بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

متى يبدأ ميعاد استئناف الحكم الصادر في مواد الجنح باعتبار المعارضة كأن لم تكن

مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الثامنة عشرة1938

بحث
متى يبدأ ميعاد استئناف الحكم الصادر في مواد الجنح باعتبار المعارضة كأن لم تكن

درجت النيابة العمومية على عدم إعلان الحكم الصادر باعتبار المعارضة كأن لم تكن في مواد الجنح إلى المتهم المحكوم عليه بالعقوبة، على اعتبار أن ميعاد استئناف مثل هذا الحكم يبدأ من يوم صدوره فليس ثمة ضرورة لإعلانه، وهى في هذا قد انتحت منحى محكمة النقض والإبرام في حكمها الرقيم 28 نوفمبر سنة 932 المنشور بمجلة المحاماة السنة 13 عدد 7 رقم (404) فقد قرر هذا الحكم أن ميعاد استئناف الحكم الصادر باعتبار المعارضة كأن لم تكن في الجنح يبدأ من يوم صدور، وأنه لذلك لا ضرورة لإعلانه إلى المتهم.
هذا فيه عنت شديد على الناس، إذا أن السواد الأعظم منهم إذا وقع له هذا نراه ينتظر ورود الإعلان إليه حتى يستأنف الحكم.
ولكن المسكين ينتظر عبثًا حتى يفاجئه النبأ بأنه مطلوب لتنفيذ الحكم عليه، وبأن ميعاد استئناف الحكم الصادر عليه قد انقضى لأن هذا الميعاد كان قد بدأ من يوم صدور الحكم، والقانون يجب أن يكون فيه تيسير على الناس، كما أن تطبيق القانون يجب أن يراعى فيه ذلك.
وقد فرغ علماء القانون من القول بأن القانون إنما وضع لكي يخدم المجتمع، وأنه ما وضع لكي يخدمه المجتمع.
وفي رأينا أن محكمة النقض والإبرام لم تصب محجة الصواب في حكمها السالف الذكر. وكذلك النيابة العمومية في انتحائها هذا المنحى، وسنبدأ بحثنا في هذا بتصوير هذه الحالة في دعوى، ثم نتبعه بأحكام المحاكم في هذا الموضوع، ثم نعقب على ذلك بالبحث.

تصوير الحالة في دعوى
في قضية أمام الجنح المستأنفة

دفعت النيابة العمومية بعدم قبول الاستئناف المقدم من المتهم شكلاً، لرفعه بعد الميعاد، إذا أن المتهم صدر عليه الحكم بالعقوبة من محكمة أول درجة غيابيًا، فعارض فيه، ولم يحضر بجلسة المعارضة فحكم باعتبار المعارضة كأن لم تكن، ومضى بعد ذلك عشرة أيام لم يستأنف المتهم في بحرها، ثم استأنف أخيرًا.
فتقول النيابة إن ميعاد الاستئناف في رأيها يبدأ من يوم صدور الحكم باعتبار المعارضة كأن لم تكن ولذلك فلا ضرورة لإعلان الحكم المذكور إليه.
وحيث إن المتهم لم يستأنف في بحر العشرة أيام التالية لصدور الحكم بل استأنف بعد انقضائها بمدة فاستئنافه غير مقبول شكلاً.
هذا القول من النيابة العمومية لا نقرها عليه، ونرى أنه من اللازم إعلان الحكم الصادر في المعارضة، سواء صدر هذا الحكم فاصلاً في الموضوع أو حاكمًا باعتبار المعارضة كأن لم تكن، ثم نرى أن ميعاد استئناف هذا الحكم لا يبدأ إلا من يوم إعلانه إلى المتهم، وما دام أن هذا الإعلان لم يحصل فميعاد الاستئناف يظل مفتوحًا أمام المتهم ولذلك يكون استئناف المتهم في ميعاده ومقبولاً شكلاً، ويتعين بذلك رفض الدفع المقدم من النيابة العمومية.

أحكام المحاكم

أحكام المحاكم متضاربة حول استئناف الحكم الصادر في الجنح باعتبار المعارضة كأن لم تكن وبدء ميعاد استئنافه.
لقد كانت الأحكام في السابق تذهب مذهب النيابة هنا بأن ميعاد الاستئناف إنما يبدأ من يوم صدور الحكم المذكور.
انظر حكم النقض الأهلي في 2 نوفمبر سنة 1901 مج 3 عدد 78.
وانظر حكم النقض الأهلي في 2 إبريل سنة 1912 بالحقوق 28 صـ 29.
وانظر حكم النقض الأهلي في 23 يوليه سنة 1914 مج 15 عدد 116.
وانظر حكم النقض الأهلي في 29 نوفمبر سنة 1918 مج 21 عدد 17.
وانظر حكم النقض الأهلي في 4 ديسمبر سنة 1923 محاماة 4 عدد 557.
وانظر حكم النقض الأهلي في 23 ديسمبر سنة 1926 مج 29 عدد 6.
ثم عدلت الأحكام عن هذا الرأي.
واستقرت مدة طويلة على أن الحكم المذكور لا يبدأ ميعاد استئنافه إلا من تاريخ إعلانه وهو ما نقول به.
انظر حكم النقض الأهلي في 7 مايو سنة 1923 مج 26 عدد 62.
وانظر حكم النقض الأهلي في 5 أكتوبر سنة 1925 محاماة 7 عدد 7.
وانظر حكم النقض الأهلي في 4 يناير سنة 1927 محاماة 7 عدد 486.
وانظر حكم النقض الأهلي في 7 مارس سنة 1927 محاماة 8 عدد 113.
وانظر حكم النقض الأهلي في 11 إبريل سنة 1927 محاماة 8 عدد 210.
وانظر حكم النقض الأهلي في 1 نوفمبر سنة 1927 محاماة 8 عدد 502 ومج 29 عدد 48.
وانظر حكم النقض الأهلي في 2 يناير سنة 1930 محاماة 10 عدد 208.
وانظر حكم النقض الأهلي في 23 يناير سنة 1930 محاماة 11 عدد 3.
ولبثت الأحكام مستقرة على هذا المبدأ إلى سنة 1932.
ففي 28 نوفمبر سنة 1932 أصدرت محكمة النقض حكمًا عدلت به عن هذا ورجعت إلى الرأي القديم بأن ميعاد الاستئناف يبدأ من يوم صدور الحكم (انظر المحاماة سنة 13 العدد السابع رقم 404).
وأصدرت حكمًا آخر بهذا المعنى في 20 فبراير سنة 1933.
(انظر المحاماة سنة 13 العدد العاشر صـ 1182).
وفي هذا الحكم الأخير لم تبحث هذه المسألة بل أحالت في الأسباب على الحكم السابق. ولاستيفاء القول هنا نلفت النظر إلى أن محكمة النقض بحكم صادر منها في 25 يناير سنة 1932 بالمحاماة 13 العدد 1 رقم (4) قررت هذا الرأي، ولكن بحثها كان خاصًا بميعاد الطعن بطريق النقض في حكم صادر من محكمة الاستئناف باعتبار المعرضة كأن لم تكن، وهذا ما يخالف نوعًا ما نحن بصدده.
لذلك نستطيع القول بأن عدول محكمة النقض بحكمها الأخير عن الرأي الذي كانت مستقرة عليه مدة طويلة، هو عدول لم يحز صفة الاستقرار، إذا أن صدور حكم واحد أو اثنين في رأي لا يفيد استقرار القضاء على هذا الرأي، فالمسألة إذا لم تزل محلاً للبحث.
ولكي نبسط البحث بوضوح، يلزمنا أن نلقي الضوء على سائر مناحيه، وذلك بأن نبدأ بذكر أربع حقائق لا بد منها، وهى حقائق يجب التسليم بها قانونًا كما سنرى.

الحقيقة الأولى

إن الحكم الصادر باعتبار المعارضة كأن لم تكن هو حكم غيابي:
لأن العبرة في اعتبار الحكم حضوريًا أو غيابيًا إِنما هي بحضور المتهم أو غيابه بالجلسة التي تنظر فيها الدعوى وتتم محاكمته فيها، وعلى هذا الإجماع فقهًا وقضاءً.
(انظر المبادئ الأساسية للتحقيقات والإجراءات الجنائية لزكي بك العرابي جزء 2 صـ 301.
وانظر حكم محكمة النقض بالمحاماة 11 عدد 5 صـ 511).
وحتى في حالة وصف الحكم بأنه حضوري فما دام أنه في الواقع لم يكن هناك حضور فالحكم يعتبر غيابيًا.
(انظر استئناف مصر في 5 يناير سنة 1932 بالمحاماة 12 عدد 10 صـ 994).

الحقيقة الثانية

الآن وقد تقرر بأن هذا الحكم يعتبر حكمًا غيابيًا.
فمما لا شك فيه أن المفروض أن المحكوم عليه لا يعلم به بمجرد صدوره، والقول بخلاف هذا لا يستقيم مع مطلقًا ما تقرر من أن هذا الحكم إنما هو حكم غيابي، أما قول محكمة النقض في حكمها الرقيم 28 نوفمبر سنة 1932 المشار إليه في آنفًا كما يأتي:
(… إن من يحكم عليه غيابيًا لأول مرة ثم يعلن إليه الحكم فيعارض فيه فإن القانون أوجب أنه عند معارضته تحدد لنظر دعواه أقرب جلسة ويكلف بالحضور فيها، فهو عند المعارضة يعلم علمًا شخصيًا بالجلسة التي ستنظر فيها معارضته، فإن لم يحضر فيها فهو يعلم أن معارضته ستعتبر كأن لم تكن… إلخ).
هذا القول من محكمة النقض في حكمها السابق الإشارة إليه لا نستطيع مطلقًا أن نوافقها عليه.
لأنه مخالف فيما قرره كل المخالفة للواقع ومخالف أيضًا للقانون، وبيان ذلك.

مخالفته للواقع

الواقع أن المحكوم عليه ولو أنه يعلم بيوم الجلسة التي ستنظر فيها المعارضة إذ أنها تحدد يوم عمل المعارضة وينبه عليه بها طبقًا لنص المادة (163) تحقيق الجنايات التي تقول إن المعارضة تستلزم حتمًا التكليف بالحضور، ولو أنه يعلم ذلك إلا أنه لا يعلم ما يأتي به الغد ولا يسوغ أن نطلب منه أن يعلم ذلك، فهو لا يعلم إن كان سيحضر يوم الجلسة أو يحول بينه وبين ذلك عاد من العوادي، ولا يعلم في حالة غيابه عن الجلسة ماذا عساه يكون، والقول بخلاف ذلك تحميل للواقع بأكثر مما ينبغي، ثم كيف يستقيم منطقيًا القول بعلم شخص بحكم عليه، صدر في غيبته.

مخالفته للقانون

من المبادئ الأساسية في القانون أن الفرد مفروض فيه العلم بالقانون، فليس له أن يحتج بجهله بالقانون. (انظر لائحة ترتيب المحاكم).
ولكن هل مفروض في الفرد العلم بقضاء القاضي.. كلا ثم كلا.
إن الذي نحن هنا بصدده هو قضاء من القاضي باعتبار المعارضة كأن لم تكن، هو حكم صدر بهذا.
والعلم بالأحكام ليس مفروضًا على كل فرد كالعلم بالقانون.
فقول محكمة النقض إن المعارض إن لم يحضر فهو يعلم بأن معارضته ستعتبر كأن لم تكن، هو في الواقع تحتيم على الأفراد بما لم يفرضه القانون.
هو تقرير قاعدة لا وجود لها تخالف القواعد الموجودة المقررة.
هو تسوية بين العلم بالقانون والعلم بقضاء القاضي، وشتان بين الاثنين.

الحقيقة الثالثة

الآن وقد تقرر أن هذا الحكم هو حكم غيابي، وتقرر أن المفروض أن المحكوم عليه لا يعلم به، فمن القواعد الأساسية أنه لا يجوز تنفيذ حكم على محكوم عليه إلا بعد إعلامه به.
تقرر هذا في عدة مواضع في القانون (المواد (112) و(384) مرافعات أهلي ومن مفهوم جميع القوانين والشرائع)، فإذا كان المحكوم عليه حاضرًا فطريقة إعلامه هي النطق بالحكم، وإذا كان غائبًا فهي إعلانه بالحكم.

الحقيقة الرابعة

ويعتبر المحكوم عليه الذي كان غائبًا عالمًا بالحكم في يوم وصول الإعلان إليه.
هذه هي الحقائق الأربع التي أردنا إثباتها بادئ ذي بدء، ولنأخذ في متابعة البحث.
أفضت بنا هذه الحقائق الأربع المتقدمة إلى أن الحكم الصادر باعتبار المعارضة كأن لم تكن هو حكم غيابي، مفروض فيه أن المحكوم عليه لا يعلم به بمجرد صدوره ولذلك يجب إعلانه.
فمن وصول الإعلان إلى المحكوم عليه تبدأ إجراءاته إزاء هذا الحكم، فتبدأ مواعيد الطعن فيه.
وبحسبان أن هذا الحكم هو حكم غيابي، فأول ما يطرأ على الذهن هو الطعن بالمعارضة فيه ولكنه يصطدم هنا مع المبدأ القائل بعدم جواز المعارضة في حكم مرتين.
(انظر المادة (339) مرافعات أهلي).
إذا فقد أمحى أمامه إمحاء طريق المعارضة، في هذا اليوم وبعبارة القانون تكون المعارضة غير مقبولة من ذلك اليوم.
هنا يتدخل نص المادة (177) تحقيق الجنايات إذ يقول إنه من هذا اليوم من اليوم الذي لا تكون فيه المعارضة مقبولة يبتدئ ميعاد الاستئناف فأمام المحكوم عليه الاستئناف، ويبتدئ ميعاده على ذلك من يوم الإعلان، هذا هو الذي هو الوضع الطبيعي لتفسير المادة (177) تحقيق فقرة (2)، وهو يتمشى تمامًا مع مبادئ القانون الأساسية.
ولو كان الشارع يقصد حقًا أن يكون بدء استئناف هذا الحكم هو يوم صدوره لكان نص على هذا صراحةً ولكنه لم يفعل، بل استثناه من الحالة التي فيها يبدأ الميعاد من يوم صدور الحكم فقال (إلا في حالة صدوره غيابيًا فلا يبتدئ فيما يتعلق بالمتهم إلا من اليوم الذي لا تكون فيه المعارضة مقبولة).
وقد سلمنا فيما سبق أن هذا اليوم هو يوم إعلان المتهم وليس هو اليوم الذي صدر فيه الحكم. إن المواعيد يجب أن يذكرها الشارع دائمًا بعيدة عن كل إيهام، إذ ليس قصد الشارع بتشريعه إعنات الناس والتعمية عليهم، بل التيسير، والتبيين لهم، فلماذا نخرج الأمر الواضح إلى غموض ولبس، لقد كان الحال كذلك بالنسبة للمخالفات إذ كان نص المادة (154 ت ج) الخاصة بالمخالفات مماثلاً لنص المادة (177 ت ج) الخاصة بالجنح، أي تنص على أن ميعاد استئناف المخالفات يبدأ من اليوم التالي لصدور الحكم المستأنف إذا كان الحكم بمواجهة الخصوم وأما إذا كان الحكم غيابيًا فيبدأ من اليوم التالي لانقضاء ميعاد المعارضة.
وهذا النص الخاص بالمخالفات كان موضوعًا في قانون تحقيق الجنايات في سنة 1904 مثله في ذلك نص المادة (177) تمامًا في هذا الصدد، ولكن المشرع رأى بعد ذلك فيما يختص بالمخالفات أن يكون بدء ميعاد الاستئناف في الأحكام الصادرة في المعارضة فيها هو اليوم التالي ليوم صدور الحكم فعمد إلى تعديل نص المادة (154) المذكورة بمرسوم القانون (20) سنة 1928، ونص صراحةً في هذا التعديل على أن الاستئناف يكون في ظرف العشرة أيام التالية لتاريخ النطق بالحكم الصادر في غيبة المعارض أو الحكم بحضوري. إلخ
فسوى هنا بين هذا الحكم والحكم الحضوري من حيث بدء ميعاد الاستئناف في المخالفات بهذا التعديل بالذات الأمر الذي يريده بالنسبة للجنح حكم محكمة النقض السالف الذكر والقائلين بنظرية النيابة بغير نص عليه.
فلو كان قصد الشارع أن يكون الحال كذلك فيما يختص بالجنح فما كان أسهل عليه أن يعدل نص المادة (177) كما عدل المادة (154)، ولكنه لم يفعل هذا في ذاته دليل على أنه لا يقصد ذلك، وأن ما ذهب إليه حكم محكمة النقض بأن بدء ميعاد استئناف الحكم الصادر باعتبار المعارضة كأن لم تكن في الجنح هو من يوم صدور الحكم مخالف لما قصد إليه الشارع.
والغريب أن حكم محكمة النقض المذكور قد عكس آية المفهوم من ذلك حين ذكر تعديل المادة (154) في مجال التدليل، فقال إن (هذا التعديل الصريح الدلالة هو إذن ترجمة مضبوطة لنص الفقرة الثانية من المادة (177) وكأنه بيان غير مباشر لغرض الشارع منها).
ولا أدري كيف يستقيم هذا أو كيف يقال عن أمر لم يذكره المشرع في موضع بل ذكره في موضع آخر ولحالة خاصة أنه بيان غير مباشر لعرضه في الموضع الذي لم يذكره فيه.
إن المشرع إذا ذكر أمرًا يذكره عن قصد، وإذا أغفل أمرًا فهو يغفله عن قصد وهو قد لجأ إلى التعديل بالنسبة للمخالفات، وأغفل التعديل بالنسبة لمواد الجنح هذا لأنه يريد أن يكون الحال في المخالفات غيره في الجنح، وهذا واضح ثم أنه معقول أيضًا نظرًا للفوارق القانونية العديدة بين الجنح والمخالفات من جهة العقوبات والسوابق، ومن جهة أن المخالفات أقل خطرًا وأهمية من الجنح وأن الواجب أن يفصل فيها على وجه السرعة.
فلو كان الشارع رأى أن نص المادة (154) قبل التعديل يحتمل التأويل الذي يذهب إليه أصحاب نظرية بدء ميعاد الاستئناف من يوم صدور لما كان لجأ إلى تعديل هذه المادة، فنص المادة (177) الذي يماثل نص المادة (154) في هذا الصدد قبل تعديل الأخير يراه المشرع دون شك غير مساعد لأصحاب هذه النظرية على تأويلهم وهو لم يفد له كما عدل مثيله.
فهذا دليل على أن الشارع لا يريد له هذا التأويل وأن هذه النظرية بالنسبة لنص المادة (177) لا تدخل في قصده.

حجة لأصحاب رأينا لا نسلم بها

ورغبةً في استيفاء البحث ليس غير، نذكر هنا حجة لأصحاب الرأي الصحيح في نظرنا السالف بيانه وهي قولهم إن نص المادة (177 ت ج) فقرة (2) لا شأن له بالأحكام الغيابية الصادرة في المعارضة بل هو إنما وضع ليتناول الصورة العادية وهي صورة من يحكم عليه غيابيًا فيفوت على نفسه ميعاد المعارضة التي له هو حق فيها فجاء النص مؤذنًا بأن ميعاد الاستئناف يبتدئ من يوم صيرورة المعارضة غير مقبولة أي لانتهاء ميعادها.
(انظر الموسوعة الجنائية لجندي بك صـ 572 ج 2).
هذه الحجة في ذاتها لا نوافقهم عليها، مع تسليمنا طبعًا بصحة النظرية التي يدافعون عنها لما سبق بيانه لأن هذا في الواقع تخصيص بغير مخصص.
ولأن الشارع عند إصداره قانون تحقيق الجنايات بالأمر العالي الرقيم 14 فبراير سنة 1904 والذي فيه وضع نص الفقرة الثانية من المادة (133) لأول مرة وهو النص القائل باعتبار المعارضة كأن لم تكن إذا لم يحضر المعارض، وضع فيه نص المادة (177) نفسه الذي كان بنصه في القانون القديم قانون سنة 1883 الذي استعيض عنه بقانون سنة 1904 فهذا النص حتمًا هو نص شامل.
هو نص عام شامل فلا يصح الاستثناء منه بغير نص.

محمد زكي نصر المحامي
ببني سويف

إدارة قضايا الحكومة ماضيها ونظامها ومستقبلها

مجلة المحاماة - العدد الثامن والتاسع
السنة الرابعة - مايو ويونيه 1924

إدارة قضايا الحكومة ماضيها ونظامها ومستقبلها
محاضرة ألقاها جناب المسيو بيولا كازللي المستشار الملكي لرئاسة مجلس الوزراء ورئيس لجنة قضايا الحكومة [(1)]
معربة بقلم حضرة الأستاذ يوسف بك قسيس النائب بقسم قضايا الداخلية

أيها السادة:
علم أحد أصدقائي بموضوع محاضرتي هذه فسألني قائلاً: أيترافع قلم القضايا عن قلم القضايا ؟ أو كما جاء في الأمثال الرومانية (يدافع شيشرون عن أهل بيته ؟!!!) [(2)].
وفي الواقع أن هذه الملاحظة فيها شيء من الحق لأني سأتكلم حتمًا عن الخدمات التي أدتها أقلام القضايا وتؤديها الآن لمصلحة الحكومة، ولكن الغرض الأساسي الذي أتوخاه من هذه المحاضرة إنما هو سد نقص بدا لي في مباحث القانون الإداري المصري، ذلك لأني لم أجد حتى هذه اللحظة بحثًا أو على الأقل تقريرًا رسميًا عن نظام أقلام قضايا الحكومة، ويلوح لي أن هناك فائدة إن لم أقل ضرورة في الفترة السياسية الحاضرة من إحاطة الرأي العام علمًا بنظام هذه المصلحة، أو بعبارة أخرى رأيت من الواجب إرشاد القابضين على أزمة الأمور إلى كيفية تسيير هذا الفرع الذي يمكن اعتباره أداة مهمة في دولاب الحكومة، وعلى كل حال فأني استسمحكم عذرًا عن شدة تعلقي بهذه المصلحة العريقة التي أراني مخلصًا لها كل الإخلاص.
أولاً: نشأة إدارة قضايا الحكومة:
كانت سنة 1875 وكانت حكومة الخديو إسماعيل في ذلك العهد قد تمكنت بعد جهاد ثماني سنوات من التغلب على المعارضة وعلى العقبات السياسية التي كانت تضعها في طريقها الدول صاحبة الامتيازات.
وفي 28 يونيو من تلك السنة احتفل سمو الخديو بافتتاح المحاكم المختلطة في سراي رأس التين الفخمة بالإسكندرية وبذلك وضع أساس من أسس مدنية مصر الحديثة التي سجلها التاريخ.
وما كاد صدى هذا الاحتفال يغيب عن الأذهان حتى استدعت الحكومة الخديوية إلى مصر أربعة من المتشرعين الأجانب لوضع أساس نظام آخر هو نظام لجنة مستشاري الحكومة بقصد تكميل نظام المحاكم المختلطة وأني أرغب في تسجيل أسماء المؤسسين لإدارة قضايا الحكومة وهم:
أولاً: المسيو كازمير أرا (Casimir Ara) أحد النواب سابقًا ووكيل وزارة في إيطالية.
ثانيًا: المسيو إداورد كلبر (Edward Kelber)المحامي والعضو في الحزب الإيطالي المستقل عن دالماسيا.
ثالثًا: المسيو أنطوان ماري بيتري (Antoine - Marie Pitri) القاضي في قنصلية فرنسا سابقًا والمندوب الفرنسي في اللجنة الدولية التي تشكلت سنة 1869 لتأسيس المحاكم المختلطة وقد كان للمسيو بيتري المذكور وللمسيو كازمير أرا اليد الطولى في تنظيم إدارة قضايا الحكومة.
رابعًا: المسيو هونوريه أوغست بونييه (Honoré Auguste Pougnet) الأفوكاتو العمومي أمام محكمة النقض والإبرام بباريس الذي انسحب بعد زمن قليل.
وقد عين هؤلاء الأربعة بصفة مؤقتة في سنة 1875، وفي يناير سنة 1876 أي في الفترة التي انقضت بين حفلة افتتاح المحاكم المختلطة وبين انعقاد جلساتها الأولى صدر دكريتو خديوي تاريخه 27 من الشهر المذكور قضى بتأييد تعيين هؤلاء المستشارين وبتحديد اختصاصات اللجنة.
وديباجة هذا الدكريتو لا تخلو من الفائدة التاريخية، وقد تنوه فيها بالقضايا التي كانت معلقة بين الحكومة والأجانب وهي التي كلفت اللجنة بفحصها.
على أن السبب الخاص الذي دعا إلى إنشاء تلك الهيأة الجديدة كان أبعد مدى وشاملاً للمستقبل والماضي معًا.
هذا السبب يرجع إلى تطبيق المادة العاشرة من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة لأنها قضت بأن الحكومة ومصالحها ودوائر سمو الخديوي وأفراد عائلته يكونون خاضعين لقضاء هذه المحاكم في المنازعات مع الأجانب.
والحق يقال إن المحاكم المختلطة ولو أنها تأسست على نظام مأخوذ جوهره من القانون الفرنسي إلا أنها اضطرت أن تحيد عن هذا القانون فيما يتعلق بالمنازعات بين الحكومة المصرية والأجانب، وقد استعيض عن النظام الفرنسي الذي يقضي بإيجاد محاكم إدارية بالنظام الإيطالي الذي يقضي بطرح مثل هذه المنازعات أمام المحاكم العادية، وقد تحددت هذه الطريقة في المادة (11) من لائحة الترتيب، وهذه المادة مستمدة من القانون الإيطالي الصادر في 20 مارس سنة 1865، وبذلك أصبحت هذه المحاكم المشكلة من قضاة أغلبهم أجانب ترشحهم الدول صاحبة الامتيازات مختصة بالفصل في القضايا القائمة بين الحكومة المصرية والمصالح ودوائر سمو الخديو وأفراد عائلته وبين الأجانب التابعين للدول المشار إليها، ولا يصعب علينا والحالة هذه أن نتبين مخاوف الحكومة وقتئذٍ من حيث نتيجة تلك المنازعات، فكان من الطبيعي أن تقدر الحكومة أهمية الدفاع عنها أمام القضاء المختلط وخطورة هذا الدفاع.
ويقيم من ثنايا ديباجة دكريتو سنة 1876 إن الدوائر الرسمية كانت توجس خيفة من الحالة الجديدة فقد جاء في هذه الديباجة ما يأتي:
وحيث إن الحكومة أصبحت بمقتضى (المادة العاشرة) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة، خاضعة للمحاكم الجديدة في معاملاتها القضائية مع الأجانب وأنه يتعين أن يكون الدفاع عنها أمام هذه المحاكم قائمًا على أساس متين.
وحيث إنه قد أنشئت لجنة لهذا الغرض مشكلة من كل من المسيو كازمير أرا والمسيو، إدوارد كلبر والمسيو أنطوان ماري بيتري، والمسيو هونوريه أوغست بونييه.
وحيث إنه في إدارة صوالح الحكومة القضائية لا يقل أمر اجتناب القضايا أهمية عن الدفاع فيها إذا لم يمكن اجتنابها.
وحيث إنه والحالة هذه يتعين تكليف مستشاري الحكومة علاوة على الاستشارات بالحضور عن الحكومة أمام المحاكم والدفاع عنها في القضايا إلخ.
وإذ قد أصبحت السلطة التنفيذية خاضعة للسلطة القضائية في الأمور الماسة بحقوق الأفراد زعمًا أو حقًا بسبب عمل من أعمال الإدارة فصار من الضروري إيجاد هيأة مشابهة للنظام الإيطالي المعروف باسم avvocatura erariale يعهد إليها في الدفاع عن الحكومة أمام القضاء.
وبالنظر إلى المستوى العالي الذي وضعت فيه المحاكم المختلطة وإلى تشكيلها الدولي وإلى الصعاب الناشئة عنه اضطرت الحكومة إلى وضع هيأة الدفاع عنها في مرتبة معادلة وإلى جعل تشكيلها مماثلاً لتشكيل المحاكم التي كلفت هذه الهيئة بالمرافعة أمامها.
ويؤخذ في الواقع من نصوص الدكريتو ومن قرار تنفيذه الصادر في ذات التاريخ من وزير الحقانية (رياض باشا) بمقتضى أمر كريم من سمو الخديو كما يؤخذ من قيمة المرتبات المخصصة لمستشاري الحكومة إن هؤلاء المستشارين جعلوا مماثلين من حيث الدرجات والمرتبات لمستشاري محكمة الاستئناف المختلطة وهم الذين كانوا في ذاك العهد في أعلى درجات الوظائف العمومية بعد الوزراء.
وقد كان هؤلاء المستشارون الأجانب يوظفون كقضاة المحاكم المختلطة بعقد لمدة خمس سنوات وهي المدة المحددة للمحاكم المذكورة وكانوا كالقضاة أيضًا يحضرون الجلسات بالاسطمبولية والطربوش والشارات الرسمية أعني الوسام والرصيعة [(3)]
ولم تقف الحكومة عند هذا الحد فقد جاء في ديباجة الدكريتو الصادر في سنة 1876 ما يأتي:
وحيث إن مستشاري الحكومة لا يتسنى لهم القيام بما عهد إليهم من الأعمال بصفة مرضية إلا إذا كان يعطي لهم ملء الاستقلال الشخصي.
وحيث إنه يتعين إذن جعل لجنة المستشارين هيأة مستقلة إلخ لذلك فصلت اللجنة عن الإدارة الحكومية العامة وجعلت هيأة مستقلة تحت إدارة وزير الحقانية [(4)]، وكانت تخاطب الوزارات ومصالح الحكومة بوساطة هذا الوزير، أما الهيئات القضائية فقد كانت اللجنة تخاطبها مباشرةً [(5)].
وكانت اللجنة حائزة لأتم ما يكون من الاستقلال من وجهة أعمالها الداخلية فكان يرأسها أحد المستشارين شهريًا وبالتناوب [(6)]، وهذا الرئيس كان يمضي المكاتبات ويراقب توزيع الأعمال وكان له بوجه عام أن يتخذ الإجراءات اللازمة لتنظيم أعمال الإدارة [(7)]، على أن الرئيس لم يكن له حق التقدم على زملائه ولم يكن له حق إبداء الرأي في قرارات اللجنة إلا في حالة تساوي الأصوات [(8)].
وقد وضع نظام دقيق يكفل لكل مستشار حرية تصرفه الشخصي مع المحافظة على التضامن بين الجميع، فكل مستشار كان مقررًا للمسألة التي كانت تحال عليه، وإذا كانت المسألة من النوع القضائي أو كان موضوعها إحدى القضايا القديمة التي كانت مرفوعة بواسطة القنصليات فالمقرر كان يحرر صيغة الرأي المتفق على إبدائه بعد المداولة مع باقي المستشارين وكان يوقع عليه مع الرئيس [(9)].
أما إذا لم تكن المسألة من النوع القضائي فكان الرأي يحرر بمعرفة المقرر ويوقع عليه من أعضاء اللجنة جميعًا [(10)]، وفي حالة ما يكن الرأي بالإجماع فقد كان محتمًا ذكر رأي الأقلية في المحضر مع بيان الأسباب التي ارتكنت عليها [(11)].
ولما كان يقتضي الحال متابعة إحدى المسائل أمام اللجان أو المحاكم أو محكمة الاستئناف فكان المقرر يكلف بها ولكن زملاءه كانوا يقومون بمساعدته في الجلسة في كافة الأحوال التي كان يرى فيها ضرورة هذه المساعدة بالنسبة لظروف القضية، وبعد أن تحصل مداولة خاصة في الأمر [(12)]، وكان مصرحًا للجنة أن تستعمل في المكاتبات الرسمية اللغة الفرنسية أو اللغة الإيطالية [(13)]، ولم يكن اختصاص أعضاء اللجنة يقف عند حد المرافعة عن الحكومة أمام المحاكم بل أنهم كانوا المحامين المستشارين للحكومة كما كانوا محاميها المترافعين.
والمادة الثانية من دكريتو سنة 1876 تقضي في هذا الصدد بأن اختصاصات أعضاء اللجنة كهيئة استشارية هي إبداء آراء مبنية على الأسباب القانونية المحضة بشأن وثائق الالتزامات والعقود ومقاولات الأشغال العمومية وغيرها مما يرتبط بمصالح الدولة المالية ويكون مدعاة للتقاضي وبوجه عام بشأن أي مسألة أخرى ترى الحكومة عرضها عليها لأجل درسها.
وبالرغم من أن هذه الاختصاصات كانت واسعة بهذا المقدار فإن موظفي اللجنة كانوا قليلين جدًا فاللجنة لم يكن لها من المساعدين سوى نائب أو اثنين مكلفين على الأخص بمتابعة الإجراءات أمام المحاكم [(14)]، وكذلك لم يكن للجنة من العمال الإداريين والكتبة سوى سكرتير وسكرتير مساعد وبعض المستخدمين [(15)]، وكان من المحتم أن النواب أيضًا يكونون من الأجانب الحائزين للشروط القانونية الواجب توفرها في بلادهم للمرافعة أمام المحاكم أو للتوظف في القضاء [(16)].
وإذا شئتم أن تكونوا لكم فكرة محسوسة عن الدائرة الضيقة التي كانت تعمل فيها تلك اللجنة القديمة فما عليكم إلا التوجه إلى وزارة الحقانية فإنكم تجدون على يسار المدخل في حديقة الوزارة بناءً صغيرًا لا يزال باقيًا إلى الآن وفيه بعض حجرات قليلة وهذا البناء كان مقر لجنة مستشاري الحكومة من سنة 1876 لسنة 1880.
ثانيًا: إدارة قضايا لحكومة في سنة 1924:
مضى نصف قرن والشجيرة مدت جذورًا عميقة ضخمة، وقد نمت نموًا عظيمًا، ونبتت لها فروع متعددة، ولا أظن مصلحة من مصالح الحكومة نمت مثل هذا النمو الهائل وهاكم بعض إحصائيات وبعض بيانات:
إن إدارة قضايا الحكومة مكونة اليوم من ثمانية مستشارين ملكيين وخمسة مستشارين ملكيين مساعدين وسبعة نواب أول وأحد عشر نائبًا وستة وأربعين محاميًا وأربعين مندوبًا والإدارة تشمل أيضًا فئة من العمال الكتابيين لا يقل عددهم عن تسعة وستين مستخدمًا وميزانية إدارة القضايا كما يتضح من أرقام سنة 923 - 924 مقدرة بمبلغ 90799 جنيهًا مصريًا.
وفي سنة قضائية واحدة هي سنة (1922 - 1923) مثلت إدارة القضايا المصالح العمومية أمام المحاكم في 9362 قضية منها 1179 قضية أمام المحاكم المختلطة و8183 قضية أمام المحاكم الأهلية.
أما العمل القانوني الإداري الذي قامت به إدارة القضايا من تحضير العقود أو مراجعتها من حيث الشكل القانوني ومن إبداء الفتاوى للمصالح فلا يقل عن العمل القضائي بل ربما زاد عليه، وليس في وسعي إعطاء إحصائيات كاملة واضحة ولكن رغبةً في أن يكون لديكم فكرة تقريبية عن هذا النوع من العمل أقول إن أقلام القيد في أقسام القضايا السبعة وفي نيابة قضايا الإسكندرية تقيد سنويًا مكاتبات لا يقل عددها عن المائة وخمسين ألفًا بين صادرة وواردة، ودفترخانات هذه الأقسام تنشئ سنويًا من عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف دوسيه وهذه المجموعات الهائلة من الأوراق ثلثاها على الأقل نتيجة العمل القانوني الإداري الذي حدثتكم عنه، ومئات الآراء القانونية التي تصدر يومًا من أقسام قضايا الحكومة لا تستدعي كلها طبعًا علمًا وبحثًا كبيرين ولكنها تشرف من الوجهة القانونية على الأعمال التي تقوم بها كافة فروع الحكومة كبيرها وصغيرها من رئاسة مجلس الوزراء إلى أصغر فرع إداري في أصغر قرية من قرى القطر.
أما العمل الذي يمكن التعبير عنه من الوجهة الفنية بأنه عمل تشريعي أعني تحضير مشروعات القوانين والمراسيم والقرارات واللوائح والمنشورات أو مراجعتها فهو أيضًا عمل جسيم جدًا، وليس في وسعي هنا أن أقدم لكم إحصائيات كاملة ويكفي أن أذكر بأن اللجنة التشريعية في سنة 1922 - 1923 قد فحصت أو راجعت خمسة وخمسين من مشروعات القوانين والمراسيم والقرارات، فضلاً عن مشروعي الدستور وقانون الانتخاب، مع العلم بأن هذا العمل لا يقدر على الأرجح بربع العمل التشريعي في إدارات قضايا الحكومة، لأن عددًا وافرًا من المشروعات الأقل أهمية لا تطرح على اللجنة التشريعية، وقد نتج عن ازدياد اختصاصات لجنة قضايا الحكومة وتكاثر العمل فيها إن اتسعت الحدود التي رسمت في الأصل لهذه اللجنة، ولو أن صورتها الأولى بقيت على ما هي عليه، فلجنة قضايا الحكومة لا زالت موجودة ولكن أعضاءها أصبحوا وكل منهم يدير قسمًا مستقلاً اختص بالأعمال القضائية لوزارة أو أكثر، ومركز هذا القسم غالبًا في إحدى الوزارات وأقسام القضايا الحالية هي:
1 - قسم قضايا وزارات المالية والمعارف والزراعة.
2 - قسم قضايا الداخلية.
3 - قسم قضايا الحقانية.
4 - قسم قضايا الخارجية.
5 - قسم قضايا الأشغال والحربية.
6 - قسم قضايا المواصلات.
7 - قسم القضايا المختلطة.
8 - نيابة قضايا الحكومة بالإسكندرية وهي تعادل في الأهمية أحد الأقسام المذكورة ويشغل أحد المستشارين الملكيين منصب المستشار لرئاسة مجلس الوزراء وهو بصفة مستديمة رئيس للجنة قضايا الحكومة.
والقانون نمرة (1) لسنة 1923 الذي نظم أخيرًا أعمال قضايا الحكومة يقضي في المادة الثالثة منه بأن تكون إدارة قضايا الحكومة هيأة واحدة ملحقة بوزارة المالية.
وهذا القانون قد حدد اختصاصات كل من المستشارين ولجنة القضايا ورئيسها بالكيفية الآتية:
كل قسم يديره مستشار ملكي [(17)] على أن لجنة قضايا الحكومة تتولى المراقبة والإشراف على موظفي إدارة القضايا وعلى أعمالهم [(18)]، وبذلك انتهى تتبع لجنة القضايا لوزير الحقانية وأصبحت مستقلة تمام الاستقلال، واللجنة مختصة أيضًا بالإفتاء في الأمور الآتية:
1 - في كل مسألة يرى أحد الوزراء استفتاءها فيها بالنظر لأهميتها أو لأنها تعني وزارتين أو أكثر، ولو أن قسمًا من أقسام القضايا أو مأمورية يكون قد تولى بحث تلك المسألة من قبل.
2 - في كل مسألة عرضتها إحدى الوزارات أو المصالح على قسم من أقسام القضايا أو مأمورية لدرسها ويرى رئيس ذلك القسم أو تلك المأمورية أن يتعرف رأي اللجنة فيها [(19)]، وينوب رئيس لجنة القضايا عن اللجنة في صلاتها بالمصالح، وتكون له الإدارة العليا على هيئة القضايا مع عدم الإخلال بسلطة المستشارين الملكيين الذين يديرون الأقسام المختلفة وبالاختصاصات المخولة للجنة نفسها طبقًا للأحكام المتقدمة [(20)].
وأهم ما أتى به القانون نمرة (1) الصادر في سنة 1923 أنه صبغ بالصبغة الرسمية الطور النهائي الذي وصلت إليه إدارة قضايا الحكومة من حيث تشكيلها ونظام موظفيها، وقد تم هذا التطور بشكل ظاهر ملموس، ففي الأصل وفي السنوات الأولى من نشأتها كانت إدارة قضايا الحكومة مشكلة من رجال قانون أوروبيين ليس إلا، وقد انقضى أكثر من أربعين سنة كانت فيها وظائف المستشارين والنواب وقفًا على الأجانب ما عدا بعض استثناءات نادرة جدًا، ومعظم هؤلاء المتشرعين الأجانب كانوا فرنساويين وإيطاليين وبصفة خاصة من أهالي جزيرة كورسكا (Corses) أو من مقاطعة البيامونتيه (Piemontai) وهم مشهورون بالصلابة وحب المناضلة ولا يخلون من المهارة السياسية، وممن شرفوا إدارتنا رجال أمثال بيتري وروكاسيرا وموريوندو وبرناردي.
حصل بعد ذلك أن دخل العنصر الإنكليزي في اللجنة وأدخل معه فيها معلومات من الفائدة بمكان في بعض المسائل الإدارية والتشريع الجنائي، وكان هذا العنصر بمثابة حلقة اتصال بكبار الموظفين البريطانيين [(21)].
ولكن حدث في وقت من الأوقات كما سنبينه فيما يلي أن اجتمع تحت إدارة مستشاري الحكومة الأجانب ونوابها الأجانب أيضًا عدد من رجال القانون المصريين وهذا العدد أخذ يتزايد شيئًا فشيئًا في كل قسم من الأقسام التي أنشئت فيما بعد ونظرًا لعدم وجود وظائف فنية مناسبة أدرج هؤلاء الموظفون في الوظائف الكتابية العامة أعني في وظائف الكتبة ووكلاء الأقلام ورؤساء الأقلام ووكلاء الإدارات ونظار الإدارات ثم أنشئ فيما بعد عدد قليل من وظائف نواب القضايا لمكافأة بعض الموظفين الأقدمين في الخدمة الذين استحقوا هذه الترقية، وقد روعي جعل تلك الوظائف من فئة مخصوصة لتمييزها عن وظائف النواب التي كانت مقصورة على المساعدين الأجانب للمستشارين.
وأصبحت إدارة قضايا الحكومة تحت إدارة المتشرعين الأجانب وبمساعدة موظفين فنيين من المصريين ازداد عددهم على توالي الأيام بمثابة مدرسة نشأ وتدرب فيها عدد وافر من الشبان المصريين الذين شغلوا فيما بعد أعلى المناصب في الإدارة والحكومة وكثير من رؤساء مجلس الوزراء والوزراء قد بدأوا حياتهم الإدارية في أقسام القضايا [(22)].
على أن الدرجات الإدارية التي كان يوضع فيها الموظفون الفنيون من المصريين لم تكن بالبداهة أمرًا مألوفًا، ولكن اقترحت في لجنة الامتيازات إصلاحًا عموميًا مبنيًا على فكرة تنظيم هيئة فنية خاصة لإدارة قضايا تكون مماثلة (كما هي الحالة في إيطاليا) بهيئة أعضاء النيابة وهي فئة أخرى من محامي الحكومة ينبئ تاريخ إنشائها في فرنسا أنها كانت تدافع أيضًا في قضايا الحكومة المدنية وإن كانت تقتصر الآن على المرافعة في القضايا الجنائية.
والقانون نمرة (1) لسنة 1923 قد أدخل هذا الإصلاح إذ جاء في المادة السادسة منه ما يأتي:
(تؤلف إدارة القضايا من المستشارين الملكيين ومساعدي المستشارين الملكيين يعاونهم الموظفون الفنيون الآتي بيانهم:
- النواب الأول.
- النواب.
- المحامون.
- المندوبون.
ويسوي هؤلاء الموظفون الفنيون فيما يتعلق بالمرتبة والمرتبات برجال النيابة الأهلية، وذلك بحسب ما يقرره مجلس الوزراء من القواعد بناءً على عرض وزير المالية متفقًا مع وزير الحقانية ويكون في كل قسم أيضًا موظفون للأعمال الكتابية.
وفي هذا الترتيب الجديد تلاشت وظائف نواب المستشارين أو بعبارة أخرى أصبحوا مستشارين ملكيين مساعدين، على أنهم يشغلون منصبًا أعلى فهم يعينون الآن بمرسوم ويمكنهم القيام مقام المستشارين سواء في لجنة قضايا الحكومة التي يكونون حينئذٍ أعضاء فيها أو في اللجنة التشريعية وفي كافة اللجان الإدارية أو التأديبية التي يكون مقررًا وجود مستشار ملكي بين أعضائها.
ولما إن كان إصلاح هيئة إدارة القضايا قد تم في الوقت الحاضر الذي انتقلت فيه أعمال الحكومة إلى أيدي المصريين فالنتيجة هي أن الموظفين الأجانب لا يكون لهم في إدارة قضايا الحكومة في أول إبريل المقبل إلا نصف وظائف المستشارين الملكيين ووظيفة مستشار ملكي مساعد واحدة ووظيفة نائب أول واحدة وليس لهم أي وظيفة أخرى في سلك الوظائف الفنية ويحتمل خروج هؤلاء الأجانب القلائل بالكلية بعد مضي ثلاث سنوات.
ثالثًا: اتساع إدارة قضايا الحكومة في الفترة بين سنة 1876 وسنة 1924:
أما الأسباب التي أدت إلى اتساع نطاق الأعمال في إدارة قضايا الحكومة هذا الاتساع العظيم فأنى سأجتهد في استقرائها بين ثنايا تاريخ الإدارة المصرية ونفسية الشعب المصري.
1 - اتساع أعمال الدفاع أمام المحاكم:
يؤخذ من إحصائية السنة الأولى القضائية للمحاكم المختلطة (سنة 1876 - 1877) إن عدد القضايا المدنية في تلك السنة بلغ 10113 قضية بينما أن عدد تلك القضايا في سنة 1922، وسنة 1924 وصل إلى 70333 قضية وبديهي أن هذه الزيادة ترجع إلى زيادة عدد الأهالي ونمو الثروة العمومية إلخ.
وهذه الأسباب نفسها تؤدي أيضًا إلى ازدياد عدد القضايا الخاصة بالحكومة والموكول الدفاع فيها أمام تلك المحاكم إلى إدارة القضايا على أنه لا يمكن القول بأن قضايا الحكومة كانت دائمًا تزداد بنفس النسبة التي كان يزداد بها عدد القضايا في القطر المصري وبالعكس لما حصلت تصفية القضايا العديدة التي كانت قائمة بين الحكومة أو دوائر الأمراء وبين الأجانب في السنين الأولى لإنشاء المحاكم المختلطة أصبحت نسبة الزيادة في قضايا الحكومة أقل من ذي قبل [(23)].
وفي الواقع أن واجب الدفاع عن صوالح الحكومة المصرية أمام المحاكم المختلطة أصبح اليوم أقل صعوبة مما كان يتوقع عند إنشاء تلك المحاكم.
وفي وسعي أن أكرر هنا رأيًا سبق أن أبديته منذ اثني عشرة سنة في بحث عن المحاكم المختلطة [(24)].
قلت إن المحاكم المختلطة لم تكن على الإطلاق محاكم قنصلية موحدة كما كانت تريد أن تعتبرها الدول صاحبة الامتيازات، فإن هذه المحاكم قد فطنت إلى واجبات العدل شأن الهيئات القضائية فأصبحت بفضل هذا التأثير المحمود محاكم مصرية بالمعنى الصحيح وأثبتت أن تتويج أحكامها باسم سمو الخديوي لم يكن مجرد مسألة شكلية وكذلك الحال في قضايا الحكومة فإن أولئك القضاة الأوروبيين وعلى الأخص من كان منهم ذا تربية لاتينية كانوا يأتون من بلادهم باسمى فكرة عن الحكومة وطبيعتها وما لها من الحقوق وبذلك كانوا يسهلون علينا مهمة الدفاع عن الحكومة.
على أنا كثيرًا ما اضطررنا إلى الجهاد العنيف في ميدان المحاكم المختلطة سواء لتضييق دائرة رقابة تلك المحاكم على الأعمال الإدارية المنصوص عليها في المادة (11) من لائحة الترتيب توصلاً إلى المحافظة على سلطة المحكمة المطلقة المشروعة أو لتخفيف وطأة القيود العديدة الناشئة عن الامتيازات رغبةً في تمكين الحكومة من زيادة إيرادات الضرائب ومن توسيع نطاق الأعمال العمومية أو لصيانة الخزانة العامة من مناورات قضائية كان يقوم بها بعض الأفاكين وخربي الذمة ومما يحسن ذكره أن تكاثر اللوائح الإدارية التي تسري على الأجانب بمقتضى دكريتو 31 يناير سنة 1889 المصدق عليه من الدول صاحبة الامتيازات كان من ورائه زيادة العبء على إدارة القضايا إذ أصبحت مكلفة بتمثيل الحكومة كمدعية بحق مدني في قضايا المخالفات.
وهناك نظام قضائي أكثر أهمية كان له نصيب وافر في توسيع دائرة أعمال الدفاع عن الحكومة أمام القضاء ففي سنة 1883 أنشئت المحاكم الأهلية على أساس مماثل للمحاكم المختلطة وقد خولت هذه المحاكم أيضًا حق النظر في القضايا القائمة بين الحكومة أو دوائر الأمراء وبين الأهلين فكان من اللازم والحالة هذه تنظيم الدفاع عن الحكومة أمام هذه المحاكم ولكن هل كان ممكنًا أن يعهد في هذا الدفاع إلى لجنة قضايا الحكومة المشكلة من متشرعين أجانب يجهلون اللغة العربية وهي اللغة الرسمية للمحاكم الجديدة ؟ كان يظهر أن هذا يصعب تحقيقه ولكنه تحقق فعلاً فإنه يتضح من ديباجة الدكريتو الصادر سنة 1884 تنظيم أقلام قضايا الحكومة أن غرض المشرع كان توحيد نظام الدفاع أمام المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية [(25)]، ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن هذا العمل كان مبنيًا على سبب آخر هو الثقة التي نالتها إدارة قضايا الحكومة والتي حصل الاعتراف بها صراحةً بمناسبة إصدار دكريتو 16 أكتوبر سنة 1880 الذي رتب لأول مرة أقسام قضايا الحكومة [(26)] بيد أن لجنة القضايا المشكلة من أجانب لم يكن في وسعها إلا الإشراف على الدفاع عن الحكومة أمام المحاكم الأهلية وكان عليها إذن أن تعين مصريين تقوم بتدريبهم على الإجراءات القضائية والمرافعات وبذلك بدأ دخول العنصر المصري في إدارة القضايا وقد ازداد هذا العنصر تدريجًا حتى أوجب تغيير النظام الأول لإدارة القضايا تغييرًا كليًا.
2 - اتساع العمل الإداري:
زاد العمل الإداري في أقسام القضايا زيادة أكبر من زيادة الأعمال القضائية ويرجع سبب هذه الزيادة إلى أسباب بعضها مماثل وبعضها مغاير للأسباب السابق بيانها ومعلوم أن من اختصاصات أقسام القضايا بمقتضى عبارة الدكريتو الصادر سنة 1876 إبداء الآراء المبنية على الأسباب القانونية المحضة بشأن وثائق الالتزامات والعقود ومقايسات الأشغال العمومية وغيرها مما يرتبط بمصالح الحكومة المالية ويكون مدعاة للتقاضي وبوجه عام بشأن أي مسألة أخرى ترى الحكومة عرضها عليها لأجل درسها.
ومما يجدر ملاحظته أن مكانة أعضاء لجنة قضايا الحكومة وخبرتهم في النظم الإدارية الأوروبية وحيادهم التام في المشاكل السياسية، كل هذا أكسبهم ثقة مصالح الحكومة واجتذب لهم عطفها واعتبارها وكان من وراء ذلك أن اتسع نطاق الآراء التي تبديها أقسام القضايا بحيث أصبح شاملاً لكل فرع من فروع الإدارات العمومية بما فيها مسائل الأحوال الشخصية وهي تبدو لأول وهلة أنها ليست مما يوكل أمر النظر فيها إلى متشرعين أوروبيين.
ولما كانت المهمة القانونية الملقاة على عاتق أقسام القضايا قد بلغت هذا الحد كان من المحتم زيادة عدد الموظفين الفنيين المصريين الموجودين تحت إدارة المستشارين في مختلف الأقسام وزيادة عدد الأقسام المذكورة أن المصلحة العامة تقتضي عمل مجموعة للآراء التي أبداها مستشارو قضايا الحكومة مدة نصف قرن في مختلف المسائل الإدارية المتضمنة مبادئ هامة، فإن مجموعة كهذه لو نشرت لكانت مرشدًا قيمًا لرجال الإدارة ولجمعت بين دفتيها القواعد الصحيحة للقانون الإداري المصري.
وهناك انتقاد يمكن توجيهه إلى فتاوى إدارة القضايا فإنا والحق يقال كنا نتجاوز أحيانًا حدود مهمتنا القانونية بأن كنا نضمن تلك الفتاوى عدا الأسباب القانونية المحضة التي ننوه بها في لائحتنا النظامية أسبابًا أخرى تمس موضوع المسألة الإدارية المطروحة علينا.
ولكن هي الضرورة كانت تلجئنا إلى هذا فإنه لم يكن في وسعنا غض النظر بالكلية عن أغلاط واضحة كان يوشك أن يرتكبها ضد المصلحة العامة إداريون جاءوا حديثًا من إنجلترا تعوزهم الخبرة عن أحوال أهالي البلاد أو بعض رجال الإدارة المصريين ممن كنا نتوسم الريبة في إجراءاتهم ومن جهة أخرى لم يكن في وسعنا أن نتجنب دائمًا الإجابة على استفتاء بعض المديرين المجتهدين الذين كانوا يلجأون إلينا من مراكز مديرياتهم القاصية متلمسين لدينا رأيًا يخرجهم من مآزق إدارية وقعوا فيها وفضلاً عن ذلك فإن مصالح الحكومة نفسها كثيرًا ما دفعت أقلام القضايا إلى تعدي اختصاصها بما كان لها من فرط الثقة فيها أو لكونها غالبًا ما تخلط بين الوجهتين القانونية والإدارية للمسألة الواحدة.
على أن آراء قسم القضايا لم تكن مقيدة للحكومة وكنا نتوخى دائمًا في بسط ملاحظاتنا إلى المصالح التمييز بين الوجهة الإدارية والوجهة القانونية.
ولقد سبق إلى القول بأن جميع فروع الحكومة كانت تتطلب مساعدة أقسام القضايا حتى أن مسائل تأديب الموظفين رُئي من الضروري اشتراك أقلام القضايا فيها وفي الواقع تنص اللوائح المعمول بها على جلوس المستشار الملكي أو مساعده في مجالس التأديب العليا وأحيانًا يرأس المستشار الملكي المساعد مجلس التأديب الابتدائي [(27)].
وكذلك كانت لجنة القضايا تشترك بواسطة عضو أو أكثر من أعضائها في أكثر المجالس واللجان المؤقتة أو المستديمة مصرية كانت أو دولية وسواء أنشئت لمساعدة الإدارة في بعض الأعمال أو في إيجاد حل لمسائل مخصوصة أو لتحضير مشروعات إصلاحية.
3 - اتساع الأعمال التشريعية:
وأهم اللجان التي اشتركت فيها إدارة القضايا وتشترك فيها الآن هي اللجنة الاستشارية للتشريع ولمعرفة أصل إنشاء هذه اللجنة يتعين الرجوع إلى القانون النظامي الصادر في سنة 1883 الذي أدخل لأول مرة في مصر نظامًا مشابهًا للنظام البرلماني.
فالدكريتو أو القانون الصادر في أول مايو سنة 1883 قد أنشأ بجانب مجالس المديريات ومجلس الشورى والجمعية العمومية أداة أخرى سماها مجلس شورى الحكومة وقد صدر بتنظيم هذا المجلس أمر عالٍ بتاريخ 22 سبتمبر من السنة عينها.
وقد نص عن تقسيم هذا المجلس إلى قسمين (قسم تحضير القوانين واللوائح وعليه تحضير وتحرير مشروعات القوانين والأوامر المتعلقة بالمصلحة العمومية)، (وقسم الإدارة وعليه أن يعطي رأيه في كافة المسائل المتعلقة بالمصلحة العمومية وفي غير ذلك من المسائل التي تبعثها إليه نظار دواوين الحكومة للبحث فيها)، وقد نص أيضًا عن تشكيل مجلس الحكومة من خمسة أعضاء دائمين يعينهم سمو الخديوي ومن المستشار المالي ومن وكلاء النظارات الثمانية ومن عدد وافر من كبار الموظفين وأخيرًا من رؤساء أقسام قضايا الحكومة الثلاثة.
ولا شك في أن إنشاء مجلس شورى الحكومة هذا كان إصلاحًا كبير الأهمية وقد نسج في إنشائه على منوال الهيئات المماثلة في البلاد الأوروبية وكان إتمام تشكيله يؤدي إلى فتح صحيفة جديدة في تاريخ إدارة القضايا لأنه كان من شأنه أن يقوم مقام إدارة القضايا في جزء عظيم من الأعمال الموكولة إليها والتي كلفت بعدئذٍ كما سنبينه فيما يلي.
ولكن أسبابًا سياسية حالت دون إتمام هذا الإصلاح فإن وزارة الخارجية البريطانية عارضت في إنشاء مجلس شورى الحكومة، ولذلك صدر دكريتو بتاريخ 13 فبراير سنة 1884 بإيقاف أعماله.
على أن إلغاء هذه الأداة الإدارية لم يتكفل بإلغاء الضرورة التي أحوجت إليها ولا شك في أن الحاجة إليها كانت ماسة كل المساس من حيث الأعمال التشريعية بدليل أن نفس الدكريتو الصادر بالإلغاء قضى بطلب مساعدة موظف اختصاصي في تلك الأعمال.
هذا الموظف الاختصاصي كان البارون إدارود كلر (Edward Keller) وهو نفس الشخص الذي نجده بين المؤسسين الأربعة للجنة مستشاري الحكومة.
والمادة الثانية من الدكريتو الصادر بإيقاف عمل مجلس شورى الحكومة قضت بما يأتي:
(ثانيًا الدكتور إداورد كلر بصفته مستشارًا للحكومة ملحق برئاسة مجلس نظارنا، ويكلف بتحرير مشروعات القوانين، والدكريتات واللوائح.
ولكن ظهر بعد زمن قصير أن عبء هذه الوظيفة كان ثقيلاً على كاهل شخص بمفرده وربما كان في ذلك أيضًا ما يدعو للشبهة خصوصًا وأن هذا الشخص كان تابعًا لدولة أجنبية.
وفعلاً لم يمضِ شهران على ذلك حتى رئي الرجوع إلى الفكرة الأصلية بإنشاء مجلس شورى للحكومة بشكل مقتضب أو بعبارة أخرى غير ظاهر فقد أعيد تنظيم قسم تحضير القوانين واللوائح والحق بلجنة قضايا الحكومة مع تعديل في تشكيله وبذلك تألفت اللجنة الاستشارية للتشريع وهو الاسم الجديد الذي أعطي للجنة التي بعثت من رفات مجلس شورى الحكومة، قضت المادة (12) من الأمر العالي الصادر في 20 إبريل سنة 1884 بتنظيم إدارة قضايا الحكومة بما يأتي:
(لا يجوز تقديم أي قانون أو أمر عالٍ أو لائحة لمجلس النظار إلا بعد النظر فيها بمعرفة القضايا بالاشتراك مع وكيل نظارة الحقانية ووكيل النظارة ذات الشأن ومن يعينه المجلس من موظفي الحكومة وتقتصر اللجنة الاستشارية التشريعية المؤلفة على هذا النمط على وضع الصيغة القانونية للمشروع المعروض عليها وبعد أن تتحقق مطابقته للقوانين المرعية الإجراء.
مضت اثنتا عشرة سنة من سنة 1884 إلى سنة 1896 ولجنة التشريع باقية بتشكيلها الأصلي ولكن سياسة الاحتلال نمت في خلال ذلك وتأيدت فيما يتعلق بالمواد القانونية بازدياد سلطة المستشار القضائي في وزارة الحقانية فكان من الطبيعي أن المستشار القضائي يمد دائرة نفوذه على الفرع المخصص لمراجعة مشروعات القوانين وقد تم له ذلك بحكم الدكريتو الصادر في 25 يناير سنة 1896 فقد قضت المادة الأولى من الدكريتو المذكور بأن (اللجنة الاستشارية لسن القوانين واللوائح المنصوص عنها في المادة الثانية عشرة من الأمر المشار إليه (أي الأمر الصادر في 20 إبريل سنة 1884) تشكل بالكيفية الآتية:
(ناظر الحقانية - رئيس - المستشار القضائي - أحد المستشارين الخديويين - ناظر مدرسة الحقوق الخديوية - وكيل النظارة المقدمة منها مشروع القانون أو اللائحة أعضاء - ولمستشار الداخلية الحق في الحضور كلما رأى أن لهذه النظارة علاقة بالمشروع وللجنة في كل الأحوال أن تستدعي باقي أعضاء لجنة قضايا الحكومة).
وبهذه الكيفية تحولت لجنة التشريع من أداة في إدارة قضايا الحكومة إلى لجنة من لجان وزارة الحقانية كان يجلس فيها كثير من الموظفين البريطانيين ومستشار واحد من لجنة القضايا ولكن بعد مضي ست سنوات أخذت لجنة القضايا بثأرها فإن الدكريتو الصادر في 17 مايو سنة 902 الذي أعاد تنظيم اللجنة الاستشارية وهو الدكريتو المعمول به الآن قد دعا جميع أعضاء لجنة القضايا إلى الاشتراك في أعمال لجنة التشريع وألغي اشتراك وكيل الوزارة صاحبة الشأن ومستشار وزارة الداخلية [(28)].
ويتضح مما تقدم أن لجنة قضايا الحكومة كانت في ذلك العهد تكون نصف أعضاء اللجنة الاستشارية وقد ازدادت هذه النسبة بعد سنين قلائل بازدياد عدد المستشارين الخديويين حتى أصبحوا هم الأغلبية في اللجنة.
وإذا لاحظتم ما هو معهود في محامي الحكومة وهم مستشارو أقسام القضايا من الميل الشديد إلى المناقشة ولا أقول من العلم والخبرة فإنكم تتبينون ماهية نفوذهم في اللجنة التشريعية.
ومما يجب معرفته أن دكريتو تنظيم هذه اللجنة يجعل الحكومة حرة في عرض مشروعات القوانين عليها ولكنها في الواقع تعرض عليها كافة مشروعات القوانين والدكريتات التي فيها شيء من الأهمية.
وهنا يحسن استقصاء ما للجنة الاستشارية من الاختصاص فإن ذلك لا يخلو من الفائدة خصوصًا وأن الرأي العام بل والإدارة نفسها كثيرًا ما أشكل عليها أمر تحديد هذا الاختصاص فتارة كانت تعترف للجنة بسلطة تشريع حقيقية وطورًا كانت تقتصر اختصاصها على تصحيح العبارات القانونية المستعملة في مشروعات القوانين وفي أوقات المشاكل السياسية كان يهمس أحيانًا بأن اللجنة قد تستعمل وظيفتها على حسب مقتضيات المصلحة السياسية وبهذا تكون ستارًا للوزراء الذين لا يجسرون على أن يتحملوا مباشرة مسؤولية بعض الإجراءات وبديهي أن هذا التعريض لا أساس له بالكلية ولكن من المؤكد أن عمل اللجنة ذو أهمية كبرى.
سبق لنا القول بأن الدكريتو الصادر بإنشاء اللجنة يقضي بأن يقتصر على وضع المشروع في الصيغة القانونية إلا أن عبارة الصيغة لا يمكن بالطبع أن يفهم منها مجرد الألفاظ أو التحرير القانوني أعني استعمال العبارات المخصصة قانونًا للتعبير عن فكرة المشرع فإن هذا العمل يقوم به عادةً قسم القضايا الذي ساعد المصلحة في تحضير المشروع وغير معقول في الجهة الأخرى تكليف لجنة لما ما لها من الأهمية بمراجعة الشكل فقط.
لذلك توسعنا في تأويل تلك العبارة.
كل قانون يرمي إلى تحقيق مصلحة معينة عامة أو خاصة بإعطاء هذه المصلحة صنعة (الحق) بمعنى أنه يجعلها موضوع علاقة قانونية مكفولة بعقوبة مدنية أو جنائية يحصل تطبيقها بمعرفة المحاكم.
والمصلحة العامة أو الخاصة المقصود تحقيقها هي عبارة عن موضوع القانون في حين أن العلاقة القانونية التي تنطوي عليها هذه المصلحة هي في نظرنا ما أراد الدكريتو التعبير عنه بالصيغة القانونية.
وإذن تختص اللجنة فضلاً عن مراجعة العبارات القانونية المستعملة بالنظر أيضًا فيما إذا كانت المصلحة المقصودة يمكن تحقيقها بوسائل قانونية وإذا كانت الوسائل القانونية المقترحة تتمشى مع الأغراض المتوخاة وأخيرًا إذا كانت هذه الوسائل لا تتعارض مع علاقات قانونية أخرى أعني مع حقوق منصوص عليها في قوانين أخرى ونص الدكريتو يؤيد صراحةً اختصاص اللجنة في النقطة الأخيرة إذ أنه يقضي بأن (تجعل اللجنة نصوص المشروع ملائمة للقوانين المتبعة)، وقد فسرنا عبارة (القوانين المتبعة) بأنها تقابل عبارة التشريع المعمول به وهي عبارة تشمل بالبداهة المبادئ والقواعد التي وإن لم تكن مكتوبة بالنص في القوانين إلا أنها مما يستنتجه المتشرعون في القوانين أو المبادئ القانونية العامة أو من العرف وبذلك تمكنا من الدفاع عن القانون المصري ومن ترقيته وتنسيقه باطراد مع أن هذا القانون في الفترة السياسية التي اجتزناها كانت تحوطه أخطار داهمة تهدده بالخروج عن دائرة مصريته.
هذه السلطة الواسعة التي رأينا استعمالها بدون أن نتخطى حدود مهمتنا كرجال القانون كان من شأنها إجراء تعديلات كبيرة في المشروعات التي طرحت علينا للبحث بل إلى التقرير أحيانًا بعدم إمكان قبول تلك المشروعات كلية ولم نكن نجهل دقة المسؤولية في هذا العمل، ولذلك كلما بدت لنا مسألة موضوعية هامة لها بعض لارتباط بالمسألة القانونية أو بصفة عامة وبصرف النظر عن المسألة القانونية لما أن كان يتراءى لنا ضرورة إدخال بعض تعديلات أو إضافات جوهرية كنا نقتصر على أن نعرض للوزير المسؤول عن المشروع بعض اقتراحات كان بطبيعة الحال حرًا في الأخذ بها أو عدم الأخذ [(29)].
وأثناء مراجعة مشروعي الدستور وقانون الانتخاب كثيرًا ما لجأنا إلى طريقة الاقتراحات التي أدت إلى تعديلات حصل التعليق على بعض منها بشدة في الصحافة غير أنه ليس هنا محل الكلام عنها، ولكني أقرر وأنا مرتاح الضمير أن اللجنة لما كانت تقضي بتلك الاقتراحات كان رائدها الوحيد المصلحة العامة للبلد بدون الاكتراث بما إذا كانت تقيد أو لا تقيد حزبًا سياسيًا دون حزب آخر.
4 - إدارة القضايا والامتيازات:
أن الثقة والنفوذ اللذين اكتسبتهما إدارة قضايا الحكومة في مصر يرجعان على الأكثر إلى الخطة التي رسمتها هذه الإدارة لنفسها بأن تكون دائمًا بعيدة عن كل تحزب سياسي.
على إنا إذا كنا نعطي للفظة السياسة معنى علميًا واسعًا فنعبر بها عن الاتجاه العام في تسيير دفة الحكومة بصرف النظر عن مشادة الأحزاب وجب علينا الاعتراف بأن إدارة القضايا اشتركت ولا شك في سياسة البلد لأن أعمالها تناولت أهم مسائل الحكومة.
ولا أريد الدخول هنا في تفصيلات هذا الموضوع الذي لا يخلو من لذة ولكنه لا يخلو أيضًا من دقة فاقتصر على ذكر ما كان من تأثير إدارة القضايا في تطور نظام الامتيازات.
إن إنشاء المحاكم المختلطة وأحكامها المؤسسة على حرية الرأي وصوالح البلاد والسلطة المخولة لتلك المحاكم بتطبيق القوانين الإدارية على الأجانب وبتعديل التشريع المختلط واستعمالها هذه السلطة بلا قيد وما تحصلنا عليه من موافقة الدول صاحبة الامتيازات في أمور الضرائب وغيرها كل هذا أدى في نصف القرن الأخير إلى تحور عظيم في نظام الامتيازات بمعنى أنه خفف تدريجيًا وبدرجة كبيرة من وطأة القيود والأغلال الناشئة عنها ولا نغالي إذا قلنا بأنه لا يوجد الآن في مصر إلا بقايا من نظام الامتيازات القديم.
وإدارة قضايا الحكومة قد اشتركت في هذا التطور بما قامت به من الأعمال في كافة فروعها وقد ساعدت في الوقت ذاته على تلطيف نتائج الامتيازات الأجنبية كلما كان من المتعذر التملص منها [(30)].
ولكن حصل - وهذا ما ألفت إليه أنظاركم - أن إدارة القضايا اضطرت أحيانًا إلي الدفاع عن تلك الامتيازات، ذلك لأن الامتيازات وإن كانت في الحقيقة قيدًا للتشريع والحكم إلا أنها لكونها قيدًا فهي بمثابة الحاجز والحواجز قد تفيد أحيانًا للمحافظة على التوازن ولمنع السقطات الخطرة.
وكثيرًا ما اغتبطنا بالتمسك بالامتيازات في معارضتنا بعض اقتراحات الإدارة توصلاً لمنع قرارات متيسرة أو مبتكرات لا مبرر لها.
وما أكثر ما كتب ضد الامتيازات والرأي العام الإنكليزي على الخصوص قد شدد عليها النكير وعرض على مصر تخليصها منها [(31)].
والواقع أن الامتيازات لم توقف تقدم مصر من الوجهة المدنية وربما جعلت هذا التقدم صعبًا وبطيئًا وغير مستكمل العناصر ولكن مؤرخ المستقبل يثبت ما إذا كانت الامتيازات لم تساعد هي أيضًا على إنماء روح الوطنية والحريات السياسية.
أن مآل الامتيازات إلى الزوال في مستقبل قريب فاسمحوا لي بأن أقول إنه إذا كان القصد زوالها بلا مشاغبات خطرة وبدون شروط ثقيلة وصعبة فإن الطريق الواجب سلوكه ظاهر واضح.
عندما تقتنع الدول صاحبة الامتيازات بأن مصر الحديثة أصبحت قادرة تمامًا على تطبيق المبادئ الحرة التي يشتمل عليها القانون الأهلي والدولي المتبع في الدول المتمدينة وعلى القيام بتعهداتها الدولية فإن تلك الامتيازات التي أكل عليها الدهر وشرب ستسقط من تلقاء ذاتها، فالمسألة إذن لا تتوقف إلا على أمر واحد هو الثقة السياسية، وهذه الثقة عالية في وقتنا الحاضر وكل البوادر تبعث فينا الأمل بأن هذه الثقة تتوطد على ممر الأيام وتستمر باطراد حتى تصل إلى السماك الأعزل.
5 - الأركان الأدبية والنفسية لنفوذ إدارة قضايا الحكومة:
ذكرت الأسباب التي أدت إلى اتساع نفوذ إدارة قضايا الحكومية اتساعًا كبيرًا ولكني لم أتكلم بعد عن السبب الذي هو في نظري أعظم وأهم، وكلما فكرت فيه تعروني هزة فخر وخجل واعتراف بالجميل، فلو قارنا بين هذه الهيئة المصرية وبين الهيئات المشابهة لها في البلاد المتمدينة الأخرى لألفينا فرقًا جوهريًا ألا وهو أن نفوذ هاته الهيئات ناشئ عن قوة القانون في حين أن نفوذ إدارة قضايا الحكومة المصرية هو نتيجة قوة ليست مستمدة في القانون ولو أنها لا تقل عن قوة القانون، نجد فيما يتعلق بالهيئات الأجنبية أن القانون هو الذي يبين بطريقة صريحة قاطعة الأحوال التي يتعين الرجوع فيها إلى إدارة القضايا أو مجلس شورى الحكومة لطلب الرأي أو الاستشارة وكذلك الأحوال التي تتقيد فيها الحكومة بالآراء المعطاة بل والأحوال التي تكتسب فيها تلك الآراء صفة وقوة القرارات الإدارية.
ولكن لا شيء من هذا في إدارة قضايا الحكومة المصرية فإنه بمقتضى القاعدة الأساسية التي وضعت في نظامها الأصلي سنة 1876، والتي تكرر وضعها في جميع قوانينها النظامية (عدا استثناء واحد أدخل حديثًا وسأتكلم عنه الآن) لا توجد أحوال تكون فيها الحكومة أو المصلحة ملزمة قانونًا بأن تستشير إدارة القضايا أو تعرض عليها مشروع عقد أو قانون أو مرسوم وليس ثمة مطلقًا أحوال تكون الحكومة أو المصلحة ملزمة فيها قانونًا باتباع الرأي الذي تطلبه أو بالموافقة على مشروع العقد أو القانون أو المرسوم الذي تحضره إدارة القضايا.
والقانون نمرة (1) سنة 1923 قد أدخل حديثًا استثناءً لهذه القاعدة العامة بالنص الوارد في المادة الثانية منه التي تقضي بما يأتي:
لا يجوز لإدارة أية مصلحة من مصالح الدولة أن تبرم أو تقبل أو تجيز أو تأذن بأي عقد أو صلح أو تحكيم أو تنفيذ قرار محكمين في أمر تزيد قيمته على خمسة آلاف جنيه مصري بغير استفتاء إدارة قضايا الحكومة على حكم القانون فيه، هذا إذا لم يرَ الوزير المختص غير ذلك بقرار خاص.
ويجب أن يثبت في الوثائق المتقدم ذكرها أن إدارة القضايا قد استفتت فيها.
والأصل في وضع هذا النص يرجع إلى قضية كان لها وقع كبير وهي قضية حصل فيها أن المصلحة بدون استشارة قسم القضايا قبلت ونفذت عقد تحكيم غير قانوني الأمر الذي ألحق ضررًا بليغًا بخزانة الحكومة.
على أنكم تلاحظون أن هذا النص الجديد يلزم المصلحة ولا يلزم الوزير وهو الرئيس المسؤول في الحكومة بطلب رأي القضايا في أحوال مخصوصة فهذا النص يرمي إلى غرض محدود هو منع المصلحة من الدخول بدون استشارة قضائية في تعهدات قد يترتب عليها مسؤولية مالية جسيمة بدون علم الوزير المسؤول وعلى كل حال فإن المصلحة باقية حرة في العمل برأي مستشاريها القضائيين أو عدم العمل به وهذا يؤيد القاعدة العامة التي بمقتضاها لا تكون آراء أقسام القضايا إلزامية للحكومة.
وإذا كان الأمر كما تقدم فما هي القوة المبنية على غير القانون التي تدفع المصلحة والوزراء إلى استشارة أقسام القضايا على الدوام وعلى الأخص إلى اتباع هذه الآراء واحترامها مما جعل وزيرًا من الظرفاء يسميها (الفتاوى) الصادرة من إدارة قضايا الحكومة.
قد يرجع ذلك إلى أسباب كثيرة منها كفاءة المستشارين الشخصية وضرورة الالتجاء إلى مساعدتهم والخوف من المسؤولية السائدة كما يقال - في مصالح الحكومة ولكن يلوح لي أن أسبابًا كهذه قد تكون كافية لإيجاد مثل هذا النفوذ في بلد غير مصر فلنبحث إذن عن العامل الذي اعتبره مكملاً لهذه الأسباب بل وقوامها نجده كامنًا في نفسية الشعب المصري.
هذا الشعب الذي يبدو للأجانب في المعاملات السطحية معهم بمظاهر قد تخدعهم أحيانًا عن حقيقة أمره يحمل بين جنبيه نفسًا شرقية تواقة إلى وجود من توليه ثقتها وتجعله محل أمانتها فإذا توفرت هذه الثقة وهذه الأمانة تتفتح النفس المصرية وتكشف عن مكنوناتها وتستسلم كلية وبلا تحفظ.
ولقد نجحنا في اجتذاب هذه الثقة في اكتساب هذه الأمانة.
رابعًا: مستقبل إدارة قضايا الحكومة:
تكذب النبوءات خصوصًا فيما يتعلق بالأنظمة العمومية ولا سيما في بلد كمصر تدخل اليوم فقط في الحياة الدستورية والديمقراطية لذلك أراني مترددًا في أن أختم هذه المحاضرة بالتنبؤ عما بكون مستقبل إدارة قضايا الحكومة.
ولقد يمكنني أن أقول ما عساه أن يكون هذا المستقبل إذا كانت مصر تستمر على السير كما أؤمل في طريق الرقي الذي صارت فيه قبلها الدول الحديثة ويسهل التكهن بأن الأعمال الموكولة الآن إلى إدارة القضايا ستزداد وتصبح مثقلة بالصعاب.
فإن القضايا ضد الحكومة لا بد وأن يزيد عددها وعلى الأخص في المستقبل القريب وذلك أما بسبب اتساع نطاق الأعمال العمومية التي يتطلبها البرلمان وإما بسبب الأغلاط التي يصعب تجنبها على هيئة موظفي الإدارة الذين لم يكتسبوا بعد الخبرة اللازمة، وأما بسبب روح الديمقراطية التي تستنهض أو تقوى في نفوس الأهلين شعورهم بحقوقهم وبالتالي شعورهم بواجبات الحكومة نحوهم وللأسباب عينها ستتبع دائرة الأعمال لما سميته (القسم الإداري) في إدارة القضايا ويترجح تكميله بهيئة أخرى أسميها (القسم البرلماني) تختص بالمسائل القانونية في تفسير الدستور وتطبيقه على الأخص في العلاقات بين الوزراء والبرلمان.
ولقد يلوح لأول وهلة أن وظيفة البرلمان التشريعية ستحل حتمًا محل إدارة القضايا في تحضير مشروعات القوانين ولكن المنظور غير ذلك إذا كنا نقيس بما هو جار من قديم في البرلمانات الأوربية لأنه قد ثبت بالاختبار أن البرلمانات قليلة الكفاءة بدرجات متفاوته من الوجهة الفنية في تحضير مشروعات القوانين اللهم إلا إذا كانت تلك المشروعات مما تتغلب فيه الصفة السياسية - فالبرلمان هو أولاً وقبل كل شيء هيئة سياسية وفضلاً عن ذلك فإن مشروعات القوانين التي يكون اقتراحها برلمانيًا نادرة جدًا ومصدرها الفشل في غالب الأحيان وإذن فإن عمل إدارة القضايا في هذا الفرع وإن كان يستلزم زيادة الإتقان الفني إلا أنه على الأرجح لا يكون أقل ولا أسهل مما هو عليه الآن.
على أنه إذا كان من المنتظر زيادة الاختصاصات الحالية الموكولة لأقلام القضايا فإن ذلك ليس معناه أن نظام القضايا في الحالة الراهنة سيبقى على ما هو عليه بل بعكس ذلك أن زيادة العمل ورغبة الإصلاح وهي وليدة كل نظام سياسي جديد ستؤديان إلى عمل إصلاحات وعلى الأرجح إلى توزيع اختصاصات أقلام القضايا على هيئات مختلفة وإلى إعادة نظام مجلس شورى الحكومة.
وبما أن مهمتي في مصر قاربت الانتهاء فإنه لن ينالني أسف مشاهدة هذه التجزئة التي ستصيب على الأرجح نظام إدارتنا القويم.
وإذا كان على الأقدمين واجب النصح الأ

التوازن في عناصر الكيان الوجودي وفي الحقوق العامة والخاصة

مجلة محاماة - العدد التاسع والعاشر
السنة الخامسة والعشرون1945

نص المحاضرة التي ألقيت بدار نقابة المحامين الوطنيين في شهر ديسمبر سنة 1945

التوازن في عناصر الكيان الوجودي وفي الحقوق العامة والخاصة
جزاء الاختلال التوازني والتعسفي الخاص عمليًا وقضائيًا للدكتور عبد السلام ذهني بك المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة

التوازن آية من آيات العمران وهو أساسه وعماده وسنده الحيوي، وهذه السماوات والكواكب في الفضاء بما نعلمه وبما لا نعلمه إن هي قائمة إلا على التوازن والتعادل والتناسب فيما بينها بالقدر الذي أراده الخالق جل وعلا، وإذا اختل ذلك التناسب واختل معه التوازن انهار الفضاء الكوني على بعضه البعض وتلاشى العالم الوجودي لذلك الاضطراب التوازني الذي يسوده إذ ذاك.
ولهذا التوازن العالمي السماوي في القبة الزرقاء أثره في عمران الكوكب الأرضي، والأرض لا تحيي ولا تعيش إلا إذا حكمها التوازن في عناصرها، وإلا إذا طغى عنصر على عنصر طغيانًا مس التوازن في صميمه لأصبحت الأرض غير الأرض والسماء غير السماء.
ولهذا التوازن في العالم الأرضي أثره أيضًا في الحياة الكونية الإنسانية، والناس فيما بينهم وبين حاكمهم إنما يعيشون تحت سلطان التوازن، فإذا طغت الطائفة الحاكمة كما حصل بروما في القرن السادس قبل الميلاد بين عوام الشعب وإشراف الأمة ونزلت بالطائفة المحكومة أنواع من الأذى، قفز الدهماء وجعلوا من ضعفهم قوة جاءتهم من الإيذاء ومن الاستهتار بحقوقهم الطبيعية وقاموا في وجه الأرستقراطية ونادوا بما أسبغت عليهم الطبيعة من حقوق ومزايا لاصقة بالفرد وحيوية الفرد وكيان الفرد، وما عتم إن تم الاتفاق بالوفاق بين الدهماء والإشراف ووضعت قوانين الاثنتي عشرة لوحة.
وهذه فرنسا وثورتها سنة 1789 وقد قام شعبها ونادى بسقوط حملة الاستبداد فاستقرت له حقوقه بما نشر على الكافة في نشرة حقوق الإنسان والمواطن سنة 1792، ووضع القانون المدني سنة 1804 وعرف كل فرد ما له وما عليه وأصبح لا يسوده إلا ما أراده بمحض رغبته فلا يقيده إلا ما تعاقد عليه وارتضاه لنفسه وبنفسه وتقررت قاعدة (العقد قانون المتعاقدين) المادة (1134) مدني فرنسي، وفازت بما نالته من التوفيق في مجالات التقاضي، وتعينت حقوق السلطة الحاكمة ورسمت لها مناهج ووضع الدستور على خير ما تبغيه طبيعة العمران الصحيح وتوازنت الأمور واستقرت في مواطنها.
ولهذا التوازن العمراني والكوني صداه في العالم الدولي وما للدول مع بعضها البعض من شؤون وأمور مختلفة متباينة، ولم تلبث الدول من عهد بعيد مترامي الأطراف في بطون التاريخ الدولي العام أن تعمل من جانبها على حفظ ذلك التوازن العالمي الدولي حتى تضمن لها هدوءًا وطمأنينة وأمنًا يسود أرجاء العالم فتعمل ما من شأنه رفع شأنها ورفع شأن الإنسانية.
وما الحروب إلا إمارة من إمارات فقدان التوازن الصحيح السليم، فإذا ما اختل التوازن الدولي لسبب من الأسباب السياسية وغيرها بانت إذ ذاك مظاهر ذلك الاختلال وقامت الحرب وفكر زعماء الدول في ردء الصدع ولم الشعث وجمع العشائر والتفاهم في رد المياه إلى مجاريها وفي محاولة إزالة الأسباب وتخيل ما شاءت لهم مقاديرهم الفكرية من النظم والمشاريع طلبًا في سيادة الهدوء وشمول الطمأنينة نحو الكافة.
والتوازن هو لازم في الحياة الكونية والدولية فهو كذلك لازم في حياة الأفراد وفي معاملاتهم مع بعضهم البعض، والفرد وقد حمل حقه وأصبح صاحبه وحده لا يزاحمه مزاحم ولا يعتدي عليه معتدٍ، فإنه يتعين عليه أن يقف في الاستمتاع بحقه بما ينطوي مع طبيعة الحق وبما للحق في يده من رسالة عمرانية لازمة في الحياة والوجود، فإذا شاء التمتع بحق وجب عليه ألا يرهق الغير فيه وأن لا يصيبه بأذى غير مشروع وأن لا يخرج فيه عما رسم له اجتماعيًا وعمرانيًا وأن لا يبتغي منه سوى القدر اللازم واللازم له في مصلحته وأن لا يصرفه في سبل النيل من خصيم له وإلحاق الأذى به لا يقصد إلا الأذى، وإلا إذا بان بأن صاحب الحق إنما أراد الأذى والأذى وحده يخصم له وجب حينئذٍ الضرب على يده وإيقافه عند حده.
وإذا كان الحق متعة في يد صاحبه ينفرد بها وحده لا يشاركه فيها أحد، وجب أن تقف المتعة لديه عند حد المنفعة الخاصة فحسب، وأما والتطوح بالحق في سبيل الأذى وإلحاق الضرر بالغير دون ابتغاء المصلحة الجدية، فهو أمر لا يبيحه القانون الصحيح ولا يقره العمران وتمقته الأخلاق وتزدريه الآداب.
والحق في روما وقد رسمت له مناهج وتعينت له طقوس ووضعت له رموز وعرقت له عبارات مألوفة، والحق وقد وضعت هذه القيود الشكلية التي استمدت كيانها مما أودع في خلق الروماني من صفات بارزة تولدت عنده بحكم أنه كان جنديًا جبل على الطاعة ومزارعًا طافت به الوساوس فمال للقساوسة وما لهؤلاء فيها من شأن وشؤون دينية، ومالوا إليه بما قام في نفسه من نزعة تقديس أرواح الآباء والأجداد: هذا الحق الروماني وقد أحاطت به الدقة في الشكل والمعنى حيث يتعين الحق تعينًا لا يقبل طعنًا، ما دام قد أفرغ في القالب التشريعي المعدلة: هذا الحق على شدته، ومع سد أوجه الطعن فيه فيما نزل إلى الغش والتواطؤ وسوء النية، قد انتهى الأمر فيه أن عالج عنده كل من البريتور الروماني والفقيه المفسر تفسيرًا رسميًا أو عرفيًا، عالجوه بأن احترموا لحق في ذاته وما حفه من قيود شكلية ورمزية وقداسة خارجية، عالجوه بذلك الاحترام الشكلي، وبأن قرروا في وجه صاحبه دفوعًا فرعية [(1)] إن هو قام بالمطالبة في وجه من مسه بسوء وأراد الإيذاء له والإصرار عليه، أجاز له البريتور الروماني حق اللجوء إلى دفع فرعي يبطل الحق لدى صاحبه فيبطله إبطالاً، ومع التطور في الدفوع، قامت بجانبها حقوق لأصحابها يصح لهم مباشرتها دون تربص صاحب الحق الأول في المطالبة به، وبذا ظهرت الدعوى البوليسية [(2)] تحمل اسم المشتري التي قال بها بولص [(3)]، والدعوى البوليسية [(4)] بما قاله فيها صاحبها بوبلوسيوس [(5)].
وصاحب الحق وهو في طريق الاستفادة منه إنما يعول على ماله فيه من منفعة مطلقة غير عابئ بما يمكن أن يلحق حقه من عيب عاصره وقت إنشائه، أو عيب لحقه فيما بعد إذا ما تعسف في استعماله وأراد أن يمس ما يجب أن يكون بينه وبين غيره من التوازن الوجوبي بين الأفراد.
وجاء قانون نابليون سنة 1804 وقد تميز بطابع الفردية [(6)] وما لها من قداسة تقررت له بحكم الثورة الفرنسية سنة 1789 وبحكم نشرة حقوق الإنسان سنة 1792 [(7)]، جاء وبرغم تميزه بذلك الطابع فإنه لم يشأ أن يجعل لسوء النية وتبييت الإيذاء أثرًا في تكوين الحقوق، ومد أصحابها بسلاح القوة وأداة الحماية، فأبطل الغش والاعتداء بالقوة وأبطل التعاقد مع مفقودي الأهلية ولم يجز الغبن في صور معينة [(8)]، وكره أن يتجرد العقد في كثير من صوره من الطابع الأخلاقي والميزة الأدبية.
وبرغم ما للعقد من قداسة وما للحق فيه من قوة وما لسلطان الفردية فيه من أثر، فإنه كلما هم صاحب حق في الانتفاع بحقه، وهو لا يلوي إلا على إلحاق الأذى بالغير دون أن ينشد مصلحة مادية معينة، ولم يرد من الاستفادة من حقه سوى السوء والنزول بالضرر لدى خصم له بيت الشركة: كلما حصل ذلك أبى القضاء الفرنسي أن يقيم لهذا العمل وزنًا وعمل على الضرب على يد صاحبه، وبذا تقررت نظرية الاعتساف في استعمال الحق [(9)] حفظًا لميزة التوازن بين الحقوق حيث لا يعبث بها عابث، وتقررت في مناحٍ عدة من القانون وتوزعت على أشكال متباينة من صوره وتقرت للحق ميزة أخلاقية لا يفتر عنها ولا تفتر عنه.
ولما بانت نظرية الاعتساف بالحق وانطلقت في ميادين العمل القضائي وأقرها القضاء الفرنسي، ظهر صداها بالتشريع المصري المختلط سنة 1875 [(10)] وبالتشريع الوطني الأهلي سنة 1883 [(11)]، ولا يزال التشريع المصري بنوعيه يؤيدها في كثير من تشريعاته، من طريق الحد من حرية صاحب الحق وتقييده بقيود عدة حفظًا للتوازن بما فيه حفظ للعدالة وضمانًا لحياة بعض المنكودين ممن افترستهم ملابسات الحاجة وتنمرت لهم ظروف اليأس والبؤس.
وانطلقت نظرية الاعتساف في القضاء الفرنسي والمصري المختلط والوطني انطلاقًا بعيد المدى وقامت في وجهها ثورة من خصومها أرادوا الوقوف دون نموها وهم يكيدون لها كيدًا بحجة أن الأساس فيها إثبات سوء النية وهم عمل نفساني سيكولوجي، وهو من الوهن والضعف بما يجعل طريق الإثبات فيه محفوفًا بالمخاوف والمخاطر والخطأ والغلط، وبما يعرض الحقوق لخطر الزوال والانهيار، وفي هذا ما فيه من المساس بذات الحق وكيانه وأصله.
ولكن نظرية الاعتساف أو نظرية التوازن أبت إلا أن تنطلق فيما أعد لها بطبيعة الحال في ميادين الحياة القضائية وأخذت بها تشريعات عدة وأقرتها أمم في نصوص قوانينها وأخذت الحملة عليها عندئذٍ تخف من وطأتها وأبوا خصومها إلا أن يسيروا بها في طريق المسؤولية بنوعيها المسؤولية التقصيرية [(12)] والمسؤولية الشيئية أو اللاتقصيرية [(13)] على اعتبار أن ما وقع في نظرهم لم يقع من طريق استعمال الحق لأن استعمال الحق لا يمكن أن يترتب عليه مسؤولية ما، إنما وقع من طريق إلحاق الضرر بالغير ضررًا يرجع السبب فيه إما إلى خطأ [(14)] أو إلى ضرورة الأخذ بقاعدة المخاطر [(15)] أي قاعدة الغرم بالغنم [(16)].
وسواء اتصلت نظرية الاعتساف بنظرية المسؤولية في شطريها التقصير والشيئي كما ذهب خصومها، أو قامت على أسس خاصة بها من حيث الطابع الأخلاقي اللازم للحق بحيث لا يجوز بحال أن يتجرد الحق في ذاته عن العناصر الأخلاقية، وبحيث الحيلولة بين صاحب الحق وبين تمتعه بحقه من طريق الإخلال بالتواني ومن طريق رغبته في الوصول بالأذى إلى من يريد إيزاءه: سواء كان هذا أو ذاك فقد تقررت النظرية (نظرية الاعتساف في استعمال الحق) وشقت لها طريقًا بعيد المدى في القضاء الفرنسي والقضاء المصري المختلط والوطني، وأخذ بها كثير من الشرائع الأجنبية التي أيدتها بنصوص لم تخشَ فيها الجانب البسيكولوجي وما يقوله فيه خصومها من خطرة على الحقوق والمعاملات، ما دام أن الشرائع جميعها من عهد الرومان حتى اليوم لا تقيم وزنًا لسوء النية والغش والتدليس، وهي عيوب إن دلت عليها أحيانًا بعض الدلائل المادية كالأرقام وغيرها، فإنها في ذاتها تتكون من عنصر نفساني أخلاقي لا بد فيه من الدخول في قرارة النفس للوقوف على ما عبثت به تلك النفس من رغبة الإيذاء بالغير ومن نية إيصال الأذى به.
وأما وقد استقرت النظرية نظرية الاعتساف أو التوازن فيها نحن أولاء نقوم بعملية الاستعراض لها في ميادينها الحيوية وفي مساقطها التشريعية وفي منابتها القضائية العملية، وإنا لنعني على الأخص بما لها من مظاهر حيوية مادية وما استجلاه القضاء لها وما أفاده منها مما كشف عنه الكثير من الأقضية بين الأفراد، والقاضي إنما هو الملجأ الذي يهرع إليه الفرد ويطلب إليه أن يرفع عنه ما نزل من أذى لا مبرر له، وأن يقف به دون المعتدي وعلى الأخص ذلك المعتدي الذي جرد في اعتدائه سلاحًا انتزعه من حقه فشوه الحق ومسخه مسخًا وذهب فيه مذهبًا لا يتفق والحياة والعمران، إنما هو مذهب مشبع بالسوء مغمور بسوء النية، لم يرد به نفعًا بل أراد به سوء وسوء.
وللاعتساف والإخلال بالتوازن مظاهر بين الحاكم والمحكوم وبين السلطة والفرد.
والذي يجب أن يحمي ويعنى بأمره هو الفرد والجماعة: الفرد من حيث حقوقه الفردية، والجماعة من حيث أن لها كينونة هي ملاذها الأكبر وتتركز فيها حيويتها.
وقانون الجماعة والفرد والحاكم والمحكوم هو الدستور، وواضع الدستور مأخوذ بالحق الأسمى [(17)].
والحق الأعلى فإن هو خالفه كان دستوره معيبًا، وواجب القاضي أن يحمي الفرد من غصب الغاصب مهما كان الغاصب، فإذا التوى القانون وخالف الدستور أخذ القاضي بيد الفرد المضار وقضى له بعدم دستورية القانون لأن في التواء القانون ومخالفته للدستور وللحق الأعلى مساسًا بقاعدة التوازن لاعتساف أصاب القانون، فإذا قضى القانون بإبطال حرفة تركزت فيها حقوق لبعض الأفراد ونالهم ضرر بسبب إلغائها وجب على القانون القضاء بتعويض في مقابل الضرر الذي وقع من طريق حماية الجماعة التي استفادت من نزع ملكية الحقوق لدى الأفراد المضارين، فإن لم يفعل القانون على القاضي القضاء بالتعويض، لأن في الإلغاء نزع ملكية للمصلحة العامة، ولا بد من تعويض الفرد فيما ذهب للمصلحة العامة والمنفعة العامة.
والحاكم في توزيعه سلطان الحكم على الأفراد إنما يقوم بأعمال إدارية [(18)] يجب أن تتصرف وأن لا تتصرف إلا إلى المنفعة العامة، فإذا أريد بالعمل الإداري نية الأضرار بفرد معين زالت عن العمل الإداري مسحته الإدارية وتولت عنه حصانته القضائية، وزوال الحصانة يتعين إما في إبطال العمل الإداري وعدم نفاذه وفي التعويض الكلي أو التهديدي [(19)] أو بالتعويض فقط بشأن الموظف المفصول، ولمجلس الدولة [(20)] الضمان للموظف باعتباره دستوره وسنده الأساسي.
وللحق في ذاته قوة تشد أزره وتحمي حماه، ولا يفهم الحق إلا إذا أمدته القوة بسلطان الحماية، وقوة الحق العقيدة فيه وبصحته لصاحبه، والالتجاء إلى القاضي بالدعوى، والدعوى سلاح الحق، وهي ترفع في جميع الأحوال ولا يحول دونها حائل ولا يوقفها موقف ويجب أن تقبل في شكلها أمام القضاء، فإذا تعسف فيها رافعها ورفعها مدفوعًا بغرض التنكيل بخصيمه وتبييت الإيذاء له، نظرت وقتئذٍ وقضى فيها بالرفض، وجاز لمن قضى له برفع دعوى التعويض على رافع الدعوى الأول.
ولقد عمل الإنكليزي على تعطيل الدعوى في ناحية مبينة بقانونهم الصادر في 14 أغسطس سنة 1896 بتقرير قاعدة مانعة [(21)] برغم ما عرف به التشريع عندهم من طابع الفردية [(22)] وطابع الإطلاق [(23)] والنزوع إلى غير روح التضامن وإلى النبو عنه، والأخذ بقدر وافر من التشدد في أمور الحياة [(24)].
ذلك أنه قرر الحجر على المدعي في رفع الدعوى إذا أكثر من رفعها بلا طائل وكان خاسرًا لها، ويصدر الحجر من محكمة الاستئناف وبناءً على طلب النائب العام [(25)]، وانتهت بأن لانت شرائعها وانسابت في طريق الضرب على أيدي كل من يعبث بالحقوق من طريق الإيذاء والمضايقة [(26)] أو من التعسف المؤذي في القضايا [(27)].
والدعوى إذا رفعت تعين فتح الأبواب فيها في المعارضة والاستئناف وإعادة النظر والنقض، وفي إعادة النظر والنقض يقول القانون بالغرامة لمن فشل، ويجيز التعويض أيضًا (المادة 387/ 431 مرافعات، و500 فرنسي، و(16) و(30) من قانون إنشاء محكمة النقض الصادر في 2 مايو سنة 1932، والمعدل بالقانون رقم (78) سنة 1933، إذ أجاز مصادرة الأمانة والحكم بالتعويض)، وخاسر الدعوى يتحمل مصاريفها، على أنه يجوز الحكم بالمقاصة فيها وتوزيعها على طرفيها (المادة 113/ 118 مرافعات) [(28)].
والحكم بالتعويض على رافع الدعوى إذا خسرها وكان ينوي الكيد بها لخصيمه منصوص عنه بالقانون (المادة 114/ 119 مرافعات).
ومصاريف الدعوى على من خسرها، ويتحمل بها حتى من كسب الدعوى إذا تبين أنه هو الذي تسبب فيها كغيابه وصدور الحكم غيابيًا ورفع معارضة من جانبه (المادة (118) مرافعات مختلط ومعدلة بالقانون في أول ديسمبر سنة 1913).
وإذا رفع الاستئناف وتبين أنه كيدي جاز للمستأنف عليه أن يطلب أمام الاستئناف الحكم له بتعويض عن ذلك الاستئناف الكيدي.
وكان الرومان في عهودهم الأولى في عصر نظام الدعاوى القانونية [(29)] يقررون قبل البدء في الدعوى والمرافعة فيها على شرط اليمين والمراهنة [(30)] تكليف كل من الخصمين على رصد مبلغ معين في التراهن يتراوح بين 50 آس (عملية رومانية)، و500 آس يضيع على من يخسر، ويأخذه القساوسة مضافًا إلى الأملاك العامة [(31)] وكانوا يقررون عقوبة خاصة [(32)] تقضي بمعاقبة البائع بضعف قيمة ما قرره على غير صحة بقائمة شروط البيع، الأمر الذي من أجله اضطر المشتري إلى رفع الدعوى عليه [(33)] وقرروا عقوبة العار والتشهير [(34)] على من يلجأ للغش والتدليس ويعبث بأحكام الرهن والوصاية والقوامة والوديعة.
واليمين في الدعوى جائزة في صورتيها المتممة والحاسمة، ولكل طرف من طرفي الدعوى أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الطرف الآخر (المواد 163 - 176 مرافعات)، ولا يجوز رفضها ويجوز ردها على طالب الحلف، وإذا تبين للقاضي أن اليمين طلبت حاسمة وكان طلبها يرمي إلى التنكيل بخصمه حتى إذا ما حلفها أخذ يشنع عليه في مجالات التعامل بالتحدث بالسوء فيه وأنه حلف يمينًا كاذبة، عند ذاك وجب عدم توجيه اليمين الحاسمة باعتبارها في هذه الحالة حقًا تعسف فيه صاحبه وأراد به خرق التوازن بين الحقوق.
والإنكار بالتوقيع والطعن بالتزوير جائز وعلى من فشل فيه دفع الغرامة القانونية (المواد 251 - 272 مرافعات، و273 - 292 مرافعات).
ويلزمه التعويض إذا كان الإنكار أو الطعن بالتزوير كيديًا غير جدي، والتعويض في ذلك كله على أساس المادة (151) مدني وطني المنقولة حرفًا بحرف عن المادة (1382) مدني فرنسي، والمادة تقرر قاعدة لعل المكان اللائق بها هو الدستور لأنها تقرر مبدأ له مساس بالحرية العامة.
وقد يقف في وجه التوازن في الحقوق الدفع بقوة الشيء المحكوم فيه فيحول دون استقرار التوازن ويقف منه موقف حجر عثرة، وذلك أنه لا بد في سبيل الهدوء العام والطمأنينة الشاملة أن ينتهي النزاع بحكم يضع حدًا لما يشتجر بين الفردين بحيث لا تجوز العودة إلى النزاع من جديد إذا ما أثاره أحدهما، وقد يكون الحكم قد حصل عليه صاحبه بما لا يلائم مع الحقيقة المستورة ثم وفق خصيمه إلى سند قاطع في هدم ما حكم به، وإذا كان سبب اختفاء السند إهمال من صاحبه فلا سبيل له في العودة إلى النزاع، أما إذا كان الاختفاء يرجع لسبب قهري خارج عن إرادته ربما جاز النظر من جديد والمسألة شائكة في حاجة إلى عناية خاصة.
وقد ثار الجدل طويلاً فقهًا وقضاءً بشأن عناصر قوة الشيء المحكوم فيه بشأن الوحدة في كل من العناصر الثلاثة الشخصية والموضوع والسبب وعلى الأخص في الأخيرين، وربما جنحت الآراء إلى التوسع فيهما كلما كان محل العدالة صارخًا واختلال التوازن في الحقوق داعيًا إلى الأخذ بالعدالة في سبيل الأخذ بيد من كان الحكم في غير مصلحته، وقد تعددت المناهج وتواردت الآراء بشأن المادة الفرنسية (1351) مدني فرنسي الموضوعة سنة 1804 والتي أخذ عنها الشارع المختلط سنة 1875 المادة (297) مدني، وقد وضع الشارع الوطني مادته (232) في سنة 1883 بحيث يتسع لها ميدان فسيح في تبرير العودة إلى النزاع بالجوع إلى اختلاف في السبب أو الموضوع أي السند القانوني والتكأة العلمية، وذلك في سبيل الإصلاح من خطأ وإزالة ما قد يقع من الضرر.
ولعل من الأمثلة البارزة حديثًا في هذا الشأن ذلك الحكم الصادر من محكمة الاستئناف المختلطة في 19 يونيو سنة 1945 في القضية رقم (175) للسنة القضائية 70 [(35)] إذ صدر الحكم بإلزام شركة تأمين بدفع قيمة مبلغ التأمين إلى ورثة الشخص المؤمن له ولم يأخذ بما قالت به الشركة في أن المؤمن له، وكانت امرأة هي من مواليد سنة 1875 وتدعي أنها من مواليد سنة 1885 واستند الحكم إلى ظروف وقرائن، بينما قد صدر حكم في قضية شركة تأمين أخرى يرفض دعوى الورثة إذ تبين أن المؤمن لها من مواليد سنة 1875 بينما كانت تدعى هي وورثتها من بعدها أنها من مواليد سنة 1885 أي أنها غشت الشركة في عشر سنوات من عمرها وهو تقدير لا يصح التجاوز فيه، وأصبح الحكمان نهائيين وصدرا في مواجهة الورثة، والحكم الأول ضد الشركة الأولى، والثاني في مصلحة الشركة الثانية وهو القائل بأن المؤمن لها من مواليد سنة 1875، وأودعت الشركة المحكوم ضدها المبلغ بخزانة المحكمة لتوزيعه على الدائنين أصحاب الحقوق فيه وقالت بأنها هي منهم على اعتبار أنها أصبحت تداين الورثة الآن بالفرق بين المبلغ المحكوم به وبين المبلغ الذي يستحق لهم على أساس مواليد سنة 1875، وصدر حكم قاضي التوزيع برفض طلبها عند عمل قائمة التوزيع المؤقتة، فعملت مناقضة نظرت أمام المحكمة الابتدائية الكلية وقضى برفضها، فرفعت استئنافًا قضت فيه محكمة الاستئناف المختلطة بإلغاء الحكم واعتبار الشركة دائنة بالفرق الذي تدعيه، وقد لاحظ الحكم الاستئنافي أنه لا محل للقول بقوة الشيء المحكوم فيه بين الحكم السابق صدوره ضد الشركة وبين النزاع الحاضر لاختلاف الموضوع والسند القانوني أي السبب لأن المطالبة بالفرق هي غير المطالبة بالأصل وأن السن الحقيقية هي السن التي تعينت بالحكم الثاني في مواجهة نفس الورثة ذلك الحكم الذي بني على أدلة مادية محسوسة على خلاف الحكم الأول الذي بني على قرائن ظنية، واستند الحكم الاستئنافي إلى حكمين للنقض الفرنسي أحدهما سنة 1909 قرر بأنه إذا حكم على مؤمن له بدفع قيمة القسط المقرر، دون التعرض لمسألة فسخ التأمين بسبب خطاب مرسل من المؤمن له للشركة، فإنه ليس لذلك الحكم قوة الشيء المحكوم به في دعوى الفسخ التي ترفع فيما بعد، وثاني الحكمين سنة 1911 بأنه إذا كان هناك حكمان حائزان لقوة الشيء المحكوم به بين شخصين مع الاتحاد في الموضوع والسبب فإنه يجب التعويل على الحكم الأخير.
ولقوة الشيء المحكوم به أثر بليغ ظاهر في نظرية التوازن في الحقوق، لأنه وإن كان لا بد في أن تستقر الحقوق بين أيدي أصحابها استقرارًا نهائيًا لا عودة فيه رغبةً في الطمأنينة وتهدئة للنفوس، فإن للعدالة أيضًا شأنًا ظاهرًا في هذا الاستقرار وللأخلاق أثرًا فيها أيضًا فإذا تعارضت العدالة مع الواقع تعارضًا شدت أزرها فيه الناحية الخلقية بما يضطرب له الحق اضطرابًا أصبح التمسك بقوة الشئ المحكوم به غير مجد إذا ما تلمس الباحث أسبابًا ترجع حتى ولو من بعيد إلى اختلاف في الموضوع والسند القانوني أي السبب القانوني، ولعل من أظهر الحالات في هذا المنحى ذلك الحكم الاستئنافي المختلط الذي لمس فيه الخرق للعدالة بين الحكمين فيما إذا أخذ بالتمسك بالدفع بقوة الشئ المحكوم به بينما الورثة في الدعويين هم هم وبينما قد اتضح وضوحًا بينًا بأن السن الحقيقية هي على اعتبار مواليد سنة 1875 لا سنة 1885، وأصبح من الثابت الذي لا جدال فيه بأن الورثة يستولون بالحكم الأول على مبلغ هو ملك الشركة فكأنهم يثرون بلا سبب قانوني على حساب الغير وإضرارًا بالشركة، وأنه من العدل والقانون معًا رد الفرق إلى الشركة المغبونة أخذًا بنظرية الاختلاف في الموضوع والسند القانوني أي السبب وأخذًا بنظرية الإثراء بلا سبب، والأخذ بهما معًا حتى يتضافرا مع بعضهما البعض في سبيل التوازن بين الحقوق [(36)].
وللقاضي عند نظر الدعوى أن يقرر بوجه عام تقسيط الدين على المدين أو تقرير مهلة قضائية للوفاء (168/ 231 مدني) أو مهلة قضائية لدفع باقي ثمن الصفقة (333/ 414 مدني)، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى عالج الشارع الفرنسي بعض الأمور الصارخة فأباح بقانون 5 مارس سنة 1936 لقاضي الأمور المستعجلة تقرير المهلة القضائية، وأزال بقانون 20 أغسطس سنة 1936 كل قيد لها بما يطلق يد التقدير عند القاضي المانح لها، وذلك كله أمام ما أثارته وتثيره حوادث الأيام والساعة من الإشكالات ومن النعي على شدة القانون وقسوته في بعض الظروف [(37)]، وكل ذلك في ضوء ما تمخضت به الحوادث العالمية من وجوب التدخل في العقود تخفيفًا لعبئها وما تحمله من وزن ثقيل [(38)] وضرورة التوجه فيها توجهًا يخفف من ثقلها.
وحق الحبس وقد أقره القانون في الرهن الحيازي الخاص بالمنقول أو العقار (540 وما بعدها مدني)، وفي الأحوال الأخرى الخاصة بالتحسينات وغيرها (المادة (605) مدني)، فإنه لا يجوز الأخذ فيه أيضًا بالعنت والاعتساف وتصريفه إلى غير ما وجد له، فلا يجوز استخدامه في حالة تخرج عن التعامل بين الأفراد، وعلى ذلك لا يجوز للشخص القائم بعملية الجنازة والصرف على المشهد حتى دفن الجثة أن يدعي بحبس الجثة لديه حتى يستوفى الدين المطلوب له، وادعاؤه غير قانوني [(39)].
وللمحتبس للعقار أو المنقول حق الاحتفاظ بالحبس حتى يستوفي دينه المضمون بالشيء المرهون حتى ولو بيع جبرًا عليه، وليس له حق نتبعه في يد من حازه حيازة قانونية.
وحق الحبس خاضع لأصول التعسف، فلا يجوز التعويل عليه إذا ما كان الدين المضمون قد أصبح زهيدًا لا يتناسب مع قيمة الرهن وكان المدين مليئًا تظهر عليه أمارات اليسر.
وليس للمحتبس حق الاستفادة من حق الحبس إذا ما دخل في نزاع مع مدينه وعرض هذا الأخير الدين عرضًا قانونيًا صحيحًا مصحوبًا بالإيداع في خزانة المحكمة، وقد رفعت دعوى من هذا النوع وقضى فيه قضاء النقض الفرنسي في 5 نوفمبر سنة 1923 (د، 924، 1، 11)، وذلك أن (شركة تعاون طالبي التعويض بسبب الحرب) كلفت مهندسًا بدرس ملفات الطالبين وتقديم تقرير عن كل حالة وبيان ما يجب القيام به من الأعمال لكل طالب، وقدرت له الشركة أتعابًا بنسبة المبالغ المخصصة للطالبين، ثم صدر بعد ذلك قانون يقضي باختيار المهندسين للقيام بالعمل المتقدم من بين الذين ترد أسماؤهم بقائمة تضعها المديرية، ولما كان المهندس السابق الذي حصل معه الاتفاق ابتداءً لم يكن اسمه واردًا بالقائمة الموضوعة، فقد اضطرت الحال إلى طلب الملفات من تحت يده، وهنا أبى المهندس إفلات الملفات من يده، على اعتبارها محبوسة عنده وفاءً بما له عند شركة التعاون المذكورة، وعلى ذلك قامت الشركة برفع دعوى طلبت فيها:
أولاً: تعيين المهندس الجديد طبقًا للقانون المشار إليه للقيام بالأعمال المتقدمة من درس كل حالة وتقدير التعويض فيها.
ثانيًا: تقدير أتعاب المهندس السابق.
ثالثًا: إلزام المهندس القديم بتسليم الشركة والمهندس الجديد ملفات الطلبات لدرسها، وقد عرضت الشركة مبلغًا على المهندس السابق أتعابًا له تبريرًا للتخلي عن حق الحبس، فلم يقبله، فكلفتها المحكمة بإيداعه بخزانتها فأودع وقضت محكمة استئناف (إيميان) بطلبات الشركة على اعتبار أن حق الحبس هو ككل حق يجب أن يخضع لقاعدة الاعتساف وأصولها وأحكامها، فإذا ما شابه الاعتساف بقصد الإيذاء من طريق العنت والعناد وكان حق الدائن المحتبس في غير خطر ومأمون الوفاء به وجب سلخ حق الحبس ممن ادعاه وسحب الشيء المحبوس من تحت يده، وقد أقرت محكمة النقض الفرنسية الحكم الاستئنافي المذكور على طول الخط.
والاختصاص ضمان يرجوه الدائن بناءً على حكم بيده وفاءً لدينه (599/ 600/ 721 726 مدني، و681 - 684/ 769 - 272 مرافعات)، وطالب الاختصاص يقدم طلبًا به لرئيس المحكمة فيأمر به في حدود المبلغ وبالقدر الذي يفي به العقار، ولرئيس المحكمة تحميل عقار واحد بالاختصاص بدلاً من اثنين وللطالب حق المعارضة، ولم يذكر القانون شيئًا بشأن المدين وحق معارضته في الأمر الصادر ضده على خلاف ما رسمه القانون في مكان العرائض بالمواد (127 - 132)، (130 - 133) مرافعات، ولكن إذا لم يذكر شيئًا فإن حق المدين في طلب تنقيص العقارين إلى عقار واحد مثلاً لم يزل فله حق المطالبة به بدعوى مستقلة أخذًا بالقياس مع جواز رفع دعوى شطب الرهن (571/ 695 مدني)، وباعتبار الاختصاص كالرهن (599/ 725 مدني).
وإذا فرض وارتفعت أسعار العقارات لمناسبات اقتصادية عامة لها بعض الدوام فإنا لا نرى ما يحول من رفع دعوى بطلب تنقيص العقارات المحملة بحق الاختصاص من عقارين إلى عقار مثلاً ما دام الوفاء بدين الدائن مضمونًا، ذلك لأن القانون أباح في ناحية أخرى بأن للدائن حق إلزام مدينه بتقديم عقار أو الوفاء بالدين حالاً إذا أصاب العقار المرهون عطب أو تلف قهري أو بسبب فعل المدين (562/ 686 مدني)، إذا علم ذلك فلماذا لا تكون الحالة العكسية في حق المدين في طلب التنقيص العقاري عند ارتفاع الأثمان ؟ وإذا كان الرهن لا يقبل التجزئة، ولذا قرر القانون بنفاذه مع ما يصيب العقار المرهون من إصلاح وزيادة إلا إذا اتفق على خلاف ذلك (564/ 688 مدني) فإن عدم القابلية للتجزئة وقد أريد بها مبالغة الحيطة بدين الدائن، لا تضير الدائن ما دام العقار الواحد مثلاً يفي ثمنه بالدين وأكثر، ويجب أن يلاحظ في هذا الشأن ما قد يقع من ملابسات لها بعض الأثر في دعوى التنقيص: قرب تاريخ الوفاء بالدين، استمرار الزيادة القيمية في العقارات بطريقة شبه مطردة، بقاء الأسباب العامة في زيادة قيمة العقارات، وإذا كان القانون أباح المطالبة بزيادة العقارات المرهونة عند نزول قيمتها بخلل أو هلاك حماية للدائن، فإنه يتعين عدالة أن يتقرر الحق العكسي للمدين في طلب تنقيص عدد العقارات المرهونة عند زيادة قيمتها زيادة محسوسة، والقانون أباح للدائن الحق في طلب زيادة العقارات المرهونة عند الخلل أو الهلاك، ولم يقل شيئًا إذا ما نزل سعر العقار لمناسبات اقتصادية مفاجئة وفي حالة شبه استمرار، ولم يقرر حق الزيادة للدائن، فهل يجوز له طلب الزيادة ما دام للمدين حق التنقيص ؟ نظن أن القاعدة القانونية العلمية واحدة، ولا يصح معاملة أحد الاثنين بمقياس ومعيار يخالف الآخر، وعلى الأخص إذا لوحظ بأن المدين وهو ملتزم بالدين في جميع الأحوال فإنه لا يضيره أن يقدم عقارًا زيادة ضمانًا لدين بعيد الأجل، وكان مليئًا لا عسر لديه لضآلته، على أن الأمر في الواقع من الدقة بما هو في حاجة إلى زيادة في التمحيص وكفاية في الدرس لمن شاء التوغل في بحث صنوف وأشكال متعددة، وذلك على أساس أن الدائن وهو مجازف في رهنه فإنه يجوز أن يتحمل ما يصيبه من مجازفته عند نزول قيمة العقار.
ووسائل التنفيذ شرعت للحصول على الديون المطلوبة لجماعات الدائنين من جماعات المدينين، ويجب أن يؤخذ فيها يرفق وبغير اعتساف، فإذا اختار الدائن عقارًا للتنفيذ عليه من حيث بيعه بالمزاد بعد الإجراءات المطولة، وكان العقار مسكنًا خاصًا للمدين يضم أسرته وأفراده، وكان هناك عقار آخر يفي بالدين أو منقولات تفي أثمانها به وجب وقف الدائن في عمله التعسفي حتى ولول كان لا يبغي ابتداء السوء بمدينه، ومن باب أولى ما إذا كان مدفوعًا بدافع النية السيئة حتى تجاوز بذلك حقه من حيث ضرورة الأخذ بالوسيلة الأقل ضررًا.
والأمثلة في هذا الشأن كثيرة في الميادين القضائية، إذ الاختيار في ذاته وهو اختيار الدائن للتنفيذ على عقار دون عقار بما فيه ضرر حتمي على دائن آخر، هذا الاختيار خاضع أيضًا لأحكام نظرية الاعتساف في الحق.
فإذا كان للمدين عقاران مرهونان لدائن واحد وثاني العقارين مرهون أيضًا لدائن آخر بمبلغ صغير أقل كثيرًا عن دين الدائن الأول، وجاء هذا الأخير وبدلاً أن ينفذ على العقار الأول الذي يفي ثمنه بالدين، جاء هذه المرة ونفذ على العقار الثاني، وعند التوزيع الترتيب أو التوزيع بالدور يفوز الدائن الأول نازع الملكية بدينه الذي يكون استغرق دينه كله جميع الثمن فيخرج بدينه مدفوعًا على أتمه ويخرج الدائن الثاني صاحب الدين الأصغر صفر اليدين، وفي هذا ما فيه من الإجحاف والضرر بالدائن الثاني الذي كان يستطيع الحصول على دينه لو قام الدائن الأول بالتنفيذ على العقار الأول فيأخذ دينه من ثمنه دون المساس بالعقار الثاني الذي يفي ثمنه وزيادة بدين الدائن الثاني صاحب الدين الصغير [(40)].
ولحق الاختيار بصفة عدم جواز التجزئة والانقسام في الرهن صلة كبرى، فالاختيار يخضع لقواعد الاعتساف، وكذلك عدم التجزئة، ويجب أن ينصرف كل منهما في الطريق الذي يتفق مع المصلحة الجدية المنشودة وأن لا يؤخذ فيه بالعنت أو العناد أو تبييت سوء النية وانتواء الغدر بالآخرين [(41)].
وإذا كان لدائن رهن على عقارين وباع المدين الراهن أحدهما إلى مشترٍ، فهل يجوز أخذًا بعدم جواز تجزئة الرهن، للدائن أن ينفذ على العقار المبيع دون غير المبيع، الأمر الذي يترتب عليه أن يلتزم المدين البائع بأن يرد ثمن الصفقة إلى المشتري المنزوعة ملكيته باعتباره حائزًا للعقار، أو أن يتعين على الدائن أن ينفذ على العقار الأول غير المبيع وفي ثمنه كفاية الوفاء بالدين ؟ نظن أن تصرف الدائن نازع الملكية يكون سليمًا فيما إذا لم ينتوِ ضررًا، وأما إذا تعمد الضرر وأراد إحراج المدين حتى يلزمه برد ثمن الصفقة وقد يكون غير موجود لديه، إذا تعمد الضرر وجب اعتبار عمله تعسفًا وتقرر له الجزاء.
وما القول فيما يأتي: لدائن رهن على عقارات مدينه، وباع المدين أحد عقاراته المرهونة إلى مشترٍ ورهن رهنًا ثانيًا أحد العقارات المرهونة أولاً إلى دائن ثانٍ، وهنا ثلاثة أشخاص يتنازعون: الدائن المرتهن الأول للعقارات جميعها، المشتري لعقار مرهون، الدائن برهن ثانٍ لعقار مرهون من قبل للدائن الأول.
فهل للدائن الأول صاحب الرهن على العقارات كلها أن ينفذ على المشتري باعتباره حائزًا ؟ وهل للمشتري أن يحتج عليه ويكلفه أن ينفذ على العقار غير المباع ليحصل على دينه من ثمنه ؟
وهل للدائن الثاني صاحب الرهن الثاني إكراه الدائن المرتهن الأول على أن ينفذ على العقار المبيع والمحمل بالرهن الأول وغير محمل بالرهن الثاني ؟
أجاب القضاء المختلط بالسلب وأن للدائن الأول صاحب الرهن على جميع العقارات حق التنفيذ على ما يشاء وفاءً لدينه.[(42)]
وقد تعددت أوجه البحث في تخير أسلم الطرق للخلوص برأي يوفق بين الحقوق المتنافرة والعدالة، وللفقه في ذلك آراء وللقضاء آراء، وهي مبسوطة في كتب التفسير بسطًا وافيًا [(43)].
وتصاب الوكالة بالاعتساف أيضًا، والوكالة باعتبارها عقدًا بين موكل ووكيل لا بد فيها من إيجاب وقوبل (512 مدني)، وهي في الأصل بلا مقابل إلا إذا اشترط فيها الأجر المعين أو النسبي أو كان شرط الأجر مستفادًا من حالة أعمال الوكيل (513 مدني)، وللقاضي حق التدخل في التقديران زيادة أو نقصًا وباعتبار التقصير في أعمال الوكالة ودرجاته (521 مدني)، وللموكل حق عزل وكيله ولهذا الأخير حق عدم الاستمرار في الوكالة (529 مدني)، وإلا أصبح مسؤولاً.
وإذا كان للموكل الحق في عزل وكيله فإنه لا يجوز له أن يعتسف في استعماله لهذا الحق إذا ثبت أن هناك مصلحة ظاهرة للوكيل في البقاء في الوكالة، كما إذا تقررت الوكالة لإدارة الشركة لأحد أعضاء الشركة وبعقد الشركة، أو كما إذا تقررت الوكالة على اعتبارها شرطًا لعقد تبادلي، أو حصل تحويل للوكيل بجزء من الدين المكلف بتحصيله [(44)].
والإصلاح التعويضي عيني في بعض الأحوال ومالي في البعض الآخر، وذلك وراء ما تجري به الظروف وتنادي به الملابسات ويحتمله القانون وتجيزه أصوله.
والشركة كائن معنوي لغرض معين لها أجل يحين بإحدى الأحوال المبينة قانونًا، ومنها رغبة أحد أعضائها في الانفصال إذا كانت مدتها غير معينة وعلى شرط أن لا يكون الانفصال مبنيًا على غش أو كان في وقت غير لائق (المادة 445 مدني). وهذا الانفصال من الشركة وتعريضها للخطر وسوء النهاية أمر يخضع لأصول الاعتساف، فإذا عابه الاعتساف وأراد العضو المنفصل الإيذاء بالشركة وبأعضائها في سبيل قضاء لبانات خاصة به أصبح عمله تعسفيًا وحق عليه جزاء الاعتساف وهو رفض انفصاله وضرورة بقائه، كما إذا جاء وطلب الانفصال وهو يرمي بذلك إلى محاولة الإفلات من الوفاء بحصته في رأس مال الشركة وهي الحصة التي أصبح هو مدينًا بالذات بها للشركة باعتبار هذه الأخيرة كائنًا معنويًا [(45)].
وللشركة وهي كائن معنوي حقوق يجب أن تجري فيها طبقًا لأصول القانون في غير تعسف وفي غير تعمد الإيذاء ولو كان عملها مطابقًا مع ذلك لأصول دستورها ومواد قانونها الأساسي، كما إذا صدر قرارها برغبة إلحاق الأذى ببعض أعضائها، أو صدر لأغراض ملتوية ضارة [(46)] وفي الجزاء العيني على الأخص حماية للشركة في ذاتها ولأعضائها جميعًا بما فيهم الحاملون والمحمول عليهم وحماية الأقلية بينهم [(47)].
وحق الإفصاح عما يجول بالخاطر ونقد ما تكشف عنه الحياة حق طبيعي مقرر أقرته الدساتير بقدر ما توحي به بداهة الحياة وطبيعة الوجود وكرامة الفرد في نفسه وفي جماعات الأفراد، بالقدر الذي تبيحه القوانين الموضوعة فيما يتعلق بالنشر والاجتماعات، وهذا الحق خاضع أيضًا لأصول الاعتساف، فإذا شابه الاعتساف وعابه القصد السيئ تقرر له الجزاء، الجزاء الجنائي باعتبار ما وقع سبًا أو قذفًا أو إهانة [(48)]، ويجوز الطعن في أعمال الموظف وبشرط إثبات أوجه الطعن (المادة 302 عقوبات)، وأن يكون الطعن في الوقت المناسب من أجل المصلحة العامة.
فإذا عاب الطعن تعسف وتوارت وراءه نية الإيذاء بذات الموظف وفات أوان الطعن وتبينت وجهة السوء، أوخذ الطاعن على عمله مؤاخذة جنائية ومدنية [(49)]، ويجوز نقد أعمال المتوفين في حدود النفع التاريخي والمصلحة العامة، وإلا إذا عاب النقد تعسف جاز للورثة حق المطالبة بما يجيزه القانون.
ولجماعات أنصار الفضيلة والأخلاق الكريمة حق نقد ما يتبينوه من سوء المغبة وخطر النتيجة على الأخلاق العامة، كنقد فلم من أفلام السينما قبل عرضه وترغيب الناس عن مشاهدته لما فيه من خطر أخلاقي عام، ولا جزاء على الأنصار ما دام القصد حسنًا والظروف مؤيدة لما يقولون.
والنشر في أساليبه المختلفة أمر لازم من لوازم الحياة، والنقد أكبر مظهر له، والصحف السيارة إدانة، وتقول المادة (24) من قانون الصحافة رقم (20)، والصادر في 20 فبراير سنة 1936 بأنه:
(يجب على رئيس التحرير أو المحرر المسؤول أن يدرج بناءً على طلب ذوي الشأن تصحيح ما ورد من الوقائع…)، وتقول المادة (25) منه (لا يجوز الامتناع عن نشر التصحيح في غير الأحوال..)، وحق النقد مقيد وكذا حق نشر التصحيح مقيد أيضًا، ويجب في كل منهما عدم الاعتساف.
وعقد إيجار الأشياء هو كالعقود الأخرى خاضع أيضًا لنظرية الاعتساف في استعمال الحق في مواضع غير قليلة مما كشفت عنه الحياة العملية والقضائية، وذلك:
فيما يتعلق بالتأجير من الباطن: جرى التآجر التقليدي بين الأفراد في عقودهم الخاصة أن يشترط المؤجر عدم جواز التأجير من الباطن اشتراطًا عامًا بلا قيد، أو اشتراطًا بقيد خاص وهو جواز التأجير الباطني بشرط رضاء المالك، ويقع ذلك في عقود الإيجار الزراعي، وهذا الشرط باعتباره شرطًا واردًا بالعقد له قيمته القانونية فهو نافذ على الطرفين، والشرط هو على تلك الحالة حق للمؤجر، وهو ككل الحقوق يخضع أيضًا لأصول الاعتساف في استعمال الحقوق فلا يجوز الأخذ فيه بما يتعارض مع كرامة الحق في ذاته وماله من غرض جدي يسمو به عن التهاتر الخلقي والإيذاء الكيدي.
وعلى ذلك إذا تبين أن الشرط الخاص بقبول المالك قد استخدمه المالك لغير غرض جدي بل أراد الانتفاع به من طريق الأذى بالمستأجر، وجب اعتبار موقف المؤجر في رفض الموافقة على التأجير الباطني موقفًا تعسفيًا جزاؤه عدم إقراره عليه والقول بصحة التأجير الباطني.
وقد يرد شرط عدم جواز التأجير من الباطن بعقد صدر لمصلحة مستأجر ليس مزارعًا ويستحيل عليه أن يزرع بنفسه وبرجال له، ويعلم المؤجر بحالة المستأجر ويلم بتلك الاستحالة، فإذا جاء المستأجر وأجر من الباطن فإن المالك المؤجر يمنع من الانتفاع بشرط الحظر الذي يعتبر لغوًا ولا محالة ولا يجوز للمالك طلب الفسخ بتاتًا [(50)].
وفي عقود البيع الإيجاري أو الإيجار البيعي [(51)] وما يرد فيها من دفع الثمن منجمعًا مقسطًا واحتفاظ البائع بالملكية [(52)] حتى تمام الوفاء بالثمن جميعه وورود الشرط الجزائي بالعقد باعتبار الأقساط المدفوعة ملكًا حرًا للبائع كتعويض له عند عدم دفع الثمن كله (المادة 123 مدني والشرط الجزائي وعدم جواز مساسه بالتعديل نقصًا أو زيادة)، فإن الحياة القضائية أسفرت عن تعسف في هذه العقود عابها في صميمها: ذلك لأنه وإن كان شرط الاحتفاظ بالملكية صحيحًا قانونًا إلا أن الشرط الجزائي في تملك البائع للأقساط المدفوعة يجب أن يخضع لقاعدة التوازن في الحقوق وأن يقف التعويض عند الضرر فقط بالقدر الذي عاد على البائع من رد السيارة إليه وفسخ العقد ومدة استعمالها، وأما عكس ذلك فهو تعسف تأباه طبيعة الحقوق، وإن كان الشرط الجزائي لا يقبل بالقانون تعديلاً في إيجابه أو في سلبه إلا أن ذلك مشروط بعدم الاعتساف وإذا بانت بوادر الاعتساف جاز القول قضاءً بالزيادة أو النقص للشرط الجزائي، إذ لا يؤخذ به كما هو إلا إذا كان نقيًا لم يعبه تعسف ما [(53)].
ويرد في عقود البيع الإيجاري للسيارات أو غيرها أن للبائع الحق في الفسخ قبل تسليم السيارة المبيعة ورد ما قبضه من العربون أو من قيمة الثمن مقدمًا، وقد يرمي البائع في ذلك إلى غرض بيته في نفسه في أن يرد ما قبضه ويفسخ العقد عليه إذا ما لاحظ ارتفاعًا مفاجئًا في الثمن يستفيد من ورائه عند الفسخ ورد ما قبضه، إذن فعل ذلك وتبينت ظروف ارتفاع الثمن ولوحظ أن في استخدام حق الاختيار هذا تعسفًا وجب قضاء تفويت الغرض الممقوت على صاحبه، ووجب القضاء بالتعويض العيني وهو تسليم السيارة، أو التعويض المالي، والمشتري في ذلك بالخيار إن شاء ذلك أو ذاك [(54)].
وفي عقد إيجار الأشخاص لغير مدة معينة يجوز في أي وقت فسخ العقد بشرط أن يكون الفسخ في وقت مناسب (المادة 404 مدني)، وحتى يستطيع الشخص المستأجر إعداد العدة لنفسه في تهيأة عمل جديد آخر، وإلا جاز التعويض المالي دون العيني إذا ما تبين بأن هناك خطأ أو تعسفًا أو عنادًا أو عنتًا.
وللموظف الحكومي اعتبارات خاصة ترجع لطبيعة العقد الذي ارتبط فيه مع الحكومة على أساس قوانين التوظف المقررة، وله أيضًا الاحتجاج بما يشوب قرار فصله من عيوب التعسف ومن تصريف الأمر الحكومي القائل بفصله تصريفًا تعسفيًا معيبًا لم تلاحظ فيه المصلحة العامة، مع ضرورة ملاحظة ما لمجلس الوزراء من حق الفصل إذا لم يتلمس المعونة له من الموظف وعلى شرط عدم الاعتساف [(55)]، على أنه إذا صح القول بالفصل بسبب عدم الالتئام في المنهج السياسي، فقد يكون مع ذلك للتعويض المالي أثر ظاهر أخذًا بنظرية المخاطر الاجتماعية [(56)] واعتبار خزانة الدولة مسؤولة عن ذلك لا من طريق الخطأ بل من طريق أن الفصل إنما جاء للمصلحة العامة التي تستفيد وحدها منه فكأنه بمثابة نزع ملكية للمنفعة العامة لا بد فيه من التعويض، إلا إذا كان الفصل للمصلحة العامة بمعنى آخر وكان الموظف المفصول محل مؤاخذة معينة في عهد سابق بما لا تقره الوطنية الصحيحة والقومية السليمة، ولا يخفي ما في ذلك كله من دقة في التقدير ووزن الاعتبارات لدى القضاء العادي، بما يجعل الأمر أقل دقة وأبعد خطورة فيما لو كان هناك مجلس دولة يفصل في أمر الموظف طبقًا لأصول مرسومة هي دستور الموظف ودستور الوظيفة وهو ما ترجوه الأمة وتلحف في المسارعة بإنجاز مشروعه.
وللحرية التجارية اتصال بحرية الشخص، وفيها يتقرر حق إنشاء المحل التجاري وحق الاصطناع والإنتاج وحق التصريف لبضائعه ومنتجاته، ويتصل بالحرية التجارية المزاحمة التجارية ويجب أن تكون مشروعة ومباحة في حدود القانون وأن لا يعتدي عليها بالمزاحمة اللامشروعة، والاختراع لمن اخترع وحده لا يزاحمه أحد فيه، والمزاحمة اللامشروعة فيه مؤاخذ عليها جنائيًا (المواد 348 - 351 عقوبات)، ومدنيًا (المادة 151 مدني)، وتجوز فيها المصادرة في حالة التقليد.
وللمزاحمة اللامشروعة صور مختلفة وألوان متباينة: منها تسمية التاجر لمحله باسم سابق لمحل موجود من قبل، ومنها الترويج لبضاعته بالأكاذيب والتشهير بالافتراء لبضائع تاجر آخر.
والمزاحمة المشروعة جائزة مهما أصاب الغير من الضرر ما أصابه، ويجوز الاتفاق بين تاجر ومصنع على أن يورد هذا الأخير منتجاته إلى التاجر وحده دون غيره، وعلى أن يستورد التاجر صنفًا معينًا إلا من ذلك المصنع وحده، وكذلك يصح الاتفاق بين تاجرين على أن لا ينشئ أحدهما محلاً تجاريًا في منطقة معينة أو في وقت معين، ولا يصح هذا الاتفاق إذا أطلق الحظر إطلاقًا مكانيًا وزمانيًا، والجزاء في المزاحمة اللامشروعة عيني بالمصادرة ومدني بالتعويض المالي الفعلي والتهديدي، والتهديدي جائز في حالة فتح محل مخالف للمزاحمة المشروعة، والتعويض التهديدي قابل للزيادة بإصرار المتسبب في الضرر، وإن أغرق في الإصرار جاز التنفيذ الفعلي بالغلق.
وإذا كان الضرر ناشئًا عن عمل عدائي في ذاته أي مؤاخذ عليه جنائيًا فلا بد من إزالته مهما صغر الضرر كما لا بد من إزالة العمل العدائي لأنه إجرامي لا مبرر له مطلقًا،. ويقع أن يكون العمل العدائي بسيطًا يكفي فيه التعويض إذا وقع بحسن نية، كما يحصل عندما يبتدئ المالك عند بنائه الجد الفاصل بينه وبين جاره [(57)].
وإذا كان العمل في ذاته مشروعًا ومرخصًا كإنشاء مصنع أو تكوين شركة قطارات حديدية فيجوز تحمل الضرر البسيط، أما الكبير فلا بد من التعويض ولا محل للإزالة لأن فيها ضررًا عامًا شاملاً، ولا بد لصاحب المصنع أو للشركة من تتبع خطوات العلم والعمل بما يترتب عليه أقل الأضرار، والرخصة الإدارية من الحكومة لا تحول دون المطالبة بالتعويض، لأن أساس التعويض قاعدة (الغرم بالغنم).
أما إذا كان العمل في ذاته صحيحًا ولكن شابه الاعتساف وقت الاستغلال والاستعمال فإن الجزاء عيني ومالي، وبناء الحائط التعسفية باطل ويجوز هدمها، كما يجوز إزالة العوائق التي يحدثها صاحب أرض لمضايقة الجار في مطاره ولأجل إكراهه على شراء أرضه المجاورة للمطار، وإذا أجرى مالك حفريات بأرضه حتى ينضب الماء عند جاره جاز ردم الحفريات.
وفي الجزاء العيني لا بد مع ذلك من احترام الحرية الشخصية، فمن تعهد بتمثيل دور أو وضع صورة فلا يكره على العمل فيهما، والجزاء هنا مالي فقط، وإذا تعهد ممثل بعدم تمثيل دور أو رواية وخالف عهده جاز التعويض وجاز الجزاء العيني إذا كان للأمر المحظور اتفاقًا مساس بالآداب العامة، وهذا الجزاء العيني يسمى أيضًا بالجزاء الواقي.
وفي نظرية الالتزامات ميادين فسيحة لقاعدة اختلال التوازن في الحقوق ولقاعدة الاستعمال التعسفي للحقوق.
وفي الوفاء بالالتزام يجوز للغير أن يفي بالدين للدائن الذي يستلم قيمة دينه برغم إرادة مدينه ورغم معارضته (المادة 160 مدني) إلا إذا كان للمدين سبب معقول في المعارضة، فإن امتنع السبب ولم يحصل وفاءً للدائن وأصابه ضرر أصبح المدين مسؤولاً عن ذلك الضرر أخذًا بنظرية التعسف في استعمال الحق، وللاعتساف ثمنه، فمن عمل به دفع فيه جزاءه، ومن اعتسف دفع، ومن آذى جوزي.
ويقع أن تكون لذلك الغير مصلحة في الوفاء بالدين للدائن، كما إذا كان مشتريًا لعقار من المدين وفي ذمته بقية من الثمن بقدر يفي بدين البائع للدائن، فإذا تعرض المدين البائع بغير عذر مقبول أصبحت معارضته غير مشروعة ويجب أن يتحمل جزاءها فيما إذا أصاب المشتري ضرر، وإذا اتفق المدين البائع مع الدائن على عدم أخذ الدين من المشتري أصبح المتواطئان ملزمين بتعويض الضرر للمشتري، ولهذا الأخير حق العرض القانوني مع الإيداع، وحق رفع دعوى مستعجلة بإيقاف البيع حتى يتم الفصل في صحة العرض.
وإن كان الوفاء يحصل في محل المدين وهو الأصل إلا أنه يجوز أن يحصل في محل الدائن وبالبريد، وإذا أراد المدين الوفاء بالشيك على البنك جاز للدائن الرفض للفروق الظاهرة بين البريد والبنك إذ للشيك ظروف قد تحول دون اعتباره أداة وفاء صحيح لاحتمال أن لا يكون هناك رصيد أو أن هناك حجزًا، إلا إذا كان الشيك من البنك على البنك.
وإذا كان للمدين الواحد جملة دائنين فله أن يختار الوفاء لأحدهم كما تهديه إليه مصلحته، وكما يريد حتى ولو أراد أن يفي بدين لم يحصل بعد مع أن هناك ديونًا عليه قد حلت، ولا يقع تصرفه تحت طائلة التصرف البوليصي ودعوى الإبطال لأن عمله ليس من شأنه إلقاءه في العوز والضيق، وحق الاختيار هنا حق له حصانة الحق المطلق، إلا في حالة الإفلاس إذا ما أشرف التاجر عليه ففضل دائنًا على آخر وخالف بذلك قاعدة المساواة في حالات الإفلاس (المواد (227) و(228) تجاري).
وإذا ثقل كاهل المدين بجملة ديون فله حق الخيرة في الوفاء بما يريد هو لا دائنه (المادة 272 مدني)، وله حق تعيين محل الوفاء بالدين الذي يرضاه، وإن كان حق الاختيار هذا مطلقًا إلا أنه قد يقع أن يشوبه الاعتساف فيسري عليه جزاء التعسف في استعمال الحقوق إذا ما انتوى المدين المدني بالدين إيذاء مبيتًا ضد آخر ونية مقصودة ترمي وترمي إلى الإضرار ضد الغير: ويقع ذلك فيما إذا كان هناك مدين بجملة ديون أحدها مضمون من آخر ضمانًا تضامنيًا وجاء المدين ودفع دينًا عاديًا ولم يدفع الدين المشمول بالتضامن مع أن المصلحة هي في الوفاء بهذا الدين الأخير لما فيه من خلاص الاثنين المدين وضامنه، وقد فعل ذلك حتى يلجأ الدائن إلى التوجه في الوفاء إلى الضامن فينفذ عليه بما فيه المساس به وبسمعته بسبب إجراءات التنفيذ العقاري وإعلاناته وما إلى ذلك كله، وقد قضى القضاء في ذلك بأن حق الاختيار هذا قد شابه التعسف في الاستعمال وجاز عليه الإصلاح العيني أو المالي [(58)]، كما أنه قضى في مسائل عدة بسريان التعسف على حق الاختيار في حالة الملكية وفي حالة الإجراءات، كما إذا جاء الوارث وقد حكم ضده في معارضة رفعها هو ضد تنبيه نزع الملكية ولم يشأ أن يرفع استئنافًا عن ذلك الحكم بل جاء ورفع دعوى مستقلة بتثبيت الملكية وفيها كثير من العراقيل والمضايقة بخصيمه [(59)].
وقد تدق مهمة القاضي في تنقية العقد من الأدران والشوائب الأخلاقية وفي توجيه العقد توجيهًا سليمًا [(60)] بحيث يصبح وقد انساق وراء البحث عن أصح المثل العليا دقة واتساعًا وهو يهدف إلى ما يجعلها تتفق مع العدالة في المعاملات بين الناس اتفاقًا صحيحًا [(61)].
وقد وقع أن شركة سكة الحديد اتفقت مع شركة صناعية تجارية على أن تمدها بفرع من سككها الحديدية وأن تجهز الفرع الحديدي بعربات للنقل في مدة معينة تعيينًا واسعًا، وجاءت شركة سكة الحديد وأضمرت السوء والإيذاء للشركة الصناعية وأرادت التنكيل بها وبعثت بعرباتها وبالكمية المطلوبة جميعها في الوقت الواسع المضروب بحيث قد شعرت الشركة الصناعية أن العربات وإن كانت قد وصلتها في الميعاد إلا أنها وصلت بكمية تتعدى الحد المألوف لنقل البضائع بحيث أصبحت تشعر بضرر يلحق بها من جراء تراكم العربات لديها ترى كما لا يتسع له الوقت الموجود، وأصبحت تشعر بالحاجة إلى العربات فيما بعد وفيما لو وردتها شركة سكة الحديد في أوقات مختلفة في حدود المواعيد المضروبة، وأما وقد زادت كمية العربات عن القدر المألوف عادةً وأرادت شركة سكة الجديد من هذا التراكم إحراج الشركة الصناعية لتنزل بها ضررًا مبيتًا ضدها، فقد تقرر لها الجزاء التعويضي القضائي المالي ضد الشركة الحديدية نظرًا لذلك الاعتساف الظالم في الحقوق، برغم ما لتعريفات السكك الحديدية من دقة ملحوظة في التفسير اللفظي والشكلي، وهنا لعبت الحكم الرومانية دورها من الأثر وهي القائلة بأن الغش يفسد كل شيء [(62)] ولا يجوز التسامح مع المدلسين [(63)] والمبالغة في الحق ظلم فادح [(64)].
وفي تحويل الديون من الدائن لآخر باعتباره بيعًا للدين (المادة 348 و349 مدني)، يلاحظ ضرورة رضاء المدين بالتحويل كتابة للرابطة الشخصية بينه ودائنه (المادة 349 مدني)، فإذا تعدد المشترون لدين واحد كان أولاهم بالوفاء إليه أسبقهم بإخبار المدين بالتحويل.
وإذا تحول الدين إلى محتال واحد ولم يزاحمه محتال آخر ولم يقم بإخطار المدين ثم جاءه وطالبه بالوفاء، وأبى المدين الوفاء إليه جاز للمحتال مقاضاته وطلب الحكم عليه على أساس أن المدين تعسف معه من حيث جهله بالتحويل وعدم علمه به لأن الضرر بعيد كل البعد ولا محل عندئذٍ للامتناع عن الوفاء.
وللمدين المحول عليه الحق في حالة بيع الدين المتنازع عليه [(65)] أن يدفع للمحتال ما دفعه هذا الأخير بالفعل إلى البائع له (المادة 354 مدني)، وذلك فرارًا من رجال اعتادوا شراء الديون المتنازع عليها ليصيبوا من ورائها مكاسب بما اعتادوه من انتهاز الفرص والوقوف بالكيد في وجوه الضعفاء من المدينين المنكوبين [(66)]، وذلك تأسيسًا لما قاله سيلسوس [(67)] حكيم الرومان في أن القانون هو فن الحق والعدل [(68)].
وللملكية لدى صاحبها حرية يتملكها المالك، فإن شاء تصرف وإن شاء لا، وترد على حرية التصرف قيود، فلا يجوز أن يتصرف إضرارًا بدائنيه وإلا جاز الطعن في تصرفه بدعوى الإبطال أي الدعوى البوليصية (المواد (143) و(556) و(53) و(206) مدني [(69)])، ولا يجوز له التصرف إضرارًا بورثته مهما كانت صيغة التصرف الذي يرمي في حقيقته إلى الوصية حيث لا وصية لوارث، ولمحكمة النقض آراء معروفة في هذا الصدد.
ويبطل الوقف إذا حصل بنية الإضرار بدائني الوقف (المادة 53 مدني وطني)، ولا بد حينئذٍ من النية، ولكن القضاء المختلط يقول بالبطلان لمجرد وقوع الضرر اعتمادًا على المادة (76) مدني مختلط التي لم تشترط النية ولأنها وردت عقب المادة (74) مدني التي قالت ببطلان الهبة الحاصلة إضرارًا بالدائنين دون شرط نية الإيذاء، وأصر القضاء المختلط على رأيه برغم وضع المادة (38) من لائحة التنظيم القضائي وضعًا أشير فيه إلى نية الإضرار وهي اللائحة التي وضعت بمؤتمر مونترو بسويسرا سنة 1937 وهذا الإصرار في غير محله لأن نية الإيذاء عنصر أساسي لدعوى الإبطال ولأن المادة (74) مدني مختلط الخاصة ببطلان الهبة الضارة بالدائنين إنما تقرر قاعدة عامة الأمر الذي لم يرَ الشارع المصري الوطني سنة 1883 محلاً لنقلها بالقانون المدني، ولا يمكن أن يكون الشارع الوطني أراد سنة 1883 غير ما أراده زميله الشارع المختلط سنة 1875 وكان يجتزئ المواد ولا ينقل بعضها اكتفاءً بما هو موجود منها.
ولا بد في دعوى الإبطال لنفاذها ضد المشتري، أو المتعامل تعامل عينيًا عقاريًا مع المدين بوجه عام، أن يكون ذلك المشتري شريكًا في الإيذاء أو متواطئًا مع المدين، وإلا إذا كان حسن النية فلا محل للقول وقتئذٍ باختلال التوازن في الحقوق لأنه عند الأخذ بنظرية المفاضلة بين مشترٍ حسن النية معنى بأمره ولم يخطئ وبين دائن عادي لم يحتط في أخذ ضمان يجب تفضيل الأول على الثاني.
وهل تنفذ دعوى الإبطال على التصرف في الشروط العشرة المعروفة في الوقف إذا أراد الواقف إخراج نفسه من الاستحقاق وأدخل آخر مكانه فأصاب دائنيه ضرر من ذلك ؟ أجاب القضاء المختلط بالإيجاب [(70)]، ولعل الرأي السلبي هو الأصح لأن التصرف في الشروط العشرة لا يعتبر تصرفًا بالمعنى الصحيح إنما هو انتفاع بحق ذي لون وطبيعة خاصة ولأن الغالب فيها النزعة الشخصية ولا تعتريها النزعة المالية إلا عرضًا ولأن الوقف غير الهبة، ولأن الوقف المصحوب بالشروط العشرة فقد حصل قبل الاستدانة ويعلم الدائن به وبشروطه العشرة، ولأن الشروط العشرة قد اتصلت بالواقف أو نائبه اتصالاً وثيقًا لا يجوز النزول عن الحق في استخدامها وإلا كان النزول باطلاً وجاز الرجوع فيه [(71)]، ولأن علماء الشريعة الإسلامية يقولون بشأن الشروط العشرة (يملك العمل بمقتضاها كل من شرطت من واقف وناظر وغيرهما سواء كان صحيحًا معافى أم مريضًا مرض الموت إذ المريض مرض الموت ممنوع فقط من التصرفات الإنشائية التي تضر بدائنيه أو ورثته، وفيما عدا ذلك هو وغيره سواء) [(72)].
ولمناسبة الوقف هل يجوز لشخص يتعين فيما بعد مستحقًا في وقفية عند نزول المستحق الآخر هل يجوز له قبل أن يصبح مستحقًا بالفعل حق التنازل لدائن له عن استحقاقه الذي لم يقع بعد ؟ وهل ذلك التنازل يثمر ثمرة فيما إذا جاء الدائن المتنازل إليه وأعلن ناظر الوقف بالتنازل، ثم جاء وقت الاستحقاق الفعلي وزاحمه دائنون آخرون، فهل يفوز عليهم بالأولوية في الاستيلاء على الاستحقاق أم أنه يتزاحم سهم فيه كل بقدر النسبة في دينه ؟ قضى القضاء المختلط بالجواز، ولكن الصحيح عدم الجواز لأن الاستحقاق قبل وقوعه هو أمل كالأمل عند الوارث في الإرث عن مورثه، إذ قد يحصل أن لا يتحقق الأمل فيموت المستحق القادم قبل أن يكون مستحقًا بالفعل أو يموت الوارث قبل مورثه [(73)].
والشفيع وقد تقرر له حق الشفعة لمجرد توافر شروطها وعند حصول البيع للغير، إنما يتقرر له الحق تقريرًا موقوفًا نفاذه على رغبته في الأخذ بالشفعة، فإذا قرر الأخذ قضى له بها من وقت إظهار الرغبة وله الغلة من ذلك التاريخ، وإذا تحايل المشتري على تفويت حق الشفعة إضرارًا بالشفيع كان في ذلك إخلال بالحقوق المتوازنة فيما بينها وتعين القضاء بالشفعة واعتبار الحيلة وسيلة غير مشروعة قانونًا وإنها تخل بالتوازن بين الحقوق وبين بعضها البعض، والحيلة في الشفعة إن هي إلا تدليس بالقانون أو اعتساف في استعمال الحق حق الشراء من الغير، أو أنها عمل باطل لأن السبب فيه معيب ولحقه الغش والتدليس فأصابه البطلان بعلة بطلان السبب.
والملك وهو على صاحبه يصبح في يده حرًا يفعل فيه المالك كما يشاء، ولكنه إذا تصرف مرة فإنه لا يجوز التصرف مرة أخرى وعلى الأخص إذا تواطـأ مع المشتري الثاني على التسجيل قبل المشتري الأول إضرارًا بهذا الأخير إذ يعتبر ذلك العمل اعتسافًا في التسجيل [(74)].
وهل يختل التوازن في الحقوق بين بعضها البعض في حالة ما إذا باع المورث لمشترٍ لم يسجل عقده ثم جاء الوارث وباع لمشترٍ آخر وسجل ؟ وهل يختل التوازن فيما إذا تنازع المشتري من الوارث هذه المرة مع دائن عادي للمورث ؟ أن الأمر في ذلك يرجع لنظرية التفاضل، ولا شك في أن الفوز للمشتري الذي سجل واشترى بعد زمن حصل فيه التأكيد بأنه لم يكن للمورث دائنون أو أن المشتري سجل وهو لم يعلم مطلقًا بالبيع الحاصل من المورث [(75)].
والمالك حر في أن يتصرف في ملكه ببيعه إلى الغير، ولا يكره على البيع للغير مهما عرض هذا الأخير من الثمن، ومن غرائب الأقضية في هذه الحالة أن مالكًا لأرض بناء متسعة لا نفع من ورائها تغمرها الأوساخ وتشيع فيها الأحجار، وكان يجاوره مالك لمصنع أراد ضم الأرض إلى مصنعه رغبةً منه في توسعه وسدًا لحاجاته الملحة وعرض على مالك الأرض ثمنًا عاليًا ثلاثة أضعاف ثمنها الحقيقي فلم يرد عليه المالك فرفع صاحب المصنع الدعوى على المالك فقضى برفض الدعوى [(76)]، وقضاء النقض صحيح لأن القول بالاعتساف لا يكون إلا إذا كان هناك رباط قانوني بين طرفين جمعهما ظرف من الظروف فربط الواحد منهما بالآخر وإذا فرض وقام صاحب المصنع بأعمال ضارة بصاحب الأرض ليحرجه وليزيد من التنكيل به حتى يضطره إلى البيع وجب إيقاف تلك الأعمال وهدم ما تم منها ما دام لم يكن هناك غرض جدي منها [(77)].
والانتفاع بالحق يجب أن يكون متفقًا مع رسالة الحق في ذاتها، والخروج عن حدود الرسالة موجب للمسؤولية متى كان الخروج مشوبًا بالغل والحقد، ويقول في ذلك (سافاتييه) [(78)] بأن صاحب الحق يرتكب في هذه الحالة خطأ، والخطأ في نظره مخالفة الواجب الأدبي [(79)]، وإن الخطأ يفيد بأن هناك واجبًا عامًا يسبق وقوع الخطأ وأنه لا يجوز لأحد أن يسيء إلى الغير [(80)]، ويقول (جوسران) بأن الخطأ هو الإضرار بحق مقرر للغير [(81)].
ويقول (سافاتييه) إن أصول الأخلاق ومبادئ الأدب إنما تقضي على الإنسان بأن يبقى مخلصًا أمينًا في عقوده والتزاماته وأن يعمل طبقًا للقانون وفي حدود العوائد الحسنة وأن لا يؤذي الغير [(82)].
ويقول (سافاتييه) في تعليل الالتزامات الناشئة عن حسن الجوار في المساكن وفي غيرها في مقاعد قطارات السكة الحديدية والمسارح والملاهي والترام والسيارات، يقول بأن المسوغ العلمي لتلك الالتزامات هو الخطأ، والمضايقة حق مقرر للأفراد في الحياة على أساس العدالة التي ترجع للضرورات الاجتماعية، والخروج عن حدودها يعتبر خطأ، وأن الجار يعتبر مخطئًا في كل حالة لم يأخذ فيها ما يلزم من الحيطة حتى يجنب جيرانه مضايقات بليغة [(83)].
والتغابن في العقود جائز بما يرجع فيه إلى مهارة المتعاقدين وما اكتسبوه من مرانٍ في مزاولة الأعمال الحيوية، على أن لا يكون هناك عيب الغش والتدليس (133) و(136) و(251) مدني، ويبطل العقد بسبب الغبن في حالة معينة، وهي حالة البيع لعقار مملوك للقاصر وكان الغبن يزيد عن خمس الثمن (336 مدني) ويزيد القانون الفرنسي على ذلك حصول الغبن في البيع بوجه عام إذا زاد الغبن عن (المادة 1674 مدني)، وحصوله في القسمة إذا زاد عن مقدار 0.25 ويزول عيب العقد بدفع الفرق وإلا كان الإبطال، والتقادم فيه سنتان من وقت البلوغ أو الوفاة (337 مدني)، ويعاقب القانون من انتهز فرصة احتياج أو ضعف أو هوى شخص لم يبلغ سن الرشد وتحصل منه إضرارًا به على كتابه سنديه أو تخالصيه (338 عقوبات) أو انتهز فرصة الضعف والهوى وأقرض نقودًا بأي طريقة كانت بفائدة تزيد عن الحد الأقصى أو اعتاد الربا (338 عقوبات).
والغبن في ذاته ليس مبطلاً للعقود إلا في حالات خاصة، وفي غيرها لا يبطلها، إلا أن بعض الشرائع أجازت البطلان بسبب الغبن الفاحش، أجازه القانون الألماني سنة 1900 بالمادة (138)، ومشروع قانون الالتزامات الفرنسي الإيطالي سنة 1928 بالمادة (112)، والقانون اللبناني بالمادة (213)، والقانون السوفييتي بالمادة (33) و(972)، وفي ذلك تقول المادة (112) من المشروع الفرنسي الإيطالي (إذا عقد شخص وهو تحت سلطان الضيق والضرورة الملحة عقدًا ضارًا به ضررًا ظاهرًا جاز للقاضي، بناءً على طلب الشخص المضار أو النائبين والممثلين له تمثيلاً اجتماعيًا وأصحاب الاختصاص في ذلك، له الحكم ببطلان العقد أو الحكم بوقف سريانه ومفعوله في المستقبل) [(84)] وتقول المادة الألمانية (138): (يبطل العمل القانوني الذي يمس العوائد الحسنة ويبطل أيضًا العمل القانوني الذي يعمل فيه الشخص على استغلال الحاجة الملحة عند البعض أو ضعفه وعدم تجاربه ويرمي فيه في مقابل التزام من جانبه إلى الحصول على وعد من الوعود أو على أن يقوم هذا البعض ببعض المزايا من ماله، وهي وعود ومزايا تزيد كثيرًا في قيمتها عن قيمة الالتزام من جانب الشخص المستغل زيادة صارخة إذا ما لوحظت ظروف التعاقد وملابساته) [(85)].
وليس أدل على أثر الأخلاق والآداب في العقود من اشتغال الشارع نفسه به ورغبته في أن تصطغ العقود به بين الأفراد، وهذا كله إنما يدور حول مبدأ الإغراء [(86)] سواء روعي في سببه الإكراه الأدبي أو الغلط، إذ قد شوهت الحرية في التعاقد وانتقصت [(87)]، وقد كشف القضاء عن مثل كان فيه الاستغلال قد بلغ شأوًا كبيرًا عن زوج اتفق مع زوجته على تطليقها على شرط دفع مبلغ معين دفع بعضه والبعض منجمًا، فرفعت الزوجة دعوى على الزوج برد ما دفع وبراءة ذمتها من الباقي وعقب الزوج على الدعوى بدعوى فرعية بطلب ما تبقى له، وقد حكم برفض رد المدفوع وبراءة ذمة الزوجة من الباقي ورفض الدعوى الفرعية [(88)]، وذلك على أساس أن هناك اتفاقًا على الخلع في مقابل مبلغ، وأنه يجوز شرعًا وقانونًا النظر في المقابل والنزول به إلى الحد المناسب لظروف الدعوى وملابساتها.
ولا تقف مسؤولية المغري أمام من أغراه، بل قد نقذف به المسؤولية إلى أن يكون مسؤولاً أمام الغير الذي أراده بالسوء، فإذا أغرى صاحب مسرح ممثلاً على التمثيل عنده بمبلغ كبير جدًا وهو يريد بذلك تفويت المنفعة على صاحب مسرح آخر يشتغل فيه ذلك الممثل، أصبح الشخص المغري مسؤولاً أمام صاحب المسرح الذي أصابه الضرر، وكذلك إذا أغرى ترزي مستخدمًا في محل ترزي آخر على ترك محله في مقابل أجر كبير وفي مقابل تعهده التعويض [(89)].
ويدخل في الإغراء ما إذا جاء تاجر وهو في طريق المزاحمة التجارية وأراد إدخال الإغراء على جماعات المشترين في سبيل إلحاق الضرر بتاجر آخر يزاحمه، وذلك أن يجيء التاجر وقد انتوى السوء بالآخر ويأخذ في بيع بضاعته بأسعار منخفضة انخفاضًا ظاهرًا [(90)] وهو بذلك يسيء إلى التاجر الآخر ويستفيد أيضًا من تلك الإساءة.
وحق الملكية حق مطلق (المادة 11 مدني)، ولكنه مقيد بأن لا يعيبه الاعتساف وليس للجار أن يجبر جاره على إقإقامة حائط بملكه ولا أن يعطيه جزءًا من حائطه أو من أرضه وليس لصاحب الحائط أن يهدمه لمجرد إرادته إذا ترتب عليه ضرر للجار، إلا إذا كان هناك باعث قوى على الهدم ومع الحيطة (37 مدني)، وهناك واجبات في الجوار يرجع في تسويغها القانوني إلى التزامات الجوار وما يتكون في عنق كل جار من واجب رعاية جاره وعدم المساس به، وفي الاعتساف بالملكية شيء كثير فاضت به الأمثلة القضائية بما هو وارد بالمؤلفات القانونية في غزارة وسعة [(91)].
والاعتساف في الحق إنما يرجع إلى اعتبار الحق متعة يندمج فيها الالتزام العمراني بعدم إيذاء الغير لاستحالة العزلة الاجتماعية [(92)].
والأعمال الضارة بوجه عام على ثلاثة أنواع:
1 - الأعمال المخالفة للقانون وهي واجبة الإزالة ولو لم يترتب عليها ضرر ما.
2 - الأعمال الخاطئة وهي المشوبة بالاعتساف والشهوة الجامحة.
3 - والأعمال الخطيرة أو المتعدية وهي ما تستند إلى قاعدة الغرم بالغنم.
الاعتساف في الحق والانصراف فيه بقصد الإيذاء على ما يخالف رسالته العمرانية، عمل غير مقبول.
وفي ذلك تقول القوانين الأجنبية شيئًا غير قليل المادة (226) مدني ألماني (لا يعتبر استعمال الحق مقبولاً إذا انصرف ذلك الاستعمال إلى مجرد الإضرار بالغير) [(93)] وقالت المادة (826) منه ما يأتي (إذا أصر الشخص النية على الإضرار بالغير وقام نحوه بأعمال تخالف العادات الحسنة، وجب عليه التعويض [(94)])، وقالت المادة (903) مدني ألماني بشأن الملكية، (يجوز لمالك الشيء في غير الأحوال المحظورة بحكم القانون أو فيما يمس حقوق الغير، أن يتصرف في ذلك الشيء كما يشاء وأن يمنع الأشخاص الآخرين من القيام فيه بأي عمل ما [(95)])، وفي القانون النمساوي تقول المادة (1305)، (لا يسأل الإنسان عن الضرر الذي يتسبب فيه للغير إذا ما استعمل حقوقه [(96)])، وقررت المادة (1295) فقرة (2) من القانون النمساوي المعدل سنة 1916 (بأنه يلزم بالتعويض كل من استعمل حقه بطريقة مخالفة للعوائد الحسنة ومع تبييت النية على الإيذاء بالغير)، وورد بالمادة (148) من القانون الصيني المعمول به من سنة 1926 ما يأتي (لا يجوز أن يكون الفرض الأصلي من استعمال الحق مجرد إيذاءً للغير)، وجاء بالقانون المدني السويسري الموضوع سنة 1927 والمعمول به سنة 1912 بالمادة (كل إنسان ملزم باستعمال حقوقه وتنفيذ التزاماته طبقًا للأصول المقررة في حسن النية [(97)]، وورد بالقانون السوفييتي الموضوع سنة 1923 تلك القاعدة التي تزعمت القوانين السوفيتية.
(الحقوق المدنية يحميها القانون إلا في الأحوال التي تستعمل فيها تلك الحقوق استعمالاً يتجه في طريق معارض للغرض المرجو منها اقتصاديًا واجتماعيًا).
وقال مشروع القانون البولوني بمادته (10)، (يعتبر باطلاً وليس له أي أثر قانوني كل التزام مخالف للغرض الاجتماعي والاقتصادي المعين بالقانون).
أما القانون البولوني نفسه فقد ورد به بالمادة (135) ما يأتي (كل من استعمل حقه فأضر الغير بقصد أو إهمال وجب عليه تعويض الضرر وذلك فيما إذا كان قد تعدى الحدود التي يقضي بها حسن النية أو يعينها الغرض الذي من أجله تقرر له ذلك الحق).
وورد بالمادة (124) من القانون اللبناني (يلزم أيضًا بالتعويض كل من تسبب في إلحاق ضرر بالغير إذا ما تعدى وهو في طريق استعمال الحق الحدود المعينة في حسن النية أو الحدود التي تعينت للغرض الذي من أجله تقرر له ذلك الحق).
ويقول قانون العقوبات الإيطالي بالمادة (641) (كل من أخفى حالته الشخصية الخاصة بإعساره أو تعاقد عن التزام بنية عدم القيام به يعاقب بناءً على شكوى الشخص المضاد بالحبس لمدة لا تزيد عن سنتين أو بغرامة لا تزيد عن خمسين ألف ليرة، وإذا حصل القيام بالالتزام قبل صدور الحكم بالعقوبة سقطت الجنحة).
هذا ما قطعته نظرية التوازني في الحقوق أو نظرية الاعتساف في استعمال الحق، في ميادين الفقه والقضاء والتشريع، ولقد أصبحت الآن وقد اندمجت في الأصول القانونية العامة ولها ما لها وعليه ما عليها، والعبرة بها في مجال العمل وما تكشف عنه القضايا مما تسفر ملابساتها عن نية مبيتة لسوء وغدر بالغير، وهنا يأتي دور الجزاء فيلعب دوره ليضع كل واحد عند حده حتى لا يصبح القانون لعبة في يد الفرد، وإنا قد أردنا الاجتزاء فيما أخرجناه لما للنظرية من سعة المجال واتساع الميدان ولما يدور حولها من مختلف وجهات النظر من حيث التقدير العملي والوزن العلمي أيضًا، والله الموفق.
________________________________________
[(1)] exceptio
[(2)] action paulienne
[(3)] Paul أو Paulus
[(4)] la publicienne
[(5)] Publicius
[(6)] individualisme
[(7)] déclaration des droits de l’homme
[(8)] البيع بوجه عام والقسمة
[(9)] abus des droits
[(10)] التشريع الذي وضعه المحامي الفرنسي موفوري Maunoury
[(11)] وضعه القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo
[(12)] responsabilite delictuelle
[(13)] responsabilite objective
[(14)] faute
[(15)] risque
[(16)] قاعدة الغرم بالغنم قال بها الرومان:
أي: là où est l’avantage, là doit être la charge
أي: حيث يكون النفع يجب أن يكون العبء.
أي: من اختص بالمنافع وجبت عليه التكاليف، انظر حكمًا هامًا لمحكمة استئناف مصر الوطنية في 17 أكتوبر سنة 1940 المحاماة 21 رقم (376) صـ 891 - جوسران في الاعتساف صـ 33 ن 25 - كتابنا في الحقوق صـ 138 وما بعدها.
[(17)] droit supérieur
[(18)] actes administrattf
[(19)] astreintes
[(20)] Conseil d’Elat
[(21)] systeme préventif
[(22)] indidualisme
[(23)] absolutisme
[(24)] struggle for life
[(25)] انظر كتابنا في الحقوق ن 294 صـ 278 و288.
[(26)] malicious prosecution
[(27)] malicious abus of psocess
[(28)] وفيما يتعلق بالدعوى عند الرومان انظر كتابنا في الحقوق.
[(29)] legis actiones
[(30)] sacramentum
[(31)] الحقوق لنا صـ 391 وما بعدها.
[(32)] infiliatio
[(33)] plus petitio
[(34)] poted’infamie
[(35)] منشور بالمحاماة العدد (9) و(10) السنة 25.
[(36)] والحكم كتب في أصله باللغة العربية ثم أخرج بعد ذلك إلى اللغة الفرنسية، وعلقت عليه جريدة (جورنال المحاكم المختلطة) بالعدد 26 و27 أكتوبر سنة 1945 رقم (3530) بما يفيد إقرار وجهة النظر التي اتجه إليها الحكم.
[(37)] انظر كتاب: Morin: la révolte des faits contre le code
[(38)] interventionnisme
[(39)] حكم استئنافي فرنسي س 1932، 2، 44، جوسران في الاعتساف في استعمال الحق، الطبعة الثانية سنة 1939 صـ 56 الهامش 2.
[(40)] الحقوق لنا ص 378
[(41)] فرونن ج 2 صـ 127 ن 63 مكررًا؛ استئناف مختلط 26 مايو سنة 1936 المجلة 48، 282.
[(42)] استئناف م 16 مارس سنة 1915 المجلة 27، 220: انظر مناقشة ذلك المثل بكتابنا في الحقوق صـ 281 وما بعدها.
[(43)] أوبري ورو الطبعة الخامسة ج 3 النبذة 284 - جوسران في الاعتساف صـ 50 ن 33.
[(44)] فرونن ج 2 صـ 324 ن 162، و ن 163.
[(45)] د، 1893، 2، 21.
[(46)] الحقوق لنا صـ 309 والهامش 2.
وكما إذا صدر قرار الشركة بتغيير محل إقامتها فرارًا من مضايقة بعض الأعضاء لها في محل إقامتها الحاضر: جوسران في الاعتساف صـ 183 ن 132.
[(47)] جوسران في الاعتساف صـ 181 - 183 ن 132 والهوامش.
[(48)] المواد (302) و(303) و(308) عقوبات، (306) عقوبات، أو نشر أقوال كاذبة: المادة (68) من قانون الانتخاب رقم (148) سنة 1935.
[(49)] الحقوق لنا صـ 364 ما بعدها نبذة 271.
[(50)] استئناف مصر في 22 ديسمبر سنة 1937 المحاماة 18 رقم 357 صـ 723.
[(51)] location - vente
[(52)] clause reservati domini
[(53)] قضت الدوائر المجتمعة لمحكمة الاستئناف المختلطة في 9 فبراير سنة 1922، المجلة 34، 195، جازيت 12، 71، 116، بأنه لا يجوز القضاء بالشرط الجزائي للدائن لمجرد ادعاء هذا الأخير بأن المدين لم يفِ بتعهداته، بل يجب على الدائن أن يقيم الدليل على أن هناك ضررًا وقع بالفعل.
[(54)] الحقوق لنا صـ 245 وما بعدها.
[(55)] الحقوق لنا صـ 297 وما بعدها.
[(56)] الحقوق لنا صـ 322 والهامش، وصـ 123، استئناف مختلط في 21 مايو سنة 1906 المجلة 18 صـ 314.
[(57)] المادة (912) مدني ألماني تقول: (إذا جاء المالك للعقار وأجرى بناءه وقد تعدى الحدود المقررة لعقار دون أن يحصل منه الاعتداء بنية وقصد منه أو حصل الاعتداء بناءً على خطأ وتقصير كبير من جانبه فإنه يتعين على الجار أن يتحمل وجود تلك الزيادة الحاصلة بالبناء في أرضه إلا إذا سبق له أن عارض في التعدي على ملكه عند وقوعه أو بعد وقوعه، ويجب أن يدفع التعويض للجار بتقرير مبلغ كمرتب يدفع له في أوقات معينة، ويقدر ذلك المرتب بالرجوع إلى الوقت الذي حصل فيه التعدي.
[(58)] النقض الفرنسي 14 نوفمبر سنة 1922، د، 1925، 1، 145 ومقال جوسران تعليقًا على ذلك الحكم جوسران في الاعتساف صـ 171 - 173 ن والهامش 2 من صـ 172 - كتابنا في الحقوق صـ 262 وما بعدها ن 184.
[(59)] استئناف م 11 ديسمبر سنة 1930، المجلة، 43، 78 - الجدول العشري الخامس المختلط صـ 10 ن 5 - كتابنا في التدليس بالقانون صـ 204 ن 1 في آخرها - كتابنا في الحقوق صـ 264.
[(60)] dirigisme contractuel أو contrat dirigé
[(61)] يقول جوسران في هذا الشأن ما يأتي:
le juge est devenu le champion d’un idéal plus vaste, genérique: celui d’un équitable commerce juridique.
أي (لقد أصبح القاضي في مهمته زعيم الدفاع عن مثل عال عام بعيد المدى، إلا وهو العناية بوضع أسس عادلة في تعامل الناس مع بعضهم البعض).
كتابه في الاعتساف صـ 167 وما بعدها وما قبلها، كتابنا في الحقوق صـ 253.
[(62)] fraus omnia corrumpit
[(63)] malitus non est indulgendum
[(64)] summum jus sunma injuria
[(65)] retrait litigieux
[(66)] الحقوق لنا صـ 226 وما بعدها.
[(67)] Celsus أو Celse
[(68)]jus est ars boni et acqui le droit est l’art de ce qui est bon et équitable
[(69)] انظر تفصيل ذلك بكتابنا في الحقوق صـ 189 وما بعدها وعلى الأخص فيما يتعلق بنية الإضرار لدى المتصرف أو مجرد الإحساس لديه بالضرر، وأصل ذلك بالقانون الروماني وما جرى عليه الفقه الفرنسي والقضاء الفرنسي في الأخذ بالإحساس بالضرر، صـ 193 من كتابنا الحقوق ن131 و132، وانظر تعليقات الدكتور كامل باشا مرسي وزير العدل على القانون المدني تعليقًا على المادة (38) الخاصة بتفسير العقود والمشارطات طبعة نوفمبر سنة 1942 صـ 114 وما بعدها.
[(70)] استئناف مختلط 17 نوفمبر سنة 1943 المجلة 55، 6.
[(71)] محكمة استئناف مصر الوطنية في 25 مارس سنة 1916 المجموعة الرسمية للمحاكم الوطنية المجلد 17 صـ 190 رقم 112.
[(72)] كتاب أحكام الوقت والمواريث للشيخ أحمد إبراهيم بك الوكيل السابق لكلية الحقوق بجامعة فؤاد مصر صـ 64 تحت كلمة تنبيه - وفي شرح ذلك كله انظر كتابنا في الحقوق صـ 303 وما بعدها في الملاحظات من 1 إلى 9 وهذا ومما لاحظناه عند البحث أنه هل يجوز للدائن الطعن على مدينه فيما إذا كان هذا الأخير ناظرًا ومستحقًا في استحقاق بسيط وبيده الشروط العشرة ولم يعمل بها في إخراج الآخرين وإدخال نفسه مكانهم ليستطيع الوفاء بدينه ؟ نظن لا لأن حق الاستفادة من الشروط العشرة حق شخصي خاص بصاحبها وله اتصال بالوقف الذي ينتهي فيه الأمر إلى جهة بر لا تنقطع.
[(73)] راجع في ذلك مقالنا في مجلة الحقوق لكلية الحقوق بجامعة فاروق بالإسكندرية للعدد الأول من السنة الثانية صـ 157 - 186 تحت العنوان الآتي: (الحوالة والإسقاط في حصة المستحق في وقف).
[(74)] abus de transcription
[(75)] راجع تفصيل ذلك بكتابنا الحقوق صـ 217 - 224 ن 146 - 148.
[(76)] النقض الفرنسي س، 1925، 1، 217 ومقال بريت Brethe - جوسران في الاعتساف صـ 132 ن 92، ويلاحظ جوسران أن محكمة النقض عالجت الأمر على أساس قاعدة الاعتساف في استعمال الملكية، ويرى أنه كان يجدر معالجة الحال تأسيسًا على قاعدة الاعتساف في استعمال حق السكوت.
[(77)] كتابنا في الحقوق صـ 98 وما بعدها، وصـ 185 وما بعدها.
[(78)]Savatier: traité de la responsabilité civile en droit francais, Paris, 1939, t, I, n. 95, No. 73.
[(79)] toute faute se ramène à la violation d’un devoir moral
صـ 9 ن 6 من كتاب سابق الذكر.
[(80)] expliquer la faute par l’existence d’un devoir genéral de ne pas nuire à autri
صـ 9 ن6.
[(81)] la faute est la lésion d’un droit chez autrui جوسران في القانون المدني ج (2) ن 426.
[(82)] La morale oblige à rester fidèle à ses contrats, à observer la loi, des bonnes, moeurs, et à ne pas nuire à autrui
كتابه المذكور صـ 40 ن 30.
[(83)] كتابه صـ 91 ن 71 والهامش 1 - صـ 50 ن 36 وما بعدها وذلك فيما يتعلق بحق مضايقة الغير، أي الأعمال التي يبررها القانون ولا يؤاخذ عليها.
[(84)] art. 112: (lorsque, sous l’influence de la gêne ou de l’extrème nécessité, une personne à stipulé un contrat manifestement préjudiciel pour elle, le juge, peut à la requête de la partie lésée ou de ses orgganes sociaux compétents, peut déclarer ecet acte nul ou en faire cesser les effets pour l’avenir
[(85)] وقد لوحظ وقت مناقشة تلك المادة بمجلس الرشتاغ أنه يخشى من صيغتها العامة أن تستحيل إلى خطر محدق بالمعاملات إذ قد يظن القاضي أنه ربما كان على حق فيما إذا لجأ في التقدير والوزن إلى اعتبارات فلسفية أو سياسية أو دينية (القانون الألماني ترجمة مولينير Meulenaere صـ 112 تعليقًا عن المادة الألمانية).
وبهذا المعنى أيضًا المادة (179) من مشروع القانون المدني المصري.
[(86)] principe d’exploitation
[(87)] كتابنا في الحقوق صـ 236 وما بعدها.
[(88)] محكمة استئناف مصر في 11 يناير سنة 1936 المحاماة 16 رقم (339) صـ 723.
[(89)] الحقوق لنا صـ 242 الهامش
1 - وانظر أيضًا:
Hugney: de la responsabilié du tiers complice de la violation de l’obligadiou contractuelle, thése, Dijon, 1910
[(90)] وهو ما يسمى dumping
[(91)] الحقوق لنا صـ 119 - 151 ن 60 - 88 وفيما يتعلق الملكية الشائعة انظر الحقوق لنا صـ 163 وملكية المراسلات صـ 165.
[(92)] الحقوق لنا صـ 156 وما بعدها.
[(93)] art. 2261, exercice d’un droit n’est pas admissible, lorsqu’il a seulement pour but de nuire à autrui
[(94)]art. 826: celui qui a à dessein nui à autrui par des agissements contraires aux bonnes moeurs est tenu de réparer le dommage.
[(95)] art. 903: le propriétaire d’une chose peut, sauf l’effet des prescriptions de la loi ou les droits des tiers, disposer de cette chose à son gré, et exclure toutes les autres personnes
[(96)] art. 1305 …….ou nne repond pas du dommage que l’on cause à autri en usant de ses droits
[(97)] art. 2: chacun est tenu d’exercer ses droits et d’exécuter ses obligations selon les règles de la bonne foi. L’abus manifeste d’un droit n’est pas protégé par la lo