي قام بتنفيذ هذه الإجراءات وبين آخر لم يتخذ إجراءات الترخيص أو اتخذها ولم يصرح له بحمل السلاح ؟
لا ريب أن الجواب بالسلب من الوجهة القانونية ومن اعتبار العدالة في آنٍ واحد إذ القول بعكس ذلك يجرد هذا الترخيص من كل حجية.
ثانيًا: من المُسلم به حتى من أنصار المذهب المعارض أن السلاح المرخص بحمله إذا انتقل إحرازه أو حيازته إلى شخص آخر لم يرخص له بحمل السلاح اعتبر هذا الشخص محرزًا أو حائزًا السلاح بدون ترخيص ويقع تحت طائلة العقاب المقرر في المادة التاسعة سالفة الذكر، وهذه النتيجة دفعت أنصار المذهب المعارض إلى القول بأن الترخيص عيني وشخصي معًا وهو ما لا يمكن الأخذ به، وإنما يتعين القول باعتبار الترخيص شخصي فإذا حاز أو أحرز المرخص له سلاحًا آخر فيكون قد خالف شروط الترخيص وهو ما يقع تحت أحكام المادة (11) من هذا القانون والتي تنص على أن (كل مخالفة أخرى لأحكام هذا القانون يعاقب عليها بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على عشرة جنيهات أو بإحدى هاتين العقوبتين).
ومما يثبت ذلك أن هذه المادة وردت بعد المادتين (9)، (10) اللتين تعاقبان على إحراز أو حيازة الأسلحة النارية والذخائر بغير ترخيص ويستفاد من ذلك أن المادة (11) خاصة بمخالفة شروط الترخيص وغير ذلك من المخالفات الأخرى لأحكام القانون ولو كان عكس ذلك لكان جديرًا بالمشرع أن ينص في المادتين (9)، (10) بالعقاب على الإحراز والحيازة بغير ترخيص أو عند مخالفة الترخيص معًا وهذا ما لم يفعله مما يخلص منه أنه ترك الواقعة الثانية إلى المادة ذات التطبيق العام وهي رقم (11)، ومما يؤكد ذلك أيضًا أن المادة (12) أوجبت الحكم بمصادرة السلاح موضوع الجريمة في كل الحالات ومن بينها المادة (11) سالفة الذكر ولا يمكن أن تفهم هذه المادة باحتوائها على المادة (11) إلا إذا كان إحراز السلاح مما لا ينطبق عليه المادتين (9)، (10) من هذا القانون.
ثالثًا: بالاطلاع على المادة (102 أ) من قانون العقوبات التي أضيفت بمقتضى القانون رقم (50) لسنة 1949 والتي تنص على أنه (يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة كل من أحرز مفرقعات أو حازها أو صنعها أو استوردها قبل الحصول على ترخيص بذلك…) ولم يرد في هذا القانون مادة مماثلة للمادة (11) من القانون رقم (58) لسنة 1949 بشأن الأسلحة وذخائرها والسابق شرحها باعتبارها تتضمن مخالفة شروط الترخيص، مما دفع المشرع المصري إلى معالجة هذا النقص الظاهر في التشريع فصدر القانون رقم (7) لسنة 1952 في 24 يناير سنة 1952 بإضافة مادة جديدة إلى هذا القانون رقم (102) وهي تنص على أنه (يعاقب بالحبس على مخالفة شروط الترخيص المشار إليها في المادة (102 أ)).
ومفهوم ذلك أن المشرع اعتبر مخالفة شروط الترخيص أقل جرمًا من إحراز المفرقعات بغير ترخيص فكيف الأولى جنحة والثانية جناية.
ولقد ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم (7) سنة 1952 ما يلي:
أصدر وزير الداخلية بالاتفاق مع وزير العدل قرارًا في 20/ 9/ 1950 لبيان الشروط الخاصة بالتراخيص المنصوص عليها في المادة (102 أ) من قانون العقوبات والإجراءات المتعلقة بها [(1)].
ولما كانت أحكام القانون بوضعها الحالي خالية من نص خاص يعاقب على مخالفة شروط نقل هذه المفرقعات وتخزينها وما قد يترتب على ذلك من نتائج خطيرة مما تصبح معه العقوبة الواجبة التطبيق هي مجرد عقوبة المخالفة عملاً بالمادة (395) فقرة ثانية من قانون العقوبات وسحب الترخيص وهي عقوبة لا تتلاءم مع خطورة الفعل في ذاته، لذلك رُئي وضع نص ينسحب على كافة وجوه المخالفات.
ويمكن أن نستخلص من ذلك أن المشرع المصري جاء في قانون السلاح أكثر حرصًا منه في قانون المفرقعات فأورد مادة ذات تطبيق عام هي المادة (11) التي استهلها بعبارة (كل مخالفة أخرى لأحكام هذا القانون…
وإذا لم يكن هذا القانون قد تضمن هذه المادة لكنت قد ذهبت إلى اعتبار المسألة محل بحثنا مخالفة بالتطبيق إلى الفقرة الثانية من المادة (395) من قانون العقوبات جريًا على ما ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم (7) سنة 1952 المذكور.
رابعًا: ومما يؤكد هذا الرأي عبارة (كل مخالفة أخرى) الواردة في المادة (11) إذ لو كان المشرع يقصد بها حالات وجوب الأخطار عن الأسلحة بالنسبة لبعض الأشخاص المذكورين في المادتين (4) و(7) من هذا القانون لكان أجدر به أن ينص صراحةً على ذلك في هذه المادة دون استعمال عبارة (كل مخالفة أخرى).
وهذا الرأي ينطبق حتى ولو كان الشخص قد رخص له بحمل سلاح غير مششخن فطالما أنه قد صدر له الترخيص من الجهة المختصة بحمل السلاح فمعنى هذا أنه جدير بحمله ولا خطر على الأمن والنظام بإحرازه أو حيازته له فإذا حددته هذه الجهة بنوع معين من الأسلحة ولو غير مششخن فإننا لا يمكن أن نعتبره لم يرخص له أصلاً بحمل السلاح ثم نوجه إليه تهمة الجناية إذا وجد محرزًا لسلاح آخر مششخن إذ أن هذا يجافي نصوص القانون ويؤدي إلى انعدام حجية الترخيص الصادر له بحمل السلاح وهذا ما لا يستساغ عقلاً.
ولا يقدح في ذلك القول بأن هذا الشخص وقد رخص له بسلاح غير مششخن فلا يعتد بهذا الترخيص إذا أحرز سلاحًا مششخنًا بدعوى أن من يملك الأقل لا يملك الأعلى، هذا غير صحيح إذ طالما أنه قد رخص له بحمل السلاح فإذا أحرز سلاحًا ثانيًا ولو مششخنًا فيكون قد خالف شروط الترخيص الصادر له وتنطبق على فعله الجنحة الواردة في المادة (11) من هذا القانون.
ولا يحتج علينا بأن هذا الرأي قد يؤدي إلى نتيجة غريبة هي أن من رخص له بحمل سلاح أبيض إذا أحرز سلاحًا مششحنًا فإنه يكون قد خالف المادة (11) من هذا القانون وتوجه إليه تهمة الجنحة فقط، فيرد على ذلك بأن القانون رقم (58) لسنة 1949 قسم الأسلحة إلى نوعين أسلحة نارية وأسلحة بيضاء ونظم لكلاهما أحكامًا خاصة للاختلاف بينهما من حيث طبيعتها ففي المادة الأولى منه نص على أنه (يحظر بغير ترخيص من وزير الداخلية أو من ينيبه عنه إحراز الأسلحة النارية بجميع أنواعها أو حيازتها أو الاتجار بها أو صنعها أو استيرادها) ثم جاء بعد ذلك وقال وكذلك الأسلحة البيضاء المبينة في الجدول (رقم أ) الملحق بهذا القانون.
وعند ما نص على عقاب الإحراز أو الحيازة لها انفردت المادة (8) بالأسلحة البيضاء بينما جاءت المادة (9) خاصة بالأسلحة النارية وكل ذلك يؤكد إيمان المشرع المصري باختلاف طبيعة كل نوع من الأسلحة فإذا رخص لشخص بحمل سلاح من أي نوع ثم أحرز سلاحًا من النوع الثاني فيعتبر الترخيص بالنسبة لهذا النوع الثاني كأن لم يكن ويعتبر حائزًا للسلاح بغير ترخيص فإن كان مششخنًا توجه إليه الجناية الموضحة بالمادة التاسعة ومما يؤكد ذلك أيضًا أن القانون القديم رقم (8) سنة 1917 كان يفرق أيضًا بين هذين النوعين من جهة طبيعتها والعقوبة المقررة لها إلا أنه فيما يختص بالأسلحة النارية فلم يكن يقسمها إلى قسمين مششخن وغير مششخن إذ أن هذه القسمة أوردها القانون الجديد بقصد تشديد العقوبة على النوع الأول وإن كان في النهاية قد سوى تقريبًا بينهما إذا كان الحائز للسلاح غير المششخن من الأشخاص المنصوص عليهم في الفقرات الخمس الأولى من المادة السادسة ففي الحالتين اعتبر الواقعة جناية.
5 - خاتمة:
هذه هي خلاصة اجتهادي في هذا القانون والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وأملي أن يكون الله عز وجل قد وفقني إلى الصواب فجنبني الزلل فوصلت إلى الحقيقة في هذا البحث.
والله ولي التوفيق،


[(1)] راجع قرار وزير الداخلية الصادر في 28 سبتمبر سنة 1950 بالشروط والإجراءات الخاصة بالحصول على التراخيص المنصوص عليها في م (102 أ ع) (المادة الرابعة منه) الوقائع عدد 92.

بحث في علاج مشكلة المخدرات

مجلة المحاماة - العددان الخامس والسادس
السنة الثامنة والعشرون سنة 1948

بحث
في علاج مشكلة المخدرات
بقلم الأستاذ جمال الدين العطيفي
وكيل نيابة مخدرات مصر
مقدمة عامة

لست بحاجة إلى أن أُبين مضار المواد المخدرة وخطرها على الجماعة، فبلادنا لم تفق بعد من ذكرى السنوات التي أعقبت الحرب الماضية، حين أنهكت المخدرات قوانا العاملة حتى قُدر عدد المدمنين عليها في سنة 1930 وحدها بخمسمائة ألف شخص، وحتى وقف الدكتور عبد الخالق سليم مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب أثناء نظر قانون المخدرات ينبه إلى خطورة الحالة فقال:
(من المُسلم به أن الحرب العظمى كلفت المتحاربين ضحايا هائلة في النفس وضحايا في المال، وقد انتشر الآن في البلاد وباء خطر جدًا، ليس على المال والأنفس فحسب ولكنه وباء يسطو على الأخلاق فيفسدها، وعلى الكرامة فيسحقها وعلى الإرادة فيسلبها وعلى عاطفة الشرف فيذهقها، حتى إذا سلم المصاب به من الموت ولو إلى حين عاش ذليلاً بائسًا يتمنى الموت ولكنه لا يجد الشجاعة الكافية للانتحار، ومما يزيد الإنسان أسى أن هذا الوباء قد بدأ ينشب أظفاره في طبقة الفلاحين والعمال، تلك الطبقة التي عليها قوام العمران في البلاد، وهذا الوباء… هو انتشار تعاطي المخدرات (مناقشات مجلس النواب جلسة 24 يناير سنة 1927).
فالإدمان على المخدرات يصيب الشخص في صحته وفي عقله وفي ماله، ويفسد خلقه واستعداده للعمل بل إنه يؤثر حتى على ذرية المدمن الذين يرثون وهنًا وانحطاطًا عن آبائهم، وهو وثيق الصلة بالإجرام يدفع إلى ارتكاب الجريمة، ويخلق ميلاً إليها، ذلك أن التنبه الحادث من تعاطيها يدفع إلى أعمال العنف والاعتداء والقتل (يراجع في ذلك الدكتور دوبري في كتاب ميرابان La lutte anti toxique صـ 160).
والمواد المخدرة جميعًا تستوي في مضارها، سواء أكانت من المخدرات المعروفة بالبيضاء (وأهمها الكوكايين والهيرويين والمورفين) أم من المخدرات السوداء (وأظهر أنواعها الحشيش وهو المعروف بالقنب الهندي والأفيون) فلكل تفرقة يراد إيجادها بين هذين النوعين تفرقة تحكمية خطرة.
لقد اقترح بعض أعضاء البرلمان أثناء مناقشة قانون المخدرات سنة 1927، عدم التسوية في العقوبة بين نوعي المخدرات، وتشديد العقوبة بالنسبة للمخدرات البيضاء، وكان مما قاله في ذلك الصدد الدكتور حسين يوسف عامر عضو مجلس النواب في جلسة 8 فبراير سنة 1927 إن المخدرات تنقسم إلى قسمين مختلفين تبعًا لجسامة الخطر الناتج من استعمال كل قسم منهما، فالحشيش والأفيون أقل خطرًا من باقي المخدرات كالكوكايين والمورفين، وأنه لا جدال في أن استعمال الأفيون والحشيش يؤثر في العقل والجسم إلى درجة محدودة خلافًا للكوكايين الذي يؤدي حتمًا بمن يستعمله إلى الجنون في مدة سنتين كما قرر رجال الطب، فضلاً عن إضعافه لقوة التناسل وإقلاله لشهية الأكل - أما الحشيش فبالعكس من ذلك لأنه يفتح الشهية للطعام، وانتهى الدكتور عامر إلى أنه ما دام الأمر كذلك فليس من المصلحة مطلقًا التسوية في العقوبة بين من يتجر في الحشيش والأفيون ومن يتجر في باقي أنواع المخدرات الأخرى.
غير أن ذلك الرأي لم يلقَ قبولاً، حتى قال مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب الدكتور عبد الخالق سليم بحق، أنه إذا كان تعاطي الكوكايين يقتل الأشخاص بعد سنتين فما ذلك إلا لسرعة تأثيره في الجسم، ولكن تأثير الحشيش كالسرطان متى دخل الجسم أصبح علاجه من المستحيلات وضرب مثلاً على أن مدى الضرر لا تأثير له في تقرير العقوبة - أن من يزور سندًا على شخص يملك خمسين فدانًا يعاقب بنفس العقوبة التي ينالها من يزور سندًا على شخص يملك مائتي فدان.
(جلسة مجلس النواب 8 فبراير سنة 1927).
وانتهى البرلمان إلى التسوية في العقوبة بين من يتجر في المخدرات البيضاء والسوداء، وإن كانت نصوص القانون مع ذلك لم تخل بما يشير إلى زيادة اهتمام الشارع بمكافحة المخدرات البيضاء، فالمادة (46) من القانون قد نصت على مكافآت أكثر سخاءً لمن يضبطون المواد المخدرة غير الأفيون والحشيش.
ولقد أردت أن أنبه هنا إلى خطر إيجاد أية تفرقة بين المخدرات البيضاء والسوداء، بمناسبة ما أثير في إحدى اجتماعات لجان جامعة الدول العربية من مناقشات تميل إلى إيجاد هذه التفرقة، ولعل اللجنة المشكلة في وزارة الصحة العمومية لتعديل قانون المخدرات تبقى على هذه التسوية في عقوبة المخدرات البيضاء والسوداء.
فمع التسليم بأن ضرر المخدرات البيضاء أسرع ظهورًا، فإن الضرر متحقق في الحالتين، وقد سبق للدكتور حامد محمود حين كان مديرًا لأقسام الصحة الاجتماعية بوزارة الصحة أن قرر (أنه لخطأ عظيم الاستهانة بالضرر الذي يلحق البلاد من تزايد استعمال الحشيش والأفيون لأن خطر ذلك على البلاد مزدوج - خطر على المدمنين أنفسهم وخطر على الجماعة العامة. إن مدمن المخدرات مثل حامل ميكروب التيفوئيد ينشر مرضه بين الآخرين الذين يخالطونه. والإدمان على الهيرويين سريع في نتائجه والمفروض أن حياة المدمن على الهيرويين قصيرة بينما أن المدمن على الأفيون يعيش عدة سنوات وإن كانت النتيجة في النهاية واحدة اضمحلال فوفاة - ومع ذلك فإن الخطر على الجماعة من الإدمان على الأفيون أعظم من خطر الإدمان على الهيرويين لأن عدوى مدمن الأفيون تبقى منتشرة عددًا أكثر من السنين فهوة كقدوة ومغرٍ يعدي نسبيًا عددًا من الأشخاص أكثر من الذين يعديهم مدمن الهيرويين الذي حياته أقصر من حياة الآخر) (التقرير السنوي لمكتب المخدرات عن سنة 1940 ص ل).
وقبل ذلك نشر طبيبان هنديان في يوليو سنة 1939 بحثًا مستفيضًا عن إدمان مخدر القنب الهندي (الحشيش) في مجلة (Indian Research memories) انتهيا فيه إلى أن تدخين الحشيش يؤدي إلى حالة تسمم شديد نتيجة مفعول الحشيش على مراكز المخ العليا، وأنه إذا دام استعمال الحشيش مدة كبيرة فإنه قد يتسبب عنه الجنون (تقرير مدير مكتب المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية عن سنة 1942، المنشور في واشنجطون في مارس سنة 1943).
يضاف إلى ما تقدم أن التفرقة بين المخدرات البيضاء والسوداء غير منتجة، لأنه من الأفيون وهو أحد المخدرات السوداء تستخرج بعض المخدرات البيضاء وهي المورفين والهيرويين.
هذه هي مضار المخدرات بوجه عام، وقد كان أشد ما عانته مصر من هذه المخدرات عقب الحرب العظمى، حين اشتد الإدمان على المخدرات البيضاء، مما أفزع الرأي العام وأولي الأمر، فصدر القانون رقم (21) لسنة 1928 متأثرًا بخطورة الحالة، حتى أنه صرح جهارًا أثناء نظر ذلك القانون في البرلمان، بأن روح التشديد يجب أن تسوده، وأنشئ مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة بقرار من مجلس الوزراء في 2 مارس سنة 1929، وكانت نتيجة ذلك التشريع الجديد وما بذله رجال مكتب المخدرات من جهود أن الحالة بدأت في التحسن، وما كان عام 1933 حتى صرح مدير مكتب المخدرات بأن خطر المخدرات الذي هدد البلاد بالخراب منذ بضع سنوات قد زال وأصبحت مناوأته والسيطرة عليه ممكنة في المستقبل. (تقرير مكتب المخدرات عام 1933).
وبقيام الحرب الأخيرة، توقفت تجارة المخدرات البيضاء عن نشاطها، ذلك أن الصين وبلاد وسط أوروبا وهي موطن هذه المخدرات، قد أصبحت ميدانًا لحرب ضروس وأصبح نقل هذه المخدرات عبر البحار متعذرًا.
غير أن تضاؤل كمية المواد البيضاء المضبوطة تم انعدامها، قد قابله تزايد في كميات المواد السوداء (الحشيش والأفيون) التي تهرب إلى مصر عبر قنال السويس فدل هذا على أن الإدمان على المخدرات ما زال كامنًا في النفوس، وأنه وقد تعذر الحصول على المخدرات البيضاء فإن المدمن يستعيض عنها بالمخدرات السوداء التي تُحدث نفس التأثير الضار.

سنتيجرام
جرام
كيلو جرام

فمنذ قيام الحرب كانت كمية الحشيش المضبوطة
78
372
459

وكمية الأفيون
5
417
1037


(إحصائية مكتب المخدرات عن سنة 1938).

وفي سنة 1944 قفزت كمية المخدرات من الحشيش إلى
85
244
1445

ومن الأفيون
1
412
1171

واستمرت هذه الزيادة حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها فبلغت مضبوطات عام 1947 من المواد السوداء.




الأفيون
80
873
3654

الحشيش
39
929
8459


(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).


ولا شك أن هذه الأرقام تدل في ذاتها على خطورة الحالة، فالمخدرات السوداء تهرب إلى مصر عبر قنال السويس، على ظهور الجمال وفي بطونها، وفي سيارات الجيوش المتحاربة وفي المراكب والقطارات والطائرات، ومصدرها الرئيس هو سوريا للحشيش وتركيا للأفيون.
إن المخدرات تدخل مصر إذن، وتتداول بكثرة في داخلية البلاد هذه الأيام، فما زال الإدمان عليها كامنًا في النفوس كما أسلفت، ويغري الكسب أصحاب النفوس الضعيفة على الاتجار فيها، فإذا كان سعر الكيلو من الحشيش والأفيون لا يتجاوز عشرين جنيهًا في سوريا، فإنه في مصر قد وصل إلى أكثر من مائة وخمسين جنيهًا وقد بدى أخيرًا نوع من التعاون الإجرامي الخطير بين عصابات تهريب المخدرات في البلاد العربية المتاخمة، وبين العصابات في مصر.

سنتيجرام
جرام
كيلو جرام

على أن دلائل كثيرة في مصر تدل على بدء تسرب المواد البيضاء إلى البلاد، حتى أنه ضبط من الكوكايين عام 1947
50
81
1

ومن الهيرويين
15
592
1


(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).


ولو أصبحت المخدرات البيضاء في متناول اليد، فإن البلاد ستسقط ثانيةً في الهاوية التي تردت فيها بعد الحرب الماضية بل إن الخطر اليوم سيصبح عظيمًا، ذلك أن الفلاحين لا يحصلون على غذاء كافٍ، وقد أنهكتهم أمراض البلهارسيا والانكلستوما، فهم في حاجة إلى ما يجدد نشاطهم، فإذا وصل الهيرويين إلى أيديهم بسعر رخيص فإن الكارثة ستكون شديدة.
ويبدو من ذلك التحليل المتقدم، أن المخدرات يكمن خطرها في ناحيتين:
1 - جلبها من الخارج وتداولها في الداخل.
2 - الإدمان عليها.
وسنعرض مقترحاتنا بالنسبة للخطرين على التوالي.

الباب الأول: مكافحة جلب المخدرات وتداوله

من المُسلم به أن مكافحة الاتجار في المخدرات، لا تتأتي بالوسائل الداخلية وحدها، بل إنه لا بد من نوع من التآزر الدولي في مكافحتها.
أولاً: الوسائل الداخلية:
1 - لعل أول ما يرد على الذهن هو منع تسرب المخدرات إلى الداخل، وهذه المهمة تؤدي بطبيعتها عند الحدود والمواني المصرية، وهي تؤدي عند الحدود الشرقية بوجه خاص هذه الأيام التي ازداد فيها تهريب المخدرات السوداء، لأن الموطن الحقيقي لذلك التهريب كما أسلفت هو بلاد فلسطين وسوريا ولبنان.
ولا شك أن حُسن مراقبة الحدود المصرية الشرقية، من شأنه أن يؤدي إلى ضبط كل من تسوله نفسه بأن يجلب المخدرات إلى مصر، وإلى ضبط ما يحمله من هذه السموم غير أن هذه الرقابة في وقتنا الحاضر ليست موكولة إلى هيئة واحدة، بل إنها موكولة إلى مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة وإلى البوليس ومصلحة الحدود ومصلحة خفر السواحل ومصلحة الجمارك، حتى أن قنال السويس يقوم بحراسة شاطئها الشرقي رجال مصلحة الحدود، وشاطئها الغربي رجال مصلحة خفر السواحل، وكانت نتيجة ذلك عدم التآزر بين رجال المصلحتين وعدم تبادل المعلومات واشتراك القوات معًا في العمل فهذا التقسيم في المناطق وتعدد الهيئات التي تتولى مكافحة التهريب، من شأنه أن يعرقل الجهود التي تبذل في هذا السبيل وقد سبق لسعادة اللواء حسن عبد الوهاب باشا مدير عام خفر السواحل أن اقترح في عام 1944 توحيد السلطات القائمة على مقاومة التهريب وأن يتولاها موظف له منصب وكيل وزارة لشؤون التهريب، وأيد ذلك الاقتراح سعادة اللواء رسل باشا مدير مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة، في ذلك الحين، ذاكرًا أن التهريب في مصر يمتد في الداخل والخارج منطويًا على تجارة واسعة النطاق في الأسلحة والذخائر والمواد الغذائية وما إليها، وأنه إذا أصبح في الإمكان تهريب البضائع من مختلف الأنواع دون الوقوع تحت طائلة العقاب فمن الممكن أيضًا أن يهرب الناس، وإذا بالرقابة الضعيفة عند الحدود تصبح ذات يوم خطرًا شديدًا على مصر.
(تقرير مكتب المخدرات عن سنة 1944 صـ 5).
ويتصل بإنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب، وجوب تعزيز هذه الإدارة بعد وافر من الضباط الأكفاء المثقفين، حتى لا يترك أمر جمع الاستدلالات والتحريات إلى فئات البوليس الملكي والجنود - والاستعانة بالطائرات على نطاق واسع لكشف زراعات الحشيش والخشخاش، وبالمراكب لمكافحة التهريب عبر البحار.
2 - إذا لم تفد هذه الجهود في منع المخدرات من دخول البلاد وتسرب بعضها إلى الداخل أو زرعها بعض الفلاحين طمعًا في الربح - فإنه يجب أن يتوافر الجزاء الرادع على الاتجار فيها أو زراعتها.
إن القانون رقم (21) لسنة 1928 ينص في المادة (35) منه على معاقبة من يُصدر أو يُجلب الجواهر المخدرة أو يبيعها أو يشتريها أو يُحرزها أو يحوزها أو يقدمها للتعاطي أو يُسهل تعاطيها… بالحبس مع الشغل من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 200 جنيه إلى ألف جنيه.
وينص القانون رقم (42) لسنة 1942 الخاص بمنع زراعة الحشيش على عقوبة الحبس من ستة شهور إلى سنتين وغرامة من 100 جنيه إلى 200 جنيه.
بينما ينص المرسوم بقانون الصادر سنة 1926 المعدل بالقانون رقم (64) لسنة 1940 الخاص بمنع زراعة الخشخاش (الأفيون) على عقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة شهور وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا أو إحدى هاتين العقوبتين.
ويبدو من مراجعة هذه النصوص أن الشارع يفرق بين عقوبة من يحرز الحشيش أو الأفيون، ومن يزرعه، مع أن زراعة الحشيش أو الخشخاش لا تقل خطوة عن إحرازه بل قد تزيد أحيانًا، وهذه التفرقة بين جرائم الزراعة وغيرها لا تعرفها قوانين المخدرات في الخارج (يراجع على سبيل المثال الذي يُحسن أن يُحتذى قانون الأفيون والجواهر المخدرة لسنة 1929 الصادر في كندا).
على أن العقوبة حتى في حالة الجرائم الواردة بالمادة (35) من القانون رقم (21) لسنة 1928 لم تعد كافية لردع المتجرين بالمخدرات ولمواجهة خطورة الحالة، وهي أقل من نظيراتها في بعض التشريعات الأجنبية، فالتشريع الصيني الصادر في 16 مايو سنة 1934 يجيز الحكم بالإعدام في جرائم بيع المواد المخدرة وصناعتها ونقلها وفي القانون الإنجليزي الصادر في 17 مايو سنة 1923 يجوز أن يصل عقاب المتجرين في المخدرات إلى الأشغال الشاقة مدة عشر سنوات وغرامة ألف جنيه، وفي الولايات المتحدة يجيز قانون جون ملر الصادر في سنة 1922 إيصال مدة الحبس إلى عشر سنوات والغرامة إلى 5000 دولار.
وظاهر من ذلك أن الدول التي وجدت نفسها أمام خطر عظيم من انتشار هذه المواد اضطرت إلى زيادة العقوبة زيادة تدفع أذاها، ففي هذه البلاد يعاقب على جرائم المخدرات بعقوبة الجناية.
وقد اقترح في مصر أثناء مناقشة قانون المخدرات في البرلمان، جعل عقوبة الاتجار في المخدرات جناية، غير أن لجنة الحقانية بمجلس النواب لم ترَ هذا الرأي، (لأن اعتبار هذه الجريمة جناية سيصادف عقبات كثيرة عند تطبيق القانون على الأجانب لعدم وجود محاكم جنايات بالمحاكم المختلطة، وعدم ملاءمة قانون تحقيق الجنايات المختلط الذي وضع وقت إنشائها لروح الأنظمة الحاضرة مما يستدعي إعادة النظر فيه، وهذا يستغرق وقتًا طويلاً، أما أن تعتبر الجريمة جناية بالنسبة للمصري فقط فيحول ذلك دون اتجاره في تلك المواد فيحتكرها الأجنبي ويلحق الضرر بأبناء البلاد فإذا ضُبط طُبقت عليه عقوبة المخالفة، فهذا ظلم، كما أن التدرج في التشريع يقتضي عدم اعتبارها جناية، فهذه الجريمة كانت المحاكم الأهلية تقضي فيها باعتبارها مخالفة إلى عهد قريب.
وظاهر أن هذه الاعتبارات التي كانت قائمة وقت صدور القانون رقم (21) لسنة 1928 قد زالت الآن بزوال الامتيازات الأجنبية وخضوع الأجانب للتشريع والقضاء المصريين لذا فمن المأمول، وهناك لجنة مشكلة في وزارة الصحة لتعديل قانون المخدرات، أن يكون تشديد العقوبة أحد أُسس التنقيح، وخصوصًا بالنسبة للجرائم التي ترتكبها الجماعات.
ثانيًا: الوسائل الدولية:
يقضي واجب التضامن الدولي على العائلة الدولية أن يتعاون أفرادها لمكافحة الإجرام وإذا كانت هذه الحقيقة مثمرة بالنسبة لسائر الجرائم الأخرى، فإنه لا غناء عنها بالنسبة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات، ذلك أنه في بعض الدول تعتبر المخدرات تجارة وصناعة رابحة، ومهما سمت تشريعات البلاد الداخلية، وسمت مراقبتها لحدودها لمنع تسرب هذه السموم إلى مواطنيها - فإن التضامن الدولي - سيبقى أبدًا العامل الهام في القضاء على المخدرات.
ومنذ أن عمت المخدرات العالم سارت الدول في هذا الطريق الدولي، فعقدت اتفاقية لاهاي لمعالجة موضوع المخدرات المصنوعة وإنتاجها، وانتهز الحلفاء اجتماع مؤتمر الصلح فضمنوا معاهدة فرساى نصًا لا يمت إلى الحرب والسياسة بصلة، هو تنفيذ ما اتفق عليه في لاهاي، واعتبار التصديق على معاهدة فرساى بمثابة تصديق على اتفاقيات لاهاي.
وبعد أن أنشئت عصبة الأمم كان أول عمل قامت به أن أصدرت جمعيتها العمومية قرارًا في 15 ديسمبر سنة 1920 بتشكيل لجنة أسمتها المجلس الاستشاري للأفيون والمخدرات الضارة الأخرى، وعقدت بعد ذلك مؤتمرات جنيف التي انتهت إلى إبرام اتفاقية الأفيون الدولية في 19 فبراير سنة 1925 وتوالت بعد ذلك المؤتمرات لتحديد صناعة المواد المخدرة وأبرمت الدول اتفاقية لتحديد صناعة المواد المخدرة وتنظيم توزيعها في 13 يوليو سنة 1931 واتفاقية عقوبات الاتجار في المخدرات في 29 يونيو سنة 1936.
وظلت لجنة الأفيون بعصبة الأمم تباشر أعمالها وأبحاثها، ورغم قيام الحرب في سنة 1939 فإنها لم تتوقف عن القيام بواجباتها من واشنجطون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وألغيت عصبة الأمم واجتمع مندوبو دول العالم في مؤتمر سان فرنسسكو وأعدوا ميثاق هيئة الأمم المتحدة، صرح مندوب الولايات المتحدة بأن ميدان الإشراف الدولي على الاتجار بالعقاقير الخطرة هو من الميادين التي تدخل في نطاق أعمال المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الأمم المتحدة وانتهى الأمر بأن أصبح لهيئة الأمم المتحدة من الإشراف والرقابة على صناعة المخدرات والاتجار فيها في العالم ما كان لعصبة الأمم، وقرر المجلس الاقتصادي والاجتماعي تشكيل لجنة للمواد المخدرة من خمسة عشر عضوًا يمثلون خمس عشرة دولة من بينها مصر، وكان أول اجتماع لهذه اللجنة في 18 نوفمبر سنة 1946 بمدينة نيويورك.
أشرت إلى هذه السلسلة من الجهود التي بذلتها دول العالم لأبين أهميتها القصوى في مكافحة المخدرات، ولا شك أن هذه الأهمية تبدو كاملة بالنسبة لمصر ذلك أن مصدر الخطر عليها يكمن وراء حدودها الشرقية، فالحشيش يزرع في سوريا ولبنان وشرق الأردن، والأفيون المزروع في تركيا يهرب إلى مصر عن طريق سوريا وفلسطين، فلا غرو إذن أن كل الجهود الداخلية التي تبذل في مصر، تصبح غير مجدية، إذا ما استمرت البلاد المتاخمة لحدودنا الشرقية غير ملقية بالاً إلى مكافحة المخدرات.
إن القانون في هذه البلاد يعاقب على جرائم المخدرات، وقد انضمت هذه البلاد إلى هيئة الأمم المتحدة وأصبحت ملزمة بتوصياتها وقراراتها، غير أنه رغم ذلك، فإن قوانين المخدرات في هذه البلاد غير منفذة فعلاً، وما زال الحشيش معتبرًا كأنه جزء من ثروتها القومية ويزرع علنًا فيها، وكانت الحجة في ذلك أن زراعة الحشيش في سوريا تقليدية ولا يمكن الاستعاضة عنه بمحصول آخر، وفوق أنه لا يضر السوريين لعدم استهلاكهم له، فإنه يُدر عليهم أرباحًا وافرة.
فمنذ عام 1939 حين توصل اللواء رسل باشا إلى التفاهم مع سلطات الانتداب الفرنسي على إعدام زراعات الحشيش، قامت قيامة السوريين وصحفهم، حتى أن إحدى هذه الصحف وهي صحيفة صوت الأحرار نشرت بعددها الصادر في 18 يوليو سنة 1939 مقالاً ترد فيه على دعاة الانتصار لمنع زراعة الحشيش ومما جاء في ذلك المقال (أما اختراق قانون عصبة الأمم، فلست أدري إذا كان – جريمة، بعد أن اخترقت كل قوانينها دول أوروبية تسبقنا أشواطًا - على الأقل في رأي أوروبا - في ميادين الحضارة والرقي، وأما الكيد للإنسانية فلا أعرف ما إذا كان جريمة في بلد ضعيف هزيل يؤثر أن يموت الغريب موتًا بطيئًا (وعلى الكيف) بالحشيش على أن يموت جوعًا، ولا سيما بعد أن رأينا ونرى كيف تسام الإنسانية، وكيف يطعنها كثير من الأقوياء والمتمدينين، طعنات لا هوادة فيها ولا رحمة وإن قتل حرية شعب من الشعوب لأعظم - والله أعلم - من تصدير الحشيش إلى محششين يحصلون عليه من غيرنا بأي طريقة كانت).
وذلك المقال المتجني يعيد إلى الأذهان ما كتبه أحد كتاب سوريا في صحيفة فرنسية تصدر في سوريا اسمها (La Syrie)، إبان زيارة البعثة الطبية المصرية لسوريا عام 1924، إذ قال - إن سوريا ومصر شقيقتان لأن إحداهما تزرع الحشيش والأخرى تشربه.
فليس لنا أن نأمل إذن إلا في أن حكومات هذه البلاد وقد نالت استقلالها وانضمت مع مصر إلى جامعة الدول العربية ستواجه هذه الحالة بروح مستنيرة فإن كانت المخدرات هناك تجارة رابحة، فإنها تجلب على مصر شرًا ووباءً مستطيرًا وقد أوصى مجلس الجامعة جميع الدول العربية بالتعاون لمكافحة المخدرات غير أن الأمر يحتاج إلى إصدار تشريع موحد بشأن جرائم المخدرات بين جميع الدول العربية أعضاء الجامعة - وإلى عقد اتفاقية تتعهد فيها كل دولة بأن - تبذل كل مجهودها لمكافحة هذا الخطر في أراضيها.
ذلك هو طريق التضامن الدولي الذي سلكته من قبل دول العالم، والذي أقرته عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية التي أسلفت الإشارة إليها، فلعل تضامن الدول العربية لمكافحة المخدرات، يكون ناجعًا في درء خطرها عن بلادنا.

الباب الثاني: علاج الإدمان على المخدرات

1 - تدل زيادة مضبوطات المخدرات في مصر على أن الإدمان على المخدرات ما زال كامنًا في النفوس فالفلاح الذي أنهك الفقر وسوء التغذية قواه، كما أنهكته أمراض البلهارسيا والانكلستوما في حاجة دائمًا إلى منبه يجدد نشاطه وحيويته، وهو حين أصبحت المخدرات البيضاء صعبة المنال، استعاض عنها بالمخدرات السوداء، وحين لا يستطيع الحصول على هذه لارتفاع ثمنها فإنا نراه يلجأ إلى تعاطي الشاي الأسود المغلي، وهو سم لا يقل ضررًا عن المخدرات، ولا يمكن أن يوجد تشريع يتناوله بالعقاب، ومن ذلك يبدو أن مشكلة المخدرات في الحقيقة جزء من مشكلة الفقر والمرض التي تعانيها مصر.
وثمة سبب آخر يشجع الفلاحين على تعاطي المخدرات، وهو ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن المخدرات مباحة شرعًا، على خلاف الخمر فمن الملاحظ أن جمهور المدمنين يتعاطون المخدرات ولا يتعاطون الخمر استنادًا إلى ذلك الاعتقاد، والحقيقة أن كل مسكر خمر: وكل خمر حرام، فالخمر تطلق على كل ما يفقد الوعي أو ينقصه كالمخدرات، وقد أفتى بذلك حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية عام 1940 - وجاء في فتواه (أنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة ومفاسد كثيرة فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد، فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررًا ولذلك قال بعض علماء الحنفية (إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع) وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها ووضوحها ولأنه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل وينبهه ويحدث من الطرب واللذة عند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الخمر والمسكر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ما خلاصته (إن الحشيشة حرام يُحد متناولها كما يُحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظًا أو معنى). (تراجع الفتوى كاملة في تقرير مكتب المخدرات عن عام 1940 صـ 54).
وبمثل ذلك أفتى الشيخان الجليلان أحمد جربوع وعلي الحناوي في سوريا ومما جاء في هذه الفتوى وقد نشرتها جريدة الجبل أول أغسطس سنة 1944 (أنه لمن دواعي الأسف العميق أن يتصل بنا وجود أراضٍ في جبلنا الأشم زُرع فيها القنب الهندي الذي يستخرج منه الحشيش، هذه النبتة التي حرمها الله ورسوله والتي تخل بالشرف والدين، وتضر بالصحة والأخلاق ولأنها من المسكرات القبيحة التي هي أشد خطرًا وضررًا من الخمر).
وجاء في كتاب المنن لمؤلفه الإمام الشعراني المتوفى سنة 973 هجرية، وهو سفر قيم أحاط فيه مؤلفه بمضار المخدرات وتحريمها ما نصه:
(ذكر الشيخ قطب الدين العسقلاني خليفة شيخ الشيوخ الشيخ شهاب الدين السهرودي - رحمه الله تعالى-، في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دنيوية وأخروية، وقال الحكماء أنها تورث أكثر من ثلثمائة داء في البدن كل داء لا يوجد له دواء في هذا الزمان فمنها - تنقيص القوى، وإحراق الدماء وتقليل الحماء، وتنقيب الكبد وتقريح الجسد، وتجفيف الرطوبات، وتضعيف اللثات، وتصفير اللون وتحفير الأسنان، وتورث البخر في الفم، وتولد السوداء، والجذام، والبرص والخرص، واللقوة، وموت الفجأة، وتورث كثرة الخطأ والنسيان، والضجر من الناس، وتولد الأعشاء في العيون، وتخلط العقول، وتورث الجنون غالبًا، وتسقط المروءة، وتفسد الفكرة، وتولد الخيال الفاسد، ونسيان الحال والمآل، والفراغ من أمور الآخرة، وتُنسي العبد ذكر ربه، وتجعله يفشي أسرار الإخوان وتذهب الحياء، وتكثر المراء، وتنفي الفتوة والمروءة، وتكشف العورة وتمنع الغيرة، وتتلف الكيس، وتجعل صاحبها جليسًا لإبليس، وتفسد العقل وتقطع النسل، وتجلب الأمراض والأسقام مع تولد البرص والجذام، وتورث الأبنه وتولد الرعشة وتحرك الدهشة وتسقط شعر الأجفان وتجفف المني، وتظهر الداء الخفي، وتضر الأحشاء، وتبطل الأعضاء، وتقوي النفس، وتهز السعلة، وتحبس البول، وتزيد الحرص، وتسهر الجفون، وتضعف العيون، وتورث الكسل عن الصلاة وحضور الجماعات، والوقوع في المحظورات، وارتكاب الأجرام، وجماع الآثام، والوقوع في الحرام، وأنواع الأمراض والسقام).
وهناك ظاهرة أخرى تستحق العناية، استفحل أمرها هذه الأيام وهي أن تعاطي المخدرات والإدمان عليها قد بدأ يتسرب إلى الطبقة المتوسطة والمؤثرة. وليس هناك تفسير لهذه الظاهرة إلا أنها نتيجة للتدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي الذي يعقب الحروب عادةً.
فنحن في حاجة ماسة إذن إلى دعاية منظمة تحمل على المخدرات وتعاطيها وإلى إعداد قسم بمتحف فؤاد الأول الصحي تعرض فيه نماذج لما قد يصير إليه المدمن نتيجة تعاطيه المخدرات، نحن في حاجة إلى من يعظون في المساجد والكنائس ينبهون الناس إلى خطورة المخدرات ومضارها، وإلى أن يطوف الفانوس السحري بلاد الريف يعرض على الفلاحين صورة الآدميين الذين أضنتهم هذه السموم الفتاكة، حتى ينفروا من المخدرات وتعاطيها.
2 - والمدمن كما هو ظاهر مجرم مريض، يجب معالجته وهو أحيانًا يفزع من إدمانه ومع ذلك لا يستطيع الإقلاع عن عادته بل إن منع المخدر عنه قد يسبب له أضرارًا بالغة وقد يعرض حياته للخطر وقد وصف الدكتور جان بيرن (Jean Perrin) حالة مثل ذلك المدمن في كتابه - مسؤولية المدمن الجنائية - فقال (إن المدمن يعلم أنه بتعاطيه المخدرات سيقع تحت طائلة العقاب، ولكن شيئًا لا يستطيع إيقافه، لا الاعتبارات الأدبية، ولا عواطفه العائلية كإنسان عادي ولا خشية العقاب، فالمدمن إنسان أناني لا يهتم إلا بإشباع غرائزه).
ومثل ذلك المجرم يختلف تمامًا عمن يزرع الحشيش أو الخشخاش أو يتجر فيهما، فإنه لا يبغي كسبًا، ولا يحيق من فعله ضرر بالجماعة التي يعيش فيها إلا عن طريق غير مباشر، بل إن كل المضار واقعة عليه، لذلك فيجب على المشرع أن يهتم بمعالجته قبل أن يعمل على معاقبته، فإن فكرة العقوبة بالنسبة لذلك النوع من المجرمين تفقد حكمتها والغرض منها، ومهمة المشرع تبدو بالنسبة له مهمة تهذيبية علاجية (but curatif).
ولا شك أن هذه الاعتبارات هي التي أوحت إلى واضعي قانون المخدرات رقم (21) لسنة 1928، النص في المادة (36) منه في فقرتها الثانية على أنه يجوز للمحكمة بدلاً من عقوبة الحبس أن تحكم بإرسال الجاني إلى إصلاحية خاصة لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد عن سنة.
غير أن المشرع قد جانبه التوفيق حين حرم المحكمة من جواز إبدال عقوبة الحبس المحكوم بها، بالإرسال إلى الإصلاحية إذا كان قد سبق إرسال الجاني إليها، ذلك أن حكمة الإرسال إلى الإصلاحية تتحقق أيضًا بالنسبة للمجرم العائد، بل إنها قد لا تتحقق إلا بالنسبة لذلك النفر من المجرمين والمدمن كما أسلفت مريض أكثر منه مجرم.
وليس ذلك هو الانتقاد الوحيد الذي يمكن ملاحظته على ذلك النص، فإن تحديد مدة الإصلاحية عيب ملحوظ فيه، إذ لما كان الغرض من الإرسال إلى الإصلاحية هو معالجة المدمن بغية شفائه، فإن الأولى هو عدم تحديد المدة التي يقضيها المدمن في الإصلاحية، بل إنها تترك لتقدير أطبائه، ويكون له إذا زادت المدة عن حد معين أن يتظلم إلى القاضي.
على أنه بصرف النظر عن هذين الانتقادين، فإن نص المادة (36) لم يوضع موضع التنفيذ، إذ لم تنشأ الإصلاحية المشار إليها حتى اليوم، ورغم أن كلاً من الحكومات المتعاقبة قد حرصت على أن تذكر في خطاب عرشها أنها جادة في إنشاء هذه الإصلاحية - فإنها لم تخرج إلى حيز الوجود.
وكانت نتيجة ذلك النص العاطل عن التنفيذ أن بعض المحاكم قد قضت بإرسال المتهم إلى الإصلاحية فلم يُنفذ الحكم وبرئ المتهم من عقوبة توقع عليه، ولم تستطع محكمة النقض والإبرام شيئًا أمام هذه النتيجة بل إنها قررت في حكمها الصادر في 6 يناير سنة 1941 (القضية رقم 385/ 11 قضائية - مجموعة محمود عمر صـ 339 قاعدة رقم 180) بأن القاضي إذا رأى من وقائع الدعوى المعروضة عليه أن المتهم في حالة تستدعي العلاج والإصلاح وأمر بإرساله إلى المصحة فلا يجوز الطعن على حكمه بمقولة إن مصحة المدمنين على المخدرات إذا كانت لم تنشأ بعد لم يكن للقاضي أن يختارها بل كان عليه أن يحكم بعقوبة الحبس ذلك أن الحبس والإصلاحية ليسا عقوبتين متعادلتين يحكم القاضي بأيهما حسب مشيئته في كل دعوى بغض النظر عن حالة كل متهم وظروفه، بل إن كلاً منهما قد قرر ملاحظًا فيه غرض خاص - واستطردت المحكمة العليا فذكرت في أسباب حكمها الحكمة من نص المادة (36) وميزت بين عقوبة الحبس والمقصود بها تأديب الجاني عما وقع منه ليكف عن الرجوع إليه وليكون عبرة لغيره، والإصلاحية وهي ليست إلا وسيلة من وسائل العلاج والإصلاح قررها القانون للمدمنين - الذين تملكهم داء الاعتياد على تعاطي المخدرات حتى لم يعودوا يقدرون على الإمساك عنها ولا يجدي عقاب في حدهم عنها، وأمثال هؤلاء إذا نزل العقاب بهم فإنه يكون عديم الأثر في تقويمهم ولا يتحقق به الغرض الذي قصده القانون من العقوبة.
وجود الإصلاحية إذن لا غناء عنه لمعالجة المدمنين، وطالما أن هذه الإصلاحية لم تنشأ فإن أحكامنا ستظل دائرة في حلقة مفرغة، فهي تنزل بالمتهم العقوبة فلا تجديه نفعًا - وإذا خرج من السجن ألحت عليه عادته، فإذا ضُبط أنزلت به المحكمة العقوبة… وهكذا…
ومن الغريب أنه منذ سنة 1935 حين عُرضت على القضاء المصري قضية الأطباء المعروفة، التي اُتهم فيها ثمانِ أطباء وصيدلي وفلاح بتسهيل تعاطي جواهر مخدرة وإحرازها في غير الأحوال المشروعة وعدم إمساك الدفاتر الخاصة بقيد هذه المواد - ودلت هذه القضية على وجود عدد كبير من متعاطي المخدرات من أفراد الطبقات الوسطى يرغبون في الشفاء ولا يجدون المستشفى الذي يأويهم، وهم لا يملكون المال ليضمنوا وسيلة مؤكدة للشفاء في باريس أو فيينا - من الغريب أنه منذ ذلك الحين وقد وضحت الحاجة إلى إنشاء المصحة التي أشار إليها القانون، فإن الصيحات التي بذلها دعاة الإصلاح لم تلبث حتى خفتت تدريجيًا وتلاشت.
وقد حرصت محكمة المخدرات التي أصدرت الحكم في هذه القضية على أن تبدي ملاحظاتها على خلو البلاد من مؤسسة لعلاج المدمنين على المخدرات والعناية بهم، فذكرت في أسباب حكمها (أنه إذا كانت الحكومة المصرية قد تهاونت في إنشاء المصحات للعلاج ورأت في المدمن مجرمًا تلقيه في السجون فمجرد أن تعرضه لخطر الموت في حالة المنع الفجائي من المخدر هو أمر لا يعدو النظريات المحضة، بدليل إحصائياتها من السجون، فالمصحة لازمة إذا لم تكن لبدء العلاج فلإتمامه كما تقدم، وطالما أنها لم تنشأ فستستمر الحكومة والبلاد في حلقة مفرغة يعود فيها المدمن إلى إدمانه كلما انتهت مدة عقوبته أو علاجه بمعرفة الطبيب الممارس، وهي حالة تدعو إلى الأسى (حكم محكمة المخدرات الصادر في 2 يونيو سنة 1935 والذي تأيد بأسبابه استئنافيًا في 6 أغسطس سنة 1935 المحاماة السنة السادسة عشرة صـ 674).
وقد تنبهت كل البلاد المتمدينة التي دهمها خطر الإدمان على المخدرات إلى وجوب إنشاء مصحات للعلاج فأصدرت البرازيل حديثًا تشريعًا مؤداه أن يرسل المدمنون الذين يحكم عليهم لتعاطي المخدرات إلى إصلاحيات خاصة.
وفي الصين نص تشريع سنة 1934 على معالجة مدمني المخدرات في مصحات خاصة، وفي الولايات المتحدة أنشأت في سنة 1935 مصحتان لإيواء الرجال والنساء، ثم أنشأت بعد ذلك مستشفيات لعلاج المدمنين في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
وفي إنجلترا أنشأت كذلك إصلاحيات خاصة لعزل المدمنين، وقد ذكر الدكتور برانث وايت Branth waite مفتش الإصلاحيات في إنجلترا، في هذا الصدد (أن أنظمة السجن العادية لا تصلح لمعالجة حالة المدمنين كما أنها لا تتلاءم بصفة عامة مع حالة الأشخاص المصابين بعاهات عقلية وذلك لأن المدمن يحتاج إلى عناية خاصة واستحمام منتظم ورياضة بدنية، كل ذلك بقصد استئصال العلل البدنية الطبيعية التي تعتبر في الواقع سببًا مباشرًا لاختلال التوازن العقلي، وأن غرف السجون الصغيرة بل وأبنيتها الضيقة لا تتفق مطلقًا مع ما تتطلبه حالة المدمن من الأعمال الشاقة الصحية المستمرة والرياضة والعمل مع زملائه طول اليوم تحت ملاحظة دقيقة، فضلاً عن وسائل التهذيب الواجبة، ولا نزاع في أن تعويدهم على النظام أمر واجب ومن المستحب ألا تبلغ أساليب النظام في صرامتها أساليب السجون بل تكون على نمط النظام العسكري أو المتبع في سفن الملاحة كما أنه يحسن بقدر الإمكان أن يعدل عن العقاب الصارم إلى أمور يكون من شأنها تشجيعهم على العمل طمعًا في المكافأة وحبًا في التحلي بالخُلق الحسن لا أن يدفعوا إلى العمل خشية العقاب، وأهم أمر يجب الالتفات إليه هو المعالجة الطبية لتلك العقلية الشاذة في إبان ظهورها، وكلما كانت الإصلاحية أشبه في كل أنظمتها بمصح عقلي كلما كانت النتائج أجدى وأنفع).
ويُحسن بنا بمناسبة الحديث عن التشريعات الأجنبية أن نذكر تلك الرغبة القديمة التي سبق أن أبداها المؤتمر الطبي الذي انعقد بمدينة بيزانكن Besançn في فرنسا عام 1923، في أن تعمل الحكومات على إنشاء مصحات لعلاج المدمنين على المخدرات، وقد انتهى كذلك العلماء في ألمانيا وعلى رأسهم لوان Lewin إلى أن الإدمان على المخدرات كالإدمان على الخمور، كلاهما مرض وأن المدمنين يجب أن يعالجوا في مصحات خاصة، وفي سويسرا صدر قانون في مقاطعة زيورخ يمنح السلطات العامة حق حجز المدمنين في الإصلاحيات (يراجع في ذلك رسالة الدكتور جان بيران Jean Perrin السابق الإشارة إليها صـ 19 و20).
على أن إرسال المدمنين إلى المصحات يجب ألا يقتصر على من يحكم عليه في إحدى جرائم المخدرات، بل إن المصحات يجب أن تفتح أبوابها لكل من يرغب في العلاج من المدمنين ولو لم يحكم عليه في جريمة ما.
وليس الغرض من حجز المدمنين في مصحات هو حاجتهم إلى العلاج والرعاية فحسب بل إن هناك غرضًا آخر هو عزل مسجوني المواد المخدرة عزلاً تامًا عن باقي المسجونين لأنه قد يحدث من اختلاطهم انتشار استعمال المخدرات، وفي ذلك يقول الدكتور ماسيجروف وهو ثقة من كبار الأطباء إن خطر المدمن وعدواه تفوقان بعشرة أمثال الخطر المتخلف من الأبرص والعدوى منه، وليس المقصود بالعدوى الاحتكاك الجسمي بل المقصود هو الاحتكاك العقلي والاجتماعي.
ومنذ 3 أكتوبر سنة 1932 خصصت مصلحة السجون مزرعة في طرة لإقامة المحكوم عليهم طبقًا للمادة (35) من قانون المخدرات بالحبس لأكثر من سنة يعملون فيها كالمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وذلك لحصرهم في بيئة واحدة ومنع انتقال شرورهم إلى غيرهم (تقرير مصلحة السجون السنوي 1934 - 1935 صـ 4) على أن إنشاء مثل هذه المؤسسة لإيواء المدمنين كان أولى وأجدر.
وليس أدل على أن إرسال المجرم المدمن إلى السجن إجراءً ليس فيه أي نفع وأن العقوبة التي يقضي بها عليه لا تفيد أثرها وهو الزجر - من أن بعض هؤلاء المدمنين يعودون إلى تعاطي المخدرات وهم ما زالوا في السجن لم يوفوا مدة العقوبة المحكوم بها عليهم، ولقد أحصيت عدد هذه الحالات التي ضُبطت في خلال عام 1947 بالقاهرة فوجدتها أربع عشرة حالة، وإنه من المؤسف حقًا أن تتسرب المخدرات إلى داخل السجون، وهذه الحالة تستدعي وجوب تشديد الرقابة.
ولهذه الاعتبارات المتقدمة، فإن أشعر تمامًا بأن كل الجهود المبذولة لن تؤتي ثمارها المرجوة في القضاء على الإدمان على المخدرات، اللهم إلا إذا أنشئت الإصلاحية التي أشارت إليها المادة (36) من القانون.
3 - تقضي المادة (55) من قانون العقوبات بأنه يجوز للمحكمة عند الحكم في جناية أو جنحة بالغرامة أو بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أن تأمر في نفس الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مخالفة القانون، وقد أُدخل ذلك المبدأ في القانون المصري، لأول مرة سنة 1904 وهو مستنبط من القانون البلجيكي الصادر في 31 مايو سنة 1888 (قانون لدجون) وكذا من القانون الفرنسي الصادر في 26 مارس سنة 1891 (قانون بيرانجيه) وقد أسس ذلك المبدأ كما جاء في تعليقات الحقانية على قانون سنة 1904، على فكرة أنه من المستحسن وقاية من يرتكبون الجرائم لأول مرة من تأثيرات السجون المفسدة للأخلاق كلما كان هناك أمل في أن هذه الرأفة لا تكون في غير موضعها.
وتنص المادة (40) من قانون المخدرات رقم (21) لسنة 1928 على أنه لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذ الحبس لمن يحكم عليه في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون. ويفسر ذلك النص الذي جاء على خلاف القواعد العامة، أن قانون المخدرات صدر في وقت كان انتشار المخدرات فيه على أشده وكان التشديد مطابقًا لرغبات الرأي العام الذي هاله تفشي الإدمان على هذه المواد، حتى أنه ذكر جهارًا في مجلس البرلمان أن روح الشدة يجب أن تسود نصوص القانون وأنه إذا أدت شدة القانون إلى تضحية بعض الحالات الفردية فذلك تبرره سلامة المجموع، وذكرت لجنة الحقانية بمجلس النواب في تقريرها عن القانون، أنه لا محل لإيقاف التنفيذ بالنسبة لهذه الطبقة من المجرمين.
ومع التسليم بأن جرائم المخدرات من الجرائم الخطيرة التي يجب تشديد العقوبة بالنسبة لها، فإن الحكمة التي حدت بالشارع إلى أن يدخل نظام إيقاف تنفيذ العقوبة في قانون العقوبات، متحققة في هذه الحالة أيضًا.
وقد تبين لي من مراجعة كثير من القضايا أن بعض النشء تفتنه المخدرات ويرغب في تقليد غيره من أنداده، فيقدم على تعاطيها غير مقدر خطورتها فإذا أوقعه حظه العاثر وقُدم إلى المحاكمة، فإن القاضي لا يملك غير أن يقضي بمعاقبته. وقد يكون في دخوله السجن واتصاله بغيره من المسجونين مفسدة.
على أنه مع تقدير وجوب عدم حرمان المحكوم عليه من إيقاف تنفيذ العقوبة فظاهر أنه لا محل لذلك الإيقاف إلا في جرائم التعاطي والاستعمال الشخصي التي نصت عليها المادة (36) من القانون. أما غيرها من الجرائم الواردة بالمادة (35) فهي جرائم شديدة الخطورة، لا يستأهل مرتكبها أي تخفيف أو رحمة.
وظاهر أيضًا أنه لا محل لإيقاف التنفيذ في جرائم التعاطي إلا بالنسبة لمن يحكم عليه لأول مرة، أما العائد فشخص لم يفلح الحكم السابق في تهديده وزجره، وهو فضلاً عن ذلك قد يعد مدمنًا، وهناك وسائل لعلاجه نظمها القانون وهي إرساله إلى الإصلاحية.
وفي هذه الحدود التي بيناها، ليست هناك أية خشية من إجازة الحكم بإيقاف التنفيذ، فإن أمر ذلك الإيقاف متروك لفطنة القاضي وحُسن تقديره، يزن الاعتبارات التي تدعو إليه، كما يقدر العقوبة التي يحكم بها، وهو في قضائه خاضع لرقابة محكمة ثاني درجة، إذا رأت النيابة العمومية رفع الأمر إليها ولا شك أن الحكم بإيقاف التنفيذ خير من أن يتلمس القضاة سُبل البراءة، في كثير من القضايا التي كانت ظروفها تبرر التغاضي عن معاقبة المتهمين فيها - لأن الحكم القاضي بوقف تنفيذ العقوبة هو حكم بالإدانة يبقى مسلطًا على المحكوم عليه مدة خمس سنين.
ومهما يكن الأمر فلا يمكن القول بأن مثل جرائم التعاطي إذا ارتكبها متهم لأول مرة أشد خطرًا من مواد الجنايات التي يجوز الحكم بإيقاف التنفيذ فيها طبقًا للمادة (55) عقوبات.

الخلاصة

يتبين مما تقدم أن مخاطر المخدرات هي:
أولاً: في جلبها وتداولها.
ثانيًا: في الإدمان عليها.
وأن لمكافحة الخطر الأول وسائل داخلية ووسائل دولية.
ومقترحاتنا بالنسبة للوسائل الداخلية هي:
1 - إنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب.
2 - تشديد العقوبة بالنسبة لجرائم الزراعة وجرائم المادة (35).
وبالنسبة للوسائل الدولية:
1 – تقنين قانون موحد بين البلاد العربية.
2 – اتفاقية بين البلاد العربية لمكافحة المخدرات.
أما معالجة الخطر الثاني فيكون عن طريق:
1 – الدعاية.
2 - إصلاحيات المدمنين.
3 - إجازة وقف التنفيذ في جرائم التعاطي.

تعريف منزل الدعارة حسب القانون رقم (68) لسنة 1951

مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954

تعريف منزل الدعارة
حسب القانون رقم (68) لسنة 1951
بحث للسيد الأستاذ عبد اللطيف الحسيني المحامي

عرفت المادة (8) من القانون رقم (68) لسنة 1951 الخاص ببيوت الدعارة، منزل الدعارة بأنه (كل مكان يُستعمل عادةً لممارسة دعارة الغير أو فجوره) فاستلزم النص لاعتبار المكان بيت دعارة توافر شرطين الاعتياد والغير.
أولاً: ركن الغير:
بمعنى أنه لا بد أن يقام الدليل على الاعتياد على الاستعمال بالوصف المتقدم وأن يكون من يمارس الدعارة هو غير أصحاب المنزل.
فإذا كان مرتكب الفجور هو من أصحاب المنزل فلا عقاب لأن الفجور في ذاته لا عقاب عليه، بل المعاقب هو دعارة الغير، أي الصفة العمومية، وهو مدلول كلمة الدعارة ذاتها.
فإذا كانت المرأة المضبوطة هي صاحبة المنزل دون غيرها من النساء فمن ثم لا تتوافر أركان النص المدخل للمنزل في دائرة العقاب.
وأدلة ذلك مستمدة من القانون نفسه، فمن المفهوم أن الرجل خصص منزلاً لاستقبال صديقاته من النساء لا عقاب عليه، والعكس صحيح والمساواة مفروضة وواجبة - ويلاحظ أن دعارة الغير لا تقوم بالرجل المضبوط مع المرأة المالكة للمنزل لأن هذه الحالة لا تعتبر دعارة الغير بل هي مزاج للنفس وحالة شخصية.
فالدعارة عمل مزدوج ولا يتصور فيه الانفراد، ووجود المرأة المالكة مع شخص آخر لا يعتبر دعارة الغير بل هي دعارة النفس - إذ لا تتصور دعارة النفس انفراد بلا رجل.
وإذن فدعارة الغير تستلزم نساء أخريات ورجال آخرين من غير أهل المنزل أقارب أو غرباء وهذا هو سياق نفس المادة (8) المذكورة إذ تقول (ولو كان من يمارس فيه الدعارة أو الفجور شخصًا واحدًا).
فمفهوم مع ما تقدم بأنه شخص واحد خلاف المالك، فما لم توجد هذه الحالة لا توجد الدعارة ولا يعتبر المكان بيتًا للدعارة.
ويؤكد ذلك القانون نفسه لأنه إذ نص على أنه يعتبر بيتًا للدعارة ولو كان من يمارس فيه الفجور أو الدعارة شخصًا واحدًا، فإنه قد جعل حكمًا خاصًا لكل من اعتاد ممارسة الفجور أو الدعارة في المادة (9 ف 3) بما يدل على أنه ميز وفرق بين مديرة المنزل وممارسة الفجور، وإذن فاشتراط وجود الغير لاعتبار بيت الدعارة ولو بواحدة، لا يقوم على المالكة بل على شخص آخر خلافها.
هو الفتاة التي تتلقى الفجور أو الدعارة بخلاف المالكة التي تدير المنزل.
والرجل كما قدمنا لا يعتبر غيرًا بالمعنى المقصود في المادة (8) لأنه يدخل ضمن دعارة النفس بمعنى الازدواج.
ومن أدلة ذلك أيضًا:
1 - إن مجرد الفجور لا عقاب عليه.
2 - إن المزاج الجنسي لا عقاب عليه.
3 - إن الحالات الشخصية لا عقاب عليها بل العقاب على الصفة العامة.
4 - إن الفقرة الأخيرة من المادة (8) تفترض التعدد إذ تقول:
(إذا كان مرتكب الجريمة (المديرة) من أصول من يمارس (الفتاة) الفجور أو الدعارة أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن له سلطة عليه).
بل إنه لا بد من اعتبار المكان بيتًا للدعارة من وجود الممارسة للفجور فضلاً عن المديرة، وحتى لو مارست المديرة الفجور فإنها لا تعتبر من الغير المقصود هنا.
5 - على الشرح المتقدم إن المادة (9) لا تعاقب على فجور البنت الموجودة بالمنزل فمن باب أولى صاحبته عند فجور نفسها.
6 - إن القضاء كان مستقرًا على هذا قبل صدور القانون ويلاحظ في ذلك حكم النقض الصادر في 24 يناير سنة 1949 الذي قضى بهذا المعنى تمامًا.
وهو ما عبر عنه بلفظ (النساء الأجنبيات).
وأصل الإشكال أنه عند صياغة القانون قدم مجلس النواب مشروعًا عرف فيه منزل الدعارة (بأنه كل مكان يدار للدعارة) غير أنه عند عرض الأمر على مجلس الشيوخ دس كلمة الغير، فقوض النص.
غير أنه إذا تعمقنا في الموضوع لوجدنا المسألة منطقية، إذ أن القوانين مهما غلت فإنها لا تستطيع مقاومة الطبيعة، وعلى ذلك فإن العلاقات الخاصة لا يمكن أن تُمحى فاضطر القانون إلى إغضاء البصر عنها ما لم تتطرق إلى صفة عامة فتتسع إلى غير أهلها.
ومن هنا يمكن تبرير التجاوز عن عقاب أهل المنزل إذا لم يأتوا بغيرهم لارتكاب الفحشاء.
وقد استقرت الأحكام بعد ذلك على هذا المنوال (نقض 27/ 1/ 1953 باسم… …. …) وسائر المحاكم الأخرى كالدائرة العاشرة المستأنفة بالإسكندرية وبعض المحاكم الجزئية وعلى الأخص محكمة باب شرقي.
ثانيًا: ركن العادة:
لا يعتبر المكان منزلاً للدعارة ما لم يتوفر فيه الشرط السابق وهذا الشرط لا يكفي بمفرده بل لا بد من إضافة شرط آخر هو ركن العادة، وليس الأمر اجتهادًا بل صريح نص المادة إذ تقول (كل مكان يُستعمل عادةً).
فتكون الجريمة من جرائم العادة التي لا تتوفر إلا بتوافر حصولها والمسألة ليست غريبة بل إن القانون قد دُرج على هذا الشأن في سائر حالاته ومن ذلك المادة التاسعة منه التي تعاقب الشخص الذي يمارس الفجور أو الدعارة فتى أو فتاة بعد ثبوت الاعتياد.
وما استقر عليه القضاء تفريعًا على هذا بأن الفجور في ذاته غير معاقب عليه ولو في حالة التلبس أو عند الاعتراف به، بل المعاقب هو اعتياد ذلك.
وهكذا الشأن تمامًا بالنسبة للمنزل ذاته فلا يكفي أن يدار للفساد حتى ينطبق النص بل لا بد من توافر ركن العادة في ذلك.
وللأمر حكمته فقد يحصل الفساد عرضًا أو مصادفة أو مرة واحدة لا تتكرر فيكون من صالح المجتمع إسدال الستار وتهيئة سبيل الإصلاح بدلاً من إشاعة اليأس والدفع إلى الفساد ما دامت النتيجة واحدة في الحالتين حالة الانفراد وحالة الاعتياد.
وحكمت بذلك محكمة النقض في القضية 1875 لسنة 20 قضائية وتواترت الأحكام بعد ذلك على هذا المنوال.
فنخلص مما تقدم بضرورة توافر الشرطين الغير والعادة لاعتبار المنزل مما يتناوله القانون.
كلمة ختامية:
يرى بعض الباحثين ضرورة معالجة نص المادة الثامنة بحذف كلمة الغير حتى يشمل النص كافة حالات الفساد وهو رأي له وجاهته واعتباره.
إلا أنه يمكن الرد عليه بأنه سيتناول حالات لا يمكن أن يقصدها المشرع ولا يستساغ العقاب عليها.
وقد يصل الأمر إلى مخالفة الطبيعة والاصطدام بها مما يؤدي إلى إشاعة اليأس والفوضى الجنسية بما في ذلك كثرة الجرائم من هذا القبيل.
ومن أمثلة ذلك، ما إذا كانت امرأة تعشق رجلاً وتعيش معه ويتردد عليها أو حتى أكثر من رجل دون أن يصل الأمر لناحية العمومية، فيشملها النص وهو أمر لا يمكن أن يقصده الشارع، فالحالة هذه تشبه الرجل الذي يتخذ منزلاً لنفسه ويجلب له سيدة أو أكثر لنفسه بدون عموم في الأمر وبدون اعتداء على حق آخر، فلم يقل أحد بجريمة أو شبهة، وهكذا الأمر بالنسبة للسيدة في الحالة العكسية إذن المساواة واجبة ولا يصح التفرقة بين الرجل والمرأة أمام القانون.
وعلى كل حال فإن المسألة تحتاج لكثير من الدراسة والتروي.

سلطة مأموري الضبط القضائي في تفتيش الشخص في غير حالة التلبس

مجلة المحاماة – العدد الثامن

السنة الثانية والثلاثون – إبريل 1952

سلطة مأموري الضبط القضائي

في تفتيش الشخص في غير حالة التلبس [(1)]

لحضرة الدكتور توفيق محمد الشاوى الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول

من المسلم به أن التفتيش من أخطر الإجراءات الجنائية، وأن المشرع قيده بقيود كثيرة تضمن عدم إساءة استعمال هذا الحق من ناحية، وتضمن صحة النتائج التي يسفر عنها من ناحية أخرى، وأهم هذه القيود ما يتعلق بالاختصاص.

فالأصل أن سلطة التحقيق العادية - أي قاضي التحقيق - هي وحدها صاحبة الاختصاص الكامل في إجراء التفتيش باعتباره عملاً من أعمال التحقيق لا يجوز الالتجاء إليه إلا من تحقيق مفتوح، طبقًا للمادة (91) إجراءات بالنسبة لتفتيش الأمكنة، والمادة (94) بالنسبة لتفتيش الأشخاص، سواء في ذلك أشخاص المتهمين أو منازلهم، وأشخاص غير المتهمين أو منازلهم.

أما النيابة العامة، فإنها طبقًا للمادة (199) في حالة قيامها بتحقيق الجنح، تتمتع مبدئيًا بجميع سلطات قاضي التحقيق فيما عدا بعض القيود التي نص عليها صراحةً، وأهم هذه القيود ما نصت عليه المادة (206) إجراءات من قصر حقها في التفتيش على المتهمين ومنازلهم، فلا يجوز لها تفتيش شخص غير المتهم ولا منزله، ولا ضبط الرسائل، إلا بناءً على إذن من قاضي التحقيق.

وفي أحوال الجنايات لا يكون للنيابة إلا سلطة مأموري الضبط القضائي في أحوال التلبس أو في جمع الاستدلالات، فما هي سلطة مأموري الضبط في تفتيش المساكن والأشخاص؟

موضوع البحث:

أما تفتيش المساكن فأمره واضح، إذ من المتفق عليه أن مأموري الضبط لا حق لهم في إجرائه إلا في حالة واحدة عامة هي حالة التلبس وبشرط أن يكون محله مسكن المتهم طبقًا لصريح المادة (47) إجراءات [(2)].

ولكن الموضوع يدق إذا أردنا تحديد سلطة مأموري الضبط في تفتيش الشخص، إذ يجب علينا أن نحدد ما إذا كانت هذه السلطة تخضع لنفس القاعدة التي يخضع لها تفتيش المساكن بمعرفة مأموري الضبط، أي أنها لا تكون لهم في غير حالة التلبس أم لا.

لا أظن أحدًا من شراح القانون المصري قد أجاب على هذا السؤال إجابةً صريحةً واضحةً، وإن كانت الحلول التي أخذوا بها تدل أنهم يجيبون عليه بالنفي، أي أن تفتيش الأشخاص غير تفتيش المساكن فهو جائز لمأموري الضبط القضائي في غير حالة التلبس، لأنهم مجمعون على أن تفتيش الشخص مرتبط بالقبض عليه، وبما أن القبض جائز لمأموري الضبط القضائي في غير حالة التلبس (م 34)، فإن منطقهم يفترض ويستوجب أن يكون تفتيش الشخص جائزًا كذلك [(3)].

التوسع في سلطة تفتيش الشخص بمعرفة مأموري الضبط:

فالرأي الذي يسير عليه أغلب شراح القانون المصري يجيز تفتيش الأشخاص لمأموري الضبط في جميع الأحوال التي يجوز لهم فيها القبض ولو لم تكن حالة تلبس [(4)].

ولما كان القبض جائزًا لهم في غير حالة التلبس في ثلاث حالات أخرى نصت عليها المادة (34) أولاً وثالثًا ورابعًا، فإن التفتيش الشخصي يكون جائزًا في هذه الأحوال الثلاثة التي لا يجوز فيها لمأموري الضبط تفتيش المسكن.

ولخطورة هذه النتيجة نذكر هنا هذه الأحوال الثلاثة طبقًا لعبارة المادة (34) وهي:

أولاً: في الجنايات.

ثانيًا:… حالة التلبس.

ثالثًا: إذا كانت الجريمة جنحة معاقبًا عليها بالحبس، وكان المتهم موضوعًا تحت مراقبة البوليس، أو كان قد صدر إليه إنذار باعتباره متشردًا أو مشتبهًا فيه [(5)]، أو لم يكن له محل إقامة ثابت ومعروف في مصر.

رابعًا: في جنح السرقة والنصب والتفاليس والتعدي الشديد ومقاومة رجال السلطة العامة بالقوة أو بالعنف والقيادة والاتجار بالنساء والأطفال وانتهاك حرمة الآداب، وفي الجنح المنصوص عليها في قانون تحريم زراعة المواد المخدرة أو الاتجار فيها أو حيازتها أو استعمالها.

رأينا:

أما نحن فلا نقر هذا التوسع في سلطة مأموري الضبط القضائي في تفتيش الشخص، ونرى أنه لا يجوز لهم في غير حالة التلبس مطلقًا، لأن التفتيش حق واحد وإجراء واحد، سواء كان واقعًا على منزل أو على شخص، فليس من المعقول إن يمنع المشرع مأمور الضبط من تفتيش المساكن في غير حالة التلبس ويجيز لهم تفتيش الأشخاص.

وإن نظرة واحدة إلى حالات القبض السالفة التي ذكرتها المادة (34) تؤيد وجهة نظرنا، فكيف نجيز لمأمور الضبط أن يفتش متهمًا بجريمة إحراز مواد مخدرة في غير حالة تلبس؟ إن القول بذلك معناه أن تصبح كل ضمانات التفتيش لغوًا، إذ الثابت أن أغلب إجراءات التفتيش - وخاصة ما كان منها باطلاً - إنما يقع في جرائم المخدرات، فإذا نحن قلنا مع أصحاب المذهب السابق إن مأمور الضبط له تفتيش كل شخص متهم بجريمة من جرائم المخدرات دون اشتراط وجود التلبس فمعنى ذلك أننا فتحنا باب التعسف على مصراعيه أمام رجال البوليس الذين لن يعدموا اتهامًا يوجهوه إلى من يريدون تفتيشه دون أن يكون في حالة تلبس.

يضاف إلى ذلك أن بعض الجرائم التي أجاز القانون فيها القبض في الأحوال يصعب تصور ضرورة التفتيش أو فائدته فيها، وذلك كجرائم انتهاك حرمة الآداب، أو بعض صور التعدي الشديد، فإن كان هناك ما يبرر إجازة القبض فيها استثناءً من القواعد العامة، فلا نرى وجهًا لإجازة التفتيش فيها دون غيرها من الجرائم في الأحوال العادية.

الحجج التي يعتمد عليها القائلون بالتوسع والرد عليها:

قلنا إن من تعرضوا لهذه المسألة لم يضعوا لها حلاً صريحًا واضحًا، وإذا كان الحل غير واضح فإن أدلته وحججه أقل وضوحًا وصراحة، مما يصعب مهمة الباحث، وإن كان يسهل مهمة الناقد المعارض، ونحن هنا بلا شك في مجال البحث العلمي المجرد، فعلينا أن نختار الطريق الصعب، طريق البحث والتمحيص الذي يوجب أن نتطوع باستخراج حجج هذا الرأي من بين عبارات عامة مرسلة لجأ إليها من أخذوا به.

ومن بين هذه الأقوال المرسلة ما يمكن استبعاده دون جهد أو تعب، لأنها أقوال استطرادية لم يعن قائلوها بالتدليل على صحتها بحجة قانونية أو منطقية، ومن أمثلتها القول بأن (القانون يفرق في مدى حمايته بين الأماكن والأشخاص، فينص على حماية أوفى للأماكن [(6)]، وكان يجدر بمن يضع مبدءًا عامًا كهذا أن يذكر لنا على سبيل المثال قاعدة واحدة من القواعد المنظمة للتفتيش تفرق بين تفتيش الأماكن والأشخاص وتعطي للمكان حماية أوفى من حماية الشخص بدلاً من إطلاق القول بدون دليل يؤيده, ومن ناحية أخرى، فكيف يقبل باحث قانوني هذا الافتراض مع أننا نعلم أن المشرع لا يحمي (الأماكن) كلها بل يقصر حمايته على (المساكن) لأنها هي وحدها مقر الأشخاص ومقامهم فهي إذن حماية للأشخاص أنفسهم بطريق غير مباشر، فكيف إذن يقرر القانون لحرمة الأشخاص حماية أوفى إذا كان الاعتداء غير مباشر.

وهناك قاعدة أخرى بنوها على مقدمة صحيحة ولكنهم يستنتجون منها نتائج لا تستلزمها، فهم يقولون إن (تفتيش الأشخاص اعتداءً على الحرية الشخصية ويجوز طالما كان التعرض للحرية الشخصية جائزًا) [(7)]، أما أن تفتيش الشخص اعتداءً على الحرية الشخصية فهذا مسلم به ولكن ليس معنى ذلك أنه معادل للقبض، أو أقل منه خطورة، فيجب أن نذكر أن أهمية التفتيش لا ترجع لكونه اعتداءً على الحرية كالقبض، بل إن ما يميز التفتيش عن القبض هو أنه إجراء منتج للأدلة، ولهذا كانت الشروط التي يقررها له المشرع لا يقصد بها فقط حماية حرية الفرد - كما هو الشأن بالنسبة للقبض - بل المقصود بها قبل كل شيء هو ضمان صحة الأدلة التي يسفر عنها وهو ما يستلزم شروطًا وضمانات تختلف عن شروط الإجراءات المقيدة للحرية فقط كالقبض، فإن القبض التعسفي إجراءً يزول أثره بالإفراج عن المقبوض عليه أو بتعويضه عن الضرر الذي أصابه، أما التفتيش التعسفي فإن انتهاءه أو التعويض عنه لا يغني من وقع عليه شيئًا، بل يبقى عنه نتيجة خطيرة هي الدليل الذي توصل إليه من أجراه والذي قد يؤدي إلى إدانة من وقع عليه, ويظهر مدى الفرق بين أهمية القبض وأهمية التفتيش من الوجهة النظرية والعملية من مجرد مراجعة القضايا لكي نجد أنه من النادر الدفع ببطلان القبض، لأن هذا البطلان لا أهمية له في مصير الدعوى أو إدانة المتهم، بخلاف التفتيش فإن حالات الدفع ببطلانه لا يمكن حصرها، بل إنه في الحالات النادرة التي يدفع فيها المتهم ببطلان القبض إنما يقصد من وراء ذلك إبطال تفتيش ناتج عنه.

وأخيرًا تطوع أحد الزملاء فوضع قاعدة حاسمة تريحنا من كل المشكلات - لو أنها كانت صحيحة - فهو يقول إن (قيود التفتيش لا تسري على الأشخاص… فالشخص ليس مسكنًا) [(8)]، فهل معنى ذلك أن تفتيش الأشخاص لا يتقيد بأي قيد من القيود التي تستلزمها طبيعة التفتيش كإجراء من إجراءات جمع الأدلة، فيجوز إجراؤه ولو لم يوجد تحقيق مفتوح، أو وجد تحقيق ولكنه لا فائدة له من التفتيش؟ كل هذا لسبب واحد هو أن الشخص ليس مسكنًا‍ كأن هناك من يقول بأن الشخص مسكن؟‍ والحقيقة أننا لسنا في حاجة للقول بأن الشخص مسكن لاشتراط توفر ضمانات معينة في تفتيشه، لأن المسكن إذا تمتع بضمانات فالشخص أولى بها لأن حرمة الشخص كما قدمنا هي مصدر حرمة المسكن وأساسها [(9)].

فتفتيش الشخص وإن كان يستلزم القبض عليه إلا أنه إجراء أكثر من مجرد القبض، هو بحث عن الأدلة اللازمة لتحقيق جنائي قائم، فهو إجراء لجمع الأدلة يختلف في طبيعته اختلافًا بينًا عن القبض الذي هو مجرد إجراء من الإجراءات الاحتياطية [(10)] لمنع المتهم من الهرب، وعلى ذلك فإن شروط تفتيش الشخص وضماناته لا محل لمقارنتها بضمانات القبض، بل إنها يجب أن تقاس على شروط تفتيش المسكن وضماناته لأن كلاهما تفتيش على كل حال، ولا فرق بينهما إلا في نوع المحل الذي يجرى فيه.

وأهم حجة يمكن أن تسعف القائلين بالرأي الذي ننتقده هي القاعدة القائلة بأن التفتيش الشخصي تابع للقبض، وهم يستنتجون من ذلك أنه يجب أن يكون جائزًا في أحوال القبض، وهم في ذلك يغفلون حقيقة هذه القاعدة ومغزاها، ويأخذون بظاهر عباراتها، لأن التفتيش التابع للقبض طبقًا لهذه القاعدة الشهيرة ليس هو التفتيش بالمعنى القانوني المراد به جمع الأدلة، بل هو نوع خاص متميز من التفتيش يقصد به ضبط ما مع المتهم من سلاح خشية مقاومته أثناء تنفيذ القبض، ولذلك نسميه (التفتيش الوقائي).

وعلى ذلك فإن نص المادة 46/ 1 من قانون الإجراءات الجنائية الذي يقرر أنه (في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونًا على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه)، هذا النص لا يصلح دليلاً للقول بأن أحوال تفتيش الشخص هي حالات القبض لأن كل ما قصد منه هو إجازة (التفتيش الوقائي) المكمل للقبض على المتهم والذي يقصد به الاحتياط لمنع مقاومة المقبوض عليه.

فمفتاح المشكلة في نظرنا هو التفرقة بين (التفتيش القضائي) [(11)] وهو التفتيش بالمعنى القانوني، وبين (التفتيش الوقائي) [(12)] التابع للقبض وهو الذي قصدته المادة 46/ 1 والذي تقصده محكمة النقض المصرية عندما تقرر أن التفتيش يتبع القبض، هذه التفرقة لم يتعرض لها أحد ممن بحثوا هذه المسألة في مصر، وهو ما أدى إلى توسعهم في حالات تفتيش الشخص ذلك التوسع الذي لا نقره.

(التفتيش القضائي) و (التفتيش الوقائي) للشخص:

فنحن نرى أنه لا بد من التمييز بين نوعين من تفتيش الشخص: الأول، وهو الذي يجب أن يسمى وحده تفتيشًا بالمعنى القانوني المعروف في القانون الجنائي، أي الاطلاع والبحث عن الأدلة، وهو الذي يعتبر (من أعمال التحقيق التي لا يجوز الالتجاء إليها إلا في تحقيق مفتوح، طبقًا لنص المادة (91) إجراءات، ولا يمكن أن تجريه سلطة التحقيق إلا متى توفرت لديها قرائن قوية على أن في إجرائه فائدة في (الإثبات) [(13)]. وهذا التفتيش سواء وقع على المسكن أو على الشخص واحد في شروطه وحالاته، فلا يكون تفتيش الشخص جائزًا لمأموري الضبط إلا في الحالة التي أجيز لهم فيها تفتيش المسكن وهي حالة التلبس [(14)]، ولا يمكن القول بجوازه لهم في غير تلك الحالة.

أما النوع الثاني وهو الذي يكون تابعًا للقبض على الأشخاص، فهو الذي سميناه (تفتيشًا وقائيًا) وهو ليس من إجراءات التحقيق ولا يقصد به البحث عن أدلة، وإنما هو إجراء بوليسي محض مقصود به إمكان تنفيذ الأمر بالقبض [(15)]، وهو لذلك محدود بحدود هذه الغاية ولا يجوز أن يتعداها.

ماهية (التفتيش الوقائي) وحدوده:

أحسن تعريف لهذا الإجراء يمكن استخراجه من عبارات محكمة النقض المصرية نفسها بأنه هو (ما يستلزمه تنفيذ القبض من بحث في ملابس المتهم لتجريده مما يحتمل أن يكون معه من سلاح خشية أن يستعمله في المقاومة أو الاعتداء على نفسه أو على من يقبض عليه) [(16)].

فهو إذن يختلف عن التفتيش من حيث طبيعته القانونية إذ أنه ليس إلا إجراءً بوليسيًا احتياطيًا تنفيذيًا ولذلك سمته إحدى المحاكم الفرنسية [(17)] (التفتيش البوليسي (fouille - mésure de police [(18)].

وقد بينت محكمة النقض المصرية علة إجازة هذا الإجراء وغايته بقولها إن( التفتيش) في هذه الحالة يكون لازمًا، ضرورة أنه من وسائل التوقي والتحوط الواجب توفيرها أمانًا من شر المقبوض عليه إذا ما حدثته نفسه، ابتغاء استرجاع حريته، بالاعتداء بما قد يكون معه من سلاح على من قبض عليه) [(19)].

وينتج عن الطبيعة البوليسية لهذا الإجراء أنه مخول لمن يباشر القبض فعلاً لا لمن يتولى التحقيق [(20)], وقد طبقت محكمة النقض المصرية هذه القاعدة بإطراد فأجازت هذا الإجراء الوقائي للقائم بتنفيذ القبض حتى ولو لم يكن من مأموري الضبط القضائي كعسكري البوليس [(21)] أو المخبر [(22)]، أو الفرد العادي [(23)] وهو أمر ما كان يمكن التسليم به، لو اعتبرنا من إجراءات التحقيق كالتفتيش العادي.

وهذا الإجراء البوليسي ليس خاصًا بالأشخاص فقط، بل إنه يمتد إلى المنازل، فمن المتفق عليه أن القائم بتنفيذ أمر القبض على شخص معين يجوز له دخول منزل هذا الشخص للقبض عليه [(24)], فهذا الدخول انتهاك لحرمة المنزل أجيز لمأموري الضبط، وحتى لرجال البوليس العاديين طالما كانوا قائمين بتنفيذ أمر قبض صحيح، ولا يصح أن يستنتج من ذلك أن تفتيش المنازل يجوز في أحوال القبض [(25)]، رغم ما جرى عليه بعض الفقهاء على تسمية هذا الدخول ( تفتيشًا) [(26)]، فهذا على كل حال ليس التفتيش القانوني بل إجراء بوليس مكمل للقبض يشبه ما يتخذ قبل الشخص لتجريده من سلاحه حتى يتم القبض عليه [(27)].

أهمية التمييز بين التفتيش الوقائي والتفتيش القانوني:

قد يرد علينا بأن التفرقة التي نقول بها نظرية محضة تقتصر على تغيير في التسمية، ولكنا نجيب بأن لهذه التفرقة الدقيقة بين الإجراءين أهمية خطيرة في العمل من ناحيتين:

1 - فمن حيث غاية الإجراء، ما يجوز للقائم بالقبض من تفتيش للشخص يجب أن تكون غايته هي تجريده من سلاحه الذي يعتدي به على غيره أو على نفسه فقط (فإذا ثبت أن التفتيش لم يقصد به من الأصل إلا البحث عن مخدر (أي عن أدلة) – كما هو الحال في هذه الدعوى - فإنه يكون باطلاً ولا يصح التمسك به [(28)]) هذا هو ما قررته محكمة النقض المصرية التي عقبت على ذلك بوضع قاعدة عامة تجعل هذا الإجراء قاصرًا على هذه الغاية إذ قالت (ويكون الحكم المطعون فيه إذ أجاز إطلاقًا تفتيش كل مقبوض عليه ولو لم يقصد من التفتيش ضبط سلاح معه، يكون قد أخطأ [(29)]) فيجب إذن أن يكون القصد الحقيقي من الإجراء هو القبض على المتهم وأن يكون ما تم من بحث واطلاع ضروريًا لإتمام هذا القبض، أما إذا تبين أن الغرض الأصلي من الإجراء هو تفتيش المتهم للبحث عن جريمة أو عن دليل فهو باطل.

2 - ومن حيث مدى الإجراء، بديهي أن ما يجوز للباحث عن الأدلة من أعمال الفحص والاطلاع أوسع مما يجوز للباحث عن سلاح فقط، فإن رجل البوليس أو المخبر أو الفرد العادي الذي يقبض على متهم - قبضًا قانونيًا - إذا جاز له أن (يفتشه) فليس معنى ذلك أنه يجوز له كل ما يجوز في حالة التفتيش العادي، بل كل ما له هو البحث الظاهري في أيدي الشخص أو ملابسه أي المظان التي يحتمل أن يوجد بها سلاح، فلا يجوز له إذن في نظرنا الاطلاع على جسم الشخص وخاصة كل ما يتصل بعوراته وما يخدش كرامته [(30)]، ومن باب أولى ليس له أن يجري تحليل محتويات معدته مثلاً، كذلك إذا كان مع المقبوض عليه حقيبة أو محفظة بها أوراق أو نقود فليس من حق القابض عليه أن يطلع عليها وكل ما له هو ضبطها حتى يستأذن سلطة التحقيق في تفتيشها تفتيشًا قانونيًا.

المادة 46/ 1 قاصرة على (التفتيش الوقائي):

هذا الإجراء في الحدود التي بيناها هو وحده الذي أرادته المادة 46/ 1 بقولها (في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونًا على المتهم يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يفتشه), فالمقصود هنا هو (أن يفتشه تفتيشًا وقائيًا لنزع سلاحه) فهو وحده (التفتيش) الذي يستلزمه القبض ويستتبعه طبقًا لأحكام محكمة النقض المصرية كما بيناه) [(31)].

أما التفتيش القانوني للشخص فلا شأن لهذا النص به، بل هو مسكوت عنه، متروك للقواعد العامة في الاختصاص والتحقيق، وهذا ليس بدعًا في التشريع – وإن كان نقصًا فيه - فقانون تحقيق الجنايات لم يكن به أي نص على تفتيش الشخص، وكذلك قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الحالي، ومع ذلك فمن المجمع عليه أن تفتيش الشخص تسري عليه جميع أحكام تفتيش المسكن من حيث شروطه وحالاته، فلا يجوز لمأموري الضبط إلا في حالة التلبس.

وتظهر أهمية هذه القاعدة إذا لاحظنا أهمية الأحوال التي يجوز فيها القبض في غير حالة التلبس، وهي الحالات التي يجب أن يكون التفتيش الشخصي جائزًا لمأموري الضبط فيها طبقًا للرأي الذي انتقدناه، ومن أمثلة هذه الحالات:

1 - جناية عادية، ليست في حالة تلبس، ولم تطلب النيابة من قاضي التحقيق أن يفتح فيها تحقيقًا، فليس لها ولا لمأموري الضبط إلا سلطة جمع الاستدلالات ولكن لمأموري الضبط - والنيابة باعتبارها منهم – أن يقبضوا على المتهم طبقًا للمادة (34) (أولاً).

ولكن هل يجوز تفتيش شخصه في تلك الحالة ؟ أما قاضي التحقيق فلا يملك إصدار أمر تفتيشه ولا تفتيش مسكنه لأنه لا يوجد تحقيق ولا يجوز الأمر بالتفتيش إلا في تحقيق مفتوح, وكذلك النيابة لا يجوز لها إجراء تحقيق في الجنايات، بل عليها في هذه الحالة أن تقدم القضية لقاضي التحقيق وتطلب منه أن يفتح فيها تحقيقًا وتترك الأمر له, ويجب أن تسري هذه القاعدة في رأينا على مأموري الضبط من باب أولى لأنه لا يجوز أن يعطيهم سلطة لا يملكها قاضي التحقيق نفسه.

أما الرأي الذي انتقدناه فإنه يجيز لمأمور الضبط أن يفتش المتهم بحجة أنه يجوز له أن يقبض عليه وأن التفتيش جائز في جميع أحوال القبض، دون تحديد لنوع هذا التفتيش وحدوده فإذا فرضنا أن الجريمة هي جناية ضرب أفضى إلى عاهة مستديمة، وأن ضابط البوليس رأى أن يقبض على المتهم لتقديمه للنيابة، فهم يقولون بأنه يجوز لهذا الضابط أن يفتشه تفتيشًا كاملاً، بما في ذلك بداهةً الاطلاع على جسمه للبحث عن آثار جروح أو ما شابهها مما يؤكد اشتراكه في المشاجرة، أو البحث في الأوراق التي يحملها لعل فيها ما يدل على وجوده في محل المشاجرة في التاريخ الذي وقعت فيه ونحن نرى أن كلا الفعلين غير جائز، فليس له الاطلاع على جسمه ولا على أوراقه وكل ما له عند القبض عليه أن يجرده من سلاحه إن وجد معه ما يخشى أن يستعمله في الاعتداء عليه أو إن كان هناك مظنة لمقاومة أو اعتداء فقط، أما إن أراد أن يفتش جسمه أو أوراقه فلا بد من أن يعرض الأمر على النيابة وعليها بدورها أن تطلب من قاضي التحقيق فتح تحقيق والأمر بالتفتيش إن كان له محل.

2 - جنحة مخدرات عادية ليست في حالة تلبس، قبض على بعض المتهمين فيها ورأى ضابط البوليس أن يقبض على شخص آخر باعتباره شريكًا لهم فله طبقًا للمادة (34) (رابعًا) حق القبض في هذه الحالة, ولكن هل له أن يفتش شخص المتهم وما معه من أمتعة أو حقائب بقصد البحث عن مخدرات فيها؟ يجيز ذلك الرأي الذي نعارضه, أما نحن فنرى أن هذا التفتيش المقصود به البحث عن دليل أو عن جسم الجريمة لا يجوز المأمور الضبط القضائي بل يجب عليه أن يرفع الأمر إلى الهيئة التي تتولى التحقيق فعلاً - أي قاضي التحقيق أو النيابة العامة على حسب الأحوال - لتأمر بما تراه, أما إذا فتش من تلقاء نفسه فإجراؤه باطل لأن الجريمة ليست في حالة تلبس.

الخلاصة:

من ذلك كله يتضح أننا لا نقر أي تفرقة بين تفتيش المسكن وتفتيش الشخص، فحالات تفتيش الشخص يجب أن تقاس على حالات تفتيش المسكن، ولم يكن هناك أي داعٍ لكي يفرق المشرع بينهما ولذلك فإن نص المادة 46/ 1 يفسر على ضوء هذه الفكرة الأساسية، وأن يحمل التفتيش الشخصي المقصود بها على التفتيش المكمل للقبض، وكون التفتيش مكملاً للقبض ليس مرجعه أنه مقيد للحرية الشخصية كالقبض، أو أن حرمة الشخص أقل أهمية من حرمة المسكن، لسبب واحد يسير هو أن تفتيش المسكن ذاته أو دخوله يكون مكملاً للقبض في بعض الأحيان ويصبح جائزًا هو الآخر كلما كان القبض جائزًا، وذلك إذا أريد القبض على شخص في مسكنه فللقائم بتنفيذ هذا الأمر أن يدخل المسكن ليبحث عنه، فالدخول هنا يمكن أن يسمى تفتيشًا ولكنه هو أيضًا من نوع خاص مكمل للقبض من طبيعة بوليسية، وهو في هذا يشبه التفتيش الوقائي من حيث طبيعته وحدوده مما يدل على أن القول بأن تفتيش الشخص تابع للقبض عليه لا يمكن أن تنصرف إلى التفتيش القانوني من ناحية ولا يمكن أن تكون قاصرة على تفتيش الأشخاص من ناحية أخرى.

[(1)] نص المحاضرة التي ألقيت بدار نقابة المحامين في يوم 3 إبريل سنة 1952.

[(2)] وقد نصت المادة (48) على حالة خاصة استثنائية إذ أجازت لمأموري الضبط ولو في غير حالة التلبس أن يفتشوا منازل الأشخاص الموضوعين تحت مراقبة البوليس إذا وجدت أوجه قوية تدعو للاستثناء في أنهم ارتكبوا جناية أو جنحة، ويفهم من هذا النص بمفهوم المخالفة أن تفتيش المساكن في غير حالة التلبس ممنوع على مأموري الضبط إذا لم يكن المتهم موضوعًا تحت مراقبة البوليس، ويراجع العرابي باشا جـ 1 ص (252) رقم (487).

[(3)] العرابي باشا جـ 1 ص (274) رقم (34)، والدكتور محمود مصطفى ص (167)، (194).

ويراجع تحت سلطان القانون القديم القللي بك طبعة سنة 1941 ص (191), والموسوعة الجنائية جـ (3) ص (549) رقم (70) وقد ورد فيه صراحةً (……… يضاف إلى ذلك أن التفتيش الشخصي عند القبض على المتهم أمر تستلزمه مصلحة التحقيق لمنع المقبوض عليه من إعدام جسم الجريمة أو من إخفائه، لذلك كله كان الإجماع منعقدًا على أن لرجال البوليس دائمًا حق تفتيش الأشخاص الذين يقبضون عليهم وفقًا للقانون….).

[(4)] و [(5)] المراجع المشار إليها في الهامش السابق، ويظهر أن حكم النقض الصادر في 3 يونيه سنة 1940, قد أخذ بهذا الرأي إذ قرر أنه (بمقتضى القانون رقم (24) لسنة 1923, إذا كان المتهم قد سبق إنذاره مشبوهًا، وكانت القرائن متوافرة على ارتكابه جريمة إحراز مخدر، فإن ذلك - بغض النظر عن قيام التلبس - يبرر القبض عليه وتفتيشه.. رغم أن المحكمة قررت بصراحة (إن هذه الواقعة لا يجوز فيها الضبط والتفتيش على أساس التلبس لأن المتهم لم يكن في حالة من حالاته)، مجموعة القواعد ج (5) ص (222) رقم (117) وهو حكم شاذ في نظرنا يخالف ما استقر عليه قضاء النقض كما سنبينه فيما بعد.

[(6)] شرح قانون الإجراءات الجنائية للدكتور محمود مصطفى ص (194).

[(7)] المرجع السابق ص (153) حيث يضيف (فتفتيش الشخص أقل خطورة من القبض عليه).

[(8)] المرجع السابق ص (153)، (194).

[(9)] والحقيقة أن الحماية هنا لا تقرر للمسكن للشخص لذاتهما، لأن القانون لا يحمي الأشياء وإنما يحمي الحقوق فقط، والحق الذي يحميه المشرع عندما يمنع انتهاك حرمة المسكن أو حرمة الشخص هو حق واحد له ذاتية خاصة نسميه (الحق في السر DROIT AU SECRET) أي حق الفرد في أن يمنع الغير عن الاطلاع على مظاهر حياته الخاصة، ومقر هذه المظاهر في الأصل هو جسم الشخص ومسكنه، تراجع رسالتنا في (النظرية العامة للتفتيش في القانون الجنائي المصري والفرنسي) طبعة جامعة فؤاد بالفرنسية سنة 1950ص (4) رقم(4) وما بعدها.

[(10)] والإجراءات الاحتياطية كالقبض والحبس الاحتياطي هي من إجراءات التحقيق من حيث الشكل فقط، أما من حيث غايتها فهي في الواقع كما قالت محكمة النقض المصرية في حكمها الصادر في 15 يونيه سنة 1915, وهي احتياطات متعلقة بالأمن وإدارية أكثر منها قضائية), المجموعة الرسمية السنة 31 س (207), وهذا هو ما يميزها عن إجراءات جمع الأدلة التي هي إجراءات قضائية لأن غايتها هي الأدلة أو الإثبات، والتفتيش القانوني يدخل في مجموعة الإجراءات القضائية المتعلقة بجمع الأدلة.

[(11)] أخذ بهذه التسمية (جارو) جـ 3 رقم (900) ص (204)، وموريزوتيبولت ص (447) و (لويس لامبير) في (البوليس القضائي) جـ (1) ص (351)، وبعض الفقهاء يفضل تسميته (التفتيش التحقيقي fouille - acte d’instruction).

[(12)] هذه تسمية استحدثناها، وهي غير موجودة في الفقه المصري، ولكنا أخذناها عن عبارات بعض أحكام النقض المصرية، مثل نقض 11 يونيه سنة 1945, حيث وصفت هذا التفتيش بأنه (من وسائل التوقي والتحوط الواجب توفيرها أمانًا من شر المقبوض عليه) مجموعة القواعد جـ (6) ص (733) رقم (598)، وهذا في نظرنا أفضل من تسمية التفتيش البوليسي التي أخذ بها القضاء الفرنسي في بعض أحكامه.

[(13)] لذلك اشترطت المادة 91/ 1 لإجراء التفتيش بمعرفة قاضي التحقيق (أن توجد قرائن على أنه – صاحب المنزل - حائز لأشياء تتعلق بالجريمة) وبالنسبة للشخص اشترطت م (94) (أن يتضح من إمارات قوية أنه يخفي أشياء تفيد في كشف الحقيقة), وبالنسبة لضبط المراسلات التليفونية أجازته م (95) (متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة) كما أن المادة (47) التي خولت لمأموري الضبط تفتيش مسكن المتهم في حالة التلبس اشترطت لذلك (أن يتضح له من إمارات قوية أنها – أي الأشياء والأوراق التي تفيد في كشف الحقيقة - موجودة فيه) تراجع تعليقاتنا على هذه المواد جميعًا في كتابنا (مجموعة الإجراءات الجنائية ص (42)، (65)، (66)، (67)).

[(14)] أما الحالة المنصوص عليها في المادة (48) الخاصة بتفتيش منازل الأشخاص الموضوعين تحت المراقبة فهي حالة استثنائية لا يجوز القياس عليها.

[(15)] ولذلك فإنه يجوز في جميع أحوال القبض أيًا كان نوع هذا القبض أو سببه أو الغرض منه، نقض (24) ديسمبر سنة 1945, مجموعة القواعد جـ 7 ص (32) رقم (42), حتى ولو لم يكن القبض من أعمال التحقيق بأن كان المقصود منه تنفيذ حكم جنائي مثلاً أو تنفيذ أمر بالحبس الاحتياطي.

[(16)] نقض (2) يونيه سنة 1941, مجموعة القواعد جـ 5 ص (537) رقم (273) ويراجع الحكم المشار إليه في الهامش السابق أيضًا.

[(17)] محكمة استئناف نيم في جازيت ديباليه 1927 - 1 - ص (194), حيث قررت (إن هذا الإجراء ليس من إجراءات التحقيق، بل هو مجرد إجراء بوليسي عام وضروري، يتخذ للصالح العام ولصالح المقبوض عليه نفسه) يراجع أيضًا (جازيت ديتريبينو 1927 – 4262).

[(18)] أما التفتيش العادي فهو التفتيش القانوني أو التفتيش التحقيقي fouille - mesure d’instruction.

[(19)] نقض 11 يونيه سنة 1945, بمجموعة القواعد القانونية جـ 6 ص (733) رقم (598) وقد استعملت محكمة النقض هذه العبارات نفسها في حكم بتاريخ 24 ديسمبر سنة 1945, بالمجموعة جـ 7 ص (32) رقم (42).

[(20)] لذلك نرى المادة (94) التي خولت لقاضي التحقيق حق تفتيش شخص المتهم وغير المتهم في جميع الأحوال قد نصت على أن هذا التفتيش (يراعي فيه حكم الفقرة الثانية من م (46)) فالإحالة هنا قاصرة على الفقرة الثانية وقد استبعد المشرع عمدًا الإحالة إلى الفقرة الأولى من م (46) التي تعطي لمأمور الضبط حق تفتيش الشخص في أحوال القبض عليه، مع أنه ليس من المعقول إن يحرم قاضي التحقيق من سلطة مخولة لمأموري الضبط إذا كانت سلطة تحقيق، ولكن هذا الاستبعاد مرده أن المشرع لا يعتبر هذه السلطة المخولة لمأموري الضبط سلطة تحقيق، بل هي سلطة بوليسية محضة، والتفتيش لا يكون إجراءً بوليسيًا بل هو سلطة تحقيق.

[(21)] يراجع حكم النقض في 16/ 10/ 1944, بمجموعة القواعد القانونية جـ 6 ص (516) رقم (375) وحكم 8 فبراير سنة 1937, بالمجموعة جـ 4 ص (41) رقم (43) وحكم 2 يونيه سنة 1941, بالمجموعة جـ 5 ص (536) رقم (273).

[(22)] نقض (2) مارس سنة 1936, بمجموعة القواعد جـ 3 ص (582) رقم (448).

[(23)] نقض (2) مارس سنة 1946, المشار إليه في الهامش السابق، ويلاحظ أن المخبر من رجال البوليس وليس من مأموري الضبط فليس له سلطة أكثر مما للفرد العادي.

[(24)] (جارو) جـ (3) رقم (910)، (911) ص (218) والعرابي باشا جـ (1) ص (310) رقم (616) والقللي بك ص (224).

[(25)] ومع ذلك فقد كانت المادة (53) من القانون المختلط تنص صراحةً على أن لمأموري الضبط حق تفتيش مسكن المتهم في أحوال القبض عليه.

[(26)] المراجع المشار إليها في الهامشين السالفين.

[(27)] ولذلك قال (جارو) إن التفتيش بالمعنى الحقيقي هو الذي يقصد به البحث عن الأدلة وجمعها) يراجع جـ (3) ص (219) رقم (912).

[(28)] نقض 2 يونيه سنة 1941, وقد نشر نصه كاملاً في مجموعة القواعد جـ (5) ص (537) رقم (273).

[(29)] الحكم المشار إليه في الهامش السابق.

[(30)] والقانون البلجيكي يفرق بين تفتيش جسم الشخص Exploration corporelle وهو وحده الذي يعتبر من إجراءات التحقيق، ولا بد له من أمر صادر من غرفة الاتهام، أما تفتيش ملابس الشخص فيخرج عن هذه القاعدة ويجوز لقاضي التحقيق ولمأموري الضبط باعتباره عملاً بوليسيًا في حدود الضرورة التي تستلزمه وهي نزع سلاح الشخص عند القبض عليه، تراجع (الباندكت البلجيكية) جـ (4) ص (65) رقم (16)، (17).

[(31)] وقد ورد صراحةً بالمذكرة الإيضاحية لمشروع قانون الإجراءات الجنائية أن هذه المادة (46/ 1) قد وضعت لإقرار المبدأ الذي أشارت به محكمة النقض والإبرام باستمرار), فتفسير هذا النص وفهم معناه يجب الرجوع فيه إلى أحكام النقض التي أشرنا إليها فيما سبق, ومذهب محكمة النقض المصرية يختلف تمامًا عما كان يقرره القانون المختلط في المادة (53) منه لأنه كان يصرح بأن تفتيش الأشخاص وتفتيش المساكن كلاهما جائز في أحوال القبض وكان يسوي صراحة بين التفتيش المقصود به القبض على الشخص والتفتيش المقصود به جمع الأدلة وهو ما لا تقره محكمة النقض المصرية، قارن العرابي باشا جـ (1) ص (274) رقم (534) الذي يسوي بين مذهب النقض وبين القانون المختلط وهو ما لا نوافق عليه.

حق النيابة في استئناف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات في ظل قانون الإجراءات الجنائية

مجلة المحاماة – العدد السابع
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952

بحث
حق النيابة في استئناف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات في ظل قانون الإجراءات الجنائية [(1)]
للأستاذ محمد عبد العزيز يوسف فهمي وكيل أول نيابة دمنهور الكلية

نصت المادة (402) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجوز للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات إذا طلبت الحكم بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وحكم ببراءة المتهم أو لم يحكم بما طلبته النيابة.
ولقد ثار الخلاف حول ما إذا كان مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على جريمة معينة يشمل طلب ما قضت به تلك المادة ولو كان ذلك على سبيل الخيار للمحكمة أم أنه يتعين على النيابة أن تطلب صراحةً من المحكمة الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو الحكم بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غير ذلك كالهدم وإعادة الشيء لأصله بحيث إذا لم تطلب ذلك وكان الحكم بأيهم على سبيل الخيار للمحكمة كان استئنافها غير جائز؟
تنص الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من تعليمات النيابة العامة الصادرة بشأن تنفيذ قانون الإجراءات (ص 46) على ما يأتي:
(تعتبر العقوبة مطلوبًا الحكم بها من النيابة في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا كان نص القانون المطلوب تطبيقه على الواقعة يقرر حدًا أقصى للغرامة يزيد على خمسة جنيهات).
ويبدو من الاطلاع على هذا النص أن النيابة العامة قد أخذت بالرأي القائل بأن مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على الجريمة يشمل طلب كل ما قضت به تلك المادة مع أن الرأي الراجح في الفقه والقضاء يرى عكس هذا الرأي إذ جاء في المذكرة الإيضاحية تعليقًا على المادة (402) إجراءات أن هذا النص يشبه في مجمله نظام الاستئناف الحالي الخاص بالمخالفات (المادة (153) من قانون تحقيق الجنايات المُلغى) إذ تنص تلك المادة على أن للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في مواد المخالفات إذا طلبت الحكم بعقوبة غير الغرامة والمصاريف وحكم ببراءة المتهم أو إذا لم يحكم بما طلبته النيابة.
والرأي الذي ساد في الفقه والقضاء أنه إذا كانت العقوبة المنصوص عليها هي الغرامة أو الحبس بطريق الخيار وطلبت النيابة تطبيق المادة المشتملة على هذه العقوبة فتعتبر أنها تركت الخيار للقاضي في توقيع أيهما فلا يجوز لها استئناف حكم البراءة بناءً على أن المادة التي طلبت العقاب بمقتضاها تشتمل على عقوبة الحبس أيضًا، إذ أنه ليس من المعول عليه في جواز استئنافها النظر في العقوبة المشتملة عليها المادة بل إن القانون صريح في أن المعول عليه هو طلبات النيابة وهي لم تصرح بطلب الحكم بعقوبة الحبس (مصر الابتدائية 6 يناير 1909 مج (10) وقنا الابتدائية في 29 يوليو سنة 1921).
وهذا الرأي يرجحه الفقه أيضًا فيرى زكي باشا العرابي في كتابه المبادئ الأساسية للتحقيقات والإجراءات الجنائية ج (2) ط, (940) ص (320) بند (529) أن استئناف النيابة أساسه الطلبات التي أبدتها فعلاً بالجلسة ولم تجبها إليها المحكمة.
كما يراه أيضًا القللي بك في كتابه أصول قانون تحقيق الجنايات طبعة ثانية مكررة (942) ص (470) وجندي بك عبد الملك في الموسوعة الجنائية ج (1) ص (552) بند (16) وما بعده).
وإذن ففي قضايا القتل الخطأ والشروع في السرقة والنصب والضرب والشروع في الرشوة وغيرها من الجرائم المماثلة إذا اكتفت النيابة بطلب تطبيق المادة المنطبقة على الجريمة ولم تصرح بطلب آخر وقضت المحكمة بالبراءة أو بالغرامة أو لم تقضِ بالعقوبات التكميلية أو بغير ذلك فإن استئنافها لا يجوز لأن الحكم بأيها على سبيل الخيار للمحكمة ولم تصرح النيابة بطلب عقوبة معينة.
أما إذا كان النص الذي طلبته النيابة يوجب الحكم بالحبس أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو بعقوبة تكميلية أخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله ولا يترك الخيار للمحكمة فإنا نرى أن مجرد طلب النيابة تطبيق المادة المنطبقة يعتبر طلبًا منها بتطبيق العقوبات الأصلية والتكميلية وغيرها التي يوجب القانون الحكم بها فإذا لم تقضِ المحكمة بما أوجبه القانون والذي يعتبر طلبًا من النيابة فإن استئنافها يجوز على التفصيل الآتي:
إذا طلبت النيابة الحكم بغير الغرامة والمصاريف أي بالحبس أو بالعقوبات التكميلية الأخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله فإن استئناف النيابة يكون جائزًا إطلاقًا حتى لو أجابت المحكمة النيابة إلى طلبها وقضت بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غيرها لأن إجابتها إلى ما طلبت لا تمنعها من استئناف الحكم لمصلحة المجتمع والعدالة (تراجع المادة 402/ 2) بخلاف ما إذا طلبت الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وأجابتها المحكمة إلى ما طلبت فإن استئنافها لا يجوز.
وهذا الرأي الراجح لا يتفق وتعليمات النيابة العامة إلا إذا استبدلت كلمة أدنى بكلمة أقصى في الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من التعليمات والمشار إليها بصدر هذا البحث لأن الفقرة بوضعها الحالي تفيد أن النيابة العامة أخذت بالرأي المرجوح مع أن الفقرة الثانية من المادة نفسها اعتبرت العقوبة مطلوبًا الحكم بها إذا كان القانون يوجب الحكم بالحبس أو المراقبة أو المصادرة أو الإغلاق أي أن الفقرة الثانية تفيد الأخذ بالرأي الراجح بعكس الأولى مع قيام التلازم بين الفقرتين لوحدة علة الحكم فيهما.


[(1)] أخذت محكمة دمنهور الابتدائية بهيئة استئنافية بوجهة نظر البحث والمراجع المشار إليها فيه وذلك في الحكم الصادر بتاريخ 15 يناير سنة 1952, في القضية رقم (1478) سنة 1951, ايتاي البارود (19 سنة 52 س).
بحث تعاصر النية مع الفعل المادي

كتبهااحمد الجمل ، في 23 سبتمبر 2009 الساعة: 17:55 م


مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة العشرون سنة 1939

بحث تعاصر [(1)] النية مع الفعل المادي
De la concomitance de l’intention et du fait matériel.

تمهيد وعرض للمسألة:
الجريمة – في القانون الجنائي - عمدية وغير عمدية، مثل الأولى القتل عمدًا، ومثل الثانية القتل خطأ، ولا بد في هذه وتلك من عنصر أدبي شخصي هو في الحالة الأولى توجيه الإرادة والعمل أو الامتناع نحو إحداث النتيجة: القتل، وفي الحالة الثانية التزام موقف إيجابي أو سلبي وفق الأحوال يؤدي إلى حصول النتيجة المحرمة: القتل، بغير أن تكون مقصودة ابتداءً أو مقبولة قبولاً احتماليًا [(2)] والفصيلة الأولى، أي الجرائم العمدية، هي المقصودة في هذا البحث، فهي لا تقوم بغير وجود (النية) – نية القتل في مثالنا - ولا تقوم بغير وجود (الواقعة المادية) واقعة القتل في هذا المثال.
لا بد إذن من اجتماع هذين الركنين، هذه حقيقة بسيطة لا نزاع حولها، ولكن متى يجب أن يكون هذا الاجتماع؟ وما هي النسبة الزمنية المتبادلة بين كل من الركنين؟ هذه هي المسألة التي نحاول معالجتها الآن.
ولاحتفظ بمثال القتل عمدًا، ولا فرض أن زيدًا من الناس ينقم من بكر أمورًا وقد انتهى إلى عقد العزم والنية عقدًا نهائيًا على قتل غريمه بكر وحدد لذلك اليوم الأخير من شهر معين هو شهر يناير وحدث أن خرج زيد يقود سيارته في اليوم الأول من شهر يناير المذكور، وكان بكر يسير في طريق السيارة دون أن يفطن زيد إلى وجوده ووقع من زيد خطأ ترتب عليه موت أشخاص اتضح فيما بعد أن بكرًا واحد منهم، هنا وجدت نية القتل عند زيد، وحصل أيضًا منه إزهاق النفس الإنسانية التي كان انتوى ازهاقها، فهل نأخذه بجريمة القتل عمدًا؟ كلا الركنين موجود ولكنهما لم يتلبس أحدهما بالآخر، لم يوجدًا في وقت واحد.
الرأي الغالب:
أما الرأي الغالب فيحتم التعاصر بين الركنين ولا يقبل إدانة المتهم في الفرض السابق على أساس القتل عمدًا لأنه ارتكب القتل عندما حدث القتل خطأ لا عمدًا.
وهذا الرأي يستند إلى أساس نظري كما يعتمد على بعض النصوص القانونية: فإن النية الخبيثة وحدها لا عقاب عليها وما لم تقترن ببدء في التنفيذ على الأقل فصاحبها لا يمكن اعتباره مجرمًا بالمعنى القانوني بل أنه قد يصرح عن نيته الخبيثة بأعمال تحضيرية ولكنه إن وقف عند هذا المدى لا يعاقب لأنه لما يشرع في التنفيذ، وما دام الأمر كذلك فلا سبيل إلى محاسبة قائد السيارة على نية القتل التي طوى عليها جوانحه لأنها نية بغير تنفيذ ولا بدء في تنفيذ، فإن كان قد قتل غريمه فيما بعد غير منتو قتله في هذه الساعة لأنه غير عالم بوجوده وغير راغب في وقوع حادثة لا يعلم من يكون ضحيتها، فحسابه محدود بهذه الحادثة: إن ثبت عليه خطأ أخذ بالقتل خطأ وإلا فالأمر قضاء وقدر ولا تثريب عليه.
أما النصوص القانونية التي يعتمد عليها هذا الرأي الغالب فمنها - في قانون العقوبات المصري - المادة (62) (فقرة أولى) التي تعفي من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الفعل) فاقد الشعور أو الاختيار في عمله لجنون أو عاهة في العقل، فإذا كان المتهم قد انتوى ارتكاب الجريمة وهو عاقل ثم أصيب بالجنون وارتكب تلك الجريمة مجنونًا فلا عقاب عليه وذلك لأن النية لم تصاحب الفعل المادي.
وكذلك الفقرة الثانية من المادة المذكورة التي تعفى من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الجريمة) فاقدًا الوعي بسبب السكر الخ.
وتمت مواد كثيرة تشير إلى ركن النية مقرونًا بالركن المادي فالمواد (206) و (208) و (213) و(214) و(215) و(217) و(220) و(221) (باب التزوير) تستعمل عبارات مع علمه (بتقليدها أو بتزويرها) و (بقصد التزوير) الخ مضافة إلى الفعل المادي.
ولقد أراد المشرع المصري الخروج على هذه القاعدة العامة قاعدة التعاصر في مسألة واحدة بخصوصها فاضطر إلى سن تشريع خاص استحدث به جريمة جديدة هي جريمة العثور على شيء ضائع والاحتفاظ به، أما التشريع الذي جرمها به فهو دكريتو سنة 1899 الذي قال:
(كل من يعثر على شيء أو حيوان ضائع ولم يتيسر له رده إلى صاحبه في الحال يجب عليه أن يسلمه أو أن يبلغ عنه إلى أقرب نقطة للبوليس في المدن أو إلى العمد في القرى).
ويجب إجراء التسليم أو التبليغ في ظرف ثلاثة أيام في المدن وثمانية أيام في القرى ومن لم يفعل ذلك يعاقب بدفع غرامة يجوز إبلاغها إلى مائة قرش وبضياع حقه في المكافأة المنصوص عنها في المادة الثالثة.
فإذا كان حبس الشيء أو الحيوان مصحوبًا بنية امتلاكه بطريق الغش فتقام الدعوى الجنائية المقررة لمثل هذه الحالة ولا يبقى هنالك وجه للمحاكمة عن المخالفة.
هذا التشريع الخاص هو – طبقًا للرأي الغالب - دليل على أن الأصل تحتيم تعاصر النية والفعل المادي وإلا ما أحتاج المشرع إلى تشريع يصدره بخصوص مسألة بعينها ما دام الحكم الذي يريده ثابتًا ومستفادًا من المبادئ العامة.
أي أن أصحاب الرأي الغالب يستنتجون من هذا الدكر يتو بمفهوم العكس A Contrario ما يؤيد نظريتهم [(3)].
بل ذهب الأستاذ جرانمولان إلى أبعد من ذلك فقال أن هذا المبدأ العام - وهو وجوب تعاصر النية والركن المادي - ظل محترمًا حتى في هذا الدكريتو فمن يعثر على شيء ضائع ثم تطرأ عليه بعد هذا العثور نية الاحتفاظ به لنفسه لا يرتُكب جنحة السرقة ولا جنحة مشبهة بها لأن الدكريتو المذكور لم يرد الخروج على القاعدة العامة وإنما أحال عليها، وسيأتي تفصيل رأيه.
رأي القضاء الفرنسي:
وليس في التشريع الفرنسي نص خاص بالعثور على شيء والاحتفاظ به فماذا كان موقف القضاء الفرنسي من هاذ الفعل؟ كان موقفه مؤيدًا للرأي الغالب لأنه فرق بين حالتين: الأولى وجود نية الغش عند العثور على الشيء، والثانية طروء هذه النية بعد العثور عليه، وفي الأولى قضى بالعقاب، وفي الثانية قضى بالبراءة.
وقد لخص الأستاذ جرانمولان هذا الموقف بقوله في كتاب (قانون العقوبات المصري - الجزء الثاني - ص (425) - فقرة (1670)) ما يأتي:

La jurisprudence francaise distingue si l’intention frauduleuse existait au moment ou la chose a été trouveé ou si elle n’est survenue que postérieurement.
Elle admet qu’il y a vol si l’intention de s’approprier l’objet est née au moment de la prise de possession car la soustraction fraudu leuse résulte de l’enelèvement de la chose trouvée avec l’intention de se l’approprier.
Dans la seconde hypothèse où la chose a été ramassée sans intention d’appropriation et où cette intention n’est survenue qu’ultérieurement, il n’y a pas vol. La loi exige, en effet, la soustration frauduleuse c’est - à - dire que l’intention criminelle existe au moment où la chose est appréhendée tandisque, dans l’espèce, elle ne s’est formée qu’après coup.

وترجمة ما تقدم:
(يميز القضاء الفرنسي بين حالة وجود نية الغش في اللحظة التي عثر فيها على الشيء، وحالة عدم وجود هذه النية إلا بعد العثور عليه، ويقرر القضاء وجود جريمة سرقة إذا كانت نية تملك الشيء قد ولدت في لحظة الحيازة لأن الاختلاس ينتج من حمل الشيء المعثور عليه حملاً مصحوبًا بنية تملكه.
أما في الفرض الثاني حيث يكون الشيء قد حمل بغير نية تملكه وحيث تكون هذه النية قد وجدت فيما بعد، فلا سرقة، أن القانون يشترط - في الواقع – (الأخذ بنية الغش) ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
وقد أشار الأستاذ جرانمولان في حاشية ص (425) المذكورة إلى أحكام قضائية فرنسية منها حكم النقض في 25 إبريل سنة 1884 وحكم النقض في 11 أغسطس سنة 1879 وحكم النقض في 16 مايو سنة 1903.
رأي الأستاذ جرانمولان:
والتأمل في الفقرات التي اقتبسناها يظهر أن الأستاذ جرانمولان يوافق على رأي القضاء في فرنسا، وتمت عبارة نود أن يقف عندها لما لها من أهمية في خصوص قضيتنا تلك هي قول الأستاذ:
(إن القانون يشترط في الواقع، الأخذ بنية الغش (la soustraction frauduleuse ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
رأي الأستاذ بالنسبة للقانون المصري:
وقد انتقل الأستاذ جرانمولان إلى القانون المصري ثم قال بغير تردد أن الحلول التي تقررت في فرنسا يجب الأخذ بها في مصر حيث النصوص والمبادئ متفقة مع ما يقابلها في فرنسا:

Les solutions de la jurisprudence francaise semblent devoir être admises en droit egyptien où les textes et les principes sont les mêmes.

(المرجع السابق ص (426) فقرة (1671)).
دكريتو 1899:
ولقد وصل الأستاذ، في تمسكه بهذا المبدأ المجمع عليه، إلى حيث خالف رأي لجنة المراقبة القضائية وارتأى أن دكريتو سنة 1899 ليس من شأنه التأثير فيه أي أن العثور على شيء بغير وجود نية تملكه ثم طروء هذه النية فيما بعد لا يعاقب عليه في مصر لأن هذا الدكريتو لم يفعل أكثر من الإحالة على قانون العقوبات وهذا القانون لا يقبل مطلقًا، لا بروحه ومبادئه العامة ولا بنصوصه، أن يعاقب على فعل جنائي لم يقترن بنية جنائية وإنما ولدت بعده. وهاكم نص قول الأستاذ في هذا الصدد:

Mais, quoiqu’ il parle de rétention frauduleuse, sans exiger que la soustraction elle même ait ete frauduleuse, ce texte se borne à renvoyer au code pénal; il ne parait pas qu’il ait entendu innover hi decider qu’il y a vol même dans le cas où l’intention de s’approprier l’object he prend naissance qu’après la mainmise sur l’objet perdu.

(المرجع السابق ص (427) – تابع الفقرة (1671)).
وأنه ليسترعي انتباهنا قول الأستاذ في الفقرة المتقدمة (ومع أنه – أي الدكريتو - يتكلم عن الاحتفاظ بنية التملك بغير اشتراط أن الأخذ عند العثور نفسه كان بنية التملك، فإن هذا النص يقنع بالإحالة على قانون العقوبات، ولا يبدو أنه أراد التجديد أو أراد تقرير وجود السرقة حتى في حالة عدم تولد نية التملك إلا بعد وضع اليد على الشيء الضائع).
وقد سنحت لمحكمة النقض في مصر فرصة قريبة لمعالجة هذه النقطة الفرعية فقضت بغير ما ارتآه جرانمولان.
قالت محكمة النقض:
(يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور على الأشياء الضائعة أن يتوافر لدى العاثر على الشيء الضائع نية امتلاكه سيان في ذلك إن كانت هذه النية مقارنة للعثور على الشيء أو لاحقة عليه [(4)].
وقد جاء هذا ردًا على طعن للمتهم لخصته محكمة النقض بقولها، (وحيث أن أوجه الطعن تتلخص في أن الطاعن لم تكن عنده نية اختلاس الأشياء الضائعة وقت أن عثر عليها مع أن توفر تلك النية وقت العثور على الشيء ضروري لتطبيق قانون الأشياء الضائعة الخ).
وظاهر مما تقدم أن المتهم بنى أول وجه للطعن على تلك المسألة القانونية وتمسك فيها بالقول الذي قال به جرانمولان ولكن محكمة النقض رفضت قبوله [(5)]
رأي القلة:
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النقطة الأساسية فنقول أن الرأي القائل بوجوب التعاصر هو الرأي السائد ولكنه ليس الرأي المجمع عليه.
وقد تصدى لانتقاده الأستاذ البرت شيرون A. Cheron في دروس ألقاها على طلبة الدكتوراه وطلبة المعهد الجنائي بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وقال، بالقياس إلى الحجج النظرية، أنه لا ينازع في وجوب توفر صلة jointure بين النية والفعل المادي وأن هذه الصلة هي في الأغلب صلة في الزمان يتوفر بها التعاصر المذكور، ولكن ليس من المحتم أن تكون هذه الصلة دائمًا صلة زمنية وإنما المحتم أن توجد بين الأمرين رابطة منطقية فإن وجدت فلا مانع، من الوجهة الاجتماعية ولا الوجهة الخلقية، تمنع العقاب ويضرب لرأيه مثلاً، رجلاً انتوى سرقة حافظة نقود موجودة في معطف رجل آخر ولكنه لم يرتكب السرقة خوفًا من أن يراه ثم حدث بعد ذلك أن أراد الأول (ولنسمه (1)) أن يرتدي معطفه فأخطأه وارتدى معطف صاحب الحافظة (ولنسمه ب) فلما فطن إلى خطئه انتفع من هذا الخطأ واختلس حافظة النقود، ثم يضرب مثلاً ثانيًا رجلاً عثر على مال في الطريق فاتجه صوب الشرطة لتسليمه ولكنه غير في الطريق نيته واحتفظ به لنفسه، في هذين المثلين لا توجد الصلة الزمنية التي نسميها التعاصر ولكن توجد الصلة المنطقية وهي، في رأي الأستاذ شيرون، كافية للإدانة.
ويستند الأستاذ أيضًا إلى ما أثبته علم النفس من وجود العقل الباطن ففي المثلين المتقدمين توجد رابطة لا شعورية بين العثور البريء والاحتفاظ غير البريء والسكران الذي ارتكب فاقدًا وعيه جريمة كان انتوى ارتكابها في وعيه قد تأثر في جريمته بعزيمته السابقة التي اختزنها عقله الباطن ولو أنها في الظاهر لم تكن موجودة وقت مقارفة الجرم.
أما النصوص التي ارتكن إليها أصحاب الرأي الغالب فلا يراها الأستاذ شيرون قاطعة، ذلك أنهم تمسكوا بما جاء فيها من عبارات مثل (مع علمه بذلك) الخ ولكن كل هذه الـ Adverbes لا تفيد أكثر من اشتراط النية ولكنها لا تفيد وجوب تعاصر النية مع الفعل.
وأما المادة الـ (57) التي تشير إلى وقت ارتكاب الفعل فهي في رأي الأستاذ حجة قوية تدعم رأي من يخالفهم ولكنه يرى أن في تلك المادة عينها ما يعزز رأيه هو ذلك أنها لا تعفى من العقوبة إلا من تناول الخمر (بغير علمه أو بغير رضاه) ومعنى هذا أن من يتناول الخمر عالمًا بتناولها ليتشجع على ارتكاب جريمة انتوى ارتكابها حالة صحوه، لا ينجو من العقوبة رغم أن النية لن تكون معاصرة للفعل، وقد أردف الأستاذ هذا بقوله أنه يعلم أن المحاكم تبرئ في هذا الفرض على أساس انعدام النية [(6)]
ولكنه ينتقد هذا القضاء لأنه يخالف النص الصريح الذي يشترط أن يكون تناول الخمر بغير علمه أو بغير رضائه ثم لأنه يتنافى مع المصلحة الاجتماعية لأن السكر مع سبق الإصرار لا يجوز اعتباره سببًا من أسباب عدم العقوبة في حين تعتبره المادة (92) من القانون الإيطالي ظرفًا مشددًا.
أما دكريتو مايو سنة 1898 فإن الأستاذ يتساءل لماذا لا نعتبره تقريرًا للقاعدة بدل أن نعتبره خروجًا على القاعدة، فهو يفسره على أساس مفهوم الموافقة في حين أن أصحاب الرأي السابق أخذوا بمفهوم المخالفة.
ونلاحظ نحن فوق ما تقدم أن من الممكن أن يقال - من وجهة نظر الأستاذ شيرون - أن المشرع الصمري في الدكريتو المذكور قصر همه على استحداث جريمة جديدة هي إهمال تسليم الشيء المعثور عليه في حين أن نية اختلاسه لم توجد مطلقًا لا عند العثور ولا بعد العثور وقد جعل هذه الجريمة المستحدثة مجرد مخالفة، ثم خشي أن يفهم من هذا خطأ رغبته في تخفيف واقعة أخذ الشيء أو الحيوان بنية - الاحتفاظ به أي اختلاسه يجعلها مخالفة وهي في الأصل جنحة فعمد إلى هذا التنبيه في الفقرة الأخيرة، فالجريمة المستحدثة إذن بهذا الدكريتو ليست هي العثور على شيء ثم طروء نية اختلاسه بعد العثور عليه لأن هذه الواقعة ليست في حاجة إلى تشريع خاص يجعلها جنحة، وإنما الجريمة المستحدثة بالدكريتو هي أخذ الشيء الضائع وإهمال تسليمه للسلطة المنصوص عليها في المادة المعين دون أن يقترن هذا الإهمال بنية اختلاسه.
ثم نلاحظ ثانيًا أن أصحاب هذا الرأي غير السائد كانوا يستطيعون أن يجدوا في موقف الأستاذ جرانمولان ثغرة ذلك أنه ارتأى إدانة من تناول المسكر أو المخدر عمدًا تشجعًا على ارتكاب جريمة ثم ارتكبها فاقد الوعي، فإن هذا الرأي يفهم من الأستاذ شيرون ولكنه يتسق بسهولة مع ما ذهب إليه الأستاذ جرانمولان في تفسير دكريتو 1898.
ثم نلاحظ ثالثًا أن فريقي الباحثين - في استهدائهم بالنصوص - لم يتكلموا عن النصوص الفرنسية والمصرية - الخاصة بحالة الاشتراك اللاحق للجريمة فقد (كان القانون الفرنسي، فوق معاقبة من يعتاد على إيواء المجرمين الذين يقطعون الطرق ويفسدون أمن الدولة باعتباره شريكًا لهم، تقضي بأن من يخفي أشياء مسلوبة أو مختلسة أو مأخوذة بطريق ارتكاب جناية أو جنحة مع علمه بذلك، يعامل معاملة الشريك ي هذه الجناية أو الجنحة (م 51 – 62)، وكان القانون المصري السابق على سنة 1904 يحتوي على أحكام مطابقة لهذه الأحكام الفرنسية ويجعل من إخفاء الأشياء المحصلة من طريق الجناية أو الجنحة اشتراكًا فيها بعد ارتكابها (م 68 – 69).
غير أن هذا النص الخاص بحالة الاشتراك بإخفاء الأشياء كان موضعًا لانتقاد الفقهاء في فرنسا لأنه يترتب عليه تحميل المخفي مسؤولية جريمة وقعت على غير علم منه، دون أن يتفق سلفًا على ارتكابها ودون أن يساهم فيها، ولأنه لا يتصور من الوجهة القانونية البحتة أن يشترك شخص في الجريمة بعد إتمام تنفيذها، لأن الاشتراك يتضمن اتفاقًا سابقًا على الجريمة وقصد التعاون على إحداثها، مع أن المخفي يعاقب كشريك ولو لم يتوفر عنده شيء من ذلك، فإن لم يكن بد من عقابه فلا يحاسب كأنه شريك في الجريمة التي وقعت بل على فعله كجريمة مستقلة، فلما عدل القانون المصري في سنة 1904 كان لهذه المطاعن أثرها عند المشرع فألغى الحكمين السابقين، وهما الاشتراك بالاعتياد على إيواء كبار المجرمين والاشتراك بإخفاء الأشياء المحصلة من طريق جناية أو جنحة، وبذلك قضى على حالة الاشتراك اللاحق للجريمة، وجعل من إخفاء الأشياء جريمة قائمة بذاتها، ولكنها مقصورة على ما جاء من طريق السرقة دون الجرائم الأخرى، (م 322 ع)، وكذلك فعل المشرع الفرنسي بقانون أصدره في 22 مايو سنة 1915 فألغى الاشتراك بإخفاء الأشياء، مع إبقائه النص الخاص بالاعتياد على إيواء المجرمين، واعتبر إخفاء الأشياء جريمة خاصة ولكنه جعلها عامة على الأشياء المحصلة بطريق أي جناية أو جنحة (م – 46 ع. ف) [(7)].
إذن فالقانون الفرنسي والمصري كانا، قبل تعديلهما، يعرفان حالة الاشتراك اللاحق في جريمة فيعتبران شريكًا فيها من لم تكن عنده نية الاشتراك قبل أو وقت ارتكابها ولكن النية الإجرامية ولنسميها تجوزًا نية الاشتراك - وجدت لاحقة على الفعل، ولكن القانونين لم يأخذا بهذا الاشتراك للاحق إلا في جرائم معينة، أفلا يمكن إذن أن نستنتج من هذا، بمفهوم العكس، أن القاعدة هو وجوب توفر نية الاشتراك مصاحبة للجريمة المشترك فيها؟ ثم أن القانونين عدلا من أحكامهما لاستثنائية المشار إليها تحت ضغط الانتقاد الفقهي الذي أومأنا إليه؛ ألا نرى أن هذا الانتقاد يصدر عن عين الأساس الذي يصدر عنه الرأي الغالب في أمر تعاصر النية مع الفعل المادي؟ وهذه الحلول الوضعية التي انتهى إليها القانونان في شأن إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة (أية جناية أو جنحة) في فرنسا وجريمة السرقة فقط في مصر) ألا تدل على أن المشرع عندما أراد تجريم هذا الفعل احتاج إلى نص خاص إذ لم تسعفه المبادئ العامة التي تحتم تعاصر النية والفعل المادي؟
هذا كله من وجهة نظر الرأي الغالب، فهل يستطيع الرأي الآخر أن يجد في هذه المسألة استنادًا له؟ لست أرى هذا إلا أن يفسرها على أساس مفهوم الموافقة Par analogie كما فعل عندما قابل دكريتو سنة 1898 الذي أسلفنا العرض له.

ختام

نرى من العرض المتقدم أن محكمة النقض عندنا لم تفصل في المسألة الرئيسية التي عالجناها ولكنها أتيح لها الفصل في نقطة فرعية حين قضت بأن الواقعة المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو واقعة معاقب عليها أي أن التعاصر غير مطلوب فيها ولو أنها أسست هذا العقاب على القواعد العامة لكان قضاؤها هذا فصلاً في المسألة الرئيسية، ولكن الظاهر أنها قضت بالعقوبة تطبيقًا للدكريتو أي لهذا النص الخاص الذي رأينا كيف تناقض الرأيان في تفسير دلالته بالقياس إلى مسألة التعاصر بوجه عام.
والواقع أن هذا الدكريتو مفتقر إلى تعديل في الصياغة وأن قوله (الجريمة الواردة في القانون) هو تعمية لا ندري مسوغًا لوجودها فهي أشبه بلغة الساسة منها بلغة المشرعين.
وقد آن الوقت أيضًا لكي يتساءل الباحثون هل ينصحون للمشرع بتحديد موقفه من هذه المسألة الكلية مسألة تعاصر النية تحديدًا واحدًا وواضحًا بالقياس أي جميع الجرائم العمدية.
عبده حسن الزيات
المحامي



[(1)] المجلة: لم نقرأ في المعجمات كلمة تعاصر ولا معاصرة بهذا المعنى والأفضل أن يقال ملابسة النية للفعل المادي أو اقترانها به ونوجه النظر إلى أن الهوامش الآتية هي للأستاذ صاحب المقال.
[(2)] هذا عرض إجمالي كان يفتقر إلى مزيد من الدقة والبيان لو أن المقصود في هذا المقال تحديد الركن الأدبي وعناصره والنية الاحتمالية الخ:
ولكنا نرى – مع ذلك – أن نشير إلى المذهب الذي قال بأن المسؤولية الجنائية قد توجد في بعض الجرائم بغير وجود هذا العنصر الشخصي أي بغير وجود عمد وبغير وجود خطأ فهذه.
مسؤولية مادية موضوعية objective صيغة على غرار المسؤولية المادية المشهورة بالمسؤولية الشيئية في القانون المدني Respon. Réelle ومن القائلين بهذا الرأي برنس وقد شيده على أساس من بعض مواد قانون العقوبات أو اللوائح الأخرى التي تعاقب على أمور بغير اشتراط عمد أو خطأ من المتهم: مثل العثور في حقيبة المسافر على أشياء تستوجب رسومًا جمركية ولكن المسافر لم يقرر وجودها.
ولكن هذه النظرية قد قوبلت بالإنكار من مؤلفين كثيرين منهم جارو وجارسون وجرانمولان وشيرون فعندهم أن المسؤولية الجنائية لا تقوم بغير هذا العنصر الأدبي الشخصي فإذا ثبت - في المثل المتقدم - أن الأشياء دست على حقيبة المسافر بغير علمه نجا من المسؤولية الجنائية.
وقد أعود إلى هذه النقطة ببحث أوسع في عدد قادم.
[(3)] لم يفرد أحد لهذه المسألة، مسألة المعاصرة فصلاً خاصًا غير الأستاذ البرت شيرون في دروسه التي ألقاها على طلبة المعهد الجنائي وطلبة دبلوم القانون العام بقسم الدكتوراه بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول - فإذا قلنا الرأي الغالب وأصحابه فإنما نستند إلى أنهم لم يخرجوا على هذا الرأي تسليمًا به، كما نستند إلى أنهم عند الكلام على بعض الجرائم العمدية في القسم الخاص يشيرون إلى قاعدة التعاصر ويشترطونه (مثلاً الأستاذ أحمد بك أمين عند كلامه عن السرقة) ص (643) - والأستاذ زكي العرابي في كتابه عن القسم العام من قانون العقوبات ص (103) عند كلامه عن السكر كسبب لعدم المسؤولية فهو يقول تعليقًا على المادة (57) (أن السكر متى كان تامًا يترتب عليه فقد الشعور ولا يصح معاقبة الجاني في جرائم العمد إلا إذا وجد القصد الجنائي وقت ارتكاب الجريمة).
[(4)] 7 فبراير 1938 – الطعن رقم 589 سنة 8 ق - المحاماة (س 18 - ع 9 - ص 814).
[(5)] وبالتمعن في عبارات محكمة النقض نرى أنها قالت (يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور الخ) – فهل نفهم من هذا أنها تعتبر تلك الواقعة، من جهة التكييف القانوني، سرقة أو أنها تراها جنحة أخرى ليست بسرقة ولكن تطبق عليها مواد السرقة؟ هنا نواجه هذه النقطة الفرعية، نقطة التكييف القانوني للجريمة المذكورة في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو، فإن لجنة المراقبة القضائية قد اعتبرتها مشابهة للسرقة assimilé ولكن الأستاذ شيرون يقول أنه لا داعي لهذه التسوية assimilation لأن الواقعة في رأيه واقعة سرعة النية فيها غير متعاصرة مع الفعل المادي، وهذا نص قوله:

(Suivant mon opinion, il n’y a pas besoin d’assimilation; c’est un vol où l’intention n’est pas concomitante au fait matériel.

أما الأستاذ جرانمولان فهو يرى كما تقدم أن المشرع المصري لم يقصد اعتبار الواقعة سرقة ولا جنحة أخرى، وقد أشار إلى أن بعض القوانين الأجنبية جعلت الواقعة المذكورة جنحة ولكنها لم تجعلها في مرتبة السرقة ثم علق على ذلك بقوله أن هذه الواقعة تستحق العقاب ولكن بأخف من عقاب السرقة لأن السارق يدبر الجريمة أما من يعثر على شيء ثم تطرأ عليه نية الاحتفاظ به لنفسه فالمصادفة هي التي هيأت له الجريمة فهو أقل من السارق خطورة.
[(6)] هذا نص قول الأستاذ:

je sais bien que les tribunaux acquittent dans ce cas , pour défaut p’intcntion. Mais cette jurisprudence me paraît trés contestable.

ويبدو لي أن في قول الأستاذ أن المحاكم تبرئ في هذه الحالة كثيرًا من التعميم لأن بعض الأحكام حكمت بالإدانة وقررت أنه (يشترط لتطبيق المادة (57) من قانون العقوبات أن تكون الغيبوبة التي يستند إليها المتهم لطلب الحكم بأنه غير مسؤول جنائيًا ناشئة عن عقاقير مخدرة أخذها المتهم قهرًا عنه أو على غير علم منه بها) (النقض في 3 - 3 - 1924 - المحاماة (س 5 ص 1).
[(7)] الأستاذ علي بدوي - الأحكام العامة في القانون الجنائي - الجزء الأول ص (322) و (323) وحاشيتيها.