مجلة المحاماة - العددان الأول والثاني
السنة الثلاثون – 1949، 1950
نقابة المحامين
المحاماة
فهرست
السنة الثلاثون
1949 – 1950
قواعد تنفيذ الأحكام والعقود الرسمية في قانون المرافعات الجديد
للدكتور رمزي سيف
أستاذ قانون المرافعات بكلية الحقوق بجامعة فاروق الأول
القسم الأول: أحكام التنفيذ العامة
الباب الأول: شروط التنفيذ
1 - للتنفيذ الجبري شروط استلزمها المشرع، منها ما يتعلق بالسند الذي يجوز التنفيذ بمقتضاه ومنها ما يتعلق بالحق الذي يجرى التنفيذ وفاءً له، ومنها ما يتعلق بالمال الذي يجوز التنفيذ عليه.
الفصل الأول: السندات التنفيذية:
2 - تنص المادة (457) من قانون المرافعات الجديد على أن (التنفيذ الجبري لا يجوز إلا بسند تنفيذي، والسندات التنفيذية هي الأحكام والأوامر والعقود الرسمية والأوراق الأخرى التي يعطيها القانون هذه الصفة، ولا يجوز التنفيذ – في غير الأحوال المستثناة بنص في القانون - إلا بموجب صورة من السند التنفيذي عليها صيغة التنفيذ) [(1)].
يتضح من هذا النص أن السندات التنفيذية هي:
1/ الأحكام وتلحق بها الأوامر على العرائض.
2/ العقود الرسمية.
كما يتضح من النص المتقدم أن الأصل في التنفيذ ألا يكون إلا بصورة من السند التنفيذي عليها الصيغة التنفيذية.
3 - الصيغة التنفيذية وفائدتها: الصيغة التنفيذية La formule exécutoire هي أمر صادر من الرئيس الأعلى للدولة، الذي تصدر الأحكام وتحرر العقود متوجه باسمه إلى المحضرين بإجراء التنفيذ، وإلى رجال النيابة ورجال الإدارة بالمعاونة على التنفيذ ولو باستعمال القوة الجبرية متى طلبت منهم المعاونة [(2)].
ومقتضى وجود الصيغة التنفيذية على السند التنفيذي أن يكون من حق حامله أن يطالب السلطة العامة باتخاذ الوسائل الكفيلة بتنفيذه، ومن واجب هذه السلطات أن تستخدم، عند الاقتضاء، القوة المسلحة لتمكين حامل السند التنفيذي من تنفيذه.
ولكن أليس من حق الحكومة أن تمتنع عن استخدام القوة المسلحة إذا رأت في استخدامها ما يهدد النظام والأمن العام؟ عرضت هذه المسألة للبحث في فرنسا وقد فصل فيها مجلس الدولة بعد شيء من التردد [(3)] بعدة أحكام [(4)] قرر فيها المبادئ الآتية:
1/ إن من حق الدولة أن تقدر الظروف التي تستخدم فيها القوة المسلحة لتنفيذ حكم جائز النفاذ، فإذا رأت أن في استخدام القوة المسلحة ما يهدد النظام والأمن العام فلها أن تمتنع عن استعمال القوة المسلحة، ويصف الفقيه هريو Hauriou الامتناع في هذه الحالة بأنه دفاع شرعي عن الدولة [(5)]Legitime Défense de 1’Etat.
2/ إذا ترتب على الامتناع عن تنفيذ الحكم أو عن التأخير في تنفيذه نتيجة لامتناع السلطة العامة عن استعمال القوة المسلحة، ضرر للمحكوم له جاوز حدًا معينًا préjudice anormal، كان من حقه أن يطالب الحكومة بتعويض عن الضرر الذي أصابه في سبيل المصلحة العامة.
3/ يفرق مجلس الدولة بالنسبة لأساس مسؤولية الدولة بين حالة ما إذا كانت هناك ظروف تبرر امتناع الدولة عن التنفيذ بالقوة المسلحة وفي هذه الحالة لا يكون هناك خطأ من جانب السلطة العامة، فأساس مسؤوليتها فكرة المخاطر risque، وبين حالة ما إذا لم يكن للامتناع ما يبرره وفي هذه الحالة تكون الحكومة مخطئة ويكون أساس مسؤوليتها الخطأ [(6)]faute.
ولاستلزام الصيغة التنفيذية فائدة كبرى لأن وجودها على صورة السند الذي يجرى التنفيذ بموجبه هو الدليل الأكيد على أن طالب التنفيذ هو صاحب الحق الثابت بالسند التنفيذي، وأنه لم يستوفِ هذا الحق بتنفيذ سابق، لأن الصورة التنفيذية من الحكم أو العقد الرسمي لا تسلم إلا لصاحب الحق ولا تسلم له إلا صورة تنفيذية واحدة، أما الصور الرسمية الأخرى فيجوز تسليمها لكل من يطلبها ولو لم يكن صاحب الحق ما دام يدفع الرسم المقرر عليها [(7)].
المبحث الأول: الأحكام
4 - المقصود بالأحكام في مقام التنفيذ: الأحكام بمعناها الصحيح ويلحق بها الأوامر على العرائض التي يصدرها القضاة بما لهم من سلطة ولائية.
والأحكام بمعناها الصحيح هي أقوى أدوات التنفيذ من حيث تقريرها للحقوق المراد التنفيذ وفاءً لها، لأنها إنما تصدر في خصومة بعد تحقيق المحكمة لادعاء المحكوم له والحكم بما يثبت من هذا الادعاء، ويكون تنفيذ الأحكام بموجب صورها التنفيذية les grosses أي المذيلة بالصيغة التنفيذية.
5 - تسليم الصور التنفيذية للأحكام: لا تسلم صورة الحكم التنفيذية إلا للخصم الذي تضمن الحكم عود منفعة عليه من تنفيذه (م 352)، أي للخصم الذي حُكم له بشيء يستدعي الحصول عليه إجراء تنفيذ جبري، فهي لا تسلم لغير الخصوم، ولا تسلم للخصم المحكوم عليه، ولا للمحكوم له الذي لم يقضَ له بشيء يمكن تنفيذه جبرًا.
ولا تسلم للمحكوم له إلا صورة تنفيذية واحدة فيما عدا حالة الضياع فيجوز تسليم صورة ثانية (م353).
6 - النزاع على تسليم الصورة التنفيذية: للنزاع على تسليم الصورة التنفيذية صورتان (الأولى) أن يمتنع قلم الكتاب عن إعطاء الصورة التنفيذية الأولى لمن يطلبها بدعوى ألا حق له في طلبها، وفي هذه الحالة يكون لطالب الصورة التنفيذية أن يقدم عريضة لقاضي الأمور الوقتية بالمحكمة التي أصدرت الحكم المطلوب تسلم صورة تنفيذية منه، ويفصل قاضي الأمور الوقتية في هذه الشكوى بأمر يصدره طبقًا للقواعد المقررة للأوامر على العرائض (م 354).
(الثانية) في حالة ضياع الصورة الأولى، يرفع طلب تسليم صورة ثانية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم بتكليف بالحضور من أحد الخصوم للخصم الآخر، ويفصل في هذا النزاع على وجه السرعة (م355).
7 - وقد جرى العمل في ظل القانون القديم على جواز تسليم الصورة التنفيذية للمحكوم له، ولو لم يكن الحكم جائزًا تنفيذه، على أن يكون على المحضر قبل الشروع في التنفيذ أن يتحقق من أن الحكم قد أصبح جائزًا تنفيذه [(8)]، ولكن القانون الجديد خالف ذلك فنص في المادة (352) منه على أن الصورة التنفيذية لا تسلم إلا إذا كان الحكم جائزًا تنفيذه طبقًا لقواعد تنفيذ الأحكام، فإذا لم يكن الحكم جائزًا تنفيذه كما إذا كان حكمًا ابتدائيًا لم ينقض بالنسبة له ميعاد الاستئناف، أو كان حكمًا غيابيًا لم ينقض بالنسبة له ميعاد المعارضة فلا يجوز تسليم صورة تنفيذية منه.
والفكرة التي بني عليها نص القانون الجديد أن تسليم الصورة التنفيذية إيذان بأن الحكم قابل للتنفيذ فلا محل لتسليمها ما دام الحكم غير جائز تنفيذه، ولأن الفائدة مما جرى عليه العمل في ظل القانون القديم التي كانت تبدو بالنسبة للأحكام الغيابية، إذ كان يلزم تنفيذها لينقضي ميعاد المعارضة فيها، وقد زالت الآن بعد أن أصبح ميعاد المعارضة في القانون الجديد يبدأ في جميع الأحوال من تاريخ إعلان الحكم، فلم يعد هناك ما يدعو، طبقًا لأحكام القانون الجديد (م 465) لتنفيذ الحكم الغيابي حتى ينتهي ميعاد المعارضة فيه.
الأحكام الجائز تنفيذها
جواز تنفيذ الحكم مظهر من مظاهر قوته، ولما كانت الأحكام يختلف بعضها عن البعض الآخر من حيث قوتها باختلاف قابليتها للطعن فيها بمختلف طرق الطعن، فإن الأحكام ليست واحدة من حيث جواز تنفيذها، وتتلخص قواعد تنفيذ الأحكام في القواعد الآتية:
8 - القاعدة الأولى: الأحكام الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه، أي غير القابلة للطعن فيها بطرق الطعن العادية (المعارضة والاستئناف) يجوز تنفيذها، ولا يمنع من تنفيذها كونها قابلة للطعن فيها بطريق من طرق الطعن غير العادية، بل إن الطعن فيها بطريق من هذه الطرق لا يوقف تنفيذها.
فالطعن بطريق النقض في حكم لا يمنع المحكوم له من الشروع في التنفيذ إن لم يكن قد شرع فيه، ومن الاستمرار فيه إن كان قد ابتدأ في التنفيذ قبل رفع الطعن. وحكمة هذه القاعدة منع المحكوم عليهم بأحكام حائزة لقوة الشيء المحكوم فيه من أن يتخذوا من طرق الطعن غير العادية وسائل للمطل والتسويف.
والقاعدة المتقدمة مستفادة بمفهوم المخالفة من نص القانون في صدر المادة (465) منه على أنه (لا يجوز تنفيذ الأحكام جبرًا ما دام الطعن فيها بالمعارضة أو الاستئناف جائزًا…………)، ومن نص القانون في المادتين (420)، (427) على أنه لا يترتب على رفع الالتماس أو الطعن بطريق النقض إيقاف تنفيذ الحكم.
وإنما يمنع من تنفيذ هذه الأحكام ويلغى ما يكون قد تم من التنفيذ، الحكم فعلاً بإلغائها من المحكمة التي طعن فيه أمامها بطريق من طرق الطعن غير العادية.
9 - حكم خاص بالطعن بالنقض: أورد المشرع في القانون الجديد تحفظًا على القاعدة المتقدمة بنصه في الفقرة الثانية من المادة (427) على أنه يجوز لمحكمة النقض أن تأمر بوقف التنفيذ مؤقتًا، ويشترط لهذا الإيقاف شرطان:
الأول: أن يطلب الطاعن ذلك في تقرير الطعن.
الثاني: أن يخشى من التنفيذ وقوع ضرر جسيم يتعذر تداركه، وتقدير ذلك متروك للمحكمة ومثله الحكم بحل الشركة، أو بشطب رهن، أو بالطلاق، أو فسخ زواج أو بطلانه، أو بدفع مبلغ من النقود لشخص معسر.
ويحدد رئيس المحكمة بناءً على عريضة من الطاعن جلسة لنظر هذا الطلب يعلن بها الخصم الآخر وتبلغ للنيابة.
فإذا أمرت محكمة النقض بوقف تنفيذ الحكم مؤقتًا امتنع تنفيذه إن لم يكن قد شرع فيه، أو أوقف تنفيذه إن كان قد شرع فيه، إلى أن يفصل في موضوع الطعن. ونص القانون الجديد على سلطة محكمة النقض في الأمر بوقف تنفيذ الحكم مؤقتًا، إلى أن يفصل في الطعن، نص مستحدث لا نظير له في القانون القديم، وفكرته مأخوذة من الفقه الفرنسي فهو يحقق أمنية طالما تمنى الشراح الفرنسيون تحقيقها في تشريعهم [(9)] كما أن له نظيرًا في بعض التشريعات الأجنبية وعلى الأخص القانون التركي [(10)].
10 - القاعدة الثانية: هذه القاعدة خاصة بالأحكام غير الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه أي القابلة للطعن فيها بطرق الطعن العادية، وحكم تنفيذ هذه الأحكام يختلف في التشريعات بين مذهبين:
الأول: وكان مأخوذًا به في القانون المختلط يقضي بأن الأحكام غير الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه يجوز تنفيذها بالرغم من قابليتها للطعن فيها بالمعارضة أو بالاستئناف، وإنما يمنع من تنفيذها ويوقف ما تم من التنفيذ إن كان قد شرع فيه الطعن في هذه الأحكام فعلاً بالمعارضة أو بالاستئناف، وأساس هذا المذهب أن صلاحية الحكم للتنفيذ أثر يلحق الحكم بمجرد صدوره ولا يجوز تعطيل هذا الأثر لمجرد احتمال الطعن في الحكم، فإذا تحقق المانع بالطعن فعلاً فيه بطريق طعن عادي امتنع التنفيذ.
الثاني: وكان مأخوذًا به في القانون الأهلي يقضي بأن الأحكام غير الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه لا يجوز تنفيذها ما بقيت قابلة للطعن فيها بطريق طعن عادي، وإنما يجوز تنفيذها بعد فوات مواعيد الطعن بهذين الطريقين أو بعد الفصل فيهما إن كانا قد رفعا.
وإنما استثنى القانون الأهلي من القاعدة المتقدمة الأحكام الغيابية الصادرة من محاكم الدرجة الأولى فأجاز تنفيذها بالرغم من قابليتها للطعن فيها بالمعارضة، لا لأنها أقوى من الأحكام الحضورية ولا لأن حجيتها أكثر استقرارًا، ولكن لأن ميعاد المعارضة فيها يتوقف على التنفيذ، فأراد المشرع الأهلي أن يعمل على تنفيذها لكي يعارض فيها المحكوم عليه إن كان للمعارضة وجه على تقدير أن التنفيذ أضمن في إفادة علم المحكوم عليه بالحكم الغيابي الصادر عليه، من مجرد الإعلان.
وأساس هذا المذهب أنه لا محل لتنفيذ حكم لا تزال حجيته قلقة، وأن الصلاحية للتنفيذ لا تكون إلا للأحكام التي بلغت حجيتها درجة من الاستقرار، إما لفوات مواعيد الطعن فيها بالمعارضة والاستئناف، وإما لتأييدها بعد الطعن فيها بهذين الطريقين.
11 - أخذ المشرع في القانون الجديد بقاعدة القانون الأهلي فنص في المادة (465) منه على أنه لا يجوز تنفيذ الأحكام جبرًا ما دام الطعن فيها بالمعارضة أو الاستئناف جائزًا، وحسنًا فعل المشرع بالنص المتقدم لأن جواز تنفيذ الحكم غير الحائز لقوة الشيء المحكوم فيه، وتعليق وقف تنفيذه على الطعن فيه فعلاً بالمعارضة أو الاستئناف، من شأنه حمل المحكوم عليه على التعجل في الطعن في الحكم درء للتنفيذ عليه فلا يستفيد من مواعيد الطعن المقررة له، كما أن هذا النظام يحمي المحكوم عليه من عنت المحكوم له بمبادرته إلى تنفيذ حكم لما تستقر حجيته.
ولم يعد هناك محل لأن يستثني المشرع في القانون الجديد من القاعدة المتقدمة، الأحكام الغيابية الصادرة من محاكم الدرجة الأولى (كما فعل القانون الأهلي) لزوال السبب الذي دعا إلى هذا الاستثناء في القانون الأهلي، فلم يعد ميعاد المعارضة في هذه الأحكام معلقًا على التنفيذ، وإنما أصبح يبدأ من تاريخ إعلانها. فقاعدة عدم جواز تنفيذ الأحكام غير الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه تطبق على هذه الأحكام بجميع أنواعها حضورية، أو غيابية سواء كانت صادرة من محاكم الدرجة الأولى أو من محاكم الدرجة الثانية.
إذا كانت الأحكام غير الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه لا يجوز تنفيذها جبرًا، فلا يمنع ذلك من جواز اتخاذ إجراءات تحفظية بمقتضاها، كتوقيع حجز ما للمدين لدى الغير.
12 - القاعدة الثالثة: يُستثنى من القاعدة المتقدمة، (قاعدة عدم جواز تنفيذ الأحكام غير الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه) الأحكام المشمولة بالنفاذ المعجل، فهي جائزة النفاذ بالرغم من قابليتها للطعن فيها بالمعارضة أو بالاستئناف، وبالرغم من الطعن فيها فعلاً بهذين الطريقين (م 465).
النفاذ المعجل
13 - النفاذ المعجل تنفيذ استثناء من القواعد العامة في تنفيذ الأحكام، فهو تنفيذ للحكم بالرغم من أنه قابل للطعن فيه بالمعارضة أو بالاستئناف وبالرغم من الطعن فيه فعلاً بهذين الطريقين، ولهذا لا يجوز الحكم به في غير الحالات التي نص عليها القانون.
14 - النفاذ المعجل نفاذ مؤقت: يوصف هذا النوع من التنفيذ، تمييزًا له عن التنفيذ طبقًا للقواعد العامة، بأنه تنفيذ مؤقت، لأن صحته متوقفة على نتيجة الطعن في الحكم بالمعارضة أو بالاستئناف فإن تأيد الحكم ثبت ما تم من تنفيذ مؤقت، وإن ألغي الحكم ألغي ما تم بمقتضاه من تنفيذ مؤقت. كما يوصف أيضًا بأنه تنفيذ معجل لأنه يحصل قبل الأوان الطبيعي لتنفيذ الأحكام، فالأوان الطبيعي لتنفيذها يكون عند صيرورتها حائزة لقوة الشيء المحكوم فيه.
15 - الغرض من النفاذ المعجل: النفاذ المعجل نظام قصد به التوفيق بين مصلحة المحكوم له في جواز تنفيذ الحكم الصادر له دون تربص حتى يصبح حائزًا لقوة الشيء المحكوم فيه، وبين مصلحة المحكوم عليه في ألا ينفذ عليه من الأحكام إلا ما أصبح حائزًا لقوة الشيء المحكوم فيه، ولهذا فإن حالات النفاذ المعجل تزيد عادةً في التشريعات التي تمنع تنفيذ الحكم ما بقي غير حائز لقوة الشيء المحكوم فيه، وتقل في التشريعات التي تبيح تنفيذ الحكم بالرغم من قابليته للطعن فيه بالمعارضة والاستئناف. وقد ساير التشريع الجديد هذه السنة فهو، وقد أخذ بقاعدة عدم جواز تنفيذ الحكم ما دام قابلاً للطعن فيه بالمعارضة أو الاستئناف، تراه وسع في حالات النفاذ المعجل.
16 - دواعي النفاذ المعجل: إذا كان النفاذ المعجل استثناء من القواعد العامة في تنفيذ الأحكام، فقد دعا المشرع إلى الخروج عن هذه القواعد العامة دواع تختلف باختلاف حالاته وأهمها [(11)]:
1/ أن يرجح احتمال تأييد الحكم إذا طعن فيه بالمعارضة أو الاستئناف إما لأن سند المحكوم له قوي كالحكم الصادر بناءً على سند رسمي (م 468/ 2) وإما لضعف مركز المحكوم عليه الظاهر كالحكم الصادر في غيبة المعارض بتأييد الحكم الغيابي المعارض فيه (م 466 - 2).
2/ أن يكون الحكم صادرًا في حالة من الحالات التي يقتضي تحقيق الغرض منه أن يعجل بتنفيذه، كالحكم الصادر في مادة من المواد المستعجلة (م 466/ 1) والحكم الصادر بإجراء إصلاحات عاجلة (م 469/ 3).
3/ أن يكون المحكوم له من طوائف الأشخاص الذين رعاهم المشرع رعايةً خاصة، كحائز العقار (م 470/ 2)، وكالخدم والصناع والعمال والمستخدمين بالنسبة للأحكام الصادرة بأداء أجورهم ومرتباتهم (م 649/ 5).
4/ تمكين المحكوم له بسند جائز تنفيذه من الاستمرار في التنفيذ، كالحكم لمصلحة طالب التنفيذ في منازعة متعلقة بالتنفيذ (م 470/ 3).
17 - أنواع النفاذ المعجل: تنقسم حالات النفاذ المعجل من حيث المصدر المباشر الذي يستمد منه الحكم قوته في التنفيذ إلى قسمين كبيرين:
1/ حالات النفاذ المعجل بقوة القانون (l’exécution provisoire légale).
2/ حالات النفاذ المعجل بحكم المحكمة (judiciaire).
18 - النفاذ المعجل بقوة القانون: لا يقصد بذلك أن هذه الحالات نص عليها القانون، فكل حالات النفاذ المعجل نص عليها القانون، وإنما يقصد بذلك أن الحكم في هذه الحالات يستمد قوته التنفيذية من نص القانون مباشرةً دون تدخل من القاضي ولذلك يلزم أن تصرح المحكمة بالنفاذ في هذه الحالات، فالحكم الصادر في حالة منها جائز تنفيذه تنفيذًا معجلاً، ولو لم تأمر المحكمة بالنفاذ في حكمها. وينبني على ذلك أن لا حاجة بالمحكوم له لأن يطلب من المحكمة شمول الحكم بالنفاذ المعجل.
19 - النفاذ المعجل بحكم المحكمة: يستمد الحكم قوته التنفيذية في هذه الحالات من أمر المحكمة في حكمها بالنفاذ المعجل، فإذا لم تصرح المحكمة في هذه الحالات بالنفاذ المعجل في حكمها امتنع تنفيذه تنفيذًا مؤقتًا، وينبني على ذلك أنه يجب لشمول الحكم بالنفاذ المعجل أن يطلبه المحكوم له وإلا امتنع على المحكمة أن تحكم به، إذ الأصل أن القاضي لا يحكم بشيء لم يطلب الخصوم منه الحكم به.
وتنقسم حالات النفاذ المعجل بحكم المحكمة بدورها إلى قسمين:
20 – ( أ ) حالات النفاذ المعجل بحكم المحكمة وجوبًا: في هذه الحالات إذا طلب المحكوم له النفاذ المعجل وجب على المحكمة أن تجيبه إلى طلبه بتصريحها بالنفاذ المعجل في حكمها، فإن رفضت النفاذ صراحةً، أو سهت عنه، كانت مخطئة خطأ قانونيًا، إذ القانون يوجب عليها الأمر النفاذ في هذه الحالات متى طلبه المحكوم له، ولكن لا يمنع ذلك من أن الحكم في هذه الحالة لا يكون جائزًا تنفيذه تنفيذًا معجلاً.
21 - (ب) النفاذ المعجل بحكم المحكمة جوازًا: في هذه الحالات إذا طلب المحكوم له الحكم بالنفاذ كان للمحكمة أن تجيبه إلى طلبه، أو ترفضه، بحسب تقديرها لظروف كل دعوى، فإن أجابت المحكمة طلب النفاذ المعجل، أو رفضته لم تكن مخطئة خطأ قانونيًا لأنها إنما استعملت سلطتها التقديرية التي خولها إياها القانون [(12)].
22 - وواضح أن اختلاف حكم حالات النفاذ المعجل بقوة القانون عن حكم حالات النفاذ المعجل بحكم المحكمة جوازًا، يرجع إلى أن عناية المشرع بتنفيذ الحكم في الأولى أشد من عنايته بتنفيذه في الثانية، ففي الأولى ليس للمحكمة أية سلطة تقديرية تتدخل بها لإجراء التنفيذ أو لمنعه، بينما يتوقف النفاذ في الثانية على أمر المحكمة ولها في ذلك سلطة تقديرية كاملة. ولكن اختلاف حكم حالات النفاذ المعجل بقوة القانون عن حكم حالات النفاذ المعجل بحكم المحكمة وجوبًا، لا يرجع إلى شيء من ذلك، فليس للمحكمة في كل من نوعي النفاذ سابقي الذكر سلطة تقديرية، وإنما يرجع الاختلاف في الحكم إلى أن حالات النفاذ بقوة القانون حالات ظاهرة بنفسها لا تحتاج إلى تدخل المحكمة للتحقق منها ويسهل على من يطلب منه تنفيذ الحكم في حالة منها أن يتبينها بمجرد الاطلاع عليه، أما حالات النفاذ بحكم المحكمة وجوبًا فهي حالات غير ظاهرة بنفسها ولها شروط وصور دقيقة فلم يكن بد من استلزام تدخل المحكمة للتحقق من توفر شروطها، وصورها، فالحكم الصادر في مادة من المواد المستعجلة، وهو واجب النفاذ بقوة القانون، يسهل على من يطلب منه تنفيذه أن يتبين أنه صادر في مادة مستعجلة، أما الحكم الصادر بإخراج المستأجر الذي انتهى عقده أو فسخ، فقد جعل المشرع النفاذ فيه بحكم المحكمة وجوبًا لتتحقق المحكمة من أن العقد الذي يحوز به المحكوم عليه العقار المؤجر هو عقد إيجار، وأنه قد انتهى أو فسخ [(13)].
ضمانات المحكوم عليه في النفاذ المعجل
23 - للنفاذ المعجل دواعيه التي حملت المشرع على الخروج عن القواعد العامة رعاية لمصلحة المحكوم له، ولكن النفاذ المعجل لا يخلو من خطر على المحكوم عليه إذا ما ألغى الحكم بعد الطعن فيه بالمعارضة أو بالاستئناف، فقد يترتب على التنفيذ ضرر بالمحكوم عليه لا يمكن تداركه، كما أن المحكوم له قد يعجز بسبب إعساره عن إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل التنفيذ، ولذلك اصطنعت التشريعات المختلفة وسائل لحماية المحكوم عليه لما تستقر حجيته، وأهم هذه الوسائل هي:
1 - سلطة المحكمة المطعون أمامها بالمعارضة أو بالاستئناف في وقف تنفيذ الحكم
24 - نص قانون المرافعات الجديد في المادة (472) منه على أنه (يجوز للمحكمة المرفوع إليها الاستئناف أو المعارضة في جميع الأحوال متى رأت أن أسباب الطعن في الحكم يرجع معها إلغاؤه أن تأمر بوقف النفاذ المعجل إذا كان يخشى منه وقوع ضرر جسيم).[(14)]
بهذا النص خول المشرع المحكمة التي يطعن في الحكم أمامها بالمعارضة، أو بالاستئناف سلطة وقف النفاذ المعجل في أية حالة من حالات النفاذ المعجل سواء كان النفاذ واجبًا بقوة القانون، أو مأمورًا به في الحكم، ويدل على ذلك قول المادة (في جميع الأحوال).
ويشترط لتطبيق النص المتقدم الشروط الآتية:
1/ أن ترى المحكمة في أسباب الطعن ما يرجح معه إلغاء الحكم من حيث ما قضى به في الموضوع، وتقدير ذلك متروك للمحكمة. ولما كان الأمر بوقف النفاذ سابقًا على الفصل في موضوع الطعن، فإن ترجيح المحكمة احتمال إلغاء الحكم يكون نتيجة بحثها بحثًا سطحيًا لأسباب الطعن، كما أنه من المفهوم أن حكم المحكمة بوقف النفاذ، أو برفض وقفه، إنما هو من قبيل القضاء المؤقت الذي لا يقيد المحكمة عند فصلها في موضوع الطعن، فحكمها بوقف النفاذ المعجل لا يمنع من تأييد الحكم عند الفصل في موضوع الطعن، والعكس صحيح.
2/ أن يخشى من التنفيذ وقوع ضرر جسيم بالمحكوم عليه وتقدير ذلك أيضًا متروك للمحكمة، كما لو كان من شأن التنفيذ أن ينشأ عنه وضع يتعذر تداركه، كالحكم بحل شركة، أو شطب رهن على أن تعذر تدارك الضرر الذي قد يصيب المحكوم عليه من النفاذ المعجل ليس شرطًا لازمًا في هذه الحالة، وإنما يكفي للأمر بوقف النفاذ خشية مجرد وقوع ضرر جسيم بالمحكوم عليه، بدليل استعمال المشرع في هذا الصدد تعبيرًا يختلف عن التعبير الذي استعمله عند الكلام على سلطة محكمة النقض في الحكم بوقف تنفيذ الحكم مؤقتًا قبل الفصل في موضوع الطعن [(15)]. ويبرر هذا الاختلاف أن الحكم في الحالة الأخيرة حكم حائز لقوة الشيء المحكوم فيه وأنه جائز تنفيذه طبقًا للقواعد العامة، بينما الحكم في الحالة الأولى حكم غير مستقر الحجية ومن ثم فتنفيذه جائز استثناء.
3/ يشترط أن يطلب الطاعن من المحكمة المطعون في الحكم أمامها بالمعارضة أو بالاستئناف، وقف النفاذ إذ القضاء لا يحكم بشيء لم يطلبه الخصوم.
2 - تقديم الكفالة من المحكوم له (م 475 – م 478)
25 - من المسلم أن المحكوم له بحكم مشمول بالنفاذ المعجل إذا ألغي حكمه من محكمة المعارضة أو الاستئناف، وجب عليه أن يعيد الحالة إلى ما كانت عليه قبل التنفيذ، ولكن قد يتعذر ذلك بسبب إعساره فيصيب المحكوم عليه ضرر. لتفادي هذا الضرر قرر المشرع نظام الكفالة رعاية لمصلحة المحكوم عليه، ودرء لما قد يتعرض له من ضرر بسبب إعسار المحكوم له فأوجب، في بعض حالات النفاذ المعجل، على المحكوم له أن يقدم كفالة تضمن للمحكوم عليه إمكان إعادة الحالة إلى ما كانت عليه.
26 - متى تقدم الكفالة: واضح أن الكفالة في هذه الحالات لا يجب على المحكوم له تقديمها إلا إذا أراد تنفيذ الحكم تنفيذًا مؤقتًا، أما إذا تربص حتى أصبح الحكم المشمول بالنفاذ مع الكفالة حائزًا لقوة الشيء المحكوم فيه، ومن ثم جائزًا تنفيذه طبقًا للقواعد العامة، فلا يجب عليه تقديم الكفالة.
27 - طرق تقديم الكفالة: نص القانون الجديد على ثلاثة طرق لتقديم الكفالة:
الطريقة الأولى، أن يودع المحكوم له في صندوق المحكمة من النقود أو الأوراق المالية ما فيه الكفاية أي قدرًا مساويًا لقيمة ما يراد التنفيذ به.
الطريقة الثانية، أن يقدم كفيلاً مقتدرًا وهو شخص يستطيع المحكوم عليه أن يرجع عليه في حالة ما إذا ألغي الحكم بعد تنفيذه.
الطريقة الثالثة، أن يقبل إيداع ما يحصل من التنفيذ في خزانة المحكمة، أو تسليم الشيء المأمور بتسليمه في الحكم أو الأمر إلى حارس مقتدر [(16)].
فإذا ما اختار المحكوم له طريقة تقديم الكفالة، كان عليه أن يخطر المحكوم عليه بذلك بإعلان على يد محضر بورقة مستقلة، أو ضمن إعلان سند التنفيذ، أو ورقة التكليف بالوفاء (م 476).
27 - المنازعة في الكفالة: إذا كان المحكوم له حرًا في اختيار طريقة تقديم الكفالة فإن للمحكوم عليه أن ينازع في اقتدار الكفيل، أو الحارس، أو في كفاية ما يودع من نقود، أو أوراق مالية، فقد يقدم المحكوم له كفيلاً أو حارسًا غير مقتدر، وقد يودع قدرًا من النقود أو الأوراق المالية غير كافٍ. وتحصل هذه المنازعة في خلال ثلاثة الأيام التالية لإعلان اختيار طريقة تقديم الكفالة، بتكليف بالحضور أمام المحكمة الجزئية التابع لها محل المحكوم عليه، ويحكم في هذه المنازعة على وجه السرعة بحكم لا يستأنف أي بحكم حائز لقوة الشيء المحكوم فيه من يوم صدوره، لأن مثل هذا الحكم، طبقًا لأحكام القانون الجديد، لا يجوز الطعن فيه بالمعارضة لصدوره في مادة من المواد التي يوجب القانون الحكم فيها على وجه السرعة (راجع المادة (386)).
وبديهي أن المحكوم له لا يجوز أن يشرع في تنفيذ الحكم تنفيذًا مؤقتًا قبل انتهاء ميعاد ثلاثة الأيام التي تجوز فيها المنازعة، أو قبل الفصل في دعوى المنازعة إن رفعت.
والقواعد المتقدمة التي نص عليها التشريع الجديد في المواد من (475) – (478) مأخوذة في مجموعها من قانون المرافعات الأهلي القديم، وما زاد منها عما جاء في نصوص القانون الأهلي مأخوذ من نصوص القانون المختلط، كالنص على طريقة تقديم الكفالة بقبول إيداع ما يحصل من التنفيذ في خزانة المحكمة أو قبول تسليم الشيء المأمور بتسليمه لحارس.
28 - تقسيم حالات النفاذ المعجل من حيث الكفالة: تختلف حالات النفاذ المعجل من حيث الكفالة بين الطوائف الآتية:
1/ حالات يكون فيها تقديم الكفالة واجبًا بقوة القانون، وفيها تجب الكفالة بغير حاجة إلى النص عليها في حكم المحكمة.
2/ حالات يجب فيها على المحكمة أن تعفي من الكفالة متى طلب المحكوم له الإعفاء منها، والأصل في هذه الحالات أن الكفالة واجبة بقوة القانون، وإنما على المحكمة أن تعفي منها بتصريحها بذلك في حكمها، فهذه الحالات صور مخصوصة من حالات الكفالة الواجبة بقوة القانون، أوجب فيها المشرع على المحكمة أن تعفي من الكفالة لأسباب خاصة.
3/ حالات أجيز فيها للمحكمة أن تشترط الكفالة، أو أن تعفي منها بحسب ما تراه من ظروف كل دعوى.
4/ حالات لم ينص فيها القانون على الكفالة وفي هذه الحالات لا يجوز اشتراط الكفالة.
29 - ويثير لزوم الكفالة أو عدم لزومها صعوبة، في حالة ما إذا سكتت المحكمة عن التصريح بها في حكمها باشتراطها أو بالإعفاء منها، هل يعتبر سكوتها إيجابًا لها على تقدير أن الكفالة ضمانة للمحكوم عليه لا يحرم منها إلا بنص صريح في الحكم [(17)]، أم يعتبر إعفاء منها على تقدير أن الكفالة قيد على التنفيذ، والقيود لا تلزم إلا باشتراطها صراحةً، الراجح أنه حيث لا تكون الكفالة واجبة بقوة القانون، فإن سكوت المحكمة عن النص عليها صراحةً في حكمها يعتبر بمثابة إعفاء منها [(18)].
3 - تقديم الكفالة من المحكوم عليه
30 - يعيب كلاً من الوسيلتين المتقدمتين أن كلاً منهما لوحظ فيها رعاية ناحية، وأهملت ناحية أخرى جديرة بالرعاية. فمنح السلطة لمحكمة المعارضة والاستئناف في وقف النفاذ المعجل قصد منه حماية المحكوم عليه بحكم مشمول بالنفاذ من خطر النفاذ المؤقت عليه، ولم تراعَ فيه مصلحة المحكوم له وما تقتضيه من الاحتياط ضد إعسار المحكوم عليه، كما أن نظام الكفالة وإن كان يطمئن المحكوم عليه ضد إعسار المحكوم له فإنه لا يحميه الحماية الكافية، فقد ينفذ بالحكم المشمول بالنفاذ على أشياء ثمينة لها قيمة خاصة ولا يمكن المحكوم عليه أن يحصل على نظير لها، فلا تجديه الكفالة المقدمة من المحكوم له في إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل التنفيذ. لهذا اصطنعت بعض التشريعات كالتشريع الفرنسي وسيلة أخرى أكثر مرونة، وأكفل من الوسيلتين المتقدمتين في حماية المحكوم عليه، وضمان حق المحكوم له ضد إعسار المحكوم عليه، وذلك بالسماح للمحكوم عليه بحكم مشمول بالنفاذ المعجل بالالتجاء إلى القضاء المستعجل للحكم له بوقف تنفيذ الحكم مقابل إيداع قدر كافٍ من النقود أو الأوراق المالية يخصص للوفاء بالدين المحكوم به إذا أصبح الحكم حائزًا لقوة الشيء المحكوم فيه وبهذا يتفادى المحكوم عليه تنفيذ الحكم عليه تنفيذًا معجلاً، مع ضمان حق المحكوم له ضد إعسار المحكوم عليه [(19)].
وبديهي أنه إذا قام المحكوم عليه بإيداع الكفالة التي يقدرها قاضي الأمور المستعجلة، لم يعد هناك محل لتقديم الكفالة من جانب المحكوم له إذا كان الحكم مشمولاً بالنفاذ المعجل بشرط الكفالة، إذ أن تقديم الكفالة من جانب المحكوم عليه يمنع النفاذ المعجل، وتقديم الكفالة من جانب المحكوم له لا يكون إلا إذا أريد تنفيذ الحكم تنفيذًا معجلاً.
31 - ولكن يلاحظ أن الالتجاء إلى هذه الوسيلة لا يجوز في الحالات التي يكون مبنى النفاذ المعجل فيها ضرورة التعجيل بتنفيذ الحكم وإلا فات الغرض منه كالحكم الصادر في مادة من المواد المستعجلة، أو التي يكون مبنى النفاذ فيها حاجة المحكوم له الماسة للمحكوم به كالحكم الصادر بتقرير نفقة واجبة [(20)] (راجع في تفصيل هذا النظام المادتين (135)، (136) من قانون المرافعات الفرنسي معدلتين بالقانون رقم (554) الصادر في 23 مايو سنة 1942 [(21)].
وننبه إلى أن نظام الالتجاء المحكوم عليه إلى القضاء المستعجل ليحكم بالسماح له بإيداع مبلغ يضمن الوفاء بالمحكوم به فيتفادى بذلك التنفيذ المعجل، هذا، النظام الذي أدخل في القانون الفرنسي في سنة 1942، لم ينص عليه في قانون المرافعات المصري القديم أو الجديد، الأمر الذي يؤسف له للفوائد التي يحققها هذا النظام في العمل والتي تعجز الوسيلتان الأخرتان عن تحقيقها.
________________________________________
[(1)] راجع المادة (30) من قانون نظام القضاء.
[(2)] نص الصيغة التنفيذية كالآتي (يجب على المحضرين المطلوب منهم تنفيذ هذا الحكم أن يبادروا إلى تنفيذه وعلى النائب العام ووكلائه أن يساعدوهم وعلى رؤساء وضباط العساكر ومأموري الضبط والربط أن يعاونوهم على إجراء التنفيذ باستعمال القوة الجبرية متى طلبت منهم المساعدة والمعاونة بصورة قانونية) (المادة (31) من قانون نظام القضاء).
[(3)] راجع مجلس الدولة في 11 مايو سنة 1934 (قضية Sayer) في سيرى 1935 – 3 - 22.
[(4)] من هذه الأحكام حكمان مشهوران Arrêts de principe الأول هو الصادر بتاريخ 30 نوفمبر سنة 1932 سيرى سنة 1923 – 3 - 57 في قضية Couitéas، وتتلخص وقائعها في أن السيد كويتياس استصدر حكمين حائزين لقوة الشيء المحكوم فيه من محكمة سوس Sousse بتونس بطرد القبائل العربية من أرض اشتراها تزيد مساحتها على ستين ألف هكتار، ولما طالب بتنفيذ الحكمين امتنعت السلطات الفرنسية في تونس عن التنفيذ بدعوى أن تنفيذهما باستعمال القوة المسلحة لطرد القبائل العربية المستقرة على الأرض محل النزاع من شأنه تهديد النظام والأمن العام، فطالب السيد كويتياس الحكومة الفرنسية بتعويض فلما رفضت، رفع دعوى أمام مجلس الدولة فقضى له المجلس بالتعويض. والثاني في قضية شركة Saint - Charles بتاريخ 3 يونيه سنة 1938 وتتلخص وقائعها في أن الشركة استصدرت أمرًا من قاضي الأمور المستعجلة بطرد العمال المضربين الذين يحتلون أحد المصانع التابعة لها، ولما طالبت بتنفيذ الحكم امتنعت الإدارة عن التنفيذ خشية حصول اضطرابات بسبب استعمال القوة المسلحة لتنفيذ الحكم. رفعت الشركة الأمر إلى مجلس الدولة فقضى لها بالتعويض.
[(5)] راجع تعليق هريو Hauriou على حكم مجلس الدولة في قضية كويتياس السابق الإشارة إليه.
[(6)] راجع حكم مجلس الدولة في قضية Brsut بتاريخ 22 يناير سنة 1943، وراجع كذلك مختصر القانون الإداري للأستاذ Waline طبعة 1945 صفحة 496، 497، ومختصر القانون الإداري للأستاذ Rolland سنة 1947 صفحة 365، ومؤلف الأستاذ أندريه دي لوبادير André De Laubadére في القانون الإداري سنة 1946 صفحة 124، ودروس القانون الإداري للأستاذ جاكلان Jacquelin صفحة 258.
[(7)] راجع بالنسبة لتسليم صور الأحكام المادتين (352)، (353) وما سنذكره في بند (10) وما بعده.
[(8)] راجع طرق التنفيذ والتحفظ للمرحوم عبد الحميد أبو هيف بك رقم 161 مكرر 1، التنفيذ علمًا وعملاً للأستاذين أحمد قمحة وعبد الفتاح السيد رقم 34، تنفيذ الأحكام والسندات الرسمية للأستاذ محمد حامد فهمي رقم 19.
[(9)] لا يترتب على الطعن بالنقض في القانون الفرنسي كقاعدة عامة، وقف تنفيذ الحكم، ولكن هناك حالات مستثناة فيه من هذه القاعدة يترتب في بعضها على مجرد قابلية الحكم للطعن بالنقض وقف تنفيذه حتى يسقط الحق في الطعن، ويترتب وقف تنفيذ الحكم في البعض الآخر على رفع الطعن فعلاً، ولكن من المسلم أن هذه الحالات حالات استثنائية، راجع في تفصيل كل ذلك جلاسون الجزء الثالث رقم 967، ومؤلف موريل رقم 673، ومختصر كيش رقم 404، ومؤلف الأستاذين حامد فهمي ومحمد حامد فهمي في النقض في المواد المدنية والتجارية رقم 321.
[(10)] راجع المادة (443) من القانون التركي.
[(11)] راجع محمد حامد فهمي الطبعة الثانية ص 17.
[(12)] راجع حكم محكمة النقض المصرية في 21 إبريل سنة 1938، مجموعة القواعد القانونية لمحكمة النقض الجزء الثاني رقم 116 ص 332.
[(13)] راجع أبو هيف رقم 129، ومحمد حامد فهمي ص 20.
[(14)] هذا النص مستحدث لا نظير له في القانون القديم.
[(15)] قارن نص المادة (427/ فقرة ثانية)، وراجع ص 51.
[(16)] اقتبس القانون الجديد هذه الطريقة من القانون المختلط، أما القانون الأهلي فلم ينص عليها ومع ذلك قيل بجواز هذه الطريقة في القانون الأهلي بالرغم من عدم النص عليها في حالة ما إذا نصت المحكمة في حكمها على تقديم الكفالة بهذه الطريقة وكانت الكفالة اختيارية، أو في حالة ما إذا قبل المدين هذه الطريقة - راجع أبو هيف رقم 138.
[(17)] راجع جارسونيه الجزء السادس رقم 123، أبو هيف رقم 135.
[(18)] راجع جلاسون الجزء الثالث رقم 890، ومحمد حامد فهمي صفحة 23 وهامش رقم (1).
[(19)] قارن هذا النظام بنظام الإيداع مع التخصيص الذي يقوم به المحجوز عليه في حجز ما للمدين لدى الغير.
[(20)] حكم محكمة باريس في 13 مايو سنة 1943، ومحكمة أكس في 15 أكتوبر سنة 1947 جازيت دي باليه ديسمبر سنة 1947.
[(21)] راجع مختصر كيش رقم 292 وموريل الطبعة الثانية رقم 628
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
ما هو أصل الوقف
مجلة المحاماة – العدد الرابع
السنة الأولى - أول أكتوبر سنة 1920
ما هو أصل الوقف
ولأي داعٍ أخرج عن اختصاص المحاكم الأهلية
تخرج عن اختصاص المحاكم الأهلية المسائل المذكورة بالمادة السادسة عشرة من لائحة ترتيبها.
ومن ضمن هذه المسائل ما يتعلق بأصل الوقف - فما هو أصل الوقف؟
من جهة اللغة
إن أصل الشيء هو أساسه ووجوده وإن ما عدا الأصل هو فروع الشيء تتفرع من الأصل.
من جهة القانون
إن أصل الوقف هو عبارة عن الأركان الجوهرية التي يُبنَى عليها إنشاء الوقف وتكوينه أو بعبارة أخرى هو كل ما يكون أركان وجوده وشرائط صحته وما عدا ذلك من مسائل الوقف فهو فروع عن وجود الأصل، لذلك أجمع الفقهاء على أن الوقف يمكن أن يكون له وجود بدون الشرائط وأما الشرائط فلا يمكن أن يكون لها وجود إلا إذا ثبت وجود أصل الوقف.
ولقد رأى الشارع أن الحكم في أصل الوقف يحتاج إلى معلومات شرعية خاصة ومراجعات طويلة في كتب الشرع والقياس على فتاوى فقهائه.
فالقاضي الشرعي هو الذي يستطيع أن يعرف إذا كانت الصيغة التي استعملها المنشئ في إنشاء وقفه تدخل في الألفاظ الخاصة التي ينعقد بها الوقف وهو الذي يستطيع بعد مراجعة كتب الفقهاء وتحكيم سوابق الشرع هل هذه الصيغة مقترنة أو غير مقترنة بما لا يجعل الوقف ينعقد.
والقاضي الشرعي هو الذي يعرف أن يحكم في أهلية الواقف الخاصة، وهو الذي يعرف إذ كان المال الموقوف يصح وقفه شرعًا أو لا يصح كل ذلك تطبيقًا لقواعد الشرع.
فالنظر إذن في أصل الوقف يحتاج إلى قضاة درسوا دراسة شرعية مكينة، وهذا الأمر لا يتوفر وجوده دائمًا لدى القضاة الأهليين لذلك استثنى الشارع أصل الوقف من اختصاصهم.
ويظهر مراد الشارع بوضوح تام:
أولاً: بما جاء في النص الموجود في النسخة الفرنسية من لائحة ترتيب المحاكم وهو ينطق بأن المراد من أصل الوقف إنما هو صحة أركانه وانعقاده.
ثانيًا: بما جاء في المادة (15) من لائحة المحاكم الشرعية الصادر بها الأمر العالي المؤرخ 17 يونيه سنة 1880 فإن هذه المادة عند كلامها على كيفية قسمة الاستحقاق والعمل بشروط الوقف فرقت بين أصل الوقف من جهة وبين الاستحقاق والشروط من جهة أخرى فجاء فيها ما نصه:
(إذا حصل تنازع في استحقاق وقف بين مستحقيه وكان أصل الوقف ثابتًا لا نزاع فيه وكان لهذا الوقف كتاب مسجل).
فاللائحة الشرعية التي كان العمل جاريًا عليها وقت وضع لائحة المحاكم الأهلية عبر فيها الشارع عن أصل الوقف بشيء غير الشروط والاستحقاق.
ثالثًا: أحكام الشريعة الإسلامية في تعريف أصل الوقف فقد جاء في المادة (567) من قانون العدل والإنصاف للمرحوم قدري باشا:
(إن كل ما تعلقت به صحة الوقف من شرائط المالك ونحوها يتوقف عليه صحة العقد فهو من أصله).
وجاء في كتاب محمد بك زيد في الوقف صحيفة (135):
(وأصل الوقف هو كل ما توقفت عليه صحته فإذا شهد اثنان بأن هذه الأرض وقف ولكنهما قالا لم نعاين ذلك بل اشتهر عندنا أو سمعنا من الناس قبلت شهادتهما على الراجح وحكم بوقفيتها ولو شهدا بالتسامع على شرائط الوقف التي يشترطها الواقف في الوقفية من تخصيص الغلة وكيفية صرفها لم تقبل هذه الشهادة).
وجاء في نفس هذا المؤلف صحيفة (11):
(لو كان الشرط غير مؤثر على أصل الوقف ولا على المنفعة كما إذا اشترط أنه يبدأ من ريع الوقف بقضاء دينه صح كل من الوقف والشرط اتفاقًا).
وجاء في صحيفة (193) من مؤلف في الوقف للشيخ عبد الجليل عبد الرحمن عشوب:
(أصل الوقف عند الفقهاء كل ما تتوقف عليه صحته من شروط في الصيغة أو في الواقف أو الموقوف أو الجهة الموقوف عليها، والمراد بشرائط الوقف ما عدا ذلك من كل ما يشتمل عليه كتاب الوقف من الشروط التي يشترطها الواقف في الولاية على وقفه أو صرف غلتها).
وجاء في الجزء الثالث صحيفة (415) الطبعة الثالثة من (رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين):
(كل ما يتعلق بصحة الوقف ويتوقف عليه فهو من أصله وما لا يتوقف عليه فهو من الشرائط).
وفي الفتاوى الهندية الجزء الثاني صحيفة (345):
(الشهادة على الوقف بالشهرة تجوز وعلى شرائطه لا، ومعنى قول المشائخ لا تقبل الشهادة على شرائطه أنه بعد ما بينوا الجهة وقالوا هذا وقف على كذا لا ينبغي لهم أن يشهدوا أنه يبدأ من غلته فيصرف إلى كذا ثم إلى كذا ولو ذكروا ذلك لا تقبل شهادتهم).
فيؤخذ من هذا أن الشرط شيء وأصل الوقف شيء آخر.
رابعًا: قضاء المحاكم في هذا الصدد:
( أ ) جاء في حكم استئنافي صادر في 6 مارس سنة 94 منشور بمجموعة الحقوق السنة التاسعة صحيفة (62) ما يأتي: (نص المادة (16) إنما يقصد به منع المحاكم الأهلية من نظر المنازعات التي يتراءى لها أنها تمس أصل الوقف لا منعها من نظر المسائل الحسابية والاستحقاق وكل ما كان منصوصًا عنه بعبارة صريحة في كتاب الوقف).
(ب) وجاء في حكم استئنافي صادر في 20 يناير سنة 98 منشور بالحقوق سنة 12 صـ 49 (قرر علماء الحنفية أن كل ما يتعلق بصحة الوقف ويتوقف عليه فهو من أصله كأهلية الواقف للتبرع ونحوها وما لا يكون كذلك فليس منه كمسائل اشتراط النظر والتغيير والتبديل والإخراج والإدخال وغيرها من الشرائط التي يشترطها الواقف في كتاب وقفه وتختص المحاكم الأهلية بنظر المنازعات الواقعة فيه).
(جـ) وجاء في حكم استئنافي صادر في 22 فبراير سنة 1906 (تختص المحاكم الأهلية بالمنازعات الخاصة بالأوقاف ولا يستثنى من ذلك سوى ما كان فيها خاصًا بأصل الوقف والمراد بأصل الوقف الأركان الجوهرية التي ينبني عليها إنشاء الوقف وتكوينه، وبعبارة أخرى أن كل ما يتوقف عليه الوقف فهو من أصله وما لا يتوقف عليه فهو من الشرائط).
(د) وجاء في حكم استئنافي صادر في 12 يونيه سنة 1915 (أن ما جاء المادة (16) من إخراج المنازعات المتعلقة بأصل الوقف من اختصاص المحاكم الأهلية العام إنما يقصد به المسائل التي لها مساس بأصل وجود الوقف ذاته وعليه فمتى لم يكن النزاع متعلقًا بأصل أو صحة الوقف فكافة المنازعات التي تقع على أي شرط من شروطه التي لا يكون لوجودها أو عدم وجودها تأثير على الوقف نفسه بل مجرد تغيير في كيفيته إنما هي من اختصاص المحاكم الأهلية العام الاعتيادي).
ومما يجب ملاحظته أنه لا يمكن الرجوع إلى أحكام المحاكم المختلطة لأن لائحتها خالية من هذا التخصيص الموجود في لائحة ترتيب المحاكم الأهلية.
السنة الأولى - أول أكتوبر سنة 1920
ما هو أصل الوقف
ولأي داعٍ أخرج عن اختصاص المحاكم الأهلية
تخرج عن اختصاص المحاكم الأهلية المسائل المذكورة بالمادة السادسة عشرة من لائحة ترتيبها.
ومن ضمن هذه المسائل ما يتعلق بأصل الوقف - فما هو أصل الوقف؟
من جهة اللغة
إن أصل الشيء هو أساسه ووجوده وإن ما عدا الأصل هو فروع الشيء تتفرع من الأصل.
من جهة القانون
إن أصل الوقف هو عبارة عن الأركان الجوهرية التي يُبنَى عليها إنشاء الوقف وتكوينه أو بعبارة أخرى هو كل ما يكون أركان وجوده وشرائط صحته وما عدا ذلك من مسائل الوقف فهو فروع عن وجود الأصل، لذلك أجمع الفقهاء على أن الوقف يمكن أن يكون له وجود بدون الشرائط وأما الشرائط فلا يمكن أن يكون لها وجود إلا إذا ثبت وجود أصل الوقف.
ولقد رأى الشارع أن الحكم في أصل الوقف يحتاج إلى معلومات شرعية خاصة ومراجعات طويلة في كتب الشرع والقياس على فتاوى فقهائه.
فالقاضي الشرعي هو الذي يستطيع أن يعرف إذا كانت الصيغة التي استعملها المنشئ في إنشاء وقفه تدخل في الألفاظ الخاصة التي ينعقد بها الوقف وهو الذي يستطيع بعد مراجعة كتب الفقهاء وتحكيم سوابق الشرع هل هذه الصيغة مقترنة أو غير مقترنة بما لا يجعل الوقف ينعقد.
والقاضي الشرعي هو الذي يعرف أن يحكم في أهلية الواقف الخاصة، وهو الذي يعرف إذ كان المال الموقوف يصح وقفه شرعًا أو لا يصح كل ذلك تطبيقًا لقواعد الشرع.
فالنظر إذن في أصل الوقف يحتاج إلى قضاة درسوا دراسة شرعية مكينة، وهذا الأمر لا يتوفر وجوده دائمًا لدى القضاة الأهليين لذلك استثنى الشارع أصل الوقف من اختصاصهم.
ويظهر مراد الشارع بوضوح تام:
أولاً: بما جاء في النص الموجود في النسخة الفرنسية من لائحة ترتيب المحاكم وهو ينطق بأن المراد من أصل الوقف إنما هو صحة أركانه وانعقاده.
ثانيًا: بما جاء في المادة (15) من لائحة المحاكم الشرعية الصادر بها الأمر العالي المؤرخ 17 يونيه سنة 1880 فإن هذه المادة عند كلامها على كيفية قسمة الاستحقاق والعمل بشروط الوقف فرقت بين أصل الوقف من جهة وبين الاستحقاق والشروط من جهة أخرى فجاء فيها ما نصه:
(إذا حصل تنازع في استحقاق وقف بين مستحقيه وكان أصل الوقف ثابتًا لا نزاع فيه وكان لهذا الوقف كتاب مسجل).
فاللائحة الشرعية التي كان العمل جاريًا عليها وقت وضع لائحة المحاكم الأهلية عبر فيها الشارع عن أصل الوقف بشيء غير الشروط والاستحقاق.
ثالثًا: أحكام الشريعة الإسلامية في تعريف أصل الوقف فقد جاء في المادة (567) من قانون العدل والإنصاف للمرحوم قدري باشا:
(إن كل ما تعلقت به صحة الوقف من شرائط المالك ونحوها يتوقف عليه صحة العقد فهو من أصله).
وجاء في كتاب محمد بك زيد في الوقف صحيفة (135):
(وأصل الوقف هو كل ما توقفت عليه صحته فإذا شهد اثنان بأن هذه الأرض وقف ولكنهما قالا لم نعاين ذلك بل اشتهر عندنا أو سمعنا من الناس قبلت شهادتهما على الراجح وحكم بوقفيتها ولو شهدا بالتسامع على شرائط الوقف التي يشترطها الواقف في الوقفية من تخصيص الغلة وكيفية صرفها لم تقبل هذه الشهادة).
وجاء في نفس هذا المؤلف صحيفة (11):
(لو كان الشرط غير مؤثر على أصل الوقف ولا على المنفعة كما إذا اشترط أنه يبدأ من ريع الوقف بقضاء دينه صح كل من الوقف والشرط اتفاقًا).
وجاء في صحيفة (193) من مؤلف في الوقف للشيخ عبد الجليل عبد الرحمن عشوب:
(أصل الوقف عند الفقهاء كل ما تتوقف عليه صحته من شروط في الصيغة أو في الواقف أو الموقوف أو الجهة الموقوف عليها، والمراد بشرائط الوقف ما عدا ذلك من كل ما يشتمل عليه كتاب الوقف من الشروط التي يشترطها الواقف في الولاية على وقفه أو صرف غلتها).
وجاء في الجزء الثالث صحيفة (415) الطبعة الثالثة من (رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين):
(كل ما يتعلق بصحة الوقف ويتوقف عليه فهو من أصله وما لا يتوقف عليه فهو من الشرائط).
وفي الفتاوى الهندية الجزء الثاني صحيفة (345):
(الشهادة على الوقف بالشهرة تجوز وعلى شرائطه لا، ومعنى قول المشائخ لا تقبل الشهادة على شرائطه أنه بعد ما بينوا الجهة وقالوا هذا وقف على كذا لا ينبغي لهم أن يشهدوا أنه يبدأ من غلته فيصرف إلى كذا ثم إلى كذا ولو ذكروا ذلك لا تقبل شهادتهم).
فيؤخذ من هذا أن الشرط شيء وأصل الوقف شيء آخر.
رابعًا: قضاء المحاكم في هذا الصدد:
( أ ) جاء في حكم استئنافي صادر في 6 مارس سنة 94 منشور بمجموعة الحقوق السنة التاسعة صحيفة (62) ما يأتي: (نص المادة (16) إنما يقصد به منع المحاكم الأهلية من نظر المنازعات التي يتراءى لها أنها تمس أصل الوقف لا منعها من نظر المسائل الحسابية والاستحقاق وكل ما كان منصوصًا عنه بعبارة صريحة في كتاب الوقف).
(ب) وجاء في حكم استئنافي صادر في 20 يناير سنة 98 منشور بالحقوق سنة 12 صـ 49 (قرر علماء الحنفية أن كل ما يتعلق بصحة الوقف ويتوقف عليه فهو من أصله كأهلية الواقف للتبرع ونحوها وما لا يكون كذلك فليس منه كمسائل اشتراط النظر والتغيير والتبديل والإخراج والإدخال وغيرها من الشرائط التي يشترطها الواقف في كتاب وقفه وتختص المحاكم الأهلية بنظر المنازعات الواقعة فيه).
(جـ) وجاء في حكم استئنافي صادر في 22 فبراير سنة 1906 (تختص المحاكم الأهلية بالمنازعات الخاصة بالأوقاف ولا يستثنى من ذلك سوى ما كان فيها خاصًا بأصل الوقف والمراد بأصل الوقف الأركان الجوهرية التي ينبني عليها إنشاء الوقف وتكوينه، وبعبارة أخرى أن كل ما يتوقف عليه الوقف فهو من أصله وما لا يتوقف عليه فهو من الشرائط).
(د) وجاء في حكم استئنافي صادر في 12 يونيه سنة 1915 (أن ما جاء المادة (16) من إخراج المنازعات المتعلقة بأصل الوقف من اختصاص المحاكم الأهلية العام إنما يقصد به المسائل التي لها مساس بأصل وجود الوقف ذاته وعليه فمتى لم يكن النزاع متعلقًا بأصل أو صحة الوقف فكافة المنازعات التي تقع على أي شرط من شروطه التي لا يكون لوجودها أو عدم وجودها تأثير على الوقف نفسه بل مجرد تغيير في كيفيته إنما هي من اختصاص المحاكم الأهلية العام الاعتيادي).
ومما يجب ملاحظته أنه لا يمكن الرجوع إلى أحكام المحاكم المختلطة لأن لائحتها خالية من هذا التخصيص الموجود في لائحة ترتيب المحاكم الأهلية.
قانون الشهر العقاري من الناحية العملية
مجلة المحاماة – العددان التاسع والعاشر
السنة السابعة العشرون سنة 1947
المحاضرة
التي ألقاها حضرة صاحب العزة الأستاذ محمود شوقي بك الأمين العام لمصلحة الشهر العقاري (بنادي المحامين بمصر في خلال شهر إبريل سنة 1947)
(قانون الشهر العقاري من الناحية العملية)
القسم الأول
عندما اعتزمت إلقاء محاضرة في الشهر العقاري وكانت أول ما يلقي في هذا الصدد تناوبتنى عوامل عدة: هل أتحدث إلى حضراتكم عن القانون من الناحية التاريخية أو من الناحية الفنية القانونية أو من الناحية العملية، فلو أنني تكلمت عن الشهر العقاري في مختلف هذه النواحي لأخذ من الوقت ما إذا أضيف إلى جمود الموضوع وصلابته ما كان كفيلاً بألا يبقى قبل انتهاء هذه المحاضرة في الصالة إلا ملقيها.
ولذلك قد رأيت ألا أتحدث اليوم عن قانون الشهر العقاري إلا من الناحية العملية تاركًا النواحي الأخرى لفرص قادمة بإذن الله وذلك لأن هذه الناحية العملية هي صاحبة الأهمية الأولى لكل مشتغل بالقانون، لأنني أعتقد أنه لا غنى لمشتغل بالقانون سواء كان في القضاء أم في المحاماة عن الالتجاء إلى قانون الشهر في كثير مما يعرض عليه في اليوم الواحد، وأعتقد أن لشرح هذا الموضوع من الناحية العملية فيه راحة للجمهور وراحة لمن عهد إليهم تنفيذ النظام الجديد.
صدر قانون تنظيم الشهر العقاري محققًا لأمنيتين:
1 - إحاطة الملكية العقارية بسياج من الضمان الكفيل باستتباب المعاملات الخاصة بالحقوق العينية على أساس سليم.
2 - تركيز كافة أعمال الشهر في هيئة واحدة مستقلة تهيمن على شؤونها عناصر قانونية ولعل هذه الأمنية الأخيرة التي جاشت في الصدور منذ أواخر القرن الماضي وتعذر تحقيقها إذ ذاك لاعتراض ممثلي الدول على سلب جزء هام من اختصاص المحاكم المختلطة التي كانت تتولى عملية الشهر فيما يتعلق بحوالي 90 % من المحررات.
على أن ذلك التفكير ظل موجودًا واستمرت المحاولات نحو تحقيق هذا الغرض إلى أن تهيأت أخيرًا الفرصة بعد أن استردت الحكومة المصرية كامل حريتها في التشريع وبعد أن اقترب ميعاد انتهاء فترة الانتقال للمحاكم المختلطة.
فألفت لجنة برئاسة معالي كامل مرسي باشا قامت بوضع القانون الجديد الذي كان من المصادفات الطريفة أن تولي معاليه وزارة العدل وقد انتهت اللجنة من عملها فباشر معاليه باقي خطواته إلى أن صدر كتشريع من تشريعات الدولة يحوي إصلاحًا لعله من أهم الإصلاحات التي تمت في مصر في المدة الأخيرة.
أنشئت إذن هيئة مستقلة سماها القانون المكتب الرئيس للشهر تهيمن على مكاتب للشهر في مختلف عواصم المديريات عددها 15 ومأموريات في مراكز القطر عددها الآن 83 مأمورية وقد بلغ من الحرص في تحقيق استقلال هذه الهيئة فيما يختص بمباشرة عملها أنه كان قد اقترح في المشروع إعطاء رؤساء المحاكم حق تفتيش المكاتب الواقعة في دائرة اختصاص محاكمهم مرة كل ثلاثة شهور أو كل ما استدعى العمل ذلك إلا أن هذا النص وكان المادة الثامنة من المشروع حذف في البرلمان لما رآه من ضرورة إشاعة الثقة بين الجمهور في الإدارة الحكومية فضلاً عن أن تتبع هذه المكاتب للأمين العام ثم وضعها في نفس الوقت تحت تفتيش رؤساء المحاكم لا يستقيم مع طبيعة الأشياء.
وقد نص القانون على سلخ أعمال التسجيل من مختلف المحاكم ومنحها للمكاتب التي أصبح كل منها مختصًا دون سواه بشهر المحررات المتعلقة بعقارات أو بأجزاء من عقارات واقعة في دائرة اختصاصه ويستتبع ذلك أنه لا يكون لشهر محرر يحوي عقارات تقع في دائرة اختصاص أكثر من مكتب أثر إلا إذا شهر في كل من المكاتب المختصة – فإذا اقتصر صاحب الشأن على شهر محرر في مكتب معين فلا يكون لهذا الشهر قيمة إلا بالنسبة للعقارات التي تقع في دائرة اختصاص هذا المكتب فقط والذي يحدث عمليًا أن يقدم المحرر إلى مكتب الشهر الأول فتتم فيه جميع عملية الشهر ثم يعطي صاحب الشأن بناءً على طلبه صورة خطية طبق الأصل من المحرر على الورق الأزرق الخاص ليتولى تقديمها إلى المكتب الثاني لإجراء نفس العملية فيه.
وقد نص القانون الجديد على أن عملية الشهر تتم على مرحلتين:
أولاً: المرحلة الأولى ويصح أن نسميها المرحلة التمهيدية تتم في المأمورية.
ثانيًا: المرحلة الثانية وهي عملية الشهر ذاتها وتتم في المكتب.
وألقى عبء القيام بالمرحلتين على أصحاب الشأن دون سواهم أو من يقوم مقامهم وبذلك زال عن أقلام الكتاب عبء تسجيل بعض المحررات التي كان يقضي القانون بتكليفها بمباشرة عملية الشهر فيها كأحكام رسو المزاد وأحكام الشفعة وأوامر الاختصاص وتبدأ المرحلة الأولى في الشهر بتقديم طلب موقع عليه من صاحب الشأن من أصل على ورقة دمغة وثلاث صور على ورق عادي وهو المتصرف أو المتصرف إليه في العقود مثلاً أو لمن كان المحرر لصالحه في أوراق الإجراءات أو صحف الدعاوى أو الأحكام.
واشترط القانون وجوب اشتمال الطلب على بيانات معينة تبين بطريق التفصيل شخصية كل طرف في المحرر وبيان العقار بالدقة وبيان التكليف وأصل الملكية والحقوق العينية المقررة على العقار المتصرف فيه وخصوصًا ارتفاقات الري والصرف وأشار القانون أنه يجب أن يرفق بالطلب ما يؤيد البيانات الواردة فيه خاصة بالصفة والتكليف وأصل الملكية من مستندات.
وقد حدد القانون في المادة (23) المستندات التي تقبل في إثبات أصل الملكية والحق العيني المتصرف فيه وهي أربعة:
1 - المحررات التي سبق شهرها.
2 - المحررات الثابتة التاريخ قبل أول يناير سنة 1924 من غير وجود توقيع أو ختم لإنسان توفي وطبعًا هذا تنفيذًا لقانون سنة 1923 الذي اعتبر العقود الثابتة التاريخ قبل سنة 1924 في حكم العقود المسجلة والقانون رقم (30) سنة 1942 الذي استبعد وجود الختم أو توقيع لإنسان توفي كطريقة من طرق إثبات التاريخ فيما يختص بجواز شهر المحررات.
وهذا النص الحكيم استبعد ما كان يلجأ إليه بعض الأفراد من افتعال عقود ملكية وإعطائها تاريخًا سابقًا لسنة 1924 ووضع ختم أو توقيع لإنسان أو استحضاره شهادة إدارية أو شهادة بوفاة ذلك الشخص ومحاولة اعتبار هذا العقد في حكم العقود المسجلة تهربًا من تعذر إثبات ملكيتهم على الوجه الصحيح.
ويحضرني أنه أثناء رئاستي لمحكمة المنصورة المختلطة ضبط عند أحد وكلاء الأشغال أوراق بيضاء تحمل في ذيلها ختمًا لشخص توفي قبل سنة 1924 وكان يحتفظ بها لتسهيل مأمورية من يلجأ إليه من الأفراد فيملأ الورقة على اعتبار أن العقار الذي تصرف فيه بيع إليه من ذلك الشخص.
3 - الوصايا التي تمت قبل أول يناير سنة 1947 بتوفر شرطيها (الوفاة والقبول) والحكمة في هذا أن الوصية الوصية كطريق من طرق التمليك لم تكن خاضعة للشهر في ظل النظام القديم.
4- المحررات السابقة التاريخ على سنة 1924 إذا كان قد سبق أخذ بها في عقد شهر أو نقل التكليف بمقتضاه لمن صدر لصالحه والحكمة في هذا أن إنسانًا يحمل عقدًا سابق تاريخه على سنة 1924 بأي طريق ويملك به عقارًا معينًا فباع منه النصف بعقد مسجل قبل القانون الجديد ويريد الآن أن يتصرف في النصف الآخر من العقار فالقانون الجديد يبيح له حق التصرف استنادًا على هذا العقد أسوة بما اتبع في ظل القانون السابق.
5 - واعتبر القانون كذلك في المادة (55) (وهذا حكم وقتي) بطريق الاستثناء كمستند من مستندات الملكية العقود التي تحمل تاريخًا سابقًا على سنة 1924 إذا كانت قد اعتبرت سندًا للتمليك في عقد تم توثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وأصدر بشأنه حكم صحة التعاقد أو توقيع قبل أول يناير سنة 1947.
وبمجرد تلقي الطلب في المأمورية ودفع مبلغ 100 قرش بصفة كفالة تصادر بقوة القانون إذا لم يسجل المحرر في بحر سنة من تاريخ تقديم الطلب تقوم المأمورية بتدوينه في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية الطلبات وذلك حسب تاريخ وساعة تقديمه ثم تعطي إيصالاً لصاحب الشأن مبين به رقم أسبقيته في هذا الدفتر وما يرفق به من مستندات ثم تتولى المأمورية بحث الطلب من الناحيتين القانونية والهندسية فإذا ما وجد مستوفٍ أشر عليه بالقبول للشهر ورد إلى صاحب الشأن أما شخصيًا وأما بواسطة البريد في ظرف ثلاثة أيام من التأشير عليه بالقبول ويقوم صاحب الشأن بتجهيز مشروع المحرر من واقع الطلب المؤشر عليه بالقبول ثم يعاد إلى نفس المأمورية مرفقًا به أصل الطلب والمستندات وبمجرد تقديم مشروع المحرر تقوم المأموية بتدوينه حسب تاريخ وساعة وروده في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية مشروعات المحررات وتعطي بذلك إيصالاً لصاحب الشأن تبين به رقم أسبقيته في ذلك الدفتر فإذا ما وجد المشروع مطابقًا للبيانات الواردة في الطلب المؤشر عليه بالقبول تقوم المأمورية بالتأشير عليه بصلاحيته للشهر بختم مخصوص اسمه صالح للشهر.
تقوم كذلك بوضع هذا الختم على كافة المستندات والوثائق التي ستلحق بالعقد مثل التوكيل والمكلفة والإعلام الشرعي وقرارات المجالس الحسبية.
وما دام المشروع قد أصبح صالحًا للشهر فيصدق على التوقيعات فيه أو يوثق ثم يقدم لمكتب الشهر المختص لإجراء عملية الشهر نفسها.
ولعل نظام تدوين الطلبات ومشروعات المحررات في دفاتر خاصة هو من ضمن الأشياء الجديدة التي استحدثها القانون إذ أنشأ بذلك نظامًا للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات يظهر أثره في حالة تقديم طلبات متعارضة أو ممكن أن تتعارض فيها المصلحة، فمثلاً – شخص رهن عقار ثم باعه وقدم طلبان أحدهما للرهن والثاني للبيع أو شخص يملك عقارًا باع منه 15 قيراطًا ثم باع 12 قيراطًا من نفس العقار فيقضي القانون في هذه الحالة بإيقاف الفصل في الطلب اللاحق إلى أن تستوفي إجراءات الطلب الأول.
وفي حالة إعادة الطلب الأول مستوفي أو مشروع الطلب الأول مؤشرًا عليه بالصلاحية لا يعاد الطلب الثاني أو مشروع المحرر الثاني إلا بعد انقضاء فترة موازية للفترة الواقعة بين تقديم كل منهما على ألا يتجاوز سبعة أيام في الطلبات وخمسة أيام في مشروعات المحررات.
ولا شك أن نظام الأسبقية سيضع حدًا لعيوب القانون القديم ويحمي المشتري الجاد الذي يباشر إجراءات نقل الملكية - إنما هذه الحماية ليست مطلقة بالقانون يحميه طالما هو مستمر حثيثًا في إنهاء كافة العمليات إذ يمكن أن تنعكس الأسبقية الخاصة بالطلب في مشروع المحرر لو أن صاحب الطلب الأول أهمل في تقديم مشروع المحرر في الوقت المناسب إذ لا يمكن أن تستمر حماية القانون لصاحب الطلب الأول إلى ما لا نهاية.
فإذا فرضنا أن الطلب الأول غير مستوفي منح صاحبه مهلة خمسة عشر يومًا لاستيفاء البيانات الناقصة وأوقفت الطلبات اللاحقة دون أن تستوفي فهذه المدة ليست على سبيل التحديد فيمكن لأمين المكتب أن يمدها إذا اتضح له أن عدم الاستيفاء يرجع إلى سبب خارج عن إرادة الطالب، فإذا لم يستوفى الطلب إما لعجز وإما لتقصير فلا تزول الأسبقية إلا بقرار مسبب من أمين المكتب بعد عرض الأمر عليه كتابة بواسطة المأمورية.
وهذا القرار يعلن لصاحب الشأن الذي له في ظرف عشرة أيام وهذه نقطة هامة جدًا إذ يحدث في بعض الأحيان أن يلجأ صاحب الطلب الغير مستوفٍ إلى الإدارة العامة للشهر ولا يلجأ للحق الذي يمنحه إياه القانون، فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لمن طلب إليه استيفاء بيان لا يرى وجهًا لاستيفائه أو لمن تقرر سقوط أسبقيته بسبب نقص في البيانات أن يقوم في ظرف عشرة أيام بتجهيز مشروع المحرر وتوثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وسداد الرسم عنه ثم الالتجاء إلى أمين المكتب ويطلب منه إعطاء محررة رقم شهر مؤقت ويجب على أمين المكتب في هذه الحالة أن ينفذ هذه الرغبة وأن يقوم من جهته بعرض الموضوع بكافة نواحيه على قاضي الأمور الوقتية الواقع في دائرتها المكتب بعد أن يكون صاحب الشأن قد قام بسداد الكفالة وقدرها نصف في المائة من قيمة الالتزام على ألا تتجاوز عشرة جنيهات - فإحدى حالتين:
1- إما أن يرى القاضي أن الأوراق مستوفاة وتحققت بذلك الشروط الواجب توافرها للشهر فيأمر به وبذلك يصير الرقم الوقتي نهائيًا ويتأشر بذلك في الدفاتر وترد الكفالة لصاحبها.
2 - وإما أن يرى القاضي أن مكتب الشهر محق وأن الشروط غير متحققة فيما مر بإلغاء الرقم الوقتي الذي يصير إلغاؤه والتأشير بذلك في الدفاتر وتصادر الكفالة بقوة القانون (التأشير الهامشي مادة (37)).
هذه هي المرحلة التمهيدية التي يجب أن يمر بها أي محرر صالح للشهر سواء كان عقدًا أو أوراق إجراءات أو صحف دعاوى أو أحكام صحة تعاقد وفيما يختص بهذه الأخيرة فقد نص عليها القانون صراحة أي أن صدور حكم بصحة التعاقد لا يعفي من صدر لصالحه من المراجعة الأولية لنوع العقد الصادر الحكم بصحته.
بقيت مرحلة الشهر التي تتم بإحدى الطرق الثلاث: التسجيل أو القيد أو التأشير الهامشي وهي مرحلة قديمة معروفة ليس فيها جديد إلا أن الفهارس الأبجدية وهي أساس الشهادات العقارية أصبح يدرج فيها جميع أصحاب الشأن في المحرر بعد أن كان يكتفي بدرج اسم المتصرف فيها فقط.
لذلك اعتبارًا من أول يناير سنة 1947 يمكن أن يكون طلب الشهادة عن التصرفات الصادرة لصالح الشخص بعد أن كانت قاصرة على التصرفات الصادرة ضده فقط.
أما فيما يختص بالمحررات الواجبة الشهر فإنما ما يستخلص من القانون الجديد أن كل محرر خاص بحق عيني عقاري مهما كان نوعه سواء بين الأحياء أو تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت يخضع لنظام الشهر العقاري وبذلك أضاف القانون الوصية والوقف ومراسيم نزع الملكية للمنفعة العامة وقرارات توزيع طرح البحر ورتب القانون جزاءً صارمًا فيما يختص بالحقوق العينية الأصلية ونفس الجزاء المنصوص عليه في القانون القديم بأن الملكية لا تنشأ ولا تنتقل ولا تتغير ولا تتبدل إلا بالتسجيل، أما الحقوق العينية التبعية والتصرفات والأحكام النهائية المقررة لحق عيني عقاري حتى ولو كانت قسمة أموال موروثة فلا تسري على الغير إلا إذا تم شهرها.
وأخضع القانون للشهر الإيجارات والسندات التي ترد على منفعة العقار لأكثر من تسع سنوات والمخالصات والحوالات التي تزيد عن ثلاث سنوات مقدمًا ورتب جزاء أنها لا تسري قبل الغير إلا للمدد السابقة.
وأحدث ما في القانون هو شهر حق الإرث ويتم بشهر السند أو الحكم المثبت لحق الإرث مع قائمة بعقارات التركة وهذا الحق للوارث أو لكل صاحب مصلحة ورتب جزاءً على هذا يتلخص في عدم تمكين الوارث من التصرف إلا إذا كان حق إرثه التالي لسنة 1946 مسجلاً وهذا طبيعي إذ لم يكن في استطاعة الشارع أن يضع حدًا للقاعدة القانونية التي تقول - بانتقال الملكية بمجرد الوفاء ورغبته مع ذلك في إلزام الورثة بتسجيل حقوقهم لإظهار جميع التطورات في الملكية العقارية في البلاد فرأى أن يوفق بين الأمرين فالوارث يملك لا نزاع فيه ولكن نمنعه من التصرف إلا إذا قام بتسجيل حق الإرث ومن فوائد هذا النظام الجديد أن يظهر الديون العادية التي قد تكون للغير قبل التركة حماية للوارث وللمتعامل معه ولنفس الدائن ولذلك أجبر القانون كل صاحب دين عادي قبل التركة أن يقوم بشهر دينه بطريق التأشير الهامشي على هامش تسجيل حق الإرث فإذا تم التأشير في بحر السنة من تسجيل حق الإرث كان له أثر رجعي قبل التركة وإذا تسجل بعد سنة كانت له مرتبة من وقت إجرائه فقط ولذلك تسري قبله جميع تصرفات الوارث السابقة وللوارث أن يقصر الشهر على جزء معين من عقارات التركة ولكن في هذه الحالة نعتبر هذا الجزء وحده لا يمكن أن يتصرف فيها الوارث إلا في حدود نصيبه الشرعي في الميراث وآخر حدود الوحدة هي مكتب الشهر بدائرة المديرية.
أما فيما يختص بعرائض الدعاوى فقد نص القانون في المادة (15) على أن كل دعوى الغرض منها الطعن في التصرف وجودًا أو صحة أو نفاذًا وهذا تعريف شامل وذكر على سبيل المثال دعاوى البطلان والفسخ والإلغاء والرجوع يجب شهرها بطريق التأشير الهامشي فإذا لم يكن العقد المطعون فيه مسجلاً شهرت هذه الدعاوى بطريق التسجيل كذلك يجب تسجيل دعاوى استحقاق أي حق من الحقوق العينية أو دعاوى صحة التعاقد مما استبعد دعاوى صحة التوقيع.
وطريقة الشهر واحدة بالنسبة للمحررات وصحف الدعاوى أي أنها يجب أن تمر بالمرحلة التمهيدية قبل إعلانها وقيدها ولكن لا تتم عملية الشهر الحقيقية فيها إلا بعد قيدها بجدول المحكمة وذلك رغبة من الشارع في الاستيثاق من جدية الدعوى على أن قيدها في جدول المحكمة سيفصل فيها على أي الحالات.
ولا يجب أن يفهم أن نص القانون على وجوب تسجيل هذه الصحف معناه امتناع المحاكم عن نظر الدعاوى إذا لم تكن صحفها قد شهرت أو إيقاف نظر الدعاوى إلى أن يتم شهر صحائفها لأن القانون رتب جزاءً غير مباشر على إهمال تسجيل عرائض الدعاوى إذ قد نص على أنه إذا صدر حكم نهائي بشأن حق عيني عقاري وكانت صحيفة الدعوى مسجلة أو مؤشر بها ثم شهر الحكم وهذه الأحكام لا تشهر إلا بطريق التأشير الهامشي فإن حق صاحب الشأن يتقرر بأثر رجعي ابتداءً من تاريخ تسجيل عريضة الدعوى أي أنه بمعنى آخر إذا أهمل تسجيل العريضة وصدر له حكم ثم طلب شهرة فهنا يتطلب منه إجراءين:
1 - أن يسجل العريضة.
2 - ويؤشر بمنطوق الحكم على هامش العريضة.
ويمكن أن تتم هاتين العمليتين في نفس الوقت إنما حقه لا يتقرر إلا من تاريخ تسجيل العريضة وقد نص القانون على الالتجاء إلى قاضي الأمور المستعجلة في حالة التأشير بدين عادي على التركة أو بصحيفة الدعوى للنظر في إلغائه إذا كان سند الدين العادي المطعون فيه طعنًا جديًا أو كانت الدعوى ظاهرة الكيدية.
ومما استحدثه القانون أيضًا النص على وجوب شهر حق امتياز البائع منفصلاً عن تسجيل عقد البيع الوارد فيه ويتم ذلك الشهر بقائمة تحرر من واقع عقد البيع وموقع عليها من صاحب الشأن توقيعًا عاديًا وتقدم للمكتب المختص لإجراء شهرها وقد نص القانون على أن مرتبة امتياز البائع لا تترتب إلا من تاريخ إجراء ذلك القيد حتى ولو كان عقد البيع مسجلاً.
ولا يفوتني أن أذكر بهذه المناسبة أن جميع الحقوق العينية التبعية التي تشهر بطريق القيد أي بطريق قائمة تحرر من واقع العقد المرتب للحق العيني يجب أن تكون القائمة موقعًا عليها من طالب القيد توقيعًا عاديًا إلا إذا كان الحق المراد شهره لم يكن خاضعًا لإجراء القيد قبل القانون الجديد مثل رهن الحياز العقاري وامتياز البائع وامتياز المقتسم السابق على سنة 1947 فإن هذه الحقوق وقد خضعت للقيد وبالتالي للتجديد العشري يجب أن تتم إجراء قيدها من جديد قبل انتهاء عشرة سنوات على تاريخ العقد المسجل المرتب لها أو في بحر سنة 1947 أي المدتين أطول.
ففي هذه الحالة الأخيرة يجب أن تكون القائمة مصدقًا على التوقيع فيها كما يجب أو تمر بكافة إجراءات الشهر طبقًا للنظام الجديد.
هذا جزء من كثير كان بودى أن استوفى عرضه على حضراتكم ولكني سأقتصر على ذلك خوفًا من التشهير بالشهر.
وإني أشكر مجلس النقابة الذي هيأ لي هذه الفرصة كما أشكر حضراتكم لتفضلكم بالحضور والاستماع إلى وأرجو أن أوفق إلى فرصة أخرى لأوفى المسائل العديدة التي جاء بها القانون لاستيفاء حقها من البحث.
القسم الثاني
تحدثنا إلى حضراتكم في المحاضرة الماضية عن إجراءات الشهر بطريقة مبدئية وعما استحدثه القانون الجديد من نظام للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات لعله إن لم يمنع بطريقة قاطعة التصرف مرتين في عقار واحد سيوقف مثل هذه المعاملات ويقلل منها بدرجة تقطع الشكوى السابقة على القانون الجديد وتبث الطمأنينة في نفوس المتعاقدين مع صاحب عقار معين، وشرحنا ما يترتب على هذه الأسبقية من حق لصاحب الطلب الأول في حالة ما إذا تعارض معه طالب لاحق وبينا أن هذه الحماية حماية نسبية أي أن القانون يحمي صاحب الطلب الأول طالما يسير حثيثًا وبطريقة جدية في كافة إجراءات الشهر من تمهيدية إلى نهائية.
وقد بينا أيضًا ما أخضعه القانون لإجراءات الشهر من محررات جديدة لم تكن خاضعة له من قبل كما عددنا المحررات التي غير القانون طريقة الشهر فيها مثل رهن الحياز العقاري الذي أصبح يقيد بعد أن كان يسجل، ثم بينا لحضراتكم طريقة الطعن في تصرفات المكتب في حالة ما إذا كلف أصحاب الشأن استيفاء بيان لا يروا وجهًا لاستيفائه أو في حالة صدور قرار من الأمين لسقوط أسبقية الطلب الأول في حالة تعارض طلبين.
وسأقوم اليوم بتكملة ما لم يتسع الوقت في المحاضرة السالفة إلى شرحه وبيانه ومما يتصل اتصالاً وثيقًا بالناحية العملية في القانون.
قلنا لحضراتكم أن إجراءات الشهر تتم بثلاث طرق التسجيل والقيد والتأشير الهامشي وكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها يجب اتباعها فيما يختص بالإجراءين الأول وهما التسجيل والقيد فيما عدا فارق بسيط وهو أن التسجيل يتم بشهر المحرر نفسه، أما في حالة القيد فلا يشهر إلا ملخص للمحرر اصطلح على تسميته بالقائمة تحرر بمعرفة صاحب الشأن ويوقع عليها منه توقيعًا عاديًا وتقدم إلى مكتب الشهر العقاري مع المحرر المرتب للحق العيني التبعي وهذه القائمة المحررة على الورق الأزرق الخاص هي التي يصير شهرها ويحتفظ بالمحرر كمستند من مستندات إجراء الشهر.
ولقد قابلتنا صعوبة في حالة الرهن الرسمي وهو الرهن التأميني وفي حالة عقد البيع الرسمي الذي يحوي امتيازًا للبائع فإن إجراءات إعطاء صورة من هذين العقدين لشهر القائمة على أساسها قد تتطلب وقتًا وبذلك يتعذر على صاحب الشأن إجراء القيد في هذه الفترة مما قد يعرض حقه للتزاحم أو لضياع الأسبقية في الشهر إذا ما تم شهر حق عيني لآخر سواء كان أصليًا أو تبعيًا في بحر المدة التي تعطي فيها صورة المحرر الرسمي ولذلك وإلى أن يصدر قانون التوثيق المعروض الآن على مجلس الشيوخ موحدًا الهيئة التي تتولى الشهر والتوثيق قد رأينا مخاطبة رئاسة محكمة الاستئناف المختلطة التابع لها أقلام التوثيق الحالية أن تطلب إلى أصحاب الشأن تقديم نسختين من المحرر تعتبر إحداهما أصلاً والثانية صورة تسلم إلى صاحب الشأن في نفس اليوم حتى يمكن أن نبادر إلى شهر القائمة الخاصة به.
وبهذه المناسبة نقول إن مراجعة الموثق للأهلية أو الرضاء أو الصفة أو ما يؤيد ذلك من مستندات لا يعفي المسجل أي موظف الشهر من المسؤولية بحال فعليه أن يراجع هذه المستندات مراجعة دقيقة وأن يراجع العقد الذي تم توثيقه حتى يتأكد من أن إجراء القيد المرتب للحق العيني فعلاً قد تم طبقًا للقانون.
ولا يخفي على حضراتكم أن هذه المهمة الأخيرة أي مهمة القيد هي التي تعطي للعقد قوته وحجيته ويجب إذن أن تحاط بكافة ضمانات المراجعة اللازمة.
ويجب أن تشتمل القائمة أو ملخص العقد على اسم الدائن وصفته كاملة ومحل إقامة مختار في دائرة المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها العقار موضوع المحرر.
ورتب القانون جزاءً على عدم اختيار محل الإقامة أن كل إعلان إليه في قلم كتاب هذه المحكمة يكون صحيحًا وتترتب عليه كافة النتائج، ثم يذكر اسم المدين أو من رتب الحق العيني على عقاره أن كان غير مدين وتعريفه تعريفًا كافيًا، ثم تاريخ السند والجهة التي أصدرته ومصدر الدين المضمون كاملاً وتاريخ استحقاقه وبيان العقار بالدقة والإيجار للراهن إذا كان قد نص عليه في عقد رهن الحيازة العقاري.
ولو أن القانون نص على وجوب ذكر هذه البيانات كاملة إلا أنه نص في المادة (41) أنه لا يترتب على إغفال بيان من هذه البيانات بطلان إلا إذ نتج عن ذلك ضرر للغير بل أنه اشترط أيضًا أن لا يطلب البطلان إلا من وقع عليه الضرر فعلاً - وأعطى في هذه الحالة للمحكمة سلطة تقديرية، فلها أن تبطل القائمة أو أن تقصر من مداها تبعًا لطبيعة الضرر ومداه، على أنه فيما يختص بمقدار الدين فقد جاء صراحة في القانون أنه في حالة حصول خلاف بين العقد والقائمة فيما يختص بقيمة الدين فتقصر قيمة القائمة على أي المبلغين أقل في كل منهما.
وقد اشترط القانون أنه يجب تجديد القيد في خلال عشر سنوات وإلا سقط القيد وليس معنى هذا أن من سقط قيده لعدم تجديده في خلال العشر سنوات فقد كافة حقوقه فإن القانون منحه الحق في إجراء قيد جديد تكون له مرتبته من وقت إجرائه ولكن مع تحديد بسيط وهو أن يكون ذلك ممكنًا قانونًا أي أن يكون العقار ما زال في ذمة المدين فإذا كان العقار قد خرج من ذمة المدين لأي سبب من الأسباب امتنع مكتب الشهر عن إجراء القيد الجديد، ولا يكون لكل تجديد قوة إلا في خلال عشر سنوات من تاريخ إجرائه أي بمعنى آخر إذا جدد شخص قيدًا مضى عليه تسع سنوات ونصف فلا يسري لعشر سنين زائد النصف بل لعشر سنين فقط من تاريخ حصوله.
وأوجب القانون التجديد حتى في أثناء سير إجراءات نزع الملكية وإلى أن ينقضي الحق أو يطهر العقار وبوجه خاص إذا بيع العقار قضاء وانقضى ميعاد زيادة العشر.
ولست أنا في معرض أن أبين لحضراتكم ما ترتب على هذا النص الأخير من نتائج قانونية إذ سنقتصر الآن ونبقى في نطاق الدائرة العملية، وما دمنا في صدد القيد فيحسن أن لا ننتقل إلى وضوع آخر قبل الكلام على المحو أو محو هذا القيد – فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لا يجوز محو القيد إلا بعقد رسمي أو بحكم نهائي فالأصل إذن أن يكون التقرير بالمحو موثقًا ولكن لما كان رهن الحيازة العقاري يتم بعقد عرفي مصدق على التوقيع فيه كان من التصعيب على المدين أن نلزمه بالحصول على إقرار موثق لمحو قيد بعقد عرفي ولذلك رأى الشارع أن يكتفي في هذه الحالة بتقرير عرفي صادر للدائن مصدق على التوقيع فيه أسوة بما يتم في الرهن الحيازي نفسه.
ويتم شهر عقد المحو أو الحكم النهائي بالمحو بطريق التأشير الهامشي وسيأتي الكلام عن هذه الطريقة فيما بعد فإذا ما ألغى المحو لسبب من الأسباب عادت للقيد مرتبته الأولى ومع ذلك فلا يكون لهذا القيد قيمة بالنسبة إلى من تلقى حقًا بحسن نية من المدين في الفترة بين إجراء المحو وإلغائه ولا أود هنا أيضًا أن استعرض ما أثاره هذا النص من تخريجات قانونية مبقيًا ذلك إلى فرصة أخرى إذا سمحت بذلك النقابة ولم أكن قد أثقلت عليكم بهذه المادة العقيمة ووددتم أن تشرفوني مرة أخرى للاستماع إلى).
ونظم القانون طريقة الشهر بطريق التأشير الهامشي وهي كما قلت لحضراتكم في المحاضرة الأولى تشهر بها دعاوى الطعن صحة ونفاذًا ووجودًا في عقود سبق شهرها أو الأحكام التي تصدر في هذه الدعاوى أو في دعاوى استحقاق الحقوق العينية أو في دعاوى صحة التعاقد ويشهر بها أيضًا حق الدائن العادي على التركة وأخيرًا محو القيد وإلغائه.
وتتلخص الإجراءات الخاصة بالتأشير الهامشي في تقديم طلب إلى مكتب الشهر المختص أي الذي شهر فيه المحرر المراد إجراء التأشير على هامشه ويكون هذا الطلب مشتملاً على اسم الطالب وتعريفه تعريفًا شاملاً وعلى بيان المحرر المراد التأشير على هامشه ورقم شهره والسند الذي يبيح التأشير سواء كان عقدًا أو إقرارًا أو حكمًا ومضمونه والجهة التي أصدرته وأسماء ذوي الشأن فيه ويرفق بالطلب كافة المستندات المؤيدة بما جاء به.
ويبحث هذا الطلب في مكتب الشهر المختص للتأكد من صحة ما جاء به من بيانات ومطابقتها للمستندات المرافقة له على أنه قد يحدث في بعض الأحيان أن يتم عقد على عقار كقيد مثلاً ثم يراد محو هذا القيد بعد مرور فترة معينة فسيبين بطبيعة الحال في عقد المحو بيان العقار المراد تطهيره بهذه الطريقة من الحق العيني وقد يحدث في مثل هذه الحالة أن تكون البيانات المساحية قد اختلفت فيما بين الفترتين أي فترة القيد وفترة إجراء المحو وقد يترتب على ذلك أن يتصور المكتب أن العقار المراد محو الحق العيني عنه هو بخلاف العقار الوارد في قائمة القيد وفي هذه الحالة قد صرح القانون للمكتب بإحالة الأوراق إلى المأمورية المختصة للتأكد من هذا الخلاف في بيانات لا شك جوهرية فإذا لم تكن هناك صعوبة قام المكتب بإجراء التأشير المطلوب في هامش المحرر المنوه عنه في الطلب وأمكن إعطاء صاحب الشأن شهادة بحصول ذلك وعلى المكتب أن يوافي المكتب الرئيسي للشهر شهريًا ببيان التأشيرات الهامشية التي تمت فيه حتى يصير التأشير بها في الصور الثواني للعقود أو المحفوظة لديه.
أما إذا تبين للمكتب أن طلب التأشير غير مستوفٍ فله أن يطلب من صاحب الشأن استيفاء البيانات الناقصة بكتاب موصي عليه في ميعاد لا يتجاوز شهرًا وأحد أمرين:
1 - إما أن تستوفى الأوراق ويتم التأشير كما سبق شرحه لحضراتكم.
2 - وإما لا يقوم صاحب الشأن باستيفاء البيانات رغم منحه مدة أخرى فإذا تحقق للمكتب أن التأخير راجع إلى سبب خارج عن إرادته فيحفظ أمين المكتب طلب التأشير الهامشي وهذا القرار (قرار الحفظ) يبلغ إلى صاحب الشأن بخطاب موصي عليه مصحوب بإخطار وصول لمن حفظ طلبه بالسبب المذكور أن يتظلم في ظرف عشرة أيام من تاريخ إبلاغه قرار الحفظ المسبب إليه إلى قاضي الأمور الوقتية إلى المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها المكتب ويصدر القاضي قراره في هذا الشأن على وجه السرعة تبعًا لتحقق أو تخلف الشروط التي يتطلبها القانون لإجراء التأشير.
فقد نص القانون على أنه لا يجوز الطعن في قرار القاضي بأي طريق ولم يفت الشارع أن يرتب ما قد يؤثر على حق طالب التأشير الأول إذا كانت هناك طلبات تأشير لاحقة تتعارض أو يمكن أن تتعارض فيها المصلحة مع طالب التأشير الأول فنص على أنه في هذه الحالة لا يتخذ المكتب أي إجراء في الطلب اللاحق إلا بعد انقضاء المواعيد التي سبق أن بينتها أي شهر للاستيفاء وعشرة أيام للطعن بعد إبلاغ قرار الحفظ لصاحب الشأن.
وقد نص القانون في حالة التأشير الهامشي للديون العادية على التركة في حالة شهر حق الإرث وفي حالة الدعاوى المؤشر بها في هامش عقد سبق شهره على أن لمن أشر ضده وله مصلحة أن يلتجئ إلى القضاء في هذه الحالة نص القانون على قاضي الأمور المستعجلة لا قاضي الأمور الوقتية وأن يطلب إلغاء التأشير بالدين العادي إذا كان السند الذي أجرى التأشير بمقتضاه مطعون فيه طعنًا جديًا أو إذا كانت الدعوى المؤشر بها ظاهرة الكيدية أي لم ترفع إلا لغرض كيدي محض والحكمة طبعًا في اختيار قاضي الأمور المستعجلة أن هنا يقتضي الأمر لنوع من التقاضي يختصم فيه صاحب الشأن من أجرى التأشير في مصلحته.
وقد تحدثت إلى حضراتكم في المحاضرة السابقة عن شهر حق الإرث عما يستتبع هذا الشهر من حق للمبدأ القائل (بألا تركه إلا بعد سداد الدين) وأشرح لحضراتكم الآن طريقة إجراء هذا الشهر، فالمفروض أولاً أن الشهر يخضع لكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها وتبدأ بتقديم طلب للمأمورية يبين فيه فضلاً عن اسم الوارث طالب الشهر أو من يقوم مقامه أو أي ذي شأن أو أي ذي مصلحة اسم المورث وتعريفه ومحل الوفاة والورثة وتعريفهم تعريفًا كاملاً وبيان العقار والحقوق العينية المترتبة عليه والتكليف وأصل ملكية المورث ويذكر في الطلب رسم الأيلولة على التركات المستحق وما دفع منه ويجب أن يقرن الطلب بالمستندات المؤيدة لما جاء فيه وهي السند أو الإشهاد أي الحكم المثبت لحق الإرث والمستند الذي يفيد الصفة إن وجد وكشف رسمي عن عقارات المورث وسندات ملكية المورث وفي حالة تعذر الحصول عليها وهذه هي الحالة الوحيدة التي تكلم فيها قانون الشهر العقاري عن وضع اليد يكتفي بأن يقدم طالب الشهر صورًا من المكلفة ابتداءً من سنة 1923 لغاية تاريخ الوفاة وتطبق على الطلب كافة الإجراءات التي سبق أن شرحناها في المحاضرة السابقة ثم تؤشر المأمورية على سند الإرث والقائمين المبين بها عقارات التركة بالصلاحية للشهر وذلك بعد التأكد من مطابقة البيانات الواردة في قائمة الجرد (التركة) للبيانات الواردة في الطلب ثم يقوم طالب الشهر بالتوقيع على قائمة الجرد والتصديق على توقيعه فيها وتسلم إلى المكتب ليصير شهرها دون رسم عنها عدا رسم التصوير والحفظ وهو مبلغ زهيد جدًا.
ولا يفوتني أن أذكر أن القانون نص على وجوب شهر حق الإرث التالي لسنة 1947 عند التصرف أما حق الإرث السابق لسنة 1947 فلا يشهر إلا اختياريًا.
ترون حضراتكم أن القانون الجديد وقد رسم الطريق لإجراءات الشهر رمى فيها إلى أن يضفي على عملية الشهر صفة قانونية وأن يحيطها منذ البداية بكافة الضمانات المؤيدة بالمستندات اللازمة حتى تصير المعاملات العقارية على أساس سليم وطيد فأصبح المتعاقد الآن مع شخص يضمن إلى حد بعيد أنه متعامل مع مالك كما أنه قطع بعض الإشكالات التي كانت تنتج في حالات معينة مثل الاختصاص مثلاً فقد كان أمر الاختصاص يعطي لطالبه دون تحري لملكية المدين للعقار وعلى مسؤولية المالك مما كان يعرِّض بعض الأشخاص لرؤية عقاراتهم مثقلة بحق الاختصاص بينما ليس بينهم وبين الدائن أية صلة، وصحيح أنه في حالة التجاء هؤلاء الأشخاص إلى المحاكم كان القضاء يلقي عبء الإثبات على عاتق الدائن أي أنه كان يطلب من الدائن إثبات ملكية العقار لمدينة فعلاً، ولا يخفي مع ذلك ما كان لهذا من مضايقة لأصحاب الشأن إذ ما حاجتهم - ولا صلة بينهم وبين الدائن - إلى الالتجاء إلى المحاكم حيث قد يعرضون لسوء دفاع يضيع عليهم حقوقهم وقد نص القانون الجديد على مثل هذه الحالة وأصبح لا يعطي أمر اختصاص إلا إذا تأشر على مشروعه بالصلاحية للشهر أي بعد أن يكون قد مر بجميع مراحل الشهر وبمعنى آخر أن يكون قد أثبت الدائن بالمستندات التي يتطلبها القانون أن مدينه مالك.
ترون حضراتكم من مجرد عرض الإجراءات التي رسمها قانون الشهر العقاري للتوصل بمقتضاها إلى شهر محرر معين اتجاه الشارع المصري نحو وضع أسس للشهر تقربه إلى حد كبير من نظام السجلات العينية، وسأبين لحضراتكم بطريقة عاجلة مبلغ هذا الاتجاه وما تحقق منه فعلاً، فكلنا يعرف أن لنظام السجل العيني مميزات أربع - المميز الأول أن الشهر فيه مطلق أي بمعنى آخر أن الشهر إجباري في نقل الملكية حتى بين المتعاقدين وهذا هو مضمون المادة التاسعة من القانون الجديد، والمميز الثاني أن الشهر عيني وخاص، عيني أي أنه ينسب إلى العقار لا إلى أشخاص المتعاملين، وخاص لأنه لكل وحدة معينة من العقار صفحة خاصة في سجل عام، والمميز الثالث أن لهذا النظام قوة وحجية تامة قبل الكافة وبمعنى آخر أنه بمجرد إدراج العملية فيه تصبح ولا يرقى إليها الطعن ويصبح من تعامل مع من قيد كمالك للعقار في حماية من كل دعوى غير ظاهرة في السجل وهذا يتطلب من ناحية أخرى أن يؤشر بالدعاوى التي ترفع ضد البيانات المدرجة في السجل لحماية رافعها من القرينة المطلقة التي تستمد من القيد في هذه السجلات، وقد رأيتم حضراتكم أن القانون الجديد قد أوجب شهر مثل هذه الدعاوى، والمميز الرابع والأخير لنظام السجلات العينية هو قانونية هذه الصفحات، ويستخلص من هذا أنه للمهيمنين على شؤون السجل العيني الحق في التأكد من صحة العقود المقدمة للشهر ومطابقتها للقانون بل إن هذه الرقابة تمتد إلى بحث أهلية المتعاقدين وصفاتهم مؤيدة بالمستندات وهذا التأكد هو من الإجراءات التي أخذ بها قانون الشهر العقاري فأصبح لا يفصلنا عن نظام السجلات العينية إلا أمران، أن يصبح الشهر عينيًا وخاصًا وأن تعطى للسجلات الحجية قبل الكافة.
وأشعر أنني قد أطلت على حضراتكم في موضوع أكرر أنه عقيم ولذلك أرجو أن تعذروني وأن تقبلوا شكري الخاص الموجه إلى مجلس النقابة وإلى حضراتكم لما هيأتموه لي من فرصتين سمحا لي بعرض سريع للإجراءات لعل أن يكون فيه مصلحة للجميع.
السنة السابعة العشرون سنة 1947
المحاضرة
التي ألقاها حضرة صاحب العزة الأستاذ محمود شوقي بك الأمين العام لمصلحة الشهر العقاري (بنادي المحامين بمصر في خلال شهر إبريل سنة 1947)
(قانون الشهر العقاري من الناحية العملية)
القسم الأول
عندما اعتزمت إلقاء محاضرة في الشهر العقاري وكانت أول ما يلقي في هذا الصدد تناوبتنى عوامل عدة: هل أتحدث إلى حضراتكم عن القانون من الناحية التاريخية أو من الناحية الفنية القانونية أو من الناحية العملية، فلو أنني تكلمت عن الشهر العقاري في مختلف هذه النواحي لأخذ من الوقت ما إذا أضيف إلى جمود الموضوع وصلابته ما كان كفيلاً بألا يبقى قبل انتهاء هذه المحاضرة في الصالة إلا ملقيها.
ولذلك قد رأيت ألا أتحدث اليوم عن قانون الشهر العقاري إلا من الناحية العملية تاركًا النواحي الأخرى لفرص قادمة بإذن الله وذلك لأن هذه الناحية العملية هي صاحبة الأهمية الأولى لكل مشتغل بالقانون، لأنني أعتقد أنه لا غنى لمشتغل بالقانون سواء كان في القضاء أم في المحاماة عن الالتجاء إلى قانون الشهر في كثير مما يعرض عليه في اليوم الواحد، وأعتقد أن لشرح هذا الموضوع من الناحية العملية فيه راحة للجمهور وراحة لمن عهد إليهم تنفيذ النظام الجديد.
صدر قانون تنظيم الشهر العقاري محققًا لأمنيتين:
1 - إحاطة الملكية العقارية بسياج من الضمان الكفيل باستتباب المعاملات الخاصة بالحقوق العينية على أساس سليم.
2 - تركيز كافة أعمال الشهر في هيئة واحدة مستقلة تهيمن على شؤونها عناصر قانونية ولعل هذه الأمنية الأخيرة التي جاشت في الصدور منذ أواخر القرن الماضي وتعذر تحقيقها إذ ذاك لاعتراض ممثلي الدول على سلب جزء هام من اختصاص المحاكم المختلطة التي كانت تتولى عملية الشهر فيما يتعلق بحوالي 90 % من المحررات.
على أن ذلك التفكير ظل موجودًا واستمرت المحاولات نحو تحقيق هذا الغرض إلى أن تهيأت أخيرًا الفرصة بعد أن استردت الحكومة المصرية كامل حريتها في التشريع وبعد أن اقترب ميعاد انتهاء فترة الانتقال للمحاكم المختلطة.
فألفت لجنة برئاسة معالي كامل مرسي باشا قامت بوضع القانون الجديد الذي كان من المصادفات الطريفة أن تولي معاليه وزارة العدل وقد انتهت اللجنة من عملها فباشر معاليه باقي خطواته إلى أن صدر كتشريع من تشريعات الدولة يحوي إصلاحًا لعله من أهم الإصلاحات التي تمت في مصر في المدة الأخيرة.
أنشئت إذن هيئة مستقلة سماها القانون المكتب الرئيس للشهر تهيمن على مكاتب للشهر في مختلف عواصم المديريات عددها 15 ومأموريات في مراكز القطر عددها الآن 83 مأمورية وقد بلغ من الحرص في تحقيق استقلال هذه الهيئة فيما يختص بمباشرة عملها أنه كان قد اقترح في المشروع إعطاء رؤساء المحاكم حق تفتيش المكاتب الواقعة في دائرة اختصاص محاكمهم مرة كل ثلاثة شهور أو كل ما استدعى العمل ذلك إلا أن هذا النص وكان المادة الثامنة من المشروع حذف في البرلمان لما رآه من ضرورة إشاعة الثقة بين الجمهور في الإدارة الحكومية فضلاً عن أن تتبع هذه المكاتب للأمين العام ثم وضعها في نفس الوقت تحت تفتيش رؤساء المحاكم لا يستقيم مع طبيعة الأشياء.
وقد نص القانون على سلخ أعمال التسجيل من مختلف المحاكم ومنحها للمكاتب التي أصبح كل منها مختصًا دون سواه بشهر المحررات المتعلقة بعقارات أو بأجزاء من عقارات واقعة في دائرة اختصاصه ويستتبع ذلك أنه لا يكون لشهر محرر يحوي عقارات تقع في دائرة اختصاص أكثر من مكتب أثر إلا إذا شهر في كل من المكاتب المختصة – فإذا اقتصر صاحب الشأن على شهر محرر في مكتب معين فلا يكون لهذا الشهر قيمة إلا بالنسبة للعقارات التي تقع في دائرة اختصاص هذا المكتب فقط والذي يحدث عمليًا أن يقدم المحرر إلى مكتب الشهر الأول فتتم فيه جميع عملية الشهر ثم يعطي صاحب الشأن بناءً على طلبه صورة خطية طبق الأصل من المحرر على الورق الأزرق الخاص ليتولى تقديمها إلى المكتب الثاني لإجراء نفس العملية فيه.
وقد نص القانون الجديد على أن عملية الشهر تتم على مرحلتين:
أولاً: المرحلة الأولى ويصح أن نسميها المرحلة التمهيدية تتم في المأمورية.
ثانيًا: المرحلة الثانية وهي عملية الشهر ذاتها وتتم في المكتب.
وألقى عبء القيام بالمرحلتين على أصحاب الشأن دون سواهم أو من يقوم مقامهم وبذلك زال عن أقلام الكتاب عبء تسجيل بعض المحررات التي كان يقضي القانون بتكليفها بمباشرة عملية الشهر فيها كأحكام رسو المزاد وأحكام الشفعة وأوامر الاختصاص وتبدأ المرحلة الأولى في الشهر بتقديم طلب موقع عليه من صاحب الشأن من أصل على ورقة دمغة وثلاث صور على ورق عادي وهو المتصرف أو المتصرف إليه في العقود مثلاً أو لمن كان المحرر لصالحه في أوراق الإجراءات أو صحف الدعاوى أو الأحكام.
واشترط القانون وجوب اشتمال الطلب على بيانات معينة تبين بطريق التفصيل شخصية كل طرف في المحرر وبيان العقار بالدقة وبيان التكليف وأصل الملكية والحقوق العينية المقررة على العقار المتصرف فيه وخصوصًا ارتفاقات الري والصرف وأشار القانون أنه يجب أن يرفق بالطلب ما يؤيد البيانات الواردة فيه خاصة بالصفة والتكليف وأصل الملكية من مستندات.
وقد حدد القانون في المادة (23) المستندات التي تقبل في إثبات أصل الملكية والحق العيني المتصرف فيه وهي أربعة:
1 - المحررات التي سبق شهرها.
2 - المحررات الثابتة التاريخ قبل أول يناير سنة 1924 من غير وجود توقيع أو ختم لإنسان توفي وطبعًا هذا تنفيذًا لقانون سنة 1923 الذي اعتبر العقود الثابتة التاريخ قبل سنة 1924 في حكم العقود المسجلة والقانون رقم (30) سنة 1942 الذي استبعد وجود الختم أو توقيع لإنسان توفي كطريقة من طرق إثبات التاريخ فيما يختص بجواز شهر المحررات.
وهذا النص الحكيم استبعد ما كان يلجأ إليه بعض الأفراد من افتعال عقود ملكية وإعطائها تاريخًا سابقًا لسنة 1924 ووضع ختم أو توقيع لإنسان أو استحضاره شهادة إدارية أو شهادة بوفاة ذلك الشخص ومحاولة اعتبار هذا العقد في حكم العقود المسجلة تهربًا من تعذر إثبات ملكيتهم على الوجه الصحيح.
ويحضرني أنه أثناء رئاستي لمحكمة المنصورة المختلطة ضبط عند أحد وكلاء الأشغال أوراق بيضاء تحمل في ذيلها ختمًا لشخص توفي قبل سنة 1924 وكان يحتفظ بها لتسهيل مأمورية من يلجأ إليه من الأفراد فيملأ الورقة على اعتبار أن العقار الذي تصرف فيه بيع إليه من ذلك الشخص.
3 - الوصايا التي تمت قبل أول يناير سنة 1947 بتوفر شرطيها (الوفاة والقبول) والحكمة في هذا أن الوصية الوصية كطريق من طرق التمليك لم تكن خاضعة للشهر في ظل النظام القديم.
4- المحررات السابقة التاريخ على سنة 1924 إذا كان قد سبق أخذ بها في عقد شهر أو نقل التكليف بمقتضاه لمن صدر لصالحه والحكمة في هذا أن إنسانًا يحمل عقدًا سابق تاريخه على سنة 1924 بأي طريق ويملك به عقارًا معينًا فباع منه النصف بعقد مسجل قبل القانون الجديد ويريد الآن أن يتصرف في النصف الآخر من العقار فالقانون الجديد يبيح له حق التصرف استنادًا على هذا العقد أسوة بما اتبع في ظل القانون السابق.
5 - واعتبر القانون كذلك في المادة (55) (وهذا حكم وقتي) بطريق الاستثناء كمستند من مستندات الملكية العقود التي تحمل تاريخًا سابقًا على سنة 1924 إذا كانت قد اعتبرت سندًا للتمليك في عقد تم توثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وأصدر بشأنه حكم صحة التعاقد أو توقيع قبل أول يناير سنة 1947.
وبمجرد تلقي الطلب في المأمورية ودفع مبلغ 100 قرش بصفة كفالة تصادر بقوة القانون إذا لم يسجل المحرر في بحر سنة من تاريخ تقديم الطلب تقوم المأمورية بتدوينه في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية الطلبات وذلك حسب تاريخ وساعة تقديمه ثم تعطي إيصالاً لصاحب الشأن مبين به رقم أسبقيته في هذا الدفتر وما يرفق به من مستندات ثم تتولى المأمورية بحث الطلب من الناحيتين القانونية والهندسية فإذا ما وجد مستوفٍ أشر عليه بالقبول للشهر ورد إلى صاحب الشأن أما شخصيًا وأما بواسطة البريد في ظرف ثلاثة أيام من التأشير عليه بالقبول ويقوم صاحب الشأن بتجهيز مشروع المحرر من واقع الطلب المؤشر عليه بالقبول ثم يعاد إلى نفس المأمورية مرفقًا به أصل الطلب والمستندات وبمجرد تقديم مشروع المحرر تقوم المأموية بتدوينه حسب تاريخ وساعة وروده في دفتر خاص اسمه دفتر أسبقية مشروعات المحررات وتعطي بذلك إيصالاً لصاحب الشأن تبين به رقم أسبقيته في ذلك الدفتر فإذا ما وجد المشروع مطابقًا للبيانات الواردة في الطلب المؤشر عليه بالقبول تقوم المأمورية بالتأشير عليه بصلاحيته للشهر بختم مخصوص اسمه صالح للشهر.
تقوم كذلك بوضع هذا الختم على كافة المستندات والوثائق التي ستلحق بالعقد مثل التوكيل والمكلفة والإعلام الشرعي وقرارات المجالس الحسبية.
وما دام المشروع قد أصبح صالحًا للشهر فيصدق على التوقيعات فيه أو يوثق ثم يقدم لمكتب الشهر المختص لإجراء عملية الشهر نفسها.
ولعل نظام تدوين الطلبات ومشروعات المحررات في دفاتر خاصة هو من ضمن الأشياء الجديدة التي استحدثها القانون إذ أنشأ بذلك نظامًا للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات يظهر أثره في حالة تقديم طلبات متعارضة أو ممكن أن تتعارض فيها المصلحة، فمثلاً – شخص رهن عقار ثم باعه وقدم طلبان أحدهما للرهن والثاني للبيع أو شخص يملك عقارًا باع منه 15 قيراطًا ثم باع 12 قيراطًا من نفس العقار فيقضي القانون في هذه الحالة بإيقاف الفصل في الطلب اللاحق إلى أن تستوفي إجراءات الطلب الأول.
وفي حالة إعادة الطلب الأول مستوفي أو مشروع الطلب الأول مؤشرًا عليه بالصلاحية لا يعاد الطلب الثاني أو مشروع المحرر الثاني إلا بعد انقضاء فترة موازية للفترة الواقعة بين تقديم كل منهما على ألا يتجاوز سبعة أيام في الطلبات وخمسة أيام في مشروعات المحررات.
ولا شك أن نظام الأسبقية سيضع حدًا لعيوب القانون القديم ويحمي المشتري الجاد الذي يباشر إجراءات نقل الملكية - إنما هذه الحماية ليست مطلقة بالقانون يحميه طالما هو مستمر حثيثًا في إنهاء كافة العمليات إذ يمكن أن تنعكس الأسبقية الخاصة بالطلب في مشروع المحرر لو أن صاحب الطلب الأول أهمل في تقديم مشروع المحرر في الوقت المناسب إذ لا يمكن أن تستمر حماية القانون لصاحب الطلب الأول إلى ما لا نهاية.
فإذا فرضنا أن الطلب الأول غير مستوفي منح صاحبه مهلة خمسة عشر يومًا لاستيفاء البيانات الناقصة وأوقفت الطلبات اللاحقة دون أن تستوفي فهذه المدة ليست على سبيل التحديد فيمكن لأمين المكتب أن يمدها إذا اتضح له أن عدم الاستيفاء يرجع إلى سبب خارج عن إرادة الطالب، فإذا لم يستوفى الطلب إما لعجز وإما لتقصير فلا تزول الأسبقية إلا بقرار مسبب من أمين المكتب بعد عرض الأمر عليه كتابة بواسطة المأمورية.
وهذا القرار يعلن لصاحب الشأن الذي له في ظرف عشرة أيام وهذه نقطة هامة جدًا إذ يحدث في بعض الأحيان أن يلجأ صاحب الطلب الغير مستوفٍ إلى الإدارة العامة للشهر ولا يلجأ للحق الذي يمنحه إياه القانون، فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لمن طلب إليه استيفاء بيان لا يرى وجهًا لاستيفائه أو لمن تقرر سقوط أسبقيته بسبب نقص في البيانات أن يقوم في ظرف عشرة أيام بتجهيز مشروع المحرر وتوثيقه أو التصديق على التوقيعات فيه وسداد الرسم عنه ثم الالتجاء إلى أمين المكتب ويطلب منه إعطاء محررة رقم شهر مؤقت ويجب على أمين المكتب في هذه الحالة أن ينفذ هذه الرغبة وأن يقوم من جهته بعرض الموضوع بكافة نواحيه على قاضي الأمور الوقتية الواقع في دائرتها المكتب بعد أن يكون صاحب الشأن قد قام بسداد الكفالة وقدرها نصف في المائة من قيمة الالتزام على ألا تتجاوز عشرة جنيهات - فإحدى حالتين:
1- إما أن يرى القاضي أن الأوراق مستوفاة وتحققت بذلك الشروط الواجب توافرها للشهر فيأمر به وبذلك يصير الرقم الوقتي نهائيًا ويتأشر بذلك في الدفاتر وترد الكفالة لصاحبها.
2 - وإما أن يرى القاضي أن مكتب الشهر محق وأن الشروط غير متحققة فيما مر بإلغاء الرقم الوقتي الذي يصير إلغاؤه والتأشير بذلك في الدفاتر وتصادر الكفالة بقوة القانون (التأشير الهامشي مادة (37)).
هذه هي المرحلة التمهيدية التي يجب أن يمر بها أي محرر صالح للشهر سواء كان عقدًا أو أوراق إجراءات أو صحف دعاوى أو أحكام صحة تعاقد وفيما يختص بهذه الأخيرة فقد نص عليها القانون صراحة أي أن صدور حكم بصحة التعاقد لا يعفي من صدر لصالحه من المراجعة الأولية لنوع العقد الصادر الحكم بصحته.
بقيت مرحلة الشهر التي تتم بإحدى الطرق الثلاث: التسجيل أو القيد أو التأشير الهامشي وهي مرحلة قديمة معروفة ليس فيها جديد إلا أن الفهارس الأبجدية وهي أساس الشهادات العقارية أصبح يدرج فيها جميع أصحاب الشأن في المحرر بعد أن كان يكتفي بدرج اسم المتصرف فيها فقط.
لذلك اعتبارًا من أول يناير سنة 1947 يمكن أن يكون طلب الشهادة عن التصرفات الصادرة لصالح الشخص بعد أن كانت قاصرة على التصرفات الصادرة ضده فقط.
أما فيما يختص بالمحررات الواجبة الشهر فإنما ما يستخلص من القانون الجديد أن كل محرر خاص بحق عيني عقاري مهما كان نوعه سواء بين الأحياء أو تصرفًا مضافًا إلى ما بعد الموت يخضع لنظام الشهر العقاري وبذلك أضاف القانون الوصية والوقف ومراسيم نزع الملكية للمنفعة العامة وقرارات توزيع طرح البحر ورتب القانون جزاءً صارمًا فيما يختص بالحقوق العينية الأصلية ونفس الجزاء المنصوص عليه في القانون القديم بأن الملكية لا تنشأ ولا تنتقل ولا تتغير ولا تتبدل إلا بالتسجيل، أما الحقوق العينية التبعية والتصرفات والأحكام النهائية المقررة لحق عيني عقاري حتى ولو كانت قسمة أموال موروثة فلا تسري على الغير إلا إذا تم شهرها.
وأخضع القانون للشهر الإيجارات والسندات التي ترد على منفعة العقار لأكثر من تسع سنوات والمخالصات والحوالات التي تزيد عن ثلاث سنوات مقدمًا ورتب جزاء أنها لا تسري قبل الغير إلا للمدد السابقة.
وأحدث ما في القانون هو شهر حق الإرث ويتم بشهر السند أو الحكم المثبت لحق الإرث مع قائمة بعقارات التركة وهذا الحق للوارث أو لكل صاحب مصلحة ورتب جزاءً على هذا يتلخص في عدم تمكين الوارث من التصرف إلا إذا كان حق إرثه التالي لسنة 1946 مسجلاً وهذا طبيعي إذ لم يكن في استطاعة الشارع أن يضع حدًا للقاعدة القانونية التي تقول - بانتقال الملكية بمجرد الوفاء ورغبته مع ذلك في إلزام الورثة بتسجيل حقوقهم لإظهار جميع التطورات في الملكية العقارية في البلاد فرأى أن يوفق بين الأمرين فالوارث يملك لا نزاع فيه ولكن نمنعه من التصرف إلا إذا قام بتسجيل حق الإرث ومن فوائد هذا النظام الجديد أن يظهر الديون العادية التي قد تكون للغير قبل التركة حماية للوارث وللمتعامل معه ولنفس الدائن ولذلك أجبر القانون كل صاحب دين عادي قبل التركة أن يقوم بشهر دينه بطريق التأشير الهامشي على هامش تسجيل حق الإرث فإذا تم التأشير في بحر السنة من تسجيل حق الإرث كان له أثر رجعي قبل التركة وإذا تسجل بعد سنة كانت له مرتبة من وقت إجرائه فقط ولذلك تسري قبله جميع تصرفات الوارث السابقة وللوارث أن يقصر الشهر على جزء معين من عقارات التركة ولكن في هذه الحالة نعتبر هذا الجزء وحده لا يمكن أن يتصرف فيها الوارث إلا في حدود نصيبه الشرعي في الميراث وآخر حدود الوحدة هي مكتب الشهر بدائرة المديرية.
أما فيما يختص بعرائض الدعاوى فقد نص القانون في المادة (15) على أن كل دعوى الغرض منها الطعن في التصرف وجودًا أو صحة أو نفاذًا وهذا تعريف شامل وذكر على سبيل المثال دعاوى البطلان والفسخ والإلغاء والرجوع يجب شهرها بطريق التأشير الهامشي فإذا لم يكن العقد المطعون فيه مسجلاً شهرت هذه الدعاوى بطريق التسجيل كذلك يجب تسجيل دعاوى استحقاق أي حق من الحقوق العينية أو دعاوى صحة التعاقد مما استبعد دعاوى صحة التوقيع.
وطريقة الشهر واحدة بالنسبة للمحررات وصحف الدعاوى أي أنها يجب أن تمر بالمرحلة التمهيدية قبل إعلانها وقيدها ولكن لا تتم عملية الشهر الحقيقية فيها إلا بعد قيدها بجدول المحكمة وذلك رغبة من الشارع في الاستيثاق من جدية الدعوى على أن قيدها في جدول المحكمة سيفصل فيها على أي الحالات.
ولا يجب أن يفهم أن نص القانون على وجوب تسجيل هذه الصحف معناه امتناع المحاكم عن نظر الدعاوى إذا لم تكن صحفها قد شهرت أو إيقاف نظر الدعاوى إلى أن يتم شهر صحائفها لأن القانون رتب جزاءً غير مباشر على إهمال تسجيل عرائض الدعاوى إذ قد نص على أنه إذا صدر حكم نهائي بشأن حق عيني عقاري وكانت صحيفة الدعوى مسجلة أو مؤشر بها ثم شهر الحكم وهذه الأحكام لا تشهر إلا بطريق التأشير الهامشي فإن حق صاحب الشأن يتقرر بأثر رجعي ابتداءً من تاريخ تسجيل عريضة الدعوى أي أنه بمعنى آخر إذا أهمل تسجيل العريضة وصدر له حكم ثم طلب شهرة فهنا يتطلب منه إجراءين:
1 - أن يسجل العريضة.
2 - ويؤشر بمنطوق الحكم على هامش العريضة.
ويمكن أن تتم هاتين العمليتين في نفس الوقت إنما حقه لا يتقرر إلا من تاريخ تسجيل العريضة وقد نص القانون على الالتجاء إلى قاضي الأمور المستعجلة في حالة التأشير بدين عادي على التركة أو بصحيفة الدعوى للنظر في إلغائه إذا كان سند الدين العادي المطعون فيه طعنًا جديًا أو كانت الدعوى ظاهرة الكيدية.
ومما استحدثه القانون أيضًا النص على وجوب شهر حق امتياز البائع منفصلاً عن تسجيل عقد البيع الوارد فيه ويتم ذلك الشهر بقائمة تحرر من واقع عقد البيع وموقع عليها من صاحب الشأن توقيعًا عاديًا وتقدم للمكتب المختص لإجراء شهرها وقد نص القانون على أن مرتبة امتياز البائع لا تترتب إلا من تاريخ إجراء ذلك القيد حتى ولو كان عقد البيع مسجلاً.
ولا يفوتني أن أذكر بهذه المناسبة أن جميع الحقوق العينية التبعية التي تشهر بطريق القيد أي بطريق قائمة تحرر من واقع العقد المرتب للحق العيني يجب أن تكون القائمة موقعًا عليها من طالب القيد توقيعًا عاديًا إلا إذا كان الحق المراد شهره لم يكن خاضعًا لإجراء القيد قبل القانون الجديد مثل رهن الحياز العقاري وامتياز البائع وامتياز المقتسم السابق على سنة 1947 فإن هذه الحقوق وقد خضعت للقيد وبالتالي للتجديد العشري يجب أن تتم إجراء قيدها من جديد قبل انتهاء عشرة سنوات على تاريخ العقد المسجل المرتب لها أو في بحر سنة 1947 أي المدتين أطول.
ففي هذه الحالة الأخيرة يجب أن تكون القائمة مصدقًا على التوقيع فيها كما يجب أو تمر بكافة إجراءات الشهر طبقًا للنظام الجديد.
هذا جزء من كثير كان بودى أن استوفى عرضه على حضراتكم ولكني سأقتصر على ذلك خوفًا من التشهير بالشهر.
وإني أشكر مجلس النقابة الذي هيأ لي هذه الفرصة كما أشكر حضراتكم لتفضلكم بالحضور والاستماع إلى وأرجو أن أوفق إلى فرصة أخرى لأوفى المسائل العديدة التي جاء بها القانون لاستيفاء حقها من البحث.
القسم الثاني
تحدثنا إلى حضراتكم في المحاضرة الماضية عن إجراءات الشهر بطريقة مبدئية وعما استحدثه القانون الجديد من نظام للأسبقية في الطلبات وفي مشروعات المحررات لعله إن لم يمنع بطريقة قاطعة التصرف مرتين في عقار واحد سيوقف مثل هذه المعاملات ويقلل منها بدرجة تقطع الشكوى السابقة على القانون الجديد وتبث الطمأنينة في نفوس المتعاقدين مع صاحب عقار معين، وشرحنا ما يترتب على هذه الأسبقية من حق لصاحب الطلب الأول في حالة ما إذا تعارض معه طالب لاحق وبينا أن هذه الحماية حماية نسبية أي أن القانون يحمي صاحب الطلب الأول طالما يسير حثيثًا وبطريقة جدية في كافة إجراءات الشهر من تمهيدية إلى نهائية.
وقد بينا أيضًا ما أخضعه القانون لإجراءات الشهر من محررات جديدة لم تكن خاضعة له من قبل كما عددنا المحررات التي غير القانون طريقة الشهر فيها مثل رهن الحياز العقاري الذي أصبح يقيد بعد أن كان يسجل، ثم بينا لحضراتكم طريقة الطعن في تصرفات المكتب في حالة ما إذا كلف أصحاب الشأن استيفاء بيان لا يروا وجهًا لاستيفائه أو في حالة صدور قرار من الأمين لسقوط أسبقية الطلب الأول في حالة تعارض طلبين.
وسأقوم اليوم بتكملة ما لم يتسع الوقت في المحاضرة السالفة إلى شرحه وبيانه ومما يتصل اتصالاً وثيقًا بالناحية العملية في القانون.
قلنا لحضراتكم أن إجراءات الشهر تتم بثلاث طرق التسجيل والقيد والتأشير الهامشي وكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها يجب اتباعها فيما يختص بالإجراءين الأول وهما التسجيل والقيد فيما عدا فارق بسيط وهو أن التسجيل يتم بشهر المحرر نفسه، أما في حالة القيد فلا يشهر إلا ملخص للمحرر اصطلح على تسميته بالقائمة تحرر بمعرفة صاحب الشأن ويوقع عليها منه توقيعًا عاديًا وتقدم إلى مكتب الشهر العقاري مع المحرر المرتب للحق العيني التبعي وهذه القائمة المحررة على الورق الأزرق الخاص هي التي يصير شهرها ويحتفظ بالمحرر كمستند من مستندات إجراء الشهر.
ولقد قابلتنا صعوبة في حالة الرهن الرسمي وهو الرهن التأميني وفي حالة عقد البيع الرسمي الذي يحوي امتيازًا للبائع فإن إجراءات إعطاء صورة من هذين العقدين لشهر القائمة على أساسها قد تتطلب وقتًا وبذلك يتعذر على صاحب الشأن إجراء القيد في هذه الفترة مما قد يعرض حقه للتزاحم أو لضياع الأسبقية في الشهر إذا ما تم شهر حق عيني لآخر سواء كان أصليًا أو تبعيًا في بحر المدة التي تعطي فيها صورة المحرر الرسمي ولذلك وإلى أن يصدر قانون التوثيق المعروض الآن على مجلس الشيوخ موحدًا الهيئة التي تتولى الشهر والتوثيق قد رأينا مخاطبة رئاسة محكمة الاستئناف المختلطة التابع لها أقلام التوثيق الحالية أن تطلب إلى أصحاب الشأن تقديم نسختين من المحرر تعتبر إحداهما أصلاً والثانية صورة تسلم إلى صاحب الشأن في نفس اليوم حتى يمكن أن نبادر إلى شهر القائمة الخاصة به.
وبهذه المناسبة نقول إن مراجعة الموثق للأهلية أو الرضاء أو الصفة أو ما يؤيد ذلك من مستندات لا يعفي المسجل أي موظف الشهر من المسؤولية بحال فعليه أن يراجع هذه المستندات مراجعة دقيقة وأن يراجع العقد الذي تم توثيقه حتى يتأكد من أن إجراء القيد المرتب للحق العيني فعلاً قد تم طبقًا للقانون.
ولا يخفي على حضراتكم أن هذه المهمة الأخيرة أي مهمة القيد هي التي تعطي للعقد قوته وحجيته ويجب إذن أن تحاط بكافة ضمانات المراجعة اللازمة.
ويجب أن تشتمل القائمة أو ملخص العقد على اسم الدائن وصفته كاملة ومحل إقامة مختار في دائرة المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها العقار موضوع المحرر.
ورتب القانون جزاءً على عدم اختيار محل الإقامة أن كل إعلان إليه في قلم كتاب هذه المحكمة يكون صحيحًا وتترتب عليه كافة النتائج، ثم يذكر اسم المدين أو من رتب الحق العيني على عقاره أن كان غير مدين وتعريفه تعريفًا كافيًا، ثم تاريخ السند والجهة التي أصدرته ومصدر الدين المضمون كاملاً وتاريخ استحقاقه وبيان العقار بالدقة والإيجار للراهن إذا كان قد نص عليه في عقد رهن الحيازة العقاري.
ولو أن القانون نص على وجوب ذكر هذه البيانات كاملة إلا أنه نص في المادة (41) أنه لا يترتب على إغفال بيان من هذه البيانات بطلان إلا إذ نتج عن ذلك ضرر للغير بل أنه اشترط أيضًا أن لا يطلب البطلان إلا من وقع عليه الضرر فعلاً - وأعطى في هذه الحالة للمحكمة سلطة تقديرية، فلها أن تبطل القائمة أو أن تقصر من مداها تبعًا لطبيعة الضرر ومداه، على أنه فيما يختص بمقدار الدين فقد جاء صراحة في القانون أنه في حالة حصول خلاف بين العقد والقائمة فيما يختص بقيمة الدين فتقصر قيمة القائمة على أي المبلغين أقل في كل منهما.
وقد اشترط القانون أنه يجب تجديد القيد في خلال عشر سنوات وإلا سقط القيد وليس معنى هذا أن من سقط قيده لعدم تجديده في خلال العشر سنوات فقد كافة حقوقه فإن القانون منحه الحق في إجراء قيد جديد تكون له مرتبته من وقت إجرائه ولكن مع تحديد بسيط وهو أن يكون ذلك ممكنًا قانونًا أي أن يكون العقار ما زال في ذمة المدين فإذا كان العقار قد خرج من ذمة المدين لأي سبب من الأسباب امتنع مكتب الشهر عن إجراء القيد الجديد، ولا يكون لكل تجديد قوة إلا في خلال عشر سنوات من تاريخ إجرائه أي بمعنى آخر إذا جدد شخص قيدًا مضى عليه تسع سنوات ونصف فلا يسري لعشر سنين زائد النصف بل لعشر سنين فقط من تاريخ حصوله.
وأوجب القانون التجديد حتى في أثناء سير إجراءات نزع الملكية وإلى أن ينقضي الحق أو يطهر العقار وبوجه خاص إذا بيع العقار قضاء وانقضى ميعاد زيادة العشر.
ولست أنا في معرض أن أبين لحضراتكم ما ترتب على هذا النص الأخير من نتائج قانونية إذ سنقتصر الآن ونبقى في نطاق الدائرة العملية، وما دمنا في صدد القيد فيحسن أن لا ننتقل إلى وضوع آخر قبل الكلام على المحو أو محو هذا القيد – فقد نص قانون الشهر العقاري على أنه لا يجوز محو القيد إلا بعقد رسمي أو بحكم نهائي فالأصل إذن أن يكون التقرير بالمحو موثقًا ولكن لما كان رهن الحيازة العقاري يتم بعقد عرفي مصدق على التوقيع فيه كان من التصعيب على المدين أن نلزمه بالحصول على إقرار موثق لمحو قيد بعقد عرفي ولذلك رأى الشارع أن يكتفي في هذه الحالة بتقرير عرفي صادر للدائن مصدق على التوقيع فيه أسوة بما يتم في الرهن الحيازي نفسه.
ويتم شهر عقد المحو أو الحكم النهائي بالمحو بطريق التأشير الهامشي وسيأتي الكلام عن هذه الطريقة فيما بعد فإذا ما ألغى المحو لسبب من الأسباب عادت للقيد مرتبته الأولى ومع ذلك فلا يكون لهذا القيد قيمة بالنسبة إلى من تلقى حقًا بحسن نية من المدين في الفترة بين إجراء المحو وإلغائه ولا أود هنا أيضًا أن استعرض ما أثاره هذا النص من تخريجات قانونية مبقيًا ذلك إلى فرصة أخرى إذا سمحت بذلك النقابة ولم أكن قد أثقلت عليكم بهذه المادة العقيمة ووددتم أن تشرفوني مرة أخرى للاستماع إلى).
ونظم القانون طريقة الشهر بطريق التأشير الهامشي وهي كما قلت لحضراتكم في المحاضرة الأولى تشهر بها دعاوى الطعن صحة ونفاذًا ووجودًا في عقود سبق شهرها أو الأحكام التي تصدر في هذه الدعاوى أو في دعاوى استحقاق الحقوق العينية أو في دعاوى صحة التعاقد ويشهر بها أيضًا حق الدائن العادي على التركة وأخيرًا محو القيد وإلغائه.
وتتلخص الإجراءات الخاصة بالتأشير الهامشي في تقديم طلب إلى مكتب الشهر المختص أي الذي شهر فيه المحرر المراد إجراء التأشير على هامشه ويكون هذا الطلب مشتملاً على اسم الطالب وتعريفه تعريفًا شاملاً وعلى بيان المحرر المراد التأشير على هامشه ورقم شهره والسند الذي يبيح التأشير سواء كان عقدًا أو إقرارًا أو حكمًا ومضمونه والجهة التي أصدرته وأسماء ذوي الشأن فيه ويرفق بالطلب كافة المستندات المؤيدة بما جاء به.
ويبحث هذا الطلب في مكتب الشهر المختص للتأكد من صحة ما جاء به من بيانات ومطابقتها للمستندات المرافقة له على أنه قد يحدث في بعض الأحيان أن يتم عقد على عقار كقيد مثلاً ثم يراد محو هذا القيد بعد مرور فترة معينة فسيبين بطبيعة الحال في عقد المحو بيان العقار المراد تطهيره بهذه الطريقة من الحق العيني وقد يحدث في مثل هذه الحالة أن تكون البيانات المساحية قد اختلفت فيما بين الفترتين أي فترة القيد وفترة إجراء المحو وقد يترتب على ذلك أن يتصور المكتب أن العقار المراد محو الحق العيني عنه هو بخلاف العقار الوارد في قائمة القيد وفي هذه الحالة قد صرح القانون للمكتب بإحالة الأوراق إلى المأمورية المختصة للتأكد من هذا الخلاف في بيانات لا شك جوهرية فإذا لم تكن هناك صعوبة قام المكتب بإجراء التأشير المطلوب في هامش المحرر المنوه عنه في الطلب وأمكن إعطاء صاحب الشأن شهادة بحصول ذلك وعلى المكتب أن يوافي المكتب الرئيسي للشهر شهريًا ببيان التأشيرات الهامشية التي تمت فيه حتى يصير التأشير بها في الصور الثواني للعقود أو المحفوظة لديه.
أما إذا تبين للمكتب أن طلب التأشير غير مستوفٍ فله أن يطلب من صاحب الشأن استيفاء البيانات الناقصة بكتاب موصي عليه في ميعاد لا يتجاوز شهرًا وأحد أمرين:
1 - إما أن تستوفى الأوراق ويتم التأشير كما سبق شرحه لحضراتكم.
2 - وإما لا يقوم صاحب الشأن باستيفاء البيانات رغم منحه مدة أخرى فإذا تحقق للمكتب أن التأخير راجع إلى سبب خارج عن إرادته فيحفظ أمين المكتب طلب التأشير الهامشي وهذا القرار (قرار الحفظ) يبلغ إلى صاحب الشأن بخطاب موصي عليه مصحوب بإخطار وصول لمن حفظ طلبه بالسبب المذكور أن يتظلم في ظرف عشرة أيام من تاريخ إبلاغه قرار الحفظ المسبب إليه إلى قاضي الأمور الوقتية إلى المحكمة الواقع في دائرة اختصاصها المكتب ويصدر القاضي قراره في هذا الشأن على وجه السرعة تبعًا لتحقق أو تخلف الشروط التي يتطلبها القانون لإجراء التأشير.
فقد نص القانون على أنه لا يجوز الطعن في قرار القاضي بأي طريق ولم يفت الشارع أن يرتب ما قد يؤثر على حق طالب التأشير الأول إذا كانت هناك طلبات تأشير لاحقة تتعارض أو يمكن أن تتعارض فيها المصلحة مع طالب التأشير الأول فنص على أنه في هذه الحالة لا يتخذ المكتب أي إجراء في الطلب اللاحق إلا بعد انقضاء المواعيد التي سبق أن بينتها أي شهر للاستيفاء وعشرة أيام للطعن بعد إبلاغ قرار الحفظ لصاحب الشأن.
وقد نص القانون في حالة التأشير الهامشي للديون العادية على التركة في حالة شهر حق الإرث وفي حالة الدعاوى المؤشر بها في هامش عقد سبق شهره على أن لمن أشر ضده وله مصلحة أن يلتجئ إلى القضاء في هذه الحالة نص القانون على قاضي الأمور المستعجلة لا قاضي الأمور الوقتية وأن يطلب إلغاء التأشير بالدين العادي إذا كان السند الذي أجرى التأشير بمقتضاه مطعون فيه طعنًا جديًا أو إذا كانت الدعوى المؤشر بها ظاهرة الكيدية أي لم ترفع إلا لغرض كيدي محض والحكمة طبعًا في اختيار قاضي الأمور المستعجلة أن هنا يقتضي الأمر لنوع من التقاضي يختصم فيه صاحب الشأن من أجرى التأشير في مصلحته.
وقد تحدثت إلى حضراتكم في المحاضرة السابقة عن شهر حق الإرث عما يستتبع هذا الشهر من حق للمبدأ القائل (بألا تركه إلا بعد سداد الدين) وأشرح لحضراتكم الآن طريقة إجراء هذا الشهر، فالمفروض أولاً أن الشهر يخضع لكافة الإجراءات التي سبق أن بيناها وتبدأ بتقديم طلب للمأمورية يبين فيه فضلاً عن اسم الوارث طالب الشهر أو من يقوم مقامه أو أي ذي شأن أو أي ذي مصلحة اسم المورث وتعريفه ومحل الوفاة والورثة وتعريفهم تعريفًا كاملاً وبيان العقار والحقوق العينية المترتبة عليه والتكليف وأصل ملكية المورث ويذكر في الطلب رسم الأيلولة على التركات المستحق وما دفع منه ويجب أن يقرن الطلب بالمستندات المؤيدة لما جاء فيه وهي السند أو الإشهاد أي الحكم المثبت لحق الإرث والمستند الذي يفيد الصفة إن وجد وكشف رسمي عن عقارات المورث وسندات ملكية المورث وفي حالة تعذر الحصول عليها وهذه هي الحالة الوحيدة التي تكلم فيها قانون الشهر العقاري عن وضع اليد يكتفي بأن يقدم طالب الشهر صورًا من المكلفة ابتداءً من سنة 1923 لغاية تاريخ الوفاة وتطبق على الطلب كافة الإجراءات التي سبق أن شرحناها في المحاضرة السابقة ثم تؤشر المأمورية على سند الإرث والقائمين المبين بها عقارات التركة بالصلاحية للشهر وذلك بعد التأكد من مطابقة البيانات الواردة في قائمة الجرد (التركة) للبيانات الواردة في الطلب ثم يقوم طالب الشهر بالتوقيع على قائمة الجرد والتصديق على توقيعه فيها وتسلم إلى المكتب ليصير شهرها دون رسم عنها عدا رسم التصوير والحفظ وهو مبلغ زهيد جدًا.
ولا يفوتني أن أذكر أن القانون نص على وجوب شهر حق الإرث التالي لسنة 1947 عند التصرف أما حق الإرث السابق لسنة 1947 فلا يشهر إلا اختياريًا.
ترون حضراتكم أن القانون الجديد وقد رسم الطريق لإجراءات الشهر رمى فيها إلى أن يضفي على عملية الشهر صفة قانونية وأن يحيطها منذ البداية بكافة الضمانات المؤيدة بالمستندات اللازمة حتى تصير المعاملات العقارية على أساس سليم وطيد فأصبح المتعاقد الآن مع شخص يضمن إلى حد بعيد أنه متعامل مع مالك كما أنه قطع بعض الإشكالات التي كانت تنتج في حالات معينة مثل الاختصاص مثلاً فقد كان أمر الاختصاص يعطي لطالبه دون تحري لملكية المدين للعقار وعلى مسؤولية المالك مما كان يعرِّض بعض الأشخاص لرؤية عقاراتهم مثقلة بحق الاختصاص بينما ليس بينهم وبين الدائن أية صلة، وصحيح أنه في حالة التجاء هؤلاء الأشخاص إلى المحاكم كان القضاء يلقي عبء الإثبات على عاتق الدائن أي أنه كان يطلب من الدائن إثبات ملكية العقار لمدينة فعلاً، ولا يخفي مع ذلك ما كان لهذا من مضايقة لأصحاب الشأن إذ ما حاجتهم - ولا صلة بينهم وبين الدائن - إلى الالتجاء إلى المحاكم حيث قد يعرضون لسوء دفاع يضيع عليهم حقوقهم وقد نص القانون الجديد على مثل هذه الحالة وأصبح لا يعطي أمر اختصاص إلا إذا تأشر على مشروعه بالصلاحية للشهر أي بعد أن يكون قد مر بجميع مراحل الشهر وبمعنى آخر أن يكون قد أثبت الدائن بالمستندات التي يتطلبها القانون أن مدينه مالك.
ترون حضراتكم من مجرد عرض الإجراءات التي رسمها قانون الشهر العقاري للتوصل بمقتضاها إلى شهر محرر معين اتجاه الشارع المصري نحو وضع أسس للشهر تقربه إلى حد كبير من نظام السجلات العينية، وسأبين لحضراتكم بطريقة عاجلة مبلغ هذا الاتجاه وما تحقق منه فعلاً، فكلنا يعرف أن لنظام السجل العيني مميزات أربع - المميز الأول أن الشهر فيه مطلق أي بمعنى آخر أن الشهر إجباري في نقل الملكية حتى بين المتعاقدين وهذا هو مضمون المادة التاسعة من القانون الجديد، والمميز الثاني أن الشهر عيني وخاص، عيني أي أنه ينسب إلى العقار لا إلى أشخاص المتعاملين، وخاص لأنه لكل وحدة معينة من العقار صفحة خاصة في سجل عام، والمميز الثالث أن لهذا النظام قوة وحجية تامة قبل الكافة وبمعنى آخر أنه بمجرد إدراج العملية فيه تصبح ولا يرقى إليها الطعن ويصبح من تعامل مع من قيد كمالك للعقار في حماية من كل دعوى غير ظاهرة في السجل وهذا يتطلب من ناحية أخرى أن يؤشر بالدعاوى التي ترفع ضد البيانات المدرجة في السجل لحماية رافعها من القرينة المطلقة التي تستمد من القيد في هذه السجلات، وقد رأيتم حضراتكم أن القانون الجديد قد أوجب شهر مثل هذه الدعاوى، والمميز الرابع والأخير لنظام السجلات العينية هو قانونية هذه الصفحات، ويستخلص من هذا أنه للمهيمنين على شؤون السجل العيني الحق في التأكد من صحة العقود المقدمة للشهر ومطابقتها للقانون بل إن هذه الرقابة تمتد إلى بحث أهلية المتعاقدين وصفاتهم مؤيدة بالمستندات وهذا التأكد هو من الإجراءات التي أخذ بها قانون الشهر العقاري فأصبح لا يفصلنا عن نظام السجلات العينية إلا أمران، أن يصبح الشهر عينيًا وخاصًا وأن تعطى للسجلات الحجية قبل الكافة.
وأشعر أنني قد أطلت على حضراتكم في موضوع أكرر أنه عقيم ولذلك أرجو أن تعذروني وأن تقبلوا شكري الخاص الموجه إلى مجلس النقابة وإلى حضراتكم لما هيأتموه لي من فرصتين سمحا لي بعرض سريع للإجراءات لعل أن يكون فيه مصلحة للجميع.
في المسؤولية المدنية للأفراد
مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
في المسؤولية المدنية للأفراد
لمحتان
تاريخية وتشريعية
1 - لمحة تاريخية
نعلم أن القانون الفرنسي وُضع في سنة 1804 في وقت لم يعرف فيه العالم هذه النهضة الاقتصادية العامة التي ظهرت في عصر القرن التاسع عشر وعظم شأنها في القرن العشرين وعلى الأخص بعد الانتهاء من الحرب العالمية التي خُتمت بمعاهدة صلح فرساي سنة 1918 وكان القانون الفرنسي متشبعًا بالروح الفردية Individualiste ولم يقم للشؤون الاقتصادية على اختلاف أنواعها وزنًا إلا بقدر ما كان معروفًا في ذلك الزمن المنصرم، وقد تلقت الشعوب الأخرى القانون الفرنسي بصدور رحبة وعملت على الأخذ به لما كانت تشعر به من التعطش نحو التقنين من طريق التجميع ولما كانت تأنسه من وحدة الشبه من حيث الحالة الاقتصادية العامة، وقد أخذت مصرنا قوانينها في سنة 1875 وسنة 1883 مختلطًا وأهليًا بعد إدخال شيء من التعديل رجع فيه إما إلى ما قرره القضاء والفقه الفرنسيان بعد سنة 1804 وإما إلى ما أقرته التقاليد والعادات المصرية التي بنيت في كثير منها على الشريعة الإسلامية وعلى ما قرره العمل في هذا الجو المختلط بين المصريين والأجانب مختلفي الأجناس.
ولما كان عهد عصر ترقيها الصناعي والتجاري حديثًا لم يفكر شارعها المصري سنة 1875 وسنة 1883 في أن يضع قوانين تضمن لها ما يمكن أن تصل إليه فيما بعد من ازدياد في الرقي وتقدم في المدنية، لذا أصبحت القوانين المصرية هذه لا تلتئم مع ما قطعته من أشواط المدنية وأصبح من الضروري الحتمي الرجوع إلى ما قررته الشعوب الأخرى في عصرنا الحاضر من قوانين تشريعية وآراء قضائية ومذاهب فقهية وذلك عملاً بما قضى به القانون المصري من الأخذ بالعدالة والقانون الطبيعي فيما سكت فيه القانون عن التقنين في بعض المسائل، وهذا هو ما جرى عليه العرف القضائي المختلط والأهلي في مسائل عدة لم ترد لها نصوص خاصة بالقوانين المصرية.
ولقد كان لنظرية المسؤولية شأن يذكر في عالم القانون عند كل شعب متمدين وذلك لتقدم الصناعة ورواج التجارة في الأوقات الحاضرة، وكان من شأن التقدم التجاري العالمي أن اضطرت بعض الشعوب إلى تعديل شرائعها طبقًا لما اقتضته نواميس الرقي في التجارة والصناعة، فقررت من الوجهة التشريعية مبادئ قانونية ربما كانت لا تؤيدها النصوص القانونية القديمة في ظاهرها حتى تقطع بذلك ما يحوم من الشك والتردد حول مبادئ جديدة كونتها الظروف الاجتماعية الحديثة قسرًا وقهرًا.
وهذا ما فعلته فرنسا مثلاً سنة 1898 وغيرها من الشعوب الأخرى في تقرير قواعد قانونية من الوجهة التشريعية في نظرية المسؤولية تلتئم مع الضرورات الاجتماعية المدنية العصرية.
وأما المسائل الأخرى الخاصة بنظرية المسؤولية والتي لم يشرع لها تشريع خاص كما حصل سنة 1898 فيما يتعلق بالهلاك الصناعي risque professionel والمسؤولية الشيئية responsabilité objective فإنها قد تأثرت بهذا التشريع الجديد، ووجدت لها منه أكبر نصير في تقرير المبادئ الجديدة والعمل على تفسير النصوص القديمة تفسيرًا يضطرد مع الضرورات الاجتماعية الحديثة interprétation objective لا مجرد الجمود على نصوص قديمة لا تصلح أداة في الإلمام بما جد من طريق الوقوف على ما كان يريده الشارع إذ ذاك، لا على ما تريده الجماعات الحاضرة بتطوراتها الحالية interprétation subjective .
ولقد فاضت أبحاث المؤلفين والكاتبين في نظرية المسؤولية قبل سنة 1898 وبعدها ولم تترك مسألة من المسائل التفريعية إلا وأشبعتها بحثًا على ضوء الضرورات الاجتماعية الحاضرة.
ولكنا نأسف مع الآسفين لما نراه من بعض كبار المؤلفين العصريين مثل بلانيول وكابتان وكولين في إصرارهم وعنادهم المستمر على الأخذ في نظرية المسؤولية طبقًا للمواد الفرنسية الأولى من المادة (1804)، وإن كان أسفنا عظيمًا في هؤلاء العلماء إلا أن اغتباطنا كان أعظم عندما رأينا فريقًا كبيرًا من كبار المؤلفين وأصحاب النهضة العلمية القانونية في الوقت الحاضر قد خرجوا عن حد الوقوف على النصوص القديمة وقرروا مبادئ قانونية تتفق مع النمو العمراني العالمي الاقتصادي مثل Saleilles وجاهد بعضهم في تفسير هذه المبادئ الجديدة الخاصة بالمسؤولية بالرجوع إلى المواد (1382) - (1386) تفسيرًا دقيقًا وبمهارة علمية وجيهة كما فعل الأستاذ Josserand شيخ أستاذة القانون بمدينة ليون.
2 - اللمحة التشريعية
( أ ) التشريع المختلط:
وُضعت القوانين المختلطة سنة 1875 ووضعها المحامي الفرنسي المعروف Maunoury وقد عمل فيها على تقليد الشارع الفرنسي، ولكن جاء التقليد أبتر وممسوخًا، وملاحظاتنا في ذلك ما يأتي:
1 - وردت المواد الفرنسية (1382) – (1386) تحت عنوان (الجنح وأشباه الجنح) déltis et quasi - délits، ووردت المواد المختلطة الخاصة بالمسؤولية (211) - (215) تحت عنوان (الالتزامات الناشئة عن العمل) obligations résultant du fait إذ أدخل معها الشارع المختلط موادًا أخرى خاصة بأعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق. وربما قيل بأنه كان الأجدر فصل هذه الأنواع المختلفة عن بعضها البعض لأن الالتزام الناشئ عن المسؤولية هو غير الالتزام الناشئ عن أعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق.
ولكن نسارع إلى ملاحظة أنه ربما كان في هذا الوضع التشريعي المختلط ما يؤيد مذهبنا الذي سنقول به بعد فيما يتعلق بالمسؤولية الشيئية responsabilite objective (أي المسؤولية التي لا يشترط فيها إثبات التقصير faute بل المسؤولية المؤسسة على مجرد الضرر غير المشروع) أي الرجوع في هذه المسؤولية لا إلى مجرد الجنحة وشبه الجنحة بل إلى مجرد العمل fait.
2 - قررت المادة (211) المسؤولية بالتضامن بين المقصرين وقد فعلت خيرًا لأنها قلدت في ذلك ما كان قد قرره القضاء الفرنسي بعد أن سبق له الأخذ بنظرية عدم التجزئة indivisibilité وهذه المادة لا مثيل لها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1804.
3 - قررت المادة (212) مدني ما يأتي:
(كل عمل مخالف للقانون tout fait poursuivit par la loi يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان عدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).
والمفهوم من هذه المادة ومن عبارة (كل عمل مخالف للقانون) أنها تختص بالمؤاخذة sanction وتقرير الجزاء عن الجرائم الجنائية infractions ولم تتكلم مطلقًا عن الجرائم المدنية dêlits civils وأشباه الجرائم المدنية quasi - delits وقررت هذه المادة عدم مسؤولية من يحدث بالغير ضررًا وهو غير مدرك لما يفعله كالصبي غير المميز أو المجنون أو المعتوه والسكران فيما إذا لم يشرب الخمر بمحض رغبته.
هذه الفقرة من تلك المادة لا نظير لها بالقانون الفرنسي إنما قررها (مونوري) بناءً على ما قرره القضاء الفرنسي في هذا الشأن باعتبار أن التقصير faute لا بد فيه من شرط الإدراك لدى المقصر.
وقد قامت ضجة هائلة عند الشراح حول شرط الإدراك في التقصير إذ لاحظوا ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي لا بد فيها من الإدراك، والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد التعويض وضرورته (بلانيول ج 2 صـ 288 ف 879 هامش 3 الطبعة الثامنة سنة 1921).
وإذا كان القضاء الفرنسي يجري على قاعدة مسؤولية عديمي الأهلية فيما إذا أثروا على حساب الغير من طريق يشبه التعاقد quasi ex coutractu فلماذا لا يصبح هؤلاء مسؤولين أيضًا عندما يلحقون ضررًا بالغير؟ ولقد تأثر القضاء الفرنسي بهذه الضجة وأخذ بما نقول به بحكم واحد (دالوز الدورية سنة 67 رقم 2 صـ 3، ومجلة سيري الدورية سنة 66 رقم 2 صـ 259).
على أن رفع المسؤولية عن عديم الإدراك فيه مساس مزعج أحيانًا بالعدالة المطلقة، إذ ما ذنب رجل بائس يعيش في بيت له يضمه وأولاده ويكد ليله ونهاره في مواساتهم فيأتي له صبي غير مدرك قد ملك من الضياع ما لا عد له ولا حصر فيحرق له منزله ثم هو لا يُسأل عن ذلك، أليس من المزعج عدالة أن يتمتع الصغير غير المدرك بضياعه عند بلوغه بينما يتضور الرجل المحروق منزله ألمًا؟
أليس من العدالة أن ينظر في الأمر بعين نظرية ضرورة التعويض أولى من هذا التحكم في شرط الإدراك على غير جدوى؟
لذا عمل الشارع الألماني على معالجة هذا النقص، فبعد أن قرر بالمادة (827) ما قرره الشارع المختلط بالمادة (212) إذ قرر بالمادة (829) بأنه يجوز الحكم بتعويض عندما تقضي العدالة بذلك.
إن هذا التشريع الألماني معيب من الوجهة الفنية العلمية لأنه يجمع بين النقيضين لمبدأين متعارضين، وكان الواجب علميًا الأخذ بواحد دون الآخر، أما الأخذ بمبدأ التعويض فهو الأوجب لاتفاقه مع المبادئ القانونية الصحيحة من ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي يشترط فيها الإدراك والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد تعويض الضرر، ولأن ذلك ينادي بإجابة صوت العدالة.
أما شارعنا المختلط فقد التزم جانبًا دون الجانب الآخر ويكون قد فعل خيرًا لو كان أخذ على الأقل بما قرره القانون الألماني سنة 1900 لأن القضاء الفرنسي سبق له أن قرر هذا المبدأ الجديد سنة 1866 أي قبل وضع القوانين المختلطة سنة 1875 كما رأينا.
قلنا إن الشارع أراد بالمادة (212) تقرير المؤاخذة عن الجرائم الجنائية ولكن سارع الشارع المختلط إلى سن مادة أخرى ظن في وضعها أنها ترمي إلى تقرير الجزاء عن الجنح المدنية وأشباه الجنح وأراد بهذه المادة الأخرى، وهي المادة (213)، أن يقرر مسؤولية الشخص عن أعماله هو أي جنحة المدنية وأشباه جنحة وعن أعمال من هم تحت رعايته فوضع المادة (213) بالكيفية الآتية (كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم) فجاء هذا الوضع مشوهًا مبتورًا وعلى غاية من المسخ والاضطراب وذلك:
1 - لأن عبارة المادة تفيد أن الإنسان مسؤول عن أعمال من هم تحت رعايته، وأعمالهم هي التقصير faute والإهمال négligence وعدم الدقة والانتباه imprudence فهذه الأعمال المنسوبة للغير هي التي يُسأل عنها الشخص الموكل إليه حق رعاية المقصرين والمهملين والطائشين، وختمت المادة عبارتها بقولها (أو عن عدم ملاحظته إياهم) وهذا التعبير يشعر بأن الشخص مسؤول عن أعمال غيره أولاً وهي التقصير والإهمال والطيش وعن عمله هو ثانيًا وهو عدم الملاحظة، كأن التقصير والإهمال والطيش طائفة مستقلة عن عدم الملاحظة، على أن أصل المسؤولية هو عدم الملاحظة الذي يعتبر في ذاته تقصيرًا faute من جانب الموكول إليه أمر الرعاية، فإذا قصر الموكول إليه أمر الرعاية اعتُبر مسؤولاً عن أضرار الأشخاص الموضوعين تحت رقابته فيما إذا وقع منهم ضرر سببه أعمالهم الخاصة بهم وهي تقصيرهم وإهمالهم وطيشهم، أي أن المسؤولية موقوفة فقط على عدم الرقابة فإذا كانت الرقابة صحيحة فلا مسؤولية، وكان يجب وضع المادة بما يفيد أن المسؤولية واقعة في حالة عدم الرقابة، بمعنى أنه إذا ثبتت الرقابة وثبت أداؤها من جانب الرقيب فلا مسؤولية عليه مطلقًا عند وقوع الحادث، حتى ولو كان سبب وقوع الحادث الأعمال الخاصة بالغير تقصيرًا كان أو إهمالاً أو طيشًا وهذا هو ما قالته المادة (1384) الفرنسية في فقرتها الأخيرة حيث قررت بأن لا مسؤولية إذا أثبت الموكول إليهم الرعاية أنهم لم يستطيعوا منع وقوع الحادث الناشئ عن الضرر، بمعنى أنه لا مسؤولية عليهم حتى ولو قام البرهان على التقصير والإهمال والطيش من جانب من هم تحت رعايتهم إذا ثبتت صحة رقابتهم، وهذا على عكس ما تشير إليه المادة (213) مختلط لأن الفقرة الأولى منها تشعر بالمسؤولية من تقصير الغير وإهماله وطيشه مع ثبوت الرقابة، وهو ما لا يقبله لا الحق ولا العدالة، تلك العدالة équité التي اعتبرت دائمًا وأبدًا أساسًا لنظرية المسؤولية وعلى الأخص في العصر الحاضر الذي نفخت فيه الاشتراكية المعتدلة بروح من عندها.
(ب) ذكرت المادة (213) التقصير والإهمال والطيش وعدم الملاحظة، وهذه صور لشبه الجنحة (يراد بالجنحة المدنية، العمل غير المشروع الضار بالإنسان ويكون فاعله قد تعمد إحداثه، وشبه الجنحة هو نفس العمل غير المشروع والضار ولكنه لا عمد فيه) ولم تذكر مطلقًا الجنحة المدنية.
أو ليس من المعقول أن من يُسأل بسبب تقصير وإهمال وطيش من هم تحت رقابته، يُسأل أيضًا فيما إذا تعمدوا الإضرار بالغير؟
(جـ) لم يقرر الشارع بهذه المادة (213) مسؤولية نفس الشخص عن جنحه هو ولا عن أشبه جنحه هو أيضًا، وكان يجب على الشارع أنه ما دام قد قرر مسؤولية الفرد بالمادة (212) عن جرائمه الجنائية أن يقرر بالمادة (213) مسؤوليته عن جرائمه المدنية، أي الجنح المدنية وأشباه الجنح، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما خانه التعبير السقيم جدًا الذي جعله قالبًا للمادة (213)، لأنه يظهر أنه أراد تقرير ذلك ولكن جاءت العبارة الأخيرة من المادة، وهي (أو عدم ملاحظته إياهم) مذهبة بغرضه (يجب مراجعة النص الفرنسي لأنه أوضح في بيان غرض المشرع من النص العربي لأن هذا النص الأخير قد عالج من حيث الوضع والتركيب بعض الشوائب الشكلية للمادة (213) المذكورة)، وكان الأجدر بالشارع أن يقول بأن الإنسان يُسأل عن تقصيره هو وإهماله وطيشه ويُسأل أيضًا عن نتائج عدم ملاحظة من هم تحت رعايته، ولكنه لم يفعل بل ساق الجمل مع بعضها البعض بحيث تنصرف جميعها إلى أنه مسؤول فقط عن أعمال غيره، وأما أعماله هو فلا يُسأل فيها إلا عن عدم الملاحظة فقط، وهذا نقص معيب كما لا يخفى.
(د) بدأت المادة (213) بعبارة (وكذلك) وهي تشعر مع اتصالها بالمادة (212) المتقدمة عليها بأن لا مسؤولية مطلقًا على الشخص فيما إذا وقع الحادث بمعرفة من هم تحت رعايته وكانوا غير مدركين لما يفعلونه (راجع دي هلتس De Hults ج 4 صـ 10 ن 6) وهذا لا يقبله العقل، لأن الغرض من مسؤولية من وكل إليه أمر العناية بشخص هو تقرير جزاء عند عدم المراقبة على من فرض فيهم القانون نقصًا في الإدراك كالقصر والمجانين والمعتوهين وغيرهم ممن أشارت إليهم المادة (213)، والمفروض أن الحادث يقع بسبب عدم الإدراك أو ضعفه وبسبب عدم الرقابة، وما شرعت الرقابة إلا لأجل سد النقص في الإدراك القائم.
(هـ) هذه هي عيوب المادة (213) باعتبارها في ذاتها، وفي ربطها مع المادة (212) السابقة عليها نرى أن الشارع المختلط قد شوه المواد الفرنسية التي أراد أن يقلدها ويوجزها، فمسخها كل المسخ، أما المواد الفرنسية فقد جاءت في مجموعها جيدة، إذ قررت المادة الأولى منها وهي (1382) مسؤولية الشخص عن عمله باعتباره جنحة مدنية، ثم قررت المادة (1383) مسؤوليته عن شبه الجنحة، وجاءت المادة (1384) وقررت مسؤوليته عن أعمال من هم تحت رقابته أو الأشياء الموجودة تحت يده، ثم بينت من هم هؤلاء الأشخاص الملاحِظون والملاحَظون فقررت أن الملاحظين هم الأب، والأم عند وفاة الأب، والمخدومون Maitres وأصحاب الأعمال والأشغال Commettants والمربون Instituteurs وأرباب الصنائع Artisans وذكرت بأن الملاحَظين هم القصر Mineurs المقيمون مع آبائهم والمستخدمون Préposés وصبية المدارس éléves وصبية المصانع Apprentis.
فجاء الشارع المختلط ونظر إلى الثلاثة المواد المذكورة (1382) و(1383) و(1384) وأراد أن يدمجها كلها في مادة واحدة وهي المادة (213) فجاءت هذه المادة وهي تفيض بهذه الشوائب التي بيناها.
لذلك وجب بحق في تقرير نظرية المسؤولية ضرورة الرجوع إلى المواد الفرنسية فيما ذهب فيه القضاء والفقه الفرنسيان في تفسيرهما، باعتبار أن الشارع المصري لم يرد مخالفة الشارع الفرنسي في شيء، إنما رمى فقط إلى مخالفته في الوضع دون المعنى والجوهر (دي هلس ج 4 صـ 118 ن 8).
لذلك لما جاء الشارع الأهلي سنة 1883 لم يشأ البتة تقليد زميله المختلط في هذا الوضع المشوب بل خالفه بعض المخالفة فيه بما سنبينه بعد.
5 - قررت المادة (214) مسؤولية السيد أو المخدوم عن أفعال خدمته متى وقعت وهم يؤدون العمل له، أي متى كان الضرر واقعًا منهم في حالة تأدية وظائفهم.
ويلاحظ على هذه المادة أنها قد قطعت من المادة (1384) الفرنسية التي جاءت جامعة شاملة.
6 - ثم قررت المادة (215) وهي الأخيرة من مواد المسؤولية مسؤولية مالك الحيوان عن الضرر الناشئ عنه سواء كان في حيازته أو متسربًا، وقد أخذت هذه المادة من المادة (1385) الفرنسية التي جاءت أتم منها إذ قررت مسؤولية المالك حتى ولو كان الحيوان تحت حيازة الغير، وهو ما لم تقل به المادة المختلطة وكان يجب أن تقول به.
7 - قررت المادة الأخيرة (1386) الفرنسية مسؤولية المالك للمباني bâtiments إذا تسبب عنها ضرر ناشئ عن تهدمها ruine فيما إذا كان هذا التهدم آتيًا من عدم العناية بها défaut d’entretien أو من عيب بنفس العمارة vice de construction ولم نرَ أثرًا لهذه المادة بالتشريع المختلط، ولا نعرف الحكمة في عدم نقلها بالقانون المختلط، كما أننا لم نعرف الحكمة لهذا الشارع المتعب في كونه لم ينقل بتشريعه أيضًا هذه الجملة الأخيرة الواردة بالفقرة الأولى من المادة (1384) فرنسي، وهي الفقرة الخاصة بمسؤولية الشخص عن الأشياء الموجودة تحت يده des choses que l’on a sous sa garde ولهذه الفقرة أهمية كبرى وصلة عظيمة جدًا بالمادة (1386) فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية responsabilité objective لأن المادة (1384) قررت مسؤولية الحائز للأشياء بوجه عام ولم تبح حق إقامة الدليل على عدم إمكان منع الضرر، كما أباحت هذا الحق بالنسبة للآباء والمربين فقط، أي أنها لم تبح إقامة الدليل على انتفاء التقصير بالنسبة لمالكي الأشياء أو الحائزين لها وبالنسبة للمخدومين وأرباب الأشغال، وهذا موطن صالح جدًا لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية كما ذهب إليه الأستاذ جوسران Josserand وكذلك المادة (1386) فإنها قررت مسؤولية المالك للمباني عند التهدم الناشئ عن عدم الصيانة وعن عيب لاصق بنفس العمارة ولم تبح هي الأخرى إقامة الدليل على انتفاء التقصير في حالة العيب اللاصق بالعمارة (لأن المسؤولية في حالة عدم الصيانة لا يؤخذ بها إلا عند عدم الصيانة، فإذا ثبتت الصيانة فلا مسؤولية)، وهذه أيضًا بيئة أخرى صالحة لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية أو نظرية الضمان Risqne. وقد ذهب بعض الشارحين إلى القول بأن هذه المادة لم ترد على سبيل الحصر في تقرير المسؤولية بالنسبة للمباني بل جاءت على سبيل التمثيل بالنسبة لجميع الأشياء وذلك استنادًا إلى التعميم الوارد بالعبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من المادة (1384) الخاصة بالأشياء.
فإذا كانت المادة (1384) والمادة (1386) الفرنسيتان هما بتلك الأهمية الكبرى في عالم التشريع والتفسير القضائي والفقهي فكيف جاز حينئذٍ للشارع المختلط وهو المحامي الفرنسي المشهور (مونوري) أن يغفل ذكرهما بينما كان قد بدأ فعلاً المعلق الشهير على الأحكام (لابيه Labbé) الإفاضة في الكتابة على المسؤولية بمجلة سيري Sirey الدورية؟ كيف يغفل أمرهما ومكانهما كما رأينا في عالم القانون؟ كل ما نستطيع أن نقوله في هذا الشأن كما لاحظناه أكثر من مرة في التشريع المصري من سنة 1875 إلى سنة 1183 تقريبًا أن المشرع المصري يُعنَى بالتقليد إلى حد أن ينسى أصول التقليد وأبجدياته، لذا نعيد القول بأن دعامة الشرح في هذه النظرية ما أقامه أطواد القانون في الوقت الحاضر من صروح النقد الحار وإشباع المبادئ القانونية بروح لا تجمد على نص صامت بل تشاد فوق أصول لحمتها الضرورات الاجتماعية وسداها العدالة كما أشار إلى ذلك بحق دي هلس (ج 4 ص 8 ن 2).
(ب) التشريع الأهلي:
أما وقد انتهينا من التشريع المختلط فنأتي الآن على بيان موجز أيضًا لأمر التشريع الأهلي.
لقد عُني بوضع القوانين الأهلية القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo وقد نسخ القوانين المختلطة وعدل فيها بالرجوع إلى الملاحظات الآتية:
1 - أنه جعل المادة أحيانًا تشمل المادتين في القانون المختلط.
2 - لاحظ ما أنتجه العمل القضائي من سنة 1875 إلى سنة 1883 وهي سنة وضع القوانين الأهلية.
3 - أنه خالف في كثير من نصوصه القانون المختلط.
والذي يهمنا من ذلك كله هو ما جاء في المواد الخاصة بنظرية المسؤولية، وقد فعل خيرًا الشارع الأهلي في أنه لم يعمل كما عمل الشارع المختلط في وضع المادتين (212) و(213) ذلك لأنه أدرك أن عبارة هاتين المادتين جاءت مشوهة تشويهًا غريبًا ذهب بالأصول القانونية المرجوة، لذا أخذ الشارع الأهلي يعالجهما، وقد أحسن الاختيار في طريق العلاج حيث إنه نقل المادة (1382) الفرنسية نقلاً وجعلها الفقرة الأولى من المادة (151) من القانون المدني الأهلي ونصها ما يأتي كالأصل المصري الفرنسي العبارة
(Tout fait quelconque de l’homme, qui cause â autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé, â le réparer.)
ثم ورد هذا النص بالنسخة العربية المصرية الأهلية كما يأتي:
(كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر) ومن مقارنة النصين مع بعضهما البعض نرى أن بالنص العربي نقصًا يكاد يذهب بركن أساسي قديم معروف في عالم نظرية المسؤولية وهو ركن التقصير Faute الذي كان دائمًا وأبدًا حتى قبيل العهد الأخير الدعامة التي ترتكن إليها نظرية المسؤولية، لأن كلمة التقصير وردت بالنسخة الفرنسية فأغفلها المترجم إغفالاً جعل النص محلاً للأخذ والرد فيما يتعلق بنظرية استعمال الحق والاعتساف في استعمال الحق Abus du droit والمسؤولية الشيئية Responsabilité objective، وإذا أخذ النص العربي على ظاهره لكان هادمًا لأبسط المبادئ القانونية لأن ظاهره يقرر أن الإنسان مسؤول عن جميع الأضرار التي تصيب الغير بفعله هو، وأيًا كان فعله مشروعًا وغير مشروع، وهذا أمر مستحيل عملاً وعمرانًا، لأن الحياة هي دائمًا وأبدًا في كل عصر وفي كل بيئة عبارة عن مصارعة ومزاحمة بين الأشخاص: هي كسب لفريق وخسارة على فريق آخر، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل منفعة، ويستحيل أن يحصل تحصيل المنفعة دون إلحاق نقص بأموال الغير، والمعاملات بين الناس تشاد فيما بينهم في الأخذ بأكثر من الإعطاء، فإذا كان كذلك وأخذت المادة الأهلية العربية على ظاهرها لترتبت على ذلك استحالة مادية في عالم الحياة: وهذا ما لم يرده الشارع طبعًا، لذا وجب وضع النص العربي بطريقة تتفق تمامًا مع النسخة الفرنسية، بأن تضاف عبارة (بسبب تقصيره) بعد كلمة (فاعله)، وكان يحسن بالشارع الأهلي أن يضع مادة جديدة عقب المادة (151) هذه أو أن يدمجها بها ويكون مرمى المادة الإلمام بنظرية التمتع بالحقوق ومتى يعتبر مشروعًا ومتى يعتبر مصدرًا للتعويض كما فعل ذلك القانون الألماني بالمادة (220) حيث قررت هذه الأخيرة ما يأتي: (لا يباح التمتع بالحق إذا كان الغرض منه منصرفًا إلى إلحاق الضرر بالغير) وهذا المبدأ هو المقرر للنظرية الشهيرة جدًا المعروفة بنظرية الاعتساف في استعمال الحقوق Abus des droits وهي النظرية التي قررها القضاء المصري مختلطًا وأهليًا بأحكام عدة.
أما الفقرة الثانية من المادة (151) فهي نفس المادة (213) مدني مختلط حرفًا بحرف، وما ذكرناه بشأن العيوب الوضعية للمادة (213) مختلط يمكن أن يقال به هنا فلا حاجة لتكراره، وكان يجب على الشارع الأهلي إذا أراد أن يجعل فقرتي المادة (151) متماسكتين ومتلازمتين في تأدية معانٍ منسجمة أن يذكر بالفقرة الأولى ما يشير أيضًا إلى أشباه الجنح الخاصة بفعل الإنسان نفسه كالإهمال والطيش وهما المشار إليهما بالمادة (1383) الفرنسية، ولكن نسارع إلى ملاحظة أن الشراح لاحظوا أن المادة (1383) إنما جاءت تكرارًا للمادة (1382) باعتبار أن هذه المادة الأخيرة تؤدي المعنى الذي قالت به المادة (1383) باعتبار أن التقصير يكون إما إيجابيًا أو سلبيًا، ومع وجاهة هذه الملاحظة أيضًا فإن وضع المادة (151) بفقرتيها يعتبر مع ذلك غير وجيه، لأنه كان يجب ذكر عبارة (الإهمال والطيش) بالفقرة الأولى، وجعل عبارة (عدم الملاحظة) بالفقرة الثانية حتى تكون الفقرة الأولى شاملة للتقصير الإيجابي والسلبي من طريق التعيين، وحتى تكون الفقرة الثانية قاصرة فقط على عدم الملاحظة، مع الإحالة على الفقرة السابقة عليها، أو أن الشارع الأهلي يحذف عبارة الإهمال والطيش من المادة (151) باعتبار أن كلمة التقصير الواردة بالفقرة الأولى تنصرف إلى التقصير الإيجابي والسلبي معًا، لأنه عند عدم التعيين في التقصير ينصرف المعنى إلى التعميم.
هذا التشويه الذي وقع فيه الشارع الأهلي سببه التشريع المختلط الذي كان موضوعًا بين يديه.
وكان على الشارعين الأهلي والمختلط أن يلاحظا هما الآخران ما لاحظه شراح القانون الفرنسي على المادة (1382) فلا يقعان فيما وقع فيه الشارع الفرنسي سنة 1804 إذ لوحظ على المادة (1382) في قولهما Tout fait quelconque أن كلمة quelconque غير صحيحة بجانب كلمة التقصير Faute لأنه ليس كل عمل fait يعتبر ملزمًا بالتعويض، إنما هو العمل التقصيري fait fautif، هذا مع ملاحظته أيضًا أن أنصار نظرية المسؤولية الشيئية يرون في كلمة التقصير الواردة بالمادة (1382) الفرنسية أنها لم ترد من طريق التعيين والتحديد للعمل الضار في ذاته، إنما جاءت فقط من طريق الإيضاح والتفسير، باعتبار أن العمل الضار يعتبر في ذاته مصدرًا للالتزام بالمسؤولية بصرف النظر عما إذا كان قد شابه تقصير أم لا، ويكون المسوغ القانوني حينئذٍ للمسؤولية هو قاعدة الغرم بالغنم لا التقصير، مع ملاحظة أن ذلك لا يتعارض مع حق استغلال الحقوق والمزاحمة في مجال الحياة باعتبار أن للمسؤولية الشيئية مجالاً للعمل غير مجال الانتفاع بالحقوق وتصريفها في وجوهها المشروعة.
ولم يقرر الشارع الأهلي ما قررته المادة (212) مختلط من حيث عدم المسؤولية عند عدم إدراك المتسبب في الضرر، وبماذا يفسر هذا السكوت؟ هل أراد الشارع الأهلي مخالفة الشارع المختلط مخالفة ظاهرة، أي أنه أراد أن لا يأخذ بنظرية شرط الإدراك في المسؤولية المدنية، وأن التعويض حتمي ولو كان المقصر غير مدرك؟ أم أنه أراد أن يقلد الشارع الفرنسي في المادة (1382) التي قررت قاعدة المسؤولية بوجه عام تاركةً أمر التفصيل إلى ظروف الحال وما تمليه هذه على القضاء؟ أم أن الشارع الأهلي أراد بسكوته أن يجاري القضاء الفرنسي فيما ذهب إليه من ضرورة شرط الإدراك (مع ملاحظة أن القضاء الفرنسي حكم سنة 1866 كما بينّا بعدم شرط الإدراك)؟
أمام صمت الشارع الأهلي كان للشكوك والأخذ والرد مجال، وإذا كان الأمر كذلك وجب حينئذٍ تقرير نظرية تتفق مع الأصول القانونية والعدالة.
ولكن قبل تقرير هذه النظرية التي تتفق مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة، وهي النظرية القائلة بعدم توافر شرط الإدراك لما في ذلك من الخلط بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، كما بينّا ذلك في مكانه، نرى أولاً ضرورة معرفة ما هو الرأي الذي يمكن أن يكون قد اتخذه الشارع أمام هذا الصمت الهادئ؟
الذي نقول به بلا تردد أن الشارع الأهلي لو كان أراد أن يأخذ بما قررته المادة (212) المختلطة لكان نقلها حرفًا بحرف إلى تشريعه، وأما كونه لم ينقلها فهذا يقطع على أنه لم يرد الأخذ بها أو على الأقل يقطع في أنه لم يرد البت في هذه النظرية بل تركها لأمر القضاء والفقه.
وأما كونه رجع فيها إلى ما قرره القضاء الفرنسي في ضرورة شرط الإدراك فقد رأينا أن هذا القضاء قضى بعكس ذلك سنة 1866، والذي يهمنا من ذلك كله أن في سكوت الشارع ما يبرر للقضاء والفقه حق تقرير قاعدة قانونية تلتئم مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة.
ولذا نقول بحق بأنه أمام هذا الصمت الأهلي يجب الأخذ بنظرية ضرورة التعويض أي الأخذ بنظرية المسؤولية المدنية وعدم خلطها بنظرية المسؤولية الجنائية كما لاحظ ذلك بلانيول بحق، وكما فعل الشارع الألماني بالمادة (829) في معالجته للمادة (827).
وأما ما قرره القضاء المصري من ضرورة اشتراط الإدراك فهو لم يكن مقنعًا إلى حد التردد فيما تقرره (محكمة أجا الجزئية في 22 يناير سنة 1918، المجموعة الرسمية المجلد 19 صـ 133).
وقد نقل الشارع الأهلي المادتين (214) و(215) مدني مختلط حرفًا بحرف وصاغهما بالمادتين (152) و(153) مدني أهلي، وهاتان المادتان لا تكفيان لتقرير نظرية المسؤولية في باقي وجوهها الأخرى وهي الوحيدة التي أشار إليها الشارع الفرنسي بالمادة (1384) فقرة أولى فيما يتعلق بالمسؤولية الناشئة عن الأشياء الجامدة، وبالمادة (1386) الخاصة بالمسؤولية الناشئة عن تهدم المباني، ولهذا النقص في التشريع المصري مختلطًا وأهليًا مثار للقول فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية، وهي هذه النظرية التي احترقت لها أقلام الكاتبين قبل سنة 1898 والآن أيضًا، وعلى الأخص فيما يتعلق بمصرنا لأنه لم يتقرر للآن ببلادنا قوانين للعمال تقوية بنظرية الضمان الصناعي risque professionnel.
عبد السلام ذهني
مدرس بمدرسة الحقوق الملكية
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
في المسؤولية المدنية للأفراد
لمحتان
تاريخية وتشريعية
1 - لمحة تاريخية
نعلم أن القانون الفرنسي وُضع في سنة 1804 في وقت لم يعرف فيه العالم هذه النهضة الاقتصادية العامة التي ظهرت في عصر القرن التاسع عشر وعظم شأنها في القرن العشرين وعلى الأخص بعد الانتهاء من الحرب العالمية التي خُتمت بمعاهدة صلح فرساي سنة 1918 وكان القانون الفرنسي متشبعًا بالروح الفردية Individualiste ولم يقم للشؤون الاقتصادية على اختلاف أنواعها وزنًا إلا بقدر ما كان معروفًا في ذلك الزمن المنصرم، وقد تلقت الشعوب الأخرى القانون الفرنسي بصدور رحبة وعملت على الأخذ به لما كانت تشعر به من التعطش نحو التقنين من طريق التجميع ولما كانت تأنسه من وحدة الشبه من حيث الحالة الاقتصادية العامة، وقد أخذت مصرنا قوانينها في سنة 1875 وسنة 1883 مختلطًا وأهليًا بعد إدخال شيء من التعديل رجع فيه إما إلى ما قرره القضاء والفقه الفرنسيان بعد سنة 1804 وإما إلى ما أقرته التقاليد والعادات المصرية التي بنيت في كثير منها على الشريعة الإسلامية وعلى ما قرره العمل في هذا الجو المختلط بين المصريين والأجانب مختلفي الأجناس.
ولما كان عهد عصر ترقيها الصناعي والتجاري حديثًا لم يفكر شارعها المصري سنة 1875 وسنة 1883 في أن يضع قوانين تضمن لها ما يمكن أن تصل إليه فيما بعد من ازدياد في الرقي وتقدم في المدنية، لذا أصبحت القوانين المصرية هذه لا تلتئم مع ما قطعته من أشواط المدنية وأصبح من الضروري الحتمي الرجوع إلى ما قررته الشعوب الأخرى في عصرنا الحاضر من قوانين تشريعية وآراء قضائية ومذاهب فقهية وذلك عملاً بما قضى به القانون المصري من الأخذ بالعدالة والقانون الطبيعي فيما سكت فيه القانون عن التقنين في بعض المسائل، وهذا هو ما جرى عليه العرف القضائي المختلط والأهلي في مسائل عدة لم ترد لها نصوص خاصة بالقوانين المصرية.
ولقد كان لنظرية المسؤولية شأن يذكر في عالم القانون عند كل شعب متمدين وذلك لتقدم الصناعة ورواج التجارة في الأوقات الحاضرة، وكان من شأن التقدم التجاري العالمي أن اضطرت بعض الشعوب إلى تعديل شرائعها طبقًا لما اقتضته نواميس الرقي في التجارة والصناعة، فقررت من الوجهة التشريعية مبادئ قانونية ربما كانت لا تؤيدها النصوص القانونية القديمة في ظاهرها حتى تقطع بذلك ما يحوم من الشك والتردد حول مبادئ جديدة كونتها الظروف الاجتماعية الحديثة قسرًا وقهرًا.
وهذا ما فعلته فرنسا مثلاً سنة 1898 وغيرها من الشعوب الأخرى في تقرير قواعد قانونية من الوجهة التشريعية في نظرية المسؤولية تلتئم مع الضرورات الاجتماعية المدنية العصرية.
وأما المسائل الأخرى الخاصة بنظرية المسؤولية والتي لم يشرع لها تشريع خاص كما حصل سنة 1898 فيما يتعلق بالهلاك الصناعي risque professionel والمسؤولية الشيئية responsabilité objective فإنها قد تأثرت بهذا التشريع الجديد، ووجدت لها منه أكبر نصير في تقرير المبادئ الجديدة والعمل على تفسير النصوص القديمة تفسيرًا يضطرد مع الضرورات الاجتماعية الحديثة interprétation objective لا مجرد الجمود على نصوص قديمة لا تصلح أداة في الإلمام بما جد من طريق الوقوف على ما كان يريده الشارع إذ ذاك، لا على ما تريده الجماعات الحاضرة بتطوراتها الحالية interprétation subjective .
ولقد فاضت أبحاث المؤلفين والكاتبين في نظرية المسؤولية قبل سنة 1898 وبعدها ولم تترك مسألة من المسائل التفريعية إلا وأشبعتها بحثًا على ضوء الضرورات الاجتماعية الحاضرة.
ولكنا نأسف مع الآسفين لما نراه من بعض كبار المؤلفين العصريين مثل بلانيول وكابتان وكولين في إصرارهم وعنادهم المستمر على الأخذ في نظرية المسؤولية طبقًا للمواد الفرنسية الأولى من المادة (1804)، وإن كان أسفنا عظيمًا في هؤلاء العلماء إلا أن اغتباطنا كان أعظم عندما رأينا فريقًا كبيرًا من كبار المؤلفين وأصحاب النهضة العلمية القانونية في الوقت الحاضر قد خرجوا عن حد الوقوف على النصوص القديمة وقرروا مبادئ قانونية تتفق مع النمو العمراني العالمي الاقتصادي مثل Saleilles وجاهد بعضهم في تفسير هذه المبادئ الجديدة الخاصة بالمسؤولية بالرجوع إلى المواد (1382) - (1386) تفسيرًا دقيقًا وبمهارة علمية وجيهة كما فعل الأستاذ Josserand شيخ أستاذة القانون بمدينة ليون.
2 - اللمحة التشريعية
( أ ) التشريع المختلط:
وُضعت القوانين المختلطة سنة 1875 ووضعها المحامي الفرنسي المعروف Maunoury وقد عمل فيها على تقليد الشارع الفرنسي، ولكن جاء التقليد أبتر وممسوخًا، وملاحظاتنا في ذلك ما يأتي:
1 - وردت المواد الفرنسية (1382) – (1386) تحت عنوان (الجنح وأشباه الجنح) déltis et quasi - délits، ووردت المواد المختلطة الخاصة بالمسؤولية (211) - (215) تحت عنوان (الالتزامات الناشئة عن العمل) obligations résultant du fait إذ أدخل معها الشارع المختلط موادًا أخرى خاصة بأعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق. وربما قيل بأنه كان الأجدر فصل هذه الأنواع المختلفة عن بعضها البعض لأن الالتزام الناشئ عن المسؤولية هو غير الالتزام الناشئ عن أعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق.
ولكن نسارع إلى ملاحظة أنه ربما كان في هذا الوضع التشريعي المختلط ما يؤيد مذهبنا الذي سنقول به بعد فيما يتعلق بالمسؤولية الشيئية responsabilite objective (أي المسؤولية التي لا يشترط فيها إثبات التقصير faute بل المسؤولية المؤسسة على مجرد الضرر غير المشروع) أي الرجوع في هذه المسؤولية لا إلى مجرد الجنحة وشبه الجنحة بل إلى مجرد العمل fait.
2 - قررت المادة (211) المسؤولية بالتضامن بين المقصرين وقد فعلت خيرًا لأنها قلدت في ذلك ما كان قد قرره القضاء الفرنسي بعد أن سبق له الأخذ بنظرية عدم التجزئة indivisibilité وهذه المادة لا مثيل لها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1804.
3 - قررت المادة (212) مدني ما يأتي:
(كل عمل مخالف للقانون tout fait poursuivit par la loi يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان عدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).
والمفهوم من هذه المادة ومن عبارة (كل عمل مخالف للقانون) أنها تختص بالمؤاخذة sanction وتقرير الجزاء عن الجرائم الجنائية infractions ولم تتكلم مطلقًا عن الجرائم المدنية dêlits civils وأشباه الجرائم المدنية quasi - delits وقررت هذه المادة عدم مسؤولية من يحدث بالغير ضررًا وهو غير مدرك لما يفعله كالصبي غير المميز أو المجنون أو المعتوه والسكران فيما إذا لم يشرب الخمر بمحض رغبته.
هذه الفقرة من تلك المادة لا نظير لها بالقانون الفرنسي إنما قررها (مونوري) بناءً على ما قرره القضاء الفرنسي في هذا الشأن باعتبار أن التقصير faute لا بد فيه من شرط الإدراك لدى المقصر.
وقد قامت ضجة هائلة عند الشراح حول شرط الإدراك في التقصير إذ لاحظوا ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي لا بد فيها من الإدراك، والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد التعويض وضرورته (بلانيول ج 2 صـ 288 ف 879 هامش 3 الطبعة الثامنة سنة 1921).
وإذا كان القضاء الفرنسي يجري على قاعدة مسؤولية عديمي الأهلية فيما إذا أثروا على حساب الغير من طريق يشبه التعاقد quasi ex coutractu فلماذا لا يصبح هؤلاء مسؤولين أيضًا عندما يلحقون ضررًا بالغير؟ ولقد تأثر القضاء الفرنسي بهذه الضجة وأخذ بما نقول به بحكم واحد (دالوز الدورية سنة 67 رقم 2 صـ 3، ومجلة سيري الدورية سنة 66 رقم 2 صـ 259).
على أن رفع المسؤولية عن عديم الإدراك فيه مساس مزعج أحيانًا بالعدالة المطلقة، إذ ما ذنب رجل بائس يعيش في بيت له يضمه وأولاده ويكد ليله ونهاره في مواساتهم فيأتي له صبي غير مدرك قد ملك من الضياع ما لا عد له ولا حصر فيحرق له منزله ثم هو لا يُسأل عن ذلك، أليس من المزعج عدالة أن يتمتع الصغير غير المدرك بضياعه عند بلوغه بينما يتضور الرجل المحروق منزله ألمًا؟
أليس من العدالة أن ينظر في الأمر بعين نظرية ضرورة التعويض أولى من هذا التحكم في شرط الإدراك على غير جدوى؟
لذا عمل الشارع الألماني على معالجة هذا النقص، فبعد أن قرر بالمادة (827) ما قرره الشارع المختلط بالمادة (212) إذ قرر بالمادة (829) بأنه يجوز الحكم بتعويض عندما تقضي العدالة بذلك.
إن هذا التشريع الألماني معيب من الوجهة الفنية العلمية لأنه يجمع بين النقيضين لمبدأين متعارضين، وكان الواجب علميًا الأخذ بواحد دون الآخر، أما الأخذ بمبدأ التعويض فهو الأوجب لاتفاقه مع المبادئ القانونية الصحيحة من ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي يشترط فيها الإدراك والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد تعويض الضرر، ولأن ذلك ينادي بإجابة صوت العدالة.
أما شارعنا المختلط فقد التزم جانبًا دون الجانب الآخر ويكون قد فعل خيرًا لو كان أخذ على الأقل بما قرره القانون الألماني سنة 1900 لأن القضاء الفرنسي سبق له أن قرر هذا المبدأ الجديد سنة 1866 أي قبل وضع القوانين المختلطة سنة 1875 كما رأينا.
قلنا إن الشارع أراد بالمادة (212) تقرير المؤاخذة عن الجرائم الجنائية ولكن سارع الشارع المختلط إلى سن مادة أخرى ظن في وضعها أنها ترمي إلى تقرير الجزاء عن الجنح المدنية وأشباه الجنح وأراد بهذه المادة الأخرى، وهي المادة (213)، أن يقرر مسؤولية الشخص عن أعماله هو أي جنحة المدنية وأشباه جنحة وعن أعمال من هم تحت رعايته فوضع المادة (213) بالكيفية الآتية (كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم) فجاء هذا الوضع مشوهًا مبتورًا وعلى غاية من المسخ والاضطراب وذلك:
1 - لأن عبارة المادة تفيد أن الإنسان مسؤول عن أعمال من هم تحت رعايته، وأعمالهم هي التقصير faute والإهمال négligence وعدم الدقة والانتباه imprudence فهذه الأعمال المنسوبة للغير هي التي يُسأل عنها الشخص الموكل إليه حق رعاية المقصرين والمهملين والطائشين، وختمت المادة عبارتها بقولها (أو عن عدم ملاحظته إياهم) وهذا التعبير يشعر بأن الشخص مسؤول عن أعمال غيره أولاً وهي التقصير والإهمال والطيش وعن عمله هو ثانيًا وهو عدم الملاحظة، كأن التقصير والإهمال والطيش طائفة مستقلة عن عدم الملاحظة، على أن أصل المسؤولية هو عدم الملاحظة الذي يعتبر في ذاته تقصيرًا faute من جانب الموكول إليه أمر الرعاية، فإذا قصر الموكول إليه أمر الرعاية اعتُبر مسؤولاً عن أضرار الأشخاص الموضوعين تحت رقابته فيما إذا وقع منهم ضرر سببه أعمالهم الخاصة بهم وهي تقصيرهم وإهمالهم وطيشهم، أي أن المسؤولية موقوفة فقط على عدم الرقابة فإذا كانت الرقابة صحيحة فلا مسؤولية، وكان يجب وضع المادة بما يفيد أن المسؤولية واقعة في حالة عدم الرقابة، بمعنى أنه إذا ثبتت الرقابة وثبت أداؤها من جانب الرقيب فلا مسؤولية عليه مطلقًا عند وقوع الحادث، حتى ولو كان سبب وقوع الحادث الأعمال الخاصة بالغير تقصيرًا كان أو إهمالاً أو طيشًا وهذا هو ما قالته المادة (1384) الفرنسية في فقرتها الأخيرة حيث قررت بأن لا مسؤولية إذا أثبت الموكول إليهم الرعاية أنهم لم يستطيعوا منع وقوع الحادث الناشئ عن الضرر، بمعنى أنه لا مسؤولية عليهم حتى ولو قام البرهان على التقصير والإهمال والطيش من جانب من هم تحت رعايتهم إذا ثبتت صحة رقابتهم، وهذا على عكس ما تشير إليه المادة (213) مختلط لأن الفقرة الأولى منها تشعر بالمسؤولية من تقصير الغير وإهماله وطيشه مع ثبوت الرقابة، وهو ما لا يقبله لا الحق ولا العدالة، تلك العدالة équité التي اعتبرت دائمًا وأبدًا أساسًا لنظرية المسؤولية وعلى الأخص في العصر الحاضر الذي نفخت فيه الاشتراكية المعتدلة بروح من عندها.
(ب) ذكرت المادة (213) التقصير والإهمال والطيش وعدم الملاحظة، وهذه صور لشبه الجنحة (يراد بالجنحة المدنية، العمل غير المشروع الضار بالإنسان ويكون فاعله قد تعمد إحداثه، وشبه الجنحة هو نفس العمل غير المشروع والضار ولكنه لا عمد فيه) ولم تذكر مطلقًا الجنحة المدنية.
أو ليس من المعقول أن من يُسأل بسبب تقصير وإهمال وطيش من هم تحت رقابته، يُسأل أيضًا فيما إذا تعمدوا الإضرار بالغير؟
(جـ) لم يقرر الشارع بهذه المادة (213) مسؤولية نفس الشخص عن جنحه هو ولا عن أشبه جنحه هو أيضًا، وكان يجب على الشارع أنه ما دام قد قرر مسؤولية الفرد بالمادة (212) عن جرائمه الجنائية أن يقرر بالمادة (213) مسؤوليته عن جرائمه المدنية، أي الجنح المدنية وأشباه الجنح، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما خانه التعبير السقيم جدًا الذي جعله قالبًا للمادة (213)، لأنه يظهر أنه أراد تقرير ذلك ولكن جاءت العبارة الأخيرة من المادة، وهي (أو عدم ملاحظته إياهم) مذهبة بغرضه (يجب مراجعة النص الفرنسي لأنه أوضح في بيان غرض المشرع من النص العربي لأن هذا النص الأخير قد عالج من حيث الوضع والتركيب بعض الشوائب الشكلية للمادة (213) المذكورة)، وكان الأجدر بالشارع أن يقول بأن الإنسان يُسأل عن تقصيره هو وإهماله وطيشه ويُسأل أيضًا عن نتائج عدم ملاحظة من هم تحت رعايته، ولكنه لم يفعل بل ساق الجمل مع بعضها البعض بحيث تنصرف جميعها إلى أنه مسؤول فقط عن أعمال غيره، وأما أعماله هو فلا يُسأل فيها إلا عن عدم الملاحظة فقط، وهذا نقص معيب كما لا يخفى.
(د) بدأت المادة (213) بعبارة (وكذلك) وهي تشعر مع اتصالها بالمادة (212) المتقدمة عليها بأن لا مسؤولية مطلقًا على الشخص فيما إذا وقع الحادث بمعرفة من هم تحت رعايته وكانوا غير مدركين لما يفعلونه (راجع دي هلتس De Hults ج 4 صـ 10 ن 6) وهذا لا يقبله العقل، لأن الغرض من مسؤولية من وكل إليه أمر العناية بشخص هو تقرير جزاء عند عدم المراقبة على من فرض فيهم القانون نقصًا في الإدراك كالقصر والمجانين والمعتوهين وغيرهم ممن أشارت إليهم المادة (213)، والمفروض أن الحادث يقع بسبب عدم الإدراك أو ضعفه وبسبب عدم الرقابة، وما شرعت الرقابة إلا لأجل سد النقص في الإدراك القائم.
(هـ) هذه هي عيوب المادة (213) باعتبارها في ذاتها، وفي ربطها مع المادة (212) السابقة عليها نرى أن الشارع المختلط قد شوه المواد الفرنسية التي أراد أن يقلدها ويوجزها، فمسخها كل المسخ، أما المواد الفرنسية فقد جاءت في مجموعها جيدة، إذ قررت المادة الأولى منها وهي (1382) مسؤولية الشخص عن عمله باعتباره جنحة مدنية، ثم قررت المادة (1383) مسؤوليته عن شبه الجنحة، وجاءت المادة (1384) وقررت مسؤوليته عن أعمال من هم تحت رقابته أو الأشياء الموجودة تحت يده، ثم بينت من هم هؤلاء الأشخاص الملاحِظون والملاحَظون فقررت أن الملاحظين هم الأب، والأم عند وفاة الأب، والمخدومون Maitres وأصحاب الأعمال والأشغال Commettants والمربون Instituteurs وأرباب الصنائع Artisans وذكرت بأن الملاحَظين هم القصر Mineurs المقيمون مع آبائهم والمستخدمون Préposés وصبية المدارس éléves وصبية المصانع Apprentis.
فجاء الشارع المختلط ونظر إلى الثلاثة المواد المذكورة (1382) و(1383) و(1384) وأراد أن يدمجها كلها في مادة واحدة وهي المادة (213) فجاءت هذه المادة وهي تفيض بهذه الشوائب التي بيناها.
لذلك وجب بحق في تقرير نظرية المسؤولية ضرورة الرجوع إلى المواد الفرنسية فيما ذهب فيه القضاء والفقه الفرنسيان في تفسيرهما، باعتبار أن الشارع المصري لم يرد مخالفة الشارع الفرنسي في شيء، إنما رمى فقط إلى مخالفته في الوضع دون المعنى والجوهر (دي هلس ج 4 صـ 118 ن 8).
لذلك لما جاء الشارع الأهلي سنة 1883 لم يشأ البتة تقليد زميله المختلط في هذا الوضع المشوب بل خالفه بعض المخالفة فيه بما سنبينه بعد.
5 - قررت المادة (214) مسؤولية السيد أو المخدوم عن أفعال خدمته متى وقعت وهم يؤدون العمل له، أي متى كان الضرر واقعًا منهم في حالة تأدية وظائفهم.
ويلاحظ على هذه المادة أنها قد قطعت من المادة (1384) الفرنسية التي جاءت جامعة شاملة.
6 - ثم قررت المادة (215) وهي الأخيرة من مواد المسؤولية مسؤولية مالك الحيوان عن الضرر الناشئ عنه سواء كان في حيازته أو متسربًا، وقد أخذت هذه المادة من المادة (1385) الفرنسية التي جاءت أتم منها إذ قررت مسؤولية المالك حتى ولو كان الحيوان تحت حيازة الغير، وهو ما لم تقل به المادة المختلطة وكان يجب أن تقول به.
7 - قررت المادة الأخيرة (1386) الفرنسية مسؤولية المالك للمباني bâtiments إذا تسبب عنها ضرر ناشئ عن تهدمها ruine فيما إذا كان هذا التهدم آتيًا من عدم العناية بها défaut d’entretien أو من عيب بنفس العمارة vice de construction ولم نرَ أثرًا لهذه المادة بالتشريع المختلط، ولا نعرف الحكمة في عدم نقلها بالقانون المختلط، كما أننا لم نعرف الحكمة لهذا الشارع المتعب في كونه لم ينقل بتشريعه أيضًا هذه الجملة الأخيرة الواردة بالفقرة الأولى من المادة (1384) فرنسي، وهي الفقرة الخاصة بمسؤولية الشخص عن الأشياء الموجودة تحت يده des choses que l’on a sous sa garde ولهذه الفقرة أهمية كبرى وصلة عظيمة جدًا بالمادة (1386) فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية responsabilité objective لأن المادة (1384) قررت مسؤولية الحائز للأشياء بوجه عام ولم تبح حق إقامة الدليل على عدم إمكان منع الضرر، كما أباحت هذا الحق بالنسبة للآباء والمربين فقط، أي أنها لم تبح إقامة الدليل على انتفاء التقصير بالنسبة لمالكي الأشياء أو الحائزين لها وبالنسبة للمخدومين وأرباب الأشغال، وهذا موطن صالح جدًا لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية كما ذهب إليه الأستاذ جوسران Josserand وكذلك المادة (1386) فإنها قررت مسؤولية المالك للمباني عند التهدم الناشئ عن عدم الصيانة وعن عيب لاصق بنفس العمارة ولم تبح هي الأخرى إقامة الدليل على انتفاء التقصير في حالة العيب اللاصق بالعمارة (لأن المسؤولية في حالة عدم الصيانة لا يؤخذ بها إلا عند عدم الصيانة، فإذا ثبتت الصيانة فلا مسؤولية)، وهذه أيضًا بيئة أخرى صالحة لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية أو نظرية الضمان Risqne. وقد ذهب بعض الشارحين إلى القول بأن هذه المادة لم ترد على سبيل الحصر في تقرير المسؤولية بالنسبة للمباني بل جاءت على سبيل التمثيل بالنسبة لجميع الأشياء وذلك استنادًا إلى التعميم الوارد بالعبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من المادة (1384) الخاصة بالأشياء.
فإذا كانت المادة (1384) والمادة (1386) الفرنسيتان هما بتلك الأهمية الكبرى في عالم التشريع والتفسير القضائي والفقهي فكيف جاز حينئذٍ للشارع المختلط وهو المحامي الفرنسي المشهور (مونوري) أن يغفل ذكرهما بينما كان قد بدأ فعلاً المعلق الشهير على الأحكام (لابيه Labbé) الإفاضة في الكتابة على المسؤولية بمجلة سيري Sirey الدورية؟ كيف يغفل أمرهما ومكانهما كما رأينا في عالم القانون؟ كل ما نستطيع أن نقوله في هذا الشأن كما لاحظناه أكثر من مرة في التشريع المصري من سنة 1875 إلى سنة 1183 تقريبًا أن المشرع المصري يُعنَى بالتقليد إلى حد أن ينسى أصول التقليد وأبجدياته، لذا نعيد القول بأن دعامة الشرح في هذه النظرية ما أقامه أطواد القانون في الوقت الحاضر من صروح النقد الحار وإشباع المبادئ القانونية بروح لا تجمد على نص صامت بل تشاد فوق أصول لحمتها الضرورات الاجتماعية وسداها العدالة كما أشار إلى ذلك بحق دي هلس (ج 4 ص 8 ن 2).
(ب) التشريع الأهلي:
أما وقد انتهينا من التشريع المختلط فنأتي الآن على بيان موجز أيضًا لأمر التشريع الأهلي.
لقد عُني بوضع القوانين الأهلية القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo وقد نسخ القوانين المختلطة وعدل فيها بالرجوع إلى الملاحظات الآتية:
1 - أنه جعل المادة أحيانًا تشمل المادتين في القانون المختلط.
2 - لاحظ ما أنتجه العمل القضائي من سنة 1875 إلى سنة 1883 وهي سنة وضع القوانين الأهلية.
3 - أنه خالف في كثير من نصوصه القانون المختلط.
والذي يهمنا من ذلك كله هو ما جاء في المواد الخاصة بنظرية المسؤولية، وقد فعل خيرًا الشارع الأهلي في أنه لم يعمل كما عمل الشارع المختلط في وضع المادتين (212) و(213) ذلك لأنه أدرك أن عبارة هاتين المادتين جاءت مشوهة تشويهًا غريبًا ذهب بالأصول القانونية المرجوة، لذا أخذ الشارع الأهلي يعالجهما، وقد أحسن الاختيار في طريق العلاج حيث إنه نقل المادة (1382) الفرنسية نقلاً وجعلها الفقرة الأولى من المادة (151) من القانون المدني الأهلي ونصها ما يأتي كالأصل المصري الفرنسي العبارة
(Tout fait quelconque de l’homme, qui cause â autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé, â le réparer.)
ثم ورد هذا النص بالنسخة العربية المصرية الأهلية كما يأتي:
(كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر) ومن مقارنة النصين مع بعضهما البعض نرى أن بالنص العربي نقصًا يكاد يذهب بركن أساسي قديم معروف في عالم نظرية المسؤولية وهو ركن التقصير Faute الذي كان دائمًا وأبدًا حتى قبيل العهد الأخير الدعامة التي ترتكن إليها نظرية المسؤولية، لأن كلمة التقصير وردت بالنسخة الفرنسية فأغفلها المترجم إغفالاً جعل النص محلاً للأخذ والرد فيما يتعلق بنظرية استعمال الحق والاعتساف في استعمال الحق Abus du droit والمسؤولية الشيئية Responsabilité objective، وإذا أخذ النص العربي على ظاهره لكان هادمًا لأبسط المبادئ القانونية لأن ظاهره يقرر أن الإنسان مسؤول عن جميع الأضرار التي تصيب الغير بفعله هو، وأيًا كان فعله مشروعًا وغير مشروع، وهذا أمر مستحيل عملاً وعمرانًا، لأن الحياة هي دائمًا وأبدًا في كل عصر وفي كل بيئة عبارة عن مصارعة ومزاحمة بين الأشخاص: هي كسب لفريق وخسارة على فريق آخر، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل منفعة، ويستحيل أن يحصل تحصيل المنفعة دون إلحاق نقص بأموال الغير، والمعاملات بين الناس تشاد فيما بينهم في الأخذ بأكثر من الإعطاء، فإذا كان كذلك وأخذت المادة الأهلية العربية على ظاهرها لترتبت على ذلك استحالة مادية في عالم الحياة: وهذا ما لم يرده الشارع طبعًا، لذا وجب وضع النص العربي بطريقة تتفق تمامًا مع النسخة الفرنسية، بأن تضاف عبارة (بسبب تقصيره) بعد كلمة (فاعله)، وكان يحسن بالشارع الأهلي أن يضع مادة جديدة عقب المادة (151) هذه أو أن يدمجها بها ويكون مرمى المادة الإلمام بنظرية التمتع بالحقوق ومتى يعتبر مشروعًا ومتى يعتبر مصدرًا للتعويض كما فعل ذلك القانون الألماني بالمادة (220) حيث قررت هذه الأخيرة ما يأتي: (لا يباح التمتع بالحق إذا كان الغرض منه منصرفًا إلى إلحاق الضرر بالغير) وهذا المبدأ هو المقرر للنظرية الشهيرة جدًا المعروفة بنظرية الاعتساف في استعمال الحقوق Abus des droits وهي النظرية التي قررها القضاء المصري مختلطًا وأهليًا بأحكام عدة.
أما الفقرة الثانية من المادة (151) فهي نفس المادة (213) مدني مختلط حرفًا بحرف، وما ذكرناه بشأن العيوب الوضعية للمادة (213) مختلط يمكن أن يقال به هنا فلا حاجة لتكراره، وكان يجب على الشارع الأهلي إذا أراد أن يجعل فقرتي المادة (151) متماسكتين ومتلازمتين في تأدية معانٍ منسجمة أن يذكر بالفقرة الأولى ما يشير أيضًا إلى أشباه الجنح الخاصة بفعل الإنسان نفسه كالإهمال والطيش وهما المشار إليهما بالمادة (1383) الفرنسية، ولكن نسارع إلى ملاحظة أن الشراح لاحظوا أن المادة (1383) إنما جاءت تكرارًا للمادة (1382) باعتبار أن هذه المادة الأخيرة تؤدي المعنى الذي قالت به المادة (1383) باعتبار أن التقصير يكون إما إيجابيًا أو سلبيًا، ومع وجاهة هذه الملاحظة أيضًا فإن وضع المادة (151) بفقرتيها يعتبر مع ذلك غير وجيه، لأنه كان يجب ذكر عبارة (الإهمال والطيش) بالفقرة الأولى، وجعل عبارة (عدم الملاحظة) بالفقرة الثانية حتى تكون الفقرة الأولى شاملة للتقصير الإيجابي والسلبي من طريق التعيين، وحتى تكون الفقرة الثانية قاصرة فقط على عدم الملاحظة، مع الإحالة على الفقرة السابقة عليها، أو أن الشارع الأهلي يحذف عبارة الإهمال والطيش من المادة (151) باعتبار أن كلمة التقصير الواردة بالفقرة الأولى تنصرف إلى التقصير الإيجابي والسلبي معًا، لأنه عند عدم التعيين في التقصير ينصرف المعنى إلى التعميم.
هذا التشويه الذي وقع فيه الشارع الأهلي سببه التشريع المختلط الذي كان موضوعًا بين يديه.
وكان على الشارعين الأهلي والمختلط أن يلاحظا هما الآخران ما لاحظه شراح القانون الفرنسي على المادة (1382) فلا يقعان فيما وقع فيه الشارع الفرنسي سنة 1804 إذ لوحظ على المادة (1382) في قولهما Tout fait quelconque أن كلمة quelconque غير صحيحة بجانب كلمة التقصير Faute لأنه ليس كل عمل fait يعتبر ملزمًا بالتعويض، إنما هو العمل التقصيري fait fautif، هذا مع ملاحظته أيضًا أن أنصار نظرية المسؤولية الشيئية يرون في كلمة التقصير الواردة بالمادة (1382) الفرنسية أنها لم ترد من طريق التعيين والتحديد للعمل الضار في ذاته، إنما جاءت فقط من طريق الإيضاح والتفسير، باعتبار أن العمل الضار يعتبر في ذاته مصدرًا للالتزام بالمسؤولية بصرف النظر عما إذا كان قد شابه تقصير أم لا، ويكون المسوغ القانوني حينئذٍ للمسؤولية هو قاعدة الغرم بالغنم لا التقصير، مع ملاحظة أن ذلك لا يتعارض مع حق استغلال الحقوق والمزاحمة في مجال الحياة باعتبار أن للمسؤولية الشيئية مجالاً للعمل غير مجال الانتفاع بالحقوق وتصريفها في وجوهها المشروعة.
ولم يقرر الشارع الأهلي ما قررته المادة (212) مختلط من حيث عدم المسؤولية عند عدم إدراك المتسبب في الضرر، وبماذا يفسر هذا السكوت؟ هل أراد الشارع الأهلي مخالفة الشارع المختلط مخالفة ظاهرة، أي أنه أراد أن لا يأخذ بنظرية شرط الإدراك في المسؤولية المدنية، وأن التعويض حتمي ولو كان المقصر غير مدرك؟ أم أنه أراد أن يقلد الشارع الفرنسي في المادة (1382) التي قررت قاعدة المسؤولية بوجه عام تاركةً أمر التفصيل إلى ظروف الحال وما تمليه هذه على القضاء؟ أم أن الشارع الأهلي أراد بسكوته أن يجاري القضاء الفرنسي فيما ذهب إليه من ضرورة شرط الإدراك (مع ملاحظة أن القضاء الفرنسي حكم سنة 1866 كما بينّا بعدم شرط الإدراك)؟
أمام صمت الشارع الأهلي كان للشكوك والأخذ والرد مجال، وإذا كان الأمر كذلك وجب حينئذٍ تقرير نظرية تتفق مع الأصول القانونية والعدالة.
ولكن قبل تقرير هذه النظرية التي تتفق مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة، وهي النظرية القائلة بعدم توافر شرط الإدراك لما في ذلك من الخلط بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، كما بينّا ذلك في مكانه، نرى أولاً ضرورة معرفة ما هو الرأي الذي يمكن أن يكون قد اتخذه الشارع أمام هذا الصمت الهادئ؟
الذي نقول به بلا تردد أن الشارع الأهلي لو كان أراد أن يأخذ بما قررته المادة (212) المختلطة لكان نقلها حرفًا بحرف إلى تشريعه، وأما كونه لم ينقلها فهذا يقطع على أنه لم يرد الأخذ بها أو على الأقل يقطع في أنه لم يرد البت في هذه النظرية بل تركها لأمر القضاء والفقه.
وأما كونه رجع فيها إلى ما قرره القضاء الفرنسي في ضرورة شرط الإدراك فقد رأينا أن هذا القضاء قضى بعكس ذلك سنة 1866، والذي يهمنا من ذلك كله أن في سكوت الشارع ما يبرر للقضاء والفقه حق تقرير قاعدة قانونية تلتئم مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة.
ولذا نقول بحق بأنه أمام هذا الصمت الأهلي يجب الأخذ بنظرية ضرورة التعويض أي الأخذ بنظرية المسؤولية المدنية وعدم خلطها بنظرية المسؤولية الجنائية كما لاحظ ذلك بلانيول بحق، وكما فعل الشارع الألماني بالمادة (829) في معالجته للمادة (827).
وأما ما قرره القضاء المصري من ضرورة اشتراط الإدراك فهو لم يكن مقنعًا إلى حد التردد فيما تقرره (محكمة أجا الجزئية في 22 يناير سنة 1918، المجموعة الرسمية المجلد 19 صـ 133).
وقد نقل الشارع الأهلي المادتين (214) و(215) مدني مختلط حرفًا بحرف وصاغهما بالمادتين (152) و(153) مدني أهلي، وهاتان المادتان لا تكفيان لتقرير نظرية المسؤولية في باقي وجوهها الأخرى وهي الوحيدة التي أشار إليها الشارع الفرنسي بالمادة (1384) فقرة أولى فيما يتعلق بالمسؤولية الناشئة عن الأشياء الجامدة، وبالمادة (1386) الخاصة بالمسؤولية الناشئة عن تهدم المباني، ولهذا النقص في التشريع المصري مختلطًا وأهليًا مثار للقول فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية، وهي هذه النظرية التي احترقت لها أقلام الكاتبين قبل سنة 1898 والآن أيضًا، وعلى الأخص فيما يتعلق بمصرنا لأنه لم يتقرر للآن ببلادنا قوانين للعمال تقوية بنظرية الضمان الصناعي risque professionnel.
عبد السلام ذهني
مدرس بمدرسة الحقوق الملكية
أثر حكم البراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد على دعوى التعويض
مجلة المحاماة – العدد الخامس
السنة التاسعة عشرة سنة 1939
بحث
أثر حكم البراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد على دعوى التعويض أمام المحكمة المدنية إذا بنى الحكم على نفي الخطأ
(لصاحب العزة زكي بك خير الأبوتيجى رئيس النيابة لدى محكمة النقض الدائرة المدنية)
1 - أثر القضاء الجنائي على المدني وحكمته وأساسه القانوني:
قد يبدو غريبًا أن يقال إن الحكم الجنائي يحوز قوة الشيء المحكوم به أمام المحكمة المدنية في موضوع مدني بحت مع اختلاف الموضوع والسبب والأخصام في كلتا الدعويين الجنائية والمدنية ففي الأولى يكون الموضوع والسبب هو الفعل الجنائي أو الجريمة المسندة إلى المتهم وخصمه النيابة العمومية وليس الأمر كذلك في الدعوى المدنية وعلى الأخص في دعوى مطالبة المجني عليه وورثته بالتعويضات المدنية من المتهم.
ولهذا لا يمكن الاستناد إلى نص المادة (232) من القانون المدني التي تنص على حجية الأحكام وقوتها على شرط اتحاد الموضوع والخصوم والسبب.
ولكن مصلحة اجتماعية هامة تقضي بأن يحترم القاضي المدني ما يحكم به القاضي الجنائي حتى لا تتضارب الأحكام المدنية مع الجنائية وحتى لا يخامر الجمهور الشك في عدالة الأحكام الجنائية التي ترمي إلى توطيد الأمن والطمأنينة بين الناس وكما يقول ميرلان أنه مما يبعث على الاضطراب وهياج الأهالي أن تقضي المحكمة برفض دعوى التعويض استنادًا إلى أن من نسب إليه التهمة لم يرتكب جريمة القتل بعد أن صدر الحكم من محكمة الجنايات بإعدامه وبعد أن نفذ الحكم فعلاً.
لذلك تحتم الضرورة الاجتماعية على القاضي المدني أن يحترم الأساس الذي قام عليه الحكم الجنائي (انظر كتاب كولان وكابتان طبعة أخيرة جزء (2) بند (493) صفحة (459)).
أما الأساس القانوني فإن الشارع الفرنسي نص في الفقرة الثانية من المادة الثالثة من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي على أن نظر الدعوى جنائيًا يوقف سير الدعوى المدنية وبنى الشراح على هذا الأساس وجوب احترام الحكم الجنائي حتى لا يتخاذل معه الحكم المدني ولا ينفي ما أقره.
ولو أن القانون المصري لم ينقل نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي إلا أنه قد أصبح هذا المبدأ أوليًا في القضاء المصري الحديث (تراجع الأحكام العديدة الصادرة من محكمة النقض في المواد الجنائية ومحكمة الاستئناف التي تقرر هذا المبدأ في كتاب مرجع القضاء في القانون المدني تحت رقم (5825) وما بعده).
وهذا بعد أن ترددت المحاكم المصرية في الأخذ بهذا المبدأ (انظر حكم محكمة الاستئناف الصادر في 31 أكتوبر سنة 1901 الذي يقول بإنه لا يوجد نص في القانون يقضي بأن ترتبط المحاكم المدنية بالأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية وانظر عكس ذلك حكم محكمة النقض الصادر في أول يونيو سنة 1926 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 7 صفحة (355)).
ويقول دوهلس في كتابه شرح القانون المدني المصري جزء أول صفحة (305) بند (130) تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به) أن هذه القاعدة يجب العمل بها في مصر طالما أن هذا هو روح التشريع الفرنسي الذي يعتبر التشريع المصري وليده ولأنه لم يرد أي نص في القوانين المصرية يناقض هذا المبدأ (انظر عكس هذا الرأي في مقالة الأستاذ مرقص بك فهمي الواردة في مجلة المحاماة سنة 3 صفحة (315)).
هذا وقد سنحت الفرصة أخيرًا للشارع المصري ليفصح عن هذا المبدأ فورد النص في القانون رقم (57) سنة 1937 الخاص بإصدار قانون تحقيق الجنايات المختلط في المادة (19) ما يأتي:
(إذا استلزم الفصل في دعوى مرفوعة أمام محكمة مدنية أو تجارية معرفة ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتكبت أو إذا كانت قد وقعت من شخص معين يجب على تلك المحكمة أن تفصل في المنازعات المتعلقة بذلك طبقًا لما قضى به نهائيًا من المحكمة الجنائية التي فصلت في الدعوى ولو كانت قد طبقت قواعد الإثبات الخاصة بالمواد الجنائية - ويوقف الفصل في الدعوى المدنية إذا رفعت الدعوى الجنائية قبل الفصل فيها نهائيًا).
ويلاحظ أن البحث في هذا المقام مقصور على نوع واحد من الأحكام الجنائية وفي موضوع مخصص وهي أحكام البراءة الصادرة من المحاكم الجنائية في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد استنادًا إلى أن المتهم لم يرتكب خطأ أو إهمالاً وأثرها على دعاوى التعويض التي يرفعها المجني عليه أمام المحكمة المدنية لذلك يجب أن تضيق دائرة بحثنا في نطاق هذه الدائرة فلا يتناول غير ذلك من الأحكام الجنائية كأحكام الإدانة أو أحكام البراءة لعدم ثبوت التهمة أو لأن الفعل لا يعد جريمة أو غير ذلك فهي تخرج عن هذا البحث.
2 - رأي الفقه في فرنسا وبلجيكا:
قد ذهب المؤلفون في فرنسا في هذا الموضوع إلى رأيين فالرأي الأول الذي قال به معظم الأقدمين وبعض المحدثين من الشراح - مؤداه أن حكم البراءة إذا بنى على نفي الخطأ عن المتهم فلا يقيد القاضي المدني في الفصل في دعوى التعويض الناشئ عن هذا الفعل ويعللون ذلك بأن وظيفة المحكمة الجنائية البحث في الجريمة فقط فإذا قضت بالبراءة فتكون قد استبعدت الخطأ الجنائي دون سواه وليس لها أن تتعرض إلى الخطأ المدني لأنه ليس من اختصاصها ثم إن كل فعل إذا تجرد من الخطأ الجنائي يبقى فيه بقية من الخطأ المدني لأن الخطأ الجنائي فاحش وجسيم والثاني قد يكون تافهًا ويسيرًا ويقول أوبرى ورو تأييدًا لهذا الرأي أن الإهمال في حوادث القتل خطأ يجوز أن يكون كافيًا لاعتبار خطأ مدنيًا وأساسًا للحكم بالتعويض المدني ومع ذلك يجوز أن لا يعتبر خطأ جنائيًا ولا يستأهل هذا الخطأ اليسير عقابًا.
ومن أنصار هذا الرأي أوبري ورو في كتابهما جزء (2) صفحة (470) بند (769) مكرر ومرلان تحت عنوان تعويض مدني بند (2) ودورانتون جزء (8) بند (486) وما بعده وماتيجان تحت عنوان دعوى عمومية جزء (2) بند (423) وما بعده ولارومبير جزء (5) تعليقات على المادة (351) بند (177) وأيضًا جريو لييه في تعليقه على دالوز سنة 1869 جزء أول صفحة (170) وانظر تعليق ربير في دالوز سنة 1925 جزء أول ص (6) وشوفو تحقيق جنايات صفحة (947) وديمولومب جزء (30) بند (427) وهيك جزء (8) بند (340) وانظر أيضًا لاكوست بند 1124.
3 - الرأي الثاني:
مؤداه أن الحكم الذي يصدر من محكمة الجنح ببراءة المتهم في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بنى على أنه لا إهمال ولا رعونة من جانب المتهم في الفعل المسند إليه فإنه مانع من سماع دعوى التعويض المدني التي تقام على أساس هذا الفعل بالذات ويعلل كولان وكابيتان هذا الرأي في كتابهما القانون المدني جزء (2) طبعة أخيرة صفحة (460) بند (496) بأن جميع صور الخطأ والإهمال مندرجة في عموم النص الوارد في قانون العقوبات مادة (319) في فرنسا ومادتي (202) و (208) قانون عقوبات أهلي قديم ومادة (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد فإذا قال القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب إهمالاً ما فلا يسوغ للقاضي المدني أن يحكم بالتعويض على أساس أنه ارتكب خطأ وإلا فإنه يكون متناقضًا مع حكم المحكمة الجنائية الذي يجب احترامه والأخذ بما حكم به.
ويقول هنري وليون مازو في كتابهما المسؤولية المدنية جزء (2) صفحة (625) بند (1823) وبند 1856 أن النص الوارد في المادتين (319) و (320) عقوبات فرنسي المقابلتين للمادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الأهلي الجديد شامل لكل أنواع الخطأ فالإهمال الجنائي يجب كل صورة من صور الإهمال أو الخطأ المدني مهما كان يسيرًا englobe toute faute personnelle ونص قانون العقوبات عام بحيث لا يدع مجالاً لافتراض أي إهمال آخر ولو كان يسيرًا فإذا نفاه الحكم الجنائي فلا يسوغ للمحكمة المدنية أن تسمع دعوى التعويض على أساس الإهمال الذي كان موضوع التهمة - ويقول سافاتييه في مجلة دالوز سنة 1930 جزء (51) صفحة 40 أن اندماج الخطأ المدني في الخطأ الجنائي الذي هو أساس جريمة القتل أو الجرح بلا تعمد أصبح الآن مبدأ مستقرًا ومضطردًا ويقول جارسون في شرح المادتين (319) و (320) من قانون العقوبات الفرنسي بند (16) بأن نص هاتين المادتين عام وشامل بحيث لا يوجد أي نوع من أنواع الإهمال أو الخطأ لا يستطيع القاضي أن يدمجه فيه وأن الشارع لم يدع مجالاً لأن يستثني من النص سوى حوادث العوارض فقط.
(انظر هذا الرأي في كتاب بلانيول وربير واسمين بند (679) وبند (673) وفي تعليق اسمين في سيرى سنة 1930 جزء أول صفحة (177) - وجارو شرح قانون العقوبات طبعة ثالثة جزء (6) صفحة 346 بند (2350) - وجارسون تعليق على المادتين (319) و (320) بند (16) وانظر أيضًا جلاسون وتسييه مرافعات عدد (3) بند (777)).
وجاء في الموسوعات البلجيكية تحت عنوان قوة الشيء المحكوم به بند (319) أن الرأي المجمع عليه تقريبًا في الفقه والقضاء هو أنه لا يمكن تصور أي فارق في درجة الجسامة بين الإهمال الذي هو عنصر لجريمة القتل أو الجرح خطأ والإهمال الذي يتكون منه الخطأ المدني.
4 - أحكام محكمة النقض الفرنسية وترددها بين الرأيين والمبدأ الذي استقرت عليه أخيرًا:
ليس هناك مسألة قانونية تناقضت فيها أحكام محكمة النقض الفرنسية مثل تناقضها في هذا الموضوع ويمكن بيان الأطوار التي عرجت فيها تلك المحكمة بين الرأيين المشار إليهما آنفًا كما يأتي:
أولاً: قضت محكمة النقض الفرنسية في بعض أحكامها القديمة بأنه لا يمكن قيام أية مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة جنائيًا وهذا المبدأ وارد في الحكم الصادر في 7 مارس سنة 1857 والمنشور في دالوز سنة 1855 جزء أول صفحة (81).
ثانيًا: وفي حكمها الصادر في 17 مارس سنة 1874 والمنشور في دالوز سنة 1874 جزء أول صفحة (399) قالت محكمة النقض الفرنسية بأنه يجوز أن يتخلف خطأ يسير يترتب عليه مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة وبعد أن تنفي المحكمة الجنائية الخطأ عن المتهم.
وهذا المبدأ ورد أيضًا في الحكمين الصادرين من دائرة العرائض في 31 مايو سنة 1892 والمنشور في دالوز سنة 1892 جزء أول صفحة (381) والصادر في 7 نوفمبر سنة 1894 والمنشور في سيرى سنة 1895 جزء أول صفحة (46).
ثالثًا: ومنذ سنة 1912 عدلت محكمة النقض الفرنسية عن ذلك المبدأ وقالت بأنه لا محل لافتراض أي خطأ مدني بعد أن تقضي المحكمة الجنائية بالبراءة إذا استند حكم البراءة إلى أن المتهم لم يرتكب أي إهمال - وجاء في حكمها الصادر في 18 ديسمبر سنة 1912 والمنشور في دالوز سنة 1915 جزء أول صفحة (17) الأسباب الآتية:
Attendu que les arts/ 319 & 320 Code Pénal puinissent de peines correctionnelles qui conque, par maladresse, imprudence, inattention, negligence ou inobservation des reglements, a commis involontairement un homicide ou causé des blessures sans que la legerté de ta laule commis, puisse avoir d’autre effet que d’attenuer la peine incourue.
وجاء أيضًا في الحكم الصادر من تلك المحكمة في 10 يونيو سنة 1914 والمنشور في سيرى سنة 1915 جزء أول صفحة 70 ما يأتي:
Attendu que les arts, 319 et 320 Code Penal punissent de peines correctionnelles (qui - conque) par maladresse, imprudence, inattention, negligence, inobservation des reglements, a causé involontairement des blessures, sans distinguer suivant la gravité de la faute commise; d ‘où il suit que lorsque la juridiction correctionnelle a acquitté un prevenu de blessures involontaires, le juge civil ne peut, sans contredire la chose jugée, le condamner à des dommages - intèrêt envers la partie qui prétend lésée si celle - ei ne relève contre lui en dehors de l’imprudence et de l’inobservation des reglements aucune autre circonstance de nature à engager sa responsabilité.
وهذا المبدأ قد ورد أيضًا في الأحكام الصادرة من محكمة النقض الفرنسية الآتي بيانها:
- حكم محكمة النقض في 28 مارس سنة 1916 والمنشور في دالوز سنة 1920 جزء أول صفحة (25).
- حكم دائرة العرائض في 12 يناير ستة 1917 والمنشور في دالوز سنة 1922 جزء أول صفحة (52).
- حكم دائرة العرائض في 12 يوليو سنة 1917 والمنشور في سيرى سنة 1918 جزء أول صفحة (212).
- حكم محكمة النقض في 10 يونيو سنة 1918 والمنشور في سيرى سنة 1922 جزء أول صفحة (52) حكم محكمة النقض في 20 نوفمبر سنة 1920 والمنشور في دالوز سنة 1924.
رابعًا: حادت محكمة النقض الفرنسية عن هذا المبدأ في بعض الأحكام في حوادث اصطدام السفن إذ جاء في الحكم الصادر في مايو سنة 1924 والمنشور في دالوز سنة 1925 جزء أول صفحة (12) أن الحكم الصادر من المحكمة التجارية بالبراءة في تهمة الاصطدام لانتفاء الخطأ لا يمنع من أن تحقق المحكمة المدنية في شبه الجنحة المدنية التي يترتب عليها المسؤولية المدنية.
وكذلك في الأحكام الصادرة من مجلس الجيش بفرنسا ببراءة بعض رجال الجيش من تهمة القتل خطأ قضت محكمة النقض في حكمها الصادر في 29 يوليو سنة 1922 والمنشور في سيرى سنة 1925 جزء أول صفحة (321) بجواز سماع الدعوى المدنية بالتعويض رغمًا عن هذه الأحكام (انظر أيضًا الحكم الصادر في 14 يناير سنة 1925 والمنشور في دالوز سنة 1926 جزء أول صفحة (189) والحكم الصادر في 8 فبراير سنة 1926 والمنشور في الجازيت سنة 1926 جزء ول صفحة (628)).
ولكن يظهر أن الذي حمل محكمة النقض الفرنسية على الشذوذ عن القاعدة العامة هو أن هذه الأحكام لم تشتمل على أسباب البراءة وبعضها اقتصر على ذكر عبارة أن المتهم غير مذنب فقط فلم تتبين المحكمة السبب الذي بنى عليه حكم البراءة لذلك أجازت للمحكمة المدنية أن تحقق وقائع الإهمال من جديد.
خامسًا: أخيرًا استقر قضاء محكمة النقض الفرنسية على المبدأ الثاني القائل بأن لا يمكن تصور أي خطأ مدني بعد نفي الخطأ الجنائي عن المتهم ولذلك لا يجوز سماع الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة إذا بنى الحكم على أنه لم يكن هناك خطأ أو إهمال في الفعل المسند إلي المتهم.
وهذا المبدأ اضطرد في الأحكام الآتية:
- حكم النقض الصادر في 16 يوليو سنة 1928 والمنشور في دالوز سنة 1929 جزء أول صفحة (33).
- حكم النقض الصادر في 15 يناير سنة 1929 دالوز أسبوعي سنة 1929 صفحة (116).
- حكم النقض الصادر في أول ديسمبر سنة 1930 جازيت المحاكم سنة 1931 جزء أول صفحة (80).
- حكم النقض الصادر في 17 إبريل سنة 1931 جازيت المحاكم سنة 1921 صفحة (37).
- حكم النقض الصادر في 10 مايو سنة 1932 دالوز أسبوعي سنة 1932 صفحة (380).
- حكم دائرة العرائض في 24 أكتوبر سنة 1932 جازيت المحاكم سنة 1932 جزء (2) صفحة (936).
- حكم دائرة العرائض في 14 نوفمبر سنة 1933 جازيت المحاكم سنة 1934 جزء أول صفحة (176) وجاء في بعض هذه الأحكام العبارة الآتية:
La faute pènale des articles 319 et 320 du Code pènal contient tous les elements de la faute civile.
ويقول هنري وليون مازو في صفحة (625) من المرجع المشار إليه آنفًا إن هذا المبدأ قد ساد في القضاء الفرنسي بعد أن ترددت المحاكم فيه ردحًا من الزمن.
5 - مذهب القضاء البلجيكي:
أما الرأي الذي ساد في الأحكام البلجيكية فهو ما استقرت عليه محكمة النقض الفرنسية أي عدم جواز سماع دعوى التعويض بعد الحكم ببراءة المتهم بالقتل أو الجرح بغير عمد إذا كان الحكم الجنائي قد نفى وقوع الخطأ
(انظر حكم محكمة بروكسل الصادر في 27 فبراير سنة 1932 والمنشور في سيري سنة 1932 جزء (4) صفحة (210) وكذلك الأحكام العديدة الواردة في الموسوعة البلجيكية تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به).
وانظر أيضًا حكم محكمة بروكسل الصادر في 12 إبريل سنة 1929 - المنشور في البازكريزى سنة 1930 جزء (3) صفحة (76).
والحكم الصادر في 18 يونيو سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (13).
والحكم الصادر في 16 أكتوبر سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (52).
والحكم الصادر في 11 إبريل سنة 1933 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1933 جزء (3) صفحة (197).
وجاء في هذه الأحكام أن الحكم بالبراءة في حوادث الإصابة بغير عمد يمنع من رفع الدعوى المدنية عن هذه الحوادث لأن الخطأ الجنائي المنصوص عليه في المادتين (418) و (426) من قانون العقوبات البلجيكي يجب كل خطأ آخر.
6 - رأي الشارحين للقانون المصري:
يقول جرانمولان في كتاب تحقيق الجنايات المصري جزء (2) صفحة (279) بند (1044) أن الحكم الصادر بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد لا يحول دون سماع دعوى المجني عليه التي يرفعها أمام المحكمة المدنية مطالبًا بالتعويض الذي نشأ عن الأفعال التي كانت موضوع الاتهام ذلك لأنه إذا كان الإهمال غير كافٍ لتكوين الجريمة وتوقيع العقاب على المتهم إلا أنه يجوز أن يكفي لترتب مسؤوليته المدنية.
وجاء في رسالة الإثبات لأحمد بك نشأت صفحة (347) بند (594) أنه إذا حكم بالبراءة لعدم وجود خطأ جنائي بالمرة كالمبين في المواد (202) و (208) و (315) عقوبات فإن هذا الحكم يمنع من وقوع خطأ مدني مما نص عليه في المواد (151) و (152) و (153) مدني الخ.
وورد رأي يخالف هذا الرأي في كتاب الالتزامات لعبد السلام بك ذهني جزء (2) صفحة (474) ومؤداه ما يأتي:
أنه إذا قضى الحكم الجنائي ببراءة متهم منسوب إليه القتل خطأ واستند الحكم إلى أنه لم يثبت إهمال أو خطأ من المتهم فلا يجوز رفع دعوى تعويض عليه فيما بعد بشأن هذا الوصف الذي فصل فيه الحكم الجنائي (انظر مقال الأستاذ سامي مازن في مجلة القانون والاقتصاد جزء (2) صفحة (330)).
7 - رأي القضاء المصري:
أخذت المحاكم المصرية تعرج بين المذهبين فالبعض قضى بأحد الرأيين والبعض الآخر بالمذهب الثاني كما يأتي مع ملاحظة أنه لا يمكن القول بأن المحاكم اتخذت مبدأ ثابتًا مستقرًا في هذه المسألة.
أولاً: قضت محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 23 ديسمبر سنة 1930 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 32 عدد (192) صفحة (394) أن الحكم الصادر من محكمة الجنح بالبراءة في حوادث القتل الخطأ لا يمنع المحكمة المدنية من البحث في المسؤولية إلا إذا كان حكم البراءة مبنيًا على انتفاء الإهمال وعدم وجود مسؤولية جنائية.
وفي الحكم الصادر من تلك المحكمة في 17 نوفمبر سنة 1931 المنشور في المجموعة الرسمية سنة 33 عدد (116) صفحة (222) تقول محكمة الاستئناف أن المحاكم المدنية مقيدة بالأحكام الجنائية النهائية فيما ورد بها خاصًا بترتيب المسؤولية قبل المتهم فلا يقبل منه المناقشة فيها إذا ما رفعت عليه دعوى التعويض.
ثانيًا: وصدرت أحكام أخرى قائلة بالرأي المخالف ومن هذا:
الحكم الصادر من محكمة استئناف مصر بتاريخ 10 إبريل سنة 1927 – والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (59) صفحة (95) والذي جاء فيه أنه لا يكفي للسائق أن يبين أنه لم يقع منه خطأ مطلقًا أو أن سبب الحادثة بقى مجهولاً للتخلي عن المسؤولية المدنية بل تبقى مسؤوليته قائمة في الحالتين حتى ولو قضى جنائيًا بالبراءة لعدم قيام الدليل على وجود خطأ معين أو إهمال.
وفي الحكم الصادر من محكمة طنطا الابتدائية في تاريخ 13 يناير سنة 1926 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (11) صفحة (14).
ورد أن للمحكمة المدنية أن تبحث فيما إذا كانت الوقائع المنسوبة للمتهم تعتبر شبه جنحة يترتب عليها مسؤولية مدنية بالرغم من حكم البراءة.
وورد في الحكم الصادر في 14 ديسمبر سنة 1929 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 10 صفحة (598) أن حكم البراءة لا يرتبط به القاضي المدني إذا حكم في جريمة قتل خطأ أو المتهم لم يرتكب إهمالاً أو خطأ لاختلاف ماهية الخطأ أو الإهمال من الوجهة الجنائية عنها من الوجهة المدنية في حالة القتل خطأ.
أما المحاكم المختلطة فإنها لم تسلم بحجية الأحكام الجنائية الصادرة من المحاكم القنصلية أو المحاكم الأهلية إطلاقًا لاختلاف ولاية القضاء.
(حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 4 مايو سنة 1921 مجموعة مختلطة سنة 33 صفحة (305)) لذلك لم تتح الفرصة لتلك المحاكم لإبداء رأيها في هذا الموضوع.
رأينا في هذا الموضوع
من القواعد الأولية أن الأحكام الجنائية تصدر ضد الكافة erge omnes بمعنى أن لها الحجية المطلقة على المتهم ولدى جميع الناس وقبل المجني عليه أيضًا حتى ولو لم يعلن أو لم يتدخل في الدعوى العمومية.
ووجه هذا ظاهر لأن الجرائم ماسة بالنظام والأمن في الدولة فاحترام الملأ للأحكام الصادرة فيها تقتضيه المصلحة العامة حتى تكون رادعة وعبرة للغير وفضلاً عن ذلك فإن النيابة العمومية التي يتحتم حضورها في الجلسة تمثل الهيئة الاجتماعية وتمثل جميع الحقوق على السواء سواء حضر المتهم والمجني عليه أو لم يحضرا وناهيكم عن أنه من المستحيل عقلاً ومادة إدخال كافة الناس في الدعوى العمومية لتكون الأحكام حجة على الجميع.
ومتى بان هذا كان الحكم الجنائي واجب الاحترام من القاضي المدني إذا ما رفعت الدعوى المدنية إما من المتهم أو المجني عليه أو ورثتهما وتكون حجة على الخصوم وله قوة الشيء المحكوم به بحيث لا يسوغ إصدار حكم مدني يتناقض معه وإلا أهدرت حجته.
وإذا كان بعض أئمة القانون في فرنسا يسندون هذه الحجية إلى نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الذي ينص على أن الدعوى الجنائية توقف سير الدعوى المدنية - هذا النص الذي لم ينقله الشارع المصري فإنه يكفي لتبرير هذه الحجية ويعللها في مصر أن تنهض على الأساس الذي أوضحناه أي أن الأحكام الجنائية أحكام ضد الكافة ولها حجة مطلقة لا نسبية وعلى القاضي المدني احترامها لهذا السبب.
ويتفرع على هذه الكلية الجزئيات الآتية:
أولاً: أن المنطق السليم يقضي بأن حجية أية مبدأ أو مسألة تتناول حتمًا الأساس الذي تنهض عليه فإذا كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام فيجب قانونًا وعقلاً احترام الأساس الذي بنيت عليه وتفريعًا على هذا إذا صدر الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح العمد استنادًا إلي أن المتهم لا يمكن أن يعزي إليه إهمال في الواقعة المسندة إليه بالذات فيكون سند الحكم هذا واجب الاحترام حتمًا وعلى القاضي المدني أن يتخذه قضية مسلمة لا تقبل فيه النقاش وعلى هذا يجب أن يمتنع عن سماع الدعوى المدنية إذا أقامها المجني عليه على ما يهدر هذا الأساس.
ولو أن العبرة في الحجية لمنطوق الأحكام إلا أن الأسباب التي تتصل بالمنطوق صلة المقدمة بالنتيجة والسبب بالمسبب تحوز أيضًا قوة الشيء المحكوم به فلا حرج إذن في تلمس سند حكم البراءة من أسبابه.
ثانيًا: يجب أن يضع القاضي المدني نفسه موضع القاضي الجنائي نفسه عند بيان مدى احترام الأحكام الجنائية والاستمساك بحجيتها لأنه ليس من الطبيعي أن يكون القاضي الجنائي أقل احترامًا لقضائه من القاضي المدني ولذلك لا يطلب من القاضي المدني أن يغالي في الاحترام حتى يفوق في ذلك من أصدر هذه الأحكام ويتفرع على هذا أن ما يلتزم القاضي الجنائي باحترامه يلزم القاضي المدني به عند نظر الدعوى المدنية وإلا فلا.
ومن الأوليات القانونية أن قوة الشيء المحكوم به في الأحكام الجنائية لا تتعدى الأفعال المسندة إلى المتهم والواردة في وصف التهمة والتي طرحت أمام المحكمة والتي أتيح للمتهم حق الدفاع عن نفسه فيها - أما الأفعال والوقائع الأخرى فتخرج عن هذه الحجية بمعنى أنه يجوز رفع الدعوى العمومية مرة أخرى على أساس هذه الأفعال الجديدة (انظر هذا المبدأ الذي اضطرد في قضاء محكمة النقض والإبرام المصرية الدائرة الجنائية في قضية الطعن رقم (894) سنة 4 قضائية في الحكم الصادر في 29 أكتوبر سنة 1934 وفي الحكم الصادر في قضية الطعن رقم (1625) سنة 4 قضائية بتاريخ 28 يناير سنة 1935 الذي قرر مبدأ جواز رفع دعوى إخفاء أشياء مسروقة بعد الحكم بالبراءة من تهمة السرقة في نفس الحادثة).
ومتى ثبت هذا ساغ للقاضي المدني أن يسمع دعوى التعويض عن حادثة الجرح أو القتل خطأ بعد الحكم بالبراءة إذا كان الخطأ الذي يسنده المجني عليه للمتهم يقوم على وقائع أخرى غير التي وردت وفي وصف التهمة أو غير التي قضى الحكم الجنائي بانتفاء الخطأ عن المتهم في فعلها.
ثالثًا: قد نص قانون تحقيق الجنايات في المادتين (147) و (172) وفي المادة (50) من قانون تشكيل محكمة الجنايات أنه إذا كانت الواقعة غير ثابتة أولاً يعاقب عليها القانون أو سقط الحق في إقامة الدعوى فيها بمضي المدة يحكم القاضي الجنائي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض.
وهذه النصوص تميط اللثام عن رأي الشارع المصري وهو أنه يجوز الحكم بالتعويضات المدنية بالرغم من حكم البراءة إنما هذه الأحوال واردة على سبيل الحصر في هذه النصوص أما الحكم بالتعويض في حالة عدم ثبوت التهمة فالمراد منه أن المتهم هو الذي يطلب الحكم بالتضمينات ضد المجني عليه لأنه لا يقبل عقلاً أن يحكم القاضي بالتضمينات للمجني عليه مع عدم ثبوت الفعل الذي يدعي به ولذلك ورد في النص عبارة (التعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض).
وإذا حدثت الواقعة ضررًا للمجني عليه ولكن عناصر الجريمة لم تتوفر فيها كانعدام توفير الطرق الاحتيالية في جريمة النصب فإن الحكم بالبراءة لا يمنع من الحكم بالتعويض وكذلك إذا سقط الحق في إقامة الدعوى العمومية فيجوز الحكم بالتعويضات المدنية مع مراعاة القيد الوارد في المادة (282) من قانون تحقيق الجنايات.
هذه هي الأحوال التي أباح فيها القانون للقاضي الجنائي أن يحكم بالتعويض مع الحكم بالبراءة ولذلك لا حرج على القاضي المدني أن يسمع الدعوى المدنية بالتعويض في هذه الصور أو في جميع الأحوال التي لا يكون فيها تقادم أو تناقض ما مع الحكم الجنائي وما قضى به في منطوقه أو في أسبابه المرتبطة بالمنطوق.
ولكن الشارع لم ينص على حالة الحكم بالبراءة استنادًا على أنه لم يقع الخطأ إطلاقًا من جانب المتهم ويستفاد من عدم النص على هذه الصورة عدم إباحتها ولهذا يحرم على القاضي الجنائي أو المدني سماع دعوى التعويض بعد الحكم بالبراءة الذي يقوم على هذا الأساس.
والعقل والمنطق يقضيان بهذا التفسير وإلا كان القاضي الجنائي متناقضًا ومتخاذلاً مع نفسه إذا قضى من ناحية بالبراءة استنادًا على أنه لا إهمال ولا خطأ من جانب المتهم في الفعل المسند إليه وحكم من ناحية أخرى بالتعويض لهذا الفعل.
ولما كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام على الكافة وكان محتمًا على القاضي المدني أن لا يعدو حجيتها ولا يتعارض حكمه معها لذلك أصبح لزامًا على القاضي المدني أن يمتنع عن سماع دعوى التعويض التي تقوم على أساس الفعل الذي قال عنه القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب أي خطأ أو إهمال فيه.
رابعًا: بقيت نقطة واحدة وهي هل يشتمل الخطأ الذي هو ركن لجريمة القتل أو الجرح خطأ والمنصوص عليهما في المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد المقابلتين للمادتين (202) و (208) من القانون القديم هل يشتمل على عناصر الخطأ المدني المنصوص علي في المادة (151) من القانون المدني.
جاء في النص الوارد في هاتين المادتين أن القتل أو الجرح يجب أن يكون ناشئًا (عن رعونة أو عدم احتياط وتحرز أو عن إهمال وتفريط أو عن عدم انتباه وتوق أو عن عدم مراعاة واتباع اللوائح).
والواقع أن هذه العبارات تشمل كل فرض أو صورة من صور الخطأ بحيث إنه يصعب تصور أن هناك أي نوع من الخطأ غير مندرج في هذا النص.
ولا شك أن هناك فرقًا بين الخطأ الجنائي والخطأ المدني فالأول يستلزم عناصر لا بد من توفرها لتكوين الجريمة كالقصد الجنائي أو سوء النية أو نية الإضرار إلى غير ذلك أما الخطأ المدني فلا يشترط فيه شيء من هذا بل مناطه الضرر والإهمال مهما تضاءلت جسامته.
وإذا كان هذا هو الحال في الجرائم الأخرى إلا أنه لا ينطبق على جريمة القتل أو الجرح بلا عمد لأن الشارع المصري الذي سار وراء الشارع الفرنسي والبلجيكي احتاط أشد الاحتياط للأمر فسرد جميع أنواع الخطأ من إهمال ورعونة وعدم تحرز أو توق إلى غير ذلك حتى لا يفلت من العقاب أي شخص لا يسلك مسلك المتيقظ أو الساهر على سلامة الناس من أفعاله فالخطأ المنصوص عليه في المادة (151) مدني مندرج لا محالة في العبارات الشاملة التي جاءت في نص المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد.
ويتفرع على هذا أنه إذا وجب على القاضي المدني احترام الحكم الجنائي كما سبق البيان فيتحتم عليه إذن أن يقضي بعدم جواز سماع دعوى التعويض إذا رفعها المجني عليه أمامه مستندًا إلى نفس الفعل الذي قال الحكم الجنائي عنه بأنه لا خطأ فيه من جانب المتهم لأن نفي الخطأ جنائيًا معناه انتفاء كل إهمال وتفريط أو رعونة وعدم تحرز أو عدم توق الخ.. وبالتالي يبعد كل خطأ مهما كان نوعه أو مهما بلغت درجته.
والخلاصة: أنه لا محل لافتراض الجنحة المدنية أو شبهها بعد الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بني الحكم على أساس نفي الخطأ عن المتهم إنما مناط هذا أن حجية الأحكام الصادرة بالبراءة مقصورة على الوقائع الواردة في وصف التهمة بحيث يجوز أن تترتب المسؤولية المدنية على وقائع أو أفعال أخرى.
السنة التاسعة عشرة سنة 1939
بحث
أثر حكم البراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد على دعوى التعويض أمام المحكمة المدنية إذا بنى الحكم على نفي الخطأ
(لصاحب العزة زكي بك خير الأبوتيجى رئيس النيابة لدى محكمة النقض الدائرة المدنية)
1 - أثر القضاء الجنائي على المدني وحكمته وأساسه القانوني:
قد يبدو غريبًا أن يقال إن الحكم الجنائي يحوز قوة الشيء المحكوم به أمام المحكمة المدنية في موضوع مدني بحت مع اختلاف الموضوع والسبب والأخصام في كلتا الدعويين الجنائية والمدنية ففي الأولى يكون الموضوع والسبب هو الفعل الجنائي أو الجريمة المسندة إلى المتهم وخصمه النيابة العمومية وليس الأمر كذلك في الدعوى المدنية وعلى الأخص في دعوى مطالبة المجني عليه وورثته بالتعويضات المدنية من المتهم.
ولهذا لا يمكن الاستناد إلى نص المادة (232) من القانون المدني التي تنص على حجية الأحكام وقوتها على شرط اتحاد الموضوع والخصوم والسبب.
ولكن مصلحة اجتماعية هامة تقضي بأن يحترم القاضي المدني ما يحكم به القاضي الجنائي حتى لا تتضارب الأحكام المدنية مع الجنائية وحتى لا يخامر الجمهور الشك في عدالة الأحكام الجنائية التي ترمي إلى توطيد الأمن والطمأنينة بين الناس وكما يقول ميرلان أنه مما يبعث على الاضطراب وهياج الأهالي أن تقضي المحكمة برفض دعوى التعويض استنادًا إلى أن من نسب إليه التهمة لم يرتكب جريمة القتل بعد أن صدر الحكم من محكمة الجنايات بإعدامه وبعد أن نفذ الحكم فعلاً.
لذلك تحتم الضرورة الاجتماعية على القاضي المدني أن يحترم الأساس الذي قام عليه الحكم الجنائي (انظر كتاب كولان وكابتان طبعة أخيرة جزء (2) بند (493) صفحة (459)).
أما الأساس القانوني فإن الشارع الفرنسي نص في الفقرة الثانية من المادة الثالثة من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي على أن نظر الدعوى جنائيًا يوقف سير الدعوى المدنية وبنى الشراح على هذا الأساس وجوب احترام الحكم الجنائي حتى لا يتخاذل معه الحكم المدني ولا ينفي ما أقره.
ولو أن القانون المصري لم ينقل نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي إلا أنه قد أصبح هذا المبدأ أوليًا في القضاء المصري الحديث (تراجع الأحكام العديدة الصادرة من محكمة النقض في المواد الجنائية ومحكمة الاستئناف التي تقرر هذا المبدأ في كتاب مرجع القضاء في القانون المدني تحت رقم (5825) وما بعده).
وهذا بعد أن ترددت المحاكم المصرية في الأخذ بهذا المبدأ (انظر حكم محكمة الاستئناف الصادر في 31 أكتوبر سنة 1901 الذي يقول بإنه لا يوجد نص في القانون يقضي بأن ترتبط المحاكم المدنية بالأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية وانظر عكس ذلك حكم محكمة النقض الصادر في أول يونيو سنة 1926 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 7 صفحة (355)).
ويقول دوهلس في كتابه شرح القانون المدني المصري جزء أول صفحة (305) بند (130) تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به) أن هذه القاعدة يجب العمل بها في مصر طالما أن هذا هو روح التشريع الفرنسي الذي يعتبر التشريع المصري وليده ولأنه لم يرد أي نص في القوانين المصرية يناقض هذا المبدأ (انظر عكس هذا الرأي في مقالة الأستاذ مرقص بك فهمي الواردة في مجلة المحاماة سنة 3 صفحة (315)).
هذا وقد سنحت الفرصة أخيرًا للشارع المصري ليفصح عن هذا المبدأ فورد النص في القانون رقم (57) سنة 1937 الخاص بإصدار قانون تحقيق الجنايات المختلط في المادة (19) ما يأتي:
(إذا استلزم الفصل في دعوى مرفوعة أمام محكمة مدنية أو تجارية معرفة ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتكبت أو إذا كانت قد وقعت من شخص معين يجب على تلك المحكمة أن تفصل في المنازعات المتعلقة بذلك طبقًا لما قضى به نهائيًا من المحكمة الجنائية التي فصلت في الدعوى ولو كانت قد طبقت قواعد الإثبات الخاصة بالمواد الجنائية - ويوقف الفصل في الدعوى المدنية إذا رفعت الدعوى الجنائية قبل الفصل فيها نهائيًا).
ويلاحظ أن البحث في هذا المقام مقصور على نوع واحد من الأحكام الجنائية وفي موضوع مخصص وهي أحكام البراءة الصادرة من المحاكم الجنائية في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد استنادًا إلى أن المتهم لم يرتكب خطأ أو إهمالاً وأثرها على دعاوى التعويض التي يرفعها المجني عليه أمام المحكمة المدنية لذلك يجب أن تضيق دائرة بحثنا في نطاق هذه الدائرة فلا يتناول غير ذلك من الأحكام الجنائية كأحكام الإدانة أو أحكام البراءة لعدم ثبوت التهمة أو لأن الفعل لا يعد جريمة أو غير ذلك فهي تخرج عن هذا البحث.
2 - رأي الفقه في فرنسا وبلجيكا:
قد ذهب المؤلفون في فرنسا في هذا الموضوع إلى رأيين فالرأي الأول الذي قال به معظم الأقدمين وبعض المحدثين من الشراح - مؤداه أن حكم البراءة إذا بنى على نفي الخطأ عن المتهم فلا يقيد القاضي المدني في الفصل في دعوى التعويض الناشئ عن هذا الفعل ويعللون ذلك بأن وظيفة المحكمة الجنائية البحث في الجريمة فقط فإذا قضت بالبراءة فتكون قد استبعدت الخطأ الجنائي دون سواه وليس لها أن تتعرض إلى الخطأ المدني لأنه ليس من اختصاصها ثم إن كل فعل إذا تجرد من الخطأ الجنائي يبقى فيه بقية من الخطأ المدني لأن الخطأ الجنائي فاحش وجسيم والثاني قد يكون تافهًا ويسيرًا ويقول أوبرى ورو تأييدًا لهذا الرأي أن الإهمال في حوادث القتل خطأ يجوز أن يكون كافيًا لاعتبار خطأ مدنيًا وأساسًا للحكم بالتعويض المدني ومع ذلك يجوز أن لا يعتبر خطأ جنائيًا ولا يستأهل هذا الخطأ اليسير عقابًا.
ومن أنصار هذا الرأي أوبري ورو في كتابهما جزء (2) صفحة (470) بند (769) مكرر ومرلان تحت عنوان تعويض مدني بند (2) ودورانتون جزء (8) بند (486) وما بعده وماتيجان تحت عنوان دعوى عمومية جزء (2) بند (423) وما بعده ولارومبير جزء (5) تعليقات على المادة (351) بند (177) وأيضًا جريو لييه في تعليقه على دالوز سنة 1869 جزء أول صفحة (170) وانظر تعليق ربير في دالوز سنة 1925 جزء أول ص (6) وشوفو تحقيق جنايات صفحة (947) وديمولومب جزء (30) بند (427) وهيك جزء (8) بند (340) وانظر أيضًا لاكوست بند 1124.
3 - الرأي الثاني:
مؤداه أن الحكم الذي يصدر من محكمة الجنح ببراءة المتهم في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بنى على أنه لا إهمال ولا رعونة من جانب المتهم في الفعل المسند إليه فإنه مانع من سماع دعوى التعويض المدني التي تقام على أساس هذا الفعل بالذات ويعلل كولان وكابيتان هذا الرأي في كتابهما القانون المدني جزء (2) طبعة أخيرة صفحة (460) بند (496) بأن جميع صور الخطأ والإهمال مندرجة في عموم النص الوارد في قانون العقوبات مادة (319) في فرنسا ومادتي (202) و (208) قانون عقوبات أهلي قديم ومادة (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد فإذا قال القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب إهمالاً ما فلا يسوغ للقاضي المدني أن يحكم بالتعويض على أساس أنه ارتكب خطأ وإلا فإنه يكون متناقضًا مع حكم المحكمة الجنائية الذي يجب احترامه والأخذ بما حكم به.
ويقول هنري وليون مازو في كتابهما المسؤولية المدنية جزء (2) صفحة (625) بند (1823) وبند 1856 أن النص الوارد في المادتين (319) و (320) عقوبات فرنسي المقابلتين للمادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الأهلي الجديد شامل لكل أنواع الخطأ فالإهمال الجنائي يجب كل صورة من صور الإهمال أو الخطأ المدني مهما كان يسيرًا englobe toute faute personnelle ونص قانون العقوبات عام بحيث لا يدع مجالاً لافتراض أي إهمال آخر ولو كان يسيرًا فإذا نفاه الحكم الجنائي فلا يسوغ للمحكمة المدنية أن تسمع دعوى التعويض على أساس الإهمال الذي كان موضوع التهمة - ويقول سافاتييه في مجلة دالوز سنة 1930 جزء (51) صفحة 40 أن اندماج الخطأ المدني في الخطأ الجنائي الذي هو أساس جريمة القتل أو الجرح بلا تعمد أصبح الآن مبدأ مستقرًا ومضطردًا ويقول جارسون في شرح المادتين (319) و (320) من قانون العقوبات الفرنسي بند (16) بأن نص هاتين المادتين عام وشامل بحيث لا يوجد أي نوع من أنواع الإهمال أو الخطأ لا يستطيع القاضي أن يدمجه فيه وأن الشارع لم يدع مجالاً لأن يستثني من النص سوى حوادث العوارض فقط.
(انظر هذا الرأي في كتاب بلانيول وربير واسمين بند (679) وبند (673) وفي تعليق اسمين في سيرى سنة 1930 جزء أول صفحة (177) - وجارو شرح قانون العقوبات طبعة ثالثة جزء (6) صفحة 346 بند (2350) - وجارسون تعليق على المادتين (319) و (320) بند (16) وانظر أيضًا جلاسون وتسييه مرافعات عدد (3) بند (777)).
وجاء في الموسوعات البلجيكية تحت عنوان قوة الشيء المحكوم به بند (319) أن الرأي المجمع عليه تقريبًا في الفقه والقضاء هو أنه لا يمكن تصور أي فارق في درجة الجسامة بين الإهمال الذي هو عنصر لجريمة القتل أو الجرح خطأ والإهمال الذي يتكون منه الخطأ المدني.
4 - أحكام محكمة النقض الفرنسية وترددها بين الرأيين والمبدأ الذي استقرت عليه أخيرًا:
ليس هناك مسألة قانونية تناقضت فيها أحكام محكمة النقض الفرنسية مثل تناقضها في هذا الموضوع ويمكن بيان الأطوار التي عرجت فيها تلك المحكمة بين الرأيين المشار إليهما آنفًا كما يأتي:
أولاً: قضت محكمة النقض الفرنسية في بعض أحكامها القديمة بأنه لا يمكن قيام أية مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة جنائيًا وهذا المبدأ وارد في الحكم الصادر في 7 مارس سنة 1857 والمنشور في دالوز سنة 1855 جزء أول صفحة (81).
ثانيًا: وفي حكمها الصادر في 17 مارس سنة 1874 والمنشور في دالوز سنة 1874 جزء أول صفحة (399) قالت محكمة النقض الفرنسية بأنه يجوز أن يتخلف خطأ يسير يترتب عليه مسؤولية مدنية بعد الحكم بالبراءة وبعد أن تنفي المحكمة الجنائية الخطأ عن المتهم.
وهذا المبدأ ورد أيضًا في الحكمين الصادرين من دائرة العرائض في 31 مايو سنة 1892 والمنشور في دالوز سنة 1892 جزء أول صفحة (381) والصادر في 7 نوفمبر سنة 1894 والمنشور في سيرى سنة 1895 جزء أول صفحة (46).
ثالثًا: ومنذ سنة 1912 عدلت محكمة النقض الفرنسية عن ذلك المبدأ وقالت بأنه لا محل لافتراض أي خطأ مدني بعد أن تقضي المحكمة الجنائية بالبراءة إذا استند حكم البراءة إلى أن المتهم لم يرتكب أي إهمال - وجاء في حكمها الصادر في 18 ديسمبر سنة 1912 والمنشور في دالوز سنة 1915 جزء أول صفحة (17) الأسباب الآتية:
Attendu que les arts/ 319 & 320 Code Pénal puinissent de peines correctionnelles qui conque, par maladresse, imprudence, inattention, negligence ou inobservation des reglements, a commis involontairement un homicide ou causé des blessures sans que la legerté de ta laule commis, puisse avoir d’autre effet que d’attenuer la peine incourue.
وجاء أيضًا في الحكم الصادر من تلك المحكمة في 10 يونيو سنة 1914 والمنشور في سيرى سنة 1915 جزء أول صفحة 70 ما يأتي:
Attendu que les arts, 319 et 320 Code Penal punissent de peines correctionnelles (qui - conque) par maladresse, imprudence, inattention, negligence, inobservation des reglements, a causé involontairement des blessures, sans distinguer suivant la gravité de la faute commise; d ‘où il suit que lorsque la juridiction correctionnelle a acquitté un prevenu de blessures involontaires, le juge civil ne peut, sans contredire la chose jugée, le condamner à des dommages - intèrêt envers la partie qui prétend lésée si celle - ei ne relève contre lui en dehors de l’imprudence et de l’inobservation des reglements aucune autre circonstance de nature à engager sa responsabilité.
وهذا المبدأ قد ورد أيضًا في الأحكام الصادرة من محكمة النقض الفرنسية الآتي بيانها:
- حكم محكمة النقض في 28 مارس سنة 1916 والمنشور في دالوز سنة 1920 جزء أول صفحة (25).
- حكم دائرة العرائض في 12 يناير ستة 1917 والمنشور في دالوز سنة 1922 جزء أول صفحة (52).
- حكم دائرة العرائض في 12 يوليو سنة 1917 والمنشور في سيرى سنة 1918 جزء أول صفحة (212).
- حكم محكمة النقض في 10 يونيو سنة 1918 والمنشور في سيرى سنة 1922 جزء أول صفحة (52) حكم محكمة النقض في 20 نوفمبر سنة 1920 والمنشور في دالوز سنة 1924.
رابعًا: حادت محكمة النقض الفرنسية عن هذا المبدأ في بعض الأحكام في حوادث اصطدام السفن إذ جاء في الحكم الصادر في مايو سنة 1924 والمنشور في دالوز سنة 1925 جزء أول صفحة (12) أن الحكم الصادر من المحكمة التجارية بالبراءة في تهمة الاصطدام لانتفاء الخطأ لا يمنع من أن تحقق المحكمة المدنية في شبه الجنحة المدنية التي يترتب عليها المسؤولية المدنية.
وكذلك في الأحكام الصادرة من مجلس الجيش بفرنسا ببراءة بعض رجال الجيش من تهمة القتل خطأ قضت محكمة النقض في حكمها الصادر في 29 يوليو سنة 1922 والمنشور في سيرى سنة 1925 جزء أول صفحة (321) بجواز سماع الدعوى المدنية بالتعويض رغمًا عن هذه الأحكام (انظر أيضًا الحكم الصادر في 14 يناير سنة 1925 والمنشور في دالوز سنة 1926 جزء أول صفحة (189) والحكم الصادر في 8 فبراير سنة 1926 والمنشور في الجازيت سنة 1926 جزء ول صفحة (628)).
ولكن يظهر أن الذي حمل محكمة النقض الفرنسية على الشذوذ عن القاعدة العامة هو أن هذه الأحكام لم تشتمل على أسباب البراءة وبعضها اقتصر على ذكر عبارة أن المتهم غير مذنب فقط فلم تتبين المحكمة السبب الذي بنى عليه حكم البراءة لذلك أجازت للمحكمة المدنية أن تحقق وقائع الإهمال من جديد.
خامسًا: أخيرًا استقر قضاء محكمة النقض الفرنسية على المبدأ الثاني القائل بأن لا يمكن تصور أي خطأ مدني بعد نفي الخطأ الجنائي عن المتهم ولذلك لا يجوز سماع الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة إذا بنى الحكم على أنه لم يكن هناك خطأ أو إهمال في الفعل المسند إلي المتهم.
وهذا المبدأ اضطرد في الأحكام الآتية:
- حكم النقض الصادر في 16 يوليو سنة 1928 والمنشور في دالوز سنة 1929 جزء أول صفحة (33).
- حكم النقض الصادر في 15 يناير سنة 1929 دالوز أسبوعي سنة 1929 صفحة (116).
- حكم النقض الصادر في أول ديسمبر سنة 1930 جازيت المحاكم سنة 1931 جزء أول صفحة (80).
- حكم النقض الصادر في 17 إبريل سنة 1931 جازيت المحاكم سنة 1921 صفحة (37).
- حكم النقض الصادر في 10 مايو سنة 1932 دالوز أسبوعي سنة 1932 صفحة (380).
- حكم دائرة العرائض في 24 أكتوبر سنة 1932 جازيت المحاكم سنة 1932 جزء (2) صفحة (936).
- حكم دائرة العرائض في 14 نوفمبر سنة 1933 جازيت المحاكم سنة 1934 جزء أول صفحة (176) وجاء في بعض هذه الأحكام العبارة الآتية:
La faute pènale des articles 319 et 320 du Code pènal contient tous les elements de la faute civile.
ويقول هنري وليون مازو في صفحة (625) من المرجع المشار إليه آنفًا إن هذا المبدأ قد ساد في القضاء الفرنسي بعد أن ترددت المحاكم فيه ردحًا من الزمن.
5 - مذهب القضاء البلجيكي:
أما الرأي الذي ساد في الأحكام البلجيكية فهو ما استقرت عليه محكمة النقض الفرنسية أي عدم جواز سماع دعوى التعويض بعد الحكم ببراءة المتهم بالقتل أو الجرح بغير عمد إذا كان الحكم الجنائي قد نفى وقوع الخطأ
(انظر حكم محكمة بروكسل الصادر في 27 فبراير سنة 1932 والمنشور في سيري سنة 1932 جزء (4) صفحة (210) وكذلك الأحكام العديدة الواردة في الموسوعة البلجيكية تحت عنوان (قوة الشيء المحكوم به).
وانظر أيضًا حكم محكمة بروكسل الصادر في 12 إبريل سنة 1929 - المنشور في البازكريزى سنة 1930 جزء (3) صفحة (76).
والحكم الصادر في 18 يونيو سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (13).
والحكم الصادر في 16 أكتوبر سنة 1929 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1930 جزء (2) صفحة (52).
والحكم الصادر في 11 إبريل سنة 1933 والمنشور في مجلة البازكريزى سنة 1933 جزء (3) صفحة (197).
وجاء في هذه الأحكام أن الحكم بالبراءة في حوادث الإصابة بغير عمد يمنع من رفع الدعوى المدنية عن هذه الحوادث لأن الخطأ الجنائي المنصوص عليه في المادتين (418) و (426) من قانون العقوبات البلجيكي يجب كل خطأ آخر.
6 - رأي الشارحين للقانون المصري:
يقول جرانمولان في كتاب تحقيق الجنايات المصري جزء (2) صفحة (279) بند (1044) أن الحكم الصادر بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح بلا عمد لا يحول دون سماع دعوى المجني عليه التي يرفعها أمام المحكمة المدنية مطالبًا بالتعويض الذي نشأ عن الأفعال التي كانت موضوع الاتهام ذلك لأنه إذا كان الإهمال غير كافٍ لتكوين الجريمة وتوقيع العقاب على المتهم إلا أنه يجوز أن يكفي لترتب مسؤوليته المدنية.
وجاء في رسالة الإثبات لأحمد بك نشأت صفحة (347) بند (594) أنه إذا حكم بالبراءة لعدم وجود خطأ جنائي بالمرة كالمبين في المواد (202) و (208) و (315) عقوبات فإن هذا الحكم يمنع من وقوع خطأ مدني مما نص عليه في المواد (151) و (152) و (153) مدني الخ.
وورد رأي يخالف هذا الرأي في كتاب الالتزامات لعبد السلام بك ذهني جزء (2) صفحة (474) ومؤداه ما يأتي:
أنه إذا قضى الحكم الجنائي ببراءة متهم منسوب إليه القتل خطأ واستند الحكم إلى أنه لم يثبت إهمال أو خطأ من المتهم فلا يجوز رفع دعوى تعويض عليه فيما بعد بشأن هذا الوصف الذي فصل فيه الحكم الجنائي (انظر مقال الأستاذ سامي مازن في مجلة القانون والاقتصاد جزء (2) صفحة (330)).
7 - رأي القضاء المصري:
أخذت المحاكم المصرية تعرج بين المذهبين فالبعض قضى بأحد الرأيين والبعض الآخر بالمذهب الثاني كما يأتي مع ملاحظة أنه لا يمكن القول بأن المحاكم اتخذت مبدأ ثابتًا مستقرًا في هذه المسألة.
أولاً: قضت محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 23 ديسمبر سنة 1930 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 32 عدد (192) صفحة (394) أن الحكم الصادر من محكمة الجنح بالبراءة في حوادث القتل الخطأ لا يمنع المحكمة المدنية من البحث في المسؤولية إلا إذا كان حكم البراءة مبنيًا على انتفاء الإهمال وعدم وجود مسؤولية جنائية.
وفي الحكم الصادر من تلك المحكمة في 17 نوفمبر سنة 1931 المنشور في المجموعة الرسمية سنة 33 عدد (116) صفحة (222) تقول محكمة الاستئناف أن المحاكم المدنية مقيدة بالأحكام الجنائية النهائية فيما ورد بها خاصًا بترتيب المسؤولية قبل المتهم فلا يقبل منه المناقشة فيها إذا ما رفعت عليه دعوى التعويض.
ثانيًا: وصدرت أحكام أخرى قائلة بالرأي المخالف ومن هذا:
الحكم الصادر من محكمة استئناف مصر بتاريخ 10 إبريل سنة 1927 – والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (59) صفحة (95) والذي جاء فيه أنه لا يكفي للسائق أن يبين أنه لم يقع منه خطأ مطلقًا أو أن سبب الحادثة بقى مجهولاً للتخلي عن المسؤولية المدنية بل تبقى مسؤوليته قائمة في الحالتين حتى ولو قضى جنائيًا بالبراءة لعدم قيام الدليل على وجود خطأ معين أو إهمال.
وفي الحكم الصادر من محكمة طنطا الابتدائية في تاريخ 13 يناير سنة 1926 والمنشور في المجموعة الرسمية سنة 28 عدد (11) صفحة (14).
ورد أن للمحكمة المدنية أن تبحث فيما إذا كانت الوقائع المنسوبة للمتهم تعتبر شبه جنحة يترتب عليها مسؤولية مدنية بالرغم من حكم البراءة.
وورد في الحكم الصادر في 14 ديسمبر سنة 1929 والمنشور في مجلة المحاماة سنة 10 صفحة (598) أن حكم البراءة لا يرتبط به القاضي المدني إذا حكم في جريمة قتل خطأ أو المتهم لم يرتكب إهمالاً أو خطأ لاختلاف ماهية الخطأ أو الإهمال من الوجهة الجنائية عنها من الوجهة المدنية في حالة القتل خطأ.
أما المحاكم المختلطة فإنها لم تسلم بحجية الأحكام الجنائية الصادرة من المحاكم القنصلية أو المحاكم الأهلية إطلاقًا لاختلاف ولاية القضاء.
(حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 4 مايو سنة 1921 مجموعة مختلطة سنة 33 صفحة (305)) لذلك لم تتح الفرصة لتلك المحاكم لإبداء رأيها في هذا الموضوع.
رأينا في هذا الموضوع
من القواعد الأولية أن الأحكام الجنائية تصدر ضد الكافة erge omnes بمعنى أن لها الحجية المطلقة على المتهم ولدى جميع الناس وقبل المجني عليه أيضًا حتى ولو لم يعلن أو لم يتدخل في الدعوى العمومية.
ووجه هذا ظاهر لأن الجرائم ماسة بالنظام والأمن في الدولة فاحترام الملأ للأحكام الصادرة فيها تقتضيه المصلحة العامة حتى تكون رادعة وعبرة للغير وفضلاً عن ذلك فإن النيابة العمومية التي يتحتم حضورها في الجلسة تمثل الهيئة الاجتماعية وتمثل جميع الحقوق على السواء سواء حضر المتهم والمجني عليه أو لم يحضرا وناهيكم عن أنه من المستحيل عقلاً ومادة إدخال كافة الناس في الدعوى العمومية لتكون الأحكام حجة على الجميع.
ومتى بان هذا كان الحكم الجنائي واجب الاحترام من القاضي المدني إذا ما رفعت الدعوى المدنية إما من المتهم أو المجني عليه أو ورثتهما وتكون حجة على الخصوم وله قوة الشيء المحكوم به بحيث لا يسوغ إصدار حكم مدني يتناقض معه وإلا أهدرت حجته.
وإذا كان بعض أئمة القانون في فرنسا يسندون هذه الحجية إلى نص المادة (3) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الذي ينص على أن الدعوى الجنائية توقف سير الدعوى المدنية - هذا النص الذي لم ينقله الشارع المصري فإنه يكفي لتبرير هذه الحجية ويعللها في مصر أن تنهض على الأساس الذي أوضحناه أي أن الأحكام الجنائية أحكام ضد الكافة ولها حجة مطلقة لا نسبية وعلى القاضي المدني احترامها لهذا السبب.
ويتفرع على هذه الكلية الجزئيات الآتية:
أولاً: أن المنطق السليم يقضي بأن حجية أية مبدأ أو مسألة تتناول حتمًا الأساس الذي تنهض عليه فإذا كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام فيجب قانونًا وعقلاً احترام الأساس الذي بنيت عليه وتفريعًا على هذا إذا صدر الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح العمد استنادًا إلي أن المتهم لا يمكن أن يعزي إليه إهمال في الواقعة المسندة إليه بالذات فيكون سند الحكم هذا واجب الاحترام حتمًا وعلى القاضي المدني أن يتخذه قضية مسلمة لا تقبل فيه النقاش وعلى هذا يجب أن يمتنع عن سماع الدعوى المدنية إذا أقامها المجني عليه على ما يهدر هذا الأساس.
ولو أن العبرة في الحجية لمنطوق الأحكام إلا أن الأسباب التي تتصل بالمنطوق صلة المقدمة بالنتيجة والسبب بالمسبب تحوز أيضًا قوة الشيء المحكوم به فلا حرج إذن في تلمس سند حكم البراءة من أسبابه.
ثانيًا: يجب أن يضع القاضي المدني نفسه موضع القاضي الجنائي نفسه عند بيان مدى احترام الأحكام الجنائية والاستمساك بحجيتها لأنه ليس من الطبيعي أن يكون القاضي الجنائي أقل احترامًا لقضائه من القاضي المدني ولذلك لا يطلب من القاضي المدني أن يغالي في الاحترام حتى يفوق في ذلك من أصدر هذه الأحكام ويتفرع على هذا أن ما يلتزم القاضي الجنائي باحترامه يلزم القاضي المدني به عند نظر الدعوى المدنية وإلا فلا.
ومن الأوليات القانونية أن قوة الشيء المحكوم به في الأحكام الجنائية لا تتعدى الأفعال المسندة إلى المتهم والواردة في وصف التهمة والتي طرحت أمام المحكمة والتي أتيح للمتهم حق الدفاع عن نفسه فيها - أما الأفعال والوقائع الأخرى فتخرج عن هذه الحجية بمعنى أنه يجوز رفع الدعوى العمومية مرة أخرى على أساس هذه الأفعال الجديدة (انظر هذا المبدأ الذي اضطرد في قضاء محكمة النقض والإبرام المصرية الدائرة الجنائية في قضية الطعن رقم (894) سنة 4 قضائية في الحكم الصادر في 29 أكتوبر سنة 1934 وفي الحكم الصادر في قضية الطعن رقم (1625) سنة 4 قضائية بتاريخ 28 يناير سنة 1935 الذي قرر مبدأ جواز رفع دعوى إخفاء أشياء مسروقة بعد الحكم بالبراءة من تهمة السرقة في نفس الحادثة).
ومتى ثبت هذا ساغ للقاضي المدني أن يسمع دعوى التعويض عن حادثة الجرح أو القتل خطأ بعد الحكم بالبراءة إذا كان الخطأ الذي يسنده المجني عليه للمتهم يقوم على وقائع أخرى غير التي وردت وفي وصف التهمة أو غير التي قضى الحكم الجنائي بانتفاء الخطأ عن المتهم في فعلها.
ثالثًا: قد نص قانون تحقيق الجنايات في المادتين (147) و (172) وفي المادة (50) من قانون تشكيل محكمة الجنايات أنه إذا كانت الواقعة غير ثابتة أولاً يعاقب عليها القانون أو سقط الحق في إقامة الدعوى فيها بمضي المدة يحكم القاضي الجنائي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض.
وهذه النصوص تميط اللثام عن رأي الشارع المصري وهو أنه يجوز الحكم بالتعويضات المدنية بالرغم من حكم البراءة إنما هذه الأحوال واردة على سبيل الحصر في هذه النصوص أما الحكم بالتعويض في حالة عدم ثبوت التهمة فالمراد منه أن المتهم هو الذي يطلب الحكم بالتضمينات ضد المجني عليه لأنه لا يقبل عقلاً أن يحكم القاضي بالتضمينات للمجني عليه مع عدم ثبوت الفعل الذي يدعي به ولذلك ورد في النص عبارة (التعويضات التي يطلبها بعض الخصوم من بعض).
وإذا حدثت الواقعة ضررًا للمجني عليه ولكن عناصر الجريمة لم تتوفر فيها كانعدام توفير الطرق الاحتيالية في جريمة النصب فإن الحكم بالبراءة لا يمنع من الحكم بالتعويض وكذلك إذا سقط الحق في إقامة الدعوى العمومية فيجوز الحكم بالتعويضات المدنية مع مراعاة القيد الوارد في المادة (282) من قانون تحقيق الجنايات.
هذه هي الأحوال التي أباح فيها القانون للقاضي الجنائي أن يحكم بالتعويض مع الحكم بالبراءة ولذلك لا حرج على القاضي المدني أن يسمع الدعوى المدنية بالتعويض في هذه الصور أو في جميع الأحوال التي لا يكون فيها تقادم أو تناقض ما مع الحكم الجنائي وما قضى به في منطوقه أو في أسبابه المرتبطة بالمنطوق.
ولكن الشارع لم ينص على حالة الحكم بالبراءة استنادًا على أنه لم يقع الخطأ إطلاقًا من جانب المتهم ويستفاد من عدم النص على هذه الصورة عدم إباحتها ولهذا يحرم على القاضي الجنائي أو المدني سماع دعوى التعويض بعد الحكم بالبراءة الذي يقوم على هذا الأساس.
والعقل والمنطق يقضيان بهذا التفسير وإلا كان القاضي الجنائي متناقضًا ومتخاذلاً مع نفسه إذا قضى من ناحية بالبراءة استنادًا على أنه لا إهمال ولا خطأ من جانب المتهم في الفعل المسند إليه وحكم من ناحية أخرى بالتعويض لهذا الفعل.
ولما كانت الأحكام الجنائية واجبة الاحترام على الكافة وكان محتمًا على القاضي المدني أن لا يعدو حجيتها ولا يتعارض حكمه معها لذلك أصبح لزامًا على القاضي المدني أن يمتنع عن سماع دعوى التعويض التي تقوم على أساس الفعل الذي قال عنه القاضي الجنائي أن المتهم لم يرتكب أي خطأ أو إهمال فيه.
رابعًا: بقيت نقطة واحدة وهي هل يشتمل الخطأ الذي هو ركن لجريمة القتل أو الجرح خطأ والمنصوص عليهما في المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد المقابلتين للمادتين (202) و (208) من القانون القديم هل يشتمل على عناصر الخطأ المدني المنصوص علي في المادة (151) من القانون المدني.
جاء في النص الوارد في هاتين المادتين أن القتل أو الجرح يجب أن يكون ناشئًا (عن رعونة أو عدم احتياط وتحرز أو عن إهمال وتفريط أو عن عدم انتباه وتوق أو عن عدم مراعاة واتباع اللوائح).
والواقع أن هذه العبارات تشمل كل فرض أو صورة من صور الخطأ بحيث إنه يصعب تصور أن هناك أي نوع من الخطأ غير مندرج في هذا النص.
ولا شك أن هناك فرقًا بين الخطأ الجنائي والخطأ المدني فالأول يستلزم عناصر لا بد من توفرها لتكوين الجريمة كالقصد الجنائي أو سوء النية أو نية الإضرار إلى غير ذلك أما الخطأ المدني فلا يشترط فيه شيء من هذا بل مناطه الضرر والإهمال مهما تضاءلت جسامته.
وإذا كان هذا هو الحال في الجرائم الأخرى إلا أنه لا ينطبق على جريمة القتل أو الجرح بلا عمد لأن الشارع المصري الذي سار وراء الشارع الفرنسي والبلجيكي احتاط أشد الاحتياط للأمر فسرد جميع أنواع الخطأ من إهمال ورعونة وعدم تحرز أو توق إلى غير ذلك حتى لا يفلت من العقاب أي شخص لا يسلك مسلك المتيقظ أو الساهر على سلامة الناس من أفعاله فالخطأ المنصوص عليه في المادة (151) مدني مندرج لا محالة في العبارات الشاملة التي جاءت في نص المادتين (238) و (244) من قانون العقوبات الجديد.
ويتفرع على هذا أنه إذا وجب على القاضي المدني احترام الحكم الجنائي كما سبق البيان فيتحتم عليه إذن أن يقضي بعدم جواز سماع دعوى التعويض إذا رفعها المجني عليه أمامه مستندًا إلى نفس الفعل الذي قال الحكم الجنائي عنه بأنه لا خطأ فيه من جانب المتهم لأن نفي الخطأ جنائيًا معناه انتفاء كل إهمال وتفريط أو رعونة وعدم تحرز أو عدم توق الخ.. وبالتالي يبعد كل خطأ مهما كان نوعه أو مهما بلغت درجته.
والخلاصة: أنه لا محل لافتراض الجنحة المدنية أو شبهها بعد الحكم بالبراءة في تهمة القتل أو الجرح خطأ إذا بني الحكم على أساس نفي الخطأ عن المتهم إنما مناط هذا أن حجية الأحكام الصادرة بالبراءة مقصورة على الوقائع الواردة في وصف التهمة بحيث يجوز أن تترتب المسؤولية المدنية على وقائع أو أفعال أخرى.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)