بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

21 يونيو 2010

مكتب محمد جابر عيسى المحامى
ركن المحل في الاتجار بالمواد المخدرة








والمخدرات ترتبط ارتباطا وثيقًا بالجرائم فكلما زادت المخدرات انتشارًا كلما شهد المجتمع زيادة فى الجرائم سواء ما يقع على النفس أو على المال أو على العرض والشرف والاعتبار وشهدت مصر في السنوات الأخيرة انتشار تعاطى المخدرات والإدمان والإتجار وأصبحت هذه الظاهرة حديث الرأى العام فى المجتمع المصرى مما دعا ذلك إلى تضافر جهود الأجهزة السياسية والتنفيذية والتشريعية والمؤسسات الإجتماعية ووسائل الإعلام بلوغا إلى الهدف المنشود فى القضاء على هذه الظاهرة .



ركن المحل :- ( المواد المخدرة )



لا يتصور أن يتدخل الشارع بتجريم فعل والعقاب عليه بوصفه من جرائم المخدرات ما لم يتخذ هذا الفعل من المادة المخدرة محلا وموضوعًا له أو أن يكون على الأقل ذى صلة وثيقة بها على أى نحو غير مشروع وقد تدخل المشرع وحدد المقصود بالمواد المخدرة ونستخلص من بعض المواد القانونيه ما يأتى : -



- أن الشارع قد وضع مادتى الكوكايين والهيرويين على قمة المواد المخدرة ولذلك شدد العقاب على جرائم المخدرات التى تتخذ من هاتين النادتين المخدرتين محلا وموضوعا لها .



- أن الشارع قد أضاف بعد التعديل إلى جدول المواد المعتبرة مخدرة أنواعًا جديدة وذلك مسايرة منه للمستحدث فى عالم المخدرات



وتقديرًا من الشارع لطول الفترة الزمنية والبطء الذى تتطلبه عملية التعديل التشريعى للقوانين فقد أناط القانون عملية التعديل سواء بالحذف أو بالإضافة أو بتغيير النسب الواردة فيها للوزير المختص ( وزير الصحة .



بيان نوع المخدر فى حكم الإدانة :



مما سبق يتضح أن المادة لا تعتبر مخدرا ما لم يكن منصوصا عليها ضمن قائمة المواد المخدرة فى الجدول الخاص بذلك والملحق بقانون مكافحة المخدرات ( الكوكايين - الهيرويين - المورفين - الحشيش – - البانجو - الماراجونا الأفيون ) ومؤدى ذلك أنه يكون لزامًا على القاضى عند الحكم بالإدانة فى جرائم المخدرات أن يبين فى حكمه نوع المادة المخدرة على وجه التحديد وبأنها تندرج ضمن قائمة العقاقير المعتبرة من المخدرات قانونًا وإلا كان حكمه قاصرا ، وفى سبيل ذلك لزاما أن يستعين القاضى بخبير مختص ، ولا يسهم بعد ذلك أن تبين المحكمة مدى مفعول المادة المخدرة من حيث كفايتها للتخدير من عدمه .



ولا عبرة بكمية المادة المخدرة :



لم يعين الشارع حدا أدنى لكمية المادة المخدرة التى تصلح محلا لجرائم المخدرات ، فيتوافر ركن المحل متى كانت المادة المخدرة المضبوطة لها كيان مادى ملموس يسمح بتحليلها بصرف النظر عن مقدارها بل ولو كانت ضئيلة الوزن . وإذا كان لا عبرة بكمية المادة المخدرة فى توافر ركن المحل ، فإن كبر كمية الجوهر المخدر المضبوطة يكون ذى قيمة واعتبار فى وصف الجريمة وبيان نوعها والقصد المتطلب فيها



هل يلزم ضبط المادة المخدرة :



ضبط المادة المخدرة ليس شرط لصحة الحكم بالإدانة فيكفى أن تتثبت محكمة الموضوع من صدور الفعل المكون لجريمة من المتهم وأن المادة التى اتصل بها تعد مخدرًا من المخدرات وهذا ما جرى عليه قضاء المحكمة العليا ، وانتقد جانب من الفقه هذا الإتجاه القضائى على أساس أن حكم الإدانة لا يكون صحيحا ما لم يشتمل على بيان نوع المحدر مستعينًا بأهل الخبرة ولا يستقيم هذا إلا عند ضرورة ضبط المادة المخدرة بالفعل - وذلك ما جرت عليه المحكمة العليا .

وأيًا من الرأيين ليس صحيحا على الإطلاق ، فقضاء النقض يكون مقبولا فى أنواع معينة من جرائم الإحراز والحيازة بقصد التعاطى أو تسهيله ، وفيما عدا ذلك فلا يكون مقبولا فى العقل والمنطق إدانة متهم بجلب مخدر أو تصديره أو الإتجار فيه أو تقديمه للغير للتعاطى أو زراعته بغير ضبط المادة المخدرة التى يلزم وجودها لإكتمال النموذج القانونى فى جرائم المخدرات









مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



البصمة الوراثية وإثبات النسب








البصمة الوراثية






أهمية البصمة الوراثية :



تعتبر مسألة البصمة الوراثية ومدى الاحتجاج بها من القضايا المستجدة التي اختلف فيها فقهاء العصر, وتنازعوا في المجالات التي يستفاد منها وتعتبر فيها حجة يعتمد عليها كليا أو جزئيا، وقد شاع استعمال البصمة الوراثية في الدول الغربية وقبلت بها عدد من المحاكم الأوربية وبدأ الاعتماد عليها مؤخرا في البلدان الإسلامية ونسبة أعمال الإجرام لأصحابها من خلالها، لذا كان من الأمور المهمة للقضاة معرفة حقيقة البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات الأنساب وتمييز المجرمين وإقامة الحدود .



فالبصمة مشتقة من البُصم وهو فوت ما بين طرف الخنصر إلى طرف البنصر وبَصَمَ بصماً إذا ختم بطرف إصبعه ، والبصمة أثر الختم بالإصبع (1).



والبصمة عند الإطلاق ينصرف إلى بصمات الأصابع وهي الأثر التي تتركها الأصابع عند ملامستها الأشياء وتكون أكثر وضوحاً في الأسطح الناعمة وهي اليوم تفيد كثيرا في معرفة الجناة عند أخذ البصمات من مسرح الحادث حيث لا يكاد يوجد بصمة تشبه الأخرى .



وقد تطورت الأبحاث في مجال الطب وتم اكتشاف محتويات النواة والصفات الوراثية التي تحملها الكروموسومات والتي يتعذر تشابه شخصين في الصفات الوراثية – عدا التوائم المتشابهة – وهي أكثر دقة وأكثر توفراً من بصمات الأصابع حيث يمكن أخذ المادة الحيوية الأساسية لنستخرج منها البصمة الوراثية من الأجزاء التالية :



1 – الدم 2 – المني 3 – جذر الشعر 4 – العظم



5 – اللعاب 6 – البول 7 – السائل الأمينوسي (للجنين)



8 – خلية البيضة المخصبة (بعد انقسامها 4 – 8) 9 – خلية من الجسم .



والكمية المطلوبة بقدر حجم الدبوس تكفي لمعرفة البصمة الوراثية (2).



وقد ارتضى المجمع الفقهي بمكة التعريف التالي للبصمة الوراثية:"البصمة الوراثية هي البنية الجينية نسبة إلى الجنيات أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه"(3).



إن مصادر البصمة الوراثية موجودة في النواة من كل خلية في جسم الإنسان والجسم يحتوي على ترليونات من الخلايا ، وكل خلية تحتضن نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها وكل نواة تحتضن المادة الوراثية بداية من الخواص المشتركة بين البشر جميعهم أو بين سلالات متقاربة وانتهاء بالتفصيلات التي تختص بالفرد وتميزه بذاته بحيث لا يطابق فرداً آخر من الناس ومصدر البصمة موجود على شكل أحماض أمينية (DNA) وتسمى الصبغيات لأن من خواصها أنها تلون عند الصبغ ويطلق عليها أيضاً " الحمض النووي " لأنها تسكن في نواة الخلية وهي موجودة في الكروموسومات، وهذه الكروموسومات منها ما هو مورث من الأب والأم ومنها ما هو مستجد بسبب الطفرة الجديدة NEO MUTATION



والصفات الوراثية تنتقل من الجينات وهذه الجينات تتواجد في الكروموسومات وهناك حوالي مئة ألف جين مورث في كل كروموسوم واحد ، لذلك لو تم دراسة كروموسومين فقط بطريقة عشوائية لأمكن متابعة عدد كبير من هذه الصفات الوراثية في هذين الكرموسومين ولأصبح الجواب الصحيح في معرفة البصمة الوراثية للأبوة والبنوة بنسبة نجاح تصل لـ 99.9% نظراً لعدم تطابق اثنين من البشر في جميع هذه الصفات الوراثية (4).



مجالات الاستفادة من البصمة الوراثية :



إن اكتشاف القوانين المتعلقة بالوراثة ومعرفة ترتيب عناصرها المشتركة والخاصة ومعرفة كيفية الاستفادة منها مما هيأه الله للبشر من العلم في هذا الزمان كما قـال تعالى:"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"(5).



ويمكن تطبيق هذه التقنية والاستفادة منها في المجالات التالية :



1- إثبات النسب أو نفيه وما يتعلق بذلك مثل تمييز المواليد المختلطين في المستشفيات أو في حال الاشتباه في أطفال الأنابيب أو عند الاختلاف أو التنازع في طفل مفقود بسبب الكوارث والحوادث أو طفل لقيط أو حال الاشتراك في وطء شبهة وحصول الحمل أو عند وجود احتمال حمل المرأة من رجلين من خلال بييضتين مختلفتين في وقت متقارب كما لو تم اغتصاب المرأة بأكثر من رجل في وقت واحد ، أو عند ادعاء شخص عنده بينة ( شهود ) بنسب طفل عند آخر قد نسب إليه من قبل بلا بينة .



2- تحديد الشخصية أو نفيها مثل عودة الأسرى والمفقودين بعد غيبة طويلة والتحقق من شخصيات المتهربين من عقوبات الجرائم وتحديد شخصية الأفراد في حالة الجثث المشوهة من الحروب والحوادث والتحقق من دعوى الانتساب بقبيلة معينة بسبب الهجرة وطلب الكلأ أو تحديد القرابة للعائلة .



3- إثبات أو نفي الجرائم وذلك بالاستدلال بما خلفه الجاني في مسرح الجريمة من أي خلية تدل على هويته كما هو الحال في دعاوى الاغتصاب والزنى والقتل والسرقة وخطف الأولاد وغير ذلك(6).



ويكفي أخذ عينة من المني أو العثور على شعرة أو وجود أثر اللعاب عقب شرب السيجارة أو







أثر الدم أو بقايا من بشرة الجاني أو أي خلية تدل على هويته :



ونسبة النجاح في الوصول إلى القرار الصحيح مطمئنة لأنه في حال الشك يتم زيادة عدد الأحماض الأمينية ومن ثم زيادة عدد الصفات الوراثية .







ومن أشهر القضايا التي استعملت فيها هذه التقنية فضيحة بيل كلنتون الرئيس الأمريكي في قضيته المشهورة مع ليونيسكي ، حيث لم يعترف ويعتذر للجمهور الأمريكي إلا بعد أن أظهرت الأدلة الجنائية وجود بصمته الوراثية المأخوذة من المني الموجود على فستان ليونيسكي .



وحادثة أخرى وقعت بالسعودية ذكرها ممثل معمل الأدلة الجنائية للعلماء في مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة أثناء مناقشة موضوع البصمة الوراثية وحاصل القضية أن امرأة ادعت أن أباها وقع عليها ونتج عن ذلك حصول حمل ، وكان احتمال تصديقها ضعيف لأن الأب في الستينات من العمر ولقوة العلاقة التي تجمعه بالمتهمة فأجلوا موضوع التحليل حتى وضع الحمل لئلا يتضرر الجنين وعندما تم الوضع ومن خلال التحاليل وجد أن الطفل لا علاقة له بالمتهم ( الأب ) ، والأغرب وجد أنه لا علاقة له بالمرأة المدعية ، فاتضح أن القضية فيها تلاعب وأن أيدي خفية وراءها ، فالنفي عن المتهم لا إشكال فيه أما النفي عن المرأة الحامل فيه تصادم مع الواقع ، وبالرجوع لأسماء المواليد الذين ولدوا في نفس اليوم بالمستشفى اتضح أنهم بلغوا (30) طفلاً وعند حصر الصفات المطلوبة انحصرت في (12) طفلاً تم الاتصال بذويهم واحداً واحداً حتى تم الوصول للطفل المطلوب واتضح أن بصمته الوراثية دلت على ارتباطه بالمتهم ( الأب ) وأن هناك طفلاً لقيطاً أدخل المستشفى في نفس اليوم وعند التسليم تم التبديل لإخفاء الحقيقة والله المستعان .



طرق إثبات النسب في الشريعة الإسلامية :



لا خلاف بين الفقهاء أن النسب الشرعي لا يثبت في حال تصادم النسب مع الواقع الحسي كما لو ادعت المرأة نسب طفل لزوجها الصغير الذي لا يولد لمثله وكذا لو أتت به قبل مضي ستة أ شهر من الزواج .



ويثبت النسب في الشريعة الإسلامية بالطرق التالية :



1- الفراش :



وهو تعبير مهذب عن حالة اجتماع الرجل بالمرأة حيث تكون المرأة كالفراش لزوجها ، ولما كان التحقق من حالة ( الجماع ) بين الزوجين شبه متعذر لكونها مبنية على الستر اكتفى الجمهور بمظنة الدخول خلافاً للحنفية الذين اكتفوا بعقد النكاح واعتبروا المرأة فراشاً لزوجها يثبت به النسب وذهب بعض المتأخرين كابن تيمية وابن القيم إلى اشتراط الدخول المحقق وعدم الاكتفاء بمظنة الدخول .



ولا شك أن الأول أولى فعامة أحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن وإثبات الدخول المحقق في كل حالة متعذر .



وإثبات النسب عن طريق الفراش مجمع عليه بين الفقهاء لقوله – صلى الله عليه وسلم-: "الولد للفراش" (7).



2- الاستلحاق :



وذلك بأن يقر المسـتلحق بأن هذا الولد ولده أو أن هذا أخوه أو أبوه وغير ذلك ، وقد اشترط العلماء للاستلحاق شروطاً أبرزها أن المُقر له بالنسـب ممن يمكن ثبوت نسبه من المقِرِّ ، فلو أقر من عمره عشرون ببنوة من عمره خمسة عشر لم يقبل إقراره لاستحالة ذلك عادة وعقلاً (8).



فهل هذا الشرط يمكن تنزيله على البصمة الوراثية ؟ هذا ما سيأتي الإجابة عليه في الصفحات التالية .



3 – البينة :



وقد أجمع الفقهاء على أن النسب يثبت لمدعيه بناء على شهادة العدول بصحة ما ادعاه ويكفي في ذلك الاستفاضة بمعنى الشهادة بالسماع بأن يشتهر الأمر بين الناس حتى يصير معروفاً بينهم ويقول جمع كبير من الناس سمعنا أن فلانا ابن فلان … (9) .



4 – القيافة :



وهي مصدر قاف بمعنى تتبع أثره ليعرفه ، يقال : فلان يقوف الأثر ويقتافه والقائف هو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه (10) ، والمراد بها هنا / الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود(11).



وقد ذهب الحنفية إلى أن القيافة لا يلحق بها النسب لأنها ضرب من الظن والتخمين بينما ذهب جمهور العلماء بالأخذ بها لدلالة السنة والآثار عليها، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مسروراً تَبْرُقُ أسارير وجهه ، فقال : "ألم تريْ أن مجزَّزاً المُدْلِجي نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامها فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض "(12).



وجه الدلالة :



أن سرور النبي – صلى الله عليه وسلم - دال على إقراره بالقيافة وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يسمع باطلاً فيقره أو يسكت عنه(13).



5 – القرعة :



وذلك عند التنازع على طفل ولا بينة لأحدهم فيجرى القرعة وهذه أضعف الطرق ولم يأخذ بها جمهور العلماء وهو مذهب الظاهرية وإسحاق ورواية عند الحنابلة وكذا المالكية في أولاد الإماء (14).



وهذه الطريقة غير معمول بها في هذا الزمان بفضل الله ثم التقدم العلمي في مجال تحليل الدم والبصمة الوراثية إذ شاعت واستقر العمل بها في محل التنازع في النسب , ولا ريب أن القرعة لا يصار إليها لوجود الدليل المرجح .



هل البصمة يثبت بها النسب ؟

ذهب العلماء المعاصرون إلى اعتبار " البصمة الوراثية " طريقاً من طرق إثبات النسب من حيث الجملة واختلفوا في بعض القضايا الفرعية وقد جاء في قرار المجمع الفقهي بالرابطة " خامساً : يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية :



أ – حالات التنازع على مجهول النسـب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .



ب – حالات الاشتباه في المواليد في المسـتشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .



ج – حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب وتعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحرب والمفقودين "(15).



وقد رأى عدد كبير من الباحثين قياس البصمة الوراثية على القيافة من باب أولى أو اعتبارها قرينة قوية والتي يأخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود وقد جاء في توصية ندوة الوراثة والهندسـة الوراثية المنـبثقة عن المنظمة الإسـلامية للعلوم الطبية : " البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية ، ولا سيما في مجال الطب الشرعي ،وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية ، وتمثل تطوراً عصرياً عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه ، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى "(16).



ومن خلال التوصية السابقة والبحوث المقدمة في هذا المجال نجد أن فريقاً من الفقهاء يرى قياس البصمة الوراثية على القيافة وأن الأحكام التي تثبت بالقيافة تثبت في البصمة الوراثية ، ويظهر لي أن هذا القياس بعيد للأمور التالي :



1 – أن البصمة الوراثية قائمة على أساس علمي محسوس فيه دقة متناهية والخطأ فيه مستبعد جداً ، بخلاف القيافة والتي تقوم على الاجتهاد والفراسة وهي مبنية على غلبة الظن والخطأ فيها وارد ففرق بين ما هو قطعي محسوس وبين ما بني على الظن والاجتهاد .



2 – أن القيافة يعمل بها في مجال الأنساب فقط بخلاف البصمة الوراثية فهي تتعداها لمجالات أخرى كتحديد الجاني وتحديد شخصية المفقود .



3 – أن القيافة تعتمد على الشبه الظاهر في الأعضاء كالأرجل وفيها قدر من الظن الغالب ، أما البصمة الوراثية فهي تعتمد اعتماداً كلياً على بنية الخلية الجسمية الخفية وهي تكون من أي خلية في الجسم ونتائجها تكون قطعية لكونها مبنية على الحس والواقع .



4 – أن القافة يمكن أن يختلفوا، بل العجيب أنهم يمكن أن يلحقوا الطفل بأبوين لوجود الشبه فيهما(17)، أما البصمة فلا يمكن أن تلحق الطفل بأبوين بتاتاً ويستبعد تماماً اختلاف نتائج البصمة الوراثية ولو قام بها أكثر من خبير فالقياس بعيد فهذا باب وهذا باب .



وبناء على ما تقدم فالقيافة باب والبصمة الوراثية باب آخر وهو يعتبر بينة مستقلة أو قرينة قوية يؤخذ بها في الحكم الشرعي إثباتاً ونفياً وذلك للأمور التالية :



1 – أن البينة لم تأت في الكتاب والسنة محصورة في الشهادة والإقرار فقط بل كل ما أظهر الحق وكشفه فهو بينة قال تعالى في قصة موسى مع فرعون : " قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل * قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"(17).



وجه الدلالة :



قال ابن القيم : " فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد والمرأتين لم يوف مسماها حقه ، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان ، وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة ، وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي" المراد به : أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له ،والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد ، والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى … فالشرع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال ، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهداً لها بالاعتبار ، مرتباً عليها الأحكام "(18).



2 – قوله تعالى : "وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين* فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم" (19).



وجه الدلالة :



أن موضع قد القميص اعتبر دليلاً على صدق أحدهما وتبرئة الآخر وسمى الله ذلك شهادة(20).



3 – في قصة فتح خيبر قال النبي – صلى الله عليه وسلم - لعم حيي بن أخطب: " ما فعل مسك بن حيي الذي جاء به من النضير ؟ قال أذهبته النفقات والحروب ، قال : العهد قريب والمال أكثر من ذلك ، فدفعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلى الزبير فمسه بعذاب فقال : قد رأيت حيياً يطوف في خربة هاهنا ، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة "(21).



وجه الدلالة :



أن النبي – صلى الله عليه وسلم - عمل بالقرينة العقلية واعتد بها فكثرة المال وقصر المدة فيه دلالة على الكذب ، وقد اعتد بهذا الدليل وأمر بضربه وحاشاه أن يأمر بضربه بلا حجة لأنه نوع من الظلم وهذا مستبعد في حقه – صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على اعتبار القرينة والعمل بموجبها .



فهذه الأدلة وغيرها دالة على أن الحق إذا تبين بأي وجه كان الأخذ به هو المتعين ، ولا شك أن بعض القرائن أقوى بكثير من الشهادة ، فالشهادة يمكن أن يتطرق إليها الوهم والكذب وكذا الإقرار يمكن أن يكون باطلاً ويقع لغرض من الأغراض ومع هذا تعتبر الشهادة والإقرار بينة شرعية يؤخذ بهما لكونهما مبنيتان على غلبة الظن .



وإذا علمنا أن نتائج البصمة الوراثية قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهم(22)، وفي إسناد العينة (من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها بشهادة مختصين تعين الأخذ بها واعتبارها بينة مستقلة يثبت بها الحكم نفياً أو إثباتاً ولو نظرنا إلى واقع ثبوت النسب بالشهادة وكونها تبنى على غلبة الظن ويكفي فيها الاستفاضة والشهرة مع وجود الاحتمال بالخطأ مع واقع البصمة التي لا تكاد نتائجها تخطئ في ذاتها ، والخطأ الوارد فيها يرجع إلى الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك نستطيع أن نجزم بأن البصمة الوراثية حجة شرعية يوجب العمل بمضمونها إذا توفرت شروطها ومن تأمل مقاصد الشريعة والعدل والحكمة التي قامت عليها الأحكام ظهر جلياً رجحان هذا الأمر قال ابن القيم : " فإذا ظهرت أمارات العدل ، وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه ، والله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له "(23).



ضوابط إجراء تحليل البصمة الوراثية :



اشترط الفقهاء الباحثين والأطباء المختصين في البصمة الوراثية شروطاً عديدة حتى تقبل ، والذين رأوا أنها تقاس على القيافة اشترطوا شروط القيافة مع بعض الزيادات (24).



والشروط الواجب توفرها ما يلي :



1 – أن لا يتم التحليل إلا بإذن من الجهة المختصة .



2 – يفضل أن تكون هذه المختبرات تابعة للدولة وإذا لم يتوفر ذلك يمكن الاستعانة بالمختبرات الخاصة الخاضعة لإشراف الدولة ، ويشترط على كل حال أن تتوافر فيها الشروط والضوابط العلمية المعتبرة محلياً وعالمياً في هذا المجال .



3 – يشترط أن يكون القائمون على العمل في المختبرات المنوطة بإجراء تحاليل البصمة الوراثية ممن يوثق بهم علماً وخلقاً وألا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد المتداعيين أو حكم عليه بحكم مخل بالشرف أو الأمانة (25).



4 – أن يجري التحليل في مختبرين على الأقل معترف بهما ، على أن تؤخذ الاحتياطات اللازمة لضمان عدم معرفة أحد المختبرات التي تقوم بإجراء الاختبار بنتيجة المختبر الآخر(26).



5 – توثيق كل خطوة من خطوات تحليل البصمة الوراثية بدءاً من نقل العينات إلى ظهور النتائج النهائية حرصاً على سلامة تلك العينات ، وضماناً لصحة نتائجها ، مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند الحاجة.



6 – عمل البصمة الوراثية بعدد أكبر من الطرق وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية لضمان صحة النتائج (27).



7 – أن يجري اختبار البصمة الوراثية مسلم عدل ، لأن قوله شهادة ، وشهادة غير المسلم لا تقبل على المسلم إلا الوصية في السفر ونحوه(28).



والخلاصة :



أن البصمة الوراثية تكون بينة مستقلة يجب العمل بمقتضاها إذا توفرت الشروط اللازمة ، وأنها لا تقاس على القيافة فهي باب آخر ، وأن عامة المعاصرين يرون صحة الاعتماد عليها في حالات التنازع وحالات الاشتباه وحالات الاختلاط سواء في الأطفال أو الجثث أو الحروب والكوارث .



هل ينتفي النسب بالبصمة الوراثية دون اللعان؟



اللعان : شهادات تجري بين الزوجين مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن من جانب الزوج وبالغضب من جانب الزوجة .



وقد شرع اللعان لدرء الحد عن الزوج إذا قذف زوجته بلا شهود أو أراد قطع نسب الحمل أو الطفل المولود عنه ، وهي أيضا حماية وصيانة لعرض الزوجة ودفعاً للحد عنها .



والطريقة التي جاءت به النصوص الشرعية لنفي النسب هو اللعان .



فهل يصح نفي النسب بالبصمة الوراثية إذا جاءت النتائج تؤكد ذلك ويكتفي بها أم لابد من اللعان أيضاً ؟



اختلف الفقهاء المعاصرون في صحة نفي النسب بالبصمة الوراثية فقط دون اللعان ويمكن تلخيص آرائهم على النحو التالي :



1 – لا ينتفي النسب الشرعي الثابت بالفراش (الزوجية) إلا باللعان فقط ، ولا يجوز تقديم البصمة الوراثية على اللعان .



وهذا القول عليه عامة الفقهاء المعاصرين ومنهم علي محي الدين القرة داغي وعبد الستار فتح الله سعيد (29)، ومحمد الأشقر (30).



وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي بالرابطة وجاء فيه " لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ، ولا يجوز تقديمها على اللعان "(31).



القول الثاني : يمكن الاستغناء عن اللعان والاكتفاء بنتيجة البصمة الوراثية إذا تيقن الزوج أن الحمل ليس منه



وهذا الرأي ذهب إليه محمد المختار السلامي(32)، ويوسف القرضاوي (33)، وعبد الله محمد عبد الله(34).



القول الثالث : إن الطفل لا ينفى نسبه باللعان إذا جاءت البصمة الوراثية تؤكد صحة نسبة للزوج ولو لاعن ،وينفى النسب باللعان فقط إذا جاءت البصمة تؤكد قوله وتعتبر دليلاً تكميلاً .



وهذا الرأي ذهب إليه نصر فريد واصل ،وعليه الفتوى بدور الإفتاء المصرية (35).



القول الرابع : إذا ثبت يقيناً بالبصمة الوراثية أن الحمل أو الولد ليس من الزوج فلا وجه لإجراء اللعان وينفى النسب بذلك .



إلا أنه يكون للزوجة الحق في طلب اللعان لنفي الحد عنها لاحتمال أن يكون حملها بسبب وطء شبهة ، وإذا ثبت عن طريق البصمة الوراثية أن الولد من الزوج وجب عليه حد القذف .



وهذا الرأي ذهب إليه سعد الدين هلالي (36).



الأدلة :



أولاً : استدل القائلون بأن النسب لا ينفى إلا باللعان فقط بما يلي :



1 – قوله تعالى : "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين *"(37).



وجه الدلالة :



أن الآية ذكرت أن الزوج إذا لم يملك الشـهادة إلا نفسه فيلجأ للعان ، وإحداث البصمة بعد الآية تزّيد على كتاب الله " ومن أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد "(38) .



2 – عن عائشة رضي الله عنها قالت كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني فأقبضه إليك ، فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي عهد إلى فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا (تدافعا) إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال سعد : يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه ، فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله(39) .



وجه الدلالة :



أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أهدر الشبه البين وهو الذي يعتمد على الصفات الوراثية وأبقى الحكم ا لأصلي وهو " الولد للفراش " فلا ينفى النسب إلا باللعان فحسب(40) .



3 – حديث ابن عباس في قصة الملاعنة وفيه : " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين ، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء … فجاءت به كذلك فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : لولا ما قضي من كتاب الله لكان لي ولها شأن "(41).



وجه الدلالة :



قال عبد الستار فتح الله : " إذا نفى الزوج ولداً من زوجته ولد على فراشه فلا يلتفت إلى قول القافة ولا تحليل البصمة الوراثية لأن ذلك يعارض حكماً شرعياً مقرراً وهو إجراء اللعان بين الزوجين ،ولذلك ألغى رسول الله – صلى الله عليه وسلم (دليل الشبه) بين الزاني والولد الملاعن عليه … ودليل (الشبه) الذي أهدره رسول الله – صلى الله عليه وسلم - هنا يعتمد على الصفات الوراثية فهو أشبه بالبصمة الوراثية ومع ذلك لم يقو على معارضة الأصل الذي نزل به القرآن في إجراء اللعان"(42).



وقال ابن القيم تعليقاً على الحديث السابق أن فيه " إرشاد منه – صلى الله عليه وسلم - إلى اعتبار الحكم بالقافة ، وأن للشبه مدخلاً في معرفة النسب ،وإلحاق الولد بمنزلة الشبه ،وإنما لم يُلحق بالملاعن لو قدر أن الشبه له ، لمعارضة اللعان الذي هو أقوى منه الشبه له "(43).



4 – إن الطريق الشرعي الوحيد لنفي النسب هو اللعان ولو أن الزوجة أقرت بصدق زوجها فيما رماها به من الفاحشة فإن النسب يلحق الزوج لقوله – صلى الله عليه وسلم- الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولا ينتفي عنه إلا باللعان ، ثم كيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء على نظريات طبية مظنونة(44) .



5 – إننا لا نستطيع أن نعتمد على البصمة فحسب ونقيم حد الزنا على الزوجة، بل لابد من البينة ، فكيف تقدم البصمة على اللعان ولا نقدمها على الحد .



ثانياً : أدلة القائلين باعتبار البصمة الوراثية :



1 – قوله تعالى : "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم.. "(45).



وجه الدلالة :



أن اللعان يكون عندما ينعدم الشهود وليس ثمة شاهد إلا الزوج فقط حينئذ يكون اللعان .



أما إذا كان مع الزوج بينة كالبصمة الوراثية تشهد لقوله أو تنفيه فليس هناك موجب للعان أصلا لاختلال الشرط في الآية .



2 – أن الآية ذكرت درء العذاب ، ولم تذكر نفي النسب ولا تلازم بين اللعان ونفي النسب ، فيمكن أن يلاعن الرجل ويدرأ عن نفسه العذاب ولا يمنع أن ينسب الطفل إليه إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية (46).



3 – قوله تعالى : "وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم" (47).



وجه الدلالة :



أن شق القميص من جهة معينة اعتبرت نوعاً من الشهادة والبصمة الوراثية تقوم مقام الشهادة (48).



4 – إن نتائج البصمة يقينية قطعية لكونها مبنية على الحس ، وإذا أجرينا تحليل البصمة الوراثية وثبت أن الطفل من الزوج وأراد أن ينفيه ، فكيف نقطع النسب ونكذب الحس والواقع ونخالف العقل ، ولا يمكن البتة أن يتعارض الشرع الحكيم مع العقل السليم في مثل هذه المسائل المعقولة المعنى وهي ليست تعبدية . فإنكار الزوج وطلب اللعان بعد ظهور النتيجة نوع من المكابرة والشرع يتنزه أن يثبت حكماً بني على المكابرة .



5 – أن الشارع يتشوف إلى إثبات النسب رعاية لحق الصغير ومخالفة البصمة لقول الزوج في النفي يتنافى مع أصل من أصول الشريعة في حفظ الأنساب ، وإنفاذ اللعان مع مخالفة البصمة لقول الزوج مع خراب الذمم عند بعض الناس في هذا الزمان وتعدد حالات باعث الكيد للزوجة يوجب عدم نفي نسب الطفل إحقاقاً للحق وباعثاً لاستقرار الأوضاع الصحيحة في المجتمع (49).



الترجيح :



قبل ذكر القول الراجح يجدر بي أن أشير إلى النقاط التالية :



1 – لا خلاف بين الفقهاء في أن الزوج إذا لاعن ونفى نسب الطفل وجاءت النتيجة تؤكد قوله . فإن النسب ينتفي ويفرق بينهما لكن الزوجة لا تحد لوجود شبهة اللعان و" الحدود تدرأ بالشبهات "(50).



2 – لا خلاف بين الباحثين في المسألة لو أن الزوجين رضيا بإجراء البصمة قبل اللعان للتأكد وإزالة الشبهة فإن ذلك يجوز في حقهما ، بل استحسن بعض الفقهاء عرض ذلك على الزوجين قبل اللعان(51).



ويظهر لي أن البصمة الوراثية إذا جاءت مخالفة لقول الزوج فلا يلتفت لدعواه بنفي النسب وإن لاعن أو طلب اللعان ، وأن نسب الطفل يثبت للزوج ويجري عليه أحكام الولد وإن جاءت موافقة لقول الزوج فله أن يلاعن وذلك للأمور التالية :



1 – أن الشريعة أعظم من أن تبني أحكامها على مخالفة الحس والواقع ، فإن الشرع أرفع قدراً من ذلك والميزان الذي أنزله الله للحكم بين الناس بالحق يأبى كل الإباء ذلك .



فلو استلحق رجلاً من يساويه في السن وادعى أنه أبوه فإننا نرفض ذلك لمخالفته للعقل والحس فلا يمكن أن يتساوى أب وابن في السن مع أن الاستلحاق في الأصل مشروع .



وقد رد جماهير العلماء دعوى امرأة مشـرقية تزوجت بمغربي ولم يلتقيا وأتت بولد ، فإن الولد لا يكون لزوجها المغربي البتة لمخالفة ذلك للحس والعقل وهذا النفي



ليس تقديماً لقوله – صلى الله عليه وسلم -: " الولد للفراش " إنما لمخالفة ذلك لصريح العقل والحس .



قال ابن تيمية : " فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة ، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة فإن القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل والرسول لا يأمر بخلاف العدل " (52) .



2 – أن آية اللعان قيدت إجراءه بما إذا لم يكن ثمة شاهد إلا الزوج ، ومفهومه أنه لو كان هناك بينة من شـهود فإنه لا يجرى اللعان بل يثبت ما رمى به الزوج زوجته .



ومن البدهي لو كانت هناك بينة أخرى غير الشهادة فلا وجه لإجراء اللعان كما لو أقرت الزوجة زوجها فيما رماها به من الزنا . فإذا منعنا وقوع اللعان لوجود سبب مانع له ، فما وجه إجرائه مع وجود بينة قطعية ( البصمة الوراثية ) تخالف دعوى الزوج . فإننا إذا قمنا بذلك كان ضرباً من المكابرة ومخالفة للحس والعقل ، واللعان معقول المعنى معروف السبب وليس تعبدياً محضاً .



قال ابن القيم:"والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد…"(53) .



فإذا علمنا أن الشهادة أقوى من قول الزوج في اللعان لأن الشهادة مبنية على غلبة الظن أما قول الزوج في اللعان فهو متساوي الطرفين في الصدق أو الكذب أي بنسبة (50 %) لأنه إما أن يكون صادقاً أو تكون الزوجة صادقة ، فهل من الفقه أن ندع بينة قطعية تصل لـ 99.9 % تؤكد كـذب الزوج ونأخذ ما هو محتمل للصدق بنسبة 50% وننسب ذلك للشريعة ؟؟!!



قال ابن القيم : " والله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له " (54).



3 – قوله تعالى : "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله" (55)



فإلحاق نسب الطفل بأبيه مقصد عظيم من مقاصد الشريعة ، فإذا أثبتت البصمة الوراثية نسب طفل وأراد الأب لأوهام وشكوك أو للتهرب من النفقة أو لأي غرض آخر – مع ضعف الذمم في هذا الزمان – فإن العدل يقتضي أن نلحق الطفل بأبيه ولا نمكن الأب من اللعان لئلا يكون سبباً في ضياع الطفل . (56).



4 - إن الاحتجاج بقصة اختصام عبد بن زمعة مع سعد بن أبي وقاص وإلحاق الرسول – صلى الله عليه وسلم - الولد بالفراش وأمره لسودة بالاحتجاب منه مع أنه أخوها ،فقد قال ابن القيم : " وأما أمره سودة بالاحتجاب منه ، فإما أنه يكون على طريق الاحتياط والورع لمكان الشبهة التي أورثها الشَّبَهُ البيِّن بعُتبة ، وأما أن يكون مراعاة للشبهين وإعمالاً للدليلين فإن الفراش دليل لحوق النسب ، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدّعي لقوته ، وأعمل الشَّبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة ، وهذا من أحسن الأحكام وأبينها ، وأوضحها ، ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه …وقال : وقد يتخلف بعض أحكام النسب مع ثبوته لمانع ، وهذا كثير في الشريعة ، فلا ينكر مِن تخلُّف المحرمية بين سودة وبين هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة ، وهل هذا إلا محض الفقه "(57).



فدعوى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - لم يلتفت لأمر الشبه (البصمة الوراثية) واستدلالهم بالحديث هذا هو استدلال بعيد ، بل الحديث حجة عليهم حيث اعتبر الرسول – صلى الله عليه وسلم- أمر الشبه لذا أمر بالاحتجاب .



ففي حال التنازع على طفل ولد على فراش صحيح ، ما المانع أن نعمل دليل الشبه ونثبت مقتضاه نفياً وإثباتاً ويكون درء الحد عن الزوج لوجود شبهة اللعان وبهذا نعمل بالأدلة كلها لا سيما وأن الطفل ولد على الفراش فيتقوى إثبات النسب للطفل من جهة " الولد للفراش " ، ومن جهة البصمة الوراثية ، هذا في حال نفي النسب وثبوت خلاف ذلك من جهة البصمة ، أما إذا جاءت البصمة تؤكد قول الزوج فيجتمع دليل اللعان مع البصمة فينتفي النسب وندرأ الحد عن الزوجة لوجود شبهة اللعان .



أما في حال الملاعنة فالأصل أن الطفل منسوب للزوج لأن الزوجة فراش له وجاء أمر الشبه ( البصمة الوراثية ) تؤكد ذلك الأصل فإننا نعمل بالأصل ونلحق الطفل بأبيه لدلالة الفراش والشبه ونكون أعملنا الشطر الأول من الحديث " الولد للفراش " وندرأ الحد عن الزوج إذا لاعن لوجود شبهة الملاعنة والحدود تدرأ بالشبهات ونكون أعملنا الشطر الثاني من الحديث " واحتجبي عنه يا سودة " .



ويجاب عن حديث الملاعنة بنحو ما تقدم فقد جاء في الحديث " إن جاءت به أصيهب أريضخ أثيبج حمش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو الذي رميت به – وهو شريك بن سمحاء كما في رواية البخاري – فجاءت به أورق جعداً خدلج الساقين سابغ الإليتين ، أي شبيهاً لشريك بن سمحاء الذي رميت به – فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " فقد أفاد الحديث أنه حتى لو تمت الملاعنة بين الزوجين وولد الطفل شبيهاً بالزوج صاحب الفراش فإنه ينسب له ولا ينفى عنه – ؛ لأن النص جاء بنسبته إليه لأنه أقوى بكثير من مجرد التشابه الظاهري الذي أخذ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في إثبات النسب ويدرأ الحد عن الزوج لوقوع الأيمان وبهذا عملنا بالأدلة كلها وهذا من دقائق المسائل التي يحظى بها من رزقه الله حظاً وافراً من الفقه (58).



4 – أن اعتراضهم على عدم إقامة الحد على الزوجة اعتماداً على البصمة الوراثية واكتفاءً بها دليل على أنها ليست حجة بذاتها يجاب عنها من وجهين :



1 – أن هناك فرقاً بين إثبات النسب أو نفيه وبين إقامة الحد القائم على المبالغة في الاحتياط فالحدود تدرأ بالشبهات بخلاف النسب فهو يثبت مع وجود الشبهة كما في قصة عبد بن زمعة ، فلو ادعت المرأة أنها كانت مكرهة أو أنها سقيت شراباً به مادة منومة وزنا بها آخر فحملت منه كان ذلك كافياً في إسقاط الحد عنها ، وكذا الرجل لو ادعى أنه أودع منية في ( بنك المني ) وأن امرأة أخذت منيه بطريقة أو بأخرى واستدخلته وحملت بطفل وجاءت البصمة الوراثية تؤكد لحقوق الطفل وراثياً بذلك الرجل لم يحد لوجود شبهة ، لا لأن البصمة ليست حجة .



2 – إن من العلماء المعاصرين من يقول بإقامة الحد إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية ولم يدع المتهم شبهة اعتماداً على هذه البينة وأخذاً بما أخذ به بعض الفقهاء المتقدمين كما قال ابن القيم : " والرجوع إلى القرائن في الأحكام متفق عليه بين الفقهاء ، بل بين المسلمين كلهم ، وقد اعتمد الصحابة على القرائن فرجموا بالحبل وجلدوا في الخمر بالقيء والرائحة وأمر النبي r باستنكاه المقر بالسكر وهو اعتماد على الرائحة … فالعمل بالقرائن ضروري في الشرع والعقل والعرف " (59).



3 – إن الفقهاء نصوا على أن الملاعن لو بدا له أن يعود في قوله ويلحق ابنه الذي نفاه باللعان جاز له ذلك لزوال الشبهة التي لاعن من أجلها ، فهل من الحكمة ومن العدل أن يتجاسر الناس للتعرض للعنة الله أو غضبه وندع البينة (البصمة الوراثية) ولا نحكمها بينهم ، ثم بعد اللعان يعود ويلحق ما نفاه !! فإن هذا من الفقه البارد .



الخلاصة :



أن البصمة الوراثية يجوز الاعتماد عليها في نفي النسب ما دامت نتيجتها قطعية كما يرد دعوى الزوج في نفي النسب إذا أثبتت نتائج البصمة الوراثية القطعية لحوق الطفل به ، لأن قول الزوج حينئذ مخالف للحس والعقل وليس ذلك تقديماً للعان ، وينبغي للقضاة أن يحيلوا الزوجين قبل إجراء اللعان لفحوص البصمة الوراثية لأن إيقاع اللعان مشروط بعدم وجود الشهود ، فإذا كان لأحد الزوجين بينة تشهد له فلا وجه لإجراء اللعان .



والأخذ بهذه التقنية يحقق مقصود الشرع في حفظ الأنساب من الضياع ويصد ضعفاء الضمائر من التجاسر على الحلف بالله كاذبين ، والله اعلم .



(1) انظر : مادة ( بصم ) لسان العرب لابن منظور 12 / 50 ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 974 ، المعجم الوسيط ص 60 .



(2) انظر : البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم عبد الله عبد الواحد ص 5 .



(3) انظر : قرارات مجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة .



(4) انظر : البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم عبد الله ص 5 ، البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية لسعد الدين هلالي ص 27 .



(5) سورة البقرة : 254 .



(6)انظر : ثبت علمياً حقائق طبية جديدة لموسى المعطي ص 105 ، مذكرة البصمة الوراثية في ضوء الإسلام لعبد الستار فتح الله سعيد ص 9 ، البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم الدين عبد الله عبد الواحد ص 1 8 .



(7) انظر : بدائع الصنائع للكاساني 4 / 125 ، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 87 ، مغني المحتاج 2 / 261 ، كشاف القناع للبهوتي 4 / 235 ، زاد المعاد لابن القيم 5 / 410 ، فتح الباري لابن حجر 12 / 38 والحديث رواه الشيخان .



(8) انظر : المبسوط للسرخسي 17 / 102 ، حاشية الدسوقي 3 / 412 ، إعانة الطالبين للبكري 3 / 283 ، المغني لابن قدامة 8 / 61 .



(9) انظر : سبل السلام للصنعاني 4 / 137 ، زاد المعاد لابن القيم 5 / 417 ، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 348 ، المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 12 / 123 .



(10) انظر مادة ( قوف ) لسان العرب لابن منظور 9 / 293 ، زاد المسير لابن الجوزي 5 / 34 ، تفسير الطبري 15 / 87 .



(11) انظر : التعريفات للجرجاني ص 171 .



(12) رواه البخاري .



(13) انظر : مواهب الجليل للخطاب 5 / 247 ، الشرح الكبير للدردير 3 / 416 ، حاشية البيجيرمي 4 / 411، روضة الطالبين للنووي 12 / 107 ، الفروع لابن مفلح 5 / 27 ، منار السبيل لابن ضويان 1 / 434 ، المحلى لابن حزم 10 / 149 .



(14) انظر : التاج والإكليل للعبدري 6 / 340 ، شرح الزرقاني 5 / 109 ، المحلى 10 / 150 ، المبدع لابن مفلح 5 / 307 ، الفروع لابن مفلح 5 / 409 ، إعلام الموقعين لابن القيم 2 / 63 ، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 78 .



(15) انظر : قرارات مجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة .



(16) انظر : ملخص أعمال الحلقة النقاشية حول حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب ص 46 ، موقع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية islamset.com والقرينة : كل إمارة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه .



(17) انظر : كشاف القناع للبهوتي 5 / 426 / المبدع لابن مفلح 5 / 309 . سورة الأعراف : 105- 108 .



(18) انظر : الطرق الحكمية ص 16 ، أيضاً : إعلام الموقعين 10 / 34 .



(19) سورة يوسف : 26 – 28 .



(20) انظر : تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 95 ، معين الحكام للطرابلسي ص 166 .



(21) أخرجه أبو داود ( 14 ) كتاب الخراج والإمارة والفيء ( 24 ) باب ما جاء في حكم أرض خيبر برقم 3006 وإسناده صحيح كما قاله بشير محمد عيون في تحقيقه للسياسة الشرعية ص 51 .



(22) انظر : البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لوهبة الزحيلي ص 6 .



(23) انظر : الطرق الحكمية لابن القيم ص 19 وقد ذكر ابن القيم صوراً كثيرة دلت القرينة على الحكم الشرعي ، بل كانت أقوى من الشهادة والإقرار .



(24) انظر : بحث البصمة الوراثية وأثرها في إثبات النسب لحسن الشاذلي ص 478 ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – الوراثة والهندسة الوراثية - .



(25) انظر : توصيات الحلقة النقاشية بموقع المنظمة islamset.com ، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 27 / 10 / 1422هـ الموافق 11 يناير 2002م توصية مجمع الفقه الإسلامي السادس عشر .



(26) قياس البصمة الوراثية على الشهادة قياس مع الفارق لأن درجة صدق المخبر به مختلفة ، والشهادة تجرى بموجبها الحدود بخلاف البصمة، والأولى أن يرجع فيه لأهل الاختصاص فهم أعرف بالمفارقات والاختلافات وربما قرروا تكرار البصمة مرات ولو كان إجراؤها في مختبرين احتياطاً لا على سبيل الإلزام فهو حسن .



(27) انظر : البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم عبد الواحد ص 22 ويظهر لي أن هذا الشرط غير لازم بل يرجع فيه إلى أهل الاختصاص فمتى احتاج الأمر للتكرار وجب ذلك وإلا فلا .



(28) انظر : إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد الأشقر ص 441 – 460 ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – الوراثة والهندسة الوراثية - ويرى الشافعية والحنابلة والظاهرية أن القائف مخبر وليس شاهد = وبناء على ذلك لا يشترط العدد بل يكفي قول خبير واحد وهذا ما اختاره وهبة الزحيلي في بحثه البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ص 10 وهو الظاهر .



(29) انظر : البصمة الوراثية من منظور الفقه الإسلامي ص 25 ، البصمة الوراثية في ضوء الإسلام ص 18 – بحث مصور مقدم للمجمع الفقهي بالرابطة 1422هـ .



(30) انظر : إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد الأشقر ص 441 – 460 ، ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – الوراثة والهندسة الوراثية -



(31) انظر : ملاحق البحث ، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 27 / 10 / 1422هـ الموافق 11 يناير 2002م . وجاء هذا القرار بالأغلبية .



(32) انظر : إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد المختار السلامي ص 405 – ضمن البحوث المقدمة للندوة الفقهية الحادية عشرة من أعمال المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية 1413هـ .



(33) من خلال سماعي لرأيه ضمن مناقشات موضوع البصمة الوراثية بالمجمع الفقهي السادس عشر بمكة في 25 / شوال / 1422هـ الموافق 9 / يناير 2002م .



(34) انظر : الوراثة والهندسة الوراثية والجينيوم البشري 1 / 506 ، 510 ضمن المناقشات الفقهية للبصمة الوراثية في الندوة الحادية عشرة من أعمال المنظمة الطبية الإسلامية للعلوم الطبية .



(35) انظر : بحثه البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ص 30 – بحث مقدم للمجمع الفقهي الحادي عشر بالرابطة 1422هـ - .



(36) انظر : البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لسعد الدين مسعد الهلالي ص 21 – بحث مقدم للمجمع الفقهي الحادي عشر بالرابطة 1422هـ -.



(37) سورة النور : 6 – 9 .



(38) انظر : مناقشات البصمة الوراثية بالمجمع الفقهي بالرابطة في الدورة السادسة عشرة 1422هـ – 2001م والاستدلال لصالح الفوزان .



(39) أخرجه البخاري (85 ) كتاب الفرائض (18 ) باب الولد للفراش برقم 6749 ، ومسلم (17 ) كتاب الرضاع ( 10) باب الولد للفراش وتوقي الشبهات برقم 1457وفيه لفظ " فرأى شبهاً بيناً بعتبة " .



(40) انظر : البصمة الوراثية في ضوء الإسلام لعبد الستار فتح الله ص 19 ، البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها لعمر السبيل ص 43 – 44 .



(41) رواه البخاري ومسلم .



(42) انظر : بحثه البصمة الوراثية في ضوء الإسلام ص 18 .



(43) انظر : زاد المعاد لابن القيم 5 / 362 .



(44) انظر : البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها لعمر السبيل ص 29 – 30 وقوله إنها مظنونة فيها نظر فالذي عليه قول أهل الاختصاص أنها قطعية والمتعين الرجوع إلى أقوالهم في المسائل التي تخصهم . انظر بحث دور البصمة الوراثية في اختبارات الأبوة للطبيبة صديقة العوضي ص 350 ، بحث البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات البنوة للطبيب سفيان العسولي ص 387 ، البصمة الوراثية ومدى حجيتها لسعد العنزي ص 432 ، إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد الأشقر ص 455 ضمن البحوث المقدمة للندوة الفقهية الحادية عشرة من أعمال المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية 1419هـ .



(45) سورة النور : 4 .



(46) من خلال سماعي لمناقشات البصمة الوراثية بالمجمع الفقهي بالرابطة في الدورة السادسة عشرة بمكة شوال 1422هـ ، وهذا التوجيه للصديق الضرير .



(47) سورة يوسف 26 – 28 .



(48) اختلف المفسرون في معنى ) وشهد شاهد من أهلها ( فقال مجاهد :" قميص مشقوق من دبر فتلك الشهادة، وقال سعيد بن جبير : كان صبياً في مهده ، وقال عكرمة : رجل حكيم ، ورجح ابن جرير أنه صبي في المهد لورود الخبر عن رسول الله e في ذلك انظر تفسير الطبري 7 / 194 ، تفسير القرطبي 9 / 172 ، تفسير ابن كثير 2 / 476 .



(49) انظر : البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لنصر فريد ص 30 .



(50) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 15 / 351 ، القواعد والضوابط الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الجنايات والعقوبات لعبد الرشيد قاسم – رسالة ماجستير – ص 212 ، 218 .



(51) وقد حكى عمر السبيل – رحمه الله - عن عبد العزيز القاسم القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض أنه تقدم إليه شخص بطلب اللعان من زوجته للانتفاء من بنت ولدت على فراشه ، فأحال القاضي الزوجين مع البنت إلى الجهة المختصة بإجراء اختبارات الفحص الوراثي ، فجاءت نتائج الفحص بإثبات أبوة الرجل للبنت إثباتاً قطعياً ، فكان ذلك مدعاة لعدول الزوج عن اللعان وزال ما كان في نفسه من شكوك في زوجته ، كما زال أيضاً بهذا الفحص الحرج الذي أصاب الزوجة وأهلها جراء سوء ظن الزوج ، فتحقق بهذا الفحص مصلحة عظمى يتشوف إليها الشرع ويدعو إليها ، انظر بحثه : البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها ص31 .



(52) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 22 / 332 ، جامع المسائل لابن تيمية المجموعة الثانية ص 239



(53) انظر : الطرق الحكمية لابن القيم ص 19 .



(54) انظر : الطرق الحكمية لابن القيم ص 19 وقد ذكر ابن القيم صوراً كثيرة دلت القرينة على الحكم الشرعي ، بل كانت أقوى من الشهادة والإقرار .



(55) سورة الأحزاب : 5 .



(56) انظر : زاد المعاد لابن القيم 5 / 371 أيضاً حاشية ابن القيم 6 / 262 ، مجموع الفتاوى لابن تيميـة 7 / 420 .



(57) انظر : مذكرة البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لنصر فريد ص 40 .








مكتب / محمد جابر عيسى المحامى


التكييف الشرعي للأسم التجاري








التكييف الشرعي للاسم التجاري







إن معرفة طبيعة الاسم التجاري هي أساس الحكم الشرعي و مبناه ومبرره و كلما تحددت صفة و طبيعة الموضوع أمكن إلحاق الحكم الشرعي المناسب .



و لقد عرفت مفاصل الاسم التجاري و ما في حكمه على وجه التفصيل و جرى بحث الموضوع في الأطر التي تحكمه ا, التي يدخل هو مفرد في موضوعها سواء في ذلك الجانب القانون باعتباره المنظم للواقعة أو الفقه الإسلامي باعتباره الجهة المطلوب منها الحكم الشرعي ليكون البديل المشروع في الواقعة محل البحث.



و سوف نوضح طبيعة الاسم التجاري في أمرين يؤول إليهما غيرهما و ينبني الحكم الشرعي على و فقهما :-



الأول : هو إثبات أن الاسم التجاري في مفهوم الفقه الإسلامي يعتبر حقاً.



ثانياً : أنه يعتبر منفعة.



الأول / الاسم التجاري حق :



يفهم من تعريف الاسم التجاري – السابق – من أنه ( الاسم الذي ارتضى التاجر التعامل بوساطته ليميز منشأته عن نظائرها ) أنه في حقيقته عبارة عن علاقة تنشأ بين هذا الاسم التجاري المتضمن لسلع معينة و بين الجمهور ، جسد هذه العلاقة جهد التاجر و اجتهاده في تمييز سلعته و تجويدها بحيث اكتسب الاسم التجاري سمعة وشهرة جعل الإقبال عليه كبيراً و تعارف جمهور الناس أو جمهور منه على صلاحيته و جودة ما يشير إليه هذا الاسم دون غيره.



و لا ريب أن صاحب الاسم التجاري لم يكتف بإطلاق اسم مجرد لسلعته أو بضائعه و إنما ضمن هذا الاسم صفات ميزته عن غيره من الأسماء و السلع و لايتحقق ذلك غلا بنوع إتقان يعرف به و يتفرد عما سواه أو ينافس به غيره من الأسماء الجيدة السمعة و لولا ذلك الاتقان ما كان لهذا الاسم ميزة على غيره و لكان اسماً مجرّداً لا قيمة له فلا سمعة وشهرة حقيقية يخشى عليها حتى تطلب حمايتها بل إن الاسم التجاري رديء السمعة يهبط بسعر السلعة عند إرادة بيعه و قد يكون ذلك سبباً في خسارة كبيرة و لذلك يعمد راغب الشراء غلى اتخاذ اسم تجاري جديد و في هذا إشارة إلى أن الاسم التجاري طيب السمعة له قيمة ذاتية .



ومن جانب آخر فإن التاجر الذي نجح في إيجاد اسم تجاري له سمعة و شهرة قد بذل جهداً ذهنياً و أموالاً و وقتاً و ليس بالقليل حتى بنى هذا الاسم و أزله منزلة مقبولة لدى الكافة أو جمهور الناس.



و لا شك أن جهده هذا قد ساعده فيه استشاريون و مختصون ليضمن أحسن المواصفات لسلعته ، و أفضل طرق ترويج هذه السلعة وتسويقها و هذا لا ريب كلفه أموالاً طائلة أخصها و أهمها ما بذله من دعاية لازمة لترويج الاسم التجاري.



و قد أصبحت الدعاية اليوم من مستلزمات العمل الناجح لتزاحم الأصناف المتماثلة و المتشابهة إلى حد كبير يكاد حد التطابق في المواصفات .



فما لم يصاحب الاسم التجاري بيان و ترغيب بأساليب متعددة فغن السلع الجيدة تبور و تضيع قيمتها في غمرة الدعايات المؤازرة لأسماء تجارية أخرى مشابهة أو قد تقل عنها جودة.



فالدعاية للاسم التجاري لإيجاد السمعة والشهرة و لحماية هذه السمعة بعد تحققها و لذا فإن التاجر محتاج إلى الاستمرار في الدعاية و الإعلان بين الفينة والأخرى كي يأمن استمرار اسمه التجاري في الأذهان حياً و مرغوبا بعيدا عن المنافسة التي قد تستبدل به غيره.



و لا ريب أن هذا بذل مادي ضخم موضوعه وسببه الاسم التجاري أو بمعنى اصح موضوعه السمعة و الشهرة التي يمثل الاسم التجاري وعاءها و عنوانها.



و لا يخفى أن الدعاية و الإعلان لا تعني بالضرورة واقعاً حقيقياً يمثل الاسم التجاري بالمواصفات التي تحملها عنه هذه الدعاية فقد تكون دعاوي ليس لها في الواقع وجود و هذا غش و تدليس لا ينفي المصلحة ويرفعها و لكنه يشوب هذه المصلحة بنوع غش و خداع ينبغي كشفه و حماية أصحاب المصالح المشروعة الجادين في أسمائهم التجارية منه و حماية جمهور الناس من مثل هذه الدعايات الموهمة غير الواقع .



و على كل الأحوال فإن العرف الجاري و التجربة المتكررة بين الناس تجعل للاسم التجاري الذي يعبر عن واقع حقيقة إذا صحبته دعاية كافية رجحنا على الاسم التجاري الذي يعبر عن زيف و خداع و إن ضخمت دعايته فالبقاء للأصلح في أسواق الناس.



فالاسم التجاري – و الحال هذه – له واقع ملموس، كما أن له قيمة ذاتية مستقلة عن السلع التي يمثلها و يحتويها.



و إلى جانب ذلك فإن للاسم التجاري هدفاً و أغراضاً يحققها أخضها ة و أهمها أنه يحفظ السلع من التقليد والتزييف



و يوجد ارتباطاً و صلة و انطباعاً معيناً بينه و بين الجمهور هذا الارتباط الذي ينتج ما نسميه السمعة و الشهرة التجارية و لا شك البتة أن هذه السمعة في حقيقتها و واقعها مصلحة فعلية بالنسبة للتاجر من جانب و لعامة الناس المتعاملين من جانب آخر .



فأما مصلحة التاجر : فإنه قد بذل من جهده وفكره و أمواله الشيء الكثير في سبيل هذا الاسم ليضمن لبضائعه رواجاً وسمعة ونجاحاً فمن مصلحته الخاصة أن يتحقق له ذلك و بالتالي فمن مصلحته أو من حقه أن يحمي جهده و أفكاره و أمواله أو بمعنى آخر أن تحفظ قيمة اسمه التجاري فلا يتعرض للتقليد أو التزييف كما تحفظ سمعته من التشويه.



و المصلحة ها هنا هي عنوان الحق و الدالة عليه أو هي في الحقيقة الحق ذاته .



و أما المصلحة العامة : فغن من مصلحة أفراد المجتمع عامة و من حقهم أن يحصلوا على البضائع التي تحمل الموصفات الجيدة التي يحتاجونها و يرغبون فيها. فمن حقهم – و الحال هذه – أن يُحمى هذا الاسم التجاري المرغوب دفعاً للغش و التزييف و هذا كله مرجعه عند التحقيق إلى مصلحة المجتمع ذاته ، إذ من المصلحة الاجتماعية أن تخلو أسواق الناس من السلع الرديئة و المغشوشة و تسوده السلع الجيدة و يمكّن أفراده من الحصول على البضائع ذات السمعة والشهرة التي تعبر عن حقيقة الجودة والصلاحية.



و من هذه الناحية يجب على الدولة أن تقر هذا الواقع وتحميه فهو يمثل مصلحة اجتماعية عامة و لا يكون لها ذلك إلا مصلحة التاجر صاحب الاسم التجاري المقبول ، فهو السبب الفعلي في وجود هذه المصلحة و هو بالتالي المكّن شرعاً من التصرف فهو في كل ذلك صاحب حق و لا شك .فإذا كان هذا كلّه من شأن الاسم التجاري . فغنه لا ريب يعتبر في قواعد الشرع و مقاصده حقاً شرعياً تجب حمايته، ومنع الاعتداء عليه و ترتيب الآثار الشرعية لصاحبه كاملة شانه شان الأعيان المملوكة.



و قد أثبتنا سابقا أن الحقوق أموال و هي من هذا الجانب يجري فيها الملك و الاختصاص مادام محلها مالاً أو له تعلق بالمال وكان قابلاً للتجزيء .



فالاسم التجاري من هذا الوجه مال يجري فيه الاختصاص و الملك .



الثاني / الاسم التجاري منفعة :



تبين من تفصيل الموضوع سابقا بما لا مجال لتردد فيه أن للاسم التجاري منفعة يشكل الاسم التجاري عنوانها و وعاءها و تنسب المنافع حينئذ للاسم التجاري و هذه المنافع أشبه بمنافع العيان و لكنها منافع ايجابية نامية و قد تستمر في نموها و توسيع رصيد عملائها و قد يضمر ذلك تبعاً لعوامل خارجية و ذاتية : من قوة الدعاية لها و تطوير سلعها و إجادة تصنيعها و إتقانها و تحسين الخدمات المقدمة و ما إلى ذلك.



فنمو منافع الاسم التجاري يعتمد على مدى الجهد الذهني المبتكر و الجهد المالي و النشاط العملي المبذول و كلما كانت الجهود المبذولة مركزة و فعالة كلما كان ثبات الاسم التجاري ورسوخه و نماؤه و انتشاره كبيراً. ولذا فإن مجال التنافس فيه كبير في سبيل تقديم الأفضل في جانبي الإبداع الفكري و الحضاري. و هذا يشير إلى أن حقيقة الاسم التجاري إنما هو منفعة في مفهوم الفقه الإسلامي فيسري عليه ما يسري على منافع الأعيان سواء بسواء .



لكن مع ملاحظة أن منافع الأعيان محدودة ثابتة مرتبطة بأعيانها لا تستوفي دونها. في أن منافع الاسم التجاري منفصلة عن مصدرها و هو صاحب إنتاجها و إبداعها بدلالة تصور إمكان بيع الاسم التجاري منفرداً عما يمثله من بضائع ، وقد يستخدم لترويج نوع آخر من السلع و ينفصل عن صاحبه و مبدعه لينتقل إلى آخر و يرتبط به.



و من جانب آخر : فإن الاسم التجاري بما له من شهرة وسمعة لا يمثل في حقيقته المادة المصنعة أي لا يمثل محل الاتجار و عينه فهي المادة المصنعة هي بمثابة مصدر هذه الشهرة و منبعها و لا يبعد القول بان الشهرة والسمعة ثمرة هذه العين و هي ثمرة غير محسوسة أو بمعنى اصح منفعة غير محسوسة و تأخذ هذه الثمرة قيمتها باعتبار مواصفات متميزة و مميزة لهذه العين عن غيرها .و على هذا فإن الاسم التجاري صفة معنوية مستقلة نتجت عن عين هي مادة تجارية بذل التاجر في سبيل إتقانها وتسويقها جهده فكرياً و ماديا ، فهي و الحال هذه ثمرة منفصلة و مستقلة عن مصدرها استقلالا مادياً و هي إن كانت ثمرة ومنفعة إلا أنها تختلف عن منافع الأعيان التابعة والمرتبطة بمثل العقارات و المنقولات من حيث إن مصدر منافع الأعيان هي ذات الأعيان فحسب في حين أن مصدر منافع الاسم التجاري الجهد الذهني و المادي المبذول في هذه الأعيان.



و لما كان الاسم التجاري مصدره الجهد الذهني و المادي المنسوب لصاحبه كان وجوده نسبياً في السلع من النوع الواحد و كان ذلك أدعى للتنافس و الإبداع مما يكسب الاسم التجاري المتميز شهرة وسمعة حقيقية .و هذا مما يحقق مقاصد الشارع في توفير الأصلح لمعايش الناس و هذه مصلحة معتبرة شرعاً فإذا تعرف الناس و توافقوا على تفضيل اسم تجاري على آخر كان هذا بمثابة مصلحة مستندها العرف.



و لما كانت المصلحة منفعة – كما قررنا سابقاً – و المنفعة مال متقوم على رأي جمهور الفقهاء من المالكية و الشافعية والحنابلة و متأخري الحنفية ، و هي كذلك أموال متقومة على رأي متقدمي الحنفية إذا ورد العقد عليها تحقيقاً لمصلحة الناس فإذا كان ذلك كذلك فيمكن القول أن الاسم الجاري يعتبر مالا في الفقه الإسلامي لا ريب .



و إذا كان الاسم التجاري منفعة و مالاً متقوماً صلح أن يكون محلاً للملك لأن الناس تعارفوا على تموله و تقويمه و اعتباره حتى جرى العرف بالاعتياض عنه بمقياس مدى ما فيه من منفعة متحصلة من استخدام مصدره.



فعين الاسم التجاري ليس مقصودا لذاته بقدر ما هو مقصود من تحصيل منافعه كما قال العز بن عبد السلام : ( إن المنافع هي المقصود الأظهر من جميع الأموال) إذ لا يمكن أن تحاز المنافع إلا بطريق حيازة أعيانها و مادام العرف قد جرى بين الناس بالاعتياض عن الاسم التجاري فهو – والحال هذه – يمثل قيمة مادية لأن الناس لا يعتاضون مالا قيمة له و ما له قيمة فهو مال لأنه كما قال الشافعي : ( لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها و تلزم متلفه و إن قلت لا يطرحه الناس ) فما يتموله الناس و لا يطرحونه فهذا منهم دليل على ماليته و منعته ولذا رأينا قولهم : ( إن ما لا منفعة فيه ليس بمال فلا يقابل به ) فكل ما فيه منفعة فيه قيمة و بقدر المنفعة تكون القيمة أي المالية فالمنفعة مناط القيمة سواء في ذلك الأعيان أو المنافع أو الأمور المعنوية.



ومن جانب آخر فإن الجمهور كما رأينا يرى أن الملك علاقة معتبرة شرعاً بين المالك و المملوك و هذه العلاقة علاقة اختصاص ، أو هو صفة شرعية يمنحها الشارع من يستحقها . والمال وصف شرعي كما قال الشاطبي : ( المال ما يقع عليه الملك و يستبدل به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه)



فالمال ها هنا وصف شرعي أو اعتبار من الشارع بوجود هذه العلاقة و ما تستتبعه من حق التصرف و منع الغير من الاعتداء عليه.



و يترتب على ذلك أن هذا الاعتبار الشرعي له دور في مالية الشيء بل لولاه ما اعتبر الشيء مالاً ، فكل ما يعتبره الشارع من هذا الوجه هو مال سواء أكان عينناً أو منفعة أم حقاً.



فمدار المالية عند فقهائنا لا على كون الشيء من الأعيان قال البهوتي ( إن المال ما فيه منفعة مباحة )



فقد يكون عيناً لا منفعة فيه فليس هو بمال حينئذ ، وقد يكون غير عين تصحبه منفعة فيعتبر مالاً إذا كانت المنفعة محترمة شرعاً و متقومة عرفاً و يمكن إحرازها و لا يحتم الفقهاء في تحقق ملك المنفعة ملك العين و غنما يعتبرون إمكان الحيازة كافياً في تحقق الملك .



فإذا جرى الملك في الأعيان أو المنافع اعتبر المحل مالاً : ( فإن جريان الملك في الأعيان يستلزم ماليتها مادام الانتفاع به مباحاً شرعاً . وجريان الملك في المنافع يستلزم ماليتها شرعاً أيضاً على الراجح في الفقه الإسلامي المقارن و المعاوضة أساسها الملك ) وهي جارية عرفاً في الاسم التجاري و ما في حكمه كالابتكار الذهني و قد بيّن الشيخ علي الخفيف صفة المالية و مناطها فقال : ( و من الفقهاء من صرح بأن المالية ليست إلا صفة للأشياء بناء على تمول الناس و اتخاذهم إياها مالاً و محلاً لتعاملهم و لذلك لا يكون إلا إذا دعتهم الحاجة فمالت إليه طباعهم و كان بالإمكان التسلط عليه و الاستئثار به و منعه من الناس و ليس يلوم لذلك أن يكون مادة مدخرة لوقت الحاجة بل يكفي أن يكون الحصول عليها ميسوراً عند الحاجة غليها غير متعذراً و ذلك متحقق في المنافع فإذا ما تحقق ذلك فيها عدت من الأموال بناء على عرف الناس و تعاملهم ) ، ( فالمنفعة تعتبر أساساً للقيمة المالية و لو كانت ترفيهية يسيرة الشأن كما في تغريد بلبل أو تصويت ببغاء ).



و على هذا كله يمكن القول مع الاطمئنان : أ ن الاسم التجاري منفعة ومال من جانب و هو حق في ذات الوقت من جانب آخر و لما كانت الحقوق أموالاً يجري فيها الاختصاص و الملك ما دام محلها مالاً أو له تعلق بالمال و يقبل التجزيء فإن الاسم التجاري من هذا الوجه مال و منفعة و حق .



التصرف بالاسم التجاري



إن التصرف بالاسم التجاري – وما في حكمه – يبني على الكلام في التكييف الفقهي الشرعي له و قد استقر الرأي و أطمأنت النفس تماماً إلى القول بأن : الاسم التجاري حق و منفعة و مال يجري فيه الملك ... و مادام ذلك كذلك فإن الأصل أن تسري فيه و تجري عليه جميع التصرفات الجارية في الأعيان.



لكن لما كان موضوع الاسم التجاري و الحكم الشرعي فيه مستجداً احتاج توثيق الحكم فيه إلى أمرين : تأصيله و تكييفه أو بيان طبيعته من جهة و إثبات إمكان تطبيق هذا التأصيل على فروع المسألة من جهة أخرى فإذا التقيا و تضافرا تأكد الاطمئنان في سلامة الحكم في أصل المسألة و من هنا كانت الحاجة إلى بيان مدى قبول الاسم التجاري لإجراء التصرفات عليه . بعد أن عرفنا تكييفه أمراً ملحاً.



فبناء على التكييف السابق نستطيع القول : إن جمهور الفقهاء على جواز بيع الاسم التجاري و إجراء التصرفات عليه بمثل ما تجري عليه الأعيان سواء بسواء مع ملاحظة أمرين :



1- اختلاف طبيعة الأعيان عن المنافع والحقوق.



2- أن يكون الاسم التجاري يعبر عن واقع حقيقي لا صوري خالياً عن الكذب و التزييف.



و بيان ذلك يتضح في جانبين أساسين يجمعان شتات الموضوع و يسوغان القول بجواز إجراء التصرفات على الاسم التجاري. وهذان الجانبان هما : كون الاسم التجاري حقاً ، و كونه مالاً .



الجانب الأول - الاسم التجاري حق :



فقد أثبتنا فيما سبق أن الاسم التجاري في حقيقته مصلحة وحق و قد رأينا اتجاه جمهور الفقهاء إلى اعتبار العلاقة الاختصاصية المباشرة بين التاجر و الاسم التجاري بحيث يكون مسؤولاً مسؤولية كاملة عن هذا الاسم التجاري تجاه الآخرين و في ذات الوقت يمتنع على الآخرين الاعتداء على هذا الاسم ، حتى يكون الاعتداء عليه اعتداء على حق مالي متقرر مادام الاسم التجاري يمثل منفعة ذات قيمة في عرف الناس و العلاقة إذا كانت على هذا الوجه تكون في فقه الشرع علاقة حق عيني فيكون الاسم التجاري حقاً عينياً ومالياً إذ الحقوق أموال كما نص عليه المالكية سواء أكانت مالية أو غير مالية مع استثناء الحقوق التي لا تقبل التجزيء .



الجانب الثاني – الاسم التجاري مال :



إن الاسم التجاري مال لما فيه من منفعة كبرى هي أهم منافع المتجر بل إن المتجر دون هذا الاسم و الشهرة والسمعة التي تجلب الجمهور لا معنى لها و لا قيمة تجارية حقيقية فيه .



و لقد ثبت هذه المنفعة و تأكدت من تعارف الناس و التجار منهم على سبيل الخصوص على اعتبار القيمة والمنفعة في هذا الاسم التجاري فقبلوا التعاوض فيه و المعاوضة أساس الملك و الملك مال عند المالكية و نظراً لما فيه من قيمة فهو مال عند الشافعية و الحنابلة.



و بالنظر إلى كل من هذين الجانبين سواء كانا مجتمعين أو منفردين تصلح كلها أن تكون محلاً للملك فيجزي فيها – في خصوص الاسم التجاري – جريانه في غيرها من الأعيان فالملك يحقق دون النظر إلى كون محله عيناً أو منفعة أو أمراً معنوياً مادام بالإمكان حيازته و استيفاؤه أو الاختصاص به إذ الاختصاص يقوم مقام الحيازة فيما لا تقبل طبيعته الحيازة المادية كالديون و إذا كان ذلك كذلك فإن الاسم التجاري يجري فيه الملك و الاختصاص فيجوز التصرف فيه بالبيع و الهبة والوصية و ما إلى ذلك كما يجري فيه الإرث ويلزم كما يلزم ضمانه عند التلف و في الجملة يجزي فيه ما يجزي في الأعيان إذ حاله من حالها فحكمه حكمها مع مراعاة طبيعة كل منهما.



هذا هو الحكم في أصل الموضوع أما فروعه وتطبيقاته فينبغي أن يراعى فيها ما يشترط لصحة التصرف فيها من شروط.



فيراعى في بيع الاسم التجاري أن لا يترتب على هذا البيع غرر من شأنه إبطال العقد و إفساده فبيع الاسم التجاري يلزمه بيع مضمونه فيما يدل عليه من جودة و إتقان ومواصفات للسلع المشمولة في وعائه فإن انفصلت الجودة و الإتقان عن ذات الاسم التجاري كان ذلك تدليساً و غشاً لما يوقعه من توهم الجودة و لما يوقعه من تغرير و تدليس للناس في إقبالهم على ذات السلع بناء على معهودهم في هذا الاسم التجاري الذي يستوعبها . فإن البيع في هذه الحال عقد باطل لما فيه من غرر في المثمن و هو الاسم التجاري .



أم إذا انتقل الاسم التجاري مع ما يدل من جودة بضائعه و ثبات صفاته المعهودة لدى المتعاملين معه فإن تغيير صاحب الاسم التجاري لا غير من الأمر شيء فقد انفصل الاسم بمزاياه و شهرته إلى غيره فلا يترتب على هذا تدليس أو تغرير. يستوي في ذلك أن يكون محل البيع الاسم التجاري و ما يستوعبه من سلع و ملحقاتها أو بيع الاسم التجاري منفرداً مع اشتراط أن ينشىء المشتري مضموناً جديداً من السلع لهذا الاسم بذات المواصفات و الجودة المعهودة من ذي قبل . فإذا لم يكن ذلك فيجب أن يعلن التاجر أو الجهة المسؤولة للناس كافة : أن الاسم التجاري المعهود لم يعد يمثل ما كان داخلاً في مشتملا ته و وعائه و أن المشتملات قد تغيرت من حيث المواصفات و الأنواع فإن فعل ذلك ارتفع اللبس و الغرر.



شبهة وردها:



قد يقال : إنه مادام الاسم التجاري كما تقرر هو حق عيني مالي متقرر فينبغي ليصح أن يمكّن صاحبه من سلطات الملك الثلاث و هي : الاستعمال ، الاستغلال ، و التصرف .



و لا شك أن الاسم التجاري لا يمكن لصاحبه من أن يستعمله استعمالاً شخصياً فإذا تخلف عنصر من عناصر سلطة الملك الثلاث فلا يصح اعتباره محلاً للملك .



فيُـرد على هذا : بأن ( الملك في جوهره علاقة اختصاصية أو حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة كما يقول الإمام القرافي في فروقه ، والإمام السيوطي في نظائره ذلك هو مناط الملك ،و أما السلطات فآثار الملك لا عينه ، والشأن في الملك أن تكون له هذه الآثار لكن ثبوت هذه الآثار جميعها ليس مناطاً لثبوت الملك نفسه فالملك يثبت بإحداهما مادام قد تحقق مناطه و هو الاختصاص . ألا ترى إلى حق المرور هو حق متقرر لمنعة عقار على عقار آخر يثبت لصاحبه سلطة الاستعمال فقط دون الاستغلال ؟ و الوقوف عليهم للسكنى يثبت لهم حق الاستعمال كذلك دون الاستغلال ؟و هذا لا ينفي أن يكون لهم حق في ملك المنفعة على هذا الوجه)



( فلا أثر إذاً لتخلف ثمرة من ثمرات الملك على ثبوت معنى الملك نفسه فإذا كان الشأن في الملك أن تثبت سلطاته الثلاث جميعاً، لكن ذلك ليس من مستلزماته) و على هذا فلا ريب أن الاسم التجاري يثبت فيه حق الملك فيما له من سمعة و شهرة وقيمة و إن تخلف أحد سلطات الملك فيه مادام تخلفها راجعاً إلى طبيعتها و هذا لا يهدم الملك ولا ينقصه.











مكتب / محمد جابر عيسى المحامى


السبب في القانوني المدني - نظر القضاء إليه








السبب في القانون المدني ... نظر القضاء إليه







يشغل السبب حيزاً ليس قليلاً في مجال القانوني ، لذلك كثرت الأبحاث التي كتبت في هذا أمر السبب – على أن هذه الأبحاث مع وفرتها كانت مرادفاً لاحتدام الجدل الفقهي حول السبب بين مؤيد له ونافٍ لوجوده وأهميته .



إلا أن القضاء لم يقف إطلاقاً عند هذا الجدل الفقهي حول السبب ، وإنما عمد رغبة منه في مسايرة الحياة العملية إلى تجنب هذه الخصومات الفقهية ، وقام بتحديد مدلول السبب على النحو الذي يمكنه من إحكام رقابته على مشروعية تصرفات الأفراد .



فما لبث الفقهاء إلا أن ناهضوا القضاء سواء السببيون واللاسببيون على هذا المسلك – ثم في النهاية استقر الأمر على ما درج عليه القضاء .



وعلى العموم فإننا نجد أن القضاء نظر نظرة مغايرة للفقهاء – حيث نظر إليه على أساس وظيفته بوصفه أداة لحماية المجتمع من اتجاه الإرادة إلى تحقيق أغراض غير مشروعة وضمان إخضاع المعاملات لقواعد الآداب فتوسع فيه وجعله هو الباعث الدافع إلى التعاقد ، وربط صحة العقد بمشروعية البواعث .



فالسبب في نظر القضاء هو الباعث الدافع الذي وجه إرادة المتعاقد ، فإذا كانت الإرادة بعد أن تحررت من قيود الشكل القديمة – لها القدرة على ترتيب ما تشاء من التزامات ، إلا ان هذه الإرادة لابد لها من باعث يدفعها ، وعلى القضاء أن يتحقق من مشروعية هذا الباعث لضمان عدم اتجاه الإرادة إلى تحقيق غرض يحرمه القانوني أو يتنافي مع النظام العام والآداب .



على أن القضاء لاحظ أن البواعث التي تدفع الإرادة عديدة ومتنوعة ، وأن الإسراف في تقصيها يترتب عليه إهدار استقرار التعامل ، ولذا أورد القضاء على الاعتداء بالباعث قيدين :-



أولهما : أن القضاء لا يعتد إلا بالباعث الرئيسي الذي لولاه لما أبرم العاقد العقد .



فهذا الباعث الرئيسي وحده هو الذي يقف عنده القاضي للتحقق من مشروعيته ، ولا يعتد بما قد يقوم إلى جانبه من بواعث ثانونية ولو كانت غير مشورعة ، لأنه لا أثر لها على الإرادة .



والثاني : أن القضاء لا يعتد بالباحث إلا إذا كان داخلاً في دائرة التعاقد .



فالقضاء رغبة منه في استقرار التعامل اشترط في عقود المعاوضات لترتيب البطلان على عدم مشروعية الباعث أن يكون هذا الباعث داخلاً في دائرة التعاقد – بحيث يشترط للاحتجاج ببطلان العقد على العاقد الذي لم يقم لديه الباعث غير المشروع ، أن يكون عالماً بعدم مشروعية الباعث الذي دفع المتعاقد الآخر إلى التعاقد ، وذلك حتى لا يفاجأ العاقد حسن النية ببطلان العقد لباعث غير مشروع انفرد به العاقد الآخر .



على أن القضاء قصر هذا القيد الثاني الخاص باشتراط العلم بالباعث الغير مشروع على المعاوضات دون التبرعات لأن بطلان التبرع لعدم مشروعية الباعث لن يترتب عليه سوى حرمان المتبرع له من فائدة لم يؤد عنها أي مقابل .



ويؤيد جانب كبير من الفقه هذا الأمر السنهوري ( ج1/436) ، د. اسماعيل غانم ( النظرية العامة للالتزام ج1/271، د. أنور سلطان ( النظرية العامة للالتزام ج1/264 ) ، د. حشمت أبو ستيت ( نظرية الالتزام ج1/226 ) وغيرهم كثير من فقهاء القانون المدني .



غير أن هناك رأي آخر في الفقه يرى ضرورة عدم الاكتفاء بالعلم بالباعث غير المشروع في المعاوضات ، ويتطلب لإبطال العقد أن يكون هذا الباعث غير المشروع مشتركاً بين الطرفين ، بينما يكتفي في التبرعات بعلم المتبرع له بعدم مشروعية الباعث – د. عبد الحي حجازي ( مصادر الالتزام 343 ) .



وإذا كنا ندرك الفرق بين مجرد العلم وبين الاشتراك – فقد بدا لنا مدى التعارض بين الرأيين والنتائج المترتبة على الأخذ بأي منهما .



غير أنه إذا كان مفهوم السبب يشير إلى أنه الغاية الدافعة إلى التعاقد كما أسلفنا في بداية الموضوع – هذا المفهوم الذي لم يكن محل خلاف – فإنه إنطلاقاً من نقطة البدء وعند محل اجتماع الآراء ، فإنه يكتفى فقط بشرط العلم إذا ما أريد إبطال العقد لعدم مشروعية السبب – لأن السبب وكما يقول د. جميل الشرقاوي لا يعتد به أصلاً إلا إذا خرج من النطاق النفسي وظهر في مضمون التعبير عن الإرادة ( طبيعة المحل والسبب في التصرف القانوني – مجلة القانون والاقتصاد .ع2.س34.ص 365 ) .



وفي كل الأحوال وفي رأينا المتواضع فإن ركن الرضا في العقد قد يجمع الرأيين معاً عند نقطة التقاء - لأن التصريح بالسبب من جانب أحد الطرفين يعني اتصال المتعاقد الآخر به ، ومن ثم إذا ابرم العقد وتم التصريح بالسبب من قبل أحد الطرفين فإن قد توافر علم الطرف الأخر به واشتركت إرادته فيه ضمن رضاها على العقد في مجموعة .



ومن ثم فطالما تم التصريح بالسبب فيمكن القول بتوافر العلم بمجرد التصريح وظهوره في معني التعبير عن الإرادة ، والاشتراك فيه عند التراضي على العقد في مجموعة – ومن ثم أمكن إبطال العقد العد لعدم مشروعة السبب .



هذه هي نظرية القضاء في السبب ومنها يظهر بوضوح إعتداد القضاء بالباعث الدافع إلى التعاقد واشتراطه أن يكون مشروعاً .








مكتب / محمد جابر عيسى المحامى



خطاب الضماني البنكي من الوجهة الشرعية








خطاب الضمان







الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد



فإن من نوازل العصر و قضاياه جريان المعاملة بخطابات الضمان لدى البنوك الأهلية مع المستفيد شخص اعتباري أو طبيعي و تجلية موقعها من الشريعة المطهرة يقتضي إعطاء التصور الكامل لطبيعة خطابات الضمان و خطواتها الإجرائية و أنواعها و ما جرى مجرى ذلك من القوالب التي تسير عليها .



فاقتضى الحال إدارة التقييد فيها في مبحثين :



المبحث الأول : خطاب الضمان .



تعريفه.. نوع الطرف المستفيد .. الغرض منه .. خطواته الإجرائية .. أنواعه.



المبحث الثاني : الفقه الشرعي لخطاب الضمان



وبيان كل منها على ما يلي :



المبحث الأول



خطاب الضمان



و فيه الفروع الآتية :



1- طبيعته :



خطاب الضمان المصرفي : هو تعهد قطعي مقيد بزمن محدد غير قابل للرجوع يصدر من البنك بناء على طلب طرف آخر ( عميل له ) – بدفع مبلغ معين لأمر جهة أخرى مستفيدة من هذا العميل لقاء قيام العميل بالدخول في مناقصة أو تنفيذ مشروع بأداء حسن ليكون استيفاء المستفيد من هذا التعهد ( خطاب الضمان ) متى تأخر أو قصر العميل في تنفيذ ما ألتزم به للمستفيد في مناقصة أو تنفيذ مشروع و نحوهما، و يرجع البنك بعد على العميل بما دفعه للمستفيد.



2- أركانه :



من هذا يتضح أن أركان خطاب الضمان أربعة و هي :



أ- البنك : وهو الطرف الضامن. و الضامن هو من التزم ما على غيره.



ب- العميل : و هو الطرف المضمون عنه.



ج – المستفيد : و هو الطرف المضمون له. و هو رب الحق الذي التزم به الضامن.



د – قيمة الضمان : و هو المبلغ المضمون. و المضمون به هو الحق الذي التزم الضامن . فإذا أطلق خطاب الضمان حوى هذه الأركان .



3- الشخص العميل ( المضمون عنه ):



يكون شخصية حكمية ( اعتبارية ) كالشركة أو المؤسسة ممثلة في ( مديرها المسؤول ) ويكون شخصاً طبيعياً.



4- المستفيد ( المضمون له ):











عادة لا يكون إلا شخصية اعتبارية كمصلحة حكومية أو مؤسسة أو شركة معروفة. و من النادر أن يكون شخصاً طبيعياً.



5- أهدافه :



لخطاب الضمان أهمية كبيرة في حماية المستفيد ( المضمون له ) حكومة أو شركة لضمان تنفيذ المشاريع أو تأمين المشتريات و فق شروطها و مواصفاتها و في أوقاتها المحددة . و بالتالي توفير الضمانة للمستفيد عن أي تقصير تنفيذي أو زمني من الطرف العميل إضافة إلى أن البنك لا يقبل في استقبال خطاب الضمان و أن يكون طرفاً مع العميل لصالح المستفيد إلا إذا توفرت لديه القناعة بكفاءة العميل المالية و المعنوية . و بالتالي ففي هذا ضمان إضافي إلى سابقه أن لا يدخل في المشاريع و المناقصات إلا شخص قادر على الوفاء بما التزم به.



6- طريقة إصدار خطاب الضمان :



يقدم طالب خطاب الضمان طلباً للبنك يحدد فيه مبلغ الضمان و مدته و الجهة المستفيدة و الغرض من الضمان. ويجب أن تكون لدى البنك قبل إصداره الضمان المذكور القناعة بأن كفاءة العميل المالية و المعنية كفيلة بالوفاء بالتزامه فيما إذا طلب منه دفع قيمة الضمان أو تمديده و إذا كان مبلغ الضمان كبيراً فإن البنك يطلب عادة تأمينات لقاء ذلك إما أن تكون رهناً عقارياً مسجلاً أو رهن أسهم في شركات أو بإيداع أوراق مالية لدى البنك يسهل تحويلها على نقد فيما لو طلب من البنك دفع قيمة مبلغ الكفالة – مع خطاب من مودعها بالتنازل عنها إذا اقتضى الأمر أو كفالة بنك خارجي معروف و إضافة إلى كل ذلك فإن البنك يحتفظ عادة بتأمينات نقدية يودعها العميل بنسبة 25 % من قيمة الضمان و قد تزيد هذه النسبة أو تقل تبعاً لمركز العميل المالي و المعنوي و لطبيعة المشروع الذي قدم الضمان من أجله ، و بعد كل هذه الإجراءات يقوم البنك بإصدار الضمان.



7- أنواع خطابات الضمان :



تجري العاقدة عليها على أنواع:



أولاً – خطاب الضمان الابتدائي :



و يكون مقابل الدخول في مناقصات أو مشاريع و يكون مبلغ الضمان مساوياً لــ 1% من قيمة المناقصة أو أكثر و ساري المفعول لمدة معينة و عادة تكون لثلاثة أشهر و هذا التعهد البنكي ( خطاب الضمان ) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها ليسوغ له الدخول في المناقصة مثلاً فهو بمثابة تأمين ابتدائي يعطي المستفيد الاطمئنان على قدرة العميل على الدخول في المناقصة ولا يسوغ إلغاء هذا الخطاب إلا بإعادته بصفة رسمية من الجهة المقدم إليها ( المستفيد )



ثانياً – خطاب الضمان النهائي :



و هذا يكون مقابل حسن التنفيذ و سلامة الأداء في العملية من مناقصة أو مشروع و نحو ذلك و يكون مبلغه بنــسبة 5 % من قيمة المشروع أو المناقصة و هو معينة بمدة لعام كامل مثلاً قابل للزيادة .



و هذا التعهد البنكي ( خطاب الضمان النهائي ) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها ليستحق المستفيد الاستيفاء منه عند تخلف العميل عن الوفاء بما التزم به فهو بمثابة تأمين نهائي عند الحاجة إليه .. و لا يكون إلغاؤه إلا بخطاب رسمي من الطرف المستفيد .



ثالثاً – خطاب الضمان مقابل غطاء كامل لنفقات المشروع أو الناقصة :



( أي مقابل سُلفه يقدمها العميل إلى البنك على حساب المشروع مثلاً لصالح الطرف المستفيد و الغية منه كما في سابقه) – ثانياً : الخطاب النهائي- .



رابعاً – خطاب الضمان ( ضمان المستندات ) :



و هناك نوع رابع من خطابات الضمان يقدمه البنك لصالح شركات الشحن أو وكالات البواخر في حالة وصول البضاعة المستوردة إلى الميناء المحدد في المملكة و تأخر وصول مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى ذلك البنك الذي جرى الاستيراد عن طريقه فخشية من أن يلحق بالبضاعة تلف من جرّاء تأخر بقائها في الجمرك يكون الضمان المذكور تعهداً من البنك من تسليم مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى وكلاء البواخر فور وصولها و استناداً إلى هذا الضمان يتم فسح البضاعة للمستورد.و لإصدار مثل هذا الضمان يقدم العميل المستورد طلباً بذلك إلى البنك و يسدد قيمة اعتماد الاستيراد بالكامل ( وهي قيمة البضاعة المستوردة ) و من ثم يصدر البنك خطاب الضمان و يسلمه للعميل فيقوم العميل بتسليمه إلى وكلاء الباخرة المعنيين.



8- مدى استفادة البنك من خطاب الضمان:



هذا التعهد الذي ألزم البنك به نفسه مع العميل له بأن يدفع للطرف المستفيد من عملية المبلغ الصادر بموجبه خطاب الضمان و وفق ما فيه من شروط و إجراءات للبنك من وراء هذا مصلحة مادية و هي ما تسمى بالعمولة بمعنى أن البنك يستحق بالشرط على العميل نسبة مئوية معينة مقابل هذا التعهد و هذه الخدمة نحو 2 % حسبما يتم الاتفاق عليه.



( وبهذا ينتهي المبحث الأول الذي يعطي التصور الكامل لخطابات الضمان الجارية في المصارف و البنوك مع عملائها أمام المستفيدين منهم )



المبحث الثاني



الفقه الشرعي لخطاب الضمان



قد علم بأصل الشرع جواز الضمان و هو : ضم ذمّــة الضامن إلى ذمة المضمون في التزام الحقوق المستحقة بمعنى التزام دين على دين آخر ، وهو عقد إرفاق و إحسان جاء به الشرع مع ما فيه من توثيق للحقوق و حفظ لها.



و خلاصة ما تقدم في المبحث الأول لطبيعة خطاب الضمان تنحصر في الفقرتين الأخيرتين منه وهما :-



1- أنواعه .



2- عمولة البنك لقاءه.



أما أنواعه الأربعة المتقدمة فلم يظهر في ماهيتها ما يخرج عن المنصوص عليه في أحكام الضمان شرعاً و توفر شروطه فالضامن البنك مما يصح تبرعه و لوجود رضا الضامن و كون الحق معلوماً حالاً أو مالاً و أن أجله معلوم غير مجهول . سوى ما جاء في النوع الأول و هو خطاب الضمان الابتدائي فغنه من باب ضمان ما سيجب و ضمان ما لم يجب عقد معلق و قد علم أن الضمان عقد الالتزام لازم فلا يعلق كغيره من العقود اللازمة، و لأن الضامن التزم ما يلزم الأصيل المضمون عنه و هو ( العميل ) بعد . لكن الجمهور من أهل العلم على جوازه وهو مذهب الأئمة الثلاث- أبو حنيفة ، و مالك ،و أحمد و الشافعي – في القديم و الخلاف المذكور للشافعي في الجديد و ما ذهب إليه الجمهور ألص بأصول الشرع لاسيما إباحة التعامل في الأصل ما لم يعتوه مانع من غرر ونحوه .



و لا يظهر في ضمان ما لم يجب بعد ما يمنع فيبقى على الأصل و الله أعلم و لهذا قال الحنابلة : في تعريف الضمان هو : التزام ما وجب أو يحب على غيره مع بقائه عليه أو ضم الإنسان ذمته إلى ذمة غيره قيما يلزمه حالاً أو مالاً.



و قالوا في ضمان ما يؤو إلى الوجوب ( يصح الضمان بالحق الذي يؤول إلى الوجوب فيصح الضمان بما يثبت على فلان أو بما يقر به أو بما يخرج بعد الحساب عليه أو بما يداينه فلان ).



أخذ العمولة عليه :



أي أخذ ( الأجرة ) لا ( الجعالة ) فإن الجعالة : أن يجعل جائز التصرف شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً من مدّة معلومة أو مجهولة – فلا يشترط العلم بالعمل و لا المدة و تعيين العامل للحاجة .



فهي إذاً : التزام مال في مقابلة عمل لا على وجه الإجارة فليس ما هنا مما هنالك إضافة إلى أن الجعالة : عقد جائز من الطرفين لكل من العاقدين فسخها بخلاف الإجارة فهي عقد لازم ابتداء.



و إن كان وقع في عبارات بعضهم باسم الجعل على الضمان ففي هذا تسامح في التعبير أو على سبيل النزول بمعنى : أنه إذا لم يجز الجعل فالإجارة من باب أولى و إن كانت الجعالة في معنى الإجارة لكن الجعالة أوسع من باب الإجارة فالجعالة كما علمت في تعريفها فلا يشترط العلم بالعمل و لا المدة و يجوز فسخها من الطرفين بخلاف الإجارة فهي عقد على منفعة أو عين لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها .



و عليه فإن جمهور أهل العلم على تقرير عدم الجواز لأخذ العوض على الضمان كما في مجمع الضمانات على مذهب الإمام أبي حنيفة للبغدادي ص / 282. و الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 3/404 . و الشرح الصغير 3/ 242. و الفروع لابن مفلح الحنبلي 4 / 207 ، و كشاف القناع 3/262 .



و غيرها مصرحة بالمنع وعدم الجواز، وجماع تعليلهم بالمنع فيما يلي :-



1- أنه يؤول إلى قرض جر نفعاً وجه ذلك : أنه في حال أداء الضامن للمضمون له يكون العوض مقابل هذا الدفع الذي هو بمثابة قرض في ذمة المضمون عنه.و في خطاب الضمان : أقوى في بعض أحواله لأن المستفيد يستوفي عادة من البنك لا من العميل.



2- إن هذا العقد مبناه على الإرفاق و التوسعة و الإحسان ففي أخذ العوض لقاءه دفع لمقصد الشارع منه ؟



3- أنه في بعض حالات الضمان ستوفى المضمون له من المضمون عنه فيكون أخذ الضامن للعوض بلا حق وهذا باطل لأنه من أكل المال بالباطل . وفي خطاب الضمان الابتدائي أو المستندي مثلاً يستوفى المضمون له المستفيد من العميل لا من البنك.



و ها هنا تنبيهان:-



الأول : جرى في القواعد الفقهية قوله : الأجر والضمان لا يجتمعان. وهذه القاعدة ليست مما نحن فيه من أحكام الضمان لأن الضمان هنا يقصد به ( ضمان المتلفات) .



الثاني : جرى في القواعد الفقهية لهم قولهم :( ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه) بل فيه ما يجوز كالجعالة على رد الآبق . وما يمتنع كالعوض على الضمان و اللهو المباح و نحو ذلك. كما جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30 /215 -216.



النتيجــة







أن خطاب الضمان من حيث العطاء له من قبل العميل ثلاثة أحوال :



1- خطاب ضمان ليس له عطاء البتة:



فهذا ينسحب عليه ما قرره جمهور العلماء من منع العوض على الضمان فهكذا في هذه الحال من خطابات الضمان.



2- خطاب ضمان له عطاء كامل من العميل :



فهذه الحالة و الله أعلم لا يظهر في العوض عليها ما يمنع في حق الضامن أو المضمون عنه لأن هذا العوض ( العمولة ) مقابل الخدمات الإجرائية ففي حال دفع البنك للمستفيد فهو من مال المضمون عنه و في حال عدم دفعه فهو مقابل حفظه لماله و خدماته لذلك.



3- خطاب ضمان قد صار الغطاء لنسبة منه :



فهذه تنسحب عليها أحكام الحالتين قبلها فيجوز فيما قابل المغطى لا فيما لم يقابله – و الله أعلم -.



و أختم هذا المبحث برأي رشيد للعلامة الشيخ / عمر بن عبد العزيز المترك في كتابه ( الربا و المعاملات المصرفية)إذ قال رحمة الله عليه – ص / 309 : ( والذي أرى أنه إذا كان الضمان مسبوقاً بتسليم جميع المبلغ المضمون للمصرف أو كان له غطاء كامل فلا يظهر في أخذ الجعالة عليه شيء لأن العمولة التي يأخذها المصرف في هذه الحالة مقابل خدماته كالعمولة التي تأخذ من قبله في عملية التحويل بالشيكات لأن هذه العملية ليست مقابل فرض و لا ما يؤول إلى قرض لأن المصرف لا يدفع من ماله شيئاً و إنما يدفع ما التزمه بموجب الضمان من مال المضمون عنه الموجود لديه أما إذا كان خطاب الضمان غير مغطى فلا أرى جواز أخذ الجعالة عليه لأن هذا الضمان قد يؤدي إلى قرض فيكون قرضاً جر فائدة و الربا أحق ما حميت مراتعه و سدت الطرائق المفضية إليه.



لــذا فإني أرى على طالب الضمان أن يضع لدى الجهة الضامنة له مبلغاً يساوي المبلغ المضمون و هذا إجراء متفق مع الأصول الائتمانية المتبعة في بعض المصارف حيث تطلب من العميل المضمون أن يحجز لديها مبلغاً مساوياً لقيمة خطاب الضمان و هو ما يسمى بالغطاء الكامل يكون رهناً لكي يسدد منه فيما لو اضطر إلى تنفيذ التزامه ويفرح عنه عندما يتحرر المصرف من ضمانه.



و في هذا الإجراء من الفوائد مما لا يخفى منها :



1- عدم إفساح المجال لمن ليس لهم المقدرة على الوفاء بالتزامهم في الدخول في المناقصات و العطاءات.



2- أنه فيه حداً من التعامل الجشع و التوسع في الأعمال بما ليس في استطاعة الإنسان القيام به مما يعود عليه بالضرر و تنعكس عليه آثاره السيئة ذلك أن المناقص قد يقدم ضمتناً مصرفياً بمبلغ ليس في استطاعته الوفاء به مما قد يضطره في النهاية إلى الخضوع لما تفرضه عليه المصارف من فوائد ربويـّـة لقاء تسديده بمقتضى الضمان الذي التزمته.












مكتب / محمد جابر عيسى المحامى




الشـــــــــــــرط في الفقه الإسلامي








الشرط في الفقه الإسلامي



التّعريف :



الشّرط بسكون الرّاء لغةً : إلزام الشّيء والتزامه ، ويجمع على شروط ، وبمعنى الشّرط الشّريطة وجمعها الشّرائط . والشّرَط بفتح الرّاء معناه العلامة ويجمع على أشراط ومنه أشراط السّاعة أي علاماتها .



وهو في الاصطلاح : ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته . وعرّفه البيضاويّ في المنهاج بأنّه : ما يتوقّف عليه تأثير المؤثّر لا وجوده ، ومثّل له بالإحصان، فإنّ تأثير الزّنا في الرّجم متوقّف عليه كما ذكر الإسنويّ ، وأمّا نفس الزّنا فلا ، لأنّ البكر قد تزني .



الألفاظ ذات الصّلة :



أ - الرّكن :



ركن الشّيء في الاصطلاح : ما لا وجود لذلك الشّيء إلاّ به ، وهو الجزء الذّاتيّ الّذي تتركّب الماهيّة منه ومن غيره بحيث يتوقّف قيامها عليه .



والفرق بينه وبين الشّرط : هو أنّ الشّرط يكون خارجاً عن الماهيّة ، والرّكن يكون داخلاً فيها فهما متباينان .



ب - السّبب :



السّبب في الاصطلاح : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته .



فالسّبب والشّرط يلزم من عدمهما العدم . ولكنّ السّبب يلزم من وجوده الوجود ولا يلزم من وجود الشّرط الوجود ، كصلاة الظّهر سببها زوال الشّمس وشرطها الطّهارة .



ج - المانع :



ومعناه في الاصطلاح كما ذكر القرافيّ في الفروق : هو ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته ، فهو بهذا المعنى عكس الشّرط لأنّ الشّرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته .



وقال ابن السّبكيّ : المانع : هو الوصف الوجوديّ الظّاهر المنضبط المعرّف نقيض الحكم كالأبوّة في القصاص .



تقسيمات الشّرط :



ينقسم الشّرط إلى ما يلي :



الأوّل - الشّرط المحض :



وهو ما يمتنع بتخلّفه وجود العلّة فإذا وجد وجدت العلّة فيصير الوجود مضافاً إلى الشّرط دون الوجوب ، مثاله اشتراط الطّهارة للصّلاة واشتراط الرّهن في البيع .



ثمّ ينقسم الشّرط المحض إلى قسمين : شروط شرعيّة ، وشروط جعليّة .



فالشّروط الشّرعيّة هي الّتي اشترطها الشّارع إمّا للوجوب كالبلوغ لوجوب الصّلاة وغيرها من الأمور التّكليفيّة ، وإمّا للصّحّة كاشتراط الطّهارة للصّلاة . وإمّا للانعقاد كاشتراط الأهليّة لانعقاد التّصرّف وصلاحيّة المحلّ ولورود العقد عليه . وإمّا للّزوم كاشتراط عدم الخيار في لزوم البيع ، وإمّا لنفاذ اشتراط الولاية وما في معناها لنفاذ التّصرّف .



ويلزم من عدم أيّ شرط من هذه الشّروط عدم الحكم المشروط له فإذا فقد شرط من شروط الوجوب لزم عدم وجوب الفعل على المكلّف ويلزم من عدم شرط من شروط الصّحّة عدم صحّة الفعل وهكذا ، ويلزم من عدم شرط من شروط الانعقاد بطلان التّصرّف بحيث لا يترتّب عليه أي حكم .



وأمّا الشّروط الجعليّة فهي الشّروط الّتي يشترطها المكلّف في العقود وغيرها كالطّلاق والعتاق والوصيّة وهو نوعان شرط تعليقيّ مثل إن دخلت الدّار فأنت طالق ، وينظر تفصيله في ( تعليق ) ، وشرط تقييديّ مثل وقفت على أولادي من كان منهم طالباً للعلم .



وهذه الشّروط الجعليّة تنقسم من حيث اعتبارها إلى ثلاثة أنواع :



أ - شرط لا ينافي الشّرع : بل هو مكمّل للشّروط وذلك كما لو اشترط المقرض على المقترض رهناً أو كفيلاً .



ب - شرط غير ملائم للمشروط : بل هو مناف لمقتضاه ، كما لو اشترط الزّوج في عقد الزّواج أن لا ينفق على الزّوجة .



ج - شرط لا ينافي الشّرع ما شرط فيه وفيه مصلحة لأحد العاقدين أو كليهما أو لغيرهما ولكنّ العقد لا يقتضيه فلا تعرف ملاءمته أو عدم ملاءمته للعقد وذلك كما لو باع منزلاً على أن يسكنه البائع مثلاً فترةً معلومةً أو يسكنه فلان الأجنبيّ .



القسم الثّاني : شرط هو في حكم العلل :



وهو شرط لا تعارضه علّة تصلح أن يضاف الحكم إليها فيضاف الحكم إليه ، لأنّ الشّرط يتعلّق به الوجود دون الوجوب فصار شبيهاً بالعلل ، والعلل أصول لكنّها لمّا لم تكن عللاً بذواتها استقام أن تخلفها الشّروط ، ومثاله حفر البئر ، فعلّة السّقوط هي الثّقل لكنّ الأرض مانع من السّقوط فإزالة المانع بالحفر صار شرطاً وهذه العلّة لا تصلح لإضافة الحكم إليها " وهو الضّمان" لأنّ الثّقل أمر طبيعيّ والمشي مباح فلا يصلحان لإضافة الضّمان إليهما ، فيضاف إلى الشّرط لأنّ صاحبه متعدّ لأنّ الضّمان فيما إذا حفر في غير ملكه بخلاف ما إذا أوقع نفسه .



القسم الثّالث : شرط له حكم الأسباب :



وهو شرط حصل بعد حصوله فعل فاعل مختار غير منسوب ذلك الفعل إلى الشّرط كما إذا حلّ قيد صيد حتّى نفر لا يضمن عند الحنفيّة خلافاً لمحمّد ، فإنّ الحلّ لمّا سبق النّفور الّذي هو علّة التّلف صار كالسّبب فإنّه يتقدّم على صورة العلّة والشّرط يتأخّر عنها .



القسم الرّابع : شرط اسماً لا حكماً :



وهو ما يفتقر الحكم إلى وجوده ولا يوجد عند وجوده ، فمن حيث التّوقّف عليه سمّي شرطاً ، ومن حيث عدم وجود الحكم عنده لا يكون شرطاً حكماً .



ويفهم ممّا ذكره فخر الإسلام أنّه عبارة عن أوّل الشّرطين اللّذين يضاف إلى آخرهما الحكم فإنّ كلّ حكم تعلّق بشرطين فإنّ أوّلهما شرط اسماً لا حكماً ، لأنّ حكم الشّرط أن يضاف الوجود إليه وذلك مضاف إلى آخرهما فلم يكن الأوّل شرطاً حكماً بل اسماً .



القسم الخامس : شرط هو بمعنى العلامة الخالصة :



وذلك كالإحصان في باب الزّنا وإنّما كان الإحصان علامةً لأنّ حكم الشّرط أن يمنع انعقاد العلّة إلى أن يوجد الشّرط وهذا لا يكون في الزّنا بحال .



لأنّ الزّنا إذا وجد لم يتوقّف حكمه على إحصان يحدث بعده ، لكنّ الإحصان إذا ثبت كان معرّفاً لحكم الزّنا فأمّا أن يوجد الزّنا بصورته فيتوقّف انعقاد علّة على وجود الإحصان فلا يثبت أنّه علامة وليس بشرط فلم يصلح علّةً للوجود ولا للوجوب ولذلك لم يجعل له حكم العلل بحال .



ولذلك لا يضمن شهود الإحصان إذا رجعوا على حال أي سواء رجعوا وحدهم أم رجعوا مع شهود الزّنا .



ما يختصّ به الشّرط الجعليّ بقسميه المعلّق والمقيّد :



يشترط لصحّة التّعليق أمور منها :



أن يكون المعلّق عليه أمراً معدوماً على خطر الوجود أي متردّداً بين أن يكون وأن لا يكون، وأن يكون أمراً يرجى الوقوف على وجوده ، وأن لا يوجد فاصل أجنبيّ بين الشّرط والجزاء. وأن يكون المعلّق عليه أمراً مستقبلاً بخلاف الماضي فإنّه لا مدخل له في التّعليق. وأن لا يقصد بالتّعليق المجازاة فلو سبّته بما يؤذيه فقال إن كنت كما قلت فأنت طالق تنجّز الطّلاق سواء كان الزّوج كما قالت أو لم يكن لأنّ الزّوج في الغالب لا يريد إلاّ إيذاءها بالطّلاق ، وأن يوجد رابط حيث كان الجزاء مؤخّراً وإلاّ تنجّز ، وأن يكون الّذي يصدر منه التّعليق مالكاً للتّنجيز أي قادراً على التّنجيز وهذا الأمر فيه خلاف .



ما يختصّ به الشّرط المقيّد :



يختصّ الشّرط المقيّد بأمرين :



الأوّل : كونه أمراً زائداً على أصل التّصرّف . فقد صرّح الزّركشيّ في قواعده بأنّ الشّرط ما جزم فيه بالأصل - أي أصل الفعل - وشرط فيه أمراً آخر .



الثّاني : كونه أمراً مستقبلاً ويظهر ذلك ممّا قاله الحمويّ في حاشيته على ابن نجيم : أنّ الشّرط التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة .



هذا والفرق بين شرط التّعليق وشرط التّقييد كما ذكر الزّركشيّ أنّ التّعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته كإن وإذا ، والشّرط ما جزم فيه بالأصل وشرط فيه أمراً آخر .



وقال الحمويّ : وإن شئت فقل في الفرق إنّ التّعليق ترتيب أمر لم يوجد على أمر يوجد بإن أوإحدى أخواتها والشّرط التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة .



ما يعرف به الشّرط :



يعرف الشّرط بصيغته بأن دخل في الكلام حرف من حروف الشّرط فكان الفعل الّذي دخل عليه شرطاً ، وصيغه كما ذكر الآمديّ في الإحكام كثيرة وهي إن الخفيفة ، وإذا ، ومن، وما ، ومهما ، وحيثما ، وأينما ، وإذ ما ، وأمّ هذه الصّيغ " إن " الشّرطيّة .



ويعرف الشّرط أيضاً بدلالته أي بالمعنى بأن يكون الأوّل أي من الكلام سبباً للثّاني كقوله : المرأة الّتي أتزوّج طالق ثلاثاً ، فإنّه مبتدأ متضمّن لمعنى الشّرط . والأوّل يستلزم الثّاني ألبتّة دون العكس ، لوقوع الوصف - وهو وصف التّزوّج - في النّكرة فيعمّ .



ولو وقع الوصف في المعيّن كما في قوله : هذه المرأة الّتي أتزوّجها طالق لما صلح دلالةً على الشّرط ، لأنّ الوصف في المعيّن لغو فبقي قوله : هذه المرأة طالق فيلغو في الأجنبيّة ، ونصّ الشّرط يجمع المعيّن وغيره حتّى لو قال إن تزوّجت هذه المرأة أو امرأةً طلقت إذا تزوّج بها .



الأثر المترتّب على تعليق الحكم بالشّرط :



يذكر الأصوليّون مسألةً هامةً وهي أنّ تعليق الحكم بالشّرط هل يمنع السّبب عن السّببيّة أو يمنع الحكم عن الثّبوت فقط لا السّبب عن الانعقاد ، ولا يقع شيء عند وجود الشّرط .



التّخصيص بالشّرط :



الشّرط من المخصّصات المتّصلة ومن أحكامه أنّه يخرج من الكلام ، ما لولاه لدخل فيه ، وتفصيله في الملحق الأصوليّ .



الاستدلال بمفهوم الشّرط :



تعليق الحكم على الشّرط بكلمة " إن " أو غيرها من الشّروط اللّغويّة كما في قوله تعالى : { وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .



فيه أربعة أمور :



الأوّل : ثبوت المشروط عند ثبوت الشّرط .



الثّاني : دلالة " إن " عليه .



الثّالث : عدم المشروط عند عدم الشّرط .



الرّابع : دلالة " إن " عليه .



فالثّلاثة الأول لا خلاف فيها ، وأمّا الأمر الرّابع وهو دلالة " إن " على عدم المشروط عند عدم الشّرط فهو محلّ الخلاف وتفصيله في الملحق الأصوليّ .



والأمر المعلّق بالشّرط يقتضي التّكرار كما في قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } يقتضي تكرّر المأمور به عند تكرّر شرطه بناءً على القول بأنّ الأمر المطلق يقتضي التّكرار.



وأمّا على القول بأنّ الأمر المطلق لا يقتضي التّكرار ولا يدفعه ففي كونه يقتضي التّكرار هنا من جهة اللّفظ لا من جهة القياس أو لا يقتضيه لا من جهة اللّفظ ولا من جهة القياس أو لا يقتضيه من جهة اللّفظ ويقتضيه من جهة القياس خلاف وينظر في الملحق الأصوليّ .



أثر الشّرط الجعليّ التّعليقيّ على التّصرّفات :



يظهر أثر الشّرط الجعليّ التّعليقيّ في التّصرّفات مثل الإجارة والبيع والخلع والصّلح والقسمة والمزارعة والمساقاة ، والمضاربة والنّكاح ، والإبراء والوقف ، والحجر والرّجعة



أثر الشّرط التّقييديّ على التّصرّفات :



إذا قيّد التّصرّف بشرط فلا يخلو هذا الشّرط إمّا أن يكون صحيحا وإمّا أن يكون فاسداً أو باطلاً .



فإن كان الشّرط صحيحًا كما لو اشترط في البقرة كونها حلوباً فالعقد جائز لأنّ المشروط صفة للمعقود عليه أو الثّمن ، وهي صفة محضة لا يتصوّر انقلابها أصلاً ولا يكون لها حصّة من الثّمن بحال . وإن كان الشّرط باطلاً أو فاسداً كما لو اشترى ناقةً على أن تضع حملها بعد شهرين كان البيع فاسداً .



قال في الفتاوى الهنديّة : وجملة ما لا يصحّ تعليقه بالشّرط ويبطل بالشّروط الفاسدة ثلاثة عشر: البيع والقسمة والإجارة والرّجعة والصّلح عن مال والإبراء عن الدّين والحجر عن المأذون وعزل الوكيل في رواية شرح الطّحاويّ وتعليق إيجاب الاعتكاف بالشّروط والمزارعة والمعاملة والإقرار والوقف في رواية .



هذا وقد ذهب الحنفيّة وهم الّذين يفرّقون بين الفساد والبطلان إلى أنّ الشّرط التّقييديّ ثلاثة أقسام : صحيح وفاسد وباطل .



وذهب غيرهم من الفقهاء وهم الّذين لا يفرّقون بين الفساد والبطلان ويقولون : إنّهما واحد إلى أنّه قسمان : صحيح وباطل أو صحيح وفاسد .



الشّرط الصّحيح :



أ - ضابطه :



ضابطه عند الحنفيّة : اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو ما يلائم مقتضاه أو اشتراط ما ورد في الشّرع دليل بجواز اشتراطه أو اشتراط ما جرى عليه التّعامل .



وضابطه عند المالكيّة : اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه .



وضابطه عند الشّافعيّة : اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً مشروعةً للعاقد أو اشتراط العتق لتشوّف الشّارع إليه . وضابطه عند الحنابلة : اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو يؤكّد مقتضاه أو اشتراط ما أجاز الشّارع اشتراطه أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً للعاقد ، وفيما يلي تفصيل ذلك :



ب - أنواعه :



النّوع الأوّل : اشتراط صفة قائمة بمحلّ التّصرّف وقت صدوره وهذا النّوع متّفق على جوازه عند الفقهاء ، فإن فات هذا الشّرط يكون للمشتري الخيار لفوات وصف مرغوب فيه كاشتراط كون البقرة المشتراة حلوباً .



النّوع الثّاني : اشتراط ما يقتضيه العقد وجوازه أيضاً محلّ اتّفاق عند الفقهاء لأنّه بمثابة تأكيد ، ومن أمثلته ما لو اشترط في الشّراء التّسليم إلى المشتري فإنّ البيع يصحّ لأنّ هذا الشّرط من مقتضيات العقد ، ومنها أيضاً اشتراط الرّدّ بالعيب وردّ العوض فإنّها أمور لازمة لا تنافي العقد بل هي من مقتضياته .



النّوع الثّالث : اشتراط ما يلائم مقتضى العقد وهذه عبارة الحنفيّة .



قال صاحب البدائع فهذا لا يقتضيه العقد ولكنّه يلائم مقتضاه فهو لا يفسد العقد وإنّما هو مقرّر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكّد إيّاه فيلحق بالشّرط الّذي هو من مقتضيات العقد .



وعبارة المالكيّة اشتراط ما يلائم مقتضى العقد ولا ينافيه .



وعبارة الشّافعيّة والحنابلة اشتراط ما لا يقتضيه إطلاق العقد لكنّه يلائمه ومحقّق مصلحةً للعاقد ومثاله ما لو باع على أن يعطيه المشتري بالثّمن رهناً أو كفيلاً والرّهن معلوم والكفيل حاضر جاز ذلك استحساناً عند الحنفيّة وهو جائز أيضاً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .



النّوع الرّابع : اشتراط ما ورد في الشّرع دليل بجوازه .



النّوع الخامس : اشتراط ما جرى عليه التّعامل بين النّاس وقد ذكر هذا النّوع الحنفيّة سوى زفر، وهو ممّا لا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضاه لكن للنّاس فيه تعامل .



ومثاله إذا اشترى نعلاً على أن يحذوها البائع أو جراباً على أن يخرزه له خفّاً فإنّ هذا الشّرط جائز لأنّ النّاس تعاملوا به في البيع كما تعاملوا بالاستصناع فسقط القياس بعدم الجواز بتعامل النّاس .



النّوع السّادس : اشتراط البائع نفعاً مباحاً معلوماً ، وهذا عند الحنابلة ومن أمثلته ما لو باع داراً واشترط على المشتري أن يسكنها شهراً .



الشّرط الفاسد أو الباطل :



هو ضربان : أحدهما : ما يفسد العقد ويبطله ، وثانيهما : ما يبقى التّصرّف معه صحيحاً. الضّرب الأوّل : ما يفسد العقد ويبطله .



أ - ضابطه :



ضابط هذا الضّرب عند الحنفيّة : اشتراط أمر يؤدّي إلى غرر غير يسير أو اشتراط أمر محظور أو اشتراط ما لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه ولا يلائم مقتضى العقد ولا ممّا جرى عليه التّعامل بين النّاس ولا ممّا ورد في الشّرع دليل بجوازه . وضابطه عند المالكيّة : اشتراط أمر محظور أو أمر يؤدّي إلى غرر أو اشتراط ما ينافي مقتضى العقد .



وضابطه عند الشّافعيّة : اشتراط أمر لم يرد في الشّرع أو اشتراط أمر يخالف مقتضى العقد أو اشتراط أمر يؤدّي إلى جهالة .



وضابطه عند الحنابلة : اشتراط عقدين في عقد أو اشتراط شرطين في عقد واحد أو اشتراط ما يخالف المقصود من العقد .



ب - أنواعه :



لهذا الضّرب سبعة أنواع تؤخذ من ضوابطه :



النّوع الأوّل : اشتراط أمر يؤدّي إلى غرر غير يسير ، وهذا النّوع ذكره الحنفيّة والمالكيّة . ومثاله عند الحنفيّة ما لو اشترى ناقةً على أنّها حامل لأنّه يحتمل الوجود والعدم ولا يمكن الوقوف عليه للحال فكان في وجوده غرر فيوجب فساد البيع .



ومثّل له المالكيّة بعسب فحل يستأجر على إعقاق الأنثى حتّى تحمل فلا يصحّ لما فيه من الجهالة ولأنّه يؤدّي إلى غبن صاحب الأنثى إن تعجّل حملها وإلى غبن صاحب الفحل إن تأخّر الحمل . النّوع الثّاني : اشتراط أمر محظور .



النّوع الثّالث : اشتراط أمر يخالف الشّرع .



النّوع الرّابع : اشتراط ما يخالف أو يناقض مقتضى العقد أو ينافي المقصود منه ومثاله ما لو باع داراً بشرط أن يسكنها مدّةً بطل البيع ، أو شرط أن لا يبيعها . لم يصحّ ، أو تزوّج امرأةً على أن لا تحلّ له لم يصحّ النّكاح لاشتراط ما ينافيه .



النّوع الخامس : اشتراط ما يؤدّي إلى جهالة ، ومن أمثلة هذا النّوع ما لو باع شيئاً بثمن إلى نتاج النّتاج فهذا البيع لا يصحّ لما فيه من الجهالة في الأجل .



النّوع السّادس : اشتراط أحد المتعاقدين على صاحبه عقداً آخر أو اشتراط البائع شرطاً يعلّق عليه البيع ومثاله كما في كشّاف القناع ما لو اشترط عليه سلفاً أي سلماً أو قرضاً بيعاً أو إجارةً أو شركةً أو صرف الثّمن أو صرف غيره أو غير الثّمن فاشتراط هذا الشّرط يبطل البيع كما صرّح الحنابلة لكونه من قبيل بيعتين في بيعة المنهيّ عنه .



والنّهي يقتضي الفساد وكقوله بعتك إن جئتني بكذا أو بعتك إن رضي فلان فلا يصحّ البيع لأنّ مقتضى البيع نقل الملك حال التّبايع والشّرط هنا يمنعه .



النّوع السّابع : اشتراط ما لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو للمشتري وليس ممّا جرى به التّعامل بين النّاس نحو ما إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ثمّ يسلّمها إليه أو أرضاً على أن يزرعها سنةً أو دابّةً على أن يركبها شهراً أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً أو على أن يقرضه المشتري قرضاً أو على أن يهب له هبةً أو يزوّج ابنته منه أو يبيع منه كذا ونحو ذلك أو اشترى ثوباً على أن يخيطه البائع قميصاً أو حنطةً على أن يطحنها ونحو ذلك .



فالبيع في هذا كلّه فاسد كما صرّح الحنفيّة لأنّ زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون رباً لأنّها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الرّبا والبيع الّذي فيه الرّبا أو الّذي فيه شبهة الرّبا فاسد .



الضّرب الثّاني من ضربي الشّرط الفاسد :



هو ما يبقى التّصرّف معه صحيحاً إمّا لأنّ المشترط أسقطه أو يبقى التّصرّف معه صحيحاً سواء أسقطه المشترط أو لم يسقطه .



وبهذا يتبيّن أنّ هذا الضّرب قسمان :



أحدهما : ما يحكم معه بصحّة التّصرّف إذا أسقطه المشترط ، وقد ذكره المالكيّة في أقسام الشّرط الباطل . وضابطه عندهم اشتراط أمر يناقض المقصود من البيع أو يخلّ بالثّمن فيه أو يؤدّي إلى غرر في الهبة ، فأنواعه على هذا ثلاثة :



النّوع الأوّل : اشتراط أمر ينافي المقصود من البيع كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أو لا يهب ، ونحو ذلك فإنّ هذا الشّرط إذا أسقطه المشترط فإنّ البيع يصحّ .



النّوع الثّاني : اشتراط أمر يخلّ بالثّمن بأن يؤدّي إلى جهالة فيه بزيادة إن كان شرط السّلف من المشتري أو نقص إن كان من البائع كبيع وشرط سلف من أحدهما لأنّ الانتفاع بالسّلف من جملة الثّمن أو المثمّن وهو مجهول فهذا الشّرط إن حذفه المشترط صحّ العقد .



النّوع الثّالث : اشتراط أمر يؤدّي إلى غرر ومثاله في الهبة ما لو دفع إلى آخر فرساً ليغزو عليه سنين وشرط الواهب أن ينفق الموهوب له عليه أي الفرس في تلك السّنين ثمّ تكون الفرس ملكاً للمدفوع له فلا يجوز ذلك للغرر .



القسم الثّاني : ما يحكم معه بصحّة التّصرّف سواء أسقطه المشترط أو لم يسقطه .



وهذا القسم يتناول الشّروط الباطلة الّتي تسقط ويصحّ معها التّصرّف عند الحنفيّة والشّروط الباطلة الّتي يصحّ معها التّصرّف عند المالكيّة والشّروط الفاسدة الّتي يصحّ معها التّصرّف عند الشّافعيّة والحنابلة ، وقد سبقت ضوابط ذلك .



وأنواعه ما يأتي :



النّوع الأوّل : ذكره الحنفيّة وهو اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضاه ولم يرد شرع ولا عرف بجوازه وليس فيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه من أهل الاستحقاق . ومثاله كما في البدائع لو شرط أحد المزارعين في المزارعة على أن لا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشّرط باطل . لأنّ هذا الشّرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجب الفساد وهذا لأنّ فساد البيع في مثل هذه الشّروط لتضمّنها الرّبا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض ولم يوجد في هذا الشّرط لأنّه لا منفعة فيه لأحد إلاّ أنّه شرط فاسد في نفسه لكنّه لا يؤثّر في العقد فالعقد جائز والشّرط باطل .



النّوع الثّاني : ذكره المالكيّة وهو اشتراط البراءة من العيوب أو من الاستحقاق ، فإذا باع عرضاً أو حيواناً على البراءة من العيوب ثمّ اطّلع المشتري على عيب قديم فيه كان له ردّه ولا عبرة بشرط البراءة .



النّوع الثّالث : اشتراط ما يخالف أو ينافي مقتضى العقد دون الإخلال بمقصوده وهذا النّوع ذكره المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .



ومن أمثلته عند المالكيّة ما لو اشترط ربّ الوديعة على المودع ضمانها فلا ضمان عليه إذا تلفت في محلّ لا ضمان عليه فيه ، لأنّ يد المودع يد أمانة فلا يضمن إلاّ بالتّعدّي الوديعة من الأمانات فلا يضمن إذا تلفت في هذه الحالة فيلغى الشّرط وتصحّ الوديعة .



ومن أمثلته عند الشّافعيّة ما لو قال : أعمرتك هذه الدّار سنةً فعلى الجديد لو قال مع قوله : أعمرتكها فإذا متّ عادت إليّ أو إلى وارثي فكذا هي هبة وإعمار صحيح في الأصحّ وبه قطع الأكثرون كما في الرّوضة فيلغو ذكر الشّرط .



ومن أمثلته عند الحنابلة ما لو اشترط أن لا خسارة عليه أو شرط أنّه متى نفق المبيع وإلاّ ردّه فهذا الشّرط لا يبطل البيع .



النّوع الرّابع : اشتراط أمر يؤدّي إلى جهالة أو أمر غير مشروع كما لو باع بقرةً وشرط أن تدرّ كلّ يوم صاعًا فإنّ ذلك لا يصحّ لعدم القدرة عليه ولعدم انضباطه .