بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

طرق إصلاح نظام التحضير

مجلة المحاماة
السنة العاشرة - 1929، 1930

بحث في طرق إصلاح نظام التحضير وتعميمه أمام القضاء الأهلي الجزئي والكلي والاستئنافي

ترمي قوانين المرافعات إلى إيصال الحقوق لأصحابها بأسهل الطرق وأسرع والإجراءات وأقل المصاريف هذه غاية المرافعات ورغبة المتقاضين وواجب المشرع.
وإذا كانت فكرة الإصلاح مقصورة الآن على إعداد نظام للتحضير يهيئ للدعوى سبيلها حتى تحال على المرافعات صالحة لها ممهدة للأحكام صدورها فسنبين السبيل الذي نراه في هذه المرحلة الأولى من مراحل الإجراءات أوفى بالغرض وآكد في النتيجة.
نعم لن تكون لهذه المرحلة وحدها كل القوة التي تكون لها لو أن الإصلاح جاء عامًا شاملاً حيث نرى عيوب قانون المرافعات كثيرة ووجوه النقص فيه متعددة لكنه مع ذلك أسٍ قوي مكين لا يستطيع قانون أن يؤدي وظيفته بدونه ولا يقوى على تحقيق غرضه إذا لم يقم هذا الدور منه على أساس متين.
والبحث يدعونا إلى تقديم كلمة موجزة عن مشروع لجنة الإصلاح.
اطلعت على مشروع هذا القانون بجريدة الأهرام الصادرة في 10 مارس سنة 1927 فوجدته ينقسم إلى ثلاثة أبواب.
الباب الأول من المادة الأولى إلى المادة (15): هو صورة من قانون التحضير الحالي مع تعديل بسيط في مواده فيما يختص بالغرامة وإضافة فقرة على المادة التاسعة توجب تحويل قضايا على كل جلسة بقدر ما تستطيع المحكمة نظره فيها وكذلك إضافة المادة (15) التي تنص على أن ترفع قضايا معينة إلى المحكمة بدون تقديمها إلى قاضي التحضير وهي الدعاوى المستعجلة بنص القانون ودعاوى نزع الملكية ودعاوى استحقاق العقار الفرعية وكنا نأمل بعد أن ثبت بالعمل ضعف نتائج هذا القانون وتبين أن قوته على تلافي كثرة التأجيلات مستحيلة كنا نأمل أن نفكر اللجنة في إصلاحه إصلاحًا جديًا إن لم تضع لنا قانونًا جديدًا.
لقد أضافت إليه اللجنة بابًا ثانيًا يشتمل على المواد (16) و(17) و(18).
ثم بابًا ثالثًا هو باب الأحكام العامة ومن يتأمل يجد أن هذا الباب بقطع النظر عن تتابع المواد وتتالي الأبواب مستقل قائم بذاته جاءت أحكامه في مجموعها شبيهة بالتعليمات الإدارية بعيدة كل البعد عن النصوص التشريعية.
إن طبيعة قانون التحضير بحالته الحاضرة جدبة مستعصية مهما بذر المشرع فيها لن تجد بذوره من ماء الحياة الصحيحة ما يغذيها ونحن شديدو الحاجة إلى قانون صحيح الجسم خصيب التربة يحوط الدعوى بما يضمن الإخلاص في تحضيرها ويبعث في الإجراءات حياة جديدة بأن يكل للقاضي من أمرها بقدر ما ينتزع من الخصوم حرية الخطأ في إدارتها وسياسة التسويف والمماطلة في السير بها هذه خطتنا في الإصلاح ندل الآن على طريقة تحقيقها ولنبدأ بالقضاء الكلي نتكلم فيه.
أولاً: عما يجب اتباعه من الإجراءات بمجرد تقديم الدعوى إلى المحكمة حتى جلسة التحضير.
ثانيًا: جلسة التحضير نفسها:
1 - قاضٍ واحد هو رئيس الدائرة أو أحد أعضائها الذي يقوم فيها بتحضير قضايا الدائرة.
2 - وظيفة هذه الجلسة وبيان اختصاص القاضي الذي يوكل إليه أمرها.
3 - إحالة الدعوى بعد استيفاء تحضيرها على جلسات المرافعات.
ثالثًا: مشروع قانون بهذا النظام:

الإجراءات التي يجب اتباعها من يوم تقديم الدعوى إلى المحكمة حتى جلسة التحضير

من أهم ما يجب لفت النظر إليه أن تكون إدارة الدعوى من يوم تقديمها إلى أن يتم الفصل فيها بيد قاضي الموضوع، بهذا المبدأ نضمن حسن تنفيذ قوانين المرافعات ونصل إلى تحقيق الغرض منها وأول عمل يستوجب تدخل القاضي في أمرها هو تعيين جلساتها وتحديد العدد الذي يقدم منها لكل جلسة من تلك الجلسات لما يقتضيه الأمر من خبرة وحكمة وإذا كانت أولى هذه الجلسات هي جلسة التحضير فلننظر ما إذا أريد بها بحسب مشروع القانون الجديد.
إن هذا المشروع أغفل أمر تحديدها ولم يتعرض له وذلك معناه ترك الأمر كما كان وجرى العمل أن يقوم قاضي التحضير بنفسه بهذه المهمة وذلك عُرف جميل لولا اضطرار القضاة إلى تأديته أداءً آليًا يترتب عليه أن يأتي التحديد غير منتج، إن هذه مهمة من أصعب المهمات تتطلب فطنة وذكاء وحسن تقدير وتقتضي درس القضية درسًا وافيًا ومعرفة المستندات المراد إعدادها معرفة دقيقة وهو ما لا يتيسر للقاضي إلا إذا ألزمنا المدعي أن يبين في عريضة دعواه جميع وجوه الإثبات التي يعتمد عليها في تأييد مدعاة وأن يذكرها دليلاً دليلاً بالدقة والوضوح (تراجع المادة (1) من المشروع الملحق بهذه المذكرة).
بغير ذلك تأتي جداول هذه الجلسات مرتبكة وغير مرتبة ترتيبًا مقصودًا وليس لها ضابط معين وتمتلئ الجلسات بقضايا مختلفة الوصف كثيرة العدد لم يتمكن الخصوم أن يجهزوا لها أوراقهم ومستنداتهم وذلك ما يضطر القاضي مهما وسعت حيلته أن يؤجل جزءًا كبيرًا منها ولن يكون التأجيل إلا إلى جلسات بعيدة لأن جميع الجلسات القريبة تكون مشحونة بالقضايا وليس في تحميل جداولها بأكثر مما فيها إلا زيادة الأمر ارتباكًا… ولكثرة التأجيلات حد تنفذ عنده حيلة قضاة التحضير فيضطرون في النهاية إلى أن يحيلوا القضايا على جلسات المرافعات ولو كانت غير ناضجة التحضير ومثل جلسة التحضير جلسة المرافعات بل هي أشد في ارتباكها وأدهى.. بجداولها قضايا قديمة حددت المحكمة هذه الجلسة لنظرها بقرار تأجيل وقضايا جديدة أحالها عليها قاضي التحضير منها المحضرة ومنها غير ناضجة التحضير وأخرى جاءت مباشرةً عن طريق المحضرين والخصوم كالقضايا المستعجلة وغيرها (المادة (15) من مشروع القانون)… فهل ادعى إلى الارتباك من هذا النظام ؟! إن اشتراك قضاة الموضوع وقضاة التحضير ثم المحضرين والخصوم إن اشتراك هؤلاء جميعًا في إحالة القضايا على الجلسات هو الذي يشل حركة المحكمة ولا يساعد القضاة مهما كان اجتهادهم على الوصول إلى غاياتهم.
أيكفي بعد ذلك أن يُضاف على المادة التاسعة فقرة تقضي بأنه يجب على القاضي ألا يحيل على كل جلسة من القضايا إلا العدد الذي تستطيع المحكمة نظره بدون أن تضطر إلى تأجيل بعضه لضيق الوقت لتكون مرهمًا شافيًا لهذا الجرح الخطير.
إن ذلك لن يغير من الواقع شيئًا.
أن القضاة يعلمون ذلك ولا يجهلونه وهم يبذلون غاية جهدهم في أن تكون قرارات الإحالة حكيمة ما استطاعوا ولكن يتضاءل اجتهادهم أمام فساد النظام وتذهب كل محاولتهم هباءً.
أما عن الجلسة الأولى في المحاكم الجزئية والاستئنافية فلم يأتِ المشرع أيضًا بجديد وذلك معناه ترك أمر هذا التحديد بيد المحضرين والخصوم.
إن تحديد هذه الجلسة وغيرها من الجلسات يجب ألا يكون عملاً ميكانيكيًا فما نشأت الفوضى وما ارتبكت جلسات المحاكم إلا بسبب إهمال هذا التحديد.
وفي اعتقادنا أن الإصلاح لن يكون منتجًا إلا إذا انتزعنا سلطة الخصوم والمحضرين في أمر هذا التحديد وإن نكل ذلك إلى قاضي الموضوع وما كان منها بيد قاضي التحضير نتوصل إلى جعله بيد قضاة الموضوع بأن يكون واحد منهم (هو رئيس الدائرة أو أحد أعضائها) المنوط به تحديد قضايا دائرته في جلسة خاصة للتحضير (وهناك أسباب أخرى ستأتي في باب خاص تستوجب أن يقوم بالتحضير أحد قضاة الموضوع).
بهذا نجعل تعيين الجلسات وتحديد عدد ما يقدم إليها من القضايا بيد واحدة هي يد قاضي الموضوع وبهذا التوحيد في العمل نضمن حسن سيره ونضمن محو التأجيلات التي يسببها ضيق الوقت من نظام الجلسات.
ولنبين الآن طريق العمل بمجرد تقديم عرائض الدعوى إلى المحكمة تحول في الحال على مختلف الدوائر.
ويقوم بعملية التحويل قلم الكتاب أو قلم يخصص لذلك وتنظيم هذا التحويل يكون بتخصيص كل دائرة بنوع معين من القضايا.. أو بنظر قضايا جهات معينة.. أو يكون التخصيص بحسب نمر القضايا فيقدم لكل دائرة عددًا منها بقدر ما يتقدم للأخرى.. أو بحسب الحروف الهجائية لأسماء الخصوم.
وهذا هو رأي حضرات المستشارين بمحكمة الاستئناف العليا بالقاهرة الذي بسطه بالنيابة عنهم للجنة الإصلاح المسيو سودان مكتفين به عن جلسات التوزيع.
وهو رأي عملي وجيه تسير عليه المحاكم النمساوية فلكل محكمة قلم خاص ومهمته استلام جميع ما يقدم للمحكمة وتوزيعه في نفس اليوم أو اليوم التالي على الأكثر على دوائرها وأقلامها المختلفة.
(تراجع محاضرة المسيو بيولا كازولي في المرافعات النمساوية وفيها أبدى إعجابه بهذا القلم وهي منشورة بمجلة مصر العصرية العدد 13 ليناير سنة 1913).
ومتى قدمت هذه العرائض إلى الدوائر يقوم رئيس كل دائرة منها بدارستها وعلى حاصل هذه الدراسة تحدد الجلسة الأولى (تراجع الفقرة الأولى من المادة الثانية من مشروع القانون الملحق بهذه المذكرة).
وفوق أن هذا التحديد لن يكون بعد عملاً ميكانيكيًا لأن أسامة إلمام القاضي بالدعوى وفهمه لموضوعها زيادة على معرفته حقيقة القضايا الأخرى المؤجلة إلى هذه الجلسة وهو ما يساعد على أن يأتي التحديد دقيقًا وتوزيع القضايا على الجلسات عادلاً فوق ذلك فإن الأخذ بهذا النظام يغنينا عن المادة (15), وهي الإضافة الجديدة بحسب مشروع لجنة الإصلاح على قانون قاضي التحضير والتي تقضي بأن ترفع القضايا الآتية إلى المحكمة مباشرةً بدون تقديمها إلى قاضي التحضير.
1 - الدعاوى المستعجلة بنص القانون.
2 - دعاوى نزع الملكية.
3 - دعاوى استحقاق العقار الفرعية.
لأنه إذا كانت طبيعة هذه القضايا تتنافر تنافرًا كليًا مع إحالتها على التحضير بحسب نظامه الحالي الذي يعطل سير الدعاوى من غير شك نوعًا ما والذي شرع اختصاصه لأغراض محدودة معينة ولم يشرع ليؤثر على إجراءات هذا النوع من القضايا التي لا يصح أن تسلك سبيل الدعاوى العادية فلن يكون في الأمر بحسب هذا النظام الجديد الذي نتقدم به داعيًا لهذا التحديد إذ ستعرض جميع عرائض الدعاوى على رئيس الدائرة فيحدد للمستعجل منها جلسة مرافعات وكذلك للقضايا التي تتوقف أهميتها على سرعة الفصل فيها وتقضي طبيعتها سرعة نظرها ولو أنها ليست مستعجلة بنص القانون وسيراعى بالطبع أنها لا تحتاج كغيرها من القضايا إلى تحضير (تراجع المادة (3) من المشروع الملحق بالمذكرة)..
هذا النوع الأخير من القضايا مع أنه سهل بسيط سوى نظام التحضير الحالي في الإجراءات بينه وبين أصعب القضايا وأكثرها تعقيدًا, فنرى قضية مبناها سند رسمي أو سند عرفي غير متنازع فيه أو كمبيالة تتعثر في إجراءاتها زمنًا طويلاً وتمر بنفس الأدوار التي تمر بها قضية ملكية عقارات متشعبة الأطراف ومترامية الذيول…، ونحن لا نستطيع الاعتراض على المشرع في أنه لم يجعلها مما نصت عليه المادة (15) الجديدة فترفع إلى المحكمة مباشرةً بدون تقديمها إلى قاضي التحضير إذ لا قدرة للشارع على تعيينها ولا مجال له في تحديدها.
وفي اعتقادنا أن ترك الأمر كله لفطنة القاضي وحسن تقديره أصوب وأضمن ولا نظن القضاة يدعون قضية تتخطى جلسة التحضير إلى جلسات المرافعات إلا إذا كانت ظروفها تدعو لذلك وطبيعتها تقتضيه ولأن عاقبة تسامحهم أو تهاونهم ما يلقونه أمامهم من قضايا غير ناضجة في جلسات المرافعات.
عيوب الشكل:
وليس ما قدمنا كل ما نستفيده من تدخل القاضي في أمر الدعوى وإدارته لحركتها بمجرد تقديمها فقد يتفق وجود خطأ في شكلها أو نقص أو سهو في بيان ما فيأمر بإصلاحه ونتجنب بذلك أمرًا قد كان يدعو إلى البطلان خصوصًا وقانون مرافعاتنا يعطي مريد التمسك بهذا الدفع سلاحًا حادًا إذ يسمح له بالتغيب ثم بالتمسك بدفعه في المعارضة أو الاستئناف (المادة (138) مرافعات أهلي)، وهكذا بينما تكون القضية قد اقتربت من نهايتها إذا بها يتهدم بنيانها وينهار كل ما اتخذ في سبيلها من أعمال وإجراءات.
اختصاص المحكمة:
كذلك يتحقق القاضي من اختصاص المحكمة بنظر الدعوى قبل أن يحدد لها جلسة وقبل أن يأمر بالإعلان, ذلك مبدأ المرافعات الحديثة يوجب على المحاكم من تلقاء نفسها مراعاة مسائل الاختصاص، ويوجب عليها كذلك متى تبين لها عدم اختصاصها إحالة الدعوى على المحكمة صاحبة الاختصاص فتصل المحاكم بذلك إلى القيام بالعدالة كما ينبغي إذ تصحح للمتقاضين أعمالهم وتساعدهم على نيل حقوقهم من غير أن تؤاخذهم بما نسوا أو أخطأوا… على عكس هذا المبدأ جاءت قوانيننا (المواد (134) و(25) مرافعات أهلي)، فليس لمحاكمنا أن تحكم من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص إلا إذا كان ذلك ناشئًا عن عدم وظيفتها في الحكم…، فإن اعترض على اختصاصها وقضت بذلك لا تستطيع إحالة الدعوى على المحكمة المختصة إلا باتفاق الخصوم.. !! (25 أهلي).
فماذا أدخل المشروع على هذه القواعد الفاسدة من التعديلات ؟
في الدعاوى التي تنظر أمام المحاكم الجزئية والاستئناف العليا بقي الأمر فيها كما كان بل أن المواد (16) و(17) و(18) من المشروع الجديد الخاصة بهذه المحاكم فوق إغفالها أمر الاختصاص لا تشير مطلقًا إلى إدخال نظام التحضير أمام هذه المحاكم.
فإذا قضى نحس الطالع على المدعي أمامها بأن يرفع قضية إلى محكمة منها لم تكن مختصة فأبسط ما يفعله المدعى عليه غير المتعنت هو أن يدفع بعدم الاختصاص ولا سلطة للقاضي في إحالة القضية على المحكمة المختصة بدون إعلانات ولا رسوم جديدة إلا إذا اتفق الخصمان !! وهل هذا مقام اتفاق !؟ النتيجة دفع رسوم جديدة لإعلانات وإجراءات جديدة أمام محكمة أخرى قد تكون أيضًا غير مختصة.
أما المتعنت فيتغيب حتى يصدر عليه حكم غيابي ويبدأ في تنفيذه فلا يعارض أو يعارض ولا يحضر ثم يستأنف ويدفع بعدم الاختصاص !! النتيجة لا يستطيع تحملها المشرع، مصاريف دعوى استوت ونضجت في أهم أدوارها ومجهودات وسعى أشهر أو سنين ضاعت كلها على المدعي هباءً ووجب عليه تجديد دعواه.
أما في الدعاوى الكلية فلم يأتِ المشرع بجديد إذ الفقرة الخامسة من المادة التاسعة هي بحرفها أحد نصوص قانون التحضير الحالي (لقاضي التحضير في حالة اتفاق الخصوم الحكم في الدفع بعدم الاختصاص)، ولن يتفق الخصوم…. والنتيجة ضم الدفع على الموضوع لتفصل فيهما المحكمة (المادة 10 تحضير) بل الأدهى من ذلك والأمر أنه يجوز إبداء هذا الدفع لأول مرة أمام المحكمة دون تقديمه لقاضي التحضير (المادة 14 تحضير)، والمحكمة بدورها إن قضت بعدم اختصاصها لن تستطيع إحالة الدعوى على المحكمة صاحبة الأمر (25).
إن ما ينتاب المتقاضين من ضياع ما لهم ووقتهم وجهودهم بسبب عدم الفصل في هذا الدفع وغيره من الدفوع أثناء مرحلة التحضير يوجب علينا أن نحكم نظامنا فلا تصل الدعوى جلسة المرافعات إلا مطهره من كل ما يعرقل سيرها لأن هذه إن لازمتها تعمل على تأخير الفصل فيها وقد لا تزال فيها حتى تفنيها.
لكل ما تقدم نرى أن تعرض عرائض الدعاوى على رؤساء الدوائر ليدرسوها قبل أن يحددوا جلستها الأولى وقبل أن يأمروا بإعلانها ليتبينوا اختصاص المحكمة بنظرها وعدم خلو الخصوم عن الصفة فيها أو كونهم غير أهل للتقاضي وليتأكدوا عدم وجود خطأ في شكلها يدعو إلى البطلان و إلا أمروا بإصلاحه قبل السير بالدعوى.
فإن رأوا العريضة مستوفاة كل شيء حددوا الجلسة الأولى وأمروا بإشارة صغيرة على نفس العريضة قلم الكتاب بإعلانها للخصوم.
أما إن ظهر لهم غير ذلك ورأوا العريضة غير مستوفاة فعليهم أن يعرضوا الأمر على الدائرة بغرفة مشورتها وكذلك من غير حاجة لحضور أحد الخصوم لتقضي إما بتحديد الجلسة وإما برفض ذلك.
(تراجع المادة الثانية من المشروع الملحق بهذه المذكرة).
إننا نتوصل بهذا النظام إلى مساعدة المتقاضين وإرشادهم بتصحيح الأغلاط وبتجنب أسباب البطلان وسقوط الحقوق وبمنع الأضرار التي تنتج عن التمسك الواهي بأهداب النصوص خصوصًا وأن المطلع على أسرار المحاكم عندنا يجد أن مهارة المحامي منحصرة في أغلب الأحيان في البحث وراء مسائل المرافعات الدقيقة يتمسك بها في الوقت المناسب فيهدم دعوى خصمه ويفلت بذلك من سلطان القانون المدني وبدلاً من أن تصرف المحاكم وقتها في البحث في موضوع الحقوق تضطر في نظامنا الحاضر إلى البحث في أوجه البطلان والدفوع الفرعية المختلفة وعلى الخصوص أوجه الدفع بعدم الاختصاص.
ومما تحسن الإشارة إليه هنا أن لائحة ترتيب المحاكم الشرعية (مادة 104) أباحت للمحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص إن كان سببه أن القضية من خصائص محكمة أخرى أدنى منها أو أن الخصم لا يصح مخاصمته وغير ذلك وهو وجيه من بعض الوجوه ويستدل منه على أن فكرة المشرع تتجه الآن نحو إعطاء المحكمة حق الفصل في هذه المسائل من تلقاء نفسها.
إعلان الخصوم:
قوانيننا لا تبيح الإعلان إلا بواسطة المحضرين وتتجاهل كل الوسائل الأخرى كأنه لا يرجى منها فائدة قضائية أو كان استعمالها محال أن يحاط بضمانٍ كافٍ وقلة عدد المحضرين وكثرة أعمالهم قد تكفي وحدها في كثير من الأحوال لفوات الغرض من الدعوى أو لسقوط الحق بفوات الميعاد من قبل الإعلان.
ومندوبو المحضرين الذين شرعت وظيفتهم لتسهيل أعمال المحضرين فرض عليهم القانون اتخاذ إجراءات معينة إذا لم يراعِ كل إجراء منها وقد تستحيل مراعاته قد يفسد الدعوى ويستوجب البطلان.
هذه بعض آفات النظام الحالي ليس من قصدي هنا أن أشرحها فكل الذين اشتغلوا بالقضاء يعلمونها ولا يجهلون أن التقاضي أمام المحاكم أصبح أمنية المدين المماطل وغاية قد يسعى في بعض الظروف إليها لاعتقاده أن ذلك يستغرق وقتًا أوسع كثيرًا من مهلة يجود بها عليه الدائن، إنما واجبي أن أبين سبيل الإصلاح وأدل على طريق العمل الذي يكفل سرعة إيصال أوراق المرافعات للمتقاضين بما لا يخرج عن نظامنا الحالي ولا يتنافر معه.
قضت المادة الأولى من قانون المرافعات أن كل إعلان أو إخبار يقع من بعض الخصوم لبعضهم يكون بواسطة المحضرين بناءً على أمر المحكمة التابعة لها إلخ فوساطة المحضر لازمة حتمًا لإعلان أوراق المرافعات وإلا ما أمكن التمسك بها على الخصم المعلن وما جاز أن يترتب عليها أي أثر ما مثلاً الخطابات الموصى عليها المرسلة عن طريق البريد لا يعتمد عليها حتى لو كانت مستكملة لبيانات أوراق المحضرين ونحن وإن كنا نرى ضروريًا أن يكون إلى جانب المحضرين من يساعدهم في العمل كما سنبينه إلا أننا نؤيد من هذه المادة وجهة نظر المشرع في عدم إباحته للخصوم أن يتبادلوا الإعلانات وغيرها من أوراق المرافعات مباشرةً عن طريق البريد.
نعم نحن نعلم أن بلادًا غير قليلة تقر طريقة الإعلان بالبوستة وتستخدم أحيانًا كذلك التلغراف والتليفون وليس هذا فقط فإن قانوننا الأهلي له حظه وإن كان ضئيلاً في تقرير الإعلان بهذه الطريقة إذ أجازت المادة الخامسة من القانون نمرة (11) لسنة 1921, المتعلقة بتقييد أجور المساكن استعمال الخطابات الموصى عليها في بعض الأحوال وكذلك نص من بعده القانون الناسخ للقانون الأول على أحوال شتى يستعمل فيها الخطاب الموصى عليه استعمالاً قانونيًا صحيحًا، ولكن بالرغم من كل هذا نرى أن إدخال نظام الإعلان بالبريد كقاعدة لنا طفرة تأباها طبيعة العمل ولا يحتملها النظام الحالي.
إن الإصلاح لا يكون عن طريق نقل نظام أجنبي بجملته مهما ثبت نجاحه لأن طريق النقل محفوف بالمخاطر إنما ما لا خطر فيه ولا ضرر منه أن نتعلم عن القوانين الأجنبية ما يساعدنا على تهذيب قوانيننا على هداها فنعدل فيها أو ندخل عليها ما يبعث في مجموعها حياة جديدة من غير أن تتعارض نصوصها أو تتزعزع أركان وجهتها العامة.
إن قيام المحضرين بواجبهم كما ينبغي أصبح الآن مستحيلاً ولقد شعر المشرع بذلك من قبل فعالج الأمر بالمادة (11) التي تنص على أنه إذا اقتضى الحال إعلان أي ورقة إلى من يكون محله بعيدًا عن مسكن المحضر جاز للقاضي أن يعين أي شخص لتوصيل الورقة المراد إعلانها وجرت العادة أن يكون هذا الشخص مندوب المحضر وبصرف النظر عن الشروط التي يستلزمها القانون لصحة الإعلان بهذه الطريقة نرى أن الفكرة في إيجاد شخص إلى جانب المحضرين يساعدهم ويسهل عليهم أعمالهم وجيهة وقيمة ولكن إن صح فيما مضى أن يكون هذا الشخص مندوب المحضر لما كانت الأعمال التي تزيد عن طاقة المحضرين ويعهد بها إلى هؤلاء المندوبين قليلة واستثنائية فنحن نرى الآن وقد كثرت هذه الأعمال وتزايدت ضرورة أن يقوم بهذه المهمة إلى جانب المحضرين سعاة البريد.
نعم نحن لا نرى أن يتبادل الخصوم الإعلانات والأوراق مباشرةً عن طريق البريد ولكنا ننصح باستخدام البوستة استخدامًا جزئيًا دقيقًا بتكليف سعاتها عن طريق المحكمة أن يؤدوا عمل مندوبي المحضرين فيقوموا بتسليم أوراق المرافعات التي تكل المحكمة إليهم أمر إعلانها إلى المتقاضين.
وفوق أن هذا العمل لا يختلف في طبيعته عن عملهم ولا يقتضي إدخال الفكرة في نظامنا أي تعديل أو تغيير فإننا نصل بذلك إلى تحقيق النتائج التي وصلت إليها القوانين الأجنبية بتقريرها الإعلان بالبريد من طريق عملي آمن عاقبة وآكد نتيجة.
أنه يغلب أن يكون بالبلاد التي بها محاكم مكاتب للبريد فما الذي يمنع أن يمر عمالها بالمحكمة فيستلمون الأوراق التي يراد إعلانها لتوصيلها للمتقاضين ولضبط العمل يوقعون مثلاً على دفتر خاص به بيان كافٍ عن هذه الأوراق على أن يأتوا كذلك عند عودتهم بما يفيد أنهم أدوا هذه الأمانات إلى أهلها على أنه من السهل أن نضع نظامًا محكمًا يحوط العمل بما يضمن الإخلاص في إنفاذه والأمانة في الجري عليه.
إننا نصل بذلك إلى إعلان الأوراق بمجرد تقديمها للمحكمة إذ دورة السعاة يومية وخطة سيرهم معينة ومرورهم كل يوم على جميع أنحاء الدولة مؤكد بعكس المحضرين الذين مهما أكثرنا من عددهم مستحيل أن ينتقلوا إلا إذا تجمعت لديهم مئات الإعلانات والأوراق يعلنونها كلها في دورة واحدة وبحسب خطة السير التي يرسمونها.
إننا ندعو إلى الأخذ بهذا الرأي لنحقق غرضًا من أسمى أغراض المرافعات هو سرعتها ونتجنب بذلك حالة تؤدي غالبًا إلى بطلان جميع الإجراءات التي تمت وتذهب بالمال الذي أُنفق وبالوقت الذي مضى في عملها إدراج الرياح.
وإذا علمنا أن للمصاريف القضائية أمام المحاكم تعريفه ما تركت ورقة من أوراق المرافعات ولا عملاً من أعمالها إلا وضعت عليه رسمًا فادحًا وأن جزءًا كبيرًا من تلك المصاريف يذهب هباءً في أجور انتقال المحضرين ومندوبيهم من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية وفي بدل سفرياتهم مع أن أعمالهم من أولها إلى آخرها مشكوك بل مطعون في صحتها فكم يتوفر على الناس وعلى خزائن المحاكم من أموال ؟
كذلك ليس في فهم القانون على هذا الشكل قهر لألفاظه على غير معانيها ولا خروج بفكرة المشرع إلى غير ما وضعت له بل ذلك هو الحل العملي الذي تهدينا إليه مقارنة الشرائع ونستفيده من نتائج المشاهدات في منشآت القوانين الأجنبية.
بهذا النظام لا تحتاج القضية من يوم تقديمها إلى المحكمة إلى تحديد جلستها الأولى ثم إعلان الخصوم بها لأكثر من بضعة أيام.
موعد تقديم المستندات:
على الإثبات يتوقف الحكم في الدعوى فإذا لم يقدم الطالب جميع وسائل إثباته من مستندات وغيرها فإن المحكمة تضطر أن تمهله المرة بعد المرة والوقت بعد الوقت حتى يقدم ما لم يقدمه من قبل ولا يبعد عن الفكر أن تأجيل قضية كان يجب أن تنظر في جلسة محددة يجلب الفوضى في إدارة القضاء ويدخل البطء عليه ويضر بحقوق المتخاصمين الآخرين أن الخصوم يجب ألا يتركوا أحرارًا في تقديم مستنداتهم على حسب أهوائهم وفي المواعيد التي توافق أمزجتهم والواجب يقضي أن تقدم جميعها قبل أو جلسة.
ولقد عالجت لجنة الإصلاح الأمر في العبارة الأولى من المادة (16) من مشروعها فنص على أنه يجب على المدعي أمام المحاكم الجزئية وعلى رافع الاستئناف أن يودع مستنداته قبل أول جلسة تحدد لنظر الدعوى، أما المبدأ في ذاته فمعقول ومقبول جدًا ولكن هيهات أن يتحقق النص في العمل، أنه لا يكفي في نظرنا مجرد النص فإن ذلك يبقى غير ذي أثر إن لم يشرع القانون له من الضمانات ما يلزم لحسن التنفيذ، من أجل ذلك نرى أن يكون الزمن المعطى للمدعي كافيًا ليقدم فيه أوراقه ويحضر جميع وجوه أدلته كل هذا بدون تقتير في الوقت ولا إسراف فيه وإلا انقلب اليسر عسرًا على صاحب الحق وأصبحت المرافعات مرذولة ببطئها وتأخيرها.
ومن أجل ذلك أيضًا رأينا أن من واجب القاضي وحده دون الخصوم أو المحضرين تعيين الجلسات، بهذا نضمن أن يكون هذا الأجل منتجًا ونستطيع أن نجعل سير القضايا سريعًا ومحكمًا وتحضيرها عاجلاً والوصول إلى الحكم فيها قريبًا, وبفرض إهمال الخصوم بعد هذا الاحتياط نرى حتى لا يكون على المحكمة حرج في رفض مستند ذي أهمية في الدعوى أن نترك الأمر لتقديرها فإن وجدت عذر المدعي قويًا ورأت من مصلحة سير العدالة قبول المستند قضت بذلك و إلا فصلت في الدعوى على حاصل ما هو أمامها.
ولقد عرض المسيو سودان رأيًا يرمي إلى حجز المستندات بعد الفصل في الدعوى ابتدائيًا ويرى منع تسليمها للمتقاضين حتى يرفع الاستئناف ويتم الفصل فيه إن ذلك لهو التحكم بعينه في الخصوم إذ فيه سلب صريح لحريتهم واختيارهم وتعطيل لأوراقهم ومستنداتهم قد تتسبب لهم من وراءه أضرارًا بليغة.
إن المرافعات ضمانات تحمي المتقاضي من خصمه كما تحميه من تحكم القاضي أو خطئه ولا يغيبن عن المشرع أن القضاة أفراد كباقي الأفراد تختلف طريقتهم في الحكم والإدراك ولا بد لضمان حقوق المتقاضين من ضوابط وأصول يلزم القاضي باتباعها ويستطيع المتقاضي أن يحتمي بها، ضوابط معينة وأصول عادية تمحو الفوضى وتقف أمام الاجتهادات الذاتية التي تجول بخاطر القاضي وتمنعه من العمل برأيه وغرضه وتكفل للمتقاضين حريتهم وتحفظ لهم حقوقهم وتصير القضاء سمحًا كريمًا.

تتمة البحث المنشور في أواخر العدد الثاني
جلسة التحضير

قاضِ واحد هو رئيس الدائرة أو أحد أعضائها الذي يحضر قضايا الدائرة في هذه الجلسة.
إننا إذا قبلنا نظام التحضير باعتباره مفيدًا في ذاته ومنتجًا في تحضير القضايا فالواجب يقضي علينا أن نفكر في الأخذ به على شكل يلائمنا من غير أن نقيد أنفسنا بأي نظام أجنبي معين.
إن القانون الحالي يجعل التحضير أمام قاضٍ خاص فلو أريد تعميمه بحالته الحاضرة أمام المحاكم الجزئية ومحكمتي الاستئناف العليا كاد يكون الأمر مستحيلاً إذ لا يمكن أن نعين إلى جانب القاضي الجزئي قاضيًا للتحضير كذلك لا نرى أن تقتصر مهمة واحد من حضرات المستشارين وهم خيرة قضاتنا على التحضير.
نعم قد يتبادر إلى الذهن أن إيجاد قاضٍ خاص للتحضير يدعو إلى اهتمام هذا القاضي بواجبه ويفيده أيضًا من وجهة أنه يصبح أخصائيًا في عمله وللرد على هذه الفكرة اكتفى بذكر ما جاء بتقرير المستشار القضائي (سنة 1911 صـ 5 نسخة فرنسية)، وبمنشور وزارة الحقانية (المنشور بمجلة المحاماة 1 صـ 47).
(إن هذا النظام وإن يكن خفف من أعمال المحاكم الكلية نوعًا ما إلا أن التحضير طبقًا له بالرغم من وجوب إتمامه أمام القاضي المعين للتحضير لا يتم أمامه بالفعل وأن القضية تؤجل كثيرًا في هذا الدور كما تؤجل كثيرًا من بعد أمام المحكمة لاستيفاء التحضير).
ويظهر كذلك من منشور وزارة الحقانية المشار إليه أن قضاة التحضير مسؤولون عن عدم الاهتمام بأمور جمة هي التي تؤدي إلى هذه النتيجة اكتفي بالإشارة إلى بعضها.
أولاً: التساهل في مطالعة القضايا قبل الجلسة على وجه يكفي لتكوين فكرة من القضية يتسنى معها مناقشة الخصوم مناقشة تؤدي إلى تحديد النزاع أو تقريب مسافة الخلف بينهم.
ثانيًا: الإقلال من الوقت اللازم للتحضير إذ تبين من الإحصاء أن متوسط الوقت الذي تنظر كل قضية فيه في التحضير هو أربع دقائق فقط.
ثالثًا: تأجيل القضايا إلى أيام المواسم المعروفة من قبل وهو ما يجر إلى التأجيل الإداري ثم التأجيل العادي بعد ذلك.
رابعًا: التراخي في استطلاع رأي الطرفين من الخصوم في مدة التأجيل.
خامسًا: الامتناع عن توخي ما يلهم الخصوم أن مصلحتهم تنهض على تنقيص أمد النزاع.
سادسًا: إحالة القضايا على جلسة المرافعة قبل تقديم المستندات في جلسة التحضير وقبل فحصها بمعرفة القاضي والخصوم.
سابعًا: إغفال تطبيق بعض مواد القانون تطبيقًا دقيقًا.
حجج بالغة فهل تغني النذر ؟؟!
إذا كان النظام الحالي لا يحقق الغاية منه وإذا كان هو بذاته عقبة تحول دون تعميم نظام التحضير على الوجه الذي تقره أبسط مبادئ المرافعات الحديثة فلم لا نخرج عنه إلى نظام آخر يتمشى مع حاجتنا إلى قضاء سهل منتج سريع ؟
إن قانون التحضير الحالي لم يتكون بعد تكونًا تاريخيًا حتى يقال بأنه عزيز علينا نتألم لتغييره بل وضع في أيام محدودة وظروف معينة وأجبر المتقاضون على تعرفه واحترامه فكم يكون ارتياحهم إذا تعدل طبقًا لمصلحة العدالة وبنيت أسسه من جديد على قواعد تضمن وصول الحق إلى صاحبه بغير عناء كبير.
إننا نرى أن يقوم بتحير قضايا كل دائرة رئيسها أو أحد أعضائها في جلسة تخصص لذلك فما يتم تحضيره يحال على إحدى جلسات الدائرة المخصصة للمرافعات.
ويجب كذلك أن يكون للمحاكم الجزئية جلسة خاصة للتحضير تنظر فيها القضايا أمام القاضي الجزئي نفسه على أن يحيل ما يصبح صالحًا للمرافعة على جلساتها الخاصة - بهذا نستطيع تعميم نظام التحضير من طريق عملي منتج ونتجنب بذلك نتائج الإهمال التي تنشأ عن إيجاد قاضٍ خاص.
وقد يقال أيضًا إن تكليف رئيس الدائرة أو أحد أعضائها بمهمة التحضير عبء ثقيل على القضاة يضيق عنه وقتهم ولكنا نرى ذلك الاعتراض غير صائب خصوصًا إذا أمعنا النظر قليلاً.
إننا إذا جعلنا لكل دائرة في كل أسبوع جلسة خاصة للتحضير وتناوب القيام بأمرها الأعضاء الثلاثة على التوالي لكان نصيب كل قاضٍ من هذا العمل جلسة واحدة في كل ثلاثة أسابيع ونظننا لا نكون فرضنا بذلك عليهم فرضًا ينبو عنه واجبهم أو تذهب معهم راحتهم.
على أننا لو أمعنا النظر أكثر نجد أننا لم نضف في الواقع إلى عملهم الحالي عملاً جديدًا فالقاضي الجزئي يقوم الآن بكل شيء وما تكليفه بتحضير قضاياه في جلسة خاصة إلا تنظيمًا لعمله تعود من ورائه أحسن النتائج.
كذلك شأن محكمتي الاستئناف إذا طلبنا إلى رئيس إحدى دوائرها أو إلى عضو من أعضاء تلك الدائرة أن يقوم وحده في جلسة خاصة بتحضير قضايا الدائرة لا نكون كلفناه عملاً جديدًا لأن نفس هذا العمل كان يمر عليه في الجلسات ليفصل فيه مع زملائه، وإنما نرفع بذلك عن زميليه عبء الاشتراك معه في الفصل في هذه المسائل التي ستكون من وظيفة جلسة التحضير.
أما المحاكم الكلية فسيكون قضاة التحضير الحاليين أمامها دوائر جديدة تخفف من أعمال الدوائر الحالية بقدر ما سنكلف به أعضاءها من أعمال التحضير.
إننا نذكر على سبيل المثال بعض النتائج التي نصل إليها لو منحنا القاضي فيها حق إصدار الأحكام في القضايا الغيابية وفي القضايا التي يقر فيها المدعى عليه بصحة المدعى به وفي القضايا التي يصطلح فيها الخصوم والتي يقتنع المدعي فيها بما أبداه المدعى عليه من الوجوه أو الدفوع فيتنازل عنها.
إن ما يصفى من القضايا بهذا الشكل في التحضير سيبلغ على الأقل ثلثي مجموع القضايا المقدمة للمحكمة فيكون الباقي وهو ما قاوم فيه المدعى عليه وتمسك بأوجه أوليه أو بدفوع موضوعية مقدار الثلث فقط وهذا هو الذي ستهتم به الدائرة كاملة ويكون وحده موضوع النظر في جلسات المرافعات.
وهذه بعض الإحصائيات المأخوذة عن المحاكم النمساوية تؤيد ما نقول.
أنواع الأحكام الصادرة في القضايا أمام المحاكم الجزئية الآتية سنة 1900

اسم المحكمة
مجموع الأحكام الصادرة سنة 1900
أحكام غيابية وفي قضايا اعترف فيها الخصم
صلح
أحكام في مواجهة الخصوم
أنواع أخرى من الأحكام

فينا
66562
47.9
15.6
4.0
32.5

سالسبرج
2043
30.0
29.9
14.2
25.90

شتيرمارك
16780
31.6
23.3
11.9
23.2

كارنتن
5126
22.4
40.3
12.7
24.6

كراين
10516
21.1
47.0
10.0
21.9

تيرول
9857
27.3
33.5
9.5
29.7

دالماشين
9254
20.8
35.5
12.2
31.5



أنواع الأحكام الصادرة في القضايا أمام المحاكم الجزئية الآتية سنة 1910

اسم المحكمة
مجموع الأحكام الصادرة سنة 1910
أحكام غيابية وفي قضايا اعترف فيها الخصم
صلح
أحكام في مواجهة الخصوم
أنواع أخرى من الأحكام

فينا
90460
49.6
11.9
5.1
33.4

سالسبرج
2595
46.1
17.3
13.3
23.3

شتيرمارك
20493
38.4
23.3
13.3
25.0

كارنتن
5746
32.5
25.2
14.0
38.3

كراين
6876
33.2
23.0
17.5
26.3

تيرول
13653
33.8
24.4
12.2
29.6

دالماشين
14188
22.4
31.5
12.8
33.3



أنواع الأحكام الصادرة في القضايا أمام المحاكم الابتدائية الآتية سنة 1900

اسم المحكمة
مجموع الأحكام الصادرة سنة 1900
أحكام غيابية وفي قضايا اعترف فيها الخصم
صلح
أحكام في مواجهة الخصوم
أنواع أخرى من الأحكام

فينا
7858
22.4
23.9
17.2
37.2

سالسبرج
340
33.8
18.0
19.4
28.8

شتيرمارك
2226
32.1
21.5
41.7
31.8

كارنتن
679
27.1
15.0
9.3
48.6

كراين
552
29.9
22.1
14.9
33.1

تيرول
1134
28
12.1
16.2
34.7

دالماشين
609
20.9
23.0
23.8
32.3



أنواع الأحكام الصادرة في القضايا أمام المحاكم الابتدائية الآتية سنة 1910

اسم المحكمة
مجموع الأحكام الصادرة سنة 1900
أحكام غيابية وفي قضايا اعترف فيها الخصم
صلح
أحكام في مواجهة الخصوم
أنواع أخرى من الأحكام

فينا
13266
24.1
19.9
16.9
39.1

سالسبرج
466
37.1
15.2
15.5
33.2

شتيرمارك
3382
34.2
19.5
14.3
32.0

كارنتن
1083
30.8
11.4
15.9
41.9

كراين
907
33.4
9.5
20.7
30.4

تيرول
2007
30.2
19.2
12.3
38.3

دالماشين
968
20.9
14.3
23.7
41.1


يراجع في هذه الإحصاءات وغيرها الجزء الثالث من كتاب قوانين المرافعات للأمم المتمدينة.
(عمل تمهيدي لإصلاح قوانين المرافعات الألمانية سنة 1927, برلين صفحات 391 و92 و93).
تلك بعض الأسباب التي تدعونا إلى التمسك بأن يكون التحضير بيد أحد قضاة الموضوع خصوصًا إذا علمنا أن هذا النظام يترتب عليه أيضًا سهولة اتصال القاضي القائم بعملية التحضير بزميليه الآخرين واستطاعته الاستئناس برأيهم فيما يشكل عليه أمره أو استصداره أحكامهم بصفة غرفة مشورة في بعض المسائل التي قد ينص القانون فيها على ذلك إذا وجد المشرع من الأصوب ألا يفصل فيها قاضي التحضير وحده.
وسبق أن بينا ضرورة وجوب أن يكون تعيين الجلسات وتحديد عدد ما يقدم إليها من القضايا بيد قاضي الموضوع حتى يجيء التحديد منتجًا وتوزيع القضايا على الجلسات عادلاً وتبين أن ذلك لن يتحقق إلا إذا انتزعنا من يد المحضرين والخصوم هذه السلطة ووكلنا أمرها إلى قاضي الموضوع وما كان بيد قاضي التحضير الحالي نتوصل إلى نقله إلى قضاة الموضوع بأن يناط بواحد منهم أمر التحضير وبهذا التوحيد في العمل نضمن حسن سيره ومحو التأجيلات التي يسببها ضيق الوقت من نظام الجلسات ونظن أن الوصول إلي هذه النتيجة وحدها ليس بالشيء الهين ولا بالأمر اليسير.

وظيفة جلسة التحضير

(تراجع المادة الخامسة من مشروع القانون الملحق بهذه المذكرة)
ليست هذه الجلسة بمستقلة عن باقي الجلسات الأخرى التي تمر بها القضية من يوم أن تقدم إلى المحكمة حتى يتم الفصل فيها شأن جلسات التحضير بحسب النظام الحالي بل هي إحدى هذه الجلسات تمتاز بأنها أولها وأنها خصصت لتحضير القضايا فيها وتقتصر مهمتها على ما يأتي:
أولاً: السعي في الصلح بين الخصوم.
قوانيننا تنص في بعض الأحوال على وجوب توسط القاضي في الصلح وهو في بعض الأحوال الأخرى جائز تقوم به المحاكم تارة من تلقاء نفسها وتارة تسعى فيه بناءً على اقتراح أحد الخصوم، ونحن نرى أن يكون السعي في الصلح واجبًا وأن يقوم به القاضي في جلسة التحضير ونرى في المحاكم الجزئية بنوع خاص وجوب قيام القاضي الجزئي بذلك دون محاكم الأخطاط لأن هذا الاختصاص في مسائل الصلح عبء ثقيل على هذه المحاكم أثبت العمل أنها لم تحسن القيام به فوق أن في ذلك تعقيد في الإجراءات لا مبرر له.
إن القاضي سيكون موفق السعي في هذا الصلح إذ إلمامه بالدعوى باطلاعه على صحيفتها وقدرته وتجربته تمكنه كلها على القيام بهذا الواجب على أحسن وجه.
ثانيًا: لإبداء أوجه الدفاع بعدم الاختصاص والدفع بطلب إحالة الدعوى إلى محكمة أخرى مرفوعةً إليها تلك الدعوى أو دعوى أخرى مرتبطة بها - نرى وجوب إبداء هذين الدفعين في هذه الجلسة وإلا سقط الحق في التمسك بهما لأنه إذا كان من العدل أن تقبل الدفوع الموضوعية في أية حالة كانت عليها القضية بحجة أن المدعي غير محق في دعواه فليس من العدل أن يبقى مهددًا بهذه الدفوع في كل أدوار القضية، فإذا قررت المحكمة قبولهما أحالت القضية من تلقاء نفسها على المحكمة المختصة ولقد بينا حكمة ذلك من قبل.
ثالثًا: إبداء الدفع بعدم صحة الدعوى والدفع بعدم الاختصاص المتعلق بالنظام العام، وكما يجوز إبداء هذه الدفوع بهذه الجلسة يجوز كذلك إبداؤها أثناء سير القضية وللمحكمة أن تحكم فيها من تلقاء نفسها, وفي أية حالة كانت عليها الدعوى فأما الدفع بعدم الاختصاص المتعلق بالنظام العام فالأمر فيه مفهوم وأما الدفع بصحة الدعوى فنرى أن تحكم فيه المحكمة من تلقاء نفسها لأنه إذا كان ذلك واجب عليها عند غياب الخصوم فيجب أن يكون الأمر كذلك عند حضورهم إذ القاضي ملزم بالبحث عن الحقيقة فيحكم بها كما هي لا كما يصورها أمامه أحد الخصوم وجهل خصم أو قصوره عن استعمال وجوه دفاعه يجب ألا يغير من الواقع شيئًا.
رابعًا: الحكم في القضايا التي يحصل فيها إقرار أو تنازل أو غياب.
إن الكثير من القضايا التي تقدم للمحاكم ليس النزاع فيها بمستحكم أو بمستعصٍ وإذا أتيح للقاضي فرصة مواجهة الخصوم قبل جلسات المرافعات فلا شك في إمكانه الفصل فيها ونرى أن يكون ذلك بجلسة التحضير فيقضي في الدعاوى التي يقر فيها المدعى عليه بصحة المدعى به، وكذلك في القضايا التي يقتنع المدعي فيها بما أبداه المدعى عليه من الوجوه أو الدفوع فيتنازل عنها وكذلك في حالات الغياب ولقد بينا نتيجة ذلك وما يعود من الفائدة من ورائه في الإحصاءات السابقة.
خامسًا: الحكم بإيقاف المرافعة في الأحوال المنصوص عنها قانونًا.
سادسًا: الحكم بشطب الدعوى وبإبطال المرافعة وقواعد الإيقاف والشطب والإبطال قانوننا لم تخل عن عبث شديد لكننا نتركها الآن كما هي لأن البحث فيها يخرجنا عن الموضوع.
سابعًا: الحكم بضم دعوى إلى أخرى إذا اقتضى الأمر ذلك.
هذه مهمة جلسة التحضير تظهر لنا الدعوى من كل الدفوع التي تعرقل سيرها فوق أنها ستصفي لنا القضايا السهلة البسيطة فما يبقى بعد ذلك هو الذي تهتم به المحكمة بهيئتها كاملة وتصدر أحكامها فيه.
ولعل أصدق مثل ينطبق على نظام التحضير وجلساته بالشكل الذي نتقدم به هو نظام المستشفيات إذ لا يسمح أولي الأمر فيها لكل من تقدم إليهم بدخولها واحتلال أحد أسرتها فنرى لكل مستشفى طبيبًا كشافًا يرد الذي ليس بهم مرض وأنا يتوهمونه ويصرف أصحاب الأمراض البسيطة بأن يكتب لهم تذكرة علاج أما المرضى الذين يستحقون العناية والعلاج فهم وحدهم الذي يسمح لهم بدخولها.
ذلك هو الذي يجب أن يكون عليه نظام المحاكم فالواجب ألا نسمح لقضية أن تتخطى دور التحضير من غير فصل فيها إلى جلسات المرافعات إلا إذا كان النزاع فيها جديًا يقتضي ذلك.
ويجب ألا نجيز الطعن في هذه الأحكام التي تصدر في هذه الجلسة إلا مع الموضوع لأنه من التعقيد الذي لا مبرر له تفكيك القضية وتقطيع أوصالها بإجازة الطعن في هذه الأحكام.
(المادة (6) من المشروع المرفق بهذه المذكرة).

تأجيل هذه الجلسة

لا يجوز تأجيل نظر الدعوى في هذه الجلسة إلا طبقًا للأحكام التي تسري على سائر الجلسات لأنه إذا كان العدل يقضي أن نعطي الخصوم الزمن الكافي لتحضير دفاعهم وإعداد مستنداتهم وأوراقهم، فالحكمة تقضي ألا نتغالى في الرأفة بهم حتى لا تضيع بين قصور القانون ومطلهم وإهمالهم, وضرورة رعاية هذا المبدأ في جلسة التحضير واجبة وجوبها في الجلسات الأخرى، لأن جلسة التحضير لم تخرج عن كونها واحدة منها تأجيلها فيه تعطيل للدعاوى وتأخير ليوم الفصل فيها وفيه ضرر على سائر القضايا الأخرى, يجب ألا ينسى المشرع ذلك ولا يفوته أن فترة التحضير ليست إلا جزءًا من الزمن الذي تمكثه الدعوى أمام القضاء حتى يتم الفصل فيها، هذا الجزء يجب أن يكون قصيرًا ما أمكن، وسريعًا ومنتجًا ولا يغيبن عن الذهن أن هذه الجلسة لم تشرع مطلقًا للتأجيل وإنما شرعت للتحضير ومن العبث الذي يجب أن يتنزه عنه القانون أن ينص على الترخيص بتأجيل القضايا فيها إلى أجل يسع تحضيرها وجعلها صالحة للمرافعة (الفقرة الثانية من المادة (7) وكذلك المادة (3) من مشروع القانون) إذ ليس من الحكمة التشريعية أن ندفع التأجيل الآجل بالتأجيلات العاجلة، كذلك لا نرى معنى لهذه الفقرة لأن التحضير يحصل بالجلسة وهو من عمل القاضي ولعل الشارع يرمي بذلك إلى إعداد أوجه الدفاع من أوراق ومستندات ونحن نرى أنه من العبث أن تعقد جلسة لمجرد أن يقول القاضي لأحد الخصوم فيها أجلت لك الدعوى لتحضر مستنداتك وأوجه دفاعك !!! وأولى أن يكون ذلك من يوم إعلان الدعوى، وأن يراعي عند تحديد الجليسة أن هذا الأجل يسع ذلك، أما انعقاد الجلسات بغية تأجيلها فليست غاية يفكر فيها مشرع أو يسعى لها فوق أن ذلك يدعو الخصوم إلى الإهمال كما هو حاصل الآن فلا يجدون في إعداد وسائل دفاعهم بمجرد رفع الدعوى علمًا بأنهم سيمنحون لذلك أزمنة طويلة.
ومن العجب العاجب أن واضعي المشروع ينصون في المادة (16) على أنه يجب على المدعي أمام المحاكم الجزئية وعلى رافع الاستئناف أن يودع مستنداته قبل أول جلسة تحدد لنظر الدعوى الخ، فيحرصون بذلك على الانتفاع بالفترة الأولى بين الإعلان وبين الجلسة ونراهم بأنفسهم يذهبون من النقيض إلى النقيض فيما يتعلق بالمحاكم الكلية, فلم لم يحتموا على المدعي أن يودع مستنداته في المحكمة قبل جلسة التحضير وهي الجلسة الأولى !!؟ أن الانتفاع بهذه الفترة واجب وما كنا بحاجة إلى التدليل على ذلك بعد إقرار المشرع نفسه، ولئن انتهج واضع قانون التحضير الحالي مسلكًا معيبًا فيما مضى فليس لنا عذر في البقاء عليه الآن.
فإن اقتضى الحال تأجيل جلسة التحضير فتسري على الجلسة التي تعين لذلك جميع الأحكام التي تتعلق بالجلسة الأولى.

الرد على الدعوى

إذا لم يفصل في الدعوى في الجلسة الأولى يحدد القاضي للمدعى عليه ميعادًا يحضر فيه رده على الدعوى ويقدمه كتابةً إلى المحكمة بحيث يشتمل على الوقائع التي تبنى عليها اعتراضاته على الدعوى وأن تذكر فيه الأدلة التي يعتمد عليها على أن تذكر دليلاً دليلاً بالدقة والوضوح وأن يرفق مستنداته وأوراقه بهذا الرد فإن لم يكن ذلك ممكنًا فصورها وإلا بين الجهة التي هي بها والموانع التي تحول دون الوصول إليها، على ألا يسمح له بطلب مد هذا الموعد إلا إذا قدم طلبًا بذلك إلى المحكمة قبل فوات الميعاد (المادة (13) من مشروع القانون الملحق بهذه المذكرة).
أما الفائدة التي تعود من وجود هذا الرد في القضية والحكمة من تقديمه قبل جلسات المرافعات فنظنها لا تغيب عن أحد… أن القانون المصري تغالي في مبدأ شفهية المرافعات فقضى بأنها جميعها تكون شفهية وأن المذكرات الكتابية التي أعلنت لا تقيد الخصوم بما جاء فيها وأوجب على القاضي أن يأخذ بكل ما يدور في المرافعات الشفهية ولو لم يكن موجودًا في المذكرات وبذلك يكون حكم القاضي مقتصرًا على ما دار في المرافعات الشفهية وفيها وحدها.
أدى هذا النظام الذي بالغ في مبدأ شفهية المرافعات إلى بطء سير الدعوى وكثرة التأجيل لأن أحد الخصمين أو كلاهما غير مستعد للمرافعة أو لأن القاضي سمع المرافعة في بضع قضايا فلا يستطيع سماعها في الباقي فيؤجله كما هو حاصل الآن.
إن خير المرافعات ما جاز الجمع فيها بين المبدأين (مبدأ شفهية المرافعات ومبدأ المرافعات الكتابية) فالقضايا البسيطة الخالية من أوراق عديدة أو تحقيقات يصعب الوصول إليها لا يوافقها إلا المرافعات الشفهية المحضة على أن تصدر المحكمة أحكامها عقب المرافعات مباشرةً.
أما القضايا الطويلة المليئة بالمستندات والمحاضر والتقريرات والتي تحتاج إلى تحقيقات طويلة فهذه يجب أن تقترن فيها المرافعات الشفهية بمذكرات مكتوبة تجمع شتات الأوراق المقدمة فيها.
تلك فكرة المشروع الذي نتقدم به، فمبدأ الشفهية بالغ حده لدرجة لم نعهدها في أكثر القوانين احتفاظًا بهذا المبدأ أمام المحاكم الجزئية إذ لا نرى في القضاء الجزئي وجوب تقديم مذكرات في كل دعوى بل يترك الأمر في ذلك لفطنة القاضي.
أما في المحاكم الابتدائية والاستئنافية فمزج محكم بين المبدأين حيث نرى وجوب الرد على الدعوى.
فإذا ما أتيح لنا نقض مدني فيجب أن تسود فيه المرافعات الكتابية على أن يكون من حق المحكمة أن تستفسر من الخصوم عن كل ما غمض عليها من مسائل، ذلك لأن أغلب النزاع يكون أمامها في النقط القانونية التي تحتاج إلى دقة وأبحاث علمية، خير ما تصونها المذكرات التحريرية.

إحالة الدعوى على جلسة المرافعات

فإذا ما قدم الرد فحصه الرئيس وحدد بعد ذلك جلسة المرافعات وأمر بإعلان ذلك للخصوم، فإن لم يقدم الرد حدد أيضًا الرئيس هذه الجلسة إما من تلقاء نفسه أو بناءً على طلب الخصم الآخر وتفصل الدائرة في الدعوى على حاصل ما هو أمامها من غير أن تكون مقيدة بقبول الرد بعد فوات الميعاد.

محكمتي الاستئناف الأعلى
وتطبق أمام محكمتي الاستئناف جميع الأحكام والمبادئ السابقة
المحاكم الجزئية

وتتبع أمام المحاكم الجزئية أيضًا هذه الأحكام على أن يقوم القاضي الجزئي بتأدية كل ما هو من اختصاص رئيس الدائرة أو أحد أعضائها.
بقيت كلمة في الموضوع:
هل يسهل أن يحاد في مصر عن تقليد القوانين الفرنسية أو النقل عن القوانين الإنكليزية ؟؟ وإذا كان من السهل ذلك فعلى أي أساس تبنى القوانين الجديدة ؟؟ نعم، يمكن ذلك، ولقد أجاب عن هذا السؤال المسيو بيولا كازولي في محاضرته المنشورة في مجلة مصر العصرية ليناير سنة 1914 بالإيجاب.
كذلك يمكن بسهولة جدًا الأخذ عن قوانين المرافعات النمساوية (تراجع محاضرة المسيو بيولا كازولي الأولى في القانون النمساوي والمناقشات التي حصلت بخصوصها بين جمع محترم من كبار رجال القانون في جمعية الاقتصاد والإحصاء والتشريع والمنشورة في مجلة مصر العصرية ليناير سنة 1913 صفحة 41، وما بعدها)، ولقد أفلح المحاضر في الدفاع عن المرافعات النمساوية دفاعًا متينًا، مفندًا الاعتراضات التي وجهت إليها، ومبينًا أن تطبيق أكثر مبادئها من الميسور جدًا في مصر، لأن هذه المبادئ من طبيعتها سهلة التحقيق ولأنها تتمشى بسلام وبفائدة عظيمة في بلد كمصر لا تسود فيه فكرة الأعمال أو المذاهب الفردية كغيره من البلاد الأوربية.


مشروع قانون بنظام تحضير القضايا
الباب الأول: المحاكم الكلية

المادة الأولى:
1 - يجب أن تشتمل صحيفة الدعوى على الوقائع التي تنبنى عليها طلبات المدعي الأصلية والإضافية مع ذكر كل واقعة منها على حدة بالوضوح التام مع الإيجاز وعلى بيان الأدلة التي يعتمد عليها المدعي لتأييد دعواه مع ذكر كل دليل منها على حدة والدقة.
2 - تسري على صحيفة الدعوى فيما عدا ذلك الأحكام العامة الخاصة بأوراق المرافعات.
المادة الثانية:
1 - توزع عرائض الدعاوى بمجرد تقديمها إلى المحكمة على دوائرها وعلى رئيس كل دائرة أن يحدد الجلسة الأولى لنظرها ويأمر الإعلان.
2 - إذا ظهر لرئيس الدائرة من اطلاعه على عريضة الدعوى وأن المحكمة غير مختصة بنظرها أو تبين له خلو أحد الخصوم عن الصفة فيها أو كونه غير أهل للتقاضي فعليه أن يعرض الأمر على الدائرة بغرفة مشورتها وذلك بغير حضور أحد من الخصوم لتقضي إما بتحديد الجلسة وإما برفض ذلك.
المادة الثالثة:
تلاحظ عند تحديد الجلسة الأولى المدة التي تلزم للإعلان وتسع تحضير المستندات والأوراق.
وفي الدعاوى التي تستدعي طبيعتها سرعة نظرها فيراعي أن يعين لها بحسب ظروفها أقرب جلسة ممكنة.
المادة الرابعة:
يُخطر المدعى عليه بموعد الجلسة بإعلان صحيفة الدعوى إليه ويخطر المدعي بعلم يطلب إليه فيه الحضور أمام المحكمة في هذا الموعد وتقديم أوراقه ومستنداته قبل الجلسة فإذا لم يقدم المدعي مستنداته وأوراقه في هذا الموعد فلا يسمح له بطلب التأجيل بعد ذلك إلا بناءً على أحكام المادة (14) من هذا القانون.

جلسة التحضير
الجلسة الأولى

المادة الخامسة:
1 - تنظر الدعوى في الجلسة الأولى المخصصة للتحضير أمام رئيس الدائرة المقدمة إليها الدعوى أو أمام أحد أعضائها.
2 - تخصص هذه الجلسة لما يأتي:
أولاً: السعي في الصلح بين الخصوم.
ثانيًا: إبداء أوجه الدفع بعدم الاختصاص والدفع بطلب إحالة الدعوى إلى محكمة أخرى مرفوعة إليها تلك الدعوى أو دعوى أخرى مرتبطة بها وإلا سقط الحق في التمسك بها فإن كان الحكم بقبولها أحالت المحكمة القضية من تلقاء نفسها على المحكمة الأخرى.
ثالثًا: إبداء الدفع بعدم قبول الدعوى والدفع بعدم الاختصاص المتعلق بالنظام العام ويجوز إبداء هذين الدفعين أيضًا في غير هذه الجلسة.
رابعًا: الحكم في القضايا التي يحصل فيها إقرار أو تنازل أو غياب.
خامسًا: الحكم بإيقاف المرافعة في الأحوال المنصوص عنها قانونًا.
سادسًا: الحكم بشطب الدعوى وبإبطال المرافعة.
سابعًا: الحكم بضم دعوى إلى أخرى إذا اقتضى الأمر ذلك.
المادة السادسة:
لا يقبل الطعن في هذه الأحكام إلا مع الموضوع.
المادة السابعة:
لا يجوز تأجيل نظر الدعوى في هذه الجلسة إلا طبقًا لأحكام المادة (14) من هذا القانون، وتسري على الجلسة التي تعين لذلك جميع الأحكام المبينة بالمادتين السابقتين (5)، (6).
الرد على الدعوى
المادة الثامنة:
1 - إذا لم يفصل في الدعوى يأمر القاضي المدعى عليه بالرد عليها كتابةً في مدة يحددها لذلك لا تتجاوز أربعة أسابيع بأي حال.
2 - يجب أن يشتمل الرد على الوقائع التي تنبنى عليها اعتراضات المدعى عليه مع ذكر كل واقعة منها على حدة بالوضوح التام مع الإيجاز، وعلى بيان أدلته التي يعتمد عليها في دفع الدعوى مع ذكر كل دليل منها على حدة وبالدقة.
3 - يجب على المدعى عليه أن يودع مستنداته وأوراقه بالمحكمة قبل فوات هذا الميعاد ولا يسمح له بطلب مد الموعد من أجل ذلك إلا طبقًا لما تقضي به المادة (13) فقرة (2) من هذا القانون.
المادة التاسعة:
بمجرد فوات الموعد المعين لتقديم الرد يحدد رئيس الدائرة أو العضو المنوط به التحضير جلسة المرافعات التي تنظر فيها الدعوى ويخطر الخصوم بذلك ويكلفون بالحضور أمام المحكمة بعلم خبر.
الباب الثاني: محكمتي الاستئناف الأعلى
المادة العاشرة:
تطبق أمام محكمتي الاستئناف الأعلى أحكام المواد السابقة.

الباب الثالث: المحاكم الجزئية

المادة الحادية عشرة:
تتبع أمام المحاكم الجزئية أحكام المواد من (1 - 9) من هذا القانون, ويقوم القاضي الجزئي بتأدية كل ما هو من اختصاص رئيس الدائرة أو أحد أعضائها طبقًا للمواد السابقة.

الباب الرابع: مد المواعيد وطلب التأجيلات

المادة الثانية عشرة:
إذا لم يحدد القانون أجلاً لتأدية عمل من أعمال المرافعات وجب على القاضي تحديده مع مراعاة ظروف كل حالة.
المادة الثالثة عشرة:
1 - اتفاق الخصوم على إطالة مواعيد المرافعات غير جائز.
2 - يجوز للمحاكم مد المواعيد القضائية وكذلك مد المواعيد التي حددها القانون بشرط أن يكون قد نص فيها على جواز ذلك صراحةً إذا اجتمعت الشروط الآتية:
أولاً: أن يثبت الخصم الذي أعطى هذا الموعد لصالحه أن عدم قيامه بما كلف به نشأ عن أسباب قوية يجب ذكرها للمحكمة.
ثانيًا: أن تتبين المحكمة أن عدم مد الموعد يضر به.
ثالثًا: أن يقدم طلبًا إلى المحكمة قبل حلول الموعد وعلى المحكمة أن تفصل فيه بغرفة مشورتها ولها أن تستدعي الخصوم لسماع أقوالهم إن رأت ذلك.
المادة الرابعة عشرة:
1 - لا يجوز للمحكمة مطلقًا أن تؤجل القضية إلا في الأحوال الآتية:
أولاً: وجود أسباب قوية ترجع إلى المحكمة نفسها وتقتضي ذلك.
ثانيًا: إذا رأت المحكمة ضرورة إتمام أمر يتعلق بالإثبات لا تستطيع بدونه إجراء المرافعات أو الاستمرار فيها أو الفصل في الدعوى.
ثالثًا: إذا رأت إحضار أوراق ليست في حيازة الخصم على أن يكون قد أثبت أنه عمل ما في وسعه للحصول عليها فلم يستطع ذلك وكان يترتب على عدم التأجير ضرر به.
رابعًا: للمحكمة أن تحكم على من تسبب في التأجيل بناءً على الجزأين ثانيًا وثالثًا السابقين بغرامة طبقًا لأحكام المادة (15) من هذا القانون.
2 - في غير الأحوال المبينة في الأجزاء (أولاً، وثانيًا، وثالثًا) من الفقرة الأولى من هذه المادة يجب على المحكمة أن تفصل في الدعوى على حاصل ما هو أمامها.
المادة الخامسة عشرة:
للمحكمة أن تحكم من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصم الآخر بغرامة لا تتجاوز مائتي قرش بالنسبة للمحاكم الجزئية وثلاثمائة قرش بالنسبة للمحاكم الابتدائية، وألف قرش بالنسبة لمحكمة الاستئناف العليا.
طه السيد
المحامي بأقلام قضايا الحكومة

مذكرة النيابة العمومية في قضية الطعن لدى محكمة النقض والإبرام رقم (38) سنة 8 قضائي

ة




مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة التاسعة عشرة سنة 1939

مذكرة النيابة العمومية
في قضية الطعن لدى محكمة النقض والإبرام رقم (38) سنة 8 قضائية الوارد حكمها بهذا العدد تحت رقم (325) ص (804) وما بعده

موضوع البحث: ملكية الراسي عليه المزاد معلقة على شرط فاسخ ولا يتحقق هذا الشرط إلا بحكم يصدر برسو المزاد بعد إعادة البيع أو بعد زيادة العشر ولا يصح تنازل الراسي عليه المزاد عن الحكم إضرارًا بحقوق الغير.
(لحضرة صاحب العزة زكي خير الأبوتيجى بك رئيس النيابة لدى محكمة النقض الدائرة المدنية)
الوجه الأول من وجوه الطعن:
يتحصل هذا الوجه في أمرين:
أولهما: أن الطاعنين ينعون على الحكم بأنه سار على قاعدة أن ملكية الراسي عليه المزاد هي ملكية معلقة على شرط فاسخ وأن هذا الفسخ لا يتحقق إلا بحكم قضائي يصدر بعد إعادة البيع ورسو المزاد.
ويقولون أن هذا المبدأ خاطئ لأن الراسي عليه المزاد إنما هو مشترٍ عادي يجوز له التصرف في العقار - الراسي عليه المزاد – للغير أو فسخ البيع بالاتفاق مع المالك الأصلي وهو المدين.
والثاني: أن الحكم المطعون فيه قد ذكر قاعدة أن الراسي عليه المزاد لا يجوز أن يتخلص من التزاماته بالتخلص من العقار.
ويعيب الطاعنون على هذا المبدأ.
الرأي عن الشرط الأول:
إن محور الخلاف بين الحكم الابتدائي والحكم المطعون فيه يدور حول نقطة واحدة وهي أن حكم أول درجة يقول بأن ملكية الراسي عليه المزاد هي ملكية معلقة على شرط فاسخ أي أن ملكيته لا تعتبر نهائية إلا إذا وفى كافة شروط البيع وإلا فيجوز لكل ذي شأن أن يطلب إعادة البيع ويقول الحكم المذكور أن هذا الطلب يترتب عليه زوال ملكية الراسي عليه المزاد - وبالتالي ما رتبه على العقار من الحقوق العينية.
ويختلف الحكم المطعون فيه في هذا المبدأ ويقرر أنه ولو أن ملكية الراسي عليه المزاد هي ملكية معلقة على شرط فاسخ إلا أن الفسخ لا يتحقق إلا بالحكم الذي يصدر عند إعادة البيع لمرسى المزاد.
والوقائع في الدعوى تشير إلى أن الراسي عليه المزاد باع 2.5 فدان إلى المرحوم محمد عبد الحليم الراوي وظل هذا واضعًا اليد من سنة 1915 إلى 1928 – وفي سنة 1928 قدم أحد ورثة المدين الأصلي وهو المرحوم محمد عبد الخالق طلب إعادة البيع على ذمة المشتري المتخلف الذي لم يدفع الثمن ولم يصدر حكم بإعادة البيع بل كل ما صدر في الدعوى هو إثبات تنازل الراسي عليه المزاد عن حكم مرسى المزاد لتخالصه مع ورثة المدين وأن القاضي أثبت هذا التنازل.
فهل يزول حكم مرسى المزاد بهذا التنازل مع أنه لم يصدر حكم بإعادة البيع ورسو المزاد مرة ثانية.
إن المادة (587) مرافعات صريحة في أن حكم مرسى المزاد هو حجة للمشتري بملكيته للمبيع - وطالما أنه مالك فيجوز له التصرف في ملكه بالبيع أو غيره وهذا إذا قام بتعهداته ووفى الثمن إلى المدين وأرباب الديون المسجلة - أما إذا أخل بالتزاماته وأعيد بيع العقار ورسا المزاد على شخص آخر فلا شك في أن ملكية العقار تزول عن الراسي عليه المزاد الأول وبالتالي تزول كل الحقوق العينية التي آلت منه إلى الغير وهذا حكم الملكية المعلقة على شرط فاسخ إذا تحقق الشرط.
هذا ولا نرى محلاً لأن نخوض في البحث الذي اختلفت فيه آراء الفقهاء في فرنسا في طبيعة هذه الملكية وهل هي معلقة على شرط توقيفي أو شرط فاسخ لأن محكمتنا العليا قد أغنتنا مؤونة هذا الجدل إذ جاء في حكمها الصادر في 22 يونيو سنة 1932 في قضية الطعن رقم (15) سنة 2 قضائية بصريح العبارة أن حكم مرسى المزاد ينقل الملكية معلقة على شرط فاسخ ومحور الخلاف في هذا الطعن هو هل تحقق الشرط الفاسخ بطلب إعادة البيع أو بإثبات التنازل عن حكم مرسى المزاد أم لم يتحقق؟
أما من الناحية القانونية فقد قالت محكمتنا العليا في حكمها الصادر في القضية رقم (15) سنة 2 ق بتاريخ 2 يونيو سنة 1932 بشأن التقرير بزيادة العشر (أن شرط الفسخ لا يتحقق بمجرد التقرير بزيادة العشر وإنما يتحقق بصدور حكم مرسى المزاد الثاني ومجرد التقرير بزيادة العشر لا يترتب عليه رجوع العقار إلى ملك المدين).
ويجمع الشراح على أن الأثر الذي يترتب على مرسى المزاد بعد زيادة العشر ينطبق تمامًا على الحكم الصادر به بعد إعادة البيع لتخلف المشتري من جهة نقل الملكية (انظر كتاب التنفيذ للدكتور محمد حامد فهمي بند (464) وما بعده).
لذلك جريًا وراء القاعدة التي وضعتها محكمتنا العليا نقول إنه لا تزول الملكية المترتبة على حكم مرسى المزاد الأول بمجرد طلب إعادة البيع بل بالحكم الذي يصدر بمرسى المزاد الثاني.
وهذا الرأي يطابق أقوال علماء القانون في فرنسا (انظر جلاسون جزء (4) ص (767) وكوش في المرافعات ص (251) وجارسونه جزء (5) بند (502)).
وقد حكمت محكمة الاستئناف المختلطة به في حكمها الصادر في 21 يناير سنة 1938 بهذا المبدأ إذ ورد فيه أن إلغاء الحكم الصادر بمرسى المزاد لا يأتي إلا بحكم يصدر برسو المزاد بعد إعادة البيع أو بعد زيادة العشر وتعليل هذا المبدأ ظاهر لأن المنطق يقضي بأن الأثر الذي يترتب على حكم مرسى المزاد الذي تم تسجيله لا يمكن أن يزيله إلا حكم مثله يسجل وفي ذلك وقاية لكل من يتعامل مع الراسي عليه المزاد الأول أو الثاني وفيه أيضًا ضمان لمصالح الدائنين الآخرين لأنه إذا تأخر الراسي عليه المزاد الأول عن دفع ديونهم فلا بد من حكم يصدر برسو المزاد الثاني على آخر يقوم هو بسداد ديونهم من الثمن.
ويترتب على هذا أن الحكم الابتدائي قد أخطأ إذ جاء فيه أن الفسخ وزوال الملكية قد تم بمجرد طلب إعادة البيع ثم التنازل عن حكم مرسى المزاد إذ لم يصدر حكم ثانٍ برسو المزاد ويكون الحكم المطعون فيه على صواب من هذه الناحية.
الرأي عن الشرط الثاني:
التنازل عن حكم مرسى المزاد وأثره
هل يملك من رسا عليه المزاد أن يتنازل عنه حتى تعود الملكية للمدين؟
لا شك في أن الراسي عليه المزاد يملك العقار ومن عناصر الملكية حق التصرف في الشيء المملوك وله كقاعدة عامة أن يتنازل عن حكم مرسى المزاد بمقابل أو بغير مقابل إلى المدين حتى تعود الملكية إليه أو إلى غيره.
ولكن مناط هذا أن لا يكون شخص آخر له حقوق ترتبت على حكم مرسى المزاد ويضره هذا التنازل فإنه لا يسري عليه قانونًا ويكون مثل هذا التنازل بالنسبة إليه res inter alios acta.
هذا المبدأ يستفاد ضمنًا من حكم محكمة النقض والإبرام الصادر في 9 يونيه سنة 1935 في الطعن رقم (45) سنة 4 قضائية إذ جاء فيه أنه إذا لم يكن هناك دائن آخر غير الدائن طالب البيع وهو الذي رسا عليه المزاد الأول ولم يكن لغيره على العين ديون مسجلة يصح أن يقرر أمام القاضي أنه تخالص بحقوقه وتنازل عن حكم مرسى المزاد.
ويؤخذ من هذا الحكم أنه لا يصح التنازل عن حكم مرسى المزاد إذا كان هناك دائنون آخرون كما هو الحال في هذه الدعوى إذ أن محمد عبد الحليم الراوي كان دائنًا مسجلاً كما جاء في الحكم المطعون فيه قبل مرسى المزاد الأول ثم أن الراسي عليه المزاد وفاه دينه بأن باع إليه 2.5 ف من العقار الذي رسا مزاده عليه وملك هذا القدر بمقتضى العقد المسجل في سنة 1928 ولا شك في أن التنازل عن حكم مرسى المزاد وإعادة الأطيان إلى ورثة المدين يضر به أو يزيل أساس تملكه للفدانين ونصف فيصبح غير مالك للأطيان بعد أن أصبح مالكًا ويضيع عليه قيمة ما دفعه من المال ويضطر أن يقيم الدعوى مرة أخرى على المدين لاسترداد ما له ويكون تحت رحمة يسر المدين وعدم إعساره ولا تكون الحال هكذا لو تمت إجراءات البيع وصدر حكم مرسى المزاد الثاني ورسا المزاد على أي شخص آخر الذي يلتزم بسداد الديون من ثمن العقار.
وهذا المبدأ قالت به محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها الصادر في 17 ديسمبر سنة 1916 والمنشور في المجموعة سنة 28 ص (159) إذ جاء فيه ما يأتي:

L’adjudicataire, alors même qu’il est le créancier poursuivant, ne peut renoncer, de son autorité privée à l’adjudication, qui consititue un contat entre lui et toutes les parties liées à la procédure.

وجاء أيضًا في حكم تلك المحكمة بتاريخ 21 يناير سنة 1915 والمنشور في مجموعة التشريع والقضاء المختلط سنة 27 ص (134) ما يأتي:

Le jugement d’adjudication ne peut être annulé par un jugement subséquent, et encore moins par une déclaration au proces - verbal de l’audience fixée pour la vente sur surenchére. II ne peut disparaître qu’en vertu d’une nouvelle adjudication sur surenchère ou sur folle enchere.

لذلك يكون الحكم المطعون فيه سليمًا من هذه الناحية القانونية على أن الحكم لم يقف عند هذا الحد بل قد أظهر في أسبابه كيف أن الراسي تحايل وتواطأ مع ورثة المدين لإعادة ملكية الأطيان المنزوعة إليهم بطريق التنازل عن حكم مرسى المزاد واستدل في هذا على الورقة المؤرخة 27 أغسطس سنة 1928 أي قبل الإقرار بالتنازل بيومين والتي جاء فيها أن هؤلاء الورثة تعهدوا له بتحمل مسؤولية هذا الدين وقد توفر التواطؤ والتدليس بكل معانيه إذ يستفاد من هذا المستند أنهم اتفقوا على إجراء هذا التنازل وهم موقنون بالضرر الذي سيلحق بورثة محمد عبد الحليم الراوي في السعي في زوال ملكيته للفدانين ونصف وكان ذلك منهم بسوء نية ويقول المثل اللاتيني المجمع عليه (Fraus omnia corrumpit) أي أن التدليس والغش يبطل التصرف.
لذلك يكون الحكم المطعون فيه قد أصاب إذ ضرب بهذا التنازل المبني على التواطؤ والغش عرض الحائط واعتبره من التصرفات الباطلة.
والخلاصة أننا لا ننضم إلى الطاعنين في هذا الوجه.
الوجه الثاني:
موضوعه: يقول الطاعنون أن الحكم المطعون فيه اعتبر ورثة محمد عبد الحليم الراوي من أرباب الحقوق المسجلة، والحال أن مركزهم في الخصومة الحالية مركز الدائن الشخصي للراسي عليه المزاد إذ قد اشتروا منه القدر المتنازع عليه بعقد عرفي وقبل تسجيل عقد بيعهم فسخ حكم مرسى المزاد بالتراضي فيما بين المدين باعتباره بائعًا وبين الراسي عليه المزاد بصفته مشتريًا.
ويقولون أيضًا أنه حتى مع التمشي جدلاً مع الحكم المطعون فيه في اعتبار المطعون ضدهم المذكورين من أصحاب الحقوق العينية على العقار فإن تحقيق الشرط الفاسخ يزيل الحق ويعدمه من تاريخ الاتفاق على التنازل.
الرأي: هذا الوجه تفريع على الوجه السابق وعماده الذي يقوم عليه أن الاتفاق على التنازل عن حكم مرسى المزاد يفسخ ملكية الراسي عليه المزاد ويزيلها وقد أوضحنا في الوجه السالف فساد هذا المبدأ وأن التنازل لا أثر له من هذا القبيل.
لذلك لا يكون محل لهذا الطعن.
الوجه الثالث:
موضوعه: ينعى الطاعنون على الحكم بأنه أخطأ في تفسير العقود فأخطأ أولاً إذ اعتبر توقيع اثنين من الطاعنين على عقد البيع الصادر إلى محمد عبد الحليم الراوي ببيع 2.5 ف بصفة شاهدين وسكوت الطاعنين عن مطالبة إعادة البيع من سنة 1915 إلى سنة 1928 أدلة على أن ذلك العقد جاء وليد اتفاق وتسوية بين الأطراف الثلاثة أي المدين وورثته ونازع الملكية والدائن الذي اشترى جزءًا من العقار لسداد دينه، والصواب أن هذا الرضا مع افتراض وجوده لا يمكن أن يؤثر على حقهم في فسخ البيع ما دام الراسي عليه المزاد لم يقم بالوفاء بتعهداته أي سداد باقي الثمن كما أنه لا يجوز على أسوأ الفروض أن يعتبر رضاء بعض الطاعنين على عقد البيع المذكور ملزمًا للباقين الذين لم يوقعوه.
الرأي:
مع التمشي جدلاً وفرضًا مع الطاعنين في هذا الوجه نرى أنه غير مجد وعديم الأهمية كلية لأننا أوضحنا آنفًا أن التنازل لا يزيل حكم مرسى المزاد وبالتالي لا يفسخ ملكية الراسي عليه المزاد طالما أنه لم يصدر حكم برسو المزاد مرة ثانية ويترتب على هذا أن البيع الصادر من الراسي عليه المزاد وانتقال الملكية بناءً عليه بعد التسجيل لا يزال قائمًا والبيع الصادر من المالك الحقيقي يقع صحيحًا ناقلاً للملكية بالتسجيل لصدوره من المالك ولا يتوقف على رضاء بعض ورثة المدين أو كلهم الذين خرجت الملكية من يدهم بمقتضى حكم مرسى المزاد.
لذلك لا يعتد أيضًا بهذا الوجه.
رأي النيابة إجمالاً:
قبول الطعن شكلاً وفي الموضوع رفضه ومصادرة الكفالة.
رئيس النيابة
زكي خير الأبوتيجى

بحث في التشريع والقضاء التجاريين

مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة العشرون سنة 1940

بحث في التشريع والقضاء التجاريين

لما كانت المعاملات التجارية تحتاج إلى السرعة بسبب تجددها المستمر، كان من الصعب إلزام التجار مراعاة الأحكام المدنية البطيئة، فتقررت قواعد خاصة للمواد التجارية تتناسب مع مقتضيات التجارية وتنظيم الثقة - أساس المعاملات التجارية - وتحمي معاهدها من بورصات ومصارف ومخازن وغيرها، وقد جمعت هذه الأحكام في قانون خاص مسمى قانون التجارة تمييزًا لها عن القانون المدني العادي، وكان من نتائج تمييز القانون التجاري عن القانون المدني إيجاد نظام قضائي خاص للفصل في المنازعات التجارية وفكرة عرض القضايا التجارية على محاكم خاصة فكرة قديمة جدًا، ويقول العالم الفرنسي المسيو ريفيو الباحث الأثري في الشرائع المصرية القديمة في كتابه الذي نشره بباريس في أواخر القرن التاسع عشر إن قدماء المصريين احترفوا بالتجارة وكان لمصر الفرعونية في عصرها الذهبي أسطول حربي تجاري لحفظ سيادة مصر السياسية ولنشر تجارتها في سائر الأنحاء ولما كثر تردد الأجانب على مصر أنشئ بمدينة نوكواتيس محكمة خاصة تنظر في الدعاوى التجارية التي تنشأ بين المصريين واليونانيين.
ويرى ريفيو أن قوانين قدماء المصريين كانت تتناول بعض الأحكام الخاصة بالتجارة، أما قوانين روما فلا تعرف التفرقة بين القانون المدني والقانون التجاري، ولما جاء الإسلام وجد العرب يشتغلون بالتجارة بين الحجاز واليمن والشام ثم امتدت تجارتهم في ظل راية الإسلام من الصين شرقًا إلى الأندلس في المحيط الأطلسي غربًا وبحر البلطيق شمالاً ومخرت سفنهم البحار تحمل أصناف التجارة من الهند والصيد ومدغشقر وزنجبار واليمن إلى البصرة فبغداد فالدار البيضاء فقرطبة فصقلية فالقيروان فالإسكندرية وجاء في القرآن الكريم أحكام خاصة بالتجارة فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) إلى أن قال (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم).
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة التي نزلت منذ ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن أن القاعدة في الإثبات الكتابة ما عدا الأحوال التجارية وهذا مذهب عطاء وابن جريح والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري وهذا ما تأخذ به الشرائع الحديثة منذ القرن التاسع عشر فقد استثنى المشرع الحديث المواد التجارية كما نعلم من قاعدة وجوب الإثبات بالكتابة مهما بلغت قيمتها (كتاب الإثبات للأستاذ أحمد نشأت بك).
ثم إن بحوث فقهاء الشريعة الإسلامية في المسائل التجارية من حوالات وسفاتج وشركات وبيوع وقروض وإفلاس كنز لا يفنى ومعين لا ينضب ويجد الباحث ما يريد الوقوف عليه في هذا الشأن في بطون كتب الفقه الإسلامي خصوصًا فقه الإمام مالك بن أنس بن مالك والتي ترجم لبعضها إلى اللغة الفرنسية ومحفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس، ويشعر المطلع على هذه المصنفات أنه يقرأ في كتب شرح القانون التجاري الحديث.
ولم يقتصر بحث علماء الشريعة في القانون التجاري البري - وإنما عالجوا - خصوصًا وقت وجودهم في الأندلس - القانون التجاري البحري وأخذ الإفرنج عنهم كثيرًا من قواعدهم وألفاظهم ونذكر فقط على سبيل التمثيل أن الإفرنج أخذوا كلمة avorie عن عرب الأندلس من كلمة (عوار)، ومعناها (عيب) إذ يقول العرب سلعة ذات عوار: وأخذوا أيضًا كلمة (أميرال عن كلمة أمير البحر)، وأخذوا كلمة arsenal عن (دار الصناعة)، ويطول بنا المقام إذا استرسلنا في بيان ذلك ويكفي أنه قد شهد بذلك علماء الإفرنج فقد وضع البارون (كاردي فو) كتابًا في تراث عرب الأندلس أسماه le penseur d’islam شهد فيه بما كان لعرب الأندلس من فضل على المدنية الأوربية الحالية وخاصةً ما كان منها متصلاً بفن الملاحة والتشريع البحري فهم الذين اخترعوا (بيت الإبرة) أي البوصلة لهداية السفن في الملاحة كما أن شهاب الدين أحمد بن ماجد مؤلف كتاب (الفوائد في أصول البحر والقواعد) هو الذي قاد سفن فاسكو دي جاما إلى الهند من طريق جنوب إفريقيا عام 1498، وقد أخذ المسيو Gabriel Farrand وزير فرنسا المفوض بعض صور زنكغرافية لكتاب ابن ماجد ونشره بين ما كتبه المستشرقون بباريس عام 1921، وقد وضع أيضًا سليمان ماهر المعروف بالماهري كتابًا آخر في فن الملاحة والأحكام التي تجري على الملاحين وأصحاب السفن وهذه الكتب محفوظة مع آلاف الكتب العربية المخطوطة في مكتبة الفاتيكان بروما كما أفاض كثير من علماء الغرب في فضل الشركة الإسلامية على القوانين الأوربية في الماضي، ويكفي أن نشير الآن إلى الكتاب الذي ظهر منذ عامين واشترك في وضعه بعض المستشرقين وعنوانه The legay of Islam أي تراث الإسلام فقد أكد فيه المستشرق الكبير المسيو ساتبلانا في مقال عن الشريعة الإسلامية أن أوربا أخذت بعض قواعدها في القانونين المدني والتجاري عن الشريعة الإسلامية وهذا هو ما قاله بالحرف الواحد:

(Among our positive acquisitions from arab law, there are legal institutions such as limited partinerships (quiràd), and certain technicalities of commercial law. But even omitting these, there is no doubt that the high ethical standard of certrain parts of arab law acted favourable on the development of our modern concepts and, therin lies its enduting merit). [(1)]

اتصل التجار الإيطاليون وغيرهم من الأوربيين وفي العصور الوسطى إبان الحرب الصليبية وبعدها بالمسلمين واطلعوا على نظامهم الفقهي والقضائي الرائع بحكمته وبساطته وخلوه من التعقيدات الشكلية فساعدهم ذلك وشجعهم على التخلص من تعقيدات القانون الروماني والقانون الكنسي التي تدعو إلى بطء المعاملات وعرقلة التجارة فقط روى زميلنا الدكتور علي إبراهيم الزيني بك الأستاذ بجامعة فؤاد الأول أن أحد عظماء كتاب الغرب وهو ليربيور ليجونيير.
قال (إن العادات التي أدخلها التجار الإيطاليون في كل مكان تكون معظمها من عناصر مستمدة من القانون الروماني ولو أن منها أيضًا عناصر مأخوذة من عادات العرب والأتراك).
والواقع هو أن أحكام الشريعة الإسلامية على ما عرفناها من البساطة والخلو من التعقيد والرسميات ملائمة بنوع خاص للسرعة والثقة اللذين تقتضيهما المعاملات التجارية ولهذا سرعان ما اقتبس الغربيون أحسن ما في تلك العادات واتخذوه قانونًا للتجارة عندهم، ولما جاء عهد المغفور له محمد علي باشا كانت التجارة من أهم ما عنى به فأنشأ لها ديوانًا خاصًا شبيهًا بوزارة التجارة (القضاء التجاري - مقال منشور بجريدة الأهرام يوم 4 فبراير سنة 1940 للأستاذ عبد الله حسين المحامي)، كما أنشأ سنة 1261 مجلسًا للفصل في المنازعات التجارية بين الأهالي والأجانب وجعل مقره الإسكندرية (القضاء التجاري في مصر مقال منشور للأستاذ محمد محمود علام المحامي بجريدة الأهرام في 28 نوفمبر سنة 1938)، وفي سنة 1465 هجرية أنشأ مجلسًا آخر على نمطه في القاهرة وكان كل من هذين المجلسين يتكون من عدد من أعيان التجار غالبهم وطنيون والأقلية أجانب وقد أنشئ بعد ذلك، سنة 1855 مجلس استئنافي تنظر فيه الأحكام المستأنفة من المجالس الابتدائية التجارية وكان هذا المجلس مكونًا من ستة أعضاء نصفهم من الأجانب (المحاماة للمرحوم أحمد فتحي زغلول باشا)، وفي سنة 1856 صدرت لائحة تقضي بأن مجالس التجارة تحكم في القضايا وفقًا للعرف التجاري في مصر وطبقًا للقانون التجاري العثماني وعند عدم النص يرجع إلى القانون الفرنسي.
ولما تبوأ عرش مصر العاهل العظيم المغفور له إسماعيل باشا وجه عظيم عنايته إلى تجارة مصر البحرية فأنشأ الشركة العزيزية التي عرفت فيما بعد بمصلحة البوستة الخديوية وكان يتبعها أسطول تجاري كان فيه من البواخر الكبيرة ست وعشرون تجوب البحار رافعة العلم المصري وتنقل الناس والمتاجر والبريد بين ثغور مصر وشواطئ البحر الأبيض المتوسط في سوريا والأناضول وبلاد اليونان وشواطئ الدردنيل والبوسفور وثغور البحر الأحمر كسوا كن ومصرع وينبع وجدة والجديدة وتجتاز بوغاز باب المندب إلى زيلع وبربره وأراد بعد ذلك المغفور له إسماعيل باشا أن يحيط هذا الأسطول الضخم بسياج من القوانين العصرية تطبقها محاكم تُحاكي النظم الأوربية في تشكيلها.
ونحن جميعًا نعلم كيف انتهى الأمر بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1876 تلك المحاكم التي حاول نوبار باشا عام 1884 بمناسبة مؤتمر المحاكم المختلطة أن يقضي على استقلالها ونزع كل صفة دولية لها ولكنه أخفق في مسعاه بحجة أن المحاكم الأهلية لم يتم تنظيمها بعد وقد شكل في محيط المحاكم المختلطة دوائر تجارية للفصل في القضايا التجارية ثم أصلحت المحاكم الأهلية ووضعت لها شرائعها من مدنية وتجارية وغيرها على مثال القانون الفرنسي واستمر القضاءان يعملان جنبًا إلى جنب في توزيع العدالة وتقديم العلم القانوني في مصر إلا أن المحاكم المختلطة كانت تتوسع من ناحيتها في تطبيق نظرية ابتدعتها ونعتتها بنظرية الصالح المختلط وكان من مقتضاها أن كل قضية يكون فيها لأجنبي صالح ولو كان صوريًا تكون من اختصاصها، ثم إن اتفاق مونترو عام 1937، ولو أنه لا يقضي على هذه النظرية إلا أنه أصبح مشروعًا طبقًا لأحكامه جواز الاتفاق بين أولي الشأن من مصريين وأجانب أو أجانب فقط على قبول اختصاص المحاكم الأهلية بعد أن كانت المحاكم المختلطة تقضي باطراد بعدم شرعية هذا الاتفاق وكان من نتائج ذلك الزيادة المستمرة فيما يعرض الآن من القضايا على المحاكم الوطنية وقد بدأت مصر منذ الخامس عشر من أكتوبر سنة 1937 فترة الانتقال المنصوص عليها في اتفاقية مونترو والمقصود منها توطيد التعاون بين المصريين والأجانب ولهذا عني أولو الأمر بتهيئة المحاكم الوطنية للفصل في قضايا المحاكم المختلطة بعد انتهاء فترة الانتقال منذ وضعت معاهدة مونترو موضع التنفيذ وجد أن القضايا التجارية في المحاكم الأهلية في ازدياد مستمر فقد بلغت عام 1638 - 1939 أمام محكمة مصر الأهلية وحدها 539 قضية كلية وحوالي 1200 قضية جزئية، وهذا ما حدا بأولي الأمر إلى إنشاء دوائر تجارية في محيط القضاء الأهلي.
إن للقضاء التجاري خصومًا وأنصارًا فخصوم القضاء التجاري يقولون إن مثل هذا القضاء كان يوجد ما يبرره في العهد الماضي لما كان القانون التجاري لم تدون عاداته ولم تصدر بها مجموعة خاصة أما الآن فقد جمعت تلك العادات ودونت وصدرت بها قوانين خاصة فالقضاة العاديون أي الفنيون أقدر من التجار أنفسهم على الفصل في القضايا التجارية، فيوجد في كثير من الدعاوى أمور يستدعي الفصل فيها خبرة فنية خاصة لا تتوافر في القضاة التجار كما أنه قد تعرض بعض القضايا على المحاكم التجارية فتحكم فيها بعدم الاختصاص لأنها مدنية، فيسبب ذلك لذوى الشأن مصاريف كما يضيع عليهم وقتًا طويلاً ويُضاف إلى ذلك تحيز القضاة التجار إلى زملائهم من التجار فقد ثبت في فرنسا أن الدعاوى التي يحكم فيها قضاة من التجار وتستأنف أمام القضاء الاستئنافي حيث لا يجلس قضاة من التجار تلغي أحكامها بنسبة أكثر من الأحكام الأخرى التي تلغى أمام الاستئناف، ويكون قد حكم فيها ابتدائيًا من قضاة فنيين ويقولون أيضًا إن إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وهما بلدان تجاريان عظيمان تخضع فيهما المعاملات المدنية والتجارية لقواعد واحدة مستمدة من القانون العام المسمى Common Law، ولا يوجد فيها قضاء تجاري مستقل وقد ألغيت بالفعل المحاكم التجارية في إسبانيا عام 1868، وفي اليونان عام 1887، وفي هولندا عام 1827 وفي إيطاليا عام 1888، وفي رومانيا عام 1890، وكذلك لا توجد محاكم تجارية في دوقية لوكسمبورج وألغيت كذلك في المكسيك عام 1857، وفي شيلي عام 1866، ووضعت سويسرا أيضًا عام 1883 قانونًا للالتزامات شاملاً ما كان منها مدنيًا أو تجاريًا وهو الذي أدمج عام 1912 في القانون المدني السويسري.
أما أنصار القضاء التجاري فيرون أن القانون التجاري لم يبين جميع الأحكام الخاصة بالتجارة بل لا يزال هذا التشريع ناقصًا فالقانون التجاري لم يبين أحكام الحساب الجاري والتأمينات البرية كما أن بعض القوانين التجارية لها صيغة الأمر أما الأخرى فتفسيرية ولهذا وجب الالتجاء إلى قضاة من التجار لأنهم أعرف بعاداتهم وتقاليدهم من القضاة الفنيين ولهذا توجد محاكم تجارية في النمسا والمجر وألمانيا وبلجيكا وروسيا القيصرية وفي بعض مقاطعات سويسرا وتركيا والأرجنتين إنما المحاكم التجارية في النمسا وألمانيا يرأسها قاضٍ فني يعاونه اثنان من المحلفين التجار أما في فرنسا وهي مصر تشريعنا فكانت المحاكم التجارية تعقد فيها في الزمن القديم في الأسواق والموالد ويجلس للحكم فيها حراس هذه الأسواق وبعض التجار وأول محكمة تجارية نظامية عرفت في تاريخ فرنسا هي محكمة باريس التجارية التي أنشأها شارل التاسع عام 1563، وبعد ذلك كثرت في فرنسا هذه المحاكم وكان عددها 67 محكمة في منتصف القرن الثامن عشر، ولم يلغِ تشريع الثورة الفرنسية هذه المحاكم بل أبقاها ولا زالت منتشرة في جميع أنحاء فرنسا بين كاليه وبوردو ومارسيليا وليون ونانسي وغيرها تقضي في أقضية التجار رغم ما يوجه لها من النقد ويجلس للحكم فيها قضاة من التجار.
أما القضاء التجاري المختلط في مصر فقد كان قبل معاهدة مونترو ويجلس للفصل فيه قضاة فنيون عاديون ففي المحاكم الجزئية التجارية كان يجلس فيها قاضٍ فني أما المحاكم الابتدائية فكان يجلس فيها ثلاثة من القضاة الفنيين اثنان منهم من الأجانب أحدهما الرئيس وقاضٍ وطني ومعهما اثنان من المحلفين التجار أحدهما وطني والآخر أجنبي ويجلسان بجانب القضاة العاديين ورأي المحلفين قطعي في الدعوى لا استشاري بمعنى أنه إذا انضم لرأيهما أحد القضاة الثلاثة صدر الحكم وفقًا لرأيهما أما بعد معاهدة مونترو فإسقاطًا لحجة خصوم القضاء التجاري أُلغي نظام المحلفين وأصبح القضاة الفنيون هم وحدهم الذين يفصلون في الأقضية التجارية وهذا أيضًا هو النظام الذي اتبع الآن في تشكيل المحاكم التجارية في محيط القضاء الوطني ولقد ثبت بالتجربة أن القضاء التجاري المشكل على هذا الوجه قد قام خير قيام بالفصل في أنواع النزاع التجاري، لم يكن للمصريين نصيب يذكر في التجارة والشركات التجارية التي تشتغل في بلادهم لأن الشركات المساهمة التي كانت تؤلف في مصر عمادها رؤوس الأموال الأجنبية والعمل الأجنبي غير أنه لما قامت الحرب الكبرى عام 1914، وامتنع ورود الكثير من المصنوعات وأصناف المتاجر اندفعت بعض الأموال المصرية في سبيل الصناعة والتجارة إلى جانب الزراعة التي كان ميل المصريين متجهًا دائمًا إليها ولهذا أصبح قانون التجارة لا يتفق مع مقتضيات هذا العصر فالقانون التجاري الأهلي لا يشمل جميع المسائل الخاصة بالتجارة بل أغفل الشيء الكثير منها فقد انفرد التشريع المختلط بالصلح الواقي من الإفلاس ولا مقابل له في التشريع الأهلي وما أشد حاجة التجار الوطنيين إلى هذا النوع من الحماية أسوة بزملائهم الأجانب أمام المحاكم المختلطة كما أن نظام وكلاء الديانة في حاجة إلى أسس وقواعد ثابتة ويا حبذا لو أخذ في مصر بنظام وكلاء الديانة الموظفين كما هو عليه الحال في النظام الإنكليزي وإنا ندعو خريجي كليتي التجارة والحقوق إلى الانتظام في سلك وكلاء الديانة ليكونوا عونًا على تحقيق مشاكل الإفلاس المعقدة ولهذا يقع على عاتق لجنة تعديل القانون التجاري سرعة تنقيح القوانين التجارية وسد نقصها والاستعانة في ذلك بما قرره القضاء المختلط من المبادئ الهامة في هذا الشأن فالقانون التجاري المصري لم يعد متفقًا مع مقتضيات هذا العصر فبينما فرنسا التي أخذنا عنها تشريعنا تابعت حركة إصلاح القوانين التجارية واشتركت في المؤتمرات الدولية بشأن التشريع التجاري وآخر ما عملته إصدارها في عهد وزارة المسيو بلوم Blaume عام 1934 عدة قوانين جديدة خاصة بالأوراق التجارية والشركات والإفلاس وراعت في القوانين الخاصة بالأوراق التجارية ما كان قد قرره مؤتمر جنيف عام 1930 بشأنها - إذا بالتشريع المصري لم يطرأ عليه أي تعديل.
ونذكر في هذا المقام أن أول من فكر في العهد الحديث في تعديل القوانين المصرية هو صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا وقت أن كان عميدًا لكلية الحقوق فقد أدرك بثاقب رأيه أن القوانين المعمول بها في حاجة إلى إعادة نظر كاملة لأن تجارب الحياة كشفت فيها عن عيوب وعن وجوه إصلاح فلما ولي مقاليد الحكم عام 1939 عمد إلى تأليف لجان لبناء القوانين الجديدة وراعى في تشكيلها أصدق الاعتبارات التي تتفق والصالح العام واختار لها أيضًا العلماء الأجانب قاصدًا بذلك أن تكون القوانين الجديدة مثالاً يُحتذى به في بعض الأمم الأخرى فتصبح مرجعًا يهتدي به لتذكر بين أمم الأرض كما كان يذكر القانون الألماني والقانون السويسري، ولكن قضت الأقدار بعد ذلك أن تحل هذه اللجان ثم يُعاد تأليفها المرة بعد المرة والتشريع واقف كما هو بينما الحياة تتطور والبلاد في حاجة إلى إصلاح قانوني إلى أن ولي مقاليد وزارة العدل حضرة صاحب المعالي الوزير مصطفى الشوربجي بك فعمل على إصلاح التشريع التجاري البري واختار للجنة تعديله ثلاثة من أعلام القانون في مصر وهم حضرات أصحاب العزة حامد فهمي بك وفؤاد حسني بك والدكتور محمد صالح بك، أما القانون البحري فقد كان أسعد حظًا من القانون التجاري البري فقد رأى حضرة صاحب المعالي أمين أنيس باشا وزير العدل السابق حاجة القضاء المختلط القائم وحدة حتى الآن بأعباء تطبيقه إلى قانون بحري جديد يتفق مع ما وصلت إليه الوحدات البحرية من التقدم والرقي فألف عام 14935 لجنة لتعديله برئاسة حضرة صاحب السعادة يونس صالح باشا المستشار الملكي وقد قطعت هذه اللجنة شوطًا كبيرًا نحو إتمامه فأدت بجهدها العظيم جزءًا كبيرًا من الأمانة التي وكلت إليها.
ستلغي المحاكم المختلطة في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة 1949 أي بعد تسع سنين وما ذلك الأجل ببعيد وسيؤول عملها إلى المحاكم الوطنية وإلى القضاة الواقفين والجالسين والمحامين الوطنيين ولهذا يجب متابعة التجديد في أنظمتنا القضائية الأهلية حتى إذا ما انتهت فترة الانتقال توطد الأمر كله للمحاكم الوطنية فلا يجد المتقاضون صعوبة أو اختلافًا بين القضاء المختلط الماضي والقضاء الوطني الباقي.
محمد كامل أمين حلس
القاضي بمحكمة مصر الأهلية



[(1)] وقد عالج الشيخ الجليل ابن عابدين في رسائله المطبوعة في الأستانة بعض المسائل الخاصة بالتشريع البحري نذكر منها عقد التأمين البحري.

بحث في تفسير المادة (355) عقوبات

مجلة المحاماة – العدد السابع
السنة الثالثة والثلاثون سنة 1953

بحث في تفسير المادة (355) عقوبات لحضرة الأستاذ عبد الباقي دكروري القاضي بمحكمة القاهرة الابتدائية

ثار البحث أخيرًا بمناسبة ارتكاب أحد الأمراء قتل خمسين رأسًا من الغنم رميًا بالرصاص – بدون مقتضً - وذلك حتى لا تتسرب هذه السلالات الممتازة من الأغنام إلى الدوائر الزراعية التي أرادت الانتفاع بها في تحسين النسل.
وسواء صح نسبة هذا الجرم إلى سمو الأمير أم لم يصح فإننا لا نعني في بحثنا هذا إلا تفسير ما ظن في النص المذكور من غموض وإبهام.
ولتوضيح ذلك نذكر أن المادة (355 ع)
نصت على ما يأتي:
(يعاقب بالحبس مع الشغل كل من قتل عمدًا بدون مقتضً حيوانات من دواب الركوب أو الجر أو الحمل أو من أي نوع من أنواع المواشي أو أضر به ضررًا كبيرًا إلخ).
ومقضى هذا النص أن الأغنام لا شك داخلة تحت (أي نوع من أنواع المواشي) - ومما لا شك فيه كذلك أن هذه الأغنام أعدت للتناسل أو للذبح وبالطريقة الشرعية بقصد الأكل - وهذا هو ما قصد إليه المشرع في تعبيره بدون مقتضً - حتى يخرج من ذلك القتل العمد – والرأي عندي أن هذه المادة تتناول بالعقاب المالك وغير المالك – ذلك لأن المادة (354 ع) السابقة عليها نصت على عقاب كل من كسر أو خرب لغيره شيئًا من آلات الزراعة أو زرائب المواشي إلخ – ومفهوم هذا أن المادة (354 ع) تعاقب على تخريب ملك الغير - بينما نص المادة (355 ع) خلا من كلمة (الغير) - وقد يرد على هذا الرأي برأي أستاذنا جندي عبد الملك المستشار السابق بالنقض أنه فسر م (313 ع) المقابلة للمادة (358 ع) الحالية التي تنص على ما يأتي: يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة شهور إلخ - كل من أتلف كل أو بعض محيط متخذ من أشجار خضراء أو يابسة.
إذ قال أستاذنا الفقيه الكبير شرحًا لهذا النص إنه ولو لم تنص المادة المذكورة على شرط ملكية الغير للمحيط المتلف، ولكن من المقرر أنه لا وجود للجريمة المنصوص عليها في هذه المادة متى كان للفاعل حق التصرف في المحيط الذي أتلفه - ذلك لأن المادة (358 ع) وردت في الكتاب الثالث تحت عنوان (في الجنايات والجنح التي تحصل لآحاد الناس) مما يفيد أن الغرض منها المعاقبة على الاعتداء على محيطات الغير.
ومع احترامنا لرأي أستاذنا الجليل - أرى أن المادة (355 ع) تعاقب على قتل الحيوان كافة - إذا وقع القتل بدون مقتضً – سواء كان الحيوان مملوكًا للفاعل أم لغيره - بدليل أن المشرع لم يذكر في المادة (355 ع) النص على ملكية الحيوان للغير كما نص في المادة (354 ع) الخاصة بتخريب آلات الزراعة.
ولا شك أن المشرع أغفل النص على ذلك عمدًا، ولم يكن ساهيًا عن تقرير ذلك - حتى يمكن أن يتناول النص بالعقاب مثل الحالة التي أشرنا إليها في صدر هذا البحث.
هذا هو مبلغ ما وصل إليه جهدي المقل من تفسير للمادة المذكورة فإن أصبت فبها ونعمة وإن أخطأت فالرأي لحضرات الأساتذة المشتغلين بهذه المادة تدريسًا ولعلهم يدلون برأي يضع الحق في نصابه.

الشروع في الرشوة من جهة الموظف

مجلة المحاماة

الشروع في الرشوة من جهة الموظف
للأستاذ مرقص فهمي بك

رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.
غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون - بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا - وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.
لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها - وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها - والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.
أما الجناية التامة - فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات - وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) - يُعد مرتشيًا - كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته - أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).
نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.
قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص:
1 - وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 - موظف مختص بما يطلب منه.
3 - أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.
لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير - فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة - ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه - فجناية الرشوة لم تقع - وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني - وقد عدل هنا بمحض إرادته.
ولقد نقل أصحاب البنديكت - هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 - ما يأتي:
((15) وفي حالتي الرشوة - الرشوة ممن يعرض - ثم الرشوة حين تقبل - تتم أركان الجريمة - بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين - وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً - بل يكفي أن يكون العرض قد قبل - أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).
وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي:
((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود - فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية - (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).
ونرى في هذه النقطة المعينة - وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب - نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية - تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة - فحقت العقوبة.
أما العدول بعد ذلك - ولو اختيارًا - فلا يهم التشريع في شيء - ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا - وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء - عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.
حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.
ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟
تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.
أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟
أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!
وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).
ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.
ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة (8) و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.
قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأنه قد انتفع فعلاً بانتقاد الفقهاء على تلك النصوص، فأخذ بمبادئ التشريع الحقة، وقرر أن الرشوة عمل واحد هي العقد بين متعاقدين نسأل بعد هذا متى يقع الشروع وكيف يكون ؟
نقرأ في البنديكت نمرة (16):
(من جهة الراشي فقد تمت أركان الشروع بمجرد العرض ولو لم يقبل، ومن جهة الموظف، فإنه إذا اقترح الرشوة بدون أي عرض أو وعد فهذا يكفي لتكوين الشروع من جهته.
ثم نقرأ أيضًا في جارو مجلد (4) طبعة ثانية صفحة 58 في أوائلها ما نصه:
(تتم الجناية كاملة إذا أخذ الموظف النقود المعروضة أو قبل الوعد لكنها تكون شروعًا - إذا لم يقبل الموظف - ومن الجهة الثانية فإن الموظف يمكنه أن يرتكب جناية الشروع إذا هو اقترح الرشوة بدون أن يعرضها عليه أحد).
ولعل هذا الرأي هو الذي كان مصدرًا لحكم النقض السابق، غير أننا نلاحظ على هذا الرأي ما يأتي:
أولاً: إن أصحاب البنديكت مع اهتمامهم في جميع تدويناتهم بنقل الأحكام التي تصدر تقريرًا لآرائهم نراهم قد نقلوا هذا الرأي خاليًا من أي حكم أو من أي تقرير آخر.
ثانيًا: إن جارو - بعد أن كتب هذا الرأي في كتابه - قد أحس بأنه رأي غير مسند فأراد إخلاصًا للعلم عند المراجعة أن يدلل على ضعفه في الحاشية، فتراه يكتب في أسفل الصفحة تعليقًا بالنص الآتي:
(7 - هذا الرأي يظهر لنا أنه نتيجة لمبادئ الشروع العامة، ولكن يجب علينا أن نلاحظ أن العلماء لم يرد في مباحثهم إمكان الشروع في الرشوة من جهة الموظف، وكذلك نحن لم نجد في فقه المحاكم مثلاً للاتهام بشروع من هذا القبيل.
ثالثًا: وهذا هو القاطع إن جارو لم يكتفِ بالحاشية التي نقلناها - بل لما تقدم في البحث واستعرض المبادئ مرة ثانية نراه قد نقض ذلك الرأي الأول نقضًا صريحًا، فكتب في صفحة 75 ما نصه:
(المادة (177) إنما تقرر العقوبة على قبول العرض أو الوعد للغرض المعين، فهي بذلك تجعل الجريمة في اتفاق الإرادتين).
وعلى هذا فإن طلب نقود - إذا لم يقبله من طلب منه - لا يعتبر إلا شروعًا في جنحة الاتجار بالوظيفة، وهي جنحة لا عقوبة عليها بنص في القانون.
رابعًا: أن هذا الرأي الباطل الذي رجع عنه أصحابه - ذلك الرجوع الصريح - إنما كان نتيجة لتصور جريمة الرشوة عندهم على اعتبار أنها قد جمعت بين عملين مستقلين - يجب ملاحظة كل منهما على حدة - وقد بينا فيما تقدم بطلان هذا التصور من جهة قانوننا ومن البديهي أن التناقض بين الأساسين يقتضي التناقض بين النتيجتين.
إتيانًا بما تقدم إتمامًا للبحث، وأخذًا بقواعد النظرية الجنائية من أصولها، وكان لنا أن نكتفي بنصوص القانون عندنا فإنها صريحة في استحالة الشروع من جهة الموظف بل في استحالته أيضًا من جهة الراشي إذا اقتصر على العروض قولاً ذلك لأننا قد نقلنا نص المادة (89)، وهي صريحة أن الرشوة التامة إنما هي (قبول) الموظف، ومهما تعب العقل فإنه لا يستطيع أن يجد للشروع في القبول إمكانًا لا خياليًا، ولا ماديًا يتمثل ظاهرًا في الوجود.
نقول - لا خياليًا، ولا فعليًا - إذ لا نستطيع أن نفهم من جهة الخيال شيئًا غير القول إلا ترددًا في نفس الموظف - إذا عرض عليه أمر - فقد تقف نفسه بين القبول وبين الرفض، وهذه مداولة وحيرة وتردد، فلا نستطيع أن نصفها قبولاً ولا شروعًا فيه، ولا تستطيع أن نصفها رفضًا فهي هواجس تطرأ على النفس مثلها مثل كل الخيالات الطارئة فلا هي عزم، ولا هي قصد ثابت، فمن المحال أن تكون شروعًا، وهو بدء في العمل كما هو معروف، قد تقول ولكن الموظف إذا طلب، قد صدرت منه كلمة فعلاً، وقد ظهر قصده !
نعم لكن القصد ليس شروعًا - مهما تحقق - بل لا بد من البدء في التنفيذ.
ثم نعم ثانيًا: لكن الجناية هنا، وبالنص هي القبول فالقبول مستحيل لعدم الإيجاب والشروع فيه كذلك مستحيل لأن استحالة واقعة تجعل الشروع فيها أمرًا مستحيلاً طبعًا.
ثم نعم ثالثًا: لكن الاعتراض راجع إلى نسيان أننا في مجال توقيع عقوبات، وتعرف جنايات كما وضعها الشارع تحديدًا، لا كما يريد الفكر، والفكر كثير المذاهب فإذا قال الشارع أن الرشوة هي القبول وجب أن نقف عند هذا ولا نتعداه، ووجب أن نبحث في هل لهذا العمل من شروع ممكن ؟.
اعترض باحتمال أن يقبل صاحب الحاجة طلب الموظف، فيعرض عليه ما طلبه أفلا تتم الرشوة ؟
الاعتراض غير مسند - بل هو يعزز الرأي الذي نقول به - لأنه إذا قبل صاحب الحاجة العرض فقد تم العقد كاملاً، وقد اتحدت الإرادتان - اتحادًا جنائيًا فاجتمعت أركان الواقعة، واستحقت العقوبة، ولن نجد أبدًا لاتحاد الإرادتين شروعًا !!!
والاعتراض عند تحليله أيضًا لا يصلح دليلاً إلا لرأينا لأن قبول صاحب الحاجة لعرض الموظف يتضمن بالطبع عرض الهدية أو التعهد بها - ثم يعقبه قبول الموظف، وعلى هذا فقد توفر العرض من جهة الراشي، ثم القبول وإن ثبت مرتين، فتحققت الواقعة كما حددها النص وتمت أركان العقد الجنائي كلها، ولا يكون طلب الموظف إلا اقتراحًا للتعاقد الجنائي أو الفاتًا لنظر صاحب الحاجة إلى التفكير في الجناية، وما قال أحد أن مجرد اقتراح فعل جنائي يعتبر شروعًا فيه.
على أن الشارع المصري وهو ينقل القانون الفرنسي رأي في المادة (179) - عند النقل كلمة (الشروع) فحذفها بتاتًا فلا نراها عندنا - وفي هذا تدليل ضمني لكنه واضح الدلالة على أن اعتبار الشروع في الرشوة من طريق القواعد العامة، وهي البدء في العمل على إطلاقه لا يمكن أن تتحقق - في مسائل الوعد والقبول - والتعاقد الكلامي بل لا بد للشروع في هذا المقام من حكم خاص وبيان مستقل.
ثم بعد هذا الحذف أراد أن يضع حكم الشروع فقرره في المادة (96) بالنص الآتي: (96) من شرع في إعطاء رشوة - ولم يقبل منه - أو في الإكراه بالضرب والتهديد ونحو هذا ولم يبلغ مقصده يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة.
بناءً على هذا فالنص صريح بأن الشروع إنما هو البدء في عمل مادي هو إعطاء الرشوة وتقديمها فعلاً ماديًا ظاهرًا، أما العرض القولي - فقد ذكره القانون في مواد الفعل التام - وتركه في مادة الشروع فإذا عرض الراشي الرشوة قولاً - ولفظًا مجردًا فلا شروع أصلاً بنص المادة، وإذا كان الشروع لا يتكون بالقول - من جهة الراشي - فهو كذلك لا يتكون بالقول من جهة الموظف لأن مبادئ الشروع واحدة لا تتغير.


أضف الى مفضلتك

حق النيابة في استئناف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات في ظل قانون الإجراءات الجنائية

مجلة المحاماة – العدد السابع
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952

بحث
حق النيابة في استئناف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات في ظل قانون الإجراءات الجنائية [(1)]
للأستاذ محمد عبد العزيز يوسف فهمي وكيل أول نيابة دمنهور الكلية

نصت المادة (402) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجوز للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في الجنح والمخالفات إذا طلبت الحكم بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وحكم ببراءة المتهم أو لم يحكم بما طلبته النيابة.
ولقد ثار الخلاف حول ما إذا كان مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على جريمة معينة يشمل طلب ما قضت به تلك المادة ولو كان ذلك على سبيل الخيار للمحكمة أم أنه يتعين على النيابة أن تطلب صراحةً من المحكمة الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو الحكم بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غير ذلك كالهدم وإعادة الشيء لأصله بحيث إذا لم تطلب ذلك وكان الحكم بأيهم على سبيل الخيار للمحكمة كان استئنافها غير جائز؟
تنص الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من تعليمات النيابة العامة الصادرة بشأن تنفيذ قانون الإجراءات (ص 46) على ما يأتي:
(تعتبر العقوبة مطلوبًا الحكم بها من النيابة في الأحوال الآتية:
( أ ) إذا كان نص القانون المطلوب تطبيقه على الواقعة يقرر حدًا أقصى للغرامة يزيد على خمسة جنيهات).
ويبدو من الاطلاع على هذا النص أن النيابة العامة قد أخذت بالرأي القائل بأن مجرد طلب النيابة تطبيق مادة على الجريمة يشمل طلب كل ما قضت به تلك المادة مع أن الرأي الراجح في الفقه والقضاء يرى عكس هذا الرأي إذ جاء في المذكرة الإيضاحية تعليقًا على المادة (402) إجراءات أن هذا النص يشبه في مجمله نظام الاستئناف الحالي الخاص بالمخالفات (المادة (153) من قانون تحقيق الجنايات المُلغى) إذ تنص تلك المادة على أن للنيابة أن تستأنف الأحكام الصادرة في مواد المخالفات إذا طلبت الحكم بعقوبة غير الغرامة والمصاريف وحكم ببراءة المتهم أو إذا لم يحكم بما طلبته النيابة.
والرأي الذي ساد في الفقه والقضاء أنه إذا كانت العقوبة المنصوص عليها هي الغرامة أو الحبس بطريق الخيار وطلبت النيابة تطبيق المادة المشتملة على هذه العقوبة فتعتبر أنها تركت الخيار للقاضي في توقيع أيهما فلا يجوز لها استئناف حكم البراءة بناءً على أن المادة التي طلبت العقاب بمقتضاها تشتمل على عقوبة الحبس أيضًا، إذ أنه ليس من المعول عليه في جواز استئنافها النظر في العقوبة المشتملة عليها المادة بل إن القانون صريح في أن المعول عليه هو طلبات النيابة وهي لم تصرح بطلب الحكم بعقوبة الحبس (مصر الابتدائية 6 يناير 1909 مج (10) وقنا الابتدائية في 29 يوليو سنة 1921).
وهذا الرأي يرجحه الفقه أيضًا فيرى زكي باشا العرابي في كتابه المبادئ الأساسية للتحقيقات والإجراءات الجنائية ج (2) ط, (940) ص (320) بند (529) أن استئناف النيابة أساسه الطلبات التي أبدتها فعلاً بالجلسة ولم تجبها إليها المحكمة.
كما يراه أيضًا القللي بك في كتابه أصول قانون تحقيق الجنايات طبعة ثانية مكررة (942) ص (470) وجندي بك عبد الملك في الموسوعة الجنائية ج (1) ص (552) بند (16) وما بعده).
وإذن ففي قضايا القتل الخطأ والشروع في السرقة والنصب والضرب والشروع في الرشوة وغيرها من الجرائم المماثلة إذا اكتفت النيابة بطلب تطبيق المادة المنطبقة على الجريمة ولم تصرح بطلب آخر وقضت المحكمة بالبراءة أو بالغرامة أو لم تقضِ بالعقوبات التكميلية أو بغير ذلك فإن استئنافها لا يجوز لأن الحكم بأيها على سبيل الخيار للمحكمة ولم تصرح النيابة بطلب عقوبة معينة.
أما إذا كان النص الذي طلبته النيابة يوجب الحكم بالحبس أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات أو بعقوبة تكميلية أخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله ولا يترك الخيار للمحكمة فإنا نرى أن مجرد طلب النيابة تطبيق المادة المنطبقة يعتبر طلبًا منها بتطبيق العقوبات الأصلية والتكميلية وغيرها التي يوجب القانون الحكم بها فإذا لم تقضِ المحكمة بما أوجبه القانون والذي يعتبر طلبًا من النيابة فإن استئنافها يجوز على التفصيل الآتي:
إذا طلبت النيابة الحكم بغير الغرامة والمصاريف أي بالحبس أو بالعقوبات التكميلية الأخرى أو غير ذلك كالرد وإعادة الشيء إلى أصله فإن استئناف النيابة يكون جائزًا إطلاقًا حتى لو أجابت المحكمة النيابة إلى طلبها وقضت بالحبس أو بالعقوبات التكميلية أو غيرها لأن إجابتها إلى ما طلبت لا تمنعها من استئناف الحكم لمصلحة المجتمع والعدالة (تراجع المادة 402/ 2) بخلاف ما إذا طلبت الحكم بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وأجابتها المحكمة إلى ما طلبت فإن استئنافها لا يجوز.
وهذا الرأي الراجح لا يتفق وتعليمات النيابة العامة إلا إذا استبدلت كلمة أدنى بكلمة أقصى في الفقرة الأولى من البند الثاني من المادة (179) من التعليمات والمشار إليها بصدر هذا البحث لأن الفقرة بوضعها الحالي تفيد أن النيابة العامة أخذت بالرأي المرجوح مع أن الفقرة الثانية من المادة نفسها اعتبرت العقوبة مطلوبًا الحكم بها إذا كان القانون يوجب الحكم بالحبس أو المراقبة أو المصادرة أو الإغلاق أي أن الفقرة الثانية تفيد الأخذ بالرأي الراجح بعكس الأولى مع قيام التلازم بين الفقرتين لوحدة علة الحكم فيهما.


[(1)] أخذت محكمة دمنهور الابتدائية بهيئة استئنافية بوجهة نظر البحث والمراجع المشار إليها فيه وذلك في الحكم الصادر بتاريخ 15 يناير سنة 1952, في القضية رقم (1478) سنة 1951, ايتاي البارود (19 سنة 52 س).

بحث تعاصر النية مع الفعل المادي

مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة العشرون سنة 1939

بحث تعاصر [(1)] النية مع الفعل المادي
De la concomitance de l’intention et du fait matériel.

تمهيد وعرض للمسألة:
الجريمة – في القانون الجنائي - عمدية وغير عمدية، مثل الأولى القتل عمدًا، ومثل الثانية القتل خطأ، ولا بد في هذه وتلك من عنصر أدبي شخصي هو في الحالة الأولى توجيه الإرادة والعمل أو الامتناع نحو إحداث النتيجة: القتل، وفي الحالة الثانية التزام موقف إيجابي أو سلبي وفق الأحوال يؤدي إلى حصول النتيجة المحرمة: القتل، بغير أن تكون مقصودة ابتداءً أو مقبولة قبولاً احتماليًا [(2)] والفصيلة الأولى، أي الجرائم العمدية، هي المقصودة في هذا البحث، فهي لا تقوم بغير وجود (النية) – نية القتل في مثالنا - ولا تقوم بغير وجود (الواقعة المادية) واقعة القتل في هذا المثال.
لا بد إذن من اجتماع هذين الركنين، هذه حقيقة بسيطة لا نزاع حولها، ولكن متى يجب أن يكون هذا الاجتماع؟ وما هي النسبة الزمنية المتبادلة بين كل من الركنين؟ هذه هي المسألة التي نحاول معالجتها الآن.
ولاحتفظ بمثال القتل عمدًا، ولا فرض أن زيدًا من الناس ينقم من بكر أمورًا وقد انتهى إلى عقد العزم والنية عقدًا نهائيًا على قتل غريمه بكر وحدد لذلك اليوم الأخير من شهر معين هو شهر يناير وحدث أن خرج زيد يقود سيارته في اليوم الأول من شهر يناير المذكور، وكان بكر يسير في طريق السيارة دون أن يفطن زيد إلى وجوده ووقع من زيد خطأ ترتب عليه موت أشخاص اتضح فيما بعد أن بكرًا واحد منهم، هنا وجدت نية القتل عند زيد، وحصل أيضًا منه إزهاق النفس الإنسانية التي كان انتوى ازهاقها، فهل نأخذه بجريمة القتل عمدًا؟ كلا الركنين موجود ولكنهما لم يتلبس أحدهما بالآخر، لم يوجدًا في وقت واحد.
الرأي الغالب:
أما الرأي الغالب فيحتم التعاصر بين الركنين ولا يقبل إدانة المتهم في الفرض السابق على أساس القتل عمدًا لأنه ارتكب القتل عندما حدث القتل خطأ لا عمدًا.
وهذا الرأي يستند إلى أساس نظري كما يعتمد على بعض النصوص القانونية: فإن النية الخبيثة وحدها لا عقاب عليها وما لم تقترن ببدء في التنفيذ على الأقل فصاحبها لا يمكن اعتباره مجرمًا بالمعنى القانوني بل أنه قد يصرح عن نيته الخبيثة بأعمال تحضيرية ولكنه إن وقف عند هذا المدى لا يعاقب لأنه لما يشرع في التنفيذ، وما دام الأمر كذلك فلا سبيل إلى محاسبة قائد السيارة على نية القتل التي طوى عليها جوانحه لأنها نية بغير تنفيذ ولا بدء في تنفيذ، فإن كان قد قتل غريمه فيما بعد غير منتو قتله في هذه الساعة لأنه غير عالم بوجوده وغير راغب في وقوع حادثة لا يعلم من يكون ضحيتها، فحسابه محدود بهذه الحادثة: إن ثبت عليه خطأ أخذ بالقتل خطأ وإلا فالأمر قضاء وقدر ولا تثريب عليه.
أما النصوص القانونية التي يعتمد عليها هذا الرأي الغالب فمنها - في قانون العقوبات المصري - المادة (62) (فقرة أولى) التي تعفي من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الفعل) فاقد الشعور أو الاختيار في عمله لجنون أو عاهة في العقل، فإذا كان المتهم قد انتوى ارتكاب الجريمة وهو عاقل ثم أصيب بالجنون وارتكب تلك الجريمة مجنونًا فلا عقاب عليه وذلك لأن النية لم تصاحب الفعل المادي.
وكذلك الفقرة الثانية من المادة المذكورة التي تعفى من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الجريمة) فاقدًا الوعي بسبب السكر الخ.
وتمت مواد كثيرة تشير إلى ركن النية مقرونًا بالركن المادي فالمواد (206) و (208) و (213) و(214) و(215) و(217) و(220) و(221) (باب التزوير) تستعمل عبارات مع علمه (بتقليدها أو بتزويرها) و (بقصد التزوير) الخ مضافة إلى الفعل المادي.
ولقد أراد المشرع المصري الخروج على هذه القاعدة العامة قاعدة التعاصر في مسألة واحدة بخصوصها فاضطر إلى سن تشريع خاص استحدث به جريمة جديدة هي جريمة العثور على شيء ضائع والاحتفاظ به، أما التشريع الذي جرمها به فهو دكريتو سنة 1899 الذي قال:
(كل من يعثر على شيء أو حيوان ضائع ولم يتيسر له رده إلى صاحبه في الحال يجب عليه أن يسلمه أو أن يبلغ عنه إلى أقرب نقطة للبوليس في المدن أو إلى العمد في القرى).
ويجب إجراء التسليم أو التبليغ في ظرف ثلاثة أيام في المدن وثمانية أيام في القرى ومن لم يفعل ذلك يعاقب بدفع غرامة يجوز إبلاغها إلى مائة قرش وبضياع حقه في المكافأة المنصوص عنها في المادة الثالثة.
فإذا كان حبس الشيء أو الحيوان مصحوبًا بنية امتلاكه بطريق الغش فتقام الدعوى الجنائية المقررة لمثل هذه الحالة ولا يبقى هنالك وجه للمحاكمة عن المخالفة.
هذا التشريع الخاص هو – طبقًا للرأي الغالب - دليل على أن الأصل تحتيم تعاصر النية والفعل المادي وإلا ما أحتاج المشرع إلى تشريع يصدره بخصوص مسألة بعينها ما دام الحكم الذي يريده ثابتًا ومستفادًا من المبادئ العامة.
أي أن أصحاب الرأي الغالب يستنتجون من هذا الدكر يتو بمفهوم العكس A Contrario ما يؤيد نظريتهم [(3)].
بل ذهب الأستاذ جرانمولان إلى أبعد من ذلك فقال أن هذا المبدأ العام - وهو وجوب تعاصر النية والركن المادي - ظل محترمًا حتى في هذا الدكريتو فمن يعثر على شيء ضائع ثم تطرأ عليه بعد هذا العثور نية الاحتفاظ به لنفسه لا يرتُكب جنحة السرقة ولا جنحة مشبهة بها لأن الدكريتو المذكور لم يرد الخروج على القاعدة العامة وإنما أحال عليها، وسيأتي تفصيل رأيه.
رأي القضاء الفرنسي:
وليس في التشريع الفرنسي نص خاص بالعثور على شيء والاحتفاظ به فماذا كان موقف القضاء الفرنسي من هاذ الفعل؟ كان موقفه مؤيدًا للرأي الغالب لأنه فرق بين حالتين: الأولى وجود نية الغش عند العثور على الشيء، والثانية طروء هذه النية بعد العثور عليه، وفي الأولى قضى بالعقاب، وفي الثانية قضى بالبراءة.
وقد لخص الأستاذ جرانمولان هذا الموقف بقوله في كتاب (قانون العقوبات المصري - الجزء الثاني - ص (425) - فقرة (1670)) ما يأتي:

La jurisprudence francaise distingue si l’intention frauduleuse existait au moment ou la chose a été trouveé ou si elle n’est survenue que postérieurement.
Elle admet qu’il y a vol si l’intention de s’approprier l’objet est née au moment de la prise de possession car la soustraction fraudu leuse résulte de l’enelèvement de la chose trouvée avec l’intention de se l’approprier.
Dans la seconde hypothèse où la chose a été ramassée sans intention d’appropriation et où cette intention n’est survenue qu’ultérieurement, il n’y a pas vol. La loi exige, en effet, la soustration frauduleuse c’est - à - dire que l’intention criminelle existe au moment où la chose est appréhendée tandisque, dans l’espèce, elle ne s’est formée qu’après coup.

وترجمة ما تقدم:
(يميز القضاء الفرنسي بين حالة وجود نية الغش في اللحظة التي عثر فيها على الشيء، وحالة عدم وجود هذه النية إلا بعد العثور عليه، ويقرر القضاء وجود جريمة سرقة إذا كانت نية تملك الشيء قد ولدت في لحظة الحيازة لأن الاختلاس ينتج من حمل الشيء المعثور عليه حملاً مصحوبًا بنية تملكه.
أما في الفرض الثاني حيث يكون الشيء قد حمل بغير نية تملكه وحيث تكون هذه النية قد وجدت فيما بعد، فلا سرقة، أن القانون يشترط - في الواقع – (الأخذ بنية الغش) ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
وقد أشار الأستاذ جرانمولان في حاشية ص (425) المذكورة إلى أحكام قضائية فرنسية منها حكم النقض في 25 إبريل سنة 1884 وحكم النقض في 11 أغسطس سنة 1879 وحكم النقض في 16 مايو سنة 1903.
رأي الأستاذ جرانمولان:
والتأمل في الفقرات التي اقتبسناها يظهر أن الأستاذ جرانمولان يوافق على رأي القضاء في فرنسا، وتمت عبارة نود أن يقف عندها لما لها من أهمية في خصوص قضيتنا تلك هي قول الأستاذ:
(إن القانون يشترط في الواقع، الأخذ بنية الغش (la soustraction frauduleuse ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
رأي الأستاذ بالنسبة للقانون المصري:
وقد انتقل الأستاذ جرانمولان إلى القانون المصري ثم قال بغير تردد أن الحلول التي تقررت في فرنسا يجب الأخذ بها في مصر حيث النصوص والمبادئ متفقة مع ما يقابلها في فرنسا:

Les solutions de la jurisprudence francaise semblent devoir être admises en droit egyptien où les textes et les principes sont les mêmes.

(المرجع السابق ص (426) فقرة (1671)).
دكريتو 1899:
ولقد وصل الأستاذ، في تمسكه بهذا المبدأ المجمع عليه، إلى حيث خالف رأي لجنة المراقبة القضائية وارتأى أن دكريتو سنة 1899 ليس من شأنه التأثير فيه أي أن العثور على شيء بغير وجود نية تملكه ثم طروء هذه النية فيما بعد لا يعاقب عليه في مصر لأن هذا الدكريتو لم يفعل أكثر من الإحالة على قانون العقوبات وهذا القانون لا يقبل مطلقًا، لا بروحه ومبادئه العامة ولا بنصوصه، أن يعاقب على فعل جنائي لم يقترن بنية جنائية وإنما ولدت بعده. وهاكم نص قول الأستاذ في هذا الصدد:

Mais, quoiqu’ il parle de rétention frauduleuse, sans exiger que la soustraction elle même ait ete frauduleuse, ce texte se borne à renvoyer au code pénal; il ne parait pas qu’il ait entendu innover hi decider qu’il y a vol même dans le cas où l’intention de s’approprier l’object he prend naissance qu’après la mainmise sur l’objet perdu.

(المرجع السابق ص (427) – تابع الفقرة (1671)).
وأنه ليسترعي انتباهنا قول الأستاذ في الفقرة المتقدمة (ومع أنه – أي الدكريتو - يتكلم عن الاحتفاظ بنية التملك بغير اشتراط أن الأخذ عند العثور نفسه كان بنية التملك، فإن هذا النص يقنع بالإحالة على قانون العقوبات، ولا يبدو أنه أراد التجديد أو أراد تقرير وجود السرقة حتى في حالة عدم تولد نية التملك إلا بعد وضع اليد على الشيء الضائع).
وقد سنحت لمحكمة النقض في مصر فرصة قريبة لمعالجة هذه النقطة الفرعية فقضت بغير ما ارتآه جرانمولان.
قالت محكمة النقض:
(يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور على الأشياء الضائعة أن يتوافر لدى العاثر على الشيء الضائع نية امتلاكه سيان في ذلك إن كانت هذه النية مقارنة للعثور على الشيء أو لاحقة عليه [(4)].
وقد جاء هذا ردًا على طعن للمتهم لخصته محكمة النقض بقولها، (وحيث أن أوجه الطعن تتلخص في أن الطاعن لم تكن عنده نية اختلاس الأشياء الضائعة وقت أن عثر عليها مع أن توفر تلك النية وقت العثور على الشيء ضروري لتطبيق قانون الأشياء الضائعة الخ).
وظاهر مما تقدم أن المتهم بنى أول وجه للطعن على تلك المسألة القانونية وتمسك فيها بالقول الذي قال به جرانمولان ولكن محكمة النقض رفضت قبوله [(5)]
رأي القلة:
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النقطة الأساسية فنقول أن الرأي القائل بوجوب التعاصر هو الرأي السائد ولكنه ليس الرأي المجمع عليه.
وقد تصدى لانتقاده الأستاذ البرت شيرون A. Cheron في دروس ألقاها على طلبة الدكتوراه وطلبة المعهد الجنائي بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وقال، بالقياس إلى الحجج النظرية، أنه لا ينازع في وجوب توفر صلة jointure بين النية والفعل المادي وأن هذه الصلة هي في الأغلب صلة في الزمان يتوفر بها التعاصر المذكور، ولكن ليس من المحتم أن تكون هذه الصلة دائمًا صلة زمنية وإنما المحتم أن توجد بين الأمرين رابطة منطقية فإن وجدت فلا مانع، من الوجهة الاجتماعية ولا الوجهة الخلقية، تمنع العقاب ويضرب لرأيه مثلاً، رجلاً انتوى سرقة حافظة نقود موجودة في معطف رجل آخر ولكنه لم يرتكب السرقة خوفًا من أن يراه ثم حدث بعد ذلك أن أراد الأول (ولنسمه (1)) أن يرتدي معطفه فأخطأه وارتدى معطف صاحب الحافظة (ولنسمه ب) فلما فطن إلى خطئه انتفع من هذا الخطأ واختلس حافظة النقود، ثم يضرب مثلاً ثانيًا رجلاً عثر على مال في الطريق فاتجه صوب الشرطة لتسليمه ولكنه غير في الطريق نيته واحتفظ به لنفسه، في هذين المثلين لا توجد الصلة الزمنية التي نسميها التعاصر ولكن توجد الصلة المنطقية وهي، في رأي الأستاذ شيرون، كافية للإدانة.
ويستند الأستاذ أيضًا إلى ما أثبته علم النفس من وجود العقل الباطن ففي المثلين المتقدمين توجد رابطة لا شعورية بين العثور البريء والاحتفاظ غير البريء والسكران الذي ارتكب فاقدًا وعيه جريمة كان انتوى ارتكابها في وعيه قد تأثر في جريمته بعزيمته السابقة التي اختزنها عقله الباطن ولو أنها في الظاهر لم تكن موجودة وقت مقارفة الجرم.
أما النصوص التي ارتكن إليها أصحاب الرأي الغالب فلا يراها الأستاذ شيرون قاطعة، ذلك أنهم تمسكوا بما جاء فيها من عبارات مثل (مع علمه بذلك) الخ ولكن كل هذه الـ Adverbes لا تفيد أكثر من اشتراط النية ولكنها لا تفيد وجوب تعاصر النية مع الفعل.
وأما المادة الـ (57) التي تشير إلى وقت ارتكاب الفعل فهي في رأي الأستاذ حجة قوية تدعم رأي من يخالفهم ولكنه يرى أن في تلك المادة عينها ما يعزز رأيه هو ذلك أنها لا تعفى من العقوبة إلا من تناول الخمر (بغير علمه أو بغير رضاه) ومعنى هذا أن من يتناول الخمر عالمًا بتناولها ليتشجع على ارتكاب جريمة انتوى ارتكابها حالة صحوه، لا ينجو من العقوبة رغم أن النية لن تكون معاصرة للفعل، وقد أردف الأستاذ هذا بقوله أنه يعلم أن المحاكم تبرئ في هذا الفرض على أساس انعدام النية [(6)]
ولكنه ينتقد هذا القضاء لأنه يخالف النص الصريح الذي يشترط أن يكون تناول الخمر بغير علمه أو بغير رضائه ثم لأنه يتنافى مع المصلحة الاجتماعية لأن السكر مع سبق الإصرار لا يجوز اعتباره سببًا من أسباب عدم العقوبة في حين تعتبره المادة (92) من القانون الإيطالي ظرفًا مشددًا.
أما دكريتو مايو سنة 1898 فإن الأستاذ يتساءل لماذا لا نعتبره تقريرًا للقاعدة بدل أن نعتبره خروجًا على القاعدة، فهو يفسره على أساس مفهوم الموافقة في حين أن أصحاب الرأي السابق أخذوا بمفهوم المخالفة.
ونلاحظ نحن فوق ما تقدم أن من الممكن أن يقال - من وجهة نظر الأستاذ شيرون - أن المشرع الصمري في الدكريتو المذكور قصر همه على استحداث جريمة جديدة هي إهمال تسليم الشيء المعثور عليه في حين أن نية اختلاسه لم توجد مطلقًا لا عند العثور ولا بعد العثور وقد جعل هذه الجريمة المستحدثة مجرد مخالفة، ثم خشي أن يفهم من هذا خطأ رغبته في تخفيف واقعة أخذ الشيء أو الحيوان بنية - الاحتفاظ به أي اختلاسه يجعلها مخالفة وهي في الأصل جنحة فعمد إلى هذا التنبيه في الفقرة الأخيرة، فالجريمة المستحدثة إذن بهذا الدكريتو ليست هي العثور على شيء ثم طروء نية اختلاسه بعد العثور عليه لأن هذه الواقعة ليست في حاجة إلى تشريع خاص يجعلها جنحة، وإنما الجريمة المستحدثة بالدكريتو هي أخذ الشيء الضائع وإهمال تسليمه للسلطة المنصوص عليها في المادة المعين دون أن يقترن هذا الإهمال بنية اختلاسه.
ثم نلاحظ ثانيًا أن أصحاب هذا الرأي غير السائد كانوا يستطيعون أن يجدوا في موقف الأستاذ جرانمولان ثغرة ذلك أنه ارتأى إدانة من تناول المسكر أو المخدر عمدًا تشجعًا على ارتكاب جريمة ثم ارتكبها فاقد الوعي، فإن هذا الرأي يفهم من الأستاذ شيرون ولكنه يتسق بسهولة مع ما ذهب إليه الأستاذ جرانمولان في تفسير دكريتو 1898.
ثم نلاحظ ثالثًا أن فريقي الباحثين - في استهدائهم بالنصوص - لم يتكلموا عن النصوص الفرنسية والمصرية - الخاصة بحالة الاشتراك اللاحق للجريمة فقد (كان القانون الفرنسي، فوق معاقبة من يعتاد على إيواء المجرمين الذين يقطعون الطرق ويفسدون أمن الدولة باعتباره شريكًا لهم، تقضي بأن من يخفي أشياء مسلوبة أو مختلسة أو مأخوذة بطريق ارتكاب جناية أو جنحة مع علمه بذلك، يعامل معاملة الشريك ي هذه الجناية أو الجنحة (م 51 – 62)، وكان القانون المصري السابق على سنة 1904 يحتوي على أحكام مطابقة لهذه الأحكام الفرنسية ويجعل من إخفاء الأشياء المحصلة من طريق الجناية أو الجنحة اشتراكًا فيها بعد ارتكابها (م 68 – 69).
غير أن هذا النص الخاص بحالة الاشتراك بإخفاء الأشياء كان موضعًا لانتقاد الفقهاء في فرنسا لأنه يترتب عليه تحميل المخفي مسؤولية جريمة وقعت على غير علم منه، دون أن يتفق سلفًا على ارتكابها ودون أن يساهم فيها، ولأنه لا يتصور من الوجهة القانونية البحتة أن يشترك شخص في الجريمة بعد إتمام تنفيذها، لأن الاشتراك يتضمن اتفاقًا سابقًا على الجريمة وقصد التعاون على إحداثها، مع أن المخفي يعاقب كشريك ولو لم يتوفر عنده شيء من ذلك، فإن لم يكن بد من عقابه فلا يحاسب كأنه شريك في الجريمة التي وقعت بل على فعله كجريمة مستقلة، فلما عدل القانون المصري في سنة 1904 كان لهذه المطاعن أثرها عند المشرع فألغى الحكمين السابقين، وهما الاشتراك بالاعتياد على إيواء كبار المجرمين والاشتراك بإخفاء الأشياء المحصلة من طريق جناية أو جنحة، وبذلك قضى على حالة الاشتراك اللاحق للجريمة، وجعل من إخفاء الأشياء جريمة قائمة بذاتها، ولكنها مقصورة على ما جاء من طريق السرقة دون الجرائم الأخرى، (م 322 ع)، وكذلك فعل المشرع الفرنسي بقانون أصدره في 22 مايو سنة 1915 فألغى الاشتراك بإخفاء الأشياء، مع إبقائه النص الخاص بالاعتياد على إيواء المجرمين، واعتبر إخفاء الأشياء جريمة خاصة ولكنه جعلها عامة على الأشياء المحصلة بطريق أي جناية أو جنحة (م – 46 ع. ف) [(7)].
إذن فالقانون الفرنسي والمصري كانا، قبل تعديلهما، يعرفان حالة الاشتراك اللاحق في جريمة فيعتبران شريكًا فيها من لم تكن عنده نية الاشتراك قبل أو وقت ارتكابها ولكن النية الإجرامية ولنسميها تجوزًا نية الاشتراك - وجدت لاحقة على الفعل، ولكن القانونين لم يأخذا بهذا الاشتراك للاحق إلا في جرائم معينة، أفلا يمكن إذن أن نستنتج من هذا، بمفهوم العكس، أن القاعدة هو وجوب توفر نية الاشتراك مصاحبة للجريمة المشترك فيها؟ ثم أن القانونين عدلا من أحكامهما لاستثنائية المشار إليها تحت ضغط الانتقاد الفقهي الذي أومأنا إليه؛ ألا نرى أن هذا الانتقاد يصدر عن عين الأساس الذي يصدر عنه الرأي الغالب في أمر تعاصر النية مع الفعل المادي؟ وهذه الحلول الوضعية التي انتهى إليها القانونان في شأن إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة (أية جناية أو جنحة) في فرنسا وجريمة السرقة فقط في مصر) ألا تدل على أن المشرع عندما أراد تجريم هذا الفعل احتاج إلى نص خاص إذ لم تسعفه المبادئ العامة التي تحتم تعاصر النية والفعل المادي؟
هذا كله من وجهة نظر الرأي الغالب، فهل يستطيع الرأي الآخر أن يجد في هذه المسألة استنادًا له؟ لست أرى هذا إلا أن يفسرها على أساس مفهوم الموافقة Par analogie كما فعل عندما قابل دكريتو سنة 1898 الذي أسلفنا العرض له.

ختام

نرى من العرض المتقدم أن محكمة النقض عندنا لم تفصل في المسألة الرئيسية التي عالجناها ولكنها أتيح لها الفصل في نقطة فرعية حين قضت بأن الواقعة المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو واقعة معاقب عليها أي أن التعاصر غير مطلوب فيها ولو أنها أسست هذا العقاب على القواعد العامة لكان قضاؤها هذا فصلاً في المسألة الرئيسية، ولكن الظاهر أنها قضت بالعقوبة تطبيقًا للدكريتو أي لهذا النص الخاص الذي رأينا كيف تناقض الرأيان في تفسير دلالته بالقياس إلى مسألة التعاصر بوجه عام.
والواقع أن هذا الدكريتو مفتقر إلى تعديل في الصياغة وأن قوله (الجريمة الواردة في القانون) هو تعمية لا ندري مسوغًا لوجودها فهي أشبه بلغة الساسة منها بلغة المشرعين.
وقد آن الوقت أيضًا لكي يتساءل الباحثون هل ينصحون للمشرع بتحديد موقفه من هذه المسألة الكلية مسألة تعاصر النية تحديدًا واحدًا وواضحًا بالقياس أي جميع الجرائم العمدية.
عبده حسن الزيات
المحامي



[(1)] المجلة: لم نقرأ في المعجمات كلمة تعاصر ولا معاصرة بهذا المعنى والأفضل أن يقال ملابسة النية للفعل المادي أو اقترانها به ونوجه النظر إلى أن الهوامش الآتية هي للأستاذ صاحب المقال.
[(2)] هذا عرض إجمالي كان يفتقر إلى مزيد من الدقة والبيان لو أن المقصود في هذا المقال تحديد الركن الأدبي وعناصره والنية الاحتمالية الخ:
ولكنا نرى – مع ذلك – أن نشير إلى المذهب الذي قال بأن المسؤولية الجنائية قد توجد في بعض الجرائم بغير وجود هذا العنصر الشخصي أي بغير وجود عمد وبغير وجود خطأ فهذه.
مسؤولية مادية موضوعية objective صيغة على غرار المسؤولية المادية المشهورة بالمسؤولية الشيئية في القانون المدني Respon. Réelle ومن القائلين بهذا الرأي برنس وقد شيده على أساس من بعض مواد قانون العقوبات أو اللوائح الأخرى التي تعاقب على أمور بغير اشتراط عمد أو خطأ من المتهم: مثل العثور في حقيبة المسافر على أشياء تستوجب رسومًا جمركية ولكن المسافر لم يقرر وجودها.
ولكن هذه النظرية قد قوبلت بالإنكار من مؤلفين كثيرين منهم جارو وجارسون وجرانمولان وشيرون فعندهم أن المسؤولية الجنائية لا تقوم بغير هذا العنصر الأدبي الشخصي فإذا ثبت - في المثل المتقدم - أن الأشياء دست على حقيبة المسافر بغير علمه نجا من المسؤولية الجنائية.
وقد أعود إلى هذه النقطة ببحث أوسع في عدد قادم.
[(3)] لم يفرد أحد لهذه المسألة، مسألة المعاصرة فصلاً خاصًا غير الأستاذ البرت شيرون في دروسه التي ألقاها على طلبة المعهد الجنائي وطلبة دبلوم القانون العام بقسم الدكتوراه بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول - فإذا قلنا الرأي الغالب وأصحابه فإنما نستند إلى أنهم لم يخرجوا على هذا الرأي تسليمًا به، كما نستند إلى أنهم عند الكلام على بعض الجرائم العمدية في القسم الخاص يشيرون إلى قاعدة التعاصر ويشترطونه (مثلاً الأستاذ أحمد بك أمين عند كلامه عن السرقة) ص (643) - والأستاذ زكي العرابي في كتابه عن القسم العام من قانون العقوبات ص (103) عند كلامه عن السكر كسبب لعدم المسؤولية فهو يقول تعليقًا على المادة (57) (أن السكر متى كان تامًا يترتب عليه فقد الشعور ولا يصح معاقبة الجاني في جرائم العمد إلا إذا وجد القصد الجنائي وقت ارتكاب الجريمة).
[(4)] 7 فبراير 1938 – الطعن رقم 589 سنة 8 ق - المحاماة (س 18 - ع 9 - ص 814).
[(5)] وبالتمعن في عبارات محكمة النقض نرى أنها قالت (يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور الخ) – فهل نفهم من هذا أنها تعتبر تلك الواقعة، من جهة التكييف القانوني، سرقة أو أنها تراها جنحة أخرى ليست بسرقة ولكن تطبق عليها مواد السرقة؟ هنا نواجه هذه النقطة الفرعية، نقطة التكييف القانوني للجريمة المذكورة في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو، فإن لجنة المراقبة القضائية قد اعتبرتها مشابهة للسرقة assimilé ولكن الأستاذ شيرون يقول أنه لا داعي لهذه التسوية assimilation لأن الواقعة في رأيه واقعة سرعة النية فيها غير متعاصرة مع الفعل المادي، وهذا نص قوله:

(Suivant mon opinion, il n’y a pas besoin d’assimilation; c’est un vol où l’intention n’est pas concomitante au fait matériel.

أما الأستاذ جرانمولان فهو يرى كما تقدم أن المشرع المصري لم يقصد اعتبار الواقعة سرقة ولا جنحة أخرى، وقد أشار إلى أن بعض القوانين الأجنبية جعلت الواقعة المذكورة جنحة ولكنها لم تجعلها في مرتبة السرقة ثم علق على ذلك بقوله أن هذه الواقعة تستحق العقاب ولكن بأخف من عقاب السرقة لأن السارق يدبر الجريمة أما من يعثر على شيء ثم تطرأ عليه نية الاحتفاظ به لنفسه فالمصادفة هي التي هيأت له الجريمة فهو أقل من السارق خطورة.
[(6)] هذا نص قول الأستاذ:

je sais bien que les tribunaux acquittent dans ce cas , pour défaut p’intcntion. Mais cette jurisprudence me paraît trés contestable.

ويبدو لي أن في قول الأستاذ أن المحاكم تبرئ في هذه الحالة كثيرًا من التعميم لأن بعض الأحكام حكمت بالإدانة وقررت أنه (يشترط لتطبيق المادة (57) من قانون العقوبات أن تكون الغيبوبة التي يستند إليها المتهم لطلب الحكم بأنه غير مسؤول جنائيًا ناشئة عن عقاقير مخدرة أخذها المتهم قهرًا عنه أو على غير علم منه بها) (النقض في 3 - 3 - 1924 - المحاماة (س 5 ص 1).
[(7)] الأستاذ علي بدوي - الأحكام العامة في القانون الجنائي - الجزء الأول ص (322) و (323) وحاشيتيها.