بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

24 يوليو 2011

القضاء الدولي في مجال حقوق الإنسان :

المحاكم الدولية المؤقتة والمحكمة الجنائية الدولية

تمهيــد :

إن إنشاء آليات لحماية حقوق الإنسان يعد نقلة نوعية هامة شهدها المجتمع الدولي بمختلف مكوناته ، ذلك أن التوقف في مضامين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 وسائر العهود والمواثيق الدولية اللاحقة المتصلة بحقوق الإنسان لا تؤمن بالضرورة الحماية الفعلية لتلكم الحقوق وتفعيل صيانتها من كل أشكال الخرق والانتهاك .
وعليه وطالما تنزل الإعلان العالمي والعهود والمواثيق اللاحقة له في منزلة الالتزام المعنوي والأخلاقي فإن هاجس المجتمع الدولي لم يتوقف عند مزيد إثراء الكم الهائل من المبادئ والقيم المتصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية بل تطور نحو رصد آليات فعلية لحماية سائر الحقوق والحريات خدمة لإنسانية الإنسان وللارتقاء بتلكم الحقوق والحريات إلى حيز الإلزام القانوني .
ولاجدال في كون تأمين إلتزام الدول بمعناه القانوني حيال تلكم الحقوق والحريات الأساسية يقتضي إنشاء إتفاقيات تلزم تلكم الدول بمقتضى التوقيع والمصادقة .
ولئن تضمن ميثاق منظمة الأمم المتحدة تعهد الأعضاء بالاحترام الفعلي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية ( الفصل 55 والفصل 56 من نص ميثاق ) فإن ذلك لم يكن كافيا لضمان حماية تلكم الحقوق والحريات كما أن ترسانة الإعلانات والعهود والمواثيق الدولية المتصلة بحقوق الإنسان واللاحقة للميثاق الأممي لم تحقق أهداف الإنسانية في هذا الباب بل ظلت المسافة الفاصلة بين المبادئ والممارسة كبيرة جدا مما إستوجب تفعيل تلكم المبادئ بآليات تتميز بالالتزام والإلزام .
وكان طبيعي جدا أن يسعى المجتمع الدولي إلى إقامة مؤتمرات على نطاق عالمي لغاية تكريس مبدأ حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية من ناحية وإرساء آليات تؤمن تفعيل تلكم الحقوق والحريات وتضمن صيانتها من الخروقات تحت أي بند من البنود .
ولئن إستعرض مؤتمر الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان المنعقد بطهران سنة 1968 إشكالية عالمية حقوق الإنسان وأفضى إلى الإقرار بأن " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يعد فهما مشتركا لدى كل شعوب العالم بخصوص الحقوق التي لا يمكن التنازل عنها أو إنتهاكها لكل الإنسانية .


ويشكل إلتزاما على عاتق المجتمع الدولي " فإن مؤتمر فيينا لسنة 1993 أسس لنقلة نوعية في مجال حقوق الإنسان والحريات الأساسية : مفاهيما وآليات ، ضرورة أنه إختزل مجهـودات وتجارب الإنسانية على مدى عدة عقود ( 1948 –1993 ) لرصد آليات تكرس إحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية كأولوية مطلقة بالنسبة للمجتمع الدولي .
وكان منتظرا أن يشهد المؤتمر العالمي بفيينا جدلا على أكثر من مستوى بشأن حماية وصيانة حقوق الإنسان في العالم في ضوء تنوع الخلفيات الحضارية والسياسية والثقافية لأطراف المؤتمر من الحكومات وعلى إختلاف مصالحهم من جهة وتبعا للحضور المكثف للمنظمات غير الحكومية وأداءها القيم والثمين من جهة أخرى .
على أن مؤتمر فيينا أفضى إلى حسم مسألة عالمية حقوق الإنسان وأكد من جديد " إلتزام جميع الدول رسميا بالإيفاء بإلتزاماتها المتعلقة بتعزيز إحترام الحقوق والحريات الأساسية للجميع ومراعاتها وحمايتها على الصعيد العالمي وفقا لميثاق منظمة الأمم المتحدة والمواثيق ذات الصلة ووفق القانون الدولي ولاتقبل الطبيعة العالمية لهذه الحقوق أي جدل وفي هذا الإطار يعتبر تعزيز التعاون الدولي في مجال حقوق الإنسان أساسيا لتحقيق مقاصد الأمم المتحدة تحقيقا كاملا ".
كما ورد بذات التقرير الختامي للمؤتمر إقرار بأن " جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ويجب على المجتمع الدولي أن يتعامل بشأن حقوق الإنسان على أساس شامل وبطريقة منصفة ومتكافئة وعلى قدم المساواة وبنفس الدرجة من التركيز ولئن توضع في الاعتبار أهمية الخاصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية فإنه من واجب الدول بصرف النظر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية تعزيز وحماية جميع الحقوق .
إن قراءة مضامين التقرير الختامي لمؤتمر فيينا تؤكد الحرص الشديد على ضرورة إيفاء الدول بإلتزاماتها حيال صيانة حقوق الإنسان والحريات الأساسية من كل خرق وعليه فإن تجديد النداء للدول لتنفيذ إلتزاماتها الدولية يشكل في الواقع وضعها أمام مسؤولياتها بهدف وضع حد لكل أشكال الانتهاكات للذات البشرية .
ولئن كان مؤتمر فيينا محطة هامة في الحركة العالمية لحقوق الإنسان فإن الجدل في صفوف المجمتع الدولي ظل قائما بشأن تطوير آليات حماية حقوق الإنسان لضمان تفعيلها تباعا وتحقيق أرقى درجات النفاذ حيال تطبيقها درءا لمخاطر طمسها وخرقها بالتمادي في ممارسة الإنتهاكات .
ولئن لا يتسع المجال في هذه المداخلة لإستعراض جملة آليات حماية حقوق الإنسان والتي تم إنشاؤها بعد مؤتمر فيينا لسنة 1993 فإن إنشاء مؤسسة قضائية دولية تتعهد بالبت في جرائم حقوق الإنسان وملاحقة مرتكبيها يعد آلية أساسية أفرزتها جهود المجمتع الدولي في هذا الباب .

فحماية لحقوق الذات الإنسانية وتعزيزا لمبادى العدالة ووضع الحد لظاهرة الإفلات من العقاب أنشأ المجتمع الدولي المحكمة الجنائية الدولية .
ولا جدال في كون إنشاء هذه المحكمة يعد آلية حاسمة أفرزتها جهود نشطاء حقوق الإنسان في العالم على مدى عقود من الزمن من أجل ملاحقة مرتكبي أخطر الجرائم ضد الإنسانية ومساءلتهم قضائيا بهدف غلق مسالك التحصن بالإفلات من العقاب .
ويتعين الإشارة في هذا الباب إلى الأئتلاف من أجل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الذي تكون منذ عام 1993 ( ونلاحظ أنه متزامن مع مؤتمر فيينا )وقد ضم الإئتلاف ما يزيد عن ألف عضو من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان للمطالبة بإرساء آلية قضائية لتتبع الجناة في الجرائم المتصلة بحقوق الإنسان .
هذا وواصل الائتلاف عقب صدور نظام روما الأساسي المنشأ للمحكمة الجنائية الدولية حملته العالمية من أجل دعوة جميع الدول للمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة من ناحية ومن أجل سن تشريعات تخول لها التعاون الكامل مع أجهزتها من ناحية اخرى .
هذا ، وأقر المؤتمر الديبلوماسي للمفوضين المنعقد بروما النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وذلك بتاريخ 18 جويلية 1998 وشهد المؤتمر حضور وفود عن مائة وستين ( 160 ) دولة وإحدى وثلاثين (31 ) منظمة دولية ومائة وستة وثلاثين ( 136 ) منظمة غير حكومية حضرت بصفة مراقبين هذا ويقتضي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن تنشأ فعليا هذه المحكمة بمصادقة ستين دولة عليها وفعلا فقد تمت مصادقة الدولة الستين بتاريخ 11 أفريل 2002 على أن تدخل حيز الوجود والممارسة الفعلية بداية من اليوم الأول للشهر الموالي لستين يوم بعد مصادقة الدولة الستين على النظام للمحكمة ( المادة 126 من النظام الأساسي ) وصارت تبعا لذلك المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة قضائية قائمة الذات مؤهلة للتعهد بالملفات الجنائية التي ترفع إليها.
وتجدر الملاحظة في هذا الباب بأن مائة وأربعة دول ( 104 ) قد صادقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ( إلى غاية تاريخ 01/01/2007 ) وأصبحت بالتالي هذه الدول أطرافا بنظام المحكمة على أنه لم تنظم لهذه الهيئة القضائية الدولية سوى دولتين عربيتين وهما الأردن و دجيبوتي .
إن إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بالأغلبية الساحقة للدول في المؤتمر ( مائة وعشرون دولة ) كان إستجابة فعلية لنظال أجيال متعاقبة من نشطاء حقوق الإنسان في العالم ضرورة أن إقامة جهازا قضائيا دائما لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية يشكل آلية نوعية جديدة تضاف إلى منظومة حقوق الإنسان التي ولئن سبق أن أرست أنظمة دولية وإقليمية حمائية على مدار ما يزيد عن نصف قرن فإنها لم تتوفق في التصدي الفعلي للكم الهائل من الانتهاكات ضد الأفراد والجماعات .
ومن المفارقات أن تناشد الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1977 المجموعات الإقليمية إصدار مواثيق وإرساء آليات إقليمية لحماية حقوق الإنسان وإقامة أجهزة للمراقبة أقل تعقيدا من أجهزة إشراف على نطاق عالمي وتم فعلا إرساء المزيد من الأليات الإقليمية ثم يعود المجتمع الدولي إلى فرض آليات حمائية وردعية ذات بعد دولي على غرا إنشاء المحكمة الجنائية الدولية .
ولعل تواصل نزيف الانتهاكات والإجرام في حق الإنسانية أفضى إلى اليقين بمحدودية سائر الأليات السابقة من جهة وبضرورة دفع حشد دولي قصد إقامة آلية قضائية دائمة وشاملة من جهة أخرى .
تأسست المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة مرتكبي أخطر الجرائم ضد الإنسانية والتي يدينها القانون الدولي ، هذا وتقتضي المادة الثانية من النظام الأساسي للمحكمة بارتباطها مع منظمة الأمم المتحدة بإتفاق ، ضرورة أنها ذات شخصية قانونية وفق ما تقتضيه المادة الرابعة من نظامها الأساسي .
على أنه يتعين قبل تقديم المحكمة الجنائية الدولية ، إستعراض الرصيد التاريخي للقضاء الدولي المتصل بردع جانب هام من الجرائم الأشد خطورة التي وقعت الإنسانية تحت طائلتها في عديد بقاع العالم .

المبحث الأول :

الجذور التاريخية للقضاء الجنائي الدولي :


إن إقامة العدالة الجنائية الدولية ليس إجراءا جديدا بل تعود جذورها إلى الماضي البعيد نتيجة تواتر الحروب وما أفرزته من إنتهاكات للأعراف الدولية والقانون الدولي الأنسان .

-1- مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى :

فمنذ القرن التاسع عشر وبالتحديد بعد صدور إتفاقية جنيف لعام 1864 الخاصة بمعالجة ضحايا الحرب دعى ( قوستاف منيه ) وهو أحد مِؤسسي الصليب الأحمر إلى إنشاء محكمة جنائية دولية تتولى مساءلة من يخالف أحكام الإتفاقية الشار إليها وتقدم فعلا بمشروعه هذا إلى اللجنة الدولية مقترحا تشكيل المحكمة على النحو التالي :
ممثلا عن كل طرف من الأطراف المتحاربة وثلاثة ممثلين من دول محايدة على أن مقترحه لم يرى النور رغم كل الجهود المبذولة .

-2- مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى :

وتجدد الإنشغال المجتمع الدولي بإنشاء قضاء دولي جنائي إبان الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها عشرات الملايين من الأشخاص فكانت الرغبة كبيرة في إتخاذ إجراءات لردع الجناة والحيلولة دون وقوع حرب عالمية اخرى من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين .
هذا ويتعين الإشارة في هذا الباب إلى معاهدة فرساي الموقعة عام 1919 حيث شعر المجتمع الدولي بضرورة إرساء قواعد وإجراءات قانونية للغرض . فقد وردت بمعاهدة فرساي إشارة بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة الأمبراطور الألماني السابق ( قليوم الثاني ) حيث إتجه المنتصورن في الحرب إلى إنشاء لجان تحقيق تحدد مخالفات الأعراف وقوانين الحرب وملاحقة مجرمي الحرب الألمان على أن المحاكمة المنتظرة لم يتم إجراءها لأن الأمبرطور الألماني قد تمتع بحق اللجوء السياسي في هولاندا ورفضت هذه الأخيرة تسليمه بدعوى أن الأباطرة والرؤساء تجب محاكمتهم أمام شعوبهم فقط .
كما يتعين الإشارة إلى أن إنشاء عصبة الأمم كان يستهدف تجنب الحروب والمأسي الناجمة عنها وقد ورد بعهد عصبة الأمم الذي أصبحت مقتضياته سارية المفعول سنة 1920 التنصيص على وجوب صيانة السلم العالمي وإلتزام الدول بطرق السليمة لحل نزاعاتها .
هذا وأثير موضوع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كيفما إقتضت ذلك المادة 14 من عهد صبة الأمم ، فتشكلت للغرض لجنة إستشارية عهدت إليها مهمة إعداد مشروع لتأسيس المحكمة ، ويلاحظ في هذا الباب حصول جدلا بشأن المشروع فقد رأي البعض ضرورة إنشاء محكمة مستقلة لمحاكمة الأشخاص المتهمين بإرتكاب جرائم دولية فيما إقترح البعض الأخر تأسيس شعبة جنائية بمحكمة العدل الدولية الدائمة . غير أنه لم يتم إنشاء هذه المحكمة بدعوى عدم سابقية الأتفاق بين الدول بشأن القانون الواجب تطبيقه وعليه فقد إقتصر جهد الجمعية العمومية على إنشاء محكمة العدل الدولية فحسب .

-3- مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية :

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وما خلفته من صدمة للأنسانية نتيجة حجم الدمار وهول الكوارث الذي أفرزته ، تجدد إنشغال المجتمع الدولي بإنشاء جهاز قضائي دولي لملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية الأشد خطورة . وفعلا فقد تم تشكيل محاكم جنائية دولية من قبل الحلفاء المنتصرين .
ففي عام 1940 تم تشكيل محكمة نورونبارغ في حين إنشأت محكمة طوكيو عام 1946 وذلك لمحاكمة مجرمي الحرب الألمان واليابانيين .
ونلاحظ في هذا الباب بأن هتين المحكمتين المؤقتتين قد وصفتا بمحكمتي المنتصرين ( نسبة إلى المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ) .
ولئن لم تنجح معاهدة فرساي لسنة 1919 في إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الأولى فإن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية قد توفقوا في إقامة إجهزة قضائية لمحاكمة المنهزمين الألمان واليابانيين وذلك بعد استسلامهما .
وعليه فقد دعى الحلفاء إلى إجراء محاكمة عسكرية لمجرمي الحرب الألمان واليابانيين وتبنوا ذلك وفق إتفاقية لندن المؤرخة في 08/08/1945 والتي افضت إلى إنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب .
وتم عقد جلسات المحكمة بمدينة نورنبورغ الألمانية على خلفية أنها المركز الرئيسي للحزب النازي وقضت المحكمة بإعدام عدد من القادة النازيين الألمان بعد إدانتهم بإرتكاب المذابح والقتل الجماعي ، وبخصوص اليابان فقد اصدر القائد العام لقوات الحلفاء في اليابان قرار إنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب العالمية وذلك بتاريخ 19/01/1946 وإختصت هذه المحكمة بالنظر في الجرائم ضد السلام الدولي والجرائم ضد الأنسانية ومخالفات الأعراف والقوانين الدولية المتصلة بالنزاعات المسلحة .
وفي 12/11/1948 قضت المحكمة بإعدام ستة قادة يابانيين .

-4- مجلس الأمن الدولي وإنشاء المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة :

شهد المجتمع الدولي لاحقا إنشاء المحكمة الدولية الجزائية الخاصة بيوغسلافيا بمقتضى قرار مجلس الأمر الدولي الصادر سنة 1993 ثم المحكمة الدولية الجزائية الخاصة برواندا وفق ذات الإجراء الأممي وذلك سنة 1994 .
إختصت كل من محكمة يوغسلافيا السابقة ورواندا بمحاكمة المتهمين بإرتكاب الجرائم التالية :
-1 – جريمة الإبادة .
-2 – الجرائم ضد الإنسانية .
-3 –خرق القوانين والأعراف الدولية المتصلة بحالات النزاع المسلح .
-4 – إنتهاكات خطيرة لإتفاقيات جنيف لسنة 1949 .
وعلى مستوى الإختصاص الترابي للمحكمتين نلاحظ بأن المحكمة الخاصة بيوغسلافيا قد تعهدت بالنظر في الجرائم المرتكبة على كامل التراب اليوغسلافي ( جمهورية يوغسلافيا الإشتراكية سابقا ) فيما تعهدت المحكمة الخاصة بروندا بملاحقة المتهمين بإرتكاب الجرائم على التراب الرواندي وكذلك الجرائم الصادرة عن روانديين والمرتكبة على تراب الدول المجاورة لرواندا .
وهذا ويتجه الملاحظة بأن المحكمة الخاصة بيوغسلافيا والمحكمة الخاصة برواندا قد تعهدا بالنظر في الجرائم قبل إنشاء المحكمتين:
-1 – الجرائم المرتكبة بداية من 1991/01/01 بالنسبة لرواندا .
-2 – الجرائم المرتكبة خلال المدة الفاصلة بين 1 جانفي و31 ديسمبر 1994 بالنسبة ليوغسلافيا السابقة .
وعليه فقد كان مجال التدخل للمحكمتين ذي مفعول رجعي بينما حدد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مجال تدخلها بداية من تاريخ دخولها حيز التنفيذ .
وتختلف المحكمتين المذكورتين عن المحكمة الجنائية الدولية من حيث علوية كل المحكمتين حيال المحاكم الوطنية للدولتين ( إختصاص مطلق ) بينما تختص المحكمة الجنائية الدولية بالصبغة المكملة للقضاء الوطني للدول وعلى مستوى إثارة الدعوى نلاحظ الإختصاص الحصري للمدعي العام بالنسبة لمحكمة يوغسلافيا ومحكمة روندا ضرورة أنه يثير الدعوى ويباشر التحقيقات ويدون لائحة الإتهام بينما يتعهد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإجراء التحقيقات تحت إشراف الدائرة التمهيدية للمحكمة التي يعود لها القول الفصل في إحالة المشتبه بهم على المحاكمة من عدمها .
- المبحث الثاني :
المحكمة الجنائية الدولية :

يتعين أن نركز في هذه المداخلة على إختصاصات المحكمة الجنائية الدولية ( الباب الأول ) ثم نستعرض آليات ممارسة تلكم الإختصاصات ( الباب الثاني ) .


الباب الأول :

إختـصـاصـات الـمحكمـة الجنائية الدولية :


تقتضي المادة الأولى ( 1 ) من النظام الأساسي بأن تكون المحكمة الجنائية الدولية "هيئة دائمة تمارس إختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي وذلك على النحو المشار إليه في هذا النظام الأساسي " .
لنستعرض طائفة الجرائم التي ترجع بالنظر إلى أجهزة المحكمة الجنائية الدولية ( 1) ثم القانون الواجب التطبيق ( 2 ) لنخلص إلى مسألة الاحتكام للمبادئ العامة للقانون الجنائي ( 3 ) .

-1- الجرائم التي تدخل في إختصاص المحكمة :


عملا بأحكام المادة ( 5 ) من النظام الأساسي فإن المحكمة الجنائية الدولية تختص بالبت في الجرائم الأشد خطورة وهي كالأتي :

-1 ) جريمة الإبادة الجماعية .
- 2 ) الجرائم ضد الإنسانية .
- 3 ) جـــرائــم الـــحــــرب .
- 4 ) جــريمــة العـــــدوان .


وقد ورد بالمواد 6 ، 7 و 8 من النظام الأساسي تعريفا مفصلا لأركان الجرائم المشار إليها أعلاه على أننا نقدم في هذه المداخلة أهم الأركان المتصلة بتلكم الجرائم :

• جريمــة الإبــــادة الجمـــاعية :


وتقوم أركانها على الأفعال والممارسات التي تستهدف إهلاك جماعة قومية ، أو إثنية أو عرفية أو دينية بصفتها تلك إهلاك كليا أو جزئيا .
لغرض هذا النظام الأساسي تعني " الإبادة الجماعية " أي فعل من الأفعال التالية :
يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاك كليا أو جزئيا .
( أ ) قتل أفراد الجماعة .
( ب ) إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة .
( ج ) إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا جزئيا .
( د ) فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة .
( ه ) نقل أطفال عنوة إلى جماعة اخرى .
• الجرائـــم ضـد الإنــسانيــة :


وتقوم أركانها على إرتكاب هجوم منهجي وواسع النطاق ضد مجموعة من السكان المدنيين وعن سابق علم بالهجوم ( الأضمار ) .
لغرض هذا النظام الأساسي يشكل أي فعل من الأفعال التالية " جريمة ضد الإنسانية " متى أرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم .
( أ ) القتل العمد .
( ب ) الإبادة .
( ج ) الإسترقاق .
( د ) إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان .
( ه ) السجن أو الحرمان الشديد أي على نحو أخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي .
( و ) التعذيب .
( ز ) الإغتصاب أو الإستبعاد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة .
( ح ) إضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعرف في الفقرة 3 أو لأسباب اخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو بأية جريمة تدخل في إختصاص المحكمة .
( ط ) الإختفاء القسري للأشخاص .
( ي ) جريمة الفصل العنصري .
( ك ) الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة أو أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية .
لغرض الفقرة ( 1 ) ( أ ) تعني عبارة هجوم موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين نهجا سلوكيا يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال المشار إليها في الفقرة ( 1 ) ضد أية مجموعة من السكان المدنيين عملا بسياسة دولة أو منظما تقضي بإرتكاب هذا الهجوم أو تعزيز لهذه السياسة
( ب ) تشمل الإبادة تعمد فرض أحوال معيشية من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بقصد إهلاك جزء من السكان .
( ج ) يعني " الإسترقاق " ممارسة أي من السلطات المترتبة على حق الملكية أو هذه السلطات جميعها على شخص ما بما في ذلك ممارسة هذا السلطات في سبيل الإتجار بالأشخاص ولا سيما النساء والأطفال .
( د) يعني إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان نقل الأشخاص المعينين قسرا من المنطقة التي يوجودن فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري أخر دون مبررات يسمح لها القانون الدولي .
( ه ) يعني التعذيب تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة سواء بدنيا أو عقليا بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته ولكن لا يشمل التعذيب أي ألم أو معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو يكونان جزءا منها نتيجة لها .
( و ) يعني " الحمل القسري " إكراه المرأة على الحمل القسري أو على الولادة غير المشروعة بقصد التأثير على التكوين العرقي لأية مجموعة من السكان أو إرتكاب إنتهاكات خطيرة اخرى للقانون الدولي ولا يجوز بأي حال تفسير هذا التعريف على نحو يمس القوانين الوطنية المتعلقة بالحمل .
( ز ) يعني الإضطهاد حرمان جماعة من السكان أو مجموعة السكان حرمانا متعمدا وشديدا من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي وذلك بسبب هوية الجماعة أو المجموع .
( ح ) تعني جريمة الفصل العنصري أية أفعال لا إنسانية تماثل في طابعها الأفعال المشار إليها في الفقرة ( 1 ) وترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الإضطهاد المنهجي والسيطرة من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية اخرى وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام .
( ط ) يعني " الإختفاء القسري للأشخاص " إلقاء القبض على أي أشخاص أو إحتجازهم أو إختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عليه ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة .
لغرض هذا النظام الأساسي من المفهوم أو تعبير نوع الجنس يشير إلى الجنسين الذكر والأنثى في إطار المجتمع ولا يشير تعبير " نوع الجنس " إلى أي معنى أخر يخالف ذلك .

• جرائـــــم الحرب :

وتتصل أركانها بمجرد حصول إنتهاكات جسيمة لإتفاقيات جينيف المؤرخة في 12 أوت 1949 وذلك بالاعتداء على المدنيين وممتلكاتهم كما تقوم أركانها بحصول إنتهاكات خطيرة للقوانين والأعراف السارية المفعول خلال النزاعات المسلحة .
( أ ) يكون للمحكمة إختصاص فيما يتعلق بجرائم الحرب ولا سيما عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية إرتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم .
لغرض هذا النظام الأساسي تعني جرائم الحرب :
( أ ) الإنتهاكات الجسيمة لإتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 أوت 1949 أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام إتفاقية جنيف ذات الصلة .
( 1 ) القتل العمد .
( 2 ) التعذيب أو المعاملة اللا إنسانية بما في ذلك إجراء تجارب بيولوجية .
( 3 ) تعمد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق لدى خطير بالجسم أو بالصحة .
( 4 ) إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والإستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة .
( 5 ) إرغام أي اسير حرب أو أي شخص أخر مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية .
( 6 ) تعمد حرمان أي أسير حرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكة عادلة ونظامية .
( 7 ) الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع أخذ رهائن .
( ب ) الإنهاكات الخطيرة الأخرى للقانونين والأعراف السارية على المنازاعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي أي فعل من الأفعال التالية :
( 1 ) تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية .
( 2 ) تعمد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية أي المواقع التي لا تشكل أهدافا عسكرية .
( 3 ) تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو إحداث أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام عملا بميثاق الأمم المتحدة ما داموا يستحقون الحماية التي توفر للمدنيين أو للمواقع المدنية بموجب قانون المنازعات المسلحة .
( 4 ) تعمد شن هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصاباب بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية يكون إفراطه واضحا بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة .
( 5) مهاجمة أو قصف المدن أو القرى أو المساكن أو المباني العزلاء التي لا تكون أهدافا عسكرية بأية وسيلة كانت .
( 6 ) قتل أو جرح مقاتل إستسلم مختارا يكون قد ألقى سلاحه أو لم تعد لديه وسيلة للدفاع .
( 7 ) الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في إتفاقيات جنيف .
( 8 ) تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر إلزاميا أو طوعيا في القوات المسلحة الوطنية إو إستخدامهم للمشاركة فعليا في الأعمال الحربية .
( ج ) في حالة وقوع نزاع مسلح غير ذي طابع دولي الإنتهاكات الجسيمة للمادة ( 3) المشتركة بين إتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة في 12 أوت 1949 وهي من الأفعال التالية المرتكبة ضد أشخاص غير مشتركون إشتراكا فعليا في الأعمال الحربية بما في ذلك افراد القوات المسلحة الذين القوا سلاحهم و أولائك الذين أصبحوا عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الإصابة أو الإحتجاز أو لأي سبب أخر .
- إستعمال العنف ضد الحياة والأشخاص وبخاصة القتل بجميع انواعه والتشوبة والمعاملة القاسية والتعذيب .
- الإعتداء على كرامة الشخص وبخاصة المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة .
- أخذ رهائن .
- إصدار أحكام وتنفيذ إعدامات دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلة تشكيلا نظاميا تكفل جميع الضمانات القضائية المعترف عموما بأنه لا غنى عنها .
- تنطبق الفقرة ( 2 هـ ) على المنازعات المسلحة غير ذات الطابغ الدولي وبالتالي فهي لا تنطبق على حالات الإضطرابات والتوترات الداخلية مثل أعمال الشغب أو أعمال العنف المنفردة أو المتقطعة وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة .
- الإنتهاكات الخطيرة الأخرى للقاوانين والأعراف السارية على المنازعو المسحلة غير ذات الطابع الدولي في النطاق الثابت للقانون الدولي أي من الأفعال التالية :
- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أوضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية .
- تعمد توجيه هجمات ضد المباني والمواد والوحدات الطبية ووسائل النقل والأفراد من مستعملي الشعارات المميزة المبنية في إتفاقيات جنيف طبقا للقانون الدولي .
- تعمد شن هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشأت أو مواد أو إحداث أو مركبات مستخدمة في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام عملا بميثاق الأمم المتحدة ما داموا يستحقون الحماية التي توفر للمدنينين أو للمواقع المدنية بموجب القانون الدولي للمنازاعات المسلحة .
- تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية المرضى والجرحى شريطة ألا تكون أهدافا عسكرية .
- نهب أي بلدة أو مكان حتى تم الإستيلاء عليه عنوة .
- الإغتصاب أو الإستبعاد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري على النحو المعرث في الفقرة ( 2 و ) من المادة 2 أو التعقيم القسري أو أي شكل اخر من أشكال العنف الجنسي يشكل أيضا إنتهاكا خطيرا للمادة المشتركة بين إتفاقيات جنيف الأربع .
- تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر إلزاميا أو طويعيا في لاقوات المسلحة أو في جماعات مسلحة أو إستخدامهم للمشاركة فعليا في الأعمال الحربية .
- إصدار أوامر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع مالم يكن ذلك بداع من أمن المدنيين المعينين أو لأسباب عسكرية ملحة .
- قتل أحد المقاتلين من العدو أو إصابته غدرا .
- إعلان أنه لن يبقى أحد على قيد الحياة .
- إخضاع الأشخاص الموجودين تحت سلطة طرف آخر في النزاع البدني أو لأي نوع من التجارب الطبية أو العلمية التي لا تبررها المعالجة الطبية أو معالجة الأسنان أو المعالجة في المستشفى للشخص المعني والتي لا تجري لصالحه وتسبب في وفاة ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص أو في تعريض صحتهم لخطر شديد .
- تدمير ممتلكات العدو أو الإستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الإستلاء مما تحتمه ضرورات الحرب .
تنطبق الفقرة ( 2 ج ) على المنازعة المسلحة غير ذات الطابع الدولي وبالتالي فهي لا تنطبق على حالات الإضطرابات والتوترات الداخلية مثل أعمال الشغب أو أعمال العنف المنفردة أو المتقطعة أو غيرها من الأعمال ذات الطبيعة المماثلة وتنطبق على المنازعات المسلحة التي تقع في إقليم دولة عندما يوجد صراع مسلح طويل الأجل بين السلطات الحكومية وجماعات مسلحة منظمة أو فيما بين هذه الجماعات .
ليس في الفقرتين ( ج ، د ) ما يؤثر على المسؤولية عن حفظ أو إقرار القانون والنظام في الدولة أو عن الدفاع عن وحدة الدولة وسلامتها الإقليمية بجميع الوسائل المشروعة .

• جـريمــة العــدوان :

لاتزال أركان هذه الجريمة قيد النقاش والجدل ضرورة أن النظام الأساسي للمحكمة أقر بالفقرة الأخيرة للمادة ( 5 ) بأن تعريف هذه الجريمة وتكييفها سيتم لاحقا عملا بمقتضيات المادتين ( 121 ) و ( 123 ) من النظام الأساسي والمتعلقتين بالتعديلات والمراجعة وعليه فإن إختلافات شديدة بين أطراف النظام الأساسي للمحكمة حالت دون الاتفاق النهائي بشأن تحديد أركان جريمة العدوان .
والأرجح أن تطول مدة النقاش حول تعريف أركان هذه الجريمة لأن حسم المسألة سيلقي بضلاله على المصالح السياسية الحيوية لأكثر من طرف دولي على أنه يتعين في هذا الباب الإشارة بأن القانون الدولي عامة وميثاق منظمة الأمم المتحدة خاصة تعرض إلى الممارسة العدوانية ورتب عقوبات ضد مرتكبيها من الدول وفق مقتضيات الباب السابع من الميثاق المتعلق بصلاحيات مجلس الأمن الدولي حيال تهديد السلم وممارسة العدوان .
ونشير في هذا الباب إلى أحكام المادة ( 27 ) من ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي تقتضي إستبعاد وإزاحة الدولة الطرف في النزاع من المشاركة في عملية التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بشأن نزاع ما .وطالما أن حالة العدوان تشكل أقصى درجات إنتهاك القانون الدولي فإن آلية إستبعاد الدولة الطرف في العدوان في باب التصويت بشأن قرارات يعد في تقديرنا أمرا ضروريا وذلك على قاعدة ( من باب أولى وأحرى ) لأن القانون الدولي الذي أقر آلية إستبعاد الدولة الطرف من عملية التصويت على قرار مجلس الأمن بشأن مجرد نزاع لا يمكن في رأيينا أن يجيز تدخل دولة طرف في العدوان في عملية التصويت وهي حالة أخطر بكثير من حالة النزاع .
هذا ويجوز إقتراح تعديلات على أركان الجرائم من جانب :

• أي دولة طـــرف
• القضاة بأغلبية مطلقة
• المدعي العـــام للمحكمة الجنائية الدولية

على أن تعتمد هذه التعديلات بأغلبية ثلثي أعضاء جمعية الدول الأطراف مع الحرص على أن تكون التعديلات بشأن أركان الجرائم متناسقة مع النظام الأساسي للمحكمة .
ونلاحظ في هذا الصدد بأنه لا توجد مخاطر مبدئيا من شأنها إزاحة بعض الجرائم عن إختصاص المحكمة بموجب التعديلات المقترحة لأن أحكام المادة ( 12 ) من النظام الأساسي للمحكمة تقتضي بأن الدولة التي تصبح طرف " تقبل بذلك إختصاص المحكمة فيما يتعلق بالجرائم المشار إليها في المادة ( 5 ) " .
ولكن يتعين الملاحظة بشأن جريمة العدوان بأن القانون المنظم لمحكمة نورنبورق قد تعرض بفصله السادس إلى تحديد جريمة العدوان وذلك بعنوان " جرائم ضد السلم تستهدف إعلان حرب عدوانية في خرق تام للمعاهدات والمواثيق الدولية " .
كما سبق لمنظمة الأمم المتعهدة أن أقرت في مستوى الجمعية العامة بتاريخ 1974/12/14 تعريفا لجريمة العدوان تم إلحاقه بقرار الجمعية العامة عدد 3314 ويقتضي بأن العدوان هو " إستعمال القوة العسكرية الصادر عن دولة ضد السيادة والحرمة الترابية والإستقلال السياسي لدولة اخرى ..."
على أن القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست إلزامية تجاه الدول خلافا للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي وفق أحكام الباب السابع من الميثاق .
هذا وأعدت كذلك لجنة القانون الدولي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة مشروع قانون يحدد الجرائم ضد الإنسانية والذي تضمن إشارة للعدوان إلا أن هذا المشروع مازال بصدد الدرس من طرف الدول .
بعد عرض الجرائم التي تدخل في إختصاص المحكمة يتعين أن نتساءل بشأن القانون الواجب التطبيق خلال ممارسة المحكمة لاختصاصها :

-2- القانـون الــواجب التـطبيق :


حدد النظام الأساسي فروع القانون التي يتعين على قضاة هذه المحكمة تطبيقها وقد ورد ذلك بأحكام المادة ( 21 ) والتي إقتضت بأن يكون النظام الأساسي لهذه المحكمة قانونها كما تشكل أركان الجرائم كما وردت بالنظام الأساسي قانونا تحتكم إليه إلى جانب القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات الخاصة بالمحكمة ، هذا في المقام الأول .
وفي المقام الثاني ، تعتمد المحكمة المعاهدات الواجبة التطبيق ومبادئ القانون الدولي وقواعده بما في ذلك المبادئ المتصلة بالقانون الدولي للنزاعات المسلحة .
كما يمكن للمحكمة بأن تستند إلى المبادئ المتصلة بالنظم القانونية الوطنية خاصة القوانين الوطنية للدول التي من عادتها ممارسة ولايتها القضائية على الجريمة على ألا تتعارض تلكم المبادئ مع أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ولا مع أحكام القانون الدولي ، هذا ويجوز للمحكمة أن تحتكم إلى فقه قضاءها ( أي السوابق القضائية الصادرة عنها ) .
وهذه الإمكانية تتاح بعد أن تقطع المحكمة أشواطا في ممارسة ولايتها القضائية الدولية ويتجمع لديها كم من الأحكام والقرارات من شأنها أن تشكل لاحقا مصدرا من مصادر قانون المحكمة .
وتشدد أحكام المادة ( 21 ) من النظام الأساسي على ضرورة أن يكون تطبيق وتفسير القانون يتماشى مع معايير حقوق الإنسان المعترف بها دوليا وفي حل من أي تمييز كان مبني على الجنس أو العرف أو اللون أو اللغة أو الدين أو المعتقد أو الرأي السياسي وغيرها من أشكال التـمييز .
ويتعين الملاحظة بشأن المادة ( 21 ) من النظام الأساسي ما يلي :
إن إدراج النظام الأساسي للمحكمة في المقام الأول من حيث القانون الواجب التطبيق لايتنزل في الحقيقة في رسم سلم تفاضلي بشأن مصادر القانون المعتمد من المحكمة تماما كما هو ساري المفعول في الأنظمة القانونية الوطنية لحسم مسآلة تنازع القوانين بل يتنزل في إعتقادنا في شمولية وعمق المبادئ والأصول القانونية الورادة بالنظام الأساسي للمحكمة وبقواعد الإجراءات والإثبات وهذا يجعل إدراجها في المقام الأول كمصدر لقانون المحكمة أمرا مقبولا مبدئيا .
وتجدر الإشارة من ناحية اخرى بأن المحكمة غير مختصة بالبت في الجرائم التي تعود وقائعها إلى تاريخ سابق لتاريخ بدء نفاذ النظام الأساسي للمحكمة .
وعليه فإن الاختصاص الحكمي للمحكمة مقيد بإختصاص زمني يسري مفعوله بشأن الجرائم المرتكبة بعد دخول النظام الأساسي للمحكمة حيز النفاذ ( بتاريخ 12 جوان 2002 ) .
إن هذا التقييد الزمني لئن يبدو منطقيا وقانونيا ضرورة أنه لا يمكن أن تتعهد المحكمة بالتتبع والمقاضاة بشأن الجرائم الخطيرة المرتكبة قبل نشأة إلتزام الدول الأطراف في نظام المحكمة وهي مسألة سيادية أساسية ولكن من شأن أن يترتب عن ذلك الدفع إفلاتا من العقاب لصالح الجناة بشأن جرائم خطيرة إرتكبت ضد الإنسانية ولا يسع المحكمة التعهد بها للقيود الواردة بالمادة ( 11 ) من النظام الأساسي والمتعلقة بالاختصاص الزمني .
على أنه يمكن إرساء محاكم دولية خاصة تتعهد بمقاضاة الجناة المرتكبين للجرائم الأشد خطورة قبل دخول النظام الأساسي للمحكمة حيز النفاذ وذلك على غرار محكمة يوغسلافيا السابقة ومحكمة رواندا .

-3 - الإحتكام للمبادي العامة للقانون الجنائي :



لا جدال في كون القانون الجنائي عامة يحتكم لمبادي عامة يتعين تطبيقها لتأمين المحاكمة العادلة والمنصفة لكل شخص ولئن حددت المادة ( 21 ) من النظام الأساسي للمحكمة المراجع القانونية التي تستند إليها المحكمة في ممارسة إختصاصها فإن الاحتكام للمبادئ العامة للقانون الجنائي يعد إجراءا ضروريا لأن تلكم المبادئ تمثل دليلا إجرائيا وضعه شراح وفقهاء القانون الجنائي لضمان سير سليم للإجراءات الجزائية من ناحية وحماية الحقوق الشرعية للمتهم من ناحية اخرى .


المبدأ الأول :

لا جريمة إلا بنص سابق الوضع :


تقتضي أحكام المادة (22 ) من النظام الأساسي أن تباشر المحكمة إختصاصها في المساءلة الجزائية للأشخاص بمقتضى نص سابق الوضع وهو في صورة الحال النظام الأساسي للمحكمة وعليه فإن هذه الأخيرة لا تختص إلا بالبت في الجرائم الواردة بنظامها الأساسي .
وهذا المبدأ يفسر ما تعرضنا إليه سابقا بخصوص عدم إختصاص المحكمة بالنظر في الجرائم الواقعة قبل دخول نظامها الأساسي حيز النفاذ ولكن يتعين الملاحظة في هذا الباب بأن ذات المادة ( 22 ) تجيز مرجعية المحكمة للقانون الدولي بصفة عامة أي خارج إطار نظامها الأساسي وذلك في بعض حالات تكييف السلوك الإجرامي على أنه في حالة الغموض بشأن تعريف الجريمة أو تأويل ملابساتها لا يجوز الإحتكام للقياس بل يفسر التعريف لصالح المتهم .

المبدأ الثاني :

لا عقوبة إلا بنص سابق الوضع :



يتماشى هذا المبدأ مع المبدأ المشار أعلاه ضرورة أنه لايحق إخضاع المتهم لعقوبة جنائية غير واردة زمن إرتكابه للجريمة وهذه القاعدة القانونية تكرس مبدأ هاما وهو الأثر اللارجعي للعقاب الجزائي
على أن هذا المبدأ يخضع لاستثناء وحيد يتمثل في إنتفاع المتهم بالعقوبة الأخف إذا ما تم تعديل القانون قبل صدور حكم نهائي بشأنه .
ونبقى في باب العقوبات لنلاحظ بأن النظام الأساسي خول للمحكمة القضاء بالعقوبات الأتي بيانها :

-1- السجن المؤبد في حالة الجرائم الأشد خطورة وإعتبارا لظروف الشخص المدان (صفته خلال إرتكاب الجرائم طبيعة سلطاته ونفوذه .....) .

-2-السجن لسنوات لمدة أقصاها ثلاثين ( 30 ) سنة .


وفي حالة تعدد الجرائم تصدر المحكمة بالنسبة لكل جريمة حكما خاصا وحكما مشتركا يحدد المدة الكاملة للعقاب الصادر على ألا تتجاوز المدة الكاملة للعقاب الصادر خمسة وثلاثين ( 35) عاما أو السجن المؤبد .

ونلاحظ في باب العقوبات الواردة بأحكام المادة ( 77 ) من النظام الأساسي بأن المحكمة غير مختصة بالقضاء بعقوبة الإعدام لأن النظام الأساسي لا يجيز ذلك وهذا يرتقي لمبدأ مناهضة حكم الإعدام الذي يتبناه نشطاء حقوق الإنسان في العالم بأسره حماية للذات البشرية وحقها في الحياة .

-3- فرض الغرامات ومصادرة العائدات والممتلكات.

تختص المحكمة الجنائية بالقضاء بإلزام المتهم بأداء غرامات لفائدة الضحايا كما تختص بالقضاء بمصادرة العائدات والممتلكات المتأتية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من الجريمة دون المساس بحقوق الغير الحسن النية .

هذا وينص النظام الأساسي للمحكمة على إنشاء صندوق إستئمان تحول إليه العائدات من الغرامات المحكوم بها والأصول والممتلكات المصادرة وتصرف لفائدة الضحايا وعائلاتهم وتأذن المحكمة بتحويل المال وغيره من الأصول إلى الصندوق على أن تحدد الدول الأطراف في نظام المحكمة معايير إدارته ( المادة 79 من النظام الأساسي ) .

ويبدو جليا أن العقاب طبق نظام المحكمة يتجاوز العقوبات السالبة للحرية ، ليمتد إلى الذمة المالية للمتهمين ويعد هذا إنصافا للضحايا من ناحية ، ووضع حد لاستفادة الجناة من عائدات جرائمهم من ناحية اخرى ، فضلا عن إقرار مبدأ أخلاقي هام وهو عدم حمل المجتمع الدولي على جبر أضرار متصلة بجرائم شديدة الخطورة صادرة عن أشخاص بصفتهم الفردية .

على أن العدد الكبير عادة لضحايا هذه الجرائم قد يجعل هذا المبدأ الأخلاقي يخضع لإستثناءات تدعو الدول الأعضاء في نظام المحكمة رصد أموال بالصندوق كفيلة بتغطية التعويضات المحكوم بها لفائدة الضحايا أو أسرهم .
وهذا في حد ذاته مبدأ أخلاقي يرتقي لقيم التضامن والتعاطف .

المبدأ الثالث :
شـخصيــة الـمسؤوليـة الــجنائيــة :


من المبادئ الرئيسية في القانون الجنائي مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية ذلك أنه بمجرد توفر ركن الإسناد حيال الجرائم المنسوبة للمتهم تكون المسؤولية الجزائية قائمة تجاهه كفرد وبقدر ما يتعدد الجناة في القضية تكون معايير مساءلتهم الجزائية فردية كل حسب مشاركته المباشرة أو غير المباشرة في إرتكاب الجريمة ( فاعل أصلي ، مشارك ، ساهم في الإعداد والتحضير للجريمة ساعد على وقوعها ، كان له علم مسبق بالجريمة ... ) .
ويتعين الملاحظة في هذا الباب بأن مساءلة الأشخاص جزائيا وبصفة فردية لا يرفع عن الدول كذات معنوية مسؤوليتها بموجب القانون الدولي على أن ذلك يدخل في إختصاص محكمة العدل الدولية .


المبدأ الرابع :


عدم الاعتداد بالصفة الرسمية للمتهمين :


إنطلاقا من مبدأ شخصية المساءلة الجنائية وبناءا على طبيعة الجرائم المختصة بها المحكمة والتي تتصل بالسلطة والنفوذ وملكية القرار وحيازة الترسانة العسكرية وغيرها من وسائل التعذيب
والتدمير فإن النظام الأساسي للمحكمة أقر عدم إعتبار الحصانة المتصلة بالصفة الرسمية للأشخاص موضوع التتبع والمقاضاة بتهم تدخل في إختصاص المحكمة وعدم الاعتداد بالصفة الرسمية للأشخاص وهذا من شأنه أن يكرس مبدأ عدم الإفلات من العقاب تحت أي بند من البنود بما في ذلك الحصانة وينص النظام الأساسي في المادة ( 27 ) على أن الصفة الرسمية للشخص على المستويين الوطني والدولي لا تحول دون ممارسة المحكمة لاختصاصها الجزائي حياله .

وما لم يثبت القادة ( السياسيين والعسكريين ) بالحجة القاطعة عدم علمهم بإرتكاب الجرائم الصادرة عن مرؤسيهم ، وما لم يثبتوا بالحجة القاطعة سابقية إتخاذهم تدابير وإجراءات إدارية وقضائية لمنع إرتكاب تلكم الجرائم فإنهم يدخلون تحت طائلة المساءلة الجزائية أمام المحكمة بصفتهم الشخصية .

وعليه فإن أحكام المادة ( 27 ) من النظام الأساسي للمحكمة وضعت حدا للتحصن المزدوج
( السلطة / الافلات من العقاب ) الذي ظل يتمتع به بعض الحكام في العالم .
هذا وتستوجب ممارسة المحكمة لإختصاصها إقامة آليات وإجراءات يتعين إستخدامها كيفما وردت بأحكام النظام الأساسي وبمدونة القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات .

الباب الثاني :

آليات ممارسة إختصاص المحكمة الجنائية الدولية :


إن دراسة آليات المحكمة الجنائية الدولية تقتضي إستعراض عدة أجهزة تواكب سير التحقيقات والمقاضاة ، ونظرا للبعدين الدولي والجنائي للمحكمة فإن وظائفها وإجراءتها معقدة لا محالة نتيجة تدخل وتداخل عدة أطرف وأجهزة طيلة مراحل التحقيقات والمقاضاة .
وقد حدد نظام المحكمة مجالات تدخل أو تداخل كل طرف أو جهاز خلال مباشرتها لوظيفتهـا القضائية ، ونعني الأجهزة الأتي بيانها :



(الوحدة الأولى ) (الوحدة الثانية )

- المدعي العام القضاة
- المسجل GREFFE ( ضبط المحكمة) - رئاسة المحكمــة
- الدائرة التمهيدية
- الدائرة الإبتدائية
- الإستئناف



(الوحدة الثالثة ) (الوحدة الرابعة )

- الدول الأطراف - المنظمات غير الحكومية
- الدولة غير الطرف - مصادر اخرى موثوق بها
- أجهزة منظمة الأمم المتحدة
- المنظمات الحكومية



(الوحدة الخامسة ) (الوحدةالسادسة)

- المتهمون - الدفاع ( عن المتهمين ) .
- الضحايا - الممثل القانوني ( للضحايا )
- الشهود

(الوحدة السابعة )

المترجمون
الخبــــــراء



نلاحظ إذن أنه ما لايقل عن سبعة وحدات تسجل حضورها في سير التحقيقات والمقاضاة لدى المحكمة الجنائية الدولية ، وتعهد المحكمة بالبت في الدعاوى المرفوعة إليها يجري بمقتضى أحكام النظام الأساسي من جهة وعملا بالقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات من جهة اخرى .

ويتعين الإشارة في هذا الشأن بأن مدونة القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات وهي دليل إجرائي للمحكمة تم إعتماده من طرف جميعة الدول الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية في دورتها الأولى المنعقدة في نيويورك خلال الفترة من 3 إلى 10 سبتمبر 2002 ويشمل الدليل الإجرائي للمحكمة ما لايقل عن ( 225 ) قاعدة إجراء وإثبات .

هذا وقد ورد الدليل الإجرائي مرفق بمذكرة تفسيرية تنص على ما يلي » تعد القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات وسيلة لتطبيق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وتابعة له في جميع الحالات ويتمثل الهدف منها في تدعيم أحكام النظام وقد أوليت العناية لدى بلورة القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات إلى تفادي إعادة صياغة أحكام النظام الأساسي وعدم القيام قدر المستطاع بتكرارها .. وتضمنت القواعد حسب الإقتضاء إشارات مباشرة إلى النظام الأساسي وذلك من اجل تأكيد العلاقة القائمة بين القواعد الإجرائية والنظام الأساسي على النحو المنصوص عليه في المادة 51 وخاصة الفقرتان 4 و 5 وينبغي في جميع الأحوال قراءة القواعد وقواعد الإثبات بالإقتران مع أحكام النظام ورهنا بها .
ولاتمس القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات للمحكمة الجنائية الدولية بالقواعد الإجرائية المعدة لأي محكمة وطنية ولا بأي نظام قانوني وطني لأغراض الإجراءات الوطنية « .

وعملا إذن بأحكام النظام الأساسي للمحكمة وبمقتضى دليل القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات نستعرض إشكالية الدور المكمل للمحكمة الجنائية الدولية (1 ) ثم آليات تدخل كل من المدعي العام والدائرة التمهيدية في أطوار التحقيق والمقاضاة :( 2 ) . هذا وتسجل الدول الأطراف حضورها في آليات ممارسة الإختصاص : ( 3) . فضلا عما يقره النظام الأساسي للمحكمة ودليل قواعدها الإجرائية من تكريس معايير المحاكمة العادلة : (4 ) .
على انه يإعتبار تاريخية الحدث المتصل بتسلم أول مدعي عام بالمحكمة لمهامه بصفة رسمية بعد إنتخابه من الدول الأطراف وقد تم ذلك بتاريخ 16 جوان 2003 بلا هاي أين ادي المدعي العام التعهد الأتي بيانه " أتعهد رسميا بأن أؤدي مهامي وأمارس سلطاتي بوصفي المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بشرف وإخلاص ونزاهة وأمانة وبأن أحترم سرية التحقيقات والمحاكمة ( تعهد منصوص عليه بدليل القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات القاعدة عدد 6 ) .

هذا ويحتفظ بالتعهد الموقع والذي يكون شاهدا عليه رئيس المحكمة أو رئيس مكتب جمعية الدول الأطراف في قلم المحكمة وفي سجلاتها .
يتعين أن نقدم نبذة من السيرة الذاتية لأول مدعي عام لدى المحكمة الجنائية الدولية وهو السيد لوي مورينو أوكامبو LUIS MARENO OCAMPO أرجنتيني الجنسية تم إنتخابه في شهر أفريل 2003 من جمعية الدول الأطراف بنظام المحكمة ( اختياره تم بوفاق الدول الأطراف بإعتباره المرشح الوحيد لهذا المنصب ) .
والسيد لوي مورينو أو كامبو أشتهر في مجال مكافحة الجرائم الأكثر خطورة بالأرجنتين ذلك أنه أثار تتبعات ضد تسعة قادة عسكريين بالأرجنيتن في الثمانينات بتهم ممارسة التعذيب والقتل ذهب ضحيتها آلاف المواطنين بالأرجنتين ( في فترة الحرب القذرة ) وقد باشر مهمة النيابة في هذه القضية طيلة ستة أشهر كاملة تلقى خلالها شهادات 835 شخص بشأن تلكم الجرائم الخطيرة معتمدا على إفادات لجان مستقلة ضرورة أن أجهزة الأمن بالأرجنتين كانت آنذاك خاضعة كليا للسلطة العسكرية .
وعليه فإن أول مدعي عام للمحكمة يملك خبرات هامة في مجال التحقيقات الجنائية المتصلة بالجرائم الخطيرة .
يبقى أن ننتظر أداءه بجهاز المحكمة الجنائية الدولية حيث سيواجه مهام جسيمة ومعقدة جدا .


-1- إشكالية الدور المكمل للمحكمة الجنائية الدولية :


أكدت ديباجة النظام الأساسي للمحكمة على " أن هدف المحكمة أن تكون مكملة للنظم القضائية الوطنية في الحالات التي قد لا تكون إجراءات المحاكمة على الصعيد الوطني متاحة أو تكون عديمة الفعالية " .
كما تضمن النظام الأساسي للمحكمة عدد من الفصول التي تكرس هذا الإجراء التكميلي للمحكمة في الحقيقة كان هذا الإشكال موضوع جدل كبير بين واضعي النظام الأساسي خلال المداولات وأعمال اللجان على أن أغلبية الدول تبنت مبدأ الإجراء المكمل للمحكمة بالنسبة للمحاكم الوطنية .
وكان طبيعيا أن تثير هذا المسألة جدلا كبيرا في صفوف واضعي النظام الأساسي للمحكمة ضرورة أن الدول تتمسك في كل الحالات بمبدأ السيادة والذي يشمل إجراءات بسط ولايتها القضائية الوطنية في مقاضاة الجناة وفي الواقع فإن تمسك الدول بمبدأ السيادة يعد دفع سياسي بالأساس على أن مبادئ مدرجة بالقانون الدولي ( الإتفاقيات والمعاهدات ) التي تشدد على إختصاص المحاكم الوطنية بالتعهد بالجرائم التي تشكل خرقا لقوانين النزاعات المسلحة أو الجرائم
ضد الأنسانية أو جرائم الإبادة وغيرها على أن تفوق الموقف المتصل بالصبغة المكملة للمحكمة الجنائية الدولية حيال المحاكم الوطنية من شأنه إثارة التساؤلات الأتية :

- لماذا تعاملت الدول خلال مناقشة مشروع النظام الأساسي للمحكمة بمنطق التصادم بين النظام القضائي الدولي والنظام القضائي الوطني ؟ .

- هل يشفع للدولة تمسكها بمبدأ السيادة لتبرر أفضلية القضاء الوطني على القضاء الدولي إلى حد التفاعل مع هذا الأخير على خلفية قضاء أجنبي وليس قضاء دولي .

على كل لقد فرضت الدول الواضعة للنظام الأساسي موقفها المتصل بالدور المكمل للمحكمة الجنائية الدولية بالنسبة للقضاء الوطني إلا أنه بالرجوع إلى مبدأ السيادة ذاته العزيز جدا على الدول نلاحظ بأن الانضمام إلى أي معاهدة دولية أو جهاز أو إقتصادي أو حتى قضائي يشكل في حد ذاته ممارسة سيادية بالأساس ضرورة أنه تلقائيا وليس قصريا ! .

إن إستخدام آليات التوقيع والمصادقة يترجم السيادة بعينها على أن تلكم الأليات تفرز بالضرورة إلتزامات دولية تقتضيها أحكام القانون الدولي ولئن أدرج القانون الدولي آلية التحفظات في الإتفاقيان الدولية لتيسير إنضمام أكثر عدد ممكن من الدول لتلكم الإتفاقيات والمعاهدات والأجهزة الدولية ، إلا أن التحفظ لا يمكن أن يترتب عنه إفراغ الإتفاقية الدولية من مض مضمونها الجوهري وأهدافها الأساسية حتى لا تعدم وهي في طور الولادة بدعوى التمسك بمبدأ السيادة وما يترتب عنه من أحقية إستخدام آلية التحفظات لا جدال في إستمرار التصادم بين مبدأي السيادة والإلتزام في العلاقات الدولية والذي ألقى بضلاله وضع الصيغة النهائية للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
على أنه بالرجوع إلى قانون المحكمة نلاحظ بأنه خلص إلى فرض شروط إجرائية بشأن قبول مبدأ إختضاص المحاكم الوطنية بدرجة أولى بالمقاضاة في الجرائم التي تدخل في إختصاص المحكمة الجنائية الدولية وفي حالة إنعدام هذه الشروط أو الإخلال بها تحت أي ظرف من الظروف فإنه على المحكمة الجنائية الدولية بسط ولايتها القضائية في هذا الباب .
وهذه الشروط تتمثل في الإجراءات التالية :

-1 - إجراء التحقيق أو المقاضاة بشأن ذات الدعوى من طرف دولة لها الولاية القضائية على
تلك الدعوى .
-2 - سابقية إجراء التحقيق في الدعوى من طرف دولة لها ولاية عليها وقرر جهازها القضائي محاكمة المتهمين أو براءتهم ( تكريس المبدأ القانوني المتصل بعدم محاكمة شخص مرتين بشأن ذات الجريمة ) .
-3 - إذا لم تكن الدعوى على درجة من الخطورة بها يجعلها تدخل تحت طائلة الجرائم التي تختص بها المحكمة الجنائية الدولية .

على أن هذه الشروط التي تمنح للقضاء الوطني الولاية القضائية الأصلية لا تمنع المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة دور المراقب لسلامة الإجراءات القضائية الوطنية بما يكفل ملاحقة الجناة وإقامة العدالة وعليه فإذا ثبت بأن التحقيقات أجريت على المستوى الوطني بعرض حماية المتهمين من المساءلة الجزائية بشأن جرائم تدخل في إختصاص المحكمة الجنائية الدولية أو حدث يدل على عدم الرغبة في محاكمة المتهم ويهدف بالتالي إلى تيسير إفلاته من العقاب فإن المحكمة لجنائية الدولية تستخدم إختصاصها في التعهد بالدعوى .
ليبقى أن نلاحظ بأن عدم الرغبة مطلقا في ملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة أو إنهيار النظام القضائي الوطني للدولة ، يفضي إلى بسط الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية .

-2- الدور الرئيسي للمدعي العام والدائرة التمهيدية :


تحدد أحكام النظام الأساسي الأطراف المخولة بممارسة الاختصاص أو بالأحرى بإثارة الدعوى لدى المحكمة وهي كالأتي :


-1 إحالة من دولة طرف حالة إلى المدعي العام تبدو فيها إرتكاب جريمة أو جرائم تدخل في إختصاص المحكمة المادة ( 14 ) .

2 -إحالة من طرف مجلس الأمن الدولي مستخدما أحكام الفصل السابع من
ميثاق منظمة الأمم المتحدة وتكون الإحالة كذلك إلى المدعي العام .

3 -مباشرة المدعي العام التحقيق من تلقاء نفسه على أساس معلومات واردة
بشأن حصول جرائم تدخل في إختصاص المحكمة وشروع المدعي العــام في
إجراء التحقيق يكون رهين إذن صادر عن الدائرة التمهيدية للمحكمـة يجيز
إجراء التحقيق ( المادة الخامسة عشر 15 )

إن التقييد الوارد بأحكام المادة ( 11 ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بشأن الاختصاص الزمني يثير لا محالة إشكالا إجرائيا يخول لمرتكبي الجرائم الأشد خطورة والواقعة قبل دخول نظام المحكمة حيز النفاذ يخول لهم الإفلات من العقاب مالم يبدي مجلس الأمن الدولي رغبة في إثارة ملاحقتهم بآلية المحاكم الدولية الخاصة على أن الحل القانوني لهذا الأشكال الإجرائي قد يكمن في تقديرنا في الإحتكام لمعايير الجريمة المستمرة التي يمكن للمحكمة إستخدامها لبسط ولايتها القضائية على جرائم لا تزال ترتكب كالجرائم الصادرة عن الإحتلال الإسرائيلي بفلسطين وبلبنان والجرائم الصادرة عن المحتل الأمريكي بالعراق.
وبالرجوع إلى الأطراف المخولة بإستخدام الأليات طبق ما ورد بالنظام الأساسي للمحكمة نلاحظ دورا هاما للمدعي العام ولهئية الدائرة التمهيدية وكذلك الدول الأطراف .
فالمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يعد الجهة الرئيسية في تفعيل إثارة الدعوى بناءا على إحدى وسائل الإحالة المشار إليها أعلاه .
فحال إشعاره بحصول جرائم مما يدخل في إختصاص المحكمة يباشر المدعي العام فتح التحقيقات بشأن تلكم الجرائم والمصادر التي يعتمدها المدعي العام تكون :


-1- الدول –2- أجهزة الأمم المتحدة –3- المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية أو
أي مصـادر مـوثـوق بهـا

نلاحظ إذن بأن إثارة الدعوى من لدن المدعي العام تكون  بطلب ( فهو مفوض ).
 أصالة (من تلقاء نفسه ) .


هذا ويجوز للمدعي العام تلقي الشهادات التحريرية أو الشفوية بمقر المحكمة ، في نطاق مباشرته لأعمال التحقيق على أن مباشرة التحقيق الفعلي بشأن الجرائم موضوع الدعوى يقتضي تدخل جهاز الدائرة التمهيدية للمحكمة وذلك حيال قبول إجراء التحقيق أو رفضه ، ونلاحظ في هذا الباب أهمية الصلاحيات المخولة للدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية ضرورة أنها تشكل هيئة تحقيق تواكب بإستمرار إجراءات المدعي العام ، وقد قضت المادة ( 57 ) من النظام الأساسي للمحكمة بأن تتخذ الدائرة التمهيدية الأوامر والقرارات المتصلة بالقضية حال مباشرة المدعي العام لمهام الملاحقة القضائية ذلك أن الدائرة التمهيدية تصدر في أي وقت بعد الشروع في التحقيق وبناءا على طلب المدعي العام أمرا بالقبض على المتهم إذا إقتنعت بعد فحص الطلب والأدلة وسائر المعلومات الأخرى المقدمة من المدعي العام بوجود :

- أسباب كافية من شأنها تجريم الشخص المعتقل بجريمة تدخل في إختصاص المحكمة .
- أن القبض على الشخص يبدو ضروريا .
- لضمان حضوره أمام المحكمة .
- لضمان عدم قيامه بعرقلة التحقيق أو إجراءات المحاكمة .

هذا ويتعين في هذا الباب على المدعي العام مد الدائرة التمهيدية ببيانات دقيقة متصلة بإسم الشخص المتهم وأي معلومات اخرى خاصة بهويته مع إشارة إلى الجرائم التي تدخل في إختصاص
المحكمة كالإدلاء بمذكرة بشأن الوقائع المتصلة بارتكابه لتلك الجرائم وتكون هذه الأخيرة موثقة بالأدلة وأي معلومات اخرى تثبت إرتكاب تلك الجرائم .
على أن تعهد المدعي العام والدائرة التمهيدية بالتحقيقات قد يتم إرجاءه بناءا على مذكــرة من مجلس الأمن الدولي توجه للمحكمة بهذا المعنى ويكون ذلك بموجب قرار صادر عن المجلس وفق الفصل السابع من منظمة الأمم المتحدة ويكون ذلك واردا في حالة تعهد المحكمة بالدعوى بموجب إحالة من مجلس الأمن .




آليات مقيدة بإذن أو إرجاء  بقبول الدائرة التمهيدية .
 بإمكانية طلب إرجاء صادر عن مجلس الأمن الدولي .


وللدائرة التمهيدية أن ترفض للمدعي العام طلب إجراء تحقيق بشأن وقائع وإنتهاكات يرى هذا الأخير أنها قد تدخل في إختصاص المحكمة على أن رفض الدائرة التمهيدية الإذن للمدعي العام بإثارة التحقيق لا يحول دون تقديم المدعي العام لطلب ثاني في ظل توافر معلومات وأدلة جديدة بشأن نفس الحالة وفي القابل يتعين الإشارة بأن البدء في إجراء التحقيقات من طرف المدعي العام لا يحسم المسألة الإجرائية نهائيا ذلك أنه للمحكمة خلال تعهدها بالملف أن تبت في مسألة الاختصاص ومقبولية الدعوى الفقرة الرابعة من المادة ( 15) من النظام الأساسي.
هذا وتقتضي القاعدة عدد ( 45 ) من دليل الإجراءات الخاص بالمحكمة أن تكون إحالة المدعي العام للملف كتابية كما تنص القاعدة عدد (10) على مسؤولية المدعي العام حيال الاحتفاظ بالمعلومات والأدلة والحفاظ على سريتها وكذلك سرية الشهـادات التي يتلقاها :
القاعدة عدد( 46 ) .


وعليه يترتب عن ذلك المبدأ الأتي : للمحكمة الكلمة الفصل في مسألة
الاختصاص ومقبولية الدعوى
( من تلقاء نفسها أو بطلب )
-3- آليات المقاضاة المخولة للدول الأطراف :


وتقتضي أحكام المادة ( 17 ) من النظام الأساسي بأن تقرر المحكمة عدم مقبولية الدعوى في الحالات التالية :


1- إجراء تحقيق أو مقاضاة بشأن ذات الدعوى من طرف دولة لها ولاية عليها ( مالم تكن الدولة حقا غير راغبة في الاضطلاع بذلك أو غير قادرة على ذلك ) .

2 - إذا تم إجراء تحقيق في الغرض وقررت الدولة عدم المقاضاة ( ما لم يكن القرار ناتجا عن عدم رغبة أو قدرة حقا في المقاضاة ) .

فبناءا على كون المقاضاة من طرف الجهاز القضائي الدولي تعد مكملة للإجراءات الوطنية فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أقر صلاحية تعهد الدولة بالملاحقة والمقاضاة في نطاق ولايتها القضائية ضد الأشخاص الضالعين في إرتكاب جرائم تدخل في إختصاص المحكمة الجنائية الدولية .
ذلك أنه على المدعي العام واجب إشعار الدول بإعتزامه فتح تحقيق طالما أن الدول الأطراف تشكل وحدة رئيسية في جهاز المحكمة طبق نظامها الأساسي فإن تدخلها في آليات الملاحقة وارد ضرورة أن المدعي الـعام للمحكمـة وفي نـطاق تـعهده بالتـحقيق يهدف من خلال إشعاره
للدول إلـــى :

• حمايـة الأشخــاص
• حماية الأدلة من التـلف
• لعدم فرار المتهم أو المتهمين

وحال إشعارها من طرف المدعي العام بفتح تحقيق يمكن للدولة التي يكون المشتبه فيهم من رعاياها أن تعلن فتح تحقيق ضدهم مع إعلام المدعي العام بذلك ويمنحها هذا الأخير حق البت بشرط موافقة الدائرة التمهيدية .
ويحق للدولة المعنية أن تتمسك بهذا الأجراء استنادا إلى مقتضيات النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والتي تقر بالطبيعة المكملة للجهاز القضائي الدولي ضرورة أن المبدأ هو تعهد القضاء الوطني للدولة بملاحقة الضالعين في الجرائم الخطيرة من بين مواطنيها .
إن هذا الأجراء المخول للدولة الطرف قد يثير جدلا بشأن مخاطر تهميش وظيفة المحكمة الدولـية الجنائية إختصاصا وآليات نتيجة تعهد الدولة بالملاحقة ولكن النظام الأساسي للمحكمة إستوعب هذه المخاطر فأقر أحكاما تخول للمدعي العام ممارسة حق المراقبة حيال هذه الدولة بشأن جديـة التتبعات المثارة من طرف أجهزتها الوطنية ، وذلك بمطالبتها بتقديم إفادات منتظمة بشأن التحقيقات الجارية .
كما أن تعليق التحقيق من طرف المدعي العام لا يمنعه من الاستئذان من المحكمة قصد :


1 -إتخاذ إجراءات للمحافظة على أدلة هامة قد يستهدفها الإتلاف أو يفترض ألا تتوفر .
2 -تسجيل تصريحات أو شهادة من شاهد أو إتمام عملية جمع وفحص الأدلة التي كان قد باشرها قبل إثارة الطعن بعدم الاختصاص من أحد الأطراف .

3 - ضمان عدم فرار الأشخاص موضوع طلب بإلقاء القبض عليم من طرف المدعي العام عملا بأحكام المادة ( 58 ) من النظام الأساسي ( أمر الإيقاف يكون صادر عن الدائرة التمهيدية ) .

وعليه ولئن خول النظام الأساسي للمحكمة لجنائية الدولية للدول حق التعهد أصالة بالتحقيقات والملاحقة القضائية بواسطة أجهزتها الوطنية إلا أنها تخضع لواجبات حيال الجهاز القضائي الدولي حيث يتعين عليها حماية الضحايا والمحافظة على المعلومات والاستخبارات التي تكون بحوزتها والاستجابة لطلبات إيقاف المتهمين وتسليمهم للمحكمة الدولية في صورة التعهد الرسمي للقضاء الدولي المادة ( 91 ) .
وفي حالة تلدد الدولة في التعاون مع المحكمة وتقاعسها عن تقديم الخدمة المطلوبة يتم إشعار الدول الأطراف في نظام المحكمة أو مجلس الأمن الدولي المادة ( 87 ) .
وفي الحقيقة فإن الإشكالية الأكبر تكمن في فرضية تمسك الدولة بمبدأ حماية أمنها الوطني ضرورة أن واجب المد بالمعلومات قد يترتب عنه كشف أسرار تمس من مصالحها الوطنية إلا أن واضعو النظام الأساسي أقرو بمقتضى المادة ( 72 ) بأن يتم السعي إلى حل هذه الإشكالية بمبدأ التعاون بين مختلف الأجهزة : المدعي العام ومحامو الدفاع والدائرة التمهيدية أو المحكمة من جهة والدولة المعنية من جهة اخرى ، ويتم ذلك بتعديل الطلب الصادر عن المحكمة للدولة أو توضيح ذلك
الطلب ، كما يتم بواسطة قرار صادر عن المحكمة بشأن مدى صلة تلك المعلومات أو الأدلة بمجريات القضية وما إذا كان يمكن فعلا الحصول عليها من مصادر اخرى بالإضافة إلى إمكانية
تقديم المعلومات المتصلة بالأمن الوطني للدولة في صيغة موجزة عند الاقتضاء في جلسات مغلقة .
على أن الإشكالية تتعمق أكثر في صورة تمسك الدولة المعنية بمبدأ سرية المعلومات لاتصال هذه المعلومات بعلاقة مع دولة اخرى غير طرف بنظام المحكمة ، في هذه الحالة يجوز للدولة المعنية حجب الوثيقة أو المعلومات لوجود التزام سابق من جانبها إزاء الدولة الأخرى بالحفـاظ عـلى
السرية ، وفي كل الحالات فإن الممارسة الفعلية لأليات المحكمة حال تعهدها بالدعاوى التي تدخل في اختصاصها ستفضي إلى حسم قضاة المحكمة بدرجاتها المختلفة في هذه الأشكالات الإجرائية المعقدة .
ولعل هيئات الدفاع عن الضحايا ستلعب دورا هاما في هذا الباب من أجل تكريس مبادئ العدالة والأنصاف في مواجهة كل المناورات المفترضة والتي من شأنها إعاقة تحقيق تلكم المبادئ على أن مبدأ إجراء محاكمة عادلة للمتهمين يعد هو الأخر مبدأ أساسيا يتعين إحترامه دون أي قيد أو شرط ، وفي هذا الباب أقر النظام الأساسي للمحكمة حماية الحق في الدفاع .


-4–حماية معايير المحاكمة العادلة :


تنص اللوائح التي تحكم سير عمل المحكمة على تمكين محامي الدفاع من الحصول على المساعدة الإدارية المناسبة والمعقولة من قلم المحكمة القاعدة عدد ( 14 ) .
وذلك خدمة لحقوق الدفاع و تماشيا مع معايير المحاكمة العادلة حسب التعريف الوارد في النظام الأساسي للمحكمة .
ويقتضي النظام الأساسي تقديم المساعدة والمعلومات لجميع محامي الدفاع الذين يباشرون واجبهم المهني أمام المحكمة كما تقتضي ذات الأحكام مساعدة الخبراء ليكون الدفاع فعالا ومن المعايير الأساسية للمحاكمة العادلة هو مساعدة الأشخاص الذين ألقي عليهم القبض في الحصول على المساعدة القانونية وخدمات الدفاع ، كما يتعين إبلاغ المدعي العام ودوائر المحكمة عند الاقتضاء بالمساءل والأشكالات المتعلقة بالدفاع .
هذا ويضمن قانون المحكمة للدفاع بفرعيه ( دفاع الضحايا ودفاع المتهمين ) الاطلاع على سائر الأدلة مع إمكانية استجواب الشهود الواقع سماعهم مباشرة أو بواسطة تكنولوجيا الاتصال السمعي أو المرئي ، وفي حالة سابقية تسجيل الشهادة يتعين أن تتاح الفرصة للدفاع للأطـلاع
عليها ، كما يجب على المدعي العام أن يقدم للدفاع أسماء الشهود الذين ينوي إستجوابهم كما يجب عليه تقديم نسخ من البيانات التي أدلوا بها سابقا ويتم ذلك قبل بدء المحاكمة بمدة معقولة لتمكين المحامين من إعداد وسائل الدفاع ، وعليه أن يمكن الدفاع من فحص كل الأدلة التي تكون بحوزته ( الكتائب – المستندات – الصور –وأي أشياء مادية اخرى ) القاعدة عدد ( 77 )
وفي المقابل يتيعن على الدفاع تمكين المدعي العام من فحص أي كتائب أو سندات أو صور تكون في حوزة الدفاع ويعتزم هذا الأخير إستخدامها كأدلة في جلسة إقرار التهم أو عند المحاكمة .

وتكفل ضمانات الدفاع الكشف عن سائر الأدلة بما فيها ما تم حجبه لسرية المعلومات وذلك قبل انعقاد جلسة إقرار التهم من طرف الدائرة التمهيدية للمحكمة، وللمتهم الذي تم إلقاء القبض عليه كل الضمانات بشأن إطلاعه على كل إجراءات الإيقاف ويكفل النظام الأساسي للمتهم تلقي نسخة من أمر القبض عليه الصادر عن الدائرة التمهيدية طبق أحكام المادة ( 58 ) وتتاح الوثائق بلغة يتكلمها المتهم جيدا بالإضافة إلى حقه في استخدام إجراءات الطعن في سلامة أمر الإيقاف وتبت الدائرة التمهيدية في ذلك الطعن دون تأخير وذلك بعد تلقي رأي المدعي العام وعملا بأحكام المادة ( 67 ) من النظام الأساسي يتعين سماع المتهم بجلسة عمومية وإعلامه بكل الأدلة القائمة ضده وتمتعه بمهلة زمنية معقولة لأعداد دفاعه وتمكينه من الإدلاء بأدلة إضافية متصلة ببراءته مع تمتعه مجانا بخدمة الترجمة خلال سائر إجراءات المحاكمة .
هذا وتقتضي أحكام النظام الأساسي للمحكمة حماية الضحايا والشهود مما قد يتعرضون له من مخاطر بسبب الإدلاء بتصريحاتهم أمام أجهزة المحكمة .

ويتعين الإشارة في هذا الباب إلى إنشاء وحدة لحماية هؤلاء ضمن قلم المحكمة وتوفر هذه الوحدة بالتشاور مع مكتب المدعي العام تدابير الحماية والترتيبات الأمنية والمساعدة الملائمة وتضم الوحدة موظفين من ذوي الاختصاص في مجال الصدمات النفسية كما تحمي هذه الوحدة المجني عليهم كذلك .
أما على مستوى سير المحاكمة فنلاحظ بأن الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية وهي ( هيئة تحقيقية ) تعقد جلسة لإعتماد التهم ضد المشتبه بهم وتكفل هذه الجلسة إحترام كل معايير المحاكمة العادلة ضرورة أنها تنعقد خلال أجال معقولة بعد تقديم المتهم إلى المحكمة أو حضوره من تلقاء نفسه أمام جلسة إعتماد التهم مع الملاحظة في هذا الباب بأن الدائرة التمهيدية يمكنها عقد الجلسة في غياب المشبوه فيه وذلك في حالة :

-1 – تنازله في حقه عن الحضور .
-2 – في حالة فرار المتهم أو عدم العثور عليه مع التأكد طبعا من إتخاذ كل الإجراءات القانونية لضمان حضوره أمام المحكمة ولإبلاغه بالتهم المنسوبة إليه كإبلاغه بموعد الجلسة .
كما تدقق الدائرة التمهدية في جلسة إعتماد التهم في سائر أدلة الإثبات بشان الجريمة المرتكبة والمنسوبة للمشبوه فيه تدقيقا يكفل إحترام معاير المحاكمة العادلة .

وعليه وفي حال ثبوت التهم تقرر الدائرة التمهيدية إقرار التهم المنسوبة للمشبوه فيه بجلسة إقرار التهم يحال بمقتضاها الشخص أو الأشخاص الواقع تتبعهم على المحاكمة أمام المحكمة .
على مستوى المحاكمة تنعقد المحاكمات مبدئيا بمقر المحكمة ( بلاهاي ) وذلك وفق أحكام المادة 62 من النظام الأساسي للمحكمة التي تقتضي بأن المحاكمات تجري بمقر المحكمة مالم يتقرر غير ذلك .

ويتعين على المحكمة المتعهدة بالقضية تلاوة سائر التهم المعتمدة من طرف الدائرة التمهيدية على المتهم ويتعين عليها كذلك وفق النظام الأساسي تأمين علم المتهم بطبيعة التهم المنسوبة إليه ومنحه كامل الفرصة لإعترافه بإرتكاب الجريمة أو إنكاره لأي جرم منسوب إليه على أن إقرار المتهم بالتهم المنسوبة إليه لا يكفي لوحده للقضاء بإدانته من طرف المحكمة ضرورة أنه يتعين أن يكون الإعتراف بالتهمة معززة بوقائع الدعوى وبأدلة وقرائن قاطعة .
ولا تصدر المحكمة حكمها في الدعوى إلا بعد إستكمال سائر الإجراءات التي يقتضيها النظام الأساسي ودليل قواعد الإجراءات والإثبات وخاصة بالإستماع إلى طلبات الإدعاء العام وإستدعاء شهود الإثبات وشهود النفي ثم الإستماع إلى الدفاع ، ثم تختلي المحكمة في مداولات سرية لتصدر قرارها إما بالإجماع أو بأغلبية الأعضاء ويتعين أن يكون الحكم معللا تعليلا كاملا
ويتم التصريح به بجلسة علانية .
ولتأمين كامل معايير المحاكمة العادلة أقر النظام الأساسي للمحكمة مبدأ الطعن بإستناف القرارات الصادرة عن المحكمة الإبتدائية ( تكريس مبدأ التقاضي على درجتين .
هذا ونلاحظ بهذا الصدد بأن إمكانية الإستئناف مخولة للإدعاء العام وللمتهم على حد سواء .
وفي باب العقوبات سبق وأن أشرنا لاحقا بأن المحكمة مقيدة وفق أحكام النظام الأساسي بإصدار العقوبات التالية :
- 1 – السجن لمدة أقصاها ثلاثين سنة .
- 2 - السجن المؤبد .
- 3 – فرض الغرامات .
- 4 – مصادرة عائدات ممتلكات المتهمين والمتأتية بشكل مباشر أو غير مباشر من الجرائم المنسوبة للمتهم .

بعد إستعراض جانب من المساءل المتصلة بالقضاء الدولي في مجال حقوق الإنسان وخاصة نظام المحكمة الجنائية الدولية والتي لئن أخذت الحيز الأكبر في هذه المداخلة فلأنها تشكل تحولا نوعيا هاما في مجال مقاضاة مرتكبي أشد الجرائم خطورة ، ضرورة أن إنشاء المحاكم الدولية الخاصة يكون بحوزة مجلس الأمن الدولي والحال أن طبيعته وتركيبته لا تؤمن بشكل سليم إقامة العدالة الدولية .
وفي المقابل فإن إقامة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة كانت وليدة إتفاقية دولية شهدت إنضمام ما لايقل عن مائة دولة وهذا من شأنه أن يلزم الدول الأطراف بالسعي لإقامة العدالة الدولية على على أن فاعلية هذا الجهاز القضائي الدولي يبقى رهين مصادقة كل دول العالم على نظامه الأساسي بعنوان التزام دولي بتكريس حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحمايتها من كل أشكال الانتهاكات ، وإن هذه الخطوة لا تمس بمبدأ سيادة الدول وسيادة ولايتها القضائية الوطنية ضرورة أن الدفع بموقف سيادي حيال تعهد جهاز قضائي دولي بالبت في الجرائم الشديدة الخطورة يعد انتهاكا في حد ذاته لحقوق الإنسان .

جويلية 2006
نزيهـة بـوذيـب
المحامية بتونس





المـــــراجـــــع



1 / النصوص القانونية :

• النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
• ميثاق منظمة الأمم المتحدة .
• إتفاقيات جنيف الأربعة لسنة 1949 ونصوصها اللاحقة المؤرخة في 1977/06/08 .

2 / المنشورات القانونية :
• AGNES CALLAMARD .
• BARBARA BEDNONT .
• ARINE BRUNET .
• DYAN MAZURANA .
• MADLEINE REES .


• »التحقيق في خرق حقوق الإنسان خلال النزاعات المسلحة «
منظمة العفو الدولية ( سنة 2001 الثلاثية الثانية ) .

• الدكتور أحمد قاسم الحميدي » المحكمة الجنائية الدولية «
( الجزء الثاني ) منشورات مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان
( عدد 16 ) .

3 /ANDRE DULAIT
• تقرير خاص بالمحكمة الجنائية الدولية مقدم للجنة الشؤون
الخارجية بالبرلمان الفرنسي بجلسته العادية لسنة 1998/1999 .
موقع إلكتروني : W .W SENAT تقرير عدد 313 ( لسنـــــة
98/99 ) .



المحكمة الجنائية الدولية

تدريب تطبيقي على قواعد وآليات
المحكمة الجنائية الدولية

( حالة إفتراضية عدد 1)


قامت القوات العسكرية ( البرية والبحرية والجوية ) التابعة للدولة ( أ ) بهجوم واسع النطاق على أراضي الدولة ( ب ) وذلك إثر نزاع قائم بينهما لا يزال موضوع نظر من الهيئات المتخصصة لدى منظمة الأمم المتحدة .
وأقد أسفرت هذه العمليات عن سقوط آلاف الضحايا من مواطنين الدولة ( ب ) وتدمير المنشآت السكنية والإدارية والإقتصادية والثقافية بستة ( 6 ) مدن ذلك بتعهد القوات العسكرية للدولة ( أ ) توجيه هجمات بالقصف الجوي بواسطة صواريخ " كروز " و توماهوك " والأباتشي وب 52 و " ف 16 " بتعمدها توجيه هجمات ضد مواقع مدنية مع العلم المسبق أن ذلك سيسفر عن خسائر في الأرواح وعن إصاباب فضلا عن إحداث تدمير واسع للمنشآت بمختلف أنواعها السكنية ، الإستشفائية ، التعليمية ، الدينية والتاريخية .
-بتعمدها نهب المنشآت والمتاحف .
-بتعمدها إعتقال الآلاف من مواطني الدولة ( ب ) وإخضاعهم للتعذيب .
وردا على المطالب الدولية بملاحقة قادة الدولة ( أ ) والمعادية أمام المحكمة الجنائية الدولية من أجل إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مرتكبة على أراضي الدولة ( ب ) تمسكت الدولة ( أ ) بكونها ليست دولة طرف بالنظام الأساسي للمحكمة ولا تخضع بالتالي لولايتها القضائية .
يرجى من المجموعة الجواب على السؤال التالي :

- 1 - الدولة ( أ ) المعادية ليست عضو بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأي آليات يمكن ملاحقة قادتها قضائيا ؟

ملاحظة : مدة التمرين خمسة عشرة ( 15 ) دقيقة .


المحكمة الجنائية الدولية

تدريب تطبيقي على قواعد وآليات
المحكمة الجنائية الدولية

( حالة إفتراضية عدد 2)



قامت القوات العسكرية للدولة ( أ ) وهي دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بإقتحام إقليم مواقع من تراب الدولة ( ب) وذلك بواسطة قصف بالدبابات والطائرات وأكدت التقارير الموثقة أن القوات العسكرية للدولة ( أ ) قامت بالتوغل في آراضي الدولة ( ب ) بالأليات العسكرية الثقيلة وسط قصف جوي بالطائرات .
كما إقتحمت ذات القوات العسكرية المباني السكنية ووضعت مواد متفجرة في بعضها مما أدى إلى تدميرها بالكامل و عمدت إلى إعتقال عدد كبير من السكان .
وبالتوازي مع ذلك قامت وحدات عسكرية اخرى بتجريف الأراضي الزراعية التابعة للدولة ( ب ) .
وقد أسفرت تلكم العمليات عن سقوط عدد كبير من الضحايا بين قتلى وجرحى .
هذا وتعهدت المحكمة الجنائية الدولية بالدعوى بناءا على طلب دولة طرف بنظام المحكمة فطلبت المحكمة من الدولة المعادية والطرف بنظام المحكمة وتسليمها المشتبه بهم من القادة العسكريين
والمتورطين في الجرائم المشار إليها أعلاه إلا أن الدولة المعادية تمسكت بحقها في بسط ولايتها القضائية الوطنية وتعهد أجهزتها الوطنية بالدعوى دون أجهزة المحكمة الجنائية الدولية مستخدمة في دفعها المبدأ المكمل لولاية المحكمة الجنائية الدولية وإدعت الدولة المعادية بأنها فعلا باشرت التحقيقات بواسطة أجهزتها الوطنية منذ ما يزيد عن السنة وتعهدت بإشعار المحكمة بنتائج التحقيقات والمقاضاة لاحقا .

يرجى من المجموعة الجواب على الأسئلة التالية :

-1 – هل يعد دفع الدولة بمبدأ الدور المكمل للمحكمة الجنائية الدولية وجيها من الناحية القانونية وفق النظام الأساسي للمحكمة ؟ .


-2 – ماهو مجال تدخل المحكمة الجنائية الدولية إزاء هذه الحالة وفق نظامها الأساسي لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب ؟ .


ملاحظة : مدة إنجاز التمرين خمسة عشرة ( 15 ) دقيقة .








المحكمة الجنائية الدولية

تدريب تطبيقي على قواعد وآليات
المحكمة الجنائية الدولية

( حالة إفتراضية عدد 3)



طلبت المحكمة الجنائية الدولية من دولة طرف بنظامها المحكمة إلقاء القبض على ثلاثة أشخاص من مواطينيها متهمين بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية وتسليمهم للمحكمة إلا أن هذه الدولة الطرف إعتذرت عن الإستجابة لطلبات المحكمة بدعوى أن قوانينها الوطنية لا تخول لها إجراءات تسليم مواطنيها إلى محكمة بالخارج .


يرجى من المجموعة الجواب على الأسئلة التالية :

-1 – هل أن إمتناع الدولة عن الإستجابة لطلب المحكمة سليما من الناحية القانونية ؟ .
-2 – ما هي الآليات المخولة للمحكمة الجنائية الدولية لحمل تلك الدولة على الإستجابة لطلباتها ؟ .



ملاحظة : مدة إنجاز التمرين خمسة عشرة ( 15 ) دقيقة




المحكمة الجنائية الدولية

تدريب تطبيقي على قواعد وآليات
المحكمة الجنائية الدولية

( حالة إفتراضية عدد 4)



تعهدت المحكمة الجنائية الدولية بالدعوى بموجب إحالة من مجلس الأمن الدولي فطلبت المحكمة في نطاق إجراءات التحقيق المثارة من دولة غير طرف تعاونها مع أجهزة المحكمة وتسليم مشتبه بهم يقيمون على أراضيها إلا أن هذه الدولة أشعرت المحكمة بعدم إستعدادها للتعاون مبررة ذلك بكونها دولة غير طرف بنظام المحكمة وبالتالي غير ملزمة بالاستجابة لطلباتها .



يرجى من المجموعة الجواب على الأسئلة التالية :


-1 - هل كانت طلبات المحكمة الجنائية الدولية تجاه هذه الدولة غير الطرف وجيهة وسليمة قانونا ؟ .


-2 - كيف سيتسنى للمحكمة الجنائية الدولية أن تتجاوز هذا الإشكال لتفعيل إجراءات التحقيق والمقاضاة بشأن الدعوى المتعهدة بها ؟ .


ملاحظة : مدة إنجاز التمرين خمسة عشرة ( 15 ) دقيقة .

22 يوليو 2011

الجزء الأول من بحث الزواج العرفي قانوناً

بحــــث
في
الزواج العرفي قانوناً

الجزء الأول
الحمد لله رب العالمين .. به سبحانه تعالى على ما أراده منا نستعين ... جعل الرجل و المرأة في زواج مقترنين ... و جعل بينهما مودةً ورحمةً آمنين.. فكان ذلك آيةً في خلقه و في كتابه المبين .. حيث يقول لخلقه أجمعين : " وَ مِنْ آيَاتِه أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أَزْوَاجَاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة إنَّ فِي ذَلِك لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ " آية رقم 21 سورة الروم . و الصلاة الكاملة و السلام التام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين .. نصح الأمة و بلغ الأمانة حتى أتاه اليقين .. و كان من نصائحه و أوامره أن تزوجوا معشر الشباب و اظفروا بذات الدين .. و كان هو الأسوة الحسنة و المثل الحي في معاشرته لزوجاته أمهات المؤمنين .. فكان الزواج بذلك نعمة و أماناً لمن عرفه و قدره حق قدره من المتزوجين .. و لم يكن يوماً مجرد كلمات هيام و حب و أقسم على ذلك باليمين .... لكنه اليوم صار محلاً للشكوى و الأنين .. من الكثيرين متزوجين وغير متزوجين .. و أنا على ذلكم من الشاهدين................ أما بعد....

فوسط بحر لجي من ظلمات السلوكيات و الأخلاقيات في مجتمعنا , و ضعف الإيمان في قلوب الناس و ذبول الضمير.. و انتشار الفساد.. كان لزاماً أن ينتج عن ذلك موجات من عواقب السوء.. جزاءً وفاقاً .. فكان أن طفى على السطح ما يسمى بالزواج العرفي .. حيث أُلْبِسَ الحقُ ثوبَ الباطل .. فالزواج العرفي في حقيقته الأصيلة زواج مستوفي لأركان و شروط الزواج الشرعي , غير أنه لم يسجل أو يوثق لدي الموظف المختص بإبرام عقود الزواج، فهو بذلك حق ، و لجأ إليه البعض بوصفه هذا لأسباب لا تخل بصحته ، و بحسن نية ، فكانت علاقاتهم شرعية صحيحة .. غير أن خراب الذمم .. و ضياع القيم .. أسفر عن نفوس مريضة و خبيثة اقتلعت من الزواج العرفي مضمونه الحق .. واتخذت من اسمه ستاراً لتبث من خلاله أغراضها الجنسية الأثيمة فقط.. و تحقيق مصالح خاصة غير مشروعة .. و بغير نية حقيقية في الزواج .. و كان أمراً مقضياً أن يلازم هذه الأغراض اخفاؤه عن الأعين و الآذان .. فوُجِد زواج بغيرشهود و بغير إعلان و لا علم به إلا لطرفيه فقط .. و وُجِد زواج آخر بشهود و لكن تم استكتامهم .. و هكذا........ فكانت آثار كل ذلك ضارة بأطرافه و بالمجتمع .. بل و بثمرة هذه العلاقات و هم الأولاد ... الأمر الذي لم يجد معه المشرع الوضعي مناصاً من التدخل التشريعي للتصدي للزواج العرفي – حلاله و حرامه – منعاً لمضاره و مفاسده .

و نظراً لخطورة موضوع الزواج العرفي على الأسرة و المجتمع ، و انتشاره في الآونة الأخيرة ، و تكاثر الندوات والمؤتمرات في محاولة لمناقشته وإيجاد حلول له ، لكل ذلك آثرت أن أتناول هذا الموضوع ، و قد كانت النية متجهة إلى إخراج البحث في صورة كتاب يطرح في الوسط القانوني خاصة و الثقافي عامة ، غير أن ظروفاً قد حالت دون ذلك ، و لكني مازلت على يقين أنه وقتاً ما سيكون له من النشر نصيب بمشيئة الله تعالى ، و قد قادني الفكر إلى بثه على شبكة الانترنت ، في عدة أجزاء تباعاً ، مقتصراً على المسائل القانونية لعدم اتساع المقام ، حيث ارتأيت عدم نشر الجزء الخاص بحكم الزواج العرفي و آثاره شرعاً ، اللهم إلا إذا إقتضى الحال بيان شئ من ذلك ، فأقدمت على ذلك ، مختلعاً من قوتي و حيلتي ... ملتجئاً إلى من لا حو ل و لا قوة إلا به .. راجياً منه سبحانه و تعالى الهداية و التوفيق .. و أن يلقى هذا البحث قبولاً حسناً.. فعليه توكلت و إليه أنبت .. و هو حسبي و نعم الوكيل .

خطة البحث :
هذا ، و قد أتممت خطة البحث الراهن - في إطاره المختصر - على نحو ما يلي :
تمهيد : أتناول فيه تعريف الزواج لغة و اصطلاحاً و تشريعياً ، و توثيقه ، و الواقع الذي ألجأ المشرع إلى التدخل التشريعي ، و كذا أسباب اللجوء للزواج العرفي.
مبحث أول : أتناول فيه تحديد مدلول الزواج العرفي وما يتشابه به .
مبحث ثان : حكم الزواج العرفي وآثاره قانوناً ، و في نهاية المبحث مسائل يثيرها الزواج العرفي .
ثم أنهيت البحث ببعض الاقتراحات و الحلول من وجهة نظري المتواضعة لمشكلة الزواج العرفي ، ثم خاتمة لهذا البحث .

و ها أنا ذا أشرع في افتتاح مهد البحث مستعيناً بالله ربي ، إنه نعم المولى و نعم النصير.
تمهيـــــــــــــد
1- تعريف الزواج : لغة وا صطلاحاً و تشريعياً :

التعريف في اللغة : للزواج في اللغة العربية معان عدة متقاربة ، فهو يأتي بمعنى الإقتران ، و الإزدواج ، و الإرتباط و الإختلاط ، فهو اقتران أحد الشيئين بالآخر و ارتباطهما بعد أن كان كل منهما منفصلاً عن الآخر ، يقول العرب : زوج الشئ بالشئ أي قرنه به ، و يقال تزوجه النوم أي خالطه ، و في القرآن الكريم يقول الله تعالى في سورة الصافات آية رقم 22 : " احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ " ، أي و قرنائهم الذين كانوا يزينون لهم الظلم ، و منه قوله تعالى في سورة الدخان آية رقم 54 : " وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُوْرٍ عِيْن " ، أي و قرناهم بحور عين ، و قد اشتهر معنى الزواج في اللغة باقتران الرجل بالمرأة . ( يراجع مشكوراً في تعريف عقد الزواج : أ د / محمد كمال الدين إمام – الزواج في الفقه الإسلامي – طبعة 1998 – ص24 ، المستشار/ محمد عزمي البكري – موسوعة الفقه و القضاء في الأحوال الشخصية – الكتاب الأول – الطبعة الرابعة – ص 48 ).

و تجدر الإشارة إلى أن كلمة النكاح تستخدم بمعنى الزواج ، و لفظ النكاح يطلق على العقد و على الوطء ، و على الضم حسيياً كان أو معنوياً ، كضم الجسم إلى الجسم و القول إلى القول ، و قد ذهب الحنفية إلى أن النكاح حقيقة في الوطء و مجازاً في العقد، و ذهب الشافعية إلى العكس . ( شرح فتح القدير للكمال بن الهمام – الجزء الثالث – ص 184 ، المستشار/ عزمي البكري – المرجع السابق – ص 48 هامش رقم 4 ).

التعريف عند الفقهاء ( الإصطلاحي ) :
قيل في تعريف الزواج بمعناه الإصطلاحي أو الفقهي أنه : عقد يفيد قصداً ملك استمتاع الرجل بالمرأة التي لم يمنع من نكاحها مانع شرعي ، و حل استمتاع المرأة بالرجل ، و هذا التعريف كما قيل دقيق ، فملك الاستمتاع فيه للرجل ، لأنه لا يصح لأحد غيره الاستمتاع بالزوجة بعقد أو بغير عقد ما دام حكم العقد الأول باقياً، أما بالنسبة لاستمتاع المرأة فإنه يثبت لها الحل ، لا الإختصاص ، فقد تشاركها في زوجها زوجة أخرى أو أكثر. ( د/ محمد كمال إمام – المرجع السابق – ص 25 ). و قد عرفه بعض الفقهاء تعريفاً شاملاً ، فيقول فضيلة الشيخ الإمام الراحل محمد أبو زهرة أنه : عقد يفيد حل العشرة بين الرجل و المرأة ، و تعاونهما ، و يحدد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات . ( الإمام / محمد أبوزهرة – الأحوال الشخصية – قسم الزواج – ص 19 ).

التعريف التشريعي :
وردت في بعض التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية في الدول العربية تعريفات لعقد الزواج، فقد عرفته المادة الأولى من التشريع السوري بقولها : " الزواج عقد بين رجل و امرأة تحل له شرعاً، غايته انشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل " ، و قد نقل التشريع العراقي للأحوال الشخصية المادة بألفاظها ، و نصت المادة الثالثة من التشريع الليبي على أن : " الزواج ميثاق شرعي ، يقوم على أسس من المودة والرحمة و السكينة ، تحل به العلاقة بين رجل و امرأة ليس أحدهما محرماً على الآخر " ، و قريب من ذلك نص المادة الأولى من التشريع اليمني ، و نص المادة الرابعة من التشريع الجزائري .

أما مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية فقد نص في مادته الخامسة على أن : " الزواج ميثاق شرعي ، بين رجل و امرأة ، غايته انشاء أسرة مستقرة ، يرعاها الزوج، على أسس تكفل لهما تحمل أعبائها بمودة و رحمة ".

و ميزة هذه التشريعات أنها استبعدت ما شاع بين الفقهاء المتأخرين من أن الزوجة محل للاستمتاع و الخوض في الحديث عن المتعة ، و أظهر التعريف ما للزواج من مقاصد سامية في بناء المجتمع الصالح ، و لكن يعيب هذه التعريفات أنها غفلت عن عنصر جوهري ، هو موضوع العقد و لم تعرض لآثاره الشرعية .

و قد آثر مشروع القانون المصري للأحوال الشخصية للمسلمين الذي أقره مجمع البحوث الإسلامية عدم تعريف الزواج ، و قيل بأن المشرع قد أحسن صنعاً بذلك ، لأن التعريفات عمل فقهي ، و ليس من حسن الصياغة التشريعية أن تكون في داخل متن التشريع إلا عند الضرورة ، و في أضيق الحدود.
( يراجع في التعريف التشريعي : د/ محمد كمال إمام – المرجع السابق – ص 26 و ما بعدها ).

2- أركان الزواج و شروطه : إحالة :
نكتفي في شأن أركان و شروط الزواج بالإحالة إلى كتب الفقه ، فقد ملئت بشرح و بيان لها ، و سيكون لنا بيان لبعضها أثناء تطوافنا ببعض أحكام الزواج العرفي وفقاً لما يستلزمه المقام .

3- التوثيق ليس من الشروط الشرعية لعقد الزواج :
يبين من أركان و شروط عقد الزواج أن توثيق الزواج أو تسجيله في ورقة أو وثيقة لم يكن ركناً من أركانه ، أو شرطاً من شروط انعقاده أو صحته أو نفاذه أو لزومه ، فقد كان الزواج ينعقد صحيحاً دون توقف على شئ من ذلك ، ما دامت شروط العقد قد توافرت ، و هو العقد الذي كان معهوداً عند المسلمين إلى عهد قريب نسبياً، و قد كان الضمير الإيماني كافياً عند الطرفين في الإعتراف به ، و في القيام بحقوقه الشرعية على الوجه الذي يقضي به الشرع ، و يتطلبه الإيمان ، و سوف يرد فيما بعد شرح و بيان لذلك . ( يراجع في أركان و شروط عقد الزواج : د/ محمد كمال إمام – المرجع السابق – ص 76 وما بعدها ، المستشار/ عزمي البكري – المرجع السابق – ص 55 وما بعدها ، المستشار/ حسين حسن منصور- المحيط في شرح مسائل الأحوال الشخصية – الزواج – ص 29 و ما بعدها ).

4- خطورة الواقع و تدخل المشرع :
لاحظ أولياء الأمر في العصر الماضي استغلال بعض أصحاب النفوس الضعيفة لعدم تسجيل عقد الزواج أو توثيقه في ورقة أو وثيقة ، حيث لم تشترط الشريعة الإسلامية ذلك حسبما سلف البيان ، و ذلك بإدعائهم للزوجية – حيناً – زوراً و بهتاناً ، معتمدين في ذلك على سهولة إثباتها بشهادة الشهود الذين لا يخشون في الباطل لومة لائم ، أو إنكارهم لها – حيناً آخراً – تخلصاً وتهرباً من حقوقها ، أو لغير ذلك من الأسباب ، مع عجز الطرف الآخر عن إثباتها أمام القضاء ، فأراد المشرع المصري التصدي لهذا التلاعب و العبث بأقدار الناس ، و صيانة الرجل والمرأة و الذرية من العواقب الوخيمة لذلك ، فاضطر إلى التدخل تشريعياً تحقيقاً للمصلحة العامة ، فمنع سماع دعوى الزوجية عند الإنكارإذا لم تكن الزوجية ثابتة بوثيقة زواج رسمية ، ثم تدخل مرة أخرى بعد أن استشرت ظاهرة الزواج العرفي وفاحت سوآته ، و ذلك بموجب القانون رقم 1 لسنة 2000 بتنظيم بعض إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية ، مبقياً على مبدأ المنع ، و معدلاً للنص في بعض جوانبه على ما سيرد فيما بعد .

5- أسباب اللجوء للزواج العرفي :
تتعدد أسباب اللجوء للزواج العرفي ، الذي يلجأ إليه الصغار و الكبار، إلا أنه يصعب تحديدها تحديداً جامعاً ، إذا أن ذلك يحتاج إلى كثير من الأبحاث و الإحصاءات الدقيقة والمتنوعة لحالاته التي لا يمكن حصرها ، فضلاُ عن أن هذا الزواج غالباً ما يتم سراً ، و قد أجهد الباحثون أنفسهم في ذلك و تعددت بهم السبل ، ومع ذلك فيمكن رد هذه الأسباب إلى : أسباب إجتماعية ، مادية أو اقتصادية ، ثقافية و أخلاقية ، قانونية ، و دينية . و على ذلك سنتحدث عن كل نوع من هذه الأسباب بإيجاز على النحو التالي :

أولاً : أسباب اجتماعية : منها :
أ – المكانة و المركز الأدبي للزوج ، لا سيما إذا كان متزوجاً بأخرى ، و يريد التزوج بامرأة أقل منه في المستوى الإجتماعي أو المادي ، كزواج المحامي من سكرتيرته ، أو رئيس الشركة أو مديرها من السكرتارية ، و زواج صاحب البيت من الخادمة ، و غير ذلك كثير، فلا يجد مناصاً من اتخاذ الزواج العرفي سبيلاً لذلك خشية من القيل والقال ، و حفاظاً على مركزه ومكانته أمام الناس .

ب – عدم رغبة الرجل المتزوج عند الزواج بأخرى ، في ترك أو تطليق زوجته الأولى ، حفاظاً منه عليها وعلى أولاده ، و حتى يتمكن من رعايتهم ، فيلجأ للزواج العرفي تحقيقاً لذلك .

ج - سفر الآباء إلى الخارج ، و الإكتفاء ، في رقابة ورعاية أولادهم ، بإرسال الأموال لهم ، مما أدى إلى سوء استغلال الأولاد لهذه الأموال ، عن طريق استغلالها في الزواج العرفي ، دون أن يجدوا محذراً منه أو مربياً .

د - رفض الآباء زواج الأبناء ممن يختارونها أو العكس ، لانتفاء التناسب الطبقي بين الفتى والفتاة ، الأمر الذي لا يجد معه الإبن أو الإبنة بداً من تنفيذ رغبته هو أو رغبتها هي دون علم أسرته أوأسرتها عن طريق الزواج العرفي .

هـ - اندثار كثير من الرجال بمعنى الكلمة ، الذين يدركون معنى المسئولية و مستلزماتها ، و الصواب والخطأ ، ويحسنون صنعاً ، و يسعون في الأرض صلاحاً ، و إذا أردنا أن نعرف معناً من معاني الرجولة أو الرجال ، فالنقرأ قوله تعالى في سورة النور آية 36 و 37 : " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهً أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَال . رِجَالٌ لَا تُلْهِيِهِم تِجَارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْر اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَ إِيتَاءِ الزَّكاةِ ، يَخَافُونَ يَوْمَاً تَتَقَلَّبُ فِيه الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ " ، و قوله تعالى في سورة الأحزاب آية 23 : " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ِرجَالٌ صَدَقُوْا مَا عَاهَدُوْا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ ، وَ مَا بَدَّلُوْا تَبْدِيْلَا " ، و في التعبير القرآني في تلك الآيات إشارة واضحة إلى الفرق بين الرجولة و الذكورة ، ذلك الفرق الذي لا يدرك معناه و يتحقق به إلامن كان له قلب أو ألقى السمع و هوشهيد .

فأين هؤلاء الرجال بحق ممن يزعمون لأنفسهم الرجولة اليوم بدون وجه حق ، و هم في الحقيقة أشباه رجال ، إن أحسنا بهم الظن ، أولئك الذين ينتحلون الرجولة ، و الرجولة منهم براء ، أولئك الذين اتخذوا من الزواج العرفي موطئاً لقضاء رغبات طارئة ، و مصالح موهومة غير مشروعة ، ليذوقوا من خلاله برداً و شراباً ، و هم في الحقيقة يمهدون لأنفسهم في جنهم مهاداً و غساقاً .

ثانياً : أسباب ثقافية و أخلاقية : منها :
أ – الحصول على المتعة و لو بطريق غير شرعي ، إذ يحدث أن يعجز الرجل عن إقامة علاقة كاملة مع فتاة بشكل غير شرعي ، و هنا يوهمها بالزواج العرفي وصولاً لما يضمره في نفسه ، و ليس بنية حقيقية في الزواج منها .

ب – ابتزاز الفتاة للفتى ، للإستيلاء على أمواله ، فتتخذ من الزواج العرفي مطية لذلك ، لا سيما مع أبناء الأغنياء .
ج – تناقص دور الثقافة الإسلامية بين الشباب ، و هو أمر واضح في مناهج التعليم بمراحلها المختلفة ، و في وسائل الإعلام المتنوعة ، و الثقافة المتواجدة على الساحة – و المأذون فيها – ليست إلا طغيان للفكر الغربي اللا أخلاقي ، عن طريق وسائل الأعلام عندنا ، سواء في صورة مسلسلات و أفلام غربية فكراً و تقاليداً ، أو مصرية عربية اسماً في حين أنها منقولة في جوهرها عن الفكر الغربي ، فنجد العلاقات الجنسية المنحلة و التي أطلقوها من عقالها و من القيود منتشرة في وسائل الإعلام ، مما ساعد على الإعتقاد بأنها الأصل في علاقة الرجل بالمرأة ، و أنها بهذه الصورة ليست سوى الوضع الطبيعي ، الأمر الذي أشعل نار الشهوة الجنسية داخل الفتى و الفتاة ، و ترتب عليه بالتبعية تسرع الشباب في إشباع هذه الرغبة بهذا الزواج الخفي .

د – و من العوامل الهامة التي ساعدت على انتشار هذا الزواج ، و في ظل غياب أو تغييب الثقافة الإسلامية الموضح سلفاً ، الإختلاط المباح دون رقابة أو حدود و لفترات طويلة و لغير حاجة بين الشباب و الشابات ، لأن الطبيعة البشرية توجد نوعاً من التجاذب الطبيعي بين الذكر و الأنثى ، هذه الجاذبية غالباً ما تتطور وتصل إلى نشأة شعور عاطفي يتحول إلى إحساس جنسي ، و هذه هي فطرة الإنسان ، و في مرحلة الشباب تكون الأحاسيس الجنسية والعاطفية في ذروتها ، و في نفس الوقت تكون غير محصنة بالقيم الأخلاقية و الإجتماعية ، و بالتالي يحدث عدم السيطرة على النفس في حالة التربية الأسرية الخاطئة التي أباحت الحرية المطلقة لكثيرمن الأبناء ، و سمحت لهم بزيارة الأصدقاء و الذهاب في رحلات طويلة تقتضي المبيت خارج منزل الأسرة لأيام عديدة ، بما يؤدي ليس فقط لمثل هذا الزواج ، بل لعواقب وخيمة نلمسها جميعاً من خلال الواقع ، و صح القول عندي أن الأسرة – ذاتها - تمهد لهذا الزواج . إن الإثارة الجنسية الناتجة عن الإختلاط الشديد غير المنضبط في مجالات التعليم والعمل و خروج المرأة بصورة سافرة – على نحو ما نعاينه يومياً رضينا أم أبينا - تؤدي إلى إثارة الرجل و استفزاز غرائزه ، فينتج عنها هذه العلاقة التي تتخذ لها ستاراً يسمى الزواج العرفي ، ولم يعد خافياً على أحد أن إثارة الغرائز الجنسية امتد إلى صغار السن ممن لم يكن يدرون – وفقاُ للمجرى العادي للأمور – عن هذه الأمور شيئاً ، و هو نذير شر ، تزداد شرارته تباعاً . إن الله تعالى حدد لنا كيف تكون العلاقة بين الذكر و الأنثى ، حتى بين الأخوة و الأخوات ، و أمرنا أن نفرق بينهم في المضاجع ، و لكننا اتبعنا الشهوات وأضعنا الصلاة ، و تناسينا أوامر الله و حدوده حتى كدنا ننساها فعلاً ، إلا من عصمه الله ، فحق علينا ما نحن فيه من بلاء ، و لولا أن قيض الله لنا في كونه و خلقه أسباباً للذكرى , لعظمت البلوى .

هـ - الإحساس النفسي للرجل و المرأة على السواء تجاه علاقتهما غير السوية ، هذا الإحساس يزيد من الصراع الداخلي لديهما و الإحساس بعقدة الذنب و عدم مصداقية هذه العلاقة و أنها مرفوضة شكلاً و موضوعاً من المجتمع ، و تخفيفاً لذلك يحاولون إيجاد مهرب و مبرر ظاهري لتقنين هذه العلاقة في صورة الزواج العرفي .
ثالثاً : أسباب مادية و اقتصادية : و منها :
أ – أعباء الزواج المادية من توفير مسكن و تجهيزه و من مهر و شبكة وخلافه، و المبالغة فيها .
ب – قلة الأجور و انتشار البطالة و غلاء المعيشة لا تمكن الشباب من استكمال مقومات الزواج المادية ، فلا يجد ملجأ له إلا الزواج العرفي ، حيث يكفيه الخلوة في مسكن أحد أصدقائه أو تأجير غرفة بسيطة في أي مكان .
ج – رغبة بعض الأسر في زواج بناتهم من أجانب استهدافاً و طلباً للمال، بتزويجهن عرفياً .
د – لجوء الزوجة التي توفي زوجها و لها منه ولد واحد لم يصل لسن التجنيد ، و ترغب في الزواج بعده إلى الزواج العرفي في محاولة منها لحصول ابنها على الإعفاء من الخدمة العسكرية لكونه العائل الوحيد لها ، و كذا في حالة رغبة الزوجة المتوفي عنها زوجها و تستحق عنه معاشاً إلى هذا الزواج للحفاظ على استمرار استحقاقها للمعاش .

رابعاً : أسباب قانونية : و منها :
أ – الحق الذي منحه القانون للزوجة في طلب الطلاق إذا تزوج عليها زوحها من أخرى و تضررت من ذلك الزواج الثاني ، و هو ما يجعل الزوج الراغب في الزواج ثانية مع تمسكه بزوجته الأولى و الحفاظ على أسرته مضطراً لأن يلجأ إلى الزواج العرفي إخفاءً للزيجة الثانية ، لاسيما و أن القانون يوجب إعلان و إخطار الزوجة الأولى بالزواج الثاني .
ب – ما منحه القانون للمطلقة الحاضنة من حق في الإستقلال بمسكن الزوجية هي و محضونها ، و نظراً للعجز الواضح عن توفيرالمسكن ، و هروباً من هذا الإلتزام إذا تحقق موجبه يلجأ الرجل إلى الزواج العرفي .
ج – إجازة تزويج المرأة البالغة العاقلة نفسها دون ولي ، عملاُ بمذهب الإمام أبي حنيفة ، مما يترتب عليه أن تتزوج الفتاة عرفياً دون رقيب و تحت تأثير الشاب و عواطفها و نزواتها ، و الناظر لحال كثيرمن فتيات اليوم و سلوكياتهن يدرك مدى خطورة منحهن هذا الحق .



خامسا : أسباب دينية :
هي أهم الأسباب المؤدية إلى هذه الظاهرة ، و يمكن حصرها في قلة الوازع الديني و اندثار القيم و المبادئ القويمة، فضلاً عن السلوكيات الدخيلة التي ليست من الدين في شئ ، و رغم أهمية هذه الأسباب الدينية – و التي تؤكد عليها أحكام المحاكم و الأبحاث التي تجري – فالتهوين من شأنها قائم و تغييب الوازع الديني حائم ، و لا حول لنا و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
( يراجع في تفصيلات هذه الأسباب و مزيد منها : مجلة منبر الإسلام – عدد شهر صفر سنة 1418 هـ ص 87 وما بعدها ، المستشار/ حسن حسن منصور – المرجع السابق – ص 185 وما بعدها ).





المبحث الأول
تحديد مدلول الزواج العرفي
1- معنى العرفي لغة و اصطلاحاً :
العرف لغة : كلمة العرفي المنسوب إليها الزواج العرفي من الفعل الثلاثي عرف بمعنى إدراك الشئ بإحدى الحواس ، عرفه يعرفه – بالكسر – معرفة و عرفاناً – بالكسر - ، و المعروف ضد المنكر، و العرف ضد النكر، يقال أولاه عرفاً أي معروفاً ، و هو ما تعارف عليه الناس في عاداتهم و معاملاتهم . ( مختار الصحاح لأبي بكر الرازي – طبعة 1920 – ص 426 ، المعجم الوجيز مجمع اللغة العربية – ص 415 ).

العرفي في الاصطلاح : العرفي في اصطلاح الفقهاء مأخوذ من العرف و هو ما تعارف جمهور الناس و ساروا عليه ، سواء كان قولاً أو فعلاً أو تركاً .( أ د/ الشيخ / محمد مصطفى شلبي – المدخل في التعريف بالفقه الاسلامي – ص 178 ).

و كلمة العرفي تقابلها في الاستعمال كلمة الرسمي ، و ذلك في نطاق القانون ، لا سيما قانون الإثبات ، حيث نجد عبارات : محرر أو عقد رسمي في مقابلة المحرر أو العقد العرفي . و المحرر الرسمي هو الذي يثبت فيه موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن ، و ذلك طبقاً للأوضاع القانونية و في حدود سلطته و اختصاصه .( المادة العاشرة من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 )، والمحررات الرسمية حجة على الناس كافة بما دون فيها من أمور قام بها محررها في حدود مهمته أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره ، ما لم يتبين تزويرها بالطرق المقررة قانوناً .( المادة الحادية عشرة من قانون الإثبات )، أما المحرر العرفي فهوعكس ذلك ، حيث يقوم بتحريره الأفراد فيما بينهم ، و الورقة أو المحرر العرفي - وفقاً للمادة 14 من قانون الإثبات و على ما جرى به قضاء محكمة النقض – يستمد حجيته من التوقيع عليه بالإمضاء أو بصمة الأصبع أو بصمة الختم ، و هو بهذه المثابة يعتبر حجة بما ورد فيه على من وقعه ، فإذا أنكر من احتج عليه بالورقة ذات الإمضاء أو الختم أو البصمة و كان إنكاره صريحاً زالت عن الورقة قوتها في الإثبات و تعين على المتمسك بها أن يقيم الدليل على صحتها باتباع الإجراءات المنصوص عليها في المادة (30 ) من قانون الإثبات . ( الطعن رقم 2142 لسنة 58 ق – جلسة 24 / 11/1993 ).

و يمكن القول أن الإنكار كشرط لعدم سماع أو قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج هو فرع تطبيقي من أصل الإنكار الوارد في قانون الإثبات ، مع بعض الإختلافات لتعلقه بأمور الزواج و قيوده .



2- تعريف الزواج العرفي :
يجب قبل الخوض في حكم الزواج العرفي و آثاره ، سواء في الشرع أوالقانون ، أن نحدِّد و نعرِّف مدلول هذا الزواج ، حتى يتسنى ضبط أحكامه ، و لقد تلاحظ للباحث مدى مسارعة كثيرمن الناس و العوام ، بل و بعض المتخصصين ، إلى القول بعدم شرعية هذا الزواج و بطلانه ، انطلاقاً من نظرة محدودة و ضيقة لمفهومه ، و حدث الخلط في شأنه في لحظات العضب و الرفض له في كثيرمن الندوات و البرامج التي عنيت بمناقشته و بحثه ، سواء في التليفزيون أو غيره من وسائل الإعلام الأخرى ، ومن هنا كان لزاما ً علينا أن نعرج على تعريفه حتى يرفع هذا الخلاف .

من المعلوم أن الزواج ينعقد شرعاً بين طرفيه بإيجاب من أحدهما و قبول من الآخر متى استوفى هذا العقد جميع شرائطه الشرعية المبسوطة في كتب الفقه ، و في مرحلة تالية لانعقاد الزواج صحيحاً تأتي مسألة إثبات الزواج بالطرق المقررة كشهادة الشهود أو الإقرار أو الكتابة ، و مرحلة الإثبات يمكن خلالها إسباغ صفة الرسمية على عقد الزواج أو عدم إسباغها ، فإذا تحرر الزواج في ورقة رسمية كان العقد رسمياً، أما إذا لم يحرر العقد في ورقة رسمية و حرر في ورقة عرفية كان العقد عرفياً، و هو ما أُطلق عليه الزواج العرفي ، مع ملاحظة أن الزواج العرفي كما يكون مكتوباً يمكن أن يكون غير مكتوب .

و ترتيباً على ذلك ، يمكن تعريف الزواج العرفي بأنه : " الزواج الذي استوفى شرائطه الشرعية ، غير أنه لم يوثق رسمياً أمام جهة رسمية نص القانون عليها ، ويستوي في ذلك أن يكون الزواج مكتوباً أو غير مكتوب أصلاً ". ( قريب من هذا المعنى : د/ محمد كمال إمام – مرجع سابق – ص 218 ، أ/ كمال صالح البنا – موسوعة الأحوال الشخصية – 1997 – ص 14 ).

3- الزواج السّري و الزواج العرفي :
الزواج السري هو نوع قديم من الزواج افترضه الفقهاء ، و بينوا معناه ، و تكلموا في حكمه ، و قد أجمعوا على أن منه العقد الذي يتولاه الطرفان دون أن يحضره شهود، و دون أن يُعلن ، و دون أن يُكتب في وثيقة ، و يعيش الزواجان في ظله زواجاً مكتوماً ، لا يعرفه أحد من الناس سواهما، وقد يحضره الشهود و يؤخذ عليهم العهد بالكتمان ، و عدم إشاعته و الإخبار به ، و لكلٍ من هذين النوعين حكمه ، أما الزواج العرفي فهو كما سبق البيان ، الذي لا يكتب في وثيقة رسمية مع استيفائه للشروط الشرعية للزواج ، فهو ليس الزواج في السر ، غيرأنه قد تصحب الزواج العرفي توصية الشهود بالكتمان ، و بذلك يكون من زواج السر المشار إليه . ( الشيخ الإمام / محمود شلتوت – الفتاوى – ص 229 و ما بعدها ).


و يلاحظ أن الزواج العرفي المردد على ألسنة الناس و بعض المتخصصين في الوقت الحاضر ينتمي في حقيقته إلى الزواج السري ، و يتأكد ذلك إذا علمنا أن الزواج العرفي الواقع في المجتمع ينقسم إلى نوعين : الأول : عبارة عن ورقة مكتوبة بين الطرفين دون شهادة شهود ، الثاني : ورقة مكتوبة بشهادة صديقين مع توصيتهما بالكتمان ، ويفتقد إلى عنصر العلانية ، و لا شك في انتماء هذين النوعين إلى الزواج السري ، ، كما يحدث أن يتم الزواج دون حضور و لي المرأة ، و هذا غالب في الوقوع ، و سيرد فيما بعد حكم هذه الأنواع من الأنكحة . ( د/ عزة كريم – ندوة منشورة بمجلة منبر الإسلام – سابق الإشارة إليها – ص 87 و ما بعدها ).


و إلى هنا ينتهي الجزء الأول من هذا البحث ،

الجزء الثاني من بحث : الزواج العرفي

هاكم الجزء الثاني من البحث الخاص بالزواج العرفي ، و هو الجزء المتعلق بالمبحث الثاني ، و قد سبق عرض الجزء الأول منه ، و الذي اشتمل على تمهيد و المبحث الأول ، و سيتم بمشيئة الله تعالى استمكال المبحث الثاني في الجزء الثالث ، و إني لأرجو ان يكون محل رضائكم و استحسانكم .
الجزء الثاني
من البحث الخاص
بالزواج العرفي
المبحث الثاني
حكم الزواج العرفي و آثاره في القانون
يثير حكم الزواج العرفي و آثاره في القانون مسائل شتى و متنوعة ، و سيتناول هذا المبحث أحكام الزواج العرفي بالشرح و البيان من خلال النصوص القانونية التي عالج بها المشرع هذا الزواج ، و كذا آراء الفقه و أحكام القضاء ، و ذلك وفقاً لما يلي .
أولاً : الواقع الخطير و اضطرار المشرع إلى التدخل التشريعي :
كان الزواج قديماً ينعقد دون توقف على تسجيله أو توثيقه في ورقة أو وثيقة ، ما دام قد استكمل أركانه و شروطه المعتبرة شرعاً . و ظل الأمر كذلك بين المسلمين من مبدأ التشريع إلى أن رأى أولياء الأمر أن ميزان الإيمان في كثيرمن قلوب الناس قد خف ، و أن الضمير الإيماني في بعض الناس قد ذبل ، فَوُجِد من يدعي الزوجية زوراً، و يعتمد في إثباتها على شهادة شهود هم من جنس المدعي ، لا يتقون الله و لا يرعون الحق ، فما تشعر المرأة إلا و هي زوجة لمزور أراد إلباسها قهراً ثوب الزوجية ، و إخراجها من خدرها إلى بيته تحقيقاً لشهوته ، أو كيداً لها و لإسرتها ، كما وجد من أنكره تخلصاً من حقوق الزوجية ، أو التماساً للحرية في التزوج بمن يشاء، و يعجز الطرف الآخر عن إثباته أمام القضاء ، و بذلك لا تصل الزوجة إلى حقها في النفقة ، و لا يصل الزوج إلى حقه في الطاعة ، و قد يضيع نسب الأولاد ، و يلتصق بهم و بأمهم العار الأبدي فوق حرمانهم حقوقهم فيما تركه الوالدان .( الشيخ / محمود شلتوت – المرجع السابق – ص 231 ).
و قد اضْطُر المشرع الوضعي إلى التدخل التشريعي لمواجهة هذه الآثار الوخيمة حفاظاً على الأسرة و كيانها، و فصلاً للحياة الزوجية و الأعراض من هذا التلاعب ، و ذلك عن طريق وضع قيود وشروط قانونية . و قد قصد المشرع من وضع هذه القيود القانونية أن يحقق بعض الأغراض ذات الأثر الكبير في الحياة الإجتماعية للدولة و المجتمع ، هي :
1- حفظ حقوق الزوجين ، و حماية مصالحهما الناشئة عن الزواج ، بصيانة عقد الزواج الذي هو أساس رابطة الأسرة عن العبث و الضياع بالجحود و الإنكار، إذا ما عقد اثنان زواجهما بدون وثيقة رسمية ثم أنكرها أحدهما و عجز الآخر عن الإثبات ، فلو كان عقد زواجهما بوثيقة رسمية لم يكن هناك مجال لإنكاره.
2- منع ذوي الأغراض السيئة أن يرفعوا دعاوى الزوجية أمام القضاء زوراً و بهتاناً ، فقد أثبتت الحوادث الكثيرة السابقة على وضع هذه الشروط و القيود القانونية أن بعض ممن لا خلاق لهم كانوا يرفعون قضايا زوجية أمام المحاكم لا أساس لها من الصحة ، للنكاية و الكيد للمدعى عليه ، أو للتشهير به ، أو لغير ذلك من الأغراض السيئة ، اعتماداً على سهولة إثبات الزوجية بشهادة الشهود .( الشيخ / عمر عبد الله – أحكام الشريعة الإسلامية في الزواج – ص 105 ، 106 ، المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 78 لسنة 1931 ).
ثانياً : الأساس المبيح لتدخل المشرع :
جاء تدخل المشرع بوضع هذه الشروط القانونية مستنداً – حسبما ورد بالمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 78 لسنة 1931 – إلى ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية من أن القضاء يُخَصَص بالزمان والمكان والحوادث و الأشخاص ، و أن لولي الأمر أن يمنع قضاته من سماع بعض الدعاوى ، و أن يقيد السماع بما يراه من القيود و تبعاً لأحوال الزمان و حاجة الناس ، و صيانة للحقوق من العبث والضياع ، كما أنه قد درج الفقهاء من سالف العصور على ذلك ، و أقروا هذا المبدأ في أحكام كثيرة ، و اشتملت لائحتا سنة 1897 و سنة 1910 للمحاكم الشرعية على كثير من مواد التخصيص ، و خاصة فيما يتعلق بدعاوى الزوجية و الطلاق و الإقرار بهما ، و ألف الناس هذه القيود و اطمأنوا إليها بعد ما تبين ما لها من عظيم الأثرفي صيانة حقوق الأسرة .
و قيل في تبرير مبدأ تخصيص القضاء بالزمان والمكان و الحوادث و الأشخاص ، أن من الأصول المقررة في الشريعة الإسلامية أن ولي الأمر العام و هو الحاكم في الدولة الإسلامية هو الذي يتولى مهمة القضاء بين الناس في المنازعات التي تثار بينهم ، و لكن على اتساع هذه الدولة و ترامي أطرافها أصبح من العسير عليه مباشرة هذه المهمة بنفسه ، فعهد الخلفاء الراشدون في الفصل بين الناس في الخصومات إلى أشخاص لهم الخبرة والدراية بهذه الأمور، و هكذا فعل من جاء بعد الخلفاء الراشدين ، و مع كثرة الخصومات و تنوعها تعذر على القاضي أن ينظر فيها جميعاً ، فأصبح من الواجب تعدد القضاة لمواجهة تعدد و تنوع القضايا ، و من هنا استقر مبدأ التخصيص المذكور في الفقه الإسلامي .( مستشار/ حسن منصور- المرجع السابق – ص 162 ).
ثالثاً : مراحل تدخل المشرع تشريعياً في توثيق عقد الزواج :
كانت الخطوة الأولى بشأن توثيق عقد الزواج هو ما جاء في لائحة سنة 1880 خاصاً بمأذوني عقود الأنكحة من اختيارهم و تعيينهم و واجباتهم، و لكن توثيق العقد نفسه بقي أمراً اختيارياً دون أن يترتب على عدمه أي أثر في صح العقد.
ثم جاء في لائحة سنة 1897 المادة 31 عدم سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها بعد وفاة أحد الزوجين إلا إذا كانت مؤيدة بمقتضى أوراق خالية من شبهة التصنع، و هذه المادة كما هو واضح اكتفت بوجود أي أوراق خالية من شبهة التصنع و إن لم تكن وثيقة زواج رسمية ، كما أنها لم تتعرض لحالة وجود الزوجين على قيد الحياة .
ثم جاءت لائحة سنة 1910 فتشددت أكثر من سابقتها، إذ جاء ضمن المادة 101 منها أن دعوى الزوجية أو الإقرار بها – بعد وفاة الزوجين أو أحدهما – من أحد الزوجين أو من غيره لا تسمع عند الإنكار في الحوادث الواقعة من سنة 1911 إلا إذا كانت الدعوى ثابتة بأوراق رسمية أو مكتوبة كلها بخط المتوفي و توقيعه، و مع هذا فهي لم توجب التوثيق. ( يراجع في هذه المراحل – د/ محمد سلام مدكور – أحكام الأسرة في الإسلام – 1969 ص 113 ).
ثم جاءت اللائحة رقم 78 لسنة 1931 و راعى القانون فيها أن يكون المسوغ الكتابي ملائماً للتدرج التشريعي و منتظماً مع ما أدخل على اللائحة من تعديلات في أزمنة مختلفة من سنة 1880 إلى سنة1930 ، إذ كان كل تعديل يتضمن قيوداً جديدة تساير مقتضيات الأحوال الاجتماعية ، و تلائم الحوادث الواقعة ، و قد جاء المسوغ الكتابي لإثبات الزوجية في المادة 99 من اللائحة المذكورة على النحو التالي :
أ – لا تسمع دعوى الزوجية بعد وفاة أحد الزوجين عند إنكارها في الحوادث الواقعة من سنة 1897 إلى سنة 1911 ، سواء كانت الدعوى مقامة من أحد الزوجين أو من غيره إلا إذا كانت مؤيدة بأوراق خالية من شبهة التزوير تدل على صحتها ( الفقرة الأولى من المادة المذكورة ).
ب – و أما في دعاوى الزوجية في الحوادث السابقة على سنة 1897 فلا يشترط وجود المسوغ الكتابي لسماعها عند الإنكار، بل تسمع دعوى الزوجية في هذا الحالة بشهادة الشهود، إذا تحقق أمران ، أحدهما : أن تكون الدعوى مقامة من أحد الزوجين ، ثانيهما : أن تكون الزوجية المدعاة معروفة بالشهرة العامة .
ج – لا تسمع دعوى الزوجية عند إنكارها بعد وفاة أحد الزوجين في الحوادث الواقعة من سنة 1911 إلى آخر يوليو سنة 1931 إلا إذا كانت الزوجية ثابتة بأوراق رسمية أو مكتوبة كلها بخط المتوفي و عليها إمضاؤه كذلك ، سواء أكانت الدعوى مقامة من أحد الزوجين أو من غيره .
د – لا تسمع عند الإنكار دعوى الزوجية في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1931 إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمنية ، سواء كانت الدعوى في حياة الزوجين أو بعد وفاتهما أو بعد وفاة أحدهما ، و سواء كانت الدعوى مقامة من أحد الزوجين أو من غيره .( يراجع في هذه المراحل : الشيخ / عمر عبد الله – مرجع سابق ص 102 و 103 ، د/ محمد كمال إمام – مرجع سابق ص 217 ).
ثم صدر أخيراً القانون رقم 1 لسنة 2000 بشأن تنظيم بعض أوضاع و إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية ، ناصاً في مادته الرابعة من مواد إصداره على إلغاء لائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادرة بالمرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 ، و معدلاً مرة أخرى في مسألة توثيق عقد الزواج ، حيث نصت المادة 17 منه على أنه :
( .... و لا تقبل عند الإنكار الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج – في الوقائع اللاحقة على أول أغسطس سنة 1931 – ما لم يكن الزواج ثابتاً يوثيقة رسمية ، و مع ذلك تقبل دعوى التطليق أو الفسخ بحسب الأحوال دون غيرهما إذا كان الزواج ثابتاً بأية كتابة ...).
و البين من هذه التعديلات التشريعية أن المشرع لم يزل يصر على إيجاد حلول لمشكلة الزواج العرفي ( غير الموثق ) في محاولة منه لتحجيم آثاره السيئة ، و على كل حال فسوف نبين فيما بعد أحكام هذه التعديلات ، و الاختلافات بين النص القديم و الجديد ، على أنه يلاحظ أن الصورة الأخيرة في التعديل الجديد المتعلقة بالفترة من أول أغسطس سنة 1931 هي المطلوبة الان لإثبات دعوى الزوجية و الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، و ذلك نظراً لبعد العهد بالصور الأخرى لارتباطها بالحوادث التي وقعت منذ ما يزيد على قرن من الزمان ، و من النادر أن تكون هناك وقائع معروض أمرها على في ساحات القضاء بشأنها ، و لذا نكتفي بما ورد في النصوص السابقة عنها ، وبالتالي سيكون بيان حكم الزواج العرفي و آثاره من خلال النص الجديد باعتباره هو النص الحاكم لهذا الزواج الآن .
رابعاً : المقصود بالشروط القانونية :
الشروط القانونية التي تطلبها المشرع ، و منها توثيق عقد الزواج ، هي في حقيقتها شروط لقبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج في حالة الإنكار أمام القضاء ، أي أن مجال إعمال هذه الشروط هو بعد أن يصل الأمرإلى ساحات القضاء و ليس قبل ذلك ، حتى يتمكن الطرف الذي لم يحصل على حقوقه تلقائياً من العقد أن يصل إليها عن طريق القضاء، بحيث إذا لم تتوافر تلك الشروط قضت المحكمة بعدم سماع الدعوى . و إذا كان شرط توثيق عقد الزواج لقبول الدعوى هو في حقيقته لإثبات هذا العقد تحسباً لوصول النزاع بشأنه إلى القضاء ، فيمكن تسمية هذا الشرط بالشرط القانوني لإثبات عقد الزواج ( م/ حسن منصور- مرجع سابق –ص 157 و ما بعدها ) ، و أرى تبعاً لذلك عدم صحة وصف هذه الشروط القانونية بالشروط القانونية لعقد الزواج ، حتى لا يتصور أحد أنها شروط لصحة العقد ، و هي ليست كذلك ، حسبما سبق بيان ذلك فيما تقدم ، بل هي قاصرة على التقاضي في شأن الزواج و ليست قيداً وارداً على الزواج في ذاته .
و قد أفتت دار الإفتاء المصرية في ذلك بأنه :
" ينعقد الزواج شرعاً بين الطرفين ( الزوج و الزوجة ) بنفسيهما أو بوكيلهما أو وليهما بإيجاب من أحدهما و قيول من الآخر متى استوفى هذا العقد جميع شرائطه الشرعية المبسوطة في كتب الفقه ، و تترتب على هذا العقد جميع الآثار والنتائج ، و يثبت لكل من الزوجين قبل الآخر جميع الجقوق والواجبات دون توقف على توثيق العقد رسمياً أو كتابته بورقة عرفية ، و هذا كله من الوجهة الشرعية ، أما من الوجهة القانونية فإن المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 قد نص في الفقرة الرابعة من المادة 99 منه على أنه (................) ، و مقتضى ذلك أن القانون لم يشترط لصحة عقد الزواج أن يكون بوثيقة رسمية ، و إنما اشترط ذلك لسماع الدعوى.... ". فتواها بتاريخ 1/2/1957 في الطلب رقم 582 لسنة 1963 – مشار إليها بمؤلف المستشارالبكري – الكتاب الأول – ص 131 .
خامساً : شروط عدم قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج :
بداءة أشير إلى أني آثرت بحث الشروط القانونية في صيغة شروط عدم القبول و ليس شروط القبول ، لأن النص يتكلم أساساً عن عدم قبول هذه الدعاوى .
بينت المادة 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 سالف الذكر هذه الشروط ، و هما شرطان ، الأول : أن يكون الزواج غير ثابت بوثيقة رسمية ، الثاني : إنكار المدعي عليه للزوجية ، و سأتناول هذين الشرطين شرحاً على النحو الآتي :
الشرط الأول : أن يكون الزواج غير ثابت بوثيقة رسمية :
أساس و مصدر التوثيق :
أولى المصلحون المحدثون عناية خاصة لموضوع توثيق الزواج في سجلات موثقة تشرف عليها أجهزة إدارية ، و ذلك لمنع إدعاء الزواج أو جحده و إنكاره زوراً و كذباً بعد اتساع المجتمعات والمدن و صعوبة تحقق القاضي من صحة دعاوى الزواج و النسب و التوارث و النفقة في هذه الظروف و خطورة ضياع الحقوق في هذه المجالات ، فمست الحاجة إلى نظام للتوثيق يعين القضاة على الحكم بجهد يسير.
و لا يخفى وضوح الإتجاه في التشريع الإسلامي إلى توثيق الحقوق و إلى الاعتماد على الكتابة في هذا التوثيق، و كان بروز علم الشروط و المكانة التي استحقها هذا العلم بين علوم الفقه الاسلامي دليلاً على بروز هذا الإتجاه و قوته.
و من جهة أخرى ، فإن وجود الكتبة الرسميين الذين كانوا يوثقون العقود و يشهدون عليها و لا يزاولون مهنتهم إلا بإذن من القاضي ، و الذين كان يطلق عليهم ( العدول) أحياناً ، دليل هو الآخر على سعي القضاة إلى التشجيع على وجود نظام توثيق الحقوق و تدوينها على نحو رسمي يخضع لإشرافهم و يمكنهم من الاطمئنان إليه في عملهم .( يراجع فيما تقدم : د/ محمد أحمد سراج و د/ محمد كمال إمام – أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية – ص 72 ، 73 ).
و لذلك كانت كتابة العقد بقصد الإثبات ليست جديدة في الفقه الأسلامي ، بل إن في خزائن المحاكم الشرعية وثيقات لعقود زواج يرجع بعضها للقرن الرابع الهجري ( د/ محمد كمال إمام – مرجع سابق – ص 99 )، و من هنا يمكن القول أن ما اتجه إليه المشرع من اشتراط توثيق عقد الزواج ليس بجديد من حيث التوثيق ، و إنما الجديد هو في جعله شرطاً لسماع أو لقبول الدعوى .
لقد تحدث المشرع في النص الجديد عن ( وثيقة رسمية ) يجب أن يثبت فيها الزواج ، فما المقصود بتوثيق الزواج ؟ و الوثيقة الرسمية التي بدونها لا تقبل الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ؟
المقصود بتوثيق الزواج :
هو تحرير عقد الزواج على يد موظف مختص بتحرير عقود الزواج ( د/ محمد سراج و زميله – مرجع سابق – ص 75 ) . و جدير بالذكر أنه لا يجوز الخلط بين توثيق عقد الزواج و الإشهاد عليه ، فالتوثيق هو وسيلة وضعها المشرع لإثبات عقد الزواج عند النزاع أو الإنكار أمام القضاء ، أما الإشهاد عليه فهو شرط لصحة العقد ، بدونها لا يصح عقد الزواج .
المقصود بالوثيقة الرسمية :
لم تعرف المادة 17 المشار إليها فيما سبق الوثيقة الرسمية المتطلبة لقبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، و يمكن القول أنه يدخل في مفهوم هذه الوثيقة كل ورقة رسمية أسبغ عليها القانون حجة بشأن ما يثبت فيها ، فقد تكون الوثيقة الرسمية وثيقة زواج ، و هي حجة فيما دون فيها ، لأن ذلك وضعها فيما وضعت له و جعلت لأجله ، باعتبار وصفها العنواني ، لأن كل مستند له وصف عنواني هو حجة فيه ، فوثيقة الزواج حجة في خصوص الزواج . هذا ، و وثيقة الزواج قد تكون وثيقة إنشائية ( عن طريق الموظف المحتص ) ، أو بطريق التصادق على الزوجية ، و كلا الإثنين يطلق عليه وثيقة زواج ، و على هذا الأساس فإن كل إنشاء زواج أو تصادق عليه – يثبته القاضي في محضره أو أثبته المأذون في دفتره ، أو القنصل في سجله ، يعد وثيقة رسمية بالزواج أو التصادق عليه ( المستشار/ أحمد نصر الجندي – التعليق على نصوص قانون تنظيم بعض أوضاع و إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية رقم 1 لسنة 2000 – طبعة 2000 ص 307 ، 308 ) . و يقصد بالمصادقة على عقد الزواج أن يقر الزوجان لدى الموظف المختص بأنهما قد عقد زواجهما في تاريخ سابق و يطلبان الآن تسجيله في وثيقة رسمية ( الشيخ / عمر عبد الله – مرجع سابق – ص100 ).
اختلاف النص الملغي عن النص الجديد في لفظ الوثيقة :
هذا ، و يلاحظ وجود اختلاف بين نص المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الملغاة و نص المادة 17 من القانون الجديد ، حيث كان النص الملغي يستوجب ثبوت الزواج بـ : ( وثيقة زواج رسمية ) ، في حين استوجب النص الجديد مجرد ( وثيقة رسمية ) لإثباته ، و مفاد ذلك أن المشرع كان متشدداً في الماضي بشأن وسيلة إثبات الزواج ، حيث قصرها على وثيقة الزواج الرسمية ، و هي التي تصدر من موظف مختص بمقتضى وظيفته بإصدارها ، كالمأذون داخل الجمهورية و القنصل في خارجها ، و ذلك على نحو ما أوردته المذكرة الإيضاحية للائحة سالفة الذكر، و على عكس ذلك يأتي النص الجديد ، حيث توسع في الرسمية ، فاكتفى بثبوت الزواج في أية وثيقة رسمية على نحوما سلف بيانه ، فكل ورق رسمية لها حجية قانوناً فيما يثبت بها يصح أن تكون محلاُ لإثبات الزواج بها ، كل ذلك مالم يقر الخصم بالزوجية .
و على ذلك إذا لم يكن الزواج العرفي ثابتاً في وثيقة رسمية فلا تقبل الدعاوى الناشئة عنه إلا ما استثني بالنص الجديد و بالشروط التي وردت به .
و من أوضح الأمثلة للورقة الرسمية التي يمكن أن يثبت بها الزواج ، محضر الشرطة الذ ي يقر فيه الزوجان بزواجهما ، حيث يعتبر هذا المحضر حجة عليهما بإقرارهما فيه بهذا الزواج ، و الأمر مع ذلك يخضع لسلطة محكمة الموضوع بحسب ظروف كل دعوى .
الشرط الثاني : إنكار المدعى عليه للزوجية :
اشترط المشرع في المادة الجديدة لعدم قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج – بالإضافة إلى الشرط السابق – إنكار المدعى عليه للزوجية ، ذلك أن الخصم قد يقر بالزوجية و لا ينكرها ، فتقبل الدعوى حينئذ و لو لم يكن الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية .
المقصود بالإنكار :
يقصد بالإنكار هنا ، إنكار و نفي المدعى عليه – الزوج أو الزوجة أو ورثتيهما – للزوجية أمام القضاء ، و على ذلك فلا يعد إنكاراً يجعل الدعوى غير مقبول ، مجرد إنكار التوقيع على عقد الزواج العرفي أو غير الموثق ( أ/ كما ل صالح البنا – موسوعة الأحوال الشخصية – ص 15 )، إذ أن التوقيع أمر و التصرف الثابت بالورقة أمر آخر، فإنكار التوقيع لا يستلزم معه إنكار التصرف الموقع عليه ، حيث قد يتم إنكار التوقيع لأن التصرف لم يحرر في هذه الورقات بالذات ، أو لأن التصرف تم شفاهة و ليس كتابة .
و إذا رفعت إحدى الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج غير الثابت بوثيقة رسمية ( العرفي ) و لم يحضر المدعى عليه أمام المحكمة ، فلا يعد ذلك إنكاراً ، إذ لا يمكن أن ينسب له قول ما ، طالما أعلن إعلاناً صحيحاً قانوناً . إلا أنه لما كانت المحكمة ملزمة – من تلقاء نفسها – ببحث مسألة ثبوت الزواج رسمياً من عدمه بوثيقة رسمية ، لكون قيد عدم قبول الدعوى يتعلق بالنظام العام على ماسيأتي بيانه ، فإنه في حالة عدم جضور المدعى عليه أمام المحكمة ، و تبين للمحكمة عدم ثبوت الزوجية بوثيقة رسمية ، تعين عليها أن تحكم بعدم قبول الدعوى .
و إذا حضر الخصم و سكت ، فإن هذا السكوت لا يعد إنكاراً ، لأن القاعدة الفقهية أنه لا ينسب لساكت قو ل( م/ البكري – ص 141 ) ، فضلاً عن أنه قد أتيحت له الفرصة لإبداء دفاعه ، كما أن إدعاء الزوجية أمر خطير، و يصعب أن يسكت الشخص عند الإدعاء عليه بها إلا إذا كانت قد حدثت فعلاً و ليست مجرد إدعاء كاذب.
هذا ، و الإنكار كما يكون صريحاً ، يجوز أن يكون ضمنياً، تستخلصه المحكمة من ظروف الدعوى و ملابساتها وفقاً لتقديرها هي دون رقابة عليها في ذلك من محكمة النقض ، باعتبار أن تقدير الإنكار من وسائل الواقع ، شريطة أن يقوم تقديرها على أسباب سائغة تكفي لحمل حكمها ( م/ البكري – ص 141 ، 142 ).
و قد قضت محكمة النقض بأن :
" تقدير إنكار الخصم للزوجية المدعاة – في دعوى الوراثة – من عدمه من مسائل الواقع التي تستقل بها محكمة الموضوع مما لا يجوزالمجادلة فيه أمام محكمة النقض ، ما دام يقوم على أسباب مقبولة تكفي لحمله " الطعنان رقما 39 ، 45 لسنة 40 ق – أحوال شخصية – جلسة 11/6/1975 – مشار إليهما بمؤلف م/ البكري – ص 142 .
فإذا حضر الحصم و دفع بعدم قبول الدعوى لعدم تقديم وثيقة رسمية بالزواج ، عد ذلك إنكاراً صريحاً منه للزوجية .
الإقــــــرار بالزوجــــية :
و إذا كان الإنكار كفيلاً للقضاء بعدم قبول الدعوى في حالة عدم إثبات الزواج بوثيقة رسمية ، فإن مفاد ذلك ، و بمفهوم المخالفة ، أنه إذا كان الخصم مقراً بالزوجية ، فإنه يكون لزاماً و أمراً مقضياً أن يعامل بإقراره في أي مدة يدعي حصول الزواج فيها ، فتقبل الدعوى حينئذ و لو لم يكن الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية ، و لكن ما هو الإقرار الذي تقبل به الدعوى ؟ ، و هل الإقرار هنا هو الإقرار في مجلس القضاء فقط ؟ أم يجوز أن يكون خارج مجلس القضاء ؟ . في المسألة قضاء لمحكمة النقض ، و على هذا القضاء في تلك المسألة تعليق لي بنقده .
ذهبت محكمة النقض إلى أن الإقرار المقصود هو ذلك الذي يصدر في مجلس القضاء ، أما الإقرار الذي يحصل خارج مجلس القضاء أو في ورقة عرفية أو أمام جهة رسمية غير مختصة بتوثيق عقد الزواج فلا يؤخذ به .
فقد قضت بأن :
" و حيث إن هذا النعي مردود ، ذلك أنه في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1931 وفقاً للفقرة الرابعة من المادة 99 من القانون رقم 78 لسنة 1931 لا تسمع عند الإنكار دعوى الزوجية أو الإقرار بها إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية تصدر أو يصدر الإقرار بها من موظف مختص بمقتضى وظيفته بإصدارها ، و طلب استخراج البطاقة العائلية لا يدخل في هذا النطاق و لا يحمل معنى الرسمية ، و إذ كان ذلك ، و كان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاءه على أن ( الزواج مدعى بحصوله سنة 1955 ، فلا تسمع الدعوى به إلا إذا كان ثابتاً بوثيقة زواج رسمية من موظف مختص بتوثيق عقود الزواج ، سواء أكانت الدعوى في حالة حياة الزوجين أم بعد الوفاة ، و الإقرار المعول عليه في هذا الشأن هو الإقرار الذي يحصل في مجلس القضاء ، أما الإقرار الذي يحصل خارج مجلس القضاء أو في ورقة عرفية أو أمام جهة رسمية غير مختصة بتوثيق عقود الزواج فلا يؤخذ به و لا يعول عليه ) ، فإنه لا يكون قد خالف القانون أو أخطأ في تطبيقه ".
الطعن رقم 25 لسنة 35 ق – أحوال شخصية – جلسة 31/5/1967 ، و قد أيد هذا القضاء : المستشار/ البكري ص 140 ، أ/ كمال صالح البنا – ص 15 .
و مع احترامنا و إجلالنا لمحكمة النقض و من أيدها في ذلك ، إلا أن الأخذ بقضائها المتقدم في ظل العمل بالقانون الجديد ، محل نظر عندي .
فبالنسبة للإقرار أمام جهة رسمية غير مختصة بتوثيق عقود الزواج ، فقد كان يمكن القول بعدم الاعتداد به في ظل العمل بالقانون رقم 78 لسنة 1931 الملغي ، و الذي كان يشترط لسماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها ثبوتها بوثيقة زواج رسمية فقط ، حيث إن المقصود بوثيقة الزواج الرسمية تلك التي تصدر أو يصدر الإقرار بها من موظف مختص بمقتضى وظيفته بإصدارها ، و إذن فوثيقة الزواج الرسمية المتطلبة في ظل هذا القانون بهذا المعنى لا تصدر إلا من موظف معين ( المأذون ) ، كما لا يعتد إلا بالإقرار بالزوجية الصادر من هذا الموظف ، و من ذلك يتبين أن هذه الوثيقة و هذا الإقرار الصادران من هذا الموظف المختص هما وحدهما وسيلة إثبات الزواج رسمياً و المعتد بهما في ظل القانون المذكور، و لا يعتد بالتالي بأي إقرار بالزوجية صادر أمام أي جهة أخرى ، و عليه فحكم محكمة النقض صحيح في ظل القانون المشار إليه من هذه الناحية .
أما في ظل العمل بالقانون الجديد و الذي لم يشترط سوى أن يكون الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية ، و لم يشترط بالتالي ثبوته بوثيقة زواج رسمية و التي سبق تعريفها ، فإن مفاد ذلك كما سبق البيان عند تعريف الوثيقة الرسمية ، صلاحية أي ورقة رسمية ثبت فيها الزواج و أسبغ القانون عليها حجية بشأن مايثبت فيها – بما في ذلك بيان الزوجية – لأن تكون وثيقة رسمية يثبت بها الزواج ، فضلاً عن أن النص الجديد لم يشترط صدور الإقرار بالزوجية أمام الموظف المختص ، على عكس النص الملغي الذي كان يشترط ذلك في ظل العمل به .
أما فيما يتعلق بالإقرار خارج مجلس القضاء و عدم الاعتداد به ، فإنه لا محل له بعد صدور القانون الجديد ، والغاء ما كان يشترط في ظل العمل بالقانون الملغي من صدور الإقرار أمام الموظف المختص بإبرام عقد الزواج ، فضلاً عن أن الإقرار خارج مجلس القضاء و إن كان إقراراً غير قضائي ، إلا أن القانون المتعلق بالإثبات اعتد به ، و أخضعه من حيث آثاره القانونية للقواعد العامة ، فهو حجة على المقر ما لم يثبت عدم صحته ، و يخضع للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع في استخلاصه و تقديره بحيث تعتبره دليلاً كاملاً أو مجرد قرينة أو لا تأخذ به أصلاً، إلا أنها ملزمة إذا أطرحته ببيان سبب ذلك و إلا كان حكمها مشوباً بالقصور( المستشار/ عز الدين الدناصوري و زميله – التعليق على قانون الإثبات – الطبعة السابعة –ص 855 ، الطعن رقم 2001 لسنة 57 ق – جلسة 10/12/1992 ، الطعن رقم 1867 لسنة 53 ق – جلسة 25/6/1987 ). و لا يجوز للمقر التنصل مما ورد في إقراره غير القضائي بمحض إرادته إلا بمبرر قانوني ، كأن يصدر عن إرادة مشوبة بتدليس مثلا، و بالتالي فلا يجوز رفض الأخذ بالإقرار غير القضائي بصورة مطلقة ، بل لابد من منح محكمة الموضوع حقها القانوني في بحث صحته و مدى جديته ، و تقصي ظروف صدوره و ملابسات الدعوى حتى يتسنى الأخذ به أو طرحه ، و القول بغير ذلك فيه مصادرة لحق أصيل لمحكمة الموضوع في تقدير الدليل ، وهو حق يدخل في صميم سلطتها التقديرية الأصيلة لها دون مشاركة في ذلك من غيرها .
و فوق هذا و ذاك ، فإن الإقرار في الفقه الإسلامي حجة على المقر ، ومتى صدر الإقرار صحيحاً مستوفياً جميع شروطه الشرعية ألزم المقر، لأن الإقرار حجة ملزمة شرعاً كالبينة ، بل هو أولى ، لأن احتمال الكذب فيه أبعد( المستشار/ الدناصوري و زميله – المرجع السابق ص 864 ، 865 ) ، و لم يشترط الفقه الإسلامي أن يكون الإقرار بين يدي القاضي إلا إذاكان المقر به حداً خالصاً لله تعالى ، كالزنا و شرب الخمر و السرقة ( المرجع السابق ص 864 ) ، بل إن المتفق عليه بين فقهاء الحنفية أن الإقرار كما يكون بمجلس القضاء يصح أن يكون في غيره ( الطعن رقم 99 لسنمة 58 ق – جلسة 11/6/1991 ).
هذا ، و قد اطلعت على رأي يمكن أن يكون سنداً لي فيما ذهبت إليه ، حيث يقول صاحبه - و هو رجل يتوسد من القضاء سابقاً والفقه حالياً مكاناً عليا – في مخلص طيب :
" هذه الدعاوى لا تقبل إذا أنكرها المدعى عليه – الزوج أو الزوجة أو ورثتيهما – والمراد بالإنكار هنا هو الإنكار حين الخصومة أمام القضاء ، و الذي لم يوجد إقرار سابق ينافيه ، و لو لم يكن أمام مجلس القضاء ، ما دام ثابتاً بالطريق الذي بينه القانون ، فالإنكار الذي يعتد به هوالإنكار الذي يقع أما القضاء ، أما الإقرار الذي ينفي هذا الإنكار فقد يكون أمام مجلس القضاء ، و قد يكون خارج مجلس اللقضاء ، ما دام يمكن إثباته قانونا " .( المستشار/ أحمد نصر الجندي – التعليق على نصوص قانون تنظيم إجراءات التقاضي في مسائل الاحوال الشخصية رقم 1 لسنة 2000 – ص 307 ).
و إذا كانت الزوجية قد ثبتت ضمن حكم في دعوى إثبات نسب صغير رزقت به المرأة في زواج عرفي من زوجها المدعى عليه ، فلا تعتبر الزوجية منكرة في هذه الحالة ، إذ الحكم عنوان الحقيقة ( أ/ البنا – مرجع سابق – 21 ) .
و تثبت الزوجية – عندي – أيضاً الناتجة عن زواج عرفي و لا تعتبر منكرة ، إذا أقر الزوج أمام الموظف المختص بإبرام عقود الزواج ، عند زواجه بأخرى رسمياً ، بسبق زواجه عرفيا.
و يحدث أن تقيم امرأة ضد آخر جنحة مباشرة لأنه زور عليها عقد زواج عرفي ، و تعجز عن إثبات دعواها أو يثبت من تقرير قسم التزييف و التزوير بالطب الشرعي أن التوقيع المنسوب إليها هو توقيع صحيح ، و تقضي المحكمة الجنائية ببراءته مما هو منسوب إليه ، فهذا الحكم لا يحول دون الحكم بعدم قبول دعواه عليها بالزوجية ، لأنه لم يضف على عقد الزواج العرفي الصفة الرسمية ، و طالما أن المرأة المذكورة تنكر الزوجية و لا تقر يه ( أ/ البنا- مرجع سابق – ص 16 ).
و إذا كان لا يعتد بالإنكار إذا كان الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية ، إلا أن المدعى عليه يمكنه الطعن بطريق التزوير على هذه الوثيقة الرسمية صلباً وتوقيعاً ، تخلصاً من هذه الزوجية و نفياً لها ، إذا كانت منسوية إليه زورا.
و قد ذهب البعض إلى أن الحكم في دعوى صحة التوقيع على عقد الزواج العرفي أمام المحاكم المدنية لا أثر له ، فلا يجعل الإقرار العرفي بالزوجية إقراراً رسمياً ما لم يكن المدعى عليه حاضراً أمام المحكمة و قد أقر بالزوجية أو صادق على الدعوى ( أ/ البنا – مرجع سابق – ص 28 ).
كما ذهبوا إلى أن رفع دعوى صحة التعاقد بشأن عقد زواج أمام المحكمة المدنية لا يحول دون الحكم بعدم سماع الدعوى لعدم وجود وثيقة رسمية بالزواج ، ما لم يكن المدعى عليه قد حضر بالجلسة و أقر بالزوجية و سلم بطلبات المدعي ، أو قدم الطرفان محضر صلح أقر كل منهما فيه بالزوجية بينهما ( أ/ البنا – المرجع السابق – ص 28) .
و هذا الرأي ، بعد صدور القانون الجديد ، قد يكون محل نظر ، حيث إن المنع قاصر على الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، و دعوى الزوجية ليست منها وفقاً لرأي محكمة النقض كما سيأتي البيان عند بحث الدعاوى التي يسري عليها المنع ، و بالتالي تقبل – وفقاً للرأي الأخير – طالما كان العقد صحيحاُ شرعا.
هذا ، و تجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج تقبل إذا كان الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية ، إلا أنه يمكن الحكم بعدم قبولها رغم ثبوت الزواج بهذه الوثيقة الرسمية ، و يحدث هذا إذا كانت سن الزوجة تقل عن ستة عشرة سنة ميلادية ، أو كانت سن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة ميلادية وقت رفع الدعوى ، و ذلك وفقاً لنص المادة (17) من القانون رقم 1 لسنة 2000 في فقرتها الأولى .
سادساً : الأثر المترتب على عدم إثبات الزواج العرفي في وثيقة رسمية : ( آثار الزواج العرفي ) :
إذا كان الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية ، فإن الدعوى به تقبل وتسير في مجراها الطبيعي حتى يتم الفصل فيها ، أما إذا كان الزواج غير ثابت بوثيقة رسمية ( أي زواجاً عرفياً سواء أكان مكتوياً أم لا ) ، و أنكر المدعى عليه الزوجية ، فقد رتب القانون على ذلك أثراً هاماً و خطيراً ، هو عدم قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، مع تقرير استثناء من هذا الأثر وفقاً لشروط معينة ، و فيما يلي شرح لذلك الأثر و الإستثناء الوارد عليه .
تحديد الأشخاص الذين يسري عليهم الأثر المذكور :
نظراً لأن المنع من قبول الدعوى قد ورد عاماً موجهاً الخطاب فيه للكافة ، فإن المنع من قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج يسري على الدعاوى التي يقيمها أحد الزوجين على الآخر، وعلى الدعاوى التي يقيمها ورثة أيهما على الآخر أو ورثته ، كما يسري على الدعاوى التي يقيمها الغير أوالنيابة في الأحوال التي تباشر فيها الدعوى كطرف أصيل قبل أيهما أو ورثته ( المرحوك الشيخ / أحمد إبراهيم – طرق الإثبات الشرعية – إعداد المستشارواصل علاء الدين – طبعة 1985 – ص 90 و ما بعدها ، المستشار/ أحمد نصر الجندي ص 308 ، المستشار/ البكري ص 131 ، الطعن رقم 3 لسنة 50 ق – جلسة 30/12/1980 ).
تحديد الدعاوى التي يسري عليها عدم القبول :
جاء نص المادة 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 في فقرته الثانية محدداً الدعاوى التي لا تقبل بأنها الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، مغايراً في ذلك نص المادة 99 من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 الملغي ، حيث كانت تنص على عدم سماع ( دعوى الزوجية ) ، فهل يختلف المقصود بهذه الدعاوى في القانون الجديد عنه في القانون الملغي ؟ أم أن هناك تطابق بينهما ؟ . الإجابة تقتضي بيان المقصود بهذه الدعاوى في كل من هذين القانونين سالفي الذكر، و هذا ما أبينه على النحو التالي :
تحديد الدعاوى التي لا تقبل في ظل العمل بالقانون رقم 78 لسنة 1931 الملغي :
نصت المادة 99 من القانون المذكور على عدم سماع (دعوى الزوجية ) ، و قد اختلفت الآراء في مسألة تحديد المقصود بـ ( دعوى الزوجية ) إلى ثلاثة آراء ، على التفصيل التالي :
الرأي الأول : ذهب إلى أن المقصود بدعوى الزوجية ، الدعوى التي يطلب فيها الحكم بالزوجية فقط، و هي دعوى تهدف إلى التحقق من قيام عقد الزواج ، سواء من حيث صحته أو فساده ، فلا تسمع بالتالي ، أما الدعاوى الأخرى الناشئة عن الآثار المترتبة على هذا العقد ، مثل دعوى النفقة و الطاعة .... فتسمع و لوكان عقد الزواج غير ثابت في وثيقة رسمية ، أو كانت سن الزوجين أوأحدهما أقل عن الحد الأدنى المقرر قانوناً، و قد ارتكن هذا الرأي إلى أن المشرع عبر في النصوص عن الدعوى المقصودة بدعوى الزوجية ، كما جرى على تسمية دعاوى أخرى ، فقال " دعوى النفقة " و " الطاعة " ، فاستدلوا بذلك على المغايرة بين دعوى الزوجية و غيرها من الدعاوى ( هذا الرأي مشار إليه في : المستشار/ أحمد نصر الجندي ص 302 ) . و قد ذهبت بعض الأحكام إلى تأييد هذا الرأي و أخذت بظاهر النص ، استناداً إلى أن القول بسريان المنع على الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج هو توسع في نص القانون الصريح ، و هو قيد ورد استثناء من أصل جواز السماع ، فيجب الإقتصار فيه على موضع النص ( مشار إليه لدى المستشار/ البكري ص 132 هامش 4 ).
الرأي الثاني : ذهب إلى أن المنع يشمل دعوى عقد الزواج و الدعاوى الناشئة عن الآثار التي تترتب عليه ، و حجتهم في ذلك أن عقدالزواج غير مقصود لذاته ، بل لما يترتب عليه من آثار، فمدعي الزواج لا يقصد بدعواه – و لا يستفيد منها – إلا آثار الزوجية المترتبة عليه ، و لا يمكن أن يكون مقصد المشرع من النهي عن سماع دعوى الزوجية النهي عن سماع عقد الزواج فقط دون النهي عن سماع دعوى النفقة و الطاعة والإرث ، و غير ذلك من الحقوق المترتبة على الزواج ، لأنه لو كان مقصده هذا لأصبح نهيه عديم الأثر و القيمة ، إذ في استطاعة المدعي أن يترك دعوى عقد الزواج ، و يدعي بما شاء من الآثار المترتبة على الزواج فتسمع دعواه و يحكم له بما طلب و حسبه هذا و كفى , ثم هو غني عن الحكم له بثبوت عقد الزواج ، ما دام يستطيع الحصول على الحكم له بما شاء من آثار هذا العقد بدون أي استثناء ، و حاشا أن يكون هذا هو مقصود المشرع ( هذا الرأي مشارإليه لدى : المستشار/ أحمد نصر الجندي ص 303 ) ، و واضح أن هذا الرأي نظر إلى الغاية من النص و ليس ظاهره .
و أضاف أصحاب هذا الرأي بأن دعوى النفقة أو الطاعة أوالصداق اوالإرث أو اية دعوى بسبب الزواج هي دعوى عقد زواج وزيادة، لأن الزوجة التي تدعي النفقة على زوجها تدعي عقد الزواج ، و تزيد على ذلك استحقاق النفقة عليه ، فدعواها مؤلفة من جزءين : دعوى الزواج ، و دعوى استحقاق النفقة ، و ليس في وسع القاضي أن يمتنع عن سماع الزواج ثم يحكم بأثره المترتب عليه ، لأنه متى سقط الأصل سقط الفرع ( د/ عبد العظيم شرف الدين – أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية 1961 – ص 174 ).
و إزاء هذا الخلاف بين الرأيين سالفي الذكر، صدر منشور وزارة الحقانية ينص على أن دعوى الزوجية لا تسمع مطلقاً سواء كان النزاع في ذات الزوجية أم فيما ترتب عليها من آثار( المستشار/ الجندي ص 304 ).
و بالرأي الثاني أفتت دار الإفتاء المصرية ، حيث انتهت إلى أن :
" ...... المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 قد نص في الفقرة الرابعة من المادة 99 منه على أن ............... ، و مقتضى ذلك أن القانون لم يشترط لصحة عقد الزواج أن يكون بوثيقة رسمية ، إنما اشترط ذلك لسماع الدعوى بين الزوجين في الزوجية و آثارها كالطاعة و النفقة و غيرها ما عدا النزاع في النسب .......) فتوى بتاريخ 1/2/1957 مشارإليالدى المستشار/ البكري ص 132 ، 133 .
الرأي الثالث : ذهب إلى التفرقة بين أمرين :
1- دعوى الزوجية ، أي دعوى الزواج الذي تكون فيه الزوجية محل نزاع بين الخصمين ، فهذه الدعوى لاشك أنها غير مسموعة إلا إذاوجد المؤيد لها .
2- الحقوق التي تنشأ عن عقد الزواج ، و هي قسمان :
أ – قسم لا يتوقف سماع الدعوى به على ثبوت عقد الزواج إذ ادعي ، كالنسب و المهر، فإنهما يثبتان بالوطء بشبهة ، فلا شك في أن الدعوى بهما مسموعة و لو لم يوجد المؤيد لسماع دعوى الزوجية ، لأن القاضي لا يسمع في ضمن الدعوى بها دعوى الزوجية ، بل يسمع دعوى الوطء بشبهة ، و فيه استوفى الرجل منافع البضع ، فلزمه البدل من أجل ذلك .
ب – قسم من الحقوق يتوقف سماع الدعوى به على ثبوت عقد زواج صحيح كالنفقة و الطاعة و الإرث ، فالدعوىبأحد هذه المواد لا يجوز سماعها إلا إذا وجد المؤيد لسماع دعوى الزوجية ( مشا رإليه لدى المستشار/ الجندي ص 304 ). و الملاحظ على هذا الرأي أنه قريب من الرأي الثاني .
و قد ذهبت محكمة النقض إلى تأييد الرأي الأخير ، حيث قضت بأنه :
" متى كانت دعوى المطعون ضده هي دعوى إرث بسبب البنوة ، و هي دعوى متميزة عن دعوى إثبات الزوجية أو إثبات أي حق من الحقوق التي تكون الزوجية سبباً مباشراً لها ، فإن إثبات البنوة الذي هو سبب الإرث لا يخضع لما أورده المشرع في المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية من قيد على سماع دعوى الزوجية او ألإقرار بها ، إذ لا تأثير لهذا المنع على دعوى النسب ، سواء كان النسب مقصوداً لذاته أو كان وسيلة لدعوى المال ، فإن هذه الدعوى باقية على حكمها المقرر في الشريعة الإسلامية حتى و لوكان النسب مبناه الزوحية الصحيحة " . الطعن رقم 12 لسنة 44 ق – جلسة 4/7/1976 .
هذا هو الوضع في ظل القانون الملغي ، فماذا عن الوضع بعد صدور القانون الجديد ؟ هذا ما سنعرض له الآن .
الدعاوى التي لا تقبل بعد العمل بالقانون الجديد :
يبدو أن المشرع يبغي بنا رهقاً ، حيث تمسك بهوايته المعتادة في إثارة الاختلاف و اللبس دون داع ، فقد جاء نص المادة 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 ناصاً على عدم قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، فلم يرفع الخلاف السابق ، و إنما أنشأ خلافاً على عكس هذا الخلاف ، فقد كان الوضع السابق في ظل المادة 99 الملغاة أن دعوى الزوجية لا خلاف على سريان المنع عليها إذا لم يكن الزواج ثابتاً في وثيقة زواج رسمية و أنكر المدعى عليه الدعوى ، و كان الخلاف : هل تدخل الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ضمن دعوى الزوجية المشار إليها في النص المذكور ، فلا تسمع هي الأخرى إذا توافرت شروط عدم سماعها ، أم لا ؟ ، أما بعد صدر القانون الجديد و النص في المادة 17 منه على عدم قبول ( الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ) ، فقد أصبحت الدعاوى المذكورة في النص الجديد لا تقبل عند الإنكار بلا خلاف في ذلك ، و إنما أصبح الخلاف حول دعوى الزوجية ، هل تدخل ضمن الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج و تخضع بالتالي للمنع الوارد بالنص أم لا ؟
الإجابة عن ذلك لا تخرج عن أحد رأيين :
الأول : ما ذهب إليه البعض من أن الدعاى الناشئة عن عقد الزواج هي دعاوى تفترض قيام عقد الزواج و قيامه صحيحاً ، و القانون قد ورد به العديد من الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، كالنفقة والمهر و الجهاز و تحقيق الوفاة والوراثة إذا كانت الزوجة ضمن ورثة المتوفي و الطلاق أو التطليق ، و غير ذلك كثير، و هذه الدعاوى جميعها تختلف عن الدعوى التي تتعلق بانعقاد عقد الزواج ، و شروط صحته ، أو نفاذه أولزومه ، فالدعوى بأحد هذه المسائل سواء من الزوج أو من الزوجة تختلف في موضوعها عن أي دعوى ناشئة عن عقد الزواج ، و انتهى هذا الرأي إلى أن نص المادة 17 سالف الذكر لم يتناول هذه المسائل الخاصة بعقد الزواج ، و اكتفى بالدعاوى الناشئة عنه ( المسشتار/ أحمد نصر الجندي – المرجع السابق – ص 305 ، 306 ). و مفاد هذا الرأي أنه يمكن لمن تزوج عرفياً – رجلاً أو امرأة – أن يقيم دعوى لإثبات هذه الزوجية دون أن يملك المدعى عليه دفعها بالإنكار باعتبارها لا تخضع لهذا المنع الوارد بنص المادة 17 آنفة الذكر.
و قد أكدت ذلك محكمة النقض ، حيث قضت بأن :
" القيد المنصوص عليه في المادتين 99 من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 و 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 بشأن تقديم وثيقة زواج رسمية قاصر على الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، فلا يمتد إلى الدعاوى الناشئة عن النزاع في ذات الزواج أو في وجود الزوجية ، فيجوزللزوج أو للزوجة اثبات الزوجية عند الإنكار أو وجود نزاع فيها و لو لم يكن الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية ".
الطعن رقم 643 لسنة 73 ق – جلسة 23/4/2005 .
و الرأي السابق أوجب الرجوع بشأن هذه المسألة ( إثبات دعوى الزوجية ) إلى نص المادة الثالثة من مواد إصدار القانون رقم 1 لسنة 2000 التي نصت على أن يعمل فيما لم يرد به نص في تلك القوانين بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة .
و لا مراء أن الرأي المذكور له وجاهته و سنده ، و لكن الأخذ به يؤدي إلى تناقض غريب ، فهو يعني أن المشرع يعترف بدعوى الزوجية أي بعقد الزواج العرفي و يقر قبولها أمام القضاء ، في الوقت الذي لا يعترف و لا يقبل الدعاوى الناشئة عنه ، فطالما أنه لا يقبل الدعاوى بآثار عقد الزواج ، فلا فائدة عملية ترجى من قبول دعوى الزوجية .
و قد ذهب البعض – ممن له وزنه و مكانته المرموقة – إلى أن مؤدى حكم محكمة النقض المشار إليه سلفاً – بإخراج دعوى الزوجية من القيد – حق المتزوجة عرفياً في طلب الحقوق المترتبة على عقد الزواج العرفي من نفقة أو حضانة وغير ذلك ، شريطة أن تتضمن صحيفة الدعوى طلبين ، أولهما : طلب إثبات صحة ونفاذ عقد الزواج العرفي ، ثانيهما : المطالبة بما يترتب على ثبوت العقد من حقوق تشكل جوهر طلبها الثاني من نفقة أو حضانة أو غير ذلك ، وإن كان ذلك يسبتلزم صيرورة الحكم الصادر في الطلب الأول بإثبات الزواج العرفي نهائياً حتى لا يحرم المدعى عليه فيه من التقاضي على درجيتن باعتباره مما يتعلق بالنظام العام ( المستشار/ أشرف مسطفى كما ل- موسوعة الأحوال الشخصية – ص 208 ).
و هذا الراي - عندي - محل نظر، مع احترامي و تقديري الشديد لصاحبه ، ذلك أنه و إن جاز لجوء المتزوجة عرفياً إلى القضاء للمطالبة بإثبات زواجها العرفي وفقاً لقضاء محكمة النقض آنف الذكر، و عدم خضوعها لقيد عدم السماع الوارد بصدر الفقرة الثانية من المادة 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 ، إلا أنها تخضع للإستثناء الوارد بعجز الفقرة الثانية المذكورة ، فالأصل ألا تُسمع – مطلقاً – الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج غير الرسمي ، إلا أن المشرع لأسباب ارتآها و ارتضاها أجازعلى سبيل الإستثناء ( قبول دعوى التطليق أو الفسخ بحسب الأحوال دون غيرها إذا كان الزواج ثابتاً بأية كتابة ) ، فالمتزوجة عرفياً و على فرض حصولها على حكم بإثبات زواجها و صحته ، ما زال عقدها عرفياً , غير ثابت بوثيقة رسمية ، فالأحكام كاشفة و ليست منشئة ، و حيث إن المشرع و إن رتب على ثبوت الزواج العرفي بأية كتابة قبول دعوى التطليق أوالفسخ إلا أنه لم يجز قبول أي دعوى أخرى غيرهما ، و ليس للمتزوجة عرفياً بالتالي المطالبة بأية حقوق مترتبة على زواجها العرفي أو مترتبة على الحكم بالتطليق أوالفسخ ، و القول بغير ذلك – بلا أدنى شك – إفراغ للقيد الوارد بالفقرة الثانية من المادة 17 المذكورة سلفاً من مضمونها، و وصم للمشرع بالعبث ، إذ ما أيسر الأمر على كل متزوجة عرفياً أن تلجأ للقضاء إثباتاً لزواجها العرفي و المطالبة من بعد بحقوقها المترتبة على هذا الزواج ، و هو ما تدخل المشرع لمنعه بنصوصه الواردة بالمرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 و من بعده القانون رقم 1 لسنة 2000 بعد أن كان جائزا ، و القاعدة أن المشرع لا يعبث و لا يلغو ، و في هذا الرأي أيضاً إهدار للصيانة التي ابتغاها المشرع للزواج من العبث و الجحود حماية لركائز المجتمع و تثبيتاً لأركانه .
الرأي الثاني : أن يقال أن دعوى الزوجية تخضع للمنع الوارد بنص المادة 17 ، و لكن النص المذكور لا يساند هذا الرأي ، إلا أن يقال بأن المشرع منزه عن العبث ، و لا يمكن أن يمنع قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج غير الرسمي ( العرفي ) ثم يقبل دعوى العقد ذاته ، لاسيما و أن المشرع ما تدخل بمثل هذه الصور إلا لمواجهة هذا الزواج غير الرسمي ، في محاولات منه لمنع اللجوء إليه ، حارماً أطرافه من آثاره قضاء ، و لكن هذا الرأي يعوزه السند الصحيح في مواجهة النص الصريح ، وما كان لهذا الخلاف أن يقع لو كان المشرع يقظاً في تحديد الفاظ النصوص القانونية ، مبتعداً في تشريعه عن الأهواء .
لا مراء أن عقد الزواج سيكون محلاً لدعاوى عديدة يطالب أطرافه من خلالها بإثبات هذه الزوجية أو هذا الزواج أو العقد ، استناداً إلى ظاهر النص و ماذهب إليه أصحاب الرأي الأول و قضاء محكمة النقض المذكور سلفاً ، و نظراً لاحتمال قبولها ، فسوف تضطر محكمة الموضوع في سبيل الفصل فيها إلى التطرق إلى إثبات الزواج شرعاً ، بحثاً عما إذا كان مدعي الزوجية قد أفلح في إثبات دعواه فيقضى له بها ، أم عجز و فشل فترفض ، الأمر الذى أرى معه وجوب بيان طرق إثبات الزواج شرعاً حتى يستكمل البحث مقوماته الأساسية ، و إذا كانت المادة الثالثة من مواد إصدار القانون رقم 1 لسنة 2000 تنص على أنه يعمل فيما لم يرد في شأنه نص في تلك القوانين بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة ، فإن بحث إثبات الزواج سيكون من خلال مذهب أبي حنيفة و بإيجاز، بحسبان أن المشرع لم يتطرق إلى تنظيم تلك المسألة

الجزء الثالث من بحث الزواج العرفي

اثبات الزواج في المذهب الحنفي

يثبت الزواج في الفقه الحنفي بأحد الأدلة الآتية :
أولاً : الشهادة : الشهادة في المعنى الاصطلاحي إخبار في مجلس القضاء عما وقع تحت سمع شخص و بصره مما يترتب عليه أثر في الشرع ألأو القانون ، أي إخبار الانسان في مجلس القضاء بحق عل غيره لغيره ( د/ كما لامام – ص 210 )، و نصاب الشهادة في إثبات الزواج شهادة رجلين عدلين أو رجل و امرأتين عدول ( شرح فتح القدير للكما لبن الهامام – ج 7 – ص 370 ، الطعن رقم 1 لسنة 46 ق – جلسة 26/10/1977 ).

و البينة حجة متعدية ، فالثابت بها ثابت على الكافة و لا يثبت على المدعى عليه وحده . و يشترط في الشاهد : العدالة و البلوغ و الحرية و الإبصار و ألا يكون محدوداً في قذف ، و ألا يكون متهماً في شهادته ، بأن كان يجر لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه مغرماً ، و يدخل في ذلك ألا يكون الشاهد من أصول أو فروع المشهود له أو زوجاً له ، و العلم بالمشهود به ، ذاكراً له وقت الأداء ، و القدرة على التمييز بالسمع و البصر بين المدعى و المدعى عليه .( المستشار/ البكري – ص 123 ).

و قد أجيزت الشهادة بالتسامع استحساناً في بعض المسائل ، منها إثبات الزواج ، و ذلك دفعاً للحرج و تعطيل الأحكام ، بحيث انه إذا اشتهر الزاج لدى الشاهد بأحد طريقي الشهرة الشرعية حل له أن يشهد به لدى القاضي ، و الشهرة الشرعية تنفسم الى قسمين : شهرة حقيقية ، و هذه تكون بالسماع من أقوام كثيرين لا يتصور تواطؤهم على الكذب ، و لا يشترط فيهم العدالة ، و شهرة حكمية ، و تكون بشهادة عدلين أو رجل عدل و عدلتين بالشئ بلفظ الشهادة ( المستشار/ البكري – ص 124 ). و هذا هو الرأي المفتى به في المذهب (الشيخ / احمد ابراهيم – ص 123 ).

و تطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض بأن : ( العشرة و المساكنة لا تعتبر وحدها دليلاً شرعياً على قيام الزوجية و الفراش ، إنما نص فقهاء الحنفية على أنه يحل للشاهد أن يشهد بالنكاح و إن لم يعاينه متى اشتهر عنده ذلك بأحد نوعي الشهادة الحقيقية أو الحكمية ، فمن شهد رجلاً و امرأة يسكنان في موضع أو بينهما انبساط الأزواج و شهد لديه رجلان عدلان بالفظ الشهادة انها زوجته حل له أن يشهد بالنكاح و إن لم يحضر وقت العقد ) الطعن رقم 12 لسنة 36ق – أحوال شخصية – جلسة 27 /3/1968 .



ثانياً : الإقرار :
الإقرار شرعاً هو الاعتراف بثبوت حق للغير على نفس المقر و لو في المستقبل باللفظ أو ما في حكمه ( شرح فتح القدير-ج 8 ص 317، الطعن رقم 16 لسنة 50ق أحوال شخصية – جلسة 16/6/1981 )، و إذا أقر الشخص بحق لزمه ، و يعد الإقرار حجة قاصرة على المقر بخلاف البينة ، فإذا أقر أحد الزوجين بالزوجية كان اقراره هذا دليلاً كافياً لاثباتها دون حاجة إلى دليل آخر ، و لا تشترط الشهادة في صحة الإقرار لأن الإقرار ليس انشاء للزوجية (البكري – ص 127 ).

و يشترط في صحة الإقرار بالزواج و نفاذه ما يلي :
1- أن يكون المقر عاقلاً بالغاً .
2- أن يكون الزواج ممكناً الثبوت شرعاً، و ذلك بألا يكون الرجل متزوجاً بمحرم للمرأة كأختها و عمتها ، و لا بأربع سواها، و ألا تكون هي متزوجة فعلاً برجل آخر أو في عدة فرقة منه ، سواء أكان الإقرار من الرجل أو من المرأة .
3- أن تصدق المرأة الرجل في إقراره إذا كان هو المقر، و أن يصدقها الرجل إذا كانت هي المقرة ، لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر.

و الإقرار بالزوجية صحيح و نافذ سواء كان في حال الصحة أو في مرض الموت ، متى ورد عليه التصديق من الجانب الآخر، سواء كان المقر هو الرجل أو المرأة (البكري – ص 127)، و ذهب الصاحبان إلى انه يصح التصديق من الطرف الآخر بعد موت المقر، سواء كان المقرهو الرجل أو المرأة ، أما الإمام أبوحنيفة فيذهب إلى أنه إذا كانالمقر هو الرجل فإنه يصح و ينفذ لو صدقته المرأة بعد موته فيكون لها حقها في الميراث ، أما إذا كانت المرأة هي المقرة فلا يصح تصديق الرجل بعد موتها ، فلا تثبت به الزوجية و لا يستحق به الميراث ، لأنه بموت المرأة تنقطع أحكام الزوجية ، ولذلك يحل للرجل أن يتزوج بأختها عقيب وفاتها و بأربع سواها ، و لا يحل له أن يغسلها إذ صارت أجنبية عنه، أما بعد موت الرجل فللزوجية أحكام باقية كالعدة ، و لذلك يحل لها أن تغسل زوجها .

ثالثاً : النكول عن اليمين :
اذا لم يقر المدعى عليه بالزوجية ، و لم يقدم المدعي بينة عليها ، أو على أن المدعي عليه قد أقر بها قبل ذلك ، كان له – على رأي الصاحبين المفتى به – أن يطلب من القاضي تحليف المدعى عليه ، فإن حلف رفضت الدعوى ، و إن نكل ثبت الزواج، لأن النكول إقرار بالمدعى به عندهما، و ذهب أبو حنيفة إلى أن اليمين لا توجه إلى المدعى عليه إذا كان أحد الزوجين ، و إذا وجهت إليه لم يثبت الزواج بنكوله، لأن النكول بذل لا إقرار عنده، و الزواج ليس مما يبذل (د/كمال امام – ص 219 ). هذا ، و إذا قضي برفض الدعوى بعد أن حلف المدعي عليه أن ليس بينه و بين المدعي زوجية ، كان هذا القضاء قضاء ترك لا يمنع المدعي من تجديد الدعوى إذا وجد البينة ( الإمام / أبو زهرة – ص 268 ، البكري ص 128 ).


المحكمة المختصة بنظر دعوى إثبات الزوجية :
صدر القانون رقم 10 لسنة 2004 بإنشاء محاكم الأسرة ، و نص في المادة الثالثة منه على أن : ( تختص محاكم الأسرة دون غيرها بنظر جميع مسائل الأحوال الشخصية التي ينعقد الاختصاص بها للمحاكم الجزئية و الابتدائية طبقاً لأحكام قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية الصادربالقانون رقم 1 لسنة 2000 ........)، و بذا يكون المشرع قد عقد لمحاكم الأسرة الاختصاص النوعي بنظر جميع مسائل الأحوال الشخصية ، و لم يعد هناك وجود لمحاكم جزئية وأخرى ابتدائية في نطاق منازعات الأحوال الشخصية ، و بناء على ذلك يضحى الاختصاص بنظر دعوى إثبات الزوجية معقود لمحكمة الأسرة المختصة محلياً بنظرها.


تحديد الدعاوى التي لا يسري عليها القيد :
هناك من الدعاوى ما لا يسري عليها القيد الوارد بنص المادة 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 و الخاص بعدم سماع الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، لكون الحقوق فيها ليست الزوجية سبباً مباشراً لها ، أي ليست ناشئة عن عقد الزواج ، و هناك نوع آخر من الدعاوى لا يسري عليها هذا القيد استثناءً من القانون نفسه بنص المادة المذكورة سلفاً ، و أبين كلا النوعين على الوجه التالي :

الدعاوى التي لا يسري عليها القيد بغير نص : من هذه الدعاوى :
1- إثبات الإرث بسبب البنوة : لأن الإرث هنا سببه البنوة و ليس الزواج ، فقد قضت محكمة النقض بأن : ( لما كانت دعوى المطعون عليه هي دعوى ارث بسبب البنوة ، و هي دعوى متميزة عن دعوى اثبات الزوجية أو اثبات أي حق من الحقوق التي تكون الزوجية سباً مباشراً لها ، فإن اثبات البنوة الذي هو سبب الإرث لا يخضع لما أورده المشرع في المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية من قيد على سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها ، إذ لا تأثير لهذا المنع من السماع على دعوى النسب سواء كان النسب مقصوداً لذاته أو كان وسيلة لدعوى المال ، فإن هذه الدعوى باقية على حكمها المقرر في الشريعة الاسلامية حتى و لو كان النسب مبناه الزوجية الصحيحة ، و لما كان اثبات البنوة و هو سبب الارث في النزاع الراهن بالبينة جائزاً فلم يكن على الحكم المطعون فيه أن يعرض لغير ما هو مقصود أو مطلوب بالدعوى ) الطعن رقم 21 لسنة 44 ق – أحوال شخصية – جلسة 7/4/1976 .

و على ذلك فيمكن للولد من زواج عرفي أن يرفع دعوى إرث من أبيه دون أن يكلف تقديم وثيقة رسمية بالزواج ، و إنما يكفيه البينة على دعواه . هذا و يلاحظ أن دعوى الإرث التي ترفعها الزوجة عن زوجها المتوفي من زواج عرفي لا تقبل لأن مبناها الزوجية .

2- دعوى نفقة الأولاد : الأصل في الدعوى بطلب نفقة للصغير أن يكون النسب قائماً فيها باعتباره سبب الالتزام بالنفقة ، أخذاً بأن سبب وجوب النفقة للأولاد هي الجزئية النابعة من كون الفرع من صلب الأصل ( الطعن رقم 173 لسنة 63 ق – أحوال شخصية – جلسة 26/5/1997 )، و بالتالي لا تعد الزوجية سبباً لوجوب النفقة للأولاد على أبيهم ، و إنما السبب في وجوبها هو كون الولد جزء من أبيه و فرع منه أي البنوة ، الأمر الذي تكون معه دعوى الولد من زواج عرفي بطلب النفقة من أبيه مقبولة و لا تخضع للقيد الوارد بنص المادة 17 لكونها ليست من الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، و يلاحظ أن نفقة الصغير تشمل الطعام و الكسوة و السكنى و مصاريف العلاج و التعليم ، فالدعوى بأيهم مقبولة ، و عليه فتكون المطالبة بمسكن حضانة للصغير مقبولة باعتباره من النفقة ، و هكذا في كل مشتملات النفقة .( و في تأييد ذلك المستشار/ أشرف مصطفى كمال – مرجع سابق ص 209 ).

3- إثبات الزوجية التي من شرائط امتداد عقد الإيجار:
فقد قضت محكمة النقض بأن : ( الأصل في فقه الشريعة الاسلامية جواز الشهادة بالتسامع في الزواج ، إلا أن المشرع تدخل استثناءً من هذا الأصل – احتراماً لروابط الأسرة و صيانة للحقوق الزوجية – فقد نص في الفقرة الرابعة من المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية على أن " لا تسمع عند الإنكار............." و لما كانت دعوى الطاعن هي طلب إنهاء عقد إيجار شقة النزاع باعتبار أن الشاغلة لها ليست زوجة للمستأجر الأصلي الذي ترك العين لعدم وجود وثيقة رسمية معها مثبتة للزواج، و هي دعوى متميزة عن دعوى الزوجية التي عنتها المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، فإن الزوجية التي هي من شرائط امتداد عقد الايجار عملاً بنص المادة 31 من القانون رقم 52 لسنة 1969 لا يلزم لتوافرها ثبوت الزواج بوثيقة رسمية ، و لو قصد المشرع ذلك لنص عليه صراحة ). الطعن رقم 1535 لسنة 48 ق – جلسة 19 /5/1982 ، و الطعن رقم 973 لسنة 49 ق – جلسة 20/12 /1984 .
هذا ، و يجب التنبه إلى ما سبق الإشارة إليه من عدم خضوع النزاع في ذات الزواج أو في وجود الزوجية للقيد الوارد بالمادة 17 وفقاً لما انتهت إليه محكمة النقض على النحو الموضح بالمبحث الثاني من هذا البحث، و بالتالي فالنزاع في الزواج إثباتاً و صحة و خلافه أصبح طليقاً من القيد المذكور.


4- دعوى النسب :
استقرت أحكام محكمة النقض في ظل العمل بالمرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 على عدم خضوع دعوى النسب للقيد الوارد على سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها ، لكونها دعوى متميزة عنها، فقد قضت بأن :
" ......... لا تأثير لهذا المنع من السماع على دعوى النسب التي ما زالت باقية على حكمها المقرر في الشريعة الاسلامية ، و كان النسب كما يثبت بالبينة والإقرار يثبت بالفراش الصحيح و ملك اليمين و ما يلحق به و هو المخالطة بناء على عقد فاسد أو بشبهة ". الطعن رقم 8 لسنة 58 ق أحوال شخصية – جلسة 21/11/1989 .

كما قضت بأن : " و حيث إن الطاعن ينعي بالسبب الثاني على الحكم المطعون فيه الخطأ في تطبيق القانون ، و في بيان ذلك يقول ان المطعون ضدها تستند في إثبات نسب الصغير إليه إلى أنها زوجة للطاعن بعقد عرفي ، و لما كانت هذه الزوجية غير ثابتة بوثيقة زواج رسمية فقد دفع بعدم سماعها ... لأنه من غير الجائز إثبات الزوجية بشهادة الشهود...و حيث إن هذا النعي في غير محله، ذلك أن المقررفي قضاء هذه المحكمة أن دعوى النسب متميزة عن دعوى إثبات الزوجية ، و أن إثبات البنوة لا يخضع لما أورده المشرع في المادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية من قيد على سماع دعوى الزوجية أو الإقرار بها ... ". الطعن رقم 62 لسنة 58 ق أحوال شخصية – جلسة 22/5/1990 .

هذا و يثبت النسب بالفراش و الإقرار و البينة ، فإذا ادعت امرأة على رجل أنهاولدت منه و لم تكن فراشاً له فلها إثبات مدعاها بالبينة الكاملة أي شهادة رجلين عدلين أو رجل و امرأتين عدول ، و الشهادة المنصبة على النسب لا يشترط فيها معاينة واقعة الولادة أو حضور مجلس العقد إن كان . ( الطعن رقم 3 لسنة 45 ق أحوال شخصية – جلسة 9/11/1967 ).

رأي مخالف لما سبق :
و مع ذلك ، فإن هناك رأياً – لصاحبه وزنه الفقهي و العلمي المعروف – يذهب إلى عكس ذلك أو إلى التفصيل ، و لهذا الرأي من يؤيده . يرى صاحب هذا الرأي أن عبارة المذكرة الايضاحية للقانون رقم 78 لسنة 1931 التي تجيز سماع دعوى النسب عند الإنكار دون وثيقة زواج رسمية تكون في محلها إذا كان ثبوت النسب أساسه الدعوة أو نحوها و لم يكن أساس الاثبات فيه فراش الزوجية ، و ذلك لأن الدعوة وحدها كافية لاثبات النسب ، فإذا أقام الدليل عليها فقد ثبت ، و كذلك إذا كان أساس النسب دخولاً بشبهة أسقطت الحد و محت وصف الزنا ، فإن أساس النسب فيه واقعة لا تقيد اللائحة طريق إثباتها ، بل تركته للمقرر في الفقه من طرق الإثبات ، و على القاضي أن يراعي ملابسات الأحوال ، أما إذا كان أساس النسب هو فراش الزوجية فإن النسب لا يثبت إلا إذا ثبتت الزوجية ، فالدعوى في هذه الحالة تتضمن لا محالة دعوى الزوجية ، فيجب أن يجري اثباتها على ما سنته اللائحة و تتقيد بقيودها ، إذ أن نص اللائحة يشمل كل دعاوى الزوجية سواء اكانت ضمن حق أم لم تكن ، و إذا كانت دعوى النفقة بسبب الزوجية ترفض إذا كانت الزوجية محل إنكار و لم تثبت بوثيقة رسمية ، فكذلك ترفض دعوى النسب إذا كان بسبب فراش الزوجية ، و أنكرت الزوجية و لم تستطع اثباتها بوثيقة رسمية بمقتضى منطق القانون ، و لا يجوز التفريق بين النسب و غيره من آثار الزوجية إذا كان أساس الدعوى فيه فراش الزوجية الصحيح ( الرأي لفضيلة الإمام / محمد أبو زهرة – الأحوال الشخصية – ص 272 و ما بعدها ، و قد أيده المستشار/ محمد عزمي البكري – المرجع السابق ص 134 و ما بعدها ) ، و الرأي كما هو واضح صدر في ظل العمل بالقانون الملغي رقم 78 لسنة 1931 .

تعليق على الرأي السابق و الوضع في ظل القانون الجديد :
الرأي السابق – مع اجلالنا لصاحبه و له – و إن كان على حق في ظل العمل بالقانون رقم 78 لسنة 1931 وله سنده الصحيح الذي أؤيده، حيث إن دعوى الزوجية كان النص الملغي صريح في عدم سماعها إذا توافرت شروط ذلك ، إلا أنه بعد صدور القانون الجديد و النص في المادة 17 منه على عدم قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، فقد أصبحت دعوى الزوجية و بهذه الصياغة غير خاضعة للقيد الوارد بالنص و بالتالي يتعين قبولها و لو لم تكن هناك وثيقة رسمية بالزواج ، و إذن إذا كانت دعوى النسب أساسها الفراش الصحيح فلا يوجد ما يمنع قبولها .

و قد أكدت محكمة النقض في حكم حديث لها هذا الأمر، حيث أجازت اثبات وجود أو صحة الزواج ذاته عند الإنكار بكافة طرق الإثبات ، فقد قضت بأن :
" القيد المنصوص عليه في المادتين 99 من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 و 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 بشأن تقديم وثيقة زواج رسمية قاصرعلى الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، فلا يمتد إلى الدعاوى الناشئة عن النزاع في ذات الزواج أو في وجود الزوجية ، فيجوز للزوج أو الزوجة إثبات الزوجية عند الإنكار أو وجود نزاع فيها و لو لم يكن الزواج ثابتاً بوثيقة رسمية " الطعن رقم 643 لسنة 73 ق – جلسة 23/4/2005 – وارد بمؤلف المستشار/ أشرف مصطفى كمال – موسوعة قوانين الأحوال الشخصية – طبعة نقابة المحامين – الجزء الأول – ص 273 .

و الوضع بعد صدور القانون رقم 1 لسنة 2000 لم يتغير عما كان عليه قبل صدوره فيما يتعلق بدعوى النسب و عدم خضوعها للقيد المشارإليه سلفاً ، لأن دعوى النسب لا زالت باقية على حكمها المقرر شرعاً و هو أن الولد للفراش ، فيثبت النسب بالزواج و لولم يكن ثابتاً في أية ورقة ، بأن كان شرعياً محضا ً ، و في حالة دعوى النسب المستندة إلى زواج عرفي ، لا يشترط في إثبات عقد الزواج العرفي تقديم هذا العقد بل يكفي أن يثبت بالبينة حصوله و حصول المعاشرة الزوجية في ظله ، باعتبار البينة الشرعية هي إحدى طرق إثبات النسب ، كما أنه ليس بلازم أن يشهد الشهود بحضور مجلس ذلك العقد العرفي ، بل يكفي أن يشهدوا بعلمهم بحصوله لأن الشهادة بالتسامع جائزة هنا بشرط أن لا يصرح الشاهد في شهادته بلفظ أسمع أو سمعت . ( م/ أشرف مصطفى كمال – المرجع السابق – الجزء الثاني ص 468 ، 472 )، فإثبات النسب يكون بكافة طرق الإثبات المقررة لذلك دون حاجة إلى وثيقة الزواج الرسمية أو العرفية .

و هذا ما تؤكده المادة 15 من القانون رقم 25 لسنة 1920 بأحكام النفقة و بعض مسائل الأحوال الشخصية والمعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 ، حيث نصت على أن : ( لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينها و بين زوجها من حين العقد و لا لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها و لا لولد المطلقة و المتوفي عنها زوجها إذا أتت به بعد سنة من وقت الطلاق أو الوفاة )، فقد حدد المشرع – حصراً – أسباب عدم سماع دعو النسب ، و ليس من بين تلك الأسباب عدم ثبوتها في وثيقة رسمية ، و قد أكدت محكمة النقض ذلك في حكم صادر منها بعد صدور قانون 1 لسنة 2000 حيث قضت بأن : " عدم سماع دعوى النسب عند الإنكار. شرطه أن تأتي بالولد لم تلتق بزوجها من حين العقد أو أتت به بعد سنة من غيبته عنها أو من انقضاء فراش الزوجية بالطلاق أو الوفاة ز مادة 15 مرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1920 " . الطعن رقم 152 لسنة 65 ق أحوال شخصية – جلسة 14/5/2001 – مجلة المحاماة – العدد الثاني 2002 – ص 224 .

5- دعوى المتعة : قد يثور التساؤل عما إذا كانت دعوى المتعة تخضع للقيد الوارد بنص المادة 17 أم لا ؟ .
ذهب البعض إلى عدم قبول دعوى المتعة لكون المشرع قد حرص على النص في المادة المذكورة على أن يقتصر الاستثناء في حالة إنكارالزواج و عدم ثبوته في وثيقة رسمية على قبول الدعوى بالتطليق أو الفسخ فقط دون غيرهما من دعاوى المطالبة بالحقوق المترتبة على الطلاق كالمتعة أونفقة العدة أو غير ذلك ( م/ أشرف مصطفى كمال – المرجع السابق – ص 210 هامش 4 ) ، و يرى البعض أنه لما كان نص المادة 18 مكرراً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1925 المضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 يشترط لاستحقاق المتعة أن تكون الزوجة مدخولاً بها في زواج صحيح ، فإن إنكار المطلق لواقعة الزواج ذاتها يكون كافياً بذاته لعدم سماع الدعوى بالمتعة ( أ/ سمير عبد السميع – مرجع سابق ص 209 ). و هذا الرأي محل نظر ، ذلك أن المطلق إذا أنكر الزوجية فإن الزوجة لديها مكنة اثبات الزواج بأي دليل كتابي وفقاً لنص المادة 17 ، فإن أفلحت ثبت الزواج ، و لم يعد لإنكار الزواج من قيمة في هذه الحالة ، و لكن السؤال هل إذا ثبت الزواج و قضت المحكمة بالتطليق يكون للمطلقة حينئذ رفع دعوى المتعة ؟ الرأي عندي بالإيجاب، ذلك أن المشرع إنما منع – فقط - قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، و بالتالي فالدعاوى الغيرناشئة عن عقد الزواج تكون بمفهوم المخالفة مقبولة ، و لما كانت المتعة ليست ناشئة عن عقد الزواج ، و إنما ناشئة عن واقعة الطلاق ، فإنها تكون مقبولة ، ذلك أن المقرر في قضاء النقض أن ( سبب الحق في المتعة هو الطلاق باعتباره الواقعة المنشئة لالتزام المطلق بها ، و الأصل في تشريعها جبر خاطر المطلقة و فيها ما يحقق المعونة المادية لها على نتائج الطلاق ) الطعن رقم 438 لسنة 65 ق – جلسة 17/4/2000 .

و لا يقدح في ذلك قالة أن المشرع استثنى من عدم القبول دعوى التطليق أو الفسخ دون غيرهما ، ذلك إن هذا الاستثناء من قبيل الاستثناء المتصل ، أي أنه استثناء من الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، بمعنى أن المشرع جعل الأ صل عدم قبول الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج ، ثم استثنى من تلك الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج دعوى التطليق أو الفسخ ، فالأصل و الاستثناء متعلق بالدعاوى الناشئة عن عقد الزواج فقط ، أما الدعاوى الغيرناشئة عن عقد الزواج فهي مقبولة كلها بلا استثناء ، و منها دعوى المتعة على ما سبق بيانه .


6- الدعوى التي يرفعها الأب بضم الأولاد :
في حالة ما إذا تزوج رجل امرأة زواجاً عرفياً ، و أثمر هذا الزواج أولاداً ، ثم حدثت الفرقة بين الزوجين ، فهل يملك هذا الزوج في هذه الحالة المطالبة بضم أولاده من هذه الزوجة إذا بلغوا سن الحضانة غير الالزامية ، أي إذا أنهوا سن الحضانة الالزامية التي تقوم عليها النساء لزوماً و التي تنتهي ببلوغ الصغير خمس عشرة سنة طبقاً لنص الفقرة الأولى من المادة 20 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدلة بالقانون رقم 4 لسنة 2005 ، فهل إذا بلغ الأولاد هذه السن يحق لأبيهم أن يطالب بضمهم رغم أنهم من زواج عرفي أم يخضع للقيد ؟ الرأي عندى أنه في هذه الحالة يملك الأب أن يرفع مثل هذه الدعوى ، باعتبار أن هذه الدعوى سببها البنوة و ليس الزوجية ، فكونهم أبناءه أي فرع له يعد السبب لهذه الدعوى ، و قد أكد هذا الرأي المتسشارأشرف مصطفى كمال معللاً ذلك بغلبة حق الصغير فيها و اتصالها بالنسب ( المرجع السابق ص 209 ).

بذا يكون الجزء الثالث من بحث الزواج العرفي قد انتهى ، و موعدنا بمشيئة الله تعالى قريباً مع الجزء الرابع و أوله " الدعاوى التي لا يسري عليها قيد عدم القبول بنص القانون " ، و لله الحمد من قبل و من بعد .

النصاب القيمي للامساك بالدفاتر التجارية

نصت المادة 21 من قانون التجارة الجديد رقم 17 لسنة 1999 على أنه :
( على كل تاجر يجاوز رأس ماله المستثمرفي التجارة عشرين ألف جنيه أن يمسك الدفاتر التي تستلزمها طبيعة تجارته و أهميتها و على وجه الخصوص دفتري اليومية و الجرد بطريقة تكفل بيان مركزه المالي و ماله من حقوق و ما عليه من ديون متعلقة بالتجارة ).

و مفاد ذلك النص أن المشرع ناط الالتزام بالإمساك بالدفاتر التجارية من جانب التاجر بنصاب مالي معين ، بحيث إذا لم يتوافر ذلك النصاب المالي انتفى التزام التاجربإمساك تلك الدفاتر، و هذا النصاب قدره المشرع بمبلغ عشرين ألف جنيه ، و بمعنى أدق يلتزم التاجر بذلك إذا جاوز رأس ماله المستثمر في التجارة عشرين ألف جنيه ، و قد كان مشروع القانون الجديد يقترح رفع النصاب إلى عشرة آلاف جنيه ، بعدما كان الملزم بإمساك الدفاتر التجارية – في القانون القديم – هو التاجر الذي يزيد رأس ماله عن ثلاثمائة جنيه ثم عدل إلى ألف جنيه .

و رفع قيمة النصا ب المالي المذكور في القانون الجديد مرجعه ما طرأ على قيمة العملة من تغيير في السنوات الأخيرة أدى إلى انخفاض قوتها الشرائية ، و تمشياً مع التطور الإقتصادي ، و هذا النصاب لا صلة له بتعريف التاجر أو الأعما ل التجارية ، فلا يتوقف عليه ثبوت أو انتفاء صفة التاجر أو التجارة ، و إنما هو مجرد شرط لقبول دعوى إشهار الإفلاس ، بحيث لا يشهر إفلاس إلا التاجر الملزم بإمساك الدفاتر التجارية ، فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 550 من قانون التجارة الجديد على أنه : ( يعد في حالة الإفلاس كل تاجر ملزم بموجب أحكام هذا القانون بإمساك دفاتر تجارية إذا توقف عن دفع ديونه التجارية إثر اضطراب أعماله المالية ) ، و يراعي أن النصاب المذكور يسري بأثر مباشر على الحالات اللاحقة على العمل بقانون التجارة الجديد ، و بالتالي ليس له أثر رجعي ، فالدعاوى السابقة على العمل بالقانون الجديد تبقى خاضعة للنصاب القانوني المعمول به وقت رفعها .

و في ذلك قضت محكمة النقض بأن :

" بعد أن توجه القضاء – في ظل القانون القديم – إلى إعفاء صغار التجارمن إمساك الدفاتر تخفيفاً عليهم من أعبائها المالية و ماتفرضه من نظام ، صدر القانون رقم 388 لسنة 1953 بأن الملزم بإمساك الدفاتر التجارية هو التاجر الذي يزيد رأس ماله عن ثلاثمائة جنيه ثم رفع هذا النصاب بالقانون رقم 58 لسنة 1954 إلى ألف جنيه ثم اقترح مشروع القانون الجديد رفع النصاب إلى عشرة آلاف جنيه ، بيد أن القانون صدر برفع النصاب إلى عشرين ألف جنيه أخذاً في الاعتبار سعر العملة ، و مفاد ذلك أن نصاب الإمساك بالدفاتر التجارية لا صلة له بذاتية القواعد الموضوعية التي يقوم عليها نظام شهر الإفلاس و المتصلة بتعريف التاجر و توقفه عن الدفع ، كما لا تتصل بالحماية التي يستهدفها نظام شهر الإفلاس ، و إنما جاء الامساك بالدفاتر التجارية و نصابها شرطاً لقبول دعوى شهر الإفلاس و لا تمس قواعد النظام العام التي يحمي به القانون مصلحة عامة، و لو أراد المشرع الإعتداد بألا يشهر الإفلاس حتى عن الحالات السابقة على صدور القانون الجديد إلا إذا كان رأس مال التاجريزيد عن عشرين ألف جنيه و يمسك الدفاتر التجارية لما أعوزه النص على ذلك صراحة ". الطعن رقم 55 لسنة 70 ق – جلسة 15/1/2003 .


" لما كانت الفقرة الأولى من المادة 550 من قانون التجارة رقم 17 لسنة 1999 اشترطت لشهر إفلاس التاجر أن يكون ممن يلزمه هذا القانون بإمساك دفاتر تجارية ، و تطلبت المادة 21 منه من كل تاجر يجاوز رأس ماله المستثمر في التجارة عشرين ألف جنيه أن يمسكها ، إلا أن القانون ترك أمر استخلاص حقيقة مقدار رأس المال المستثمر في التجارة لقاضي الموضوع دون أن يقيده فيما قد ينتهي إليه في ذلك إلا أن يكون سائغاً يرتد إلى أصل ثابت في الأوراق و كاف لحمل قضائه في هذا الخصوص " . الطعون أرقام : 969 لسنة71ق ، 60 لسنة 72 ق ، 66 لسنة 72 ق - جلسة 1/7/2003 .


و الجدي بالذكر نه يلزم - من وجهة نظري - قيام المشرع بمراجعة دورية لقيمة النصاب المالي سالف الذكر و تعديله بما يواكب ما يطرأ على قيمة العملة و قوتها الشرائية .

محاسبة شركة المياه لسارق استهلاك المياه

يحدث في الواقع كثيراً قيام البعض أثناء عمليات البناء و إعداد الأماكن السكنية وغير السكنية ، باستهلاك المياه العمومية عن طريق غير مشروع و بدون التعاقد مع الجهة القائمة على ذلك ، إلى أن يقوم بتركيب عداد المياه وفقاً للأجراءات المقررة في هذا الشأن ، وهذا المسلك يتم تكييفه على أنه يشكل جريمة سرقة استهلاك مياه ، و قد يتم اكتشاف الأمر، و الأصل حينئذ أن تتخذ الأجراءات الجنائية ضد الفاعل ، إلا أن الواقع العملي لا ينحو هذا المنحى ، حيث تكتفي الجهة الإدارية المسئولة بحساب الشخص المسئول عن هذا الاستهلاك بقيمة ثابتة ، و عن فترة سابقة مدتها خمس سنوات ، إلى حين تركيب عداد المياه الخاص به ، و قد ثار النزاع حول مدى قانونية هذا الحساب الثابت ذي الأثر الرجعي ، و وصل الأمر إلى التقاضي بشأنه ، ليحسم القضاء الإداري و على رأسه المحكمة الإدارية العليا هذا التنازع لصالح الجهة الإدارية ، و هاكم تفصيلات هذا الحكم و أسبابه :

قضت المحكمة الإدارية العليا في ذلك بأن :
" ... و بعد أن استوفت الدعوى إجراءاتها أصدرت المحكمة حكمها المطعون فيه تأسيساً على أنه " ثبت للحكم من أوراق الدعوى أن الهيئة المدعى عليها تيقنت من قيام المدعية بسرقة استهلاك المياه و تزويد العقار – موضوع التداعي – بذلك ، و استعاضت عن تحريك الدعوى الجنائية ضدها إزاء هذه الجريمة ، على ما جرى يه العمل بالهيئة تيسيراً على المواطنين ، و قبلت التعاقد معها مع محاسبتها عن هذا الاستهلاك لمدة خمس سنوات سابقة بأثر رجعي بربط ثابت عن الوحدات الكائنة بهذا العقار ، و قد وافقت المدعية و أضحى الاستهلاك للمياه بصفة علنية ، و زال الاستهلاك خلسة بطريق السرقة ، و أبرم في هذا الشأن عقد بين المدعية و الهيئة المدعى عليها ، كما تعهدت على قبول التعامل بالربط الثابت لحين تركيب عداد مبيناً للاستهلاك الفعلي والحقيقي ، و إلى هذا الحين تبقى المدعية ملتزمة بما تعهدت به دون إكراه أو إذعان و دون أحقيتها في استعجال مرفق المياه لتركيب عداد لحساب الاستهلاك الفعلي ، و إنما يبقى الأمر خاضعاً للوقت الذي يراه المرفق ملائماً وفقاً لاعتبارات حسن سيره بانتظام و اطراد ، لاسيما كفايته المالية في طرح مناقصة لتوريد عدادات حساب الاستهلاك الفعلي ، و من ثم إذا كان الثابت من أوراق الدعوى إخلال المدعية بالالتزام بأداء قيمة الاستهلاك وفقاً للربط التقديري الثابت بحسب المتفق عليه و كان العقد شريعة المتعاقدين .. فإنه و الحال كذلك تكون الدعوى المطروحة خلواً من السند المبرر لها قانوناً ، على نحو لا ينال من ذلك ما انتهى إليه تقرير الخبير المودع بحساب قيمة استهلاك المدعية بمبلغ 510 جنيهاً تأسيساً على أنه و قد تم حساب قيمة الاستهلاك بمبلغ معين مقطوع فلا يجوز المجادلة في حسابها بحسب الاستهلاك الفعلي ....

و من حيث إنه عن موضوع الطعن فإنه من الأصول المسلمة في المادة 147 من القانون المدني أن العقد شريعة المتعاقدين ، و يتعين تنفيذ العقد في جميع ما اشتمل عليه و بحيث لا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين أو الأسباب التي يقررها القانون .

و لما كان الثابت من الأوراق أن الطاعنة سبق أن قامت بسرقة استهلاك المياه لعقارها موضوع التداعي ، و لما تم اكتشاف أمرها قبلت التعاقد مع الشركة المطعون ضدها شريطة محاسبتها عن الاستهلاك لمدة خمس سنوات سابقة بأثر رجعي و بربط ثابت لحين تركيب عداد يبين الاستهلاك الفعلي و الحقيقي و ذلك بدلاً من اتخاذ الإجراءات الجنائية ضدها ، و من ثم فإن إخلال الطاعنة بأداء قيمة الاستهلاك وفقاً للربط الثابت طبقاً للعقد و منازعتها للشركة المطعون ضدها يغدو مفتقداً السند المبرر له قانوناً على نحو ما ذهب إليه و بحق الحكم المطعون فيه ، و دون أن ينتقص من ذلك ما ذهب إليه الخبير من محاسبة الطاعنة على أساس الاستهلاك القعلي بواقع عشرة جنيهات شهرياً ، و ذلك لمخالفته ما التزمت به الطاعنة بموجب العقد المبرم مع الهيئة من ناحية و لعدم معقولية تقدير الخبير بالنسبة للعقار و ما يضمه من شقق سكنية تابعة له و ورشة بلاط تعتمد في نشاطها بالكامل على المياه.
و من حيث إن الحكم المطعون فيه إذ خلص إلى هذه النتيجة فإنه يكون قد صدر وفق صحيح حكم القانون ، و يكون الطعن عليه مفتقداً صحيح سنده من الواقع أو القانون خليقاً بالرفض . " الطعن رقم 4068 لسنة 48 ق – جلسة 9/5/2009 .

مواعيد الطعن على القرار المستند لنص قضي بعدم دستوريته

أكدت المحكمة الإدارية العليا أن القرار الإداري إذا صدر استناداً إلى نص قانوني ، ثم قضي بعدم دستورية هذا النص فيما بعد ، فإنه يعتبر قراراً منعدماً ، و يترتب على ذلك أن المواعيد المقررة قانوناً للطعن على القرار الإداري لا تسري على مثل ذلك القرار، و يكون بالتالي باب الطعن مفتوحاً .

فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :

" و حيث إنه و عما دفع به الطاعنين من عدم قبول الدعوى شكلاً لرفعها بعد الميعاد ، فإن القرار المطعون عليه صدر استناداً لنصوص تشريعية قضي بعدم دستوريتها على النحو الذي سوف يفصل بيانه لاحقاً ، الأمر الذي يضحى معه هذا القرار منعدماً مما يجوز معه الطعن عليه دون التقيد بالمواعيد المقررة لرفع دعوى الإلغاء ، و من ثم فإن المحكمة تلتفت عن هذا الدفع " . الطعن رقم 11725 لسنة 47 ق – جلسة 11/4/2009 .