مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
في حق الاطلاع على محاضر التحقيقات الجنائية والإدارية والحصول على صور منها ومدى سلطة المحاكم في الأمر بضمه
للسيد الأستاذ عادل يونس المحامي العام لدى محكمة النقض
حق الاطلاع على محاضر التحقيقات الجنائية والأوراق المرافقة لها، وضمها إلى القضايا المدنية المطروحة على القضاء، أو الحصول على صور منها، تنتظمه عدة نصوص وتعليمات متناثرة، لا تزال قاصرة عن بيان أصل هذا الحق وماهية الأوراق التي يجوز الحصول على صورة منها أو ضمها إلى القضايا المطروحة أمام القضاء، والسلطة المختصة بهذا الشأن.
فالأمر يختلف باختلاف هذه الأوراق، وهل هي متعلقة بتحقيق قضائي أو بمجرد محاضر جمع استدلالات أو محاضر إدارية، وهل هذا التحقيق قائم، أو أنه انتهى بصدور أمر بألا وجه، أو بحكم قضائي، كما يختلف باختلاف صفة طالب الاطلاع أو الحصول على صورة أو الضم، وهل هو طرف في الدعوى الجنائية أو لا.
وقبل أن نمضي إلى تقصي منشأ هذا الحق وتأصيله، نبادر فنقول إن إجماع الفقه والقضاء هو أن القاضي المدني يستطيع أن يبني اقتناعه - في الأحوال التي يقبل فيها الإثبات بالبينة - على أصول يستمدها من ملفات التحقيقات الجنائية حتى ولو كانت قد انتهت بقرار بألا وجه [(1)].
وتبدو أهمية هذا البحث في تطبيقات عملية عديدة، فإذا رفعت شركة تأمين دعوى مدنية بطلب إبطال بوليصة تأمين فلا شك أنها تستفيد من ضم محضر التحقيق الجنائي الذي يدور حول اتهام المستفيد من البوليصة بالنصب، حتى ولو كان هذا التحقيق قد انتهى بتبرئته، لأنها قد تجد في هذه التحقيقات بعض عناصر الغش والخداع [(2)].
كما تظهر هذه الأهمية في حالة استدراج رجل مسن لدى امرأة متزوجة في بهيم الليل ومفاجأته بمعرفة الزوج المتآمر مع زوجته، ثم إرغامه على تحرير وصية بكامل ممتلكاته لصالح الزوجين نظير ترتيب إيراد ضئيل له لمدى الحياة، فإذا رفع المجني عليه دعوى مدنية لإبطال الوصية، وضحت أهمية ضم محضر التحقيق الجنائي الذي دار حول جريمة اغتصاب التوقيعات على الرغم من انتهائه بأمر بألا وجه [(3)].
وغير ذلك من الأمثلة العملية الكثيرة كحوادث السيارات والقضايا التي يشملها العفو الشامل وقضايا العمال [(4)] إلخ…
ولما كان التشريع الفرنسي قد تناول هذا الموضوع بالتفصيل، فسنستعرض أحكامه في هذا الشأن وتطبيقات القضاء له، ثم نعرج إلى أحكام التشريع المصري.
التشريع الفرنسي:
يرد أصل حق الاطلاع وضم الأوراق في القانون الفرنسي إلى أصلين:
الأول: أحكام قانون المرافعات الفرنسي بشأن الإلزام بضم الأوراق قضائيًا Le compulsoire.
الثاني: نصوص المراسيم الخاصة بالرسوم القضائية.
أولاً: الإلزام بضم الأوراق قضائيًا:
تناولت المواد من (846) إلى (853) مرافعات فرنسي هذا الطريق، وهو مقصور على غير الخصوم في الدعوى Le tiers ولا يلجأ إليه إلا أثناء السير في الدعاوى المدنية، فلا يلتجئ إليه ابتداءً، ولا يسري إلا على الأوراق التي لها صفة عمومية les actes Publics والتي تتعلق بمصالح خاصة، والمحفوظة أصولها لدى الموثقين كالعقود الموثقة Les actes notariés، كما يسري على العقود العرفية المثبتة في الأصول المحفوظة Les minutes لدى الموثقين والأمناء على السجلات العامة، فهو ليس إجراء عام يسري على جميع الأشخاص كما أن استعماله محدود، ولا يحق لأطراف الخصومة أو النائبين عنهم أو ورثتهم أن يسلكوا هذا الطريق اكتفاءً بالحق المخول لهم بالمادة (839) مرافعات فرنسي وما بعدها القاضية بإلزام الموثقين والأمناء على السجلات العامة بتسليم صور منها لذوي الشأن بناءً على أمر على عريضة يصدر من رئيس المحكمة.
وقد نشأ إلى جوار هذا الطريق تقليد قضائي يقوم على أساس الاعتراف بحق المحاكم في الأمر باتخاذ أي إجراء يوصلها إلى معرفة الحقيقة، ومن ذلك الأمر الموجه إلى قلم الكتاب بضم الملفات المحفوظة لديها ومن بينها ملفات التحقيقات الجنائية [(5)] injonction au greffe وسنتناول فيما يلي أساس هذا الحق ومدى شرعيته.
ثانيًا: قوانين الرسوم القضائية:
تناولت المراسيم الخاصة بالرسوم القضائية هذا الموضوع في المواد (54) - (56) من مرسوم 8 يونيو سنة 1811 المعدلة بالمواد (62) - (66) من مرسوم 5 أكتوبر سنة 1920 المنفذ لقانون 24 أكتوبر سنة 1919 والمعدل بمرسوم 28 ديسمبر سنة 1935 وبمرسوم 26 يوليو سنة 1947 وبمرسوم 7 فبراير سنة 1949.
فقبل سنة 1811 لم يكن هناك نص تشريعي ينظم كيفية الحصول على صور الأوراق والمحاضر والقرارات والأحكام في المواد الجنائية، فلم يكن ذلك مسموحًا به إلى أن صدر مرسوم 8 يونيو سنة 1811 فأباح للخصوم في مواد الجنح والمخالفات فقط، دون الجنايات، حق الحصول على صور من الشكاوى والتبليغات والأحكام النهائية، وذلك على مصاريفهم وبغير حاجة إلى تصريح خاص، كما أباح لهم بإذن من النائب العام الحصول على صور من الأوراق الأخرى في المواد سالفة الذكر، أما غير الخصوم le tiers فقد حرموا أصالة من هذا الحق سواء بإذن أو بغير إذن.
ثم أتى مرسوم 5 أكتوبر سنة 1920 فحفظ للخصوم في مواد الجنح والمخالفات فقط حقهم في الحصول على الأوراق التي تكلم عنها مرسوم سنة 1811، وأضاف إلى ذلك حقهم في الحصول على صور الأحكام النهائية في مواد الجنايات، وعلق حقهم في الحصول على صور باقي الأوراق على إذن النائب العام، كما أباح لغير الخصوم في مواد الجنايات والجنح والمخالفات الحصول على صور الأحكام النهائية فقط، واشترط الحصول مقدمًا على إذن النائب العام بالنسبة إلى باقي الأوراق مواد (64)، (65).
وقد عدل مرسوم 28 ديسمبر سنة 1935 [(6)] نص المادتين (64)، (65) فأصبح لنائب الجمهورية (رئيس النيابة) - بدلاً من النائب العام - حق الإذن للخصوم بالحصول على صور رسمية من الأوراق المودعة ملف الدعاوى في مواد الجنح والمخالفات (عدا الشكاوى والتبليغات والأوامر النهائية التي أبيح للخصوم الحصول على صورها بمجرد طلبهم مادة (64).
أما بالنسبة إلى غير الخصوم، فقد حظرت المادة (65) معدلة إعطاء صورة أية ورقة لهم في مواد الجنايات والجنح والمخالفات إلا بعد الحصول على إذن نائب الجمهورية (رئيس النيابة) أما الأحكام النهائية فقد أباحت لهم الحصول عليها بغير إذن.
فإذا كانت الأوراق مودعة قلم كتاب محكمة الاستئناف أو متعلقة بملف محفوظ قطعيًا أو بإجراءات تحقيق انتهت بأمر بألا وجه أو بقضية نُظرت في جلسة سرية، فيكون النائب العام هو المختص بالإذن بالحصول على الصورة المطلوبة، وفي حالة رفض النائب المختص الإذن بذلك فعليه أن يعلن الطالب بالطريق الإداري بقراره مسببًا مادة (65).
وجاء مرسوم 26 يوليو سنة 1947 مؤيدًا لهذا التعديل [(7)]، وأضاف مرسوم 7/ 2/ 1949 الجنايات إلى الجنح والمخالفات المنوه عنها في المادة (64) فأصبح للخصوم حق الحصول على صور منها دون حاجة إلى إذن.
ونصت المادة (66) معدلة بمرسوم 26 يوليو سنة 1947 على أنه عند إرسال الأوراق الجنائية إلى أية محكمة أو إلى وزارة العدل فيجب أن ترسل نفس الأوراق المتضمنة الإجراءات بذاتها إلا إذا أمر وزير العدل بإرسال صور أو مستخرجات من تلك الأوراق.
فلم يكن لنفس الخصوم les parties قبل سنة 1920 حق الحصول على صور الأحكام وباقي الأوراق في مواد الجنايات [(8)].
كما استقر الرأي على أن الأوراق التي تناولتها المراسيم سالفة الذكر وأجازت الحصول على صور منها، قد وردت على سبيل الحصر وأن حكمها يسري أيضًا على ضم أصل الأوراق لا مجرد الحصول على صورة منها [(9)].
وعلى الرغم من أن مرسوم سنة 1811 لم يكن يسمح بضم الجنايات إلى القضايا المطروحة أمام المحاكم المدنية أو الحصول على صور منها، فقد ذهبت أحكام القضاء الفرنسي، في ظل هذا المرسوم، على أن الإذن الذي يصدره النائب العام بضم الجنايات يعد إجراءً صحيحًا [(10)].
وقد نشأ عن قيام هذين الطريقين (طريق الأمر بضم الأوراق قضائيًا compulsoire وطريق استئذان النيابة العامة) بعض الخلاف في الرأي، فذهبت بعض المحاكم إلى إجابة طلب الخصوم فيما يطلبونه من طلب ضم الملفات الجنائية، تأسيسًا على الطريق القضائي للضم [(11)] وظلت أحكام القضاء وآراء الفقهاء متأرجحة بين المذهبين [(12)]، إلى أن حسم حكم دائرة العرائض بمحكمة النقض الفرنسية في 24 يوليو سنة 1924 [(13)] كل خلاف في هذا الشأن، فقد حدث أن أصدرت محكمة فلوراك المدنية حكمًا يقضي بالأمر بضم تحقيق في قضية جنحة أجري بطريقة غير سرية، فرفض النائب العام بمحكمة نيم ضم هذا التحقيق، وطعن النائب العام بمحكمة النقض في حكم محكمة فلوراك، فنقضت دائرة العرائض الحكم لتجاوز المحكمة سلطتها وتعديها على الحقوق المخولة للنائب العام بمحكمة استئناف نيم وحقه المطلق في الإذن بضم ملفات الجنايات والجنح والمخالفات [(14)].
فالطريق الوحيد المفتوح في فرنسا أمام الخصوم في الدعاوى المدنية لضم الملفات الجنائية على أنواعها المختلفة (جنايات وجنح ومخالفات) هو طريق الالتجاء إلى النيابة العامة سواء تعلق الأمر بضم الملفات ذاتها أو بطلب الحصول على صور منها.
والرأي الراجح لدى القضاء يحرم، كما قدمنا، على المحاكم إصدار أوامرها المباشرة إلى أقلام الكُتاب بضم الملفات الجنائية [(15)].
وقد جاء مرسوم سنة 1920 بلائحة الرسوم القضائية مؤيدًا لهذا الاتجاه.
ويلاحظ أن المشرع الفرنسي فرق بين القضايا التي انتهت بأحكام نهائية بعد مرافعات علنية من جهة وبين القضايا التي نظرت بجلسة سرية أو التي صدر فيها قرار بألا وجه من جهة أخرى، فمنح رئيس النيابة سلطة الأمر بضم النوع الأول والتصريح بالحصول على صور منها، وقصر ذلك الحق على النائب العام بالنسبة إلى النوع الأخير، وهي تفرقة مبناها الدور الذي يقوم به كل من هذين النائبين من حيث الأهمية، فواضح أن القضايا التي تنتهي بأحكام نهائية بعد مرافعات علنية تفقد سريتها بعد أن سمعها جمهور المترددين على المحاكم، أما النوع الآخر من القضايا، الذي يحتفظ بسريته [(16)]، لعدم طرحه على الجمهور فقد رُئي أن يترك أمر تقدير الموازنة بين أسرار الأفراد وشرفها من جهة، والمصلحة العامة من جهة أخرى، إلى النائب العام نفسه نظرًا لأهمية منصبه وخطره.
وقد وجه وزير العدل ديفور إلى النواب العموميين في فرنسا منشورًا في هذا الشأن جاء فيه:
(لقد عهد إليكم وحدكم القانون، حق كشف أسرار التحقيقات أو حفظها، ولا تستطيعون أن تغفلوا ما تتطلبه موازنة اعتبارات المصلحة العامة وشرف الأفراد والعائلات، وأحيانًا ضرورة الاطلاع على تحقيق غير منتهٍ [(17)]).
ولكن هل يكفي إذن النائب العام وحده لوضع حد لهذا الأمر ؟ وبعبارة أخرى، ألا يشترط الفقه والقضاء شروطًا مكملة لهذا الإذن حتى لا يطعن في الدليل المستمد من هذه الأوراق المضمونة ؟
ذهب بعض الشراح إلى عدم جواز ضم المحاضر التي نُظرت بصفة غير علنية والتحقيقات المنتهية بأمر بألا وجه أو الحصول على صورة منها استنادًا إلى الصفة السرية التي تلصق بكل تحقيق ابتدائي انتهى بقرار بألا وجه [(18)].
واشترطت بعض الأحكام علاوة على طرح هذه الملفات علانية أمام المحكمة ضرورة موافقة الشخص الذي صدر لصالحه الأمر بألا وجه [(19)].
وذهبت بعض الأحكام إلى أن رضاء هذا الشخص يمكن أن يستنتج ضمنًا من تمسكه بمدونات التحقيقات المضمومة واعتماده عليها تأييدًا لحجته [(20)].
ويؤخذ من بعض الأحكام أنه يكفي طرح الملف المضموم على المحكمة وعدم اعتراض أحد الخصوم على ذلك [(21)].
ويؤخذ من حكم محكمة النقض المدنية الفرنسية في 18 أكتوبر سنة 1933 [(22)] أنه إذا لم يتضح من مدونات الحكم المطعون فيه، أن الملف الجنائي المضموم قد طرح علنًا على بساط البحث بمعرفة الخصوم، فإن ذلك لا يعني أن الشرط لم يتوفر بل يكون هناك محل لافتراض تحققه.
على أن محكمة النقض الفرنسية عدلت بعد ذلك عن هذا التفسير واشترطت اشتمال الحكم على ما يدل على طرح الملف المضموم على الخصوم [(23)].
ثم أصدرت دائرة العرائض حكمًا في 28 يوليو سنة 1936 [(24)] يؤخذ من مدوناته أنه طالما أن النيابة قد أذنت بضم الملف الجنائي للقضية المدنية المطروحة وتمت مناقشته بمعرفة الخصوم دون ثمة معارضة صريحة في الضم فلا بطلان.
ويؤخذ بطريق مفهوم المخالفة من اشتراط عدم معارضة الخصوم معارضة صريحة، أنه إذا عارض أحد الخصوم معارضة صريحة في الضم أصبح الضم غير جائز [(25)].
على أن تعليق الضم على موافقة الخصوم غير مستساغ، فلا يجوز أن يترك الأمر لمحض إرادة الخصوم - ذلك أن هذه الموافقة لا معنى لها فإما أن قاعدة سرية التحقيقات الجنائية تعد من النظام العام وبذلك تصبح إرادة الخصوم لغوًا، وإما أنها لا تمس النظام العام وبذلك لا يتوقف الأمر على إرادة الخصوم [(26)].
والواقع أن الاتجاهات الحديثة في القانون الجنائي الفرنسي تناهض مبدأ السرية، فقد خففت المشرع الفرنسي من غلواء هذا المبدأ بأن يسمح للمتهم بحضور محاميه معه ناظرًا في ذلك إلى مصلحة المتهم.
ويمكن القول إن الرأي الراجح لدى الفقه والقضاء الفرنسي يكتفي لصحة ضم هذه المحاضر (التحقيقات الابتدائية المنتهية بأمر بألا وجه وما شابهها) صدور إذن النائب العام بغير تعليق ذلك على ضرورة موافقة ذوي الشأن، بل وعلى الرغم من معارضتهم [(27)].
من ذلك ما قضت به محكمة نانسي في 21 فبراير سنة 1938 [(28)] (بأن النائب العام هو وحده المختص دون غيره بتقدير ملاءمة ضم قضية جناية منتهية بقرار بألا وجه، وأمره في هذا الشأن يعد قرارًا إداريًا لا يخضع لأية رقابة، ومن باب أولى لا يخضع النائب العام لأي أمر قضائي بضم تلك الأوراق injonction وأنه إذا كان رفض النائب العام مبنيًا على عدم موافقة أحد الطرفين على الضم، فإن محكمة الاستئناف لا تستطيع أن تأمر الطرف المعارض في الضم بأن يوافق على طلب خصمه ضم هذا الملف [(29)].
بقيت نقطة تحتاج إلى مزيد من الإيضاح ألا وهي أن الملفات المعتبرة سرية ليست قاصرة على محاضر التحقيقات الجنائية المنتهية بأمر بألا وجه، بل تشمل التحقيقات الجارية en cours والقضايا التأديبية والقضايا التي تفتح فيها النيابة محاضر غير رسمية officieux [(30)] والمنتهية بأمر حفظ قطعي classement sans suite والملفات الخاصة بالمصالح الإدارية ومحاضر الضبطية القضائية، فما هو الحكم في مثل هذه الملفات ؟
ففيما يختص بالتحقيقات القضائية الجارية فتحكمها المبادئ التي سبق أن أشرنا إليها بالنسبة إلى التحقيقات المنتهية بأمر بألا وجه.
أما فيما يتعلق بالملفات الإدارية الخاصة بالمصالح الإدارية فقد حكمت محكمة السين في 12 نوفمبر سنة 1936 [(31)] بجواز ضم ملف إدارة الأمن العام في قضية مدنية رفعها شخص أصيب في حادث شغب، كانت الحكومة (بوصفها مسؤولة مدنيًا) قد ضمت هذا الملف كي تثبت أن المدعي قد اعتاد على التظاهر، وقالت المحكمة إنه يتعين على المدعي أن يناقش ما جاء بالملف المذكور وألا يتعرض إلى واقعة تقديمه.
فيكفي لجواز الضم أو الحصول على صورة من هذه الملفات الإدارية موافقة الجهة الحكومية الأمينة على هذه الملفات.
أما بالنسبة إلى محاضر البوليس gendarmerie غير المنتهية بحكم، فقد اختلف القضاء في شأنها، فبعض المحاكم ترى ضرورة الحصول على موافقة الخصوم علاوة على إذن النيابة [(32)] والبعض لا يحتم ذلك [(33)].
ويستند أصحاب الرأي الأول إلى أن محاضر البوليس لا تتم في حضور الخصوم، فلا يجوز عرضها في مناقشة علنية إلا برضاء جميع الخصوم، كما يستندون إلى صفة هذه المحاضر السرية، تلك الصفة التي لا ترتفع عنها طالما أنها لم تعرض على المحاكم الجنائية.
أما الشراح فينتقدون الأحكام التي اشترطت موافقة الخصوم على ضم مثل هذه المحاضر [(34)].
وخلاصة ما تقدم أن صحة إجراءات ضم محاضر التحقيقات الجنائية (التي لم تنتهِ بحكم) تتوقف حسب الرأي الراجح في فرنسا على إذن النائب العام طبقًا للمراسيم الخاصة بالرسوم القضائية دون أن يتوقف ذلك على رضاء الخصوم.
وقبل أن نعرض إلى قوة هذه المحاضر في الإثبات نتناول حكم التشريع المصري في هذا الشأن:
التشريع المصري:
النصوص التي تحكم هذه الإجراءات يمكن ردها إلى ما يأتي:
أولاً: تعليمات النائب العام:
1 - نص المادة (730) من التعليمات العامة للنيابات الذي يقضي بأنه لا يصرح بإعطاء صور من محاضر التحقيق أو أوراق قضائية أخرى إلا إذا قررت المحكمة المدنية تقديمها إليها، وإلا فيستأذن النائب العمومي، وتعطى الصور بعد حذف التأشيرات التي على المحاضر.
2 - المنشور رقم (80) لسنة 1931 الذي عهد بالفصل في هذه الطلبات في حالة عدم تقديم قرار المحكمة المدنية، إلى رؤساء النيابات ونوابها فلهم أن يجيبوها متى كان الطالب ذا صفة في التحقيق سواء باعتباره متهمًا أو مجنيًا عليه، وكان طلبه خاصًا بتحقيق تم فعلاً ومتعلقًا بأوراق التحقيق أي البلاغ ومحاضر الضبطية القضائية وتحقيق النيابة والكشوف الطبية، أما إذا كان الطالب لا شأن له في الأوراق التي يطلب صورها أو كانت القضية لا تزال في التحقيق، أو كان الطلب خاصًا بالأوراق الإدارية الملحقة بملف القضية، وكذلك إذا كان للطلب شأن خاص سواء بالنسبة لموضوع القضية أو ذوي الشأن فيها أو غير ذلك من الاعتبارات فإنه يجب دائمًا استطلاع رأي النائب العام.
3 - المنشور رقم (30) لسنة 1945 المبلغ للكشف الوارد بكتاب وزارة العدل رقم 31/ 35/ 100 (208) المؤرخ 12 يوليو سنة 1945 بشأن البحوث التي عرضت للنيابات في صدد تنفيذ قانون الرسوم في المواد الجنائية رقم (93) لسنة 1944 ورأي الوزارة في شأنها.
ثانيًا: القانون رقم (93) لسنة 1944 بشأن الرسوم القضائية في المواد الجنائية، وقد خلا هذا
القانون من النص على الجهة التي تأذن بالحصول على صور الأوراق واقتصر على بيان فئات الرسوم.
ثالثًا: نصوص المواد (75)، (77)، (84) من قانون الإجراءات الجنائية، وتتكلم أولى هذه المواد عن إجراءات التحقيق والنتائج التي تسفر عنها واعتبارها من الأسرار.
وتتكلم ثانيها عن حق الخصوم (بما فيهم النيابة العامة) في حضور جميع إجراءات التحقيق ما لم يأمر القاضي بإجراء التحقيق في غيبتهم، متى رأى ضرورة ذلك لإظهار الحقيقة، وبمجرد انتهاء تلك الضرورة، يبيح لهم الاطلاع على التحقيق.
وتتكلم الأخيرة عن حق المتهم والمجني عليه والمدعي بالحقوق المدنية والمسؤول عنها أن يطلبوا على نفقتهم أثناء التحقيق صورًا من الأوراق أيًا كان نوعها، إلا إذا كان التحقيق حاصلاً بغير حضورهم بناءً على قرار صادر بذلك.
وبمقارنة هذه النصوص الأخيرة بعضها ببعض، نجد أن المشرع المصري أخذ بما هو مقرر في فرنسا من سرية التحقيق بالنسبة إلى الجمهور مع حصوله في مواجهة الخصوم، وإباحة حق الاطلاع وأخذ صور من التحقيق، إلا إذا كان التحقيق حاصلاً بغير حضورهم بناءً على قرار بذلك.
وقد كان أصل المادة (84) من مشروع القانون المقدم من الحكومة يقضي بجواز رفض طلب الخصوم أخذ صور من الأوراق إذا كان التحقيق حصل بغير حضورهم، بناءً على قرار صادر بذلك، فاستبدلت لجنة الإجراءات الجنائية بمجلس الشيوخ بعبارة (قد حصل بغير حضورهم) عبارة (حاصلاً بغير حضورهم) لأن حرمان الخصوم من الاطلاع على المحاضر والأوراق وأخذ صور منها متفرع عن سرية التحقيق وينتهي بانتهائها، أي أن الحرمان يكون أثناء السرية فقط، وكذلك قررت المادة (124) أنه يجب السماح للمحامي بالاطلاع على التحقيق في اليوم السابق على الاستجواب أو المواجهة ما لم يقرر القاضي غير ذلك [(35)].
ولم يأخذ المشرع المصري بمبدأ الأمر بضم الأوراق قضائيًا compulsoire le الذي ورد في القانون الفرنسي، وكل ما ورد في هذا الشأن هو ما جاء بالمواد (253) - (259) من قانون المرافعات الصادر بالقانون رقم (77) لسنة 1949 بشأن طلب إلزام الخصم بتقديم ورقة تحت يده في أحوال معينة وردت على سبيل الحصر، لا تدخل من بينها أوراق التحقيقات الجنائية، وهذه المواد مستقاة من القانونين التركي والألماني [(36)].
وباستقراء هذه النصوص والتعليمات نجد أن التشريع المصري جاء خلوًا من تشريع منظم للسلطات التي تأذن بضم الأوراق في المواد الجنائية وتحديد نوع الأوراق الجائز ضمها أو الحصول على صور منها، في حين أن المشرع قد حرص في مواد الأحوال الشخصية على تعيين الأوراق التي يسوغ الحصول على صور منها ونظم السلطة التي تأذن بذلك [(37)].
فما حكم التشريع المصري في هذا الشأن ؟
تطبيقًا للمبادئ التي أشرنا إليها فيما سبق، يكون التقليد الذي تسير عليه المحاكم المدنية بالأمر بضم القضايا الجنائية سواء انتهت بحكم أو لم تنتهِ، لا سند له، فإن النصوص القانونية لا تسعفها في ذلك، كما أن القواعد العامة لا تسندها في هذا الاتجاه.
فالمشرع المصري نادى بصراحة بمبدأ سرية التحقيقات الجنائية والنتائج التي تسفر عنها، وقد بينَّا أن حق المحاكم في فرنسا في الأمر بضم التحقيقات الجنائية لم ينشأ إلا بتشريع خاص، وليس أدل على ذلك من أنه لم يبح للخصوم أنفسهم في فرنسا حق الحصول على صور من محاضر الجنايات قبل مرسوم 5 أكتوبر سنة 1920.
وليس أدل على صحة هذا النظر من أنه صدر في فرنسا منشور من وزير العدل في 26 يناير سنة 1909 (المجموعة الرسمية الفرنسية 1909 صـ 30) وجهه إلى النواب العموميين منبهًا إياهم إلى عدم جواز تسليم صور الأحكام الصادرة بالعقوبة في مواد الجنايات والجنح إلا للأشخاص الذين كانوا طرفًا فيها واستند المنشور في ذلك إلى أن تسليم صور هذه الأحكام للغير يهدر الاحتياطات التي اتخذها المشرع في شأن صحف السوابق لتجنب تسليم تذكرة سوابق لغير المحكوم عليهم [(38)].
وتطبيقًا لهذا المنشور حكمت محكمة نيس في 19 مايو سنة 1909 (سيرى 1912 - 2 - 225) بأن كاتب المحكمة المذكورة محق في رفضه تسليم صورة من حكم محكمة الجنح للغير.
وقد أخذ منشور النائب العام رقم (30) لسنة 1945 المشار إليه آنفًا بهذا الرأي فيما يتعلق بالشهادات التي تعطى من الجداول عن الأحكام الصادرة بالعقوبة، فنص على عدم جواز إعطائها لغير ذوي الشأن إلا بقرار من المحكمة، ومن رأينا أن قرار المحكمة في هذا الشأن غير منتج ولا أساس له قانونًا كما أنه يتعارض مع مبدأ سرية التحقيقات الجنائية ومع أحكام القرار الوزاري الصادر في 2 أكتوبر سنة 1911 بشأن قلم السوابق، كما أن الإشارة في المادة (730) من التعليمات العامة للنيابات والمنشور رقم (80) لسنة 1931 إلى قرار المحكمة المدنية لا سند له، إذ لا سلطان للمحاكم في هذا المجال.
وتمشيًا مع القواعد التي أسلفنا بيانها، يكون للخصوم دون غيرهم حق الحصول على صورة أوراق التحقيق المفتوح الحاصل في حضورهم أيًا كان نوع هذه الأوراق وبغير اشتراط إذن النيابة العامة أو موافقة أحد من الخصوم (مادة 84 إجراءات جنائية)، أما غير الخصوم، فنظرًا إلى سكوت المشرع المصري عن تنظيم كيفية حصولهم على صور التحقيقات الجنائية التي لم يكونوا طرفًا فيها، أصبح لزامًا علينا الاجتهاد للوصول إلى الطريق السليم الذي يبيح لهم قانونًا الحصول على صورة تلك التحقيقات أو طلب ضمها أمام المحاكم المدنية.
فأساس الحق المخول للنائب العام في تعليماته ومنشوراته من تعليق حصول غير الخصوم على صورة هذه التحقيقات قد يكون مرجعه أن النيابة العامة هي الحفيظة على أسرار الدعوى الجنائية، ويدخل في سلطتها التقديرية النظر في ملاءمة التصريح لغير الخصوم بالحصول على صورة التحقيقات، ومما يؤيد هذا النظر أن القضاء والشراح في فرنسا احترموا إذن النيابة بالضم قبل النص على ذلك في التشريع [(39)].
غير أن هذا الرأي مع وجاهته يدعو إلى التأمل قبل إقراره، نظرًا إلى تمسك الشارع المصري بقاعدة سرية التحقيقات الجنائية والنتائج التي تسفر عنها، وقد سوى الشارع في الحكم بين النيابة العامة وغيرها من الخصوم، فنستبعد كثيرًا أن يكون للنيابة في هذا الشأن من الحقوق أكثر مما لغيرها من الخصوم إلا أنه من جهة أخرى فإن النيابة العامة تعتبر خصمًا عادلاً فهي تنظر في الأمر بعد موازنة شتى الاعتبارات وتقدير الظروف مساهمة منها في معاونة القضاء على الوصول إلى وجه الحق.
أما بالنسبة إلى الأحكام الجنائية النهائية فلا يجوز تسليم صورة منها إلا لذوي الشأن دون غيرهم أو بموافقتهم.
ولا محل في هذه الحال للأخذ بالحكم الوارد في المادة (351) من قانون المرافعات الجديد التي تنص على جواز إعطاء صورة بسيطة من نسخة الحكم الأصلية لكل إنسان ولو لم يكن له شأن في الدعوى بعد دفع الرسم المستحق - نظرًا لتعارضه مع المبادئ العامة في المواد الجنائية التي أسلفنا بيانها.
ونرى أن يضع المشرع في قانون الرسوم القضائية أحكامًا من شأنها تنظيم الجهة التي تملك التصريح بإعطاء صور الأوراق حسمًا لكل خلاف في هذا الشأن وحتى لا يتعرض الدليل المستمد من هذه الأوراق للبطلان.
مدى قوة ملفات التحقيقات الجنائية في الإثبات أمام القضاء المدني:
سنقصر الكلام في هذا البحث عن مدى قوة محاضر التحقيق الجنائي غير المنتهية بحكم، في الإثبات دون التغلغل في أثر قوة الشيء المحكوم فيه في الجنائي على المدني.
وقبل كل شيء فهناك فرق كبير بين التحقيقات الجنائية والتحقيقات المدنية فالإثبات في المواد الجنائية أكثر تبسيطًا منه في القانون المدني الذي عين شرائط قبول الأدلة بكيفية أكثر تضييقًا من القانون الجنائي [(40)].
وكما ذكرنا آنفًا فإن الإجماع على أن للقاضي المدني أن يلجأ للقرينة المستمدة من تحقيق جنائي قدم في الدعوى المدنية [(41)] كما أن الأحكام الحديثة تعطي للتحقيقات الجنائية ومحاضر البوليس المقدمة إليها بكيفية صحيحة قوة القرائن وقد أيدت محكمة النقض الفرنسية [(42)] مذهب القضاء في هذا الشأن.
ومعنى هذا أن القضاء لا يعتبر أقوال الشهود في تلك المحاضر بمثابة شهادة حقيقية بل يعاملها معاملة القرائن التي يجب أن يكملها دليل آخر [(43)].
ومن المعلوم أن المحاضر في المواد الجنائية بعضها يعامل من ناحية القوة التدليلية على أنه مجرد محضر جمع استدلالات والبعض يعد حجة حتى يثبت عكس ما جاء بها، والبعض يعد حجة حتى يطعن فيها بالتزوير، أما في المواد المدنية فجميع هذه المحاضر تعامل على قدم المساواة، ولا تعدو مجرد قرائن، والقاضي المدني له مطلق الحرية في تقدير قوتها من ناحية تكوين اقتناعه [(44)].
على أن بعض الأحكام قد ذهبت إلى رفض إجراء تحقيق مدني اكتفاءً بمدونات المحاضر الجنائية المضمومة [(45)]، وقضت دائرة العرائض بمحكمة النقض في 15 نوفمبر سنة 1927 [(46)] بتأييد ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف من رفض الأمر بتحقيق مدني في قضية طلاق الغرض منه التدليل على صلح المدعى عليه مع زوجته، وذلك استنادًا إلى تقرير البوليس المضموم في الدعوى وذكرت دائرة العرائض أن المحكمة حرة في تقدير هذا التقرير، كما حكمت محكمة استئناف بواتبيه في 14 مارس سنة 1931 [(47)] باطراح التحقيق المدني الذي أجرته في حادث إصابة من سيارة واعتمدت على ما جاء في محضر البوليس المضموم في الدعوى المدنية، بمقولة إن أقوال الشهود في محضر البوليس الذي أجري في وقت قريب من حصول الحادث أقرب إلى التصديق من أقوالهم في التحقيق المدني الذي أجري فيما بعد مما يدع مجالاً للاعتقاد بتحويرهم الحقائق أما سهوًا أو عمدًا.
والأحكام متعددة في جواز اعتماد القاضي على محضر بوليس أو محضر تحري [(48)].
على أنه إذا كانت المحاضر الجنائية تقبل كدليل إثبات أمام المحاكم المدنية فيجب أن يكون ذلك مقصورًا على إثبات واقعة معينة un fait لا إثبات عقد مثلاً، فلا يجوز أن تعد أقوال المتهم أمام قاضي التحقيق في قضية خيانة أمانة كمبدأ ثبوت بالكتابة توصلاً إلى إثبات عقد الأمانة [(49)].
ولم يرد في التقنين المدني المصري الملغى حكم خاص بالقرائن القضائية وإنما اكتفى المشرع بذكرها إلى جانب البينة في بعض المواد التي تجيز الإثبات بالبينة (مواد 215/ 280، 217/ 282، 218/ 283، 224/ 289) وإن لم يذكرها في البعض الآخر (المادتان 220/ 285، 221/ 286).
وقد نصت المادة (407) من التقنين المدني الجديد على أن يترك للقاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة [(50)].
وسلطة القاضي في استنباط القرائن القضائية مطلقة طالما أنه يعتمد على أصول ثابتة، وقد قضت محكمة النقض المدنية المصرية بأن للقاضي أن يعتمد على شهادة شاهد لم يؤدِ اليمين أمام النيابة في التحقيق الذي أجرته [(51)]، أو على محضر تحقيق جنائي ولو تقرر بشأنه أن لا محل لإقامة الدعوى، بل يجوز له أن يعتمد على تحقيق باطل لعيب في الشكل أو على تحقيق تم في غيبة أحد الخصوم أو على معاينة أهل الخبرة ولو وقعت باطلة أو تمت في غيبة الخصوم [(52)].
ويبين مما تقدم أن حق الاطلاع على التحقيقات الجنائية أمر من الأهمية بمكان ولا يزال في حاجة إلى التنظيم على ضوء المبادئ التي أسلفنا بيانها.
الأستاذ عادل يونس المحامي
[(1)] داللوز العملي تحت كلمة Preuve بند (81)، بحث جورج ريشيه في مجلة علم الجنائي وقانون العقوبات المقارن سنة 1938 صـ 31 عن ضم ملفات التحقيقات الجنائية أمام القاضي المدني، وحكم دائرة العرائض 26 مايو سنة 1913 سيرى 1913 - 1 - 565 و24 مارس سنة 1924 سيرى 1924 - 1 - 76، وحكم دائرة العرائض في 25 مارس سنة 1924 داللوز الأسبوعي 1924 صـ 281.
[(2)] نقض فرنسي 29 نوفمبر سنة 1893 جازيت الباليه 1894 - 1 - 9 وباقي الأحكام المشار إليها في المرجع السابق صـ 32 من مجلة علم الجنائي سنة 1938.
[(3)] المرجع السابق صـ 32.
[(4)] بحث جورج ريشيه سالف الذكر صـ 32، 33.
[(5)] انظر بحث جورج ريشيه سالف الذكر صـ 36.
[(6)] داللوز الدوري 1936 - 4 - 424.
[(7)] داللوز 1947 صـ 287.
[(8)] انظر تعليق بيير جارو على حكم دائرة العرائض في 24 يوليه سنة 1924 المنشور في سيرى 1924 - 1 - 369 وما بعدها - نقض فرنسي 17 يونيه سنة 1834 سيرى 1834 - 1 - 629.
[(9)] مقال لبواتفان في مجلة النيابة سنة 1893 صـ 35 المشار إليه في تعليق جارو سالف الذكر.
[(10)] نقض جنائي 31 أغسطس سنة 1833 ونقض 26 مايو سنة 1913 سيرى 1913 - 1 - 565 واستئناف تولوز 25 نوفمبر سنة 1902 سيرى 1904 - 2 - 142 و29 ديسمبر سنة 1910 سيرى 1911 - 2 - 173 انظر سافاتييه في مؤلفه عن المسؤولية طبعة سنة 1939 جزء أول صـ 318.
[(11)] روان 12 يونيو سنة 1827، بوردو 12 مارس سنة 1907 المشار إليهما في تعليق جارو بسيرى سالف الذكر.
[(12)] انظر الأحكام المنوه عنها في بحث جورج ريشيه آنف الذكر صـ 41.
[(13)] سيرى 1924 - 1 - 369 وبحث جورج ريشيه صـ 41.
[(14)] انظر تعليق لابيه في سيرى 1889 - 1 - 5 حيث يبدو منه الأسف على هذه السلطة المخولة للنائب العام بالقبول أو الرفض.
[(15)] ديجون 5 ديسمبر سنة 1884، بي 11 يوليو سنة 1900، ريوم 17 يونيو سنة 1906 وباقي الأحكام المشار إليها في تعليق جارو.
[(16)] انظر مذكرة النائب كامبوليف المقدمة لمحكمة السين 5 يناير سنة 1937 جازيت البالية 1937 - 1 - 191.
[(17)] بحث جورج ريشيه المرجع السابق صـ 46.
[(18)] لاتور في مؤلفه عن مجموعة الرسوم القضائية صـ 65 - ماصابيو في دليل النيابة العامة طبعة خامسة جزء (2) بند (2611).
[(19)] جرينويل 5 يونيو 1888 جازيت البالية 1888 - 1 - 40، أورليانز 31 يناير سنة 1908 ونقض 29 يوليو سنة 1903 سيرى 1903 - 1 - 504، استئناف باريس 10 إبريل سنة 1937 جازيت الباليه 1937 - 2 - 163 ايكس 3 فبراير سنة 1938 داللوز الأسبوعي سنة 1938 صـ 349 دائرة العرائض 24 مارس سنة 1924 داللوز الأسبوعي 1924 - 1285.
[(20)] دائرة العرائض 31 مايو سنة 1927 جازيت الباليه 1927 - 2 - 383.
[(21)] دائرة العرائض 10 يوليو سنة 1905 داللوز 1905 - 1 - 471، 6 يناير 1906 داللوز 1910 - 1 - 519 و14 ديسمبر سنة 1908 و27 يناير سنة 1909 سيرى 1909 - 2 - 20 و26 مايو سنة 1913 سيرى 1913 - 1 - 565 و21 يوليو سنة 1932 جازيت الباليه 1932 - 2 - 723.
[(22)] جازيت الباليه 1933 - 2 - 723.
[(23)] نقض مدني 19 ديسمبر سنة 1934 داللوز الأسبوعي 1935 - 35.
[(24)] جازيت الباليه 1936 - 2 - 689.
[(25)] تعليق بيير ميمان على حكم محكمة السين في 4 يناير سنة 1937 داللوز سنة 1937 - 2 - 20.
[(26)] بحث جورج ريشيه المرجع السابق صـ 53.
[(27)] محكمة السين 4 يناير سنة 1937 داللوز 1937 - 2 - 20 وتعليق ميمان عليه، محكمة فرسايل 25 يناير سنة 1938 داللوز الأسبوعي 1938 - 254، نقض مدني 15 مايو سنة 1945 مجلة الأسبوع القضائي 1945 - 2 - 2837 ومشار إليه في مؤلف مازو عن المسؤولية المدنية طبعة رابعة بند (1725).
[(28)] داللوز الأسبوعي 1938 - 251.
[(29)] من هذا الرأي سافاتييه في مؤلفه عن المسؤولية المدنية جزء أول طبعة سنة 1939 صـ 317.
[(30)] من المعلوم أن النيابة في فرنسا لا تجري تحقيقًا في غير أحوال التلبس، ويطلق على المحاضر التي تجريها في غير هذه الأحوال P.V. offcicieux.
[(31)] داللوز الأسبوعي 1937 - 76.
[(32)] دائرة العرائض 19 يوليو سنة 1939 داللوز الأسبوعي 1939 صـ 479، محكمة كلامسي 2 إبريل سنة 1941 ومحكمة لافال 4 فبراير سنة 1942، وانجير 12 مايو سنة 1942 المشار إليها في تعليق ليون مازو على حكم محكمة دينان في داللوز الانتقادي 1943 - 6 - 8.
[(33)] محكمة تولون 12 مارس سنة 1943 ودينان 15 يوليو سنة 1942 داللوز 943 - 6 - 8.
[(34)] تعليق ميمان على حكم نقض مدني 17 مايو سنة 1933 داللوز 1934 - 1 - 116 وتعليقه في داللوز 1937 - 2 - 20 وتعليق ماوز المرجع السابق.
[(35)] مؤلف الأستاذ علي زكي العرابي في شرح قانون الإجراءات الجنائية الجزء الأول طبعة أولى سنة 1951 صـ 300.
[(36)] انظر المذكرة التفسيرية لقانون المرافعات الحديد.
[(37)] مواد (1030)، (1031) من القانون رقم (126) لسنة 1951 و(27) من قرار وزير العدل بتنظيم الإجراءات أمام محاكم الأحوال الشخصية.
[(38)] انظر تعليق جارو في سيرى 1924 - 1 - 369.
[(39)] سافاتييه المرجع السابق صـ 318 والأحكام السابق الإشارة إليها في هذا البحث.
[(40)] بحث جورج ريشيه المرجع السابق صـ 58.
[(41)] انظر حكم محكمة استئناف بوردو في 21 يوليو سنة 1851 - المرجع السابق صـ 58.
[(42)] نقض مدني 19 مارس 1928 سيرى 1928 - 1 - 190 - حكم محكمة لانيون 5 ديسمبر سنة 1905 جازيت الباليه 1906 - 1 - 93 انظر بلانيول وريبير المطول جـ 7 بند (1547).
[(43)] حكم محكمة استئناف ديجون 8 مارس سنة 1932 داللوز الأسبوعي 1932 صـ 243، ومحكمة لافال في 5 مايو سنة 1933 جازيت الباليه 1933 - 2 - 323، قارن حكم محكمة لانجر في 3 يونيو سنة 1926 داللوز الأسبوعي 1926 صـ 462 الذي نادى بأن محاضر البوليس لا تعد من قبيل وسائل الإثبات المعترف بها أمام المحاكم المدنية، وأنه يجب للأخذ بها أن يعترف الخصوم بمدوناتها أمام المحكمة المدنية.
[(44)] لوران في شرح القانون المدني الفرنسي جزء 19 صـ 830 بند (87).
[(45)] محكمة بزييه الابتدائية 3 مارس سنة 1898 جازيت الباليه 1898 - 1 - 741.
[(46)] سيرى 1928 - 1 - 23.
[(47)] سيرى 1931 - 2 - 43.
[(48)] انظر رسالة ديكوتينيس… … … Decottignés في القرائن في القانون الخاص باريس سنة 1950 صـ 265 وما بعدها.
[(49)] بحث جورج ريشيه صـ 60 و61.
[(50) انظر مادة (1353) مدني فرنسي - أصول الإثبات في المواد المدنية للدكتور سليمان مرقس طبعة ثانية سنة 1952 صـ 251.
[(51)] نقض مدني 2 مارس سنة 1950 مجموعة أحكام النقض المدنية السنة الأولى قاعدة 78 صـ 297.
[(52)] نقض مدني 18 مايو سنة 1944 المحاماة 27 - 365 - 159 ونقض مدني 16 أكتوبر سنة 1950 المحاماة 31 - 944 - 265 و11 يناير سنة 1951 المحاماة 31 - 1947 - 438، انظر أصول الإثبات للدكتور سليمان مرقس صـ 253.
أضف الى مفضلتك
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
بحث في المسكوكات المزورة أو المغشوشة والتعامل بها
مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة العاشرة سنة 1930
بحث في المسكوكات المزورة أو المغشوشة والتعامل بها
التعامل بمسكوكات مزورة أو مغشوشة بعد التحقق من عيبها - نوع هذه الجريمة هل هي جنحة في كل الأحوال أو أنها تعتبر جنحة أو مخالفة حسب قيمة القطعة المزورة أو المغشوشة - رأي لجنة المراقبة في وجوب اعتبار هذه الجريمة جنحة في كل الأحوال - مخالفة محكمة النقض لهذا الرأي - وجوب الأخذ بما رأته لجنة المراقبة
نصت المادة (172) عقوبات على أن من يستعمل مسكوكات مزورة أو مغشوشة بعد أن تحققت له عيوبها يجازى بغرامة لا تتجاوز ستة أمثال المسكوكات المتعامل بها.
يرى من هذا النص أن الغرامة قد تزيد أو تنقص عن مائة قرش تبعًا لقيمة القطعة المزيفة فإذا تعامل شخص بقطعة مزورة ذات عشرة قروش مثلاً فإن ستة أمثال هذه القطعة ستون قرشًا فهل يعتبر استعمال هذه القطعة مخالفة بناءً على أن أقصى الغرامة التي يمكن أن يحكم بها مقدارها لا يتجاوز جنيهًا مصريًا طبقًا للمادة (12 ع) أو أنها تعتبر جنحة مع أن أقصى غرامتها لم تبلغ، الدرجة المبينة بالمادة (11) عقوبات أي أنها لا تزيد عن ماية قرش.
إذا رجعنا للمادة (182 ع) قديمة وهى التي استعيض عنها بالمادة (172 ع) المذكورة نرى أن العقوبة المقررة في هذه المادة هي غرامة لا تقل عن ثلاثة أمثال القطعة المزيفة ولا تتجاوز ستة أمثالها بحيث لا تنقص في أي حال من الأحوال عن مائة قرش ديواني.
وبمقارنة نص المادتين (182 ع) قديمة، و(172 ع) جديدة ببعضها نرى أنهما يختلفان في نقطة واحدة وهي وجود حد أدنى للغرامة في المادة (182 ع) قديمة، وهو 100 قرش وعدم وجود هذا القيد في المادة (172 ع) الجديدة.
أما المادة (135) عقوبات فرنسي التي تقابل (182 ع) قديمة، و(172 ع) جديدة فإن نصها يطابق نص المادة (182 ع) قديمة غير أنه اختلف عنها في مقدار الحد الأدنى للغرامة فلا يجب أن يقل عن (16 ف) في القانون الفرنسي و100 قرش في القانون المصري (مادة 182 ع قديمة).
إذا أخذنا بنصوص الثلاث مواد ورجعنا إلى تعريف الجنحة والمخالفة سواء في القانون الفرنسي أو القانون المصري القديم أو الجديد لرأينا أن الجريمة المذكورة آنفًا تعتبر جنحة في كل الأحوال وفى القانون الفرنسي بنص صريح بما أن أقل عقوبة لها هي (16 ف)، وهي تتجاوز أقصى حد لعقوبة المخالفة الذي هو (15 ف) مادة (464 ع ف)، وقد جرى العمل في فرنسا على تقديم هذه الجريمة دائمًا لمحكمة الجنح، أما في القانون المصري فإن هذه الجريمة تعتبر جنحة أو مخالفة تبعًا لقيمة القطعة المزيفة المستعملة سواء أخذ بنص المادة (182 ع) قديمة أو(172 ع) جديدة لأن أقصى الغرامة في المادتين قد تدخل في عقوبة المخالفة وقد لا تدخل تبعًا لقيمة القطعة المزورة.
أحكام المحاكم ورأي محكمة النقض
وأصدرت المحاكم المصرية بعض أحكام طبقًا للمبدأ السابق أي اعتبار الواقعة جنحة أو مخالفة تبعًا لقيمة القطعة المزيفة فإن كان ستة أمثال هذه القطعة يتجاوز عقوبة المخالفة كقطعة ذات عشرين قرشًا مثلاً اعتبر التعامل بها بعد التحقق من عيبها جنحة وإن كان ستة أمثالها لم يبلغ الدرجة المذكورة اعتبر الفعل مخالفة.
وقد قضت محكمة النقض باعتبار التعامل بقطعة ذات خمسة قروش صاغ مغشوشة مع العلم بحالتها مخالفة (صدر هذا الحكم في 31 مايو سنة 1913 دائرة حضرات المستر بوند وأحمد موسى بك ومينا بك ومحمد توفيق نسيم بك ومستر ماك برنت).
وأصدرت حكمًا آخر بالمعنى المذكور (صدر هذا الحكم في 7 يونيو سنة 1913 دائرة مستر بوند ومستر دلبروغلى ومحرز باشا وأحمد موسى باشا ومحمد توفيق نسيم باشا).
والحكم الأول نشر بالمجموعة الرسمية 14 عدد 114 صحيفة 224 والثاني والمجموعة عدد 15 صحيفة 135.
ولم تذكر شيئًا من الأسباب في حكم 7 يونيو سنة 1913 سوى ما يأتي:
(حيث إن الجريمة المسندة إلى المتهم وبشأنها رفع النقض إنما هي استعماله قطعة مزيفة من ذات الخمسة قروش بعد تحققه من عيوبها فهي بهذا الاعتبار توصف بحكم القانون مخالفة لأن العقاب المفروض عليها قانونًا في المادة (172 ع) لا تتجاوز المائة قرش في هذه الحالة وبناءً على ذلك يكون النقض غير مقبول).
وأما الحكم الآخر فذكر أن الفعل المسند للمتهم مخالفة كما هو مدون بالحكم المطعون فيه وإذا لا يجوز الطعن فيه بطريق النقض.
غير أن هذا الرأي لا يمكن الأخذ به قضية مسلمة والواجب اعتبار مثل هذه التهمة جنحة في كل الأحوال حتى ولو لم يبلغ ستة أمثال القطعة المزيفة الدرجة المبينة بالمادة (11 ع) الخاصة بعقوبة الجنحة وذلك:
أولاً: قياسًا على المادة (135 ع) فرنسي التي أخذت عنها المادة (172 ع) المذكورة.
وثانيًا: لأن الشارع أفرد في قانون العقوبات بابًا خاصًا للمخالفات في الكتاب الرابع تحت عنوان (في المخالفات) وبين هذه المخالفات في المواد (328 ع) إلى (348 ع) ولم يذكر شيئًا عن المسكوكات المزيفة وبالعكس قد نص على هذه الجريمة في الكتاب الثاني تحت عنوان (في الجنايات والجنح المضرة بالمصلحة العمومية وبيان عقوباتها).
ولو أن الشارع أراد اعتبار هذه الجريمة (استعمال النقود المزيفة) مخالفة في بعض الأحوال لما أوردها في هذا الباب ولا ورد لذلك نصًا خاصًا في باب المخالفات في الأحوال التي تكون أقصى الغرامة فيها تدخل في عقوبة المخالفة، وذكر الأستاذ حضرة محمد كامل مرسي بك في كتابه (شرح قانون العقوبات العام) سببًا آخر لتأييد هذا الرأي وهو أن لا مصادرة إلا بنص مادة (30 ع) فإذا صح القول باعتبار مثل التهمة المذكورة مخالفة في بعض الأحيان لترتب على ذلك أنه لا يقضي بالمصادرة لعدم النص عليها وهذا غير معقول وينتج من ذلك أن القانون يقصد اعتبارها دائمًا جنحة حتى يمكن المصادرة في كل الأحوال صحيفة 26 و27.
رأي لجنة المراقبة
وكان هذا رأي لجنة المراقبة قبل تعديل المادة (182 ع) قديمة فأصدرت منشورين بذلك أحدهما رقم (25) خصوصي بتاريخ 25 مايو سنة 1897 والآخر رقم (53) خصوصي بتاريخ 12/ 11/ 1899 ثم أصدرت منشورًا ثالثًا بتاريخ 25 مارس سنة 1908 رقم (14) بعد استبدال المادة (182 ع) بالمادة (172 ع) سالفة الذكر بتأييد ذلك الرأي وصدر هذا المنشور الأخير بمناسبة اعتبار المحكمة التعامل بقطعة مزورة ذات عشرة قروش مخالفة والحكم فيها على هذا الاعتبار وقد ذكرت اللجنة من بين أسبابها ما يأتي:
ومن حيث إن هذه المادة تقضي بعقوبة الغرامة التي لا تزيد عن ستة أمثال قيمة المسكوكات التي تعامل بها المتهم بعد تحققه من عيوبها.
(وحيث إنه يتضح من هذا النص أن القانون أراد اعتبار هذا الفعل جنحة لا مخالفة لأن أقصى الغرامة يمكن أن يتجاوز جنيهًا مصريًا).
(وحيث وإن كان أقصى الغرامة في هذه القضية لا يتجاوز هذا المبلغ إلا أنه لتعيين نوع الجريمة يجب أن لا يلتفت إلى قيمة الغرامة الواجب الحكم بها في واقعة معينة بل إلى أقصى الغرامة التي يمكن الحكم بها إذ بغير ذلك يعتبر الفعل الواحد تارة جنحة وتارة مخالفة ولا يخفي ما في ذلك من التناقض).
ثم أشارت لجنة المراقبة في أسبابها أيضًا إلى وضع الشارع المادة (172 ع) في الباب الخامس عشر من الكتاب الثاني المشتمل على بيان الجنايات والجنح المضرة بالمصلحة العمومية وعقوبتها وذكرت أن ذلك لا يترك محلاً للشك فيما قصده الشارع من رغبة اعتبار هذه الجريمة جنحة مهما كانت قيمة الغرامة التي يمكن الحكم بها، ورغمًا عن منشورات لجنة المراقبة سالفة الذكر قد صدرت بعض أحكام باعتبار الواقعة جنحة أو مخالفة تبعًا لقيمة القطعة المزيفة كما تقدم ذكره ثم جاء حكما النقض معززين لذلك.
وقد حصل بسبب هذا الاختلاف في الرأي في القضية نمرة (827) سنة 1928 جنح المنشية التي تتضمن اتهام شخص بأنه تعامل بقطعة ذات خمسة قروش بعد تحققه من عيبها أن تقدمت هذه القضية ضد المتهم لمحكمة المخالفات فقضى فيها بعدم الاختصاص لأن هذا العمل جنحة (طبقًا لرأي لجنة المراقبة)، وأصبح هذا الحكم نهائيًا، ثم تقدمت القضية بعد ذلك إلى محكمة الجنح فقضى فيها بعدم الاختصاص لأن الواقعة مخالفة (طبقًا لرأي محكمة النقض)، وأصبح هذا الحكم نهائيًا.
وبناءً على ذلك أفلت المتهم من العقاب حيث لم يمكن تقديمه بعد هذين الحكمين لا إلى محكمة المخالفات ولا إلى محكمة الجنح.
وأرى إزاء ذلك ولكي يستقر على رأي ثابت يمكن الأخذ به خصوصًا بعد صدور حكمي النقض اللذين جاءا بعد منشورات لجنة المراقبة سالفة الذكر أن تقول هذه اللجنة كلمتها في ذلك ومن رأيي أنه يجب أن تصر على رأيها الأول لأنه أقرب لغرض الشارع للأسباب التي أبديتها قبل ومن واجب النيابة أن تتصرف في مثل هذه القضايا باعتبارها جنحة في كل الأحوال وإذا حكم بما يخالف هذا الرأي فترفع الأمر لمحكمة النقض ومن المحتمل كثيرًا أن تعدل هذه المحكمة عن رأيها السابق خصوصًا وأن الحكمين سالفي الذكر صدرا من دائرة واحدة ولم يذكرا شيئًا من الأسباب سوى ما تقدم دون بحث الأسباب التي ذكرناها والتي هي محل نظر.
رئيس نيابة المنصورة الأهلية
مصطفى رشدي
السنة العاشرة سنة 1930
بحث في المسكوكات المزورة أو المغشوشة والتعامل بها
التعامل بمسكوكات مزورة أو مغشوشة بعد التحقق من عيبها - نوع هذه الجريمة هل هي جنحة في كل الأحوال أو أنها تعتبر جنحة أو مخالفة حسب قيمة القطعة المزورة أو المغشوشة - رأي لجنة المراقبة في وجوب اعتبار هذه الجريمة جنحة في كل الأحوال - مخالفة محكمة النقض لهذا الرأي - وجوب الأخذ بما رأته لجنة المراقبة
نصت المادة (172) عقوبات على أن من يستعمل مسكوكات مزورة أو مغشوشة بعد أن تحققت له عيوبها يجازى بغرامة لا تتجاوز ستة أمثال المسكوكات المتعامل بها.
يرى من هذا النص أن الغرامة قد تزيد أو تنقص عن مائة قرش تبعًا لقيمة القطعة المزيفة فإذا تعامل شخص بقطعة مزورة ذات عشرة قروش مثلاً فإن ستة أمثال هذه القطعة ستون قرشًا فهل يعتبر استعمال هذه القطعة مخالفة بناءً على أن أقصى الغرامة التي يمكن أن يحكم بها مقدارها لا يتجاوز جنيهًا مصريًا طبقًا للمادة (12 ع) أو أنها تعتبر جنحة مع أن أقصى غرامتها لم تبلغ، الدرجة المبينة بالمادة (11) عقوبات أي أنها لا تزيد عن ماية قرش.
إذا رجعنا للمادة (182 ع) قديمة وهى التي استعيض عنها بالمادة (172 ع) المذكورة نرى أن العقوبة المقررة في هذه المادة هي غرامة لا تقل عن ثلاثة أمثال القطعة المزيفة ولا تتجاوز ستة أمثالها بحيث لا تنقص في أي حال من الأحوال عن مائة قرش ديواني.
وبمقارنة نص المادتين (182 ع) قديمة، و(172 ع) جديدة ببعضها نرى أنهما يختلفان في نقطة واحدة وهي وجود حد أدنى للغرامة في المادة (182 ع) قديمة، وهو 100 قرش وعدم وجود هذا القيد في المادة (172 ع) الجديدة.
أما المادة (135) عقوبات فرنسي التي تقابل (182 ع) قديمة، و(172 ع) جديدة فإن نصها يطابق نص المادة (182 ع) قديمة غير أنه اختلف عنها في مقدار الحد الأدنى للغرامة فلا يجب أن يقل عن (16 ف) في القانون الفرنسي و100 قرش في القانون المصري (مادة 182 ع قديمة).
إذا أخذنا بنصوص الثلاث مواد ورجعنا إلى تعريف الجنحة والمخالفة سواء في القانون الفرنسي أو القانون المصري القديم أو الجديد لرأينا أن الجريمة المذكورة آنفًا تعتبر جنحة في كل الأحوال وفى القانون الفرنسي بنص صريح بما أن أقل عقوبة لها هي (16 ف)، وهي تتجاوز أقصى حد لعقوبة المخالفة الذي هو (15 ف) مادة (464 ع ف)، وقد جرى العمل في فرنسا على تقديم هذه الجريمة دائمًا لمحكمة الجنح، أما في القانون المصري فإن هذه الجريمة تعتبر جنحة أو مخالفة تبعًا لقيمة القطعة المزيفة المستعملة سواء أخذ بنص المادة (182 ع) قديمة أو(172 ع) جديدة لأن أقصى الغرامة في المادتين قد تدخل في عقوبة المخالفة وقد لا تدخل تبعًا لقيمة القطعة المزورة.
أحكام المحاكم ورأي محكمة النقض
وأصدرت المحاكم المصرية بعض أحكام طبقًا للمبدأ السابق أي اعتبار الواقعة جنحة أو مخالفة تبعًا لقيمة القطعة المزيفة فإن كان ستة أمثال هذه القطعة يتجاوز عقوبة المخالفة كقطعة ذات عشرين قرشًا مثلاً اعتبر التعامل بها بعد التحقق من عيبها جنحة وإن كان ستة أمثالها لم يبلغ الدرجة المذكورة اعتبر الفعل مخالفة.
وقد قضت محكمة النقض باعتبار التعامل بقطعة ذات خمسة قروش صاغ مغشوشة مع العلم بحالتها مخالفة (صدر هذا الحكم في 31 مايو سنة 1913 دائرة حضرات المستر بوند وأحمد موسى بك ومينا بك ومحمد توفيق نسيم بك ومستر ماك برنت).
وأصدرت حكمًا آخر بالمعنى المذكور (صدر هذا الحكم في 7 يونيو سنة 1913 دائرة مستر بوند ومستر دلبروغلى ومحرز باشا وأحمد موسى باشا ومحمد توفيق نسيم باشا).
والحكم الأول نشر بالمجموعة الرسمية 14 عدد 114 صحيفة 224 والثاني والمجموعة عدد 15 صحيفة 135.
ولم تذكر شيئًا من الأسباب في حكم 7 يونيو سنة 1913 سوى ما يأتي:
(حيث إن الجريمة المسندة إلى المتهم وبشأنها رفع النقض إنما هي استعماله قطعة مزيفة من ذات الخمسة قروش بعد تحققه من عيوبها فهي بهذا الاعتبار توصف بحكم القانون مخالفة لأن العقاب المفروض عليها قانونًا في المادة (172 ع) لا تتجاوز المائة قرش في هذه الحالة وبناءً على ذلك يكون النقض غير مقبول).
وأما الحكم الآخر فذكر أن الفعل المسند للمتهم مخالفة كما هو مدون بالحكم المطعون فيه وإذا لا يجوز الطعن فيه بطريق النقض.
غير أن هذا الرأي لا يمكن الأخذ به قضية مسلمة والواجب اعتبار مثل هذه التهمة جنحة في كل الأحوال حتى ولو لم يبلغ ستة أمثال القطعة المزيفة الدرجة المبينة بالمادة (11 ع) الخاصة بعقوبة الجنحة وذلك:
أولاً: قياسًا على المادة (135 ع) فرنسي التي أخذت عنها المادة (172 ع) المذكورة.
وثانيًا: لأن الشارع أفرد في قانون العقوبات بابًا خاصًا للمخالفات في الكتاب الرابع تحت عنوان (في المخالفات) وبين هذه المخالفات في المواد (328 ع) إلى (348 ع) ولم يذكر شيئًا عن المسكوكات المزيفة وبالعكس قد نص على هذه الجريمة في الكتاب الثاني تحت عنوان (في الجنايات والجنح المضرة بالمصلحة العمومية وبيان عقوباتها).
ولو أن الشارع أراد اعتبار هذه الجريمة (استعمال النقود المزيفة) مخالفة في بعض الأحوال لما أوردها في هذا الباب ولا ورد لذلك نصًا خاصًا في باب المخالفات في الأحوال التي تكون أقصى الغرامة فيها تدخل في عقوبة المخالفة، وذكر الأستاذ حضرة محمد كامل مرسي بك في كتابه (شرح قانون العقوبات العام) سببًا آخر لتأييد هذا الرأي وهو أن لا مصادرة إلا بنص مادة (30 ع) فإذا صح القول باعتبار مثل التهمة المذكورة مخالفة في بعض الأحيان لترتب على ذلك أنه لا يقضي بالمصادرة لعدم النص عليها وهذا غير معقول وينتج من ذلك أن القانون يقصد اعتبارها دائمًا جنحة حتى يمكن المصادرة في كل الأحوال صحيفة 26 و27.
رأي لجنة المراقبة
وكان هذا رأي لجنة المراقبة قبل تعديل المادة (182 ع) قديمة فأصدرت منشورين بذلك أحدهما رقم (25) خصوصي بتاريخ 25 مايو سنة 1897 والآخر رقم (53) خصوصي بتاريخ 12/ 11/ 1899 ثم أصدرت منشورًا ثالثًا بتاريخ 25 مارس سنة 1908 رقم (14) بعد استبدال المادة (182 ع) بالمادة (172 ع) سالفة الذكر بتأييد ذلك الرأي وصدر هذا المنشور الأخير بمناسبة اعتبار المحكمة التعامل بقطعة مزورة ذات عشرة قروش مخالفة والحكم فيها على هذا الاعتبار وقد ذكرت اللجنة من بين أسبابها ما يأتي:
ومن حيث إن هذه المادة تقضي بعقوبة الغرامة التي لا تزيد عن ستة أمثال قيمة المسكوكات التي تعامل بها المتهم بعد تحققه من عيوبها.
(وحيث إنه يتضح من هذا النص أن القانون أراد اعتبار هذا الفعل جنحة لا مخالفة لأن أقصى الغرامة يمكن أن يتجاوز جنيهًا مصريًا).
(وحيث وإن كان أقصى الغرامة في هذه القضية لا يتجاوز هذا المبلغ إلا أنه لتعيين نوع الجريمة يجب أن لا يلتفت إلى قيمة الغرامة الواجب الحكم بها في واقعة معينة بل إلى أقصى الغرامة التي يمكن الحكم بها إذ بغير ذلك يعتبر الفعل الواحد تارة جنحة وتارة مخالفة ولا يخفي ما في ذلك من التناقض).
ثم أشارت لجنة المراقبة في أسبابها أيضًا إلى وضع الشارع المادة (172 ع) في الباب الخامس عشر من الكتاب الثاني المشتمل على بيان الجنايات والجنح المضرة بالمصلحة العمومية وعقوبتها وذكرت أن ذلك لا يترك محلاً للشك فيما قصده الشارع من رغبة اعتبار هذه الجريمة جنحة مهما كانت قيمة الغرامة التي يمكن الحكم بها، ورغمًا عن منشورات لجنة المراقبة سالفة الذكر قد صدرت بعض أحكام باعتبار الواقعة جنحة أو مخالفة تبعًا لقيمة القطعة المزيفة كما تقدم ذكره ثم جاء حكما النقض معززين لذلك.
وقد حصل بسبب هذا الاختلاف في الرأي في القضية نمرة (827) سنة 1928 جنح المنشية التي تتضمن اتهام شخص بأنه تعامل بقطعة ذات خمسة قروش بعد تحققه من عيبها أن تقدمت هذه القضية ضد المتهم لمحكمة المخالفات فقضى فيها بعدم الاختصاص لأن هذا العمل جنحة (طبقًا لرأي لجنة المراقبة)، وأصبح هذا الحكم نهائيًا، ثم تقدمت القضية بعد ذلك إلى محكمة الجنح فقضى فيها بعدم الاختصاص لأن الواقعة مخالفة (طبقًا لرأي محكمة النقض)، وأصبح هذا الحكم نهائيًا.
وبناءً على ذلك أفلت المتهم من العقاب حيث لم يمكن تقديمه بعد هذين الحكمين لا إلى محكمة المخالفات ولا إلى محكمة الجنح.
وأرى إزاء ذلك ولكي يستقر على رأي ثابت يمكن الأخذ به خصوصًا بعد صدور حكمي النقض اللذين جاءا بعد منشورات لجنة المراقبة سالفة الذكر أن تقول هذه اللجنة كلمتها في ذلك ومن رأيي أنه يجب أن تصر على رأيها الأول لأنه أقرب لغرض الشارع للأسباب التي أبديتها قبل ومن واجب النيابة أن تتصرف في مثل هذه القضايا باعتبارها جنحة في كل الأحوال وإذا حكم بما يخالف هذا الرأي فترفع الأمر لمحكمة النقض ومن المحتمل كثيرًا أن تعدل هذه المحكمة عن رأيها السابق خصوصًا وأن الحكمين سالفي الذكر صدرا من دائرة واحدة ولم يذكرا شيئًا من الأسباب سوى ما تقدم دون بحث الأسباب التي ذكرناها والتي هي محل نظر.
رئيس نيابة المنصورة الأهلية
مصطفى رشدي
بحث في تطبيق المادة (167) من قانون العقوبات على حوادث الترام
مجلة المحاماة - العدد الثالث
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
في تطبيق المادة (167) من قانون العقوبات
على حوادث الترام
لحضرة الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
نصت المادة (167) من قانون العقوبات المصري الواردة في الباب الثالث عشر بشأن تعطيل المواصلات من الكتاب الثاني الخاص بالجنايات والجنح المضرة بالمصلحة العمومية على عقاب كل من عرض للخطر عمدًا سلامة وسائل النقل العامة البرية أو المائية أو الجوية أو عطل سيرها.
وسنبحث في هذا الصدد مدى انطباق هذه المادة على تعطيل عربات الترام أو تعريض سلامتها للخطر.
ولعل الذي يسعفنا في هذا الشأن هو معرفة حكم قانون العقوبات الفرنسي - فلم يرد في مجموعة قانون العقوبات شيء في تعطيل وسائل المواصلات وإنما صدرت تشريعات جنائية خاصة بكل نوع من أنواع المواصلات فجاء قانون السكة الحديد في 15 يوليه سنة 1845 متضمنًا في بابه الثالث المتعلق بالإجراءات الخاصة بأمن تسيير قطارات السكة الحديد المادة (16) منه والتي تعاقب على تعطيل سير قطارات السكة الحديد عمدًا - كما نصت المادة (19) على عقاب كل من تسبب بإهماله وعدم احتياطه ورعونته وعدم مراعاته للقوانين واللوائح في وقوع حادث لقطار نشأ عنه موت أو إصابة شخص كما صدرت تشريعات جنائية خاصة للمواصلات البرية بالسيارات والعربات والمواصلات الجوية بالطائرات والمواصلات البحرية والنهرية بالمراكب.
ولقد أثير في فرنسا خلاف بشأن مدى انطباق القانون الصادر في 15 يوليه سنة 1845 على حوادث الترام قياسًا على حوادث السكة الحديد إلى أن حسم المشرع هذا النزاع فصدر قانون بتاريخ 11 يونيه سنة 1880 نص في المادة (37) منه على تطبيق القانون الصادر في 15 يوليه سنة 1845 على حوادث الترام ولقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسية بتاريخ 9 أغسطس سنة 1917 (دالوز سنة 1919 الجزء الأول صـ 38) تطبيقًا لهذا القانون في حادثة ترام اُتهم فيها مدير إحدى شركات الترام بتسببه - بإهماله وعدم مراعاته للوائح الخاصة بالمحافظة على قضبان الترام - في قتل وإصابة أشخاص فعاقبته بالمادة (19) من قانون سنة 1845.
كما أثير خلاف آخر في فرنسا بشأن تطبيق المادة (434) من قانون العقوبات الفرنسي الخاص بوضع النار عمدًا في عربات السكة الحديد Wagons على عربات الترام وكان يرى جارسون (م 434 ن 55) وجارو (6 صـ 283 هامش 17) بأن هذه المادة تتسع لحوادث حريق عربات الترام معللين هذا النظر بأن كلا النوعين من العربات يسير على قضبان حديدية فضلاً عن أن المادة (37) من القانون سنة 1880 أعلنت تطبيق قانون السكة الحديد الصادر في سنة 1845 على حوادث الترام - ولقد تأيد ذلك بما حكمت به محكمة النقض والإبرام الفرنسية في 22 ديسمبر سنة 1898.
أما في مصر - فلقد جاءت المادة (167) عقوبات بدلاً من المادة (145) من قانون العقوبات الملغى الصادر في سنة 1904 والتي كانت تعاقب كل من عطل عمدًا سير قطارات السكة الحديد وحدها دون غيرها من وسائل النقل العامة والتزم الشارع في ذلك نص القانون الفرنسي الصادر سنة 1845 والقاصر على تنظيم النقل بطريق السكة الحديد وفي ظل تطبيق قانون العقوبات الصادر في 1904 ثار خلاف بشأن حوادث الترام وقد حكمت محكمة الجيزة الجزئية بتاريخ 21 مايو سنة 1905 (المجموعة 7 صـ 53) بأن حوادث الترام تطبق عليها المادة (145) المذكورة - إلا أن بعض رجال الفقه رأوا عدم صحة هذا القياس إذ لا يسوغ التوسع في تفسير قانون العقوبات كما لا يصح الأخذ بما ورد في قانون العقوبات الفرنسي سالف الذكر لعدم وجود تشريع مماثل في مصر على غرار القانون الصادر في سنة 1880.
كما حدث جدل فقهي في مصر بشأن تطبيق المادة (252) من قانون العقوبات المصري الخاص بوضع النار عمدًا في عربات السكة الحديد والمقابلة للمادة (434) من قانون العقوبات الفرنسي وهل تطبق على حريق عربات الترام.
قال الأستاذ جندي عبد الملك بالإيجاب جريًا على ما استقر عليه الرأي في فرنسا، أما الأستاذ أحمد أمين فيرى أنه إذا أمكن التوسع في التفسير والخروج عن المألوف جاز إدخال عربات الترام في نص المادة وقياسها على حالة قطارات السكة الحديد - كما أكد أن الأخذ بالرأي الفرنسي في مصر يخالف المنطق إذ النص الفرنسي يختلف عن النص المصري في أنه لم يذكر عربات السكك الحديدية بوجه التخصيص وإنما أتى بكلمة Wagons أي عربات ولم يحددها بعربات السكة الحديد
Wagons de chémin de fer.
هذا هو حكم قانون العقوبات المصري بشأن قطارات السكة الحديد وعربات الترام قبل صدور قانون العقوبات الجديد سنة 1927 فإذا جاء النص في هذا القانون الأخير (المادة 167) عامًا شاملاً غير مقيد أو مخصص بنوع معين من وسائل النقل إذ ينص على عقاب كل من عطل أو عرض للخطر عمدًا سلامة وسائل النقل العامة البرية أو المائية أو الجوية فقد أغنانا عن هذا الجدل - الأمر الذي يستفاد منه بجلاء أن المادة (167) تنطبق على تعطيل عربات الترام أو تعريض سلامتها للخطر.
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
في تطبيق المادة (167) من قانون العقوبات
على حوادث الترام
لحضرة الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة
نصت المادة (167) من قانون العقوبات المصري الواردة في الباب الثالث عشر بشأن تعطيل المواصلات من الكتاب الثاني الخاص بالجنايات والجنح المضرة بالمصلحة العمومية على عقاب كل من عرض للخطر عمدًا سلامة وسائل النقل العامة البرية أو المائية أو الجوية أو عطل سيرها.
وسنبحث في هذا الصدد مدى انطباق هذه المادة على تعطيل عربات الترام أو تعريض سلامتها للخطر.
ولعل الذي يسعفنا في هذا الشأن هو معرفة حكم قانون العقوبات الفرنسي - فلم يرد في مجموعة قانون العقوبات شيء في تعطيل وسائل المواصلات وإنما صدرت تشريعات جنائية خاصة بكل نوع من أنواع المواصلات فجاء قانون السكة الحديد في 15 يوليه سنة 1845 متضمنًا في بابه الثالث المتعلق بالإجراءات الخاصة بأمن تسيير قطارات السكة الحديد المادة (16) منه والتي تعاقب على تعطيل سير قطارات السكة الحديد عمدًا - كما نصت المادة (19) على عقاب كل من تسبب بإهماله وعدم احتياطه ورعونته وعدم مراعاته للقوانين واللوائح في وقوع حادث لقطار نشأ عنه موت أو إصابة شخص كما صدرت تشريعات جنائية خاصة للمواصلات البرية بالسيارات والعربات والمواصلات الجوية بالطائرات والمواصلات البحرية والنهرية بالمراكب.
ولقد أثير في فرنسا خلاف بشأن مدى انطباق القانون الصادر في 15 يوليه سنة 1845 على حوادث الترام قياسًا على حوادث السكة الحديد إلى أن حسم المشرع هذا النزاع فصدر قانون بتاريخ 11 يونيه سنة 1880 نص في المادة (37) منه على تطبيق القانون الصادر في 15 يوليه سنة 1845 على حوادث الترام ولقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسية بتاريخ 9 أغسطس سنة 1917 (دالوز سنة 1919 الجزء الأول صـ 38) تطبيقًا لهذا القانون في حادثة ترام اُتهم فيها مدير إحدى شركات الترام بتسببه - بإهماله وعدم مراعاته للوائح الخاصة بالمحافظة على قضبان الترام - في قتل وإصابة أشخاص فعاقبته بالمادة (19) من قانون سنة 1845.
كما أثير خلاف آخر في فرنسا بشأن تطبيق المادة (434) من قانون العقوبات الفرنسي الخاص بوضع النار عمدًا في عربات السكة الحديد Wagons على عربات الترام وكان يرى جارسون (م 434 ن 55) وجارو (6 صـ 283 هامش 17) بأن هذه المادة تتسع لحوادث حريق عربات الترام معللين هذا النظر بأن كلا النوعين من العربات يسير على قضبان حديدية فضلاً عن أن المادة (37) من القانون سنة 1880 أعلنت تطبيق قانون السكة الحديد الصادر في سنة 1845 على حوادث الترام - ولقد تأيد ذلك بما حكمت به محكمة النقض والإبرام الفرنسية في 22 ديسمبر سنة 1898.
أما في مصر - فلقد جاءت المادة (167) عقوبات بدلاً من المادة (145) من قانون العقوبات الملغى الصادر في سنة 1904 والتي كانت تعاقب كل من عطل عمدًا سير قطارات السكة الحديد وحدها دون غيرها من وسائل النقل العامة والتزم الشارع في ذلك نص القانون الفرنسي الصادر سنة 1845 والقاصر على تنظيم النقل بطريق السكة الحديد وفي ظل تطبيق قانون العقوبات الصادر في 1904 ثار خلاف بشأن حوادث الترام وقد حكمت محكمة الجيزة الجزئية بتاريخ 21 مايو سنة 1905 (المجموعة 7 صـ 53) بأن حوادث الترام تطبق عليها المادة (145) المذكورة - إلا أن بعض رجال الفقه رأوا عدم صحة هذا القياس إذ لا يسوغ التوسع في تفسير قانون العقوبات كما لا يصح الأخذ بما ورد في قانون العقوبات الفرنسي سالف الذكر لعدم وجود تشريع مماثل في مصر على غرار القانون الصادر في سنة 1880.
كما حدث جدل فقهي في مصر بشأن تطبيق المادة (252) من قانون العقوبات المصري الخاص بوضع النار عمدًا في عربات السكة الحديد والمقابلة للمادة (434) من قانون العقوبات الفرنسي وهل تطبق على حريق عربات الترام.
قال الأستاذ جندي عبد الملك بالإيجاب جريًا على ما استقر عليه الرأي في فرنسا، أما الأستاذ أحمد أمين فيرى أنه إذا أمكن التوسع في التفسير والخروج عن المألوف جاز إدخال عربات الترام في نص المادة وقياسها على حالة قطارات السكة الحديد - كما أكد أن الأخذ بالرأي الفرنسي في مصر يخالف المنطق إذ النص الفرنسي يختلف عن النص المصري في أنه لم يذكر عربات السكك الحديدية بوجه التخصيص وإنما أتى بكلمة Wagons أي عربات ولم يحددها بعربات السكة الحديد
Wagons de chémin de fer.
هذا هو حكم قانون العقوبات المصري بشأن قطارات السكة الحديد وعربات الترام قبل صدور قانون العقوبات الجديد سنة 1927 فإذا جاء النص في هذا القانون الأخير (المادة 167) عامًا شاملاً غير مقيد أو مخصص بنوع معين من وسائل النقل إذ ينص على عقاب كل من عطل أو عرض للخطر عمدًا سلامة وسائل النقل العامة البرية أو المائية أو الجوية فقد أغنانا عن هذا الجدل - الأمر الذي يستفاد منه بجلاء أن المادة (167) تنطبق على تعطيل عربات الترام أو تعريض سلامتها للخطر.
استئناف الجنح والمخالفات
مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة الحادية والثلاثون سنة 1951
استئناف الجنح والمخالفات
المادة (402) إجراءات جنائية جديدة
لحضرة الأستاذ عباس الدسوقي المحامي
نصت المادة (402) من قانون الإجراءات الجنائية الجديد على ما يأتي:
يجوز استئناف الأحكام الصادرة في الدعوى الجنائية من المحكمة الجزئية في المخالفات وفي الجنح:
1 - من المتهم إذا حكم عليه بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات.
2 - من النيابة العامة إذا طلبت الحكم بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وحكم ببراءة المتهم أو لم يحكم بما طلبه.
ومحل البحث هو الفقرة (1) من هذه المادة التي تضمنت خروجًا ملحوظًا على القواعد المقررة في تحقيق الجنايات وسيترتب على تطبيقها النتائج الآتية وهي جزء من كل:
أولاً: حرمان المتهم المحكوم عليه بعقوبة من أجل جنحة أو مخالفة من حق التمتع بنظام درجتي التقاضي.
ثانيًا: التفرقة بلا مبرر بين متهمين محكوم عليهما بعقوبة في جريمة واحدة لمجرد اختلاف نوع العقوبة فحيث حكم بغرامة تتجاوز خمسة جنيهات جاز الاستئناف كما إذا حكم بالحبس أما حيث يحكم بأقل من خمسة جنيهات فلا استئناف.
ثالثًا: أصبح زمام الاستئناف من حيث جوازه وعدم جوازه بيد القاضي الذي يحكم بالعقوبة لا بيد المتهم بمعنى أن القاضي عندما يحكم بغرامة تتجاوز خمسة جنيهات أو بالحبس فقد حكم ضمنًا بجواز الاستئناف، وإذا ما حكم بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات فقد حكم ضمنًا بعدم جواز الاستئناف، وكذلك الحال فيما لو حكم بغير الغرامة والمصاريف فقد حكم بجواز استئناف حكمه أما إذا حكم بالغرامة والمصاريف دون غيرهما فقد حكم ضمنًا بعدم جواز استئناف حكمه - ووجه الاعتراض أن القاعدة في الاستئناف تقوم على نوع الطلب لا على ما يحكم به فعلاً عملاً بالقاعدة المقررة في قانون المرافعات.
رابعًا: عدم المساواة بين النيابة والمتهم في حق الاستئناف فقد وضع النص معيارًا هامًا بالنسبة لقابلية الحكم للاستئناف هو (نوع) العقوبة (المحكوم بها ومقدارها) بالنسبة للمتهم وبالنسبة للنيابة العامة هي بنوع العقوبة التي (طلبتها) ومقدارها، وكان مقتضى المساواة أن يجعل معيار الاستئناف هو الطلبات فحيث لا يحكم بطلبات النيابة فلها أن تستأنف، وحيث لا يقضي للمتهم بطلباته وهي البراءة فمن حقه أن يستأنف.
خامسًا: إن جعل معيار الاستئناف بالنسبة للمتهم هو نوع ومقدار العقوبة المقضي بها عليه في جنحة أو مخالفة معيار غير سديد لأن المحكوم عليه ينصب تظلمه أساسًا على ثبوت الجريمة ولا يهمه نوع العقوبة وقد قرر القانون عقوبة الغرامة من أجل جنح خطيرة مثال ذلك جنحة الشروع في السرقة (321 ع) وجنحة النصب (336 ع وجنحة السب (306 ع) وغير ذلك فكيف يسوغ حرمان المتهم من التظلم بالاستئناف ونلزمه بآثار الحكم الجنائي لمجرد الاستهانة بنوع العقوبة دون نظر إلى ثبوت التهمة ذاتها ومن الآثار الجنائية:
1 - تطبيق قانون المشبوهين.
2 - تطبيق قواعد العود - والحالتان يتعرض لهما المتهم المحكوم عليه بغرامة.
3 - الالتجاء لرد الاعتبار.
سادسًا: ومع حرمان المتهم من حق الاستئناف في الأحوال المذكورة حيل بينه وبين الطعن في الحكم بالنقض عملاً بنص المادة (420) التي تقصر النقض على الأحكام (النهائية) الصادرة من (آخر درجة) مما يفيد أن الأحكام النهائية الصادرة من أول درجة كحالتنا لا تقبل الطعن بطريق النقض.
سابعًا: كنتيجة حتمية لنهائية الحكم في الأحوال المذكورة يصبح المتهم المحكوم عليه أمام حكم جنائي نهائي يعرضه للحكم عليه بتعويضات من المجني عليه دون أن يتمكن من التعرض للحكم الجنائي فيصبح المتهم المحكوم عليه بغرامة عرضة لدعاوى التعويض في جنح الضرب والقتل الخطأ والسب والنصب وسائر الجنح والمخالفات التي حكم فيها بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات وفي هذا من عدم المساواة بين المدعي المدني وبين المتهم شيء كثير.
ثامنًا: عدم المساواة بين المتهمين بجريمة واحدة فاعلين أو فاعلين وشركاء وتناقض الأحكام بالنسبة للمتهمين في جريمة واحدة (مثال ذلك) متهمان بجنحة شروع في سرقة قضي على أحدهما بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات لظروفه الخاصة بينما قضي على الثاني بالحبس فللمتهم الثاني حق الاستئناف وقد يقضي ببراءته بينما يصبح المتهم الأول محرومًا من الاستئناف وملزمًا بقبول الحكم النهائي.
هذه بعض آثار المادة (402) جديدة وأمامها يتمنى المتهم أن يحكم عليه بالحبس بدلاً من غرامة تقل عن خمسة جنيهات ليكون لديه أمل في استئناف الحكم وقد يكون بقاء المادة سائغًا إذا ما وضعت نصوص تقضي بأن الأحكام القاضية بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات في جنح لا يترتب عليها آثار جنائية ولا مدنية وهو أمر متعذر فلا علاج إلا بالرجوع إلى إطلاق حق الاستئناف عن كل حكم يصدر في جنحة مهما كان نوعه ومقداره وفي كل مخالفة إذا ما حكم بغير الغرامة والمصروفات ومع بعض القيود بالنسبة للمخالفات الخطيرة.
السنة الحادية والثلاثون سنة 1951
استئناف الجنح والمخالفات
المادة (402) إجراءات جنائية جديدة
لحضرة الأستاذ عباس الدسوقي المحامي
نصت المادة (402) من قانون الإجراءات الجنائية الجديد على ما يأتي:
يجوز استئناف الأحكام الصادرة في الدعوى الجنائية من المحكمة الجزئية في المخالفات وفي الجنح:
1 - من المتهم إذا حكم عليه بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات.
2 - من النيابة العامة إذا طلبت الحكم بغير الغرامة والمصاريف أو بغرامة تزيد على خمسة جنيهات وحكم ببراءة المتهم أو لم يحكم بما طلبه.
ومحل البحث هو الفقرة (1) من هذه المادة التي تضمنت خروجًا ملحوظًا على القواعد المقررة في تحقيق الجنايات وسيترتب على تطبيقها النتائج الآتية وهي جزء من كل:
أولاً: حرمان المتهم المحكوم عليه بعقوبة من أجل جنحة أو مخالفة من حق التمتع بنظام درجتي التقاضي.
ثانيًا: التفرقة بلا مبرر بين متهمين محكوم عليهما بعقوبة في جريمة واحدة لمجرد اختلاف نوع العقوبة فحيث حكم بغرامة تتجاوز خمسة جنيهات جاز الاستئناف كما إذا حكم بالحبس أما حيث يحكم بأقل من خمسة جنيهات فلا استئناف.
ثالثًا: أصبح زمام الاستئناف من حيث جوازه وعدم جوازه بيد القاضي الذي يحكم بالعقوبة لا بيد المتهم بمعنى أن القاضي عندما يحكم بغرامة تتجاوز خمسة جنيهات أو بالحبس فقد حكم ضمنًا بجواز الاستئناف، وإذا ما حكم بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات فقد حكم ضمنًا بعدم جواز الاستئناف، وكذلك الحال فيما لو حكم بغير الغرامة والمصاريف فقد حكم بجواز استئناف حكمه أما إذا حكم بالغرامة والمصاريف دون غيرهما فقد حكم ضمنًا بعدم جواز استئناف حكمه - ووجه الاعتراض أن القاعدة في الاستئناف تقوم على نوع الطلب لا على ما يحكم به فعلاً عملاً بالقاعدة المقررة في قانون المرافعات.
رابعًا: عدم المساواة بين النيابة والمتهم في حق الاستئناف فقد وضع النص معيارًا هامًا بالنسبة لقابلية الحكم للاستئناف هو (نوع) العقوبة (المحكوم بها ومقدارها) بالنسبة للمتهم وبالنسبة للنيابة العامة هي بنوع العقوبة التي (طلبتها) ومقدارها، وكان مقتضى المساواة أن يجعل معيار الاستئناف هو الطلبات فحيث لا يحكم بطلبات النيابة فلها أن تستأنف، وحيث لا يقضي للمتهم بطلباته وهي البراءة فمن حقه أن يستأنف.
خامسًا: إن جعل معيار الاستئناف بالنسبة للمتهم هو نوع ومقدار العقوبة المقضي بها عليه في جنحة أو مخالفة معيار غير سديد لأن المحكوم عليه ينصب تظلمه أساسًا على ثبوت الجريمة ولا يهمه نوع العقوبة وقد قرر القانون عقوبة الغرامة من أجل جنح خطيرة مثال ذلك جنحة الشروع في السرقة (321 ع) وجنحة النصب (336 ع وجنحة السب (306 ع) وغير ذلك فكيف يسوغ حرمان المتهم من التظلم بالاستئناف ونلزمه بآثار الحكم الجنائي لمجرد الاستهانة بنوع العقوبة دون نظر إلى ثبوت التهمة ذاتها ومن الآثار الجنائية:
1 - تطبيق قانون المشبوهين.
2 - تطبيق قواعد العود - والحالتان يتعرض لهما المتهم المحكوم عليه بغرامة.
3 - الالتجاء لرد الاعتبار.
سادسًا: ومع حرمان المتهم من حق الاستئناف في الأحوال المذكورة حيل بينه وبين الطعن في الحكم بالنقض عملاً بنص المادة (420) التي تقصر النقض على الأحكام (النهائية) الصادرة من (آخر درجة) مما يفيد أن الأحكام النهائية الصادرة من أول درجة كحالتنا لا تقبل الطعن بطريق النقض.
سابعًا: كنتيجة حتمية لنهائية الحكم في الأحوال المذكورة يصبح المتهم المحكوم عليه أمام حكم جنائي نهائي يعرضه للحكم عليه بتعويضات من المجني عليه دون أن يتمكن من التعرض للحكم الجنائي فيصبح المتهم المحكوم عليه بغرامة عرضة لدعاوى التعويض في جنح الضرب والقتل الخطأ والسب والنصب وسائر الجنح والمخالفات التي حكم فيها بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات وفي هذا من عدم المساواة بين المدعي المدني وبين المتهم شيء كثير.
ثامنًا: عدم المساواة بين المتهمين بجريمة واحدة فاعلين أو فاعلين وشركاء وتناقض الأحكام بالنسبة للمتهمين في جريمة واحدة (مثال ذلك) متهمان بجنحة شروع في سرقة قضي على أحدهما بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات لظروفه الخاصة بينما قضي على الثاني بالحبس فللمتهم الثاني حق الاستئناف وقد يقضي ببراءته بينما يصبح المتهم الأول محرومًا من الاستئناف وملزمًا بقبول الحكم النهائي.
هذه بعض آثار المادة (402) جديدة وأمامها يتمنى المتهم أن يحكم عليه بالحبس بدلاً من غرامة تقل عن خمسة جنيهات ليكون لديه أمل في استئناف الحكم وقد يكون بقاء المادة سائغًا إذا ما وضعت نصوص تقضي بأن الأحكام القاضية بغرامة لا تتجاوز خمسة جنيهات في جنح لا يترتب عليها آثار جنائية ولا مدنية وهو أمر متعذر فلا علاج إلا بالرجوع إلى إطلاق حق الاستئناف عن كل حكم يصدر في جنحة مهما كان نوعه ومقداره وفي كل مخالفة إذا ما حكم بغير الغرامة والمصروفات ومع بعض القيود بالنسبة للمخالفات الخطيرة.
لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناءً على تبليغ زوجها فهل يشترط قيام الزوجية وقت هذا التبليغ ؟
مجلة المحاماة
السنة الرابعة - سنة 1923
لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناءً على تبليغ زوجها فهل يشترط قيام الزوجية وقت هذا التبليغ ؟
تمهيد
هذا سؤال اختلف في الإجابة عليه شارحو القانون في فرنسا ففريق وعلى رأسه العلامة جارسون يقول بالإيجاب، وفريق آخر وعلى رأسه العلامة جارو يقول بالنفي، ولم يدل أي فريق بما يقطع بترجيح رأيه على رأي الفريق الآخر.
أما القضاء الفرنسي فقد أخذ برأي جارسون ولم يعاقب الزانية التي لم يبلغ زوجها عن زناها إلا بعد أن طلقت منه، إذ اعتبر الطلاق مسقطًا لحق الزوجية في التبليغ.
وفى الواقع كان القضاء الفرنسي مدفوعًا في ذلك برغبته الأكيدة في إقالة الأسر المنكودة الحظ من عثراتها، وبتحاشيه أن تشهر الفضيحة بحكم يعتبر عنوانًا للحقيقة.
أما في مصر فلم نرَ رأيًا للشراح في الموضوع، ولم نرَ إلا حكمًا واحدًا صدر أخيرًا من محكمة بني سويف الجزئية بتاريخ 23 يناير سنة 1923 وهو منشور في المحاماة بعددها السابع من السنة الثالثة، وقد استؤنف هذا الحكم أمام محكمة بني سويف الابتدائية الأهلية فأصدرت فيه حكمها بتاريخ 11 مارس سنة 1923 وهو منشور بالمحاماة أيضًا بعددها التاسع من السنة عينها، وها نحن نتعرض لهذين الحكمين بمقدار ما يتسع المقام فنقول:
حكم المحكمة الجزئية
أخذ هذا الحكم برأي جارو فقرر بأنه لا يشترط قيام الزوجية لصحة تبليغ الزوج عن زنا زوجته، وقد حاولنا أن نتعرف ما استند عليه الحكم في تقريره هذا فلم نفز بطائل، ووجدناه يخلط في تطبيق مختلف القوانين، فاعتبر كل من يخضع للقوانين الجنائية في مصر مسلمين من حيث أحكام أحوالهم الشخصية، وجعل القاضي الجنائي مقيدًا بالشريعة الإسلامية دون سواها من الشرائع الملية إذا ما عرضت له مسألة من مسائل الأحوال الشخصية حتى ولو كان المتهم غير مسلم، وهذا كله بحجة أن الشريعة الإسلامية هي شريعة هذه البلاد، وعلى هذا الأساس بنيت أسباب الحكم.
وليت شعري من يقول بأن الشريعة الإسلامية هي شريعة هذه البلاد ! هذا قول يخالف الواقع والقانون كل المخالفة.
فمخالفته للواقع تظهر لمن له أقل إلمام بتاريخ التشريع الحديث في مصر، فالشريعة الإسلامية كانت شريعة هذه البلاد قبل سن القوانين الوضعية التي تمخضت عنها نهضة التشريع الحديث بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1875 وقوانينها ودستور البلاد سنة 1883 والمحاكم الأهلية وقوانينها، أما الأحوال الشخصية فقد تركت لتحكمها القوانين المختلفة لمختلف الطوائف المعترف بها وهى تبلغ الأربع عشرة طائفة أو يزيد، فكل طائفة من هذه الطوائف تكون فيما يختص بأحوالها الشخصية وحدة قضائية لها نظام قضائي خاص (systime judiciaire) كما أن المسلمين فيما يختص بأحوالهم الشخصية يكونون كذلك وحدة قضائية لها نظام قضائي خاص (انظر كتاب ارمنجون في القانون الدولي D. I, Pr. Interne والدكتور أبي هيف بك الجزء الأول صفحة 68 وما بعدها باللغة الإنجليزية).
وأين نصوص المواد (54) و(55) و(130) مدني أهلي وكلها تحيل على أحكام الملّة التابع لها الشخص بصريح العبارة !
بل أين حكم الواقع الساطع وهو وجود المحاكم الشرعية والمجالس الملية العديدة بين ظهرانينا وكل منها يطبق أحكامًا خاصة به !
لهذا كانت أسباب هذا الحكم لا تؤدي إلى النتيجة التي يرمي إليها.
حكم المحكمة الابتدائية
بهيأة استئنافية
تهربت هذه المحكمة في حكمها من مناقشة هذه المسألة التي هي محور القضية تهربًا يؤسف له، فقضت بأن استمرار الزوجية لحين صدور الحكم في دعوى الزنا ليس شرطًا لجواز محاكمة الزانية، ولم يكن هذا هو الدفاع في القضية وإنما يقول الدفاع إن استمرار الزوجية لحين تبليغ الزوج عن الزنا (وليس لحين صدور الحكم) هو شرط لجواز محاكمة الزانية، فكان واجبًا على المحكمة أن تنظر في هذا وتبدي فيه رأيًا، لا أن تقتصر على تقرير أمر يسلم به الشراح جميعهم والقضاء كما يسلم به الدفاع أيضًا.
لهذا نتعرض لبحث الموضوع بما هو صحيح في نظرنا فنقول:
التكييف القانوني لحق الزوج في دعوى الزنا
تنص المادة (235) عقوبات أهلي على أنه لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناءً على تبليغ زوجها (وقد أخطأ مترجم القانون فترجم لفظة dénoncer بكلمة دعوى في النسخة العربية)، فعلى أي أساس بنى القانون للزوج هذا الحق ؟
دعوى الزنا هي دعوى عمومية كسائر الدعاوى التي من هذا النوع، وقد نص المشرع على طريقين لإحياء هذه الدعوى.
الطريق الأول: هو مباشرة الدعوى L’ exercice de l’ action publique وهذا لا يكون إلا من النيابة العمومية وحدها.
والطريق الثاني: هو تحريك الدعوى La mise en mouvement de l‘ action publique وهذا خص به المدعي المدني وحده، فبأي طريق يستعمل الزوج حقه المخول له بمقتضى المادة (235) ؟
لا يمكن القول بأن حق الزوج في دعوى الزنا هو حق تحريك الدعوى La mise en mouvement de l’ action لأننا بهذا نشل المادة (235) المذكورة إذ أن المدعي المدني في أي دعوى عمومية متى كانت مخالفة أو جنحة له الحق في تحريك دعواه طبقًا لنص المادة (52) من قانون تحقيق الجنايات فللزوج كسواه أن يحرك دعوى الزنا بهذه الصفة فأين إذن الصفة الخاصة التي ميز بها المشرع دعوى الزنا عن سائر الدعاوى !
ولا يمكن القول بأن دعوى الزنا هي ملك للزوج دون النيابة العمومية وترتب على ذلك تخويله حق مباشرة الدعوى L’ exercice de l’ action دون النيابة العمومية إذ أن هذا حق لم يعطه القانون إلا لأعضاء النيابة العمومية ولا يمكن منحه لغيرهم إلا بناءً على نص صريح وهذا النص لا وجود له.
إذن فما هو التكييف القانوني لحق الزوج في دعوى الزنا ؟
أفلت بعض المحاكم من هذا المأزق بقولهم إن جريمة الزنا هي جريمة خصوصية وإن الدعوى العمومية في هذه الحالة هي من حقوق الزوج المجني عليه وحده إذ هي ملكه (محكمة الموسكي الجزئية 14 أكتوبر سنة 1901)، وهذا خطأ محقق إذ أن المشرع يوقع العقاب على المجرم للصالح العام لا للصالح الخاص.
الصحيح أن جريمة الزنا هي جريمة عمومية ضد الهيئة الاجتماعية فهي ضد الصالح العام ولكنها أيضًا مثل أي جريمة أخرى ضد الصالح الخاص وهو المجني عليه (الزوج)، وفي كل الجرائم نرى المشرع يقدم الصالح العام على الصالح الخاص، إلا في جريمة الزنا فنراه قد أخطأ ميزة خاصة وهي تقديمه الصالح الخاص فيها على الصالح العام، فالصالح العام فيها موجود غير أنه متأخر نظره عن الصالح الخاص، ولذلك فبمجرد ما ينعدم الصالح الخاص هذا يظهر الصالح العام ويظهر المشرع لحمايته.
هذا يؤيده مفهوم المادة (236) عقوبات أهلي حيث تقول (للزوج أن يوقف تنفيذ الحكم الذي يصدر على زوجته وذلك بأن يرضى معاشرتها له كما كانت)، رأى المشرع بأنه لم يبقَ لحماية الصالح الخاص بعد الحكم النهائي إلا أن تعود الزوجة إلى زوجها إذا أراد هذا الأخير معاشرتها كما كانت، فنص على ذلك، ولكنه رأى أيضًا أن الصالح الخاص قد انتهى وانعدم بهذه المأساة وقد تلطخت الأسرة بالعار إلى الأبد، بالعار الذي ثبت بحكم نهائي فهو لا يمحى أبدًا، فظهر الصالح العام وتقدم المشرع لحمايته فهو يعاقب الشريك بعد الحكم النهائي في الدعوى حتى ولو عفا الزوج عن زوجته (انظر لجرافاند جزء أول صـ 45 ومانجان عدد 137 وفستان هيلي عدد 769 وروبر نبذة 475 وفللي صـ 185 وجارسون مادة (388) نبذة 26 وجارو الجزء الخامس نبذة 1889 واستئناف طنطا بالمجموعة الرسمية سنة 12 صـ 38 ومحكمة النقض الفرنسية الصادر في 19 إبريل سنة 1854 بالمجموعة الجنائية عدد 131)، قبل الحكم النهائي في الدعوى غض المشرع الطرف عن تعقب الشريك حفظًا للصالح الخاص وهو المحافظة على نظام الزوجية وحفظ الأسر من الانحلال، مع أن في تعقبه وتعقب كل مجرم مثله حماية للصالح العام، ولكن المشرع بعد أن انعدم الصالح الخاص بصدور الحكم النهائي نشط فقبض على الشريك بيده الحديدية وعاقبه، أليس هذا في سبيل الصالح العام.
فالزوج هو مبلغ ككل مبلغ آخر ويتضح هذا إذا رجعنا إلى الأصل الفرنسي للمادة (235) حيث تقول:
L’adultére de la femme ne pourra être dénoncée que par le mari.
وترجمته: زنا الزوجة لا يجوز تبليغه إلا من الزوج، وهذا اللفظ منقول عن المادة (236) عقوبات من القانون الفرنسي وعنها يقول المسيو مرلان ما نقول به نحن الآن (انظر شوفو وهيلي الجزء الرابع صفحة 351 فقرة 1612).
ثبت هذا وثبت أن دعوى الزنا تملكها النيابة العمومية ككل الدعاوى العمومية، وأن المشرع أعطى لها ميزة خاصة تجعل الصالح الخاص فيها مقدمًا على الصالح العام، والنيابة العمومية لا تملك دعوى الزنا إلا من وقت تبليغ الزوج، ولكن النيابة العمومية التي تحمي الصالح العام بملكيتها هذه هي خاضعة لإرادة الزوج الذي يمثل فيه الصالح الخاص فللزوج أن يتنازل عن الدعوى في أي وقت وفي أي حالة كانت عليها الدعوى إلى أن يصبح الحكم فيها نهائيًا حيث ينتهي بذلك صالحه (أي الصالح الخاص)، وتظهر حماية الصالح العام كما قدمنا.
فمن كل ما تقدم يتضح أن الميزة الخاصة التي ميز بها المشرع جريمة الزنا عن سائر الجرائم لا تكون موجودة إلا إذا كانت صفة الزوجية قائمة، لأن الصالح الخاص الذي تكلمنا عنه هو المحافظة على نظام هذه الزوجية، ولا يمكن المحافظة على شيء إلا إذا كان موجودًا.
فإذا لم توجد ثمة زوجية تصبح هذه الجريمة ككل الجرائم العادية لا ميزة لها، وتكون هذه الجريمة هي وقاع أنثى بالغة وبرضاها والمشرع لا يعاقب على مثل هذه الجريمة لأنها ليست جريمة في نظره.
فلكي تكون هناك جريمة يعاقب عليها قانونًا يجب أن يبلغ الزوج حال قيام الزوجية عن زنا زوجته، فلا جريمة إذا بلغ وهو غير زوج، هذا هو رأينا في الموضوع ونراه بحق مخالفًا لتقرير المحكمة الجزئية الذي أشرنا إليه آنفًا.
اعتراض على رأينا
ربما يعترض علينا بأن لهذا نتيجة غير مقبولة في مصر (على الأقل بين المسلمين) حيث إن الطلاق بيد الرجل (الزوج) وله أن يوقعه من تلقاء نفسه ومنفردًا به، فلو سلمنا بسقوط حق التبليغ بالطلاق لكان في مقدوره الزوج الذي يرتكب جريمة الزنا المنصوص عليها بالمادة (239) عقوبات أهلي أن يتخلص من المحاكمة بتطليق زوجته فينزع بذلك صفتها في التبليغ ضده، وإنا نذكر نص المادة (239) المذكورة ليكون هذا الاعتراض ماثلاً بوضوح في مخيلة القراء فالمادة تقول (كل زوج زنى غير مرة في منزل الزوجية بامرأة تكون قد أعدها لذلك وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة المذكورة يجازى…).
يدل ظاهر هذا الاعتراض على أنه وجيه، ولو كانت إحدى المحكمتين المشار إليهما آنفًا ذكرته، لكان حكمها مقبولاً ولو في ظاهره.
أقول إن هذا الاعتراض وجيه في ظاهره فقط وسأبين أنه لا ينهض اعتراضًا على رأينا بما إنما هو يؤيده في حكمته التي بني عليها، ولكي يكون ذلك واضحًا نصور تصويرًا كيف تطبق المادة (239) هذه:
زوج زنا غير مرة في منزل الزوجية بامرأة أعدها لذلك - زوجته اطلعت على هذا الأمر المنكر، فافرضوا أن الزوج لم يعلم أن زوجته اطلعت على أمره ولذلك لم يقدم على طلاقها حتى يسلبها حق التبليغ ضده في حين أن الزوجة ذهبت فبلغت، ففي هذه الحال تكون قد بلغت والزوجة قائمة فلا يمكن أن يتخلص الزوج من المادة (239ع).
على أننا نترك هذه الحالة النادرة الحصول ونفرض أن الزوج يعلم أن زوجته اطلعت على أمره، يعلم ذلك قبل أن تبلغ الزوجة فكيف تطبق المادة (239ع) ؟
نقول كيف يكون موقف الزوجين: الزوجة لم تبلغ وبتبليغها فقط ترفع الدعوى على الزوج، والزوج بيده أن يطلق، وإذا طلق لا يمكن رفع الدعوى عليه لأن قيام الزوجية شرط لصحة التبليغ.
المشرع الذي لا يريد أن تدنس الناس بحمأة الرذائل، لا يريد مطلقًا أن يرغم زوجة على معاشرة زوجها الزاني، فهو قد هيأ للزوج الزاني أمرين وخيره بين أحدهما:
الأمر الأول: أن يطلق زوجته التي هي غير راضية بمعاشرته والتي ترى في هذا الطلاق غاية مناها، إذ به تبعد عن هذا الزوج الزاني الخائن وقد قال الله تعالى (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
الأمر الثاني: أنه في حالة ما إذا لم يطلق الزوج زوجته (وتكون بهذا أمنية الزوجة لم تتحقق، أمنيتها التي هي الابتعاد عنه) أعطى القانون لهذه الزوجة التعسة الحق في أن تبلغ عن زوجها الخائن وفي هذه الحالة تطبق المادة (239) المذكورة.
فالزوج الزاني أما أن يطلق أو يعاقب بالمادة (239) أما أن يريح زوجته العاثرة الجد بفصلها عنه أو يتعب هو ويعذب بتوقيع العقوبة، هذا ما يريده المشرع بالنص على المادة (239) وغير هذا لا يتفق أبدًا مع مكارم الأخلاق ولا مع حماية الناس من ضرر الأدناس.
فهل يقال بعد هذا إن الأخذ بالمبدأ القائل بسقوط حق التبليغ إذا حصل التبليغ والزوجية غير قائمة، يشل المادة (239) !
قال الله تعالى في فرقانه المبين (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فكيف توجد هذه المودة والرحمة بين زوج خائن زير [(1)] نساء وبين زوجة ترغم إرغامًا على معاشرته لأنه لا يريد لها الانفصال عنه.
يخشى القانون هذه النتيجة الموبقة ويخشى أن تقفو الزوجة إثر زوجها الزاني في الخنا، لأن الرجل أقوى من المرأة فهي قمين بأن تؤثر فيها خلائقه وأطواره، لذلك نراه لا يسمح للزوجة أن تعفو عن زوجها الذي حكم عليه، برضائها بمعاشرته فيقبله القانون بناءً على ذلك من تنفيذ الحكم فيه، كما نص في الفقرة الأخيرة من المادة (236) عقوبات أهلي على أن للزوج أن يعفو عن زوجته بعد الحكم عليها فيقيلها عفوه من التنفيذ عليها، هذا برضائه معاشرتها، ذلك لأنه في مقدور الرجل أن يقوم اعوجاج زوجته، والرجال قوامون على النساء أما الزوجة فلم يخول لها القانون هذا الحق بسكوته عن النص عليه، لأنها ضعيفة لا تستطيع أن تكسر شكيمة الرجل المعوج الفاسق.
فلذلك كله لم نزل نقرر أن قيام الزوجية شرط واجب تحققه لصحة تبليغ الزوج عن زنا زوجته وفوق كل ذي علم عليم.
زكي أحمد نصر
المحامي ببني سويف
السنة الرابعة - سنة 1923
لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناءً على تبليغ زوجها فهل يشترط قيام الزوجية وقت هذا التبليغ ؟
تمهيد
هذا سؤال اختلف في الإجابة عليه شارحو القانون في فرنسا ففريق وعلى رأسه العلامة جارسون يقول بالإيجاب، وفريق آخر وعلى رأسه العلامة جارو يقول بالنفي، ولم يدل أي فريق بما يقطع بترجيح رأيه على رأي الفريق الآخر.
أما القضاء الفرنسي فقد أخذ برأي جارسون ولم يعاقب الزانية التي لم يبلغ زوجها عن زناها إلا بعد أن طلقت منه، إذ اعتبر الطلاق مسقطًا لحق الزوجية في التبليغ.
وفى الواقع كان القضاء الفرنسي مدفوعًا في ذلك برغبته الأكيدة في إقالة الأسر المنكودة الحظ من عثراتها، وبتحاشيه أن تشهر الفضيحة بحكم يعتبر عنوانًا للحقيقة.
أما في مصر فلم نرَ رأيًا للشراح في الموضوع، ولم نرَ إلا حكمًا واحدًا صدر أخيرًا من محكمة بني سويف الجزئية بتاريخ 23 يناير سنة 1923 وهو منشور في المحاماة بعددها السابع من السنة الثالثة، وقد استؤنف هذا الحكم أمام محكمة بني سويف الابتدائية الأهلية فأصدرت فيه حكمها بتاريخ 11 مارس سنة 1923 وهو منشور بالمحاماة أيضًا بعددها التاسع من السنة عينها، وها نحن نتعرض لهذين الحكمين بمقدار ما يتسع المقام فنقول:
حكم المحكمة الجزئية
أخذ هذا الحكم برأي جارو فقرر بأنه لا يشترط قيام الزوجية لصحة تبليغ الزوج عن زنا زوجته، وقد حاولنا أن نتعرف ما استند عليه الحكم في تقريره هذا فلم نفز بطائل، ووجدناه يخلط في تطبيق مختلف القوانين، فاعتبر كل من يخضع للقوانين الجنائية في مصر مسلمين من حيث أحكام أحوالهم الشخصية، وجعل القاضي الجنائي مقيدًا بالشريعة الإسلامية دون سواها من الشرائع الملية إذا ما عرضت له مسألة من مسائل الأحوال الشخصية حتى ولو كان المتهم غير مسلم، وهذا كله بحجة أن الشريعة الإسلامية هي شريعة هذه البلاد، وعلى هذا الأساس بنيت أسباب الحكم.
وليت شعري من يقول بأن الشريعة الإسلامية هي شريعة هذه البلاد ! هذا قول يخالف الواقع والقانون كل المخالفة.
فمخالفته للواقع تظهر لمن له أقل إلمام بتاريخ التشريع الحديث في مصر، فالشريعة الإسلامية كانت شريعة هذه البلاد قبل سن القوانين الوضعية التي تمخضت عنها نهضة التشريع الحديث بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1875 وقوانينها ودستور البلاد سنة 1883 والمحاكم الأهلية وقوانينها، أما الأحوال الشخصية فقد تركت لتحكمها القوانين المختلفة لمختلف الطوائف المعترف بها وهى تبلغ الأربع عشرة طائفة أو يزيد، فكل طائفة من هذه الطوائف تكون فيما يختص بأحوالها الشخصية وحدة قضائية لها نظام قضائي خاص (systime judiciaire) كما أن المسلمين فيما يختص بأحوالهم الشخصية يكونون كذلك وحدة قضائية لها نظام قضائي خاص (انظر كتاب ارمنجون في القانون الدولي D. I, Pr. Interne والدكتور أبي هيف بك الجزء الأول صفحة 68 وما بعدها باللغة الإنجليزية).
وأين نصوص المواد (54) و(55) و(130) مدني أهلي وكلها تحيل على أحكام الملّة التابع لها الشخص بصريح العبارة !
بل أين حكم الواقع الساطع وهو وجود المحاكم الشرعية والمجالس الملية العديدة بين ظهرانينا وكل منها يطبق أحكامًا خاصة به !
لهذا كانت أسباب هذا الحكم لا تؤدي إلى النتيجة التي يرمي إليها.
حكم المحكمة الابتدائية
بهيأة استئنافية
تهربت هذه المحكمة في حكمها من مناقشة هذه المسألة التي هي محور القضية تهربًا يؤسف له، فقضت بأن استمرار الزوجية لحين صدور الحكم في دعوى الزنا ليس شرطًا لجواز محاكمة الزانية، ولم يكن هذا هو الدفاع في القضية وإنما يقول الدفاع إن استمرار الزوجية لحين تبليغ الزوج عن الزنا (وليس لحين صدور الحكم) هو شرط لجواز محاكمة الزانية، فكان واجبًا على المحكمة أن تنظر في هذا وتبدي فيه رأيًا، لا أن تقتصر على تقرير أمر يسلم به الشراح جميعهم والقضاء كما يسلم به الدفاع أيضًا.
لهذا نتعرض لبحث الموضوع بما هو صحيح في نظرنا فنقول:
التكييف القانوني لحق الزوج في دعوى الزنا
تنص المادة (235) عقوبات أهلي على أنه لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناءً على تبليغ زوجها (وقد أخطأ مترجم القانون فترجم لفظة dénoncer بكلمة دعوى في النسخة العربية)، فعلى أي أساس بنى القانون للزوج هذا الحق ؟
دعوى الزنا هي دعوى عمومية كسائر الدعاوى التي من هذا النوع، وقد نص المشرع على طريقين لإحياء هذه الدعوى.
الطريق الأول: هو مباشرة الدعوى L’ exercice de l’ action publique وهذا لا يكون إلا من النيابة العمومية وحدها.
والطريق الثاني: هو تحريك الدعوى La mise en mouvement de l‘ action publique وهذا خص به المدعي المدني وحده، فبأي طريق يستعمل الزوج حقه المخول له بمقتضى المادة (235) ؟
لا يمكن القول بأن حق الزوج في دعوى الزنا هو حق تحريك الدعوى La mise en mouvement de l’ action لأننا بهذا نشل المادة (235) المذكورة إذ أن المدعي المدني في أي دعوى عمومية متى كانت مخالفة أو جنحة له الحق في تحريك دعواه طبقًا لنص المادة (52) من قانون تحقيق الجنايات فللزوج كسواه أن يحرك دعوى الزنا بهذه الصفة فأين إذن الصفة الخاصة التي ميز بها المشرع دعوى الزنا عن سائر الدعاوى !
ولا يمكن القول بأن دعوى الزنا هي ملك للزوج دون النيابة العمومية وترتب على ذلك تخويله حق مباشرة الدعوى L’ exercice de l’ action دون النيابة العمومية إذ أن هذا حق لم يعطه القانون إلا لأعضاء النيابة العمومية ولا يمكن منحه لغيرهم إلا بناءً على نص صريح وهذا النص لا وجود له.
إذن فما هو التكييف القانوني لحق الزوج في دعوى الزنا ؟
أفلت بعض المحاكم من هذا المأزق بقولهم إن جريمة الزنا هي جريمة خصوصية وإن الدعوى العمومية في هذه الحالة هي من حقوق الزوج المجني عليه وحده إذ هي ملكه (محكمة الموسكي الجزئية 14 أكتوبر سنة 1901)، وهذا خطأ محقق إذ أن المشرع يوقع العقاب على المجرم للصالح العام لا للصالح الخاص.
الصحيح أن جريمة الزنا هي جريمة عمومية ضد الهيئة الاجتماعية فهي ضد الصالح العام ولكنها أيضًا مثل أي جريمة أخرى ضد الصالح الخاص وهو المجني عليه (الزوج)، وفي كل الجرائم نرى المشرع يقدم الصالح العام على الصالح الخاص، إلا في جريمة الزنا فنراه قد أخطأ ميزة خاصة وهي تقديمه الصالح الخاص فيها على الصالح العام، فالصالح العام فيها موجود غير أنه متأخر نظره عن الصالح الخاص، ولذلك فبمجرد ما ينعدم الصالح الخاص هذا يظهر الصالح العام ويظهر المشرع لحمايته.
هذا يؤيده مفهوم المادة (236) عقوبات أهلي حيث تقول (للزوج أن يوقف تنفيذ الحكم الذي يصدر على زوجته وذلك بأن يرضى معاشرتها له كما كانت)، رأى المشرع بأنه لم يبقَ لحماية الصالح الخاص بعد الحكم النهائي إلا أن تعود الزوجة إلى زوجها إذا أراد هذا الأخير معاشرتها كما كانت، فنص على ذلك، ولكنه رأى أيضًا أن الصالح الخاص قد انتهى وانعدم بهذه المأساة وقد تلطخت الأسرة بالعار إلى الأبد، بالعار الذي ثبت بحكم نهائي فهو لا يمحى أبدًا، فظهر الصالح العام وتقدم المشرع لحمايته فهو يعاقب الشريك بعد الحكم النهائي في الدعوى حتى ولو عفا الزوج عن زوجته (انظر لجرافاند جزء أول صـ 45 ومانجان عدد 137 وفستان هيلي عدد 769 وروبر نبذة 475 وفللي صـ 185 وجارسون مادة (388) نبذة 26 وجارو الجزء الخامس نبذة 1889 واستئناف طنطا بالمجموعة الرسمية سنة 12 صـ 38 ومحكمة النقض الفرنسية الصادر في 19 إبريل سنة 1854 بالمجموعة الجنائية عدد 131)، قبل الحكم النهائي في الدعوى غض المشرع الطرف عن تعقب الشريك حفظًا للصالح الخاص وهو المحافظة على نظام الزوجية وحفظ الأسر من الانحلال، مع أن في تعقبه وتعقب كل مجرم مثله حماية للصالح العام، ولكن المشرع بعد أن انعدم الصالح الخاص بصدور الحكم النهائي نشط فقبض على الشريك بيده الحديدية وعاقبه، أليس هذا في سبيل الصالح العام.
فالزوج هو مبلغ ككل مبلغ آخر ويتضح هذا إذا رجعنا إلى الأصل الفرنسي للمادة (235) حيث تقول:
L’adultére de la femme ne pourra être dénoncée que par le mari.
وترجمته: زنا الزوجة لا يجوز تبليغه إلا من الزوج، وهذا اللفظ منقول عن المادة (236) عقوبات من القانون الفرنسي وعنها يقول المسيو مرلان ما نقول به نحن الآن (انظر شوفو وهيلي الجزء الرابع صفحة 351 فقرة 1612).
ثبت هذا وثبت أن دعوى الزنا تملكها النيابة العمومية ككل الدعاوى العمومية، وأن المشرع أعطى لها ميزة خاصة تجعل الصالح الخاص فيها مقدمًا على الصالح العام، والنيابة العمومية لا تملك دعوى الزنا إلا من وقت تبليغ الزوج، ولكن النيابة العمومية التي تحمي الصالح العام بملكيتها هذه هي خاضعة لإرادة الزوج الذي يمثل فيه الصالح الخاص فللزوج أن يتنازل عن الدعوى في أي وقت وفي أي حالة كانت عليها الدعوى إلى أن يصبح الحكم فيها نهائيًا حيث ينتهي بذلك صالحه (أي الصالح الخاص)، وتظهر حماية الصالح العام كما قدمنا.
فمن كل ما تقدم يتضح أن الميزة الخاصة التي ميز بها المشرع جريمة الزنا عن سائر الجرائم لا تكون موجودة إلا إذا كانت صفة الزوجية قائمة، لأن الصالح الخاص الذي تكلمنا عنه هو المحافظة على نظام هذه الزوجية، ولا يمكن المحافظة على شيء إلا إذا كان موجودًا.
فإذا لم توجد ثمة زوجية تصبح هذه الجريمة ككل الجرائم العادية لا ميزة لها، وتكون هذه الجريمة هي وقاع أنثى بالغة وبرضاها والمشرع لا يعاقب على مثل هذه الجريمة لأنها ليست جريمة في نظره.
فلكي تكون هناك جريمة يعاقب عليها قانونًا يجب أن يبلغ الزوج حال قيام الزوجية عن زنا زوجته، فلا جريمة إذا بلغ وهو غير زوج، هذا هو رأينا في الموضوع ونراه بحق مخالفًا لتقرير المحكمة الجزئية الذي أشرنا إليه آنفًا.
اعتراض على رأينا
ربما يعترض علينا بأن لهذا نتيجة غير مقبولة في مصر (على الأقل بين المسلمين) حيث إن الطلاق بيد الرجل (الزوج) وله أن يوقعه من تلقاء نفسه ومنفردًا به، فلو سلمنا بسقوط حق التبليغ بالطلاق لكان في مقدوره الزوج الذي يرتكب جريمة الزنا المنصوص عليها بالمادة (239) عقوبات أهلي أن يتخلص من المحاكمة بتطليق زوجته فينزع بذلك صفتها في التبليغ ضده، وإنا نذكر نص المادة (239) المذكورة ليكون هذا الاعتراض ماثلاً بوضوح في مخيلة القراء فالمادة تقول (كل زوج زنى غير مرة في منزل الزوجية بامرأة تكون قد أعدها لذلك وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة المذكورة يجازى…).
يدل ظاهر هذا الاعتراض على أنه وجيه، ولو كانت إحدى المحكمتين المشار إليهما آنفًا ذكرته، لكان حكمها مقبولاً ولو في ظاهره.
أقول إن هذا الاعتراض وجيه في ظاهره فقط وسأبين أنه لا ينهض اعتراضًا على رأينا بما إنما هو يؤيده في حكمته التي بني عليها، ولكي يكون ذلك واضحًا نصور تصويرًا كيف تطبق المادة (239) هذه:
زوج زنا غير مرة في منزل الزوجية بامرأة أعدها لذلك - زوجته اطلعت على هذا الأمر المنكر، فافرضوا أن الزوج لم يعلم أن زوجته اطلعت على أمره ولذلك لم يقدم على طلاقها حتى يسلبها حق التبليغ ضده في حين أن الزوجة ذهبت فبلغت، ففي هذه الحال تكون قد بلغت والزوجة قائمة فلا يمكن أن يتخلص الزوج من المادة (239ع).
على أننا نترك هذه الحالة النادرة الحصول ونفرض أن الزوج يعلم أن زوجته اطلعت على أمره، يعلم ذلك قبل أن تبلغ الزوجة فكيف تطبق المادة (239ع) ؟
نقول كيف يكون موقف الزوجين: الزوجة لم تبلغ وبتبليغها فقط ترفع الدعوى على الزوج، والزوج بيده أن يطلق، وإذا طلق لا يمكن رفع الدعوى عليه لأن قيام الزوجية شرط لصحة التبليغ.
المشرع الذي لا يريد أن تدنس الناس بحمأة الرذائل، لا يريد مطلقًا أن يرغم زوجة على معاشرة زوجها الزاني، فهو قد هيأ للزوج الزاني أمرين وخيره بين أحدهما:
الأمر الأول: أن يطلق زوجته التي هي غير راضية بمعاشرته والتي ترى في هذا الطلاق غاية مناها، إذ به تبعد عن هذا الزوج الزاني الخائن وقد قال الله تعالى (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
الأمر الثاني: أنه في حالة ما إذا لم يطلق الزوج زوجته (وتكون بهذا أمنية الزوجة لم تتحقق، أمنيتها التي هي الابتعاد عنه) أعطى القانون لهذه الزوجة التعسة الحق في أن تبلغ عن زوجها الخائن وفي هذه الحالة تطبق المادة (239) المذكورة.
فالزوج الزاني أما أن يطلق أو يعاقب بالمادة (239) أما أن يريح زوجته العاثرة الجد بفصلها عنه أو يتعب هو ويعذب بتوقيع العقوبة، هذا ما يريده المشرع بالنص على المادة (239) وغير هذا لا يتفق أبدًا مع مكارم الأخلاق ولا مع حماية الناس من ضرر الأدناس.
فهل يقال بعد هذا إن الأخذ بالمبدأ القائل بسقوط حق التبليغ إذا حصل التبليغ والزوجية غير قائمة، يشل المادة (239) !
قال الله تعالى في فرقانه المبين (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فكيف توجد هذه المودة والرحمة بين زوج خائن زير [(1)] نساء وبين زوجة ترغم إرغامًا على معاشرته لأنه لا يريد لها الانفصال عنه.
يخشى القانون هذه النتيجة الموبقة ويخشى أن تقفو الزوجة إثر زوجها الزاني في الخنا، لأن الرجل أقوى من المرأة فهي قمين بأن تؤثر فيها خلائقه وأطواره، لذلك نراه لا يسمح للزوجة أن تعفو عن زوجها الذي حكم عليه، برضائها بمعاشرته فيقبله القانون بناءً على ذلك من تنفيذ الحكم فيه، كما نص في الفقرة الأخيرة من المادة (236) عقوبات أهلي على أن للزوج أن يعفو عن زوجته بعد الحكم عليها فيقيلها عفوه من التنفيذ عليها، هذا برضائه معاشرتها، ذلك لأنه في مقدور الرجل أن يقوم اعوجاج زوجته، والرجال قوامون على النساء أما الزوجة فلم يخول لها القانون هذا الحق بسكوته عن النص عليه، لأنها ضعيفة لا تستطيع أن تكسر شكيمة الرجل المعوج الفاسق.
فلذلك كله لم نزل نقرر أن قيام الزوجية شرط واجب تحققه لصحة تبليغ الزوج عن زنا زوجته وفوق كل ذي علم عليم.
زكي أحمد نصر
المحامي ببني سويف
بحث في تفسير المادة (355) عقوبات
مجلة المحاماة – العدد السابع
السنة الثالثة والثلاثون سنة 1953
بحث في تفسير المادة (355) عقوبات لحضرة الأستاذ عبد الباقي دكروري القاضي بمحكمة القاهرة الابتدائية
ثار البحث أخيرًا بمناسبة ارتكاب أحد الأمراء قتل خمسين رأسًا من الغنم رميًا بالرصاص – بدون مقتضً - وذلك حتى لا تتسرب هذه السلالات الممتازة من الأغنام إلى الدوائر الزراعية التي أرادت الانتفاع بها في تحسين النسل.
وسواء صح نسبة هذا الجرم إلى سمو الأمير أم لم يصح فإننا لا نعني في بحثنا هذا إلا تفسير ما ظن في النص المذكور من غموض وإبهام.
ولتوضيح ذلك نذكر أن المادة (355 ع)
نصت على ما يأتي:
(يعاقب بالحبس مع الشغل كل من قتل عمدًا بدون مقتضً حيوانات من دواب الركوب أو الجر أو الحمل أو من أي نوع من أنواع المواشي أو أضر به ضررًا كبيرًا إلخ).
ومقضى هذا النص أن الأغنام لا شك داخلة تحت (أي نوع من أنواع المواشي) - ومما لا شك فيه كذلك أن هذه الأغنام أعدت للتناسل أو للذبح وبالطريقة الشرعية بقصد الأكل - وهذا هو ما قصد إليه المشرع في تعبيره بدون مقتضً - حتى يخرج من ذلك القتل العمد – والرأي عندي أن هذه المادة تتناول بالعقاب المالك وغير المالك – ذلك لأن المادة (354 ع) السابقة عليها نصت على عقاب كل من كسر أو خرب لغيره شيئًا من آلات الزراعة أو زرائب المواشي إلخ – ومفهوم هذا أن المادة (354 ع) تعاقب على تخريب ملك الغير - بينما نص المادة (355 ع) خلا من كلمة (الغير) - وقد يرد على هذا الرأي برأي أستاذنا جندي عبد الملك المستشار السابق بالنقض أنه فسر م (313 ع) المقابلة للمادة (358 ع) الحالية التي تنص على ما يأتي: يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة شهور إلخ - كل من أتلف كل أو بعض محيط متخذ من أشجار خضراء أو يابسة.
إذ قال أستاذنا الفقيه الكبير شرحًا لهذا النص إنه ولو لم تنص المادة المذكورة على شرط ملكية الغير للمحيط المتلف، ولكن من المقرر أنه لا وجود للجريمة المنصوص عليها في هذه المادة متى كان للفاعل حق التصرف في المحيط الذي أتلفه - ذلك لأن المادة (358 ع) وردت في الكتاب الثالث تحت عنوان (في الجنايات والجنح التي تحصل لآحاد الناس) مما يفيد أن الغرض منها المعاقبة على الاعتداء على محيطات الغير.
ومع احترامنا لرأي أستاذنا الجليل - أرى أن المادة (355 ع) تعاقب على قتل الحيوان كافة - إذا وقع القتل بدون مقتضً – سواء كان الحيوان مملوكًا للفاعل أم لغيره - بدليل أن المشرع لم يذكر في المادة (355 ع) النص على ملكية الحيوان للغير كما نص في المادة (354 ع) الخاصة بتخريب آلات الزراعة.
ولا شك أن المشرع أغفل النص على ذلك عمدًا، ولم يكن ساهيًا عن تقرير ذلك - حتى يمكن أن يتناول النص بالعقاب مثل الحالة التي أشرنا إليها في صدر هذا البحث.
هذا هو مبلغ ما وصل إليه جهدي المقل من تفسير للمادة المذكورة فإن أصبت فبها ونعمة وإن أخطأت فالرأي لحضرات الأساتذة المشتغلين بهذه المادة تدريسًا ولعلهم يدلون برأي يضع الحق في نصابه.
السنة الثالثة والثلاثون سنة 1953
بحث في تفسير المادة (355) عقوبات لحضرة الأستاذ عبد الباقي دكروري القاضي بمحكمة القاهرة الابتدائية
ثار البحث أخيرًا بمناسبة ارتكاب أحد الأمراء قتل خمسين رأسًا من الغنم رميًا بالرصاص – بدون مقتضً - وذلك حتى لا تتسرب هذه السلالات الممتازة من الأغنام إلى الدوائر الزراعية التي أرادت الانتفاع بها في تحسين النسل.
وسواء صح نسبة هذا الجرم إلى سمو الأمير أم لم يصح فإننا لا نعني في بحثنا هذا إلا تفسير ما ظن في النص المذكور من غموض وإبهام.
ولتوضيح ذلك نذكر أن المادة (355 ع)
نصت على ما يأتي:
(يعاقب بالحبس مع الشغل كل من قتل عمدًا بدون مقتضً حيوانات من دواب الركوب أو الجر أو الحمل أو من أي نوع من أنواع المواشي أو أضر به ضررًا كبيرًا إلخ).
ومقضى هذا النص أن الأغنام لا شك داخلة تحت (أي نوع من أنواع المواشي) - ومما لا شك فيه كذلك أن هذه الأغنام أعدت للتناسل أو للذبح وبالطريقة الشرعية بقصد الأكل - وهذا هو ما قصد إليه المشرع في تعبيره بدون مقتضً - حتى يخرج من ذلك القتل العمد – والرأي عندي أن هذه المادة تتناول بالعقاب المالك وغير المالك – ذلك لأن المادة (354 ع) السابقة عليها نصت على عقاب كل من كسر أو خرب لغيره شيئًا من آلات الزراعة أو زرائب المواشي إلخ – ومفهوم هذا أن المادة (354 ع) تعاقب على تخريب ملك الغير - بينما نص المادة (355 ع) خلا من كلمة (الغير) - وقد يرد على هذا الرأي برأي أستاذنا جندي عبد الملك المستشار السابق بالنقض أنه فسر م (313 ع) المقابلة للمادة (358 ع) الحالية التي تنص على ما يأتي: يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة شهور إلخ - كل من أتلف كل أو بعض محيط متخذ من أشجار خضراء أو يابسة.
إذ قال أستاذنا الفقيه الكبير شرحًا لهذا النص إنه ولو لم تنص المادة المذكورة على شرط ملكية الغير للمحيط المتلف، ولكن من المقرر أنه لا وجود للجريمة المنصوص عليها في هذه المادة متى كان للفاعل حق التصرف في المحيط الذي أتلفه - ذلك لأن المادة (358 ع) وردت في الكتاب الثالث تحت عنوان (في الجنايات والجنح التي تحصل لآحاد الناس) مما يفيد أن الغرض منها المعاقبة على الاعتداء على محيطات الغير.
ومع احترامنا لرأي أستاذنا الجليل - أرى أن المادة (355 ع) تعاقب على قتل الحيوان كافة - إذا وقع القتل بدون مقتضً – سواء كان الحيوان مملوكًا للفاعل أم لغيره - بدليل أن المشرع لم يذكر في المادة (355 ع) النص على ملكية الحيوان للغير كما نص في المادة (354 ع) الخاصة بتخريب آلات الزراعة.
ولا شك أن المشرع أغفل النص على ذلك عمدًا، ولم يكن ساهيًا عن تقرير ذلك - حتى يمكن أن يتناول النص بالعقاب مثل الحالة التي أشرنا إليها في صدر هذا البحث.
هذا هو مبلغ ما وصل إليه جهدي المقل من تفسير للمادة المذكورة فإن أصبت فبها ونعمة وإن أخطأت فالرأي لحضرات الأساتذة المشتغلين بهذه المادة تدريسًا ولعلهم يدلون برأي يضع الحق في نصابه.
التحقيق المفتوح في قانون الإجراءات الجنائية الجديد
مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
التحقيق المفتوح
في قانون الإجراءات الجنائية الجديد
للسيد الأستاذ عادل يونس المحامي العام لدى محكمة النقض
تنص المادة (91) من قانون الإجراءات الجنائية في فقرتها الأولى على أن تفتيش المنازل عمل من أعمال التحقيق، ولا يجوز الالتجاء إليه إلا في تحقيق مفتوح، وبناءً على تهمة موجهة إلى شخص مقيم في المنزل المراد تفتيشه بارتكاب جناية أو جنحة أو باشتراكه في ارتكابها، أو إذا وجدت قرائن على أنه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة.
وتطبيقًا لهذا النص قضت محكمة النقض أخيرًا في حكمها الصادر بتاريخ 4 يونيه سنة 1953 في الطعن رقم (1265) سنة 22 قضائية بأن قضاءها مستقر على أن (تفتيش المنازل إجراء من إجراءات التحقيق لا تأمر به سلطة من سلطاته إلا لمناسبة جريمة ترى أنها وقعت وصحت نسبتها إلى شخص بعينه وأن هناك من الدلائل ما يكفي لاقتحام مسكنه الذي كفل الدستور حرمته وحرم القانون على رجال السلطة دخوله إلا في أحوال خاصة وأن تقدير كفاية تلك الدلائل وإن كان من شؤون سلطة التحقيق إلا أنه خاضع لرقابة محكمة الموضوع بحيث إذا رأت أنه لم يكن هناك ما يبرره كان لها أن لا تأخذ بالدليل المستمد منه باعتبار أنه إذا فقد المبرر لإجرائه أصبح عملاً يحرمه القانون فلا يسوغ أن يؤخذ منه، وقد جاء قانون الإجراءات الجنائية يؤكد هذه المبادئ بما نص عليه في المادة (91) منه من أن تفتيش المنازل عمل من أعمال التحقيق، ولا يجوز الالتجاء إليه إلا في تحقيق مفتوح، وبناءً على تهمة موجهة إلى شخص مقيم في المنزل المراد تفتيشه بارتكاب جناية أو جنحة أو باشتراكه في ارتكابها أو إذا وجدت قرائن على أنه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة - وإذا كان الشارع قد نص على أن يكون هناك تحقيق مفتوح فإنما قصد بذلك التحقيق الذي تتولاه سلطة التحقيق بناءً على ما يصل إلى علمها من الإبلاغ عن جناية أو جنحة ولم يشترط الشارع للتحقيق المفتوح الذي يسوغ التفتيش أن يكون قد قطع مرحلة أو استظهر قدرًا معينًا من أدلة الإثبات بل ترك ذلك لتقدير سلطة التحقيق لكي لا يكون من وراء غل يدها احتمال فوات الغرض منه مما تتأثر به مصلحة الجماعة التي تسمو على مصلحة الفرد [(1)]).
يؤخذ من هذا الحكم أن قانون الإجراءات الجنائية قنن المبادئ التي استقرت عليها أحكام محكمة النقض قبل إصداره، وأن المشرع لم يتعلق مراده بالخروج على تلك المبادئ التي استقر عليها الفقه والقضاء في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى.
غير أن هذا الحكم لم يواجه ما إذا كانت النيابة العامة ملزمة بفتح محضر قبل إصدار الإذن أو لا، وهل تغنيها تحريات الضبطية القضائية التي ترى أنها جدية عن إجراء تحقيق بمعرفتها أو لا.
وللوصول إلى الإجابة على ذلك يتعين بيان الوضع قبل إصدار قانون الإجراءات الجنائية وبعد إصداره، وتقصي المصادر التشريعية للقانون الحالي وتطورها، وقبل أن نعرض لهذا كله يقتضينا البحث بيان حدود حق سلطة التحقيق في الإذن بتفتيش منازل الأشخاص وتأصيل هذا الحق قانونًا.
مدى حق سلطات التحقيق في تفتيش الأشخاص والمنازل:
الأصل في تفتيش المساكن والأشخاص الحظر، فقد كفلت الدساتير الحرية الشخصية وحرمة المنازل [(2)] كما رددت القوانين المختلفة هذا الحظر إذ نصت المادة (128) عقوبات مصري المقابلة للمادة (184) عقوبات فرنسي على حظر دخول الموظفين أو المستخدمين العموميين أو أحد الأشخاص المكلفين بخدمة عمومية - اعتمادًا على وظيفتهم - منزل آحاد الناس بغير رضائه فيما عدا الأحوال المقررة في القانون، كما تضمنت المادة (370) عقوبات مصري هذا الحظر بالنسبة إلى أفراد الناس.
غير أنه إذا تعارضت حرمة المساكن وكفالة الحرية الشخصية مع حق المجتمع في تحقيق الجرائم والبحث عن مرتكبيها، رجحت كفة المجتمع وأبيحت هذه الحرمات على أن يكون ذلك في حدود هذا النطاق حتى لا يجرى إطلاق هذا الحق إلى سوء استعماله والإسراف فيه.
فالأساس القانوني لتبرير حق الهيئة الاجتماعية، ممثلة في سلطات التحقيق النائبة عنها، هو تمكينها من الدفاع عن نفسها ضد الجناة [(3)].
والأصل في التفتيش ألا يملكه إلا رجال التحقيق، ولا يجوز أن يتولاه رجال الضبطية القضائية إلا في أحوال معينة جاءت على سبيل الحصر في القانون، أو إذا أذنت لهم بذلك السلطة القضائية، فهو إجراء من إجراءات التحقيق الابتدائي الغرض منه جمع الأدلة تأييدًا لجريمة وقعت واتهام قائم ضد شخص ما بالقدر الذي تتطلبه مصلحة التحقيق ولا يقصد منه كشف الجرائم.
الوضع في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى:
تناولت المواد (30)، (68)، (69)، (70) من قانون تحقيق الجنايات الصادر بالقانون رقم (4) لسنة 1904 أحكام تفتيش منازل المتهمين وغيرهم في مواد الجنايات والجنح، كما تناولتها المواد (53)، (54)، (75) من قانون تحقيق الجنايات المختلط الملغى الصادر بالقانون رقم (57) لسنة 1937.
وعلى الرغم من أن هذه النصوص لم تفصح عن أن التفتيش إجراء من إجراءات التحقيق وأنه لا يصح ما لم تكن هناك جريمة معينة قد وقعت، فإن الفقه والقضاء قد استقرا على أن التفتيش إجراء قضائي وليس عملاً إداريًا من أعمال البوليس الغرض منه اكتشاف الجرائم ومرتكبيها، وأن تقدير جدية التحريات التي تسبق الإذن بالتفتيش متروك للنيابة العامة تحت إشراف المحاكم، وأن إصدار الإذن لا يقتضي إجراء تحقيق سابق له [(4)].
وبديهي أنه للقول بوقوع الجريمة قبل صدور الإذن لا يتحتم أن يكون وقوعها هذا ثابتًا بطريق مشاهدة رجل الضبط القضائي لها حال ارتكابها، لأن هذه المشاهدة إنما تنشئ حالة تلبس تخوله حق التفتيش بدون إذن من سلطة التحقيق.
مشروع القانون المقدم من الحكومة إلى البرلمان:
عندما رأت الحكومة تعديل قانون تحقيق الجنايات تقدمت بمشروع قانون إلى البرلمان تناولت فيه التفتيش في المواد (122)، (124)، (126) ولم تتكلم هذه المواد عن ضرورة إجراء تحقيق مفتوح، وقد أدخلت لجنة الإجراءات الجنائية بمجلس الشيوخ هذا التعبير وأشارت إليه في تقريرها المؤرخ 24 يونيو سنة 1948 وذلك (نقلاً عن المادة 87 من القانون الفرنسي المضافة بقانون 25 مارس سنة 1935 [(5)] لتقرير أن تفتيش المنازل وضبط الأشياء هو عمل من أعمال التحقيق ولا يجوز الالتجاء إليه إلا في تحقيق مفتوح وبناءً على تهمة موجهة إلى شخص معين وليس وسيلة من الوسائل التي يجوز لمأموري الضبطية القضائية الالتجاء إليها لاستكشاف الجرائم وضبط مرتكبيها).
وجاء في تقرير لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب المؤرخ 20 فبراير سنة 1950 ما يلي:
(فسرت المادة (94) (التي أضافتها لجنة الإجراءات الجنائية بمجلس الشيوخ)… … … … بأن المقصود منها ألا يباشر المحقق هذا الإجراء إلا إذا سبقه اتهام صريح تؤيده أدلة مقبولة أو قريبة الاحتمال فوافق مندوب وزارة العدل على هذا التعبير).
كما جاء في تقريرها الثاني المؤرخ 2 مايو سنة 1950 ما يلي:
(اقترح أحد النواب تعديل هذه المادة باستبدال عبارة (تحقيق بدأ فيه) بعبارة (تحقيق مفتوح) الواردة بها ولم ترَ اللجنة فرقًا بين عبارتي (تحقيق بدأ فيه) و(تحقيق مفتوح).
ويبين من مطالعة المادة (91) إجراءات جنائية ومقارنتها بالمادة (87) تحقيق جنايات فرنسي أن المشرع لم ينقل جميع أحكام المادة الفرنسية وأنه قد أسقط منها بعض فقراتها، غير أنه يبدو أنه لم يقصد الخروج عن المبادئ الواردة بها لخضوعها للقواعد المقررة قانونًا [(6)].
وتنص الفقرة الأولى من المادة (87) معدلة فرنسي على ما يأتي:
(يعد دخول المنازل وتفتيشها من أعمال التحقيق التي لا يجوز مباشرتها ما لم يكن هناك تحقيق في حالة فتح l’instruction étant ouverte وكان الشخص المراد دخول منزله فاعلاً في جريمة أو شريكًا فيها أو على الأقل يظن أنه يحوز أشياء تتعلق بالجريمة).
الوضع بعد صدور قانون الإجراءات الجنائية:
مقطع النزاع هو الوقوف على ما إذا كان المشرع في قانون الإجراءات الجنائية قد قصد تغيير الأوضاع المستقرة فقهًا وقضاءً في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى أو أنه لم يرم إلى شيء من ذلك.
وللوصول إلى ذلك يتعين تقصي التطور التشريعي للقانون - الفرنسي مصدر تشريعنا - في هذا الصدد.
جرى نص المادة (87) تحقيق جنايات فرنسي وقت إصدارها في سنة 1808 على ما يأتي:
(ينتقل قاضي التحقيق إذا طلب إليه ذلك، وله أن ينتقل من تلقاء نفسه، إلى منزل المتهم لإجراء تفتيش عن الأوراق والأشياء وعلى العموم جميع الأشياء التي يرى أنها تفيد في إظهار الحقيقة).
وعلى ضوء هذا النص جرى الشراح القدامى أمثال فستان هيلي ومانجان ولبواتفان وجارو وغيرهم [(7)] على التفسير الذي أسلفنا بيانه دون حاجة إلى النص، على أن التفتيش من إجراءات التحقيق ودون استلزام فتح تحقيق.
وجاء تعديل 7 فبراير سنة 1933 بعبارة (التحقيق المفتوح) وقبل أن نمضي إلى تتبع هذا التعديل نقول إن المشرع الفرنسي قصد التحقيق بمعناه القضائي instruction، وإن كان بعض الشراح والمعلقين قد أورد كلمة information شرحًا لهذه الكلمة [(8)] فإن المقصود بهذا اللفظ أنه مرادف لكلمة instruction وكلمة information في علم القانون لها معنيان: فهي تشمل بمعناها الواسع جميع أعمال التحقيق الابتدائي، وفي معناها الضيق تعني محضر سماع الشهود فقط أخذًا من نص المادة (76) تحقيق جنايات فرنسي، والمعنى الواسع لهذه الكلمة هو المعمول به حاليًا [(9)].
أما معنى (جمع الاستدلالات) فهو (information sommaire) [(10)].
وقد بدأت فكرة تعديل المادة (87) فرنسي في سنة 1878 حين شكلت لجنة غير برلمانية لتعديل قانون التحقيق الجنائي الفرنسي، ووافق مجلس الشيوخ على مشروع التعديل المذكور في 5/ 8/ 1882 غير أن مجلس النواب لم يفحصه، فأهمل إلى أن تقدم رئيس الوزراء إذ ذاك مسيو كليمنصو في 18/ 1/ 1907 بالاشتراك مع وزير العدل المسيو جيوديني بمشروع قانون خاص بضمانات الحرية الفردية، يرمي إلى إلغاء بعض مواد القانون وتعديل البعض الآخر، وقد وافق عليه مجلس الشيوخ ولكنه لم يعرض على مجلس النواب حتى نشبت الحرب العالمية الأولى، وفي 13/ 11/ 1918 تقدم النائب بول مونيس بمشروع القانون المذكور وبعد أن تمت مناقشته في مجلس البرلمان هيأ له الظهور أخيرًا بقانون 7/ 2/ 1933.
ويتضح من ذلك أن أول تعديل للمادة (87) كان بقانون 7/ 2/ 1933 لا بقانون 25/ 3/ 1935 [(11)].
وسبب الحرص على وضع تعديل سنة 1933 - كما يبين ذلك من التعليقات على هذا القانون [(12)] - هو أنه قبل إلغاء المادة (10) من قانون التحقيق الجنائي الفرنسي، كان دخول المنازل الذي يجرى بمعرفة مديري البوليس ومرؤوسيهم له صفة وقائية بقصد البحث عن الجرائم واكتشافها، فحرص واضعو القانون الجديد على النص على اعتبار التفتيش من أعمال التحقيق، كما أن إطلاق نص مادة (87) تحقيق جنائي فرنسي آثار انتقادات عديدة نادت بالحد من هذا الحق.
وكان النص الذي وافق عليه مجلس الشيوخ في سنة 1882 يرمي إلى اشتراط صدور أمر قضائي mandat لإمكان إجراء التفتيش، وفي ذلك ما فيه من تعقيد للإجراءات وتفويت للغرض من التفتيش إذ من المعلوم أن الأوامر القضائية يلزم فيها تعيين الشخص الموجهة إليه وإعلانه بها بمعرفة قلم المحضرين أو أحد رجال السلطة العامة.
أما النص الوارد في مشروع سنة 1907 المقدم من وزارة كليمنصو فكان يرمي إلى اشتراط استجواب المتهم لأول مرة قبل تفتيش منزله.
وواضح أن هذه النصوص معيبة لأنها تستبعد حالة التحقيق ضد مجهول، وقد انتقد ذلك مسيو مونيس مقرر القانون ونادى بأن اشتراط الاستجواب يبدو غير مقبول، ففي بعض القضايا مثل الجاسوسية وتزييف النقود حيث يستلزم الأمر العمل بمنتهى السرعة، فإن أي تنبيه يكفي لدفع المتهم وشركائه وأقاربه وأصدقائه إلى إخفاء آثار الجريمة.
وكانت لجنة مجلس الشيوخ في مشروعها الأول قد اكتفت بثبوت وقوع جناية أو جنحة لإمكان إعطاء حق التفتيش للقاضي المحقق، ولكن هذه الصياغة انتقدها مسيو. ريبو ونادى في جلسة 7/ 2/ 1909 بأنها ضيقة جدًا وتؤدي إلى عدم الاستفادة من هذا الإجراء لاكتشاف جريمة مفترضة présumé. فرد عليه مسيو مونيس في نفس الجلسة قائلاً:
(إذا كنا نعطي لنائب الجمهورية (رئيس النيابة) حق العمل فورًا في المنزل الذي تقع فيه الجريمة والبحث عن جميع المستندات، فإننا نسلم بأن لقاضي التحقيق أن يقوم بنفس العمل، فبالنسبة إلى نائب الجمهورية فإن الأمر ليس فيه صعوبة لأن ذلك لا يكون إلا في حالة التلبس، أما بالنسبة إلى قاضي التحقيق فنحن نطلب كضمان وحيد لإمكان إصدار أمر التفتيش بمعرفته، لإصدار أمر قضائي mandat لأن ذلك يضيق من سلطانه، بل كل ما نطلبه هو أن يكون هناك تحقيق مفتوح [(13)]، فكان هذا سبب دخول تعبير (التحقيق المفتوح) في النص.
هذه هي الدعائم التي قام عليها التعديل الفرنسي - مصدر تشريعنا الحالي - ويبين منها بجلاء أنه لا يشترط لاستصدار أمر التفتيش سوى مجرد وقوع جناية أو جنحة ووجود اتهام لشخص ما على أنه فاعل أصلي أو شريك في ارتكابها أو على الأقل وجود قرائن تدل على أن المطلوب تفتيش منزله يحوز أشياء تتعلق بالجريمة وأن يكون هناك تحقيق في حالة فتح instruction étant ouverte.
ولكن ما هو المقصود بهذه العبارة ؟ سنتناول التعريف بها طبقًا للنظام الفرنسي الذي يقوم فيه قاضي التحقيق بالاختصاصات التي تقوم بها النيابة العامة في مصر عملاً بالمرسوم بقانون رقم (353) لسنة 1952.
من المعلوم أن التحقيق الابتدائي هو إجراء يتخذ بمعرفة السلطة القضائية المختصة بقصد البحث عن الأشخاص الذين يظن أنهم قد ارتكبوا جريمة وقعت، وجمع الأدلة وتقدير مدى كفايتها لمحاكمة فاعليها [(14)].
فأول واجب للمحقق قبل أن يبدأ التحقيق هو التثبت من وقوع الجريمة ولا تتوقف صحة
الإجراءات على ضرورة وجود محضر للتحقق من جسم الجريمة بل يكفي أن يثبت لدى القاضي أن الجريمة وقعت [(15)].
وقد حكم في فرنسا بأن مجرد أوامر قاضي التحقيق ordonnances بإجراء التفتيش تعد عملاً من أعمال التحقيق [(16)].
أما محاضر جمع الاستدلالات التي يقوم بها رجال الضبطية القضائية فليست لها قيمة أكثر من تهيئة الوسيلة للنيابة العامة لتقرير ما إذا كانت الوقائع التي وصل إليها خبرها، بناءً على هذه المحاضر، تبرر مباشرة إجراءات الاتهام برفع الدعوى العمومية مباشرةً أمام القضاء (في مواد الجنح) أو بإخطار قاضي التحقيق المختص وحده بإجراء التحقيق [(17)].
فالنيابة العامة يصل إليها خبر وقوع الجريمة عن طريق محاضر البوليس أو عن طريق بلاغ من الغير أو عن طريق شكوى المجني عليه نفسه، والرأي أن لها حرية تقدير ملاءمة اتخاذ الإجراءات الجنائية أو عدم اتخاذها [(18)].
كيفية اتصال قاضي التحقيق في فرنسا بالواقعة:
يتصل قاضي التحقيق بالقضية ويعتبر التحقيق مفتوحًا في فرنسا في الأحوال الآتية:
أولاً: تقديم طلب فتح تحقيق réquisitoire introductif ويحدث هذا عملاً بعد أن يطلع نائب الجمهورية (رئيس النيابة) على المحضر الذي أجراه البوليس ويرى أن هناك محلاً لفتح تحقيق فيتقدم بطلبه كتابةً إلى قاضي التحقيق بوساطة ورقه يطلق عليها هذه التسمية (مادة 47 تحقيق جنائي فرنسي)، وسمي هذا الإجراء بطلب افتتاح التحقيق لأنه أول إجراء في الدعوى وما سبقه لم يكن سوى تمهيد لها [(19)].
وهذا الإجراء واجب في الجنايات وجوازي في الجنح، ولا يشترط فيه شكل خاص (فيما عدا جرائم الصحف) ويجوز أن يتم على نموذج مطبوع ويكفي الإشارة فيه إلى نوع الجريمة ونص القانون والشخص المطلوب فتح التحقيق ضده والاكتفاء بالإشارة إلى المستندات المرافقة للطلب دون التنويه بتفصيلاتها، وبمجرد وصول هذا الطلب إلى قاضي التحقيق يصبح التحقيق مفتوحًا، كما أنه يمكن توجيه طلب فتح التحقيق ضد مجهول وبذلك يفتح التحقيق في جريمة مسندة إلى مجهول [(20)].
ولا يشترط أن يصدر القاضي أمرًا خاصًا كي يصبح التحقيق مفتوحًا بل يعتبر التحقيق كذلك بمجرد اتصال القاضي بالقضية عن طريق طلب النيابة سالف البيان وقد كان القانون الفرنسي القديم يشترط لبدء التحقيق إصدار أمر من الضابط الجنائي le lieutenant criminel بالإذن بالتحقيق permission d’instruction، وكان هذا الإذن تذيل به الشكوى لفتح إجراءات التحقيق، ولكن هذا الإذن زال في ظل القانون الحالي وحلت محله أعمال التحقيق ذاتها [(21)].
ثانيًا: حالة تقديم شكوى مصحوبة بادعاء مدني (مادة 63 فرنسي) فبمجرد تقديم الشكوى المصحوبة بالادعاء المدني يصبح القاضي مختصًا بالتحقيق ويجب عليه التحقيق طالما أن الادعاء مقبول، فإذا تلقى قاضي التحقيق شكوى دون أن تكون مصحوبة بادعاء بحق مدني، فلا يستطيع فتح التحقيق وعليه في هذه الحالة أن يحيل الشكوى إلى النيابة (نائب الجمهورية أي رئيس النيابة) وهذا الأخير يعتبر أنه تلقاها مباشرةً ويستطيع حفظها أو رفع الدعوى العمومية مباشرةً أو يطلب فتح تحقيق [(22)].
ويتصل قاضي التحقيق أيضًا بالواقعة في حالات أخرى نص عليها القانون كإحالة قضية إليه من غرفة الاتهام أو من محكمة الجنايات لإجراء تحقيقات هي في الواقع تكميلية [(23)].
ففي هذه الأحوال جميعًا يعتبر التحقيق في حالة فتح بمجرد اتصال القاضي بالواقعة المطلوب التحقيق فيها دون حاجة إلى اتخاذ إجراء شكلي كما قدمنا، وله أن يبدأ بإصدار أمر التفتيش ويلتزم بداءةً ذي بدء حينما يتلقى طلب فتح التحقيق أن يبحث فيما إذا كان اتصاله بالواقعة تم صحيحًا أو لا، فعليه أن يتحقق من اختصاصه وأن الواقعة تكون جناية أو جنحة وليست مجرد مخالفة، ومن صحة تحريك الدعوى الجنائية وهل سقط الحق في إقامتها، ثم يبحث علاقة الشخص المطلوب تفتيش منزله بالتهمة [(24)].
وتبدو المسألة غير معقدة إذا كان المتهم معين الاسم في طلب فتح التحقيق المقدم من النيابة العامة أو من المدعي بالحق المدني، فإذا فُتح التحقيق ضد مجهول فإن سلطة التقدير التي للقاضي قد تنقلب إلى تعسف، فهنا يجب على القاضي أن يقارن بين فرض النجاح التي قد تلوح له من إجراء التفتيش وبين المساس بمصالح الأفراد [(25)].
فالتحقيق الابتدائي يبدأ بطلب التحقيق أو بالشكوى المحالة إلى القاضي والتي تتضمن إبلاغ الجريمة إليه، وينتهي بالقرار الذي يصدر بإخراج المتهم من التهمة أو باتهامه فيها [(26)].
وكما يقول جارو [(27)] تعتبر الدعوى العمومية قد تحركت بل إجراء من شأنه اتصال القاضي اتصالاً صحيحًا بالدعوى، ولا شك أن تقديم طلب فتح التحقيق من النيابة العامة للقاضي يترتب عليه تحرك الدعوى العمومية وفتح التحقيق.
فمتى اتصل القاضي بالقضية اتصالاً صحيحًا حق له إجراء التفتيش سواء بنفسه (كما كان يحتم عليه ذلك قانون سنة 1933) أو بوساطة من يندبه من رجال الضبطية القضائية (كما يؤخذ ذلك من تعديل سنة 1935).
وكما قدمنا لا يشترط لبدء التحقيق فتح محضر مثبت لذلك لأن مجرد تقديم الطلب من النيابة العامة أو مجرد الادعاء المدني يجعل التحقيق في حالة فتح.
الوضع التشريعي في مصر:
هذا هو الحكم في فرنسا حيث يقوم قاضي التحقيق بإجراءات التحقيق الابتدائي، أما النيابة فلا تقوم به هناك إلا في حالة التلبس فقط، أما في مصر فحتى قبل صدور المرسوم بقانون رقم (353) لسنة 1952 فإن النيابة العامة تشترك مع قاضي التحقيق في تحقيق الجنح (وقد أصبح لها بمقتضى التعديل الأخير الحق في إجراء التحقيق في جميع الجنايات والجنح عدا جرائم التفالس والجرائم التي تقع بواسطة الصحف).
وتطبيقًا للقواعد التي أسلفنا بيانها، فإن التحقيق يعد مفتوحًا بالنسبة إلى قاضي التحقيق - في حالة قيامه بالتحقيق - بمجرد تقديم طلب فتح التحقيق إليه (مواد 63 و64 معدلة إجراءات جنائية).
ولا يشترط حينئذٍ للقول بقيام التحقيق المفتوح أكثر من إحالة التحقيق إليه مع مراعاة ما سبق ذكره من صحة اتصال القاضي بالواقعة - وفي هذه الحالة إذا رأى القاضي - في حدود سلطته التقديرية - محلاً لإجراء التفتيش كان له أن يجريه بنفسه أو يندب غيره من مأموري الضبطية القضائية للقيام به، دون أن يكون ملزمًا بفتح محضر قبل الانتقال للتفتيش.
وقد جرى القضاء المختلط على أنه لا بطلان إذا أشر قاضي التحقيق على طلب النيابة ذلك بعبارة (تأذن) ووقع عليها دون إصدار أمر بالتفتيش طالما أن الطلب المذكور قد تضمن البيانات التي اشترطها القانون في المادة (62) من قانون تحقيق الجنايات المختلط [(28)].
لما كان ذلك فما هو الحكم بالنسبة إلى التحقيق الذي تجريه النيابة العامة بوصفها سلطة تحقيق لها نفس اختصاصات قاضي التحقيق ؟
لا يتصور عقلاً أن يتقدم عضو النيابة إلى نفسه بطلب فتح تحقيق حتى يقال إنه فتح التحقيق، فإذا ما وردت إليه تحريات قام بها أحد رجال الضبط القضائي وتبين منها ثبوت وقوع جناية
أو جنحة ووجود قرائن تسمح بتوجيه الاتهام إلى الشخص المراد تفتيش منزله، ورأى عضو النيابة كفاية هذه التحريات وجديتها، وأقرته محكمة الموضوع فيما بعد على ذلك، فإنه يصبح متصلاً بتحقيق الواقعة وله أن ينتقل بنفسه لإجراء التفتيش الذي يرى لزوم إجرائه أو يندب لذلك أحد رجال الضبط القضائي بغير ثمة حاجة إلى أن يفتح محضرًا يثبت فيه هذه الإجراءات ابتداءً، وكل ما يُطلب منه هو تسجيل إذنه بالتفتيش كتابةً على محضر التحريات.
وهذا التفسير فضلاً عن أنه يتفق وحكم المنطق فإنه يساير التطور التشريعي للمادة (87) فرنسي التي نقلت عنها المادة (91) من قانون الإجراءات الجنائية المصري كما رأينا.
يؤيد هذا النظر أن المادة (50/ 1) إجراءات جنائية التي وردت في الكتاب الأول (الدعوى الجنائية وجمع الاستدلالات والتحقيق) قد نصت صراحةً على أنه (لا يجوز التفتيش إلا للبحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة الجاري جمع الاستدلالات أو حصول التحقيق بشأنها).
فكل ما يهم الشارع هو ثبوت وقوع الجريمة واطمئنان المحقق إلى ذلك قبل الإذن بالتفتيش [(29)].
ففتح محضر تحقيق قبل التفتيش غير لازم إذ يكفي - كما قدمنا - للقول بأن التحقيق قد بدأ، أن يصح اتصال المحقق بالواقعة دون اشتراط أي إجراء شكلي، فهذا الاتصال الصحيح فيه معنى تحريك الدعوى العمومية وبالتالي يعد أنه بدأ في التحقيق [(30)]، وكل ما يمتنع على المحقق هو إصدار أمر تفتيش للبحث عن جريمة لم يثبت له وقوعها. فمثلاً لا يجوز إجراء التفتيش بقصد البحث فيما إذا كان أحد المشتبه فيهم يجوز أن يوجه إليه اتهام أو لا [(31)].
لكل ما تقدم يكون قضاء محكمة النقض الأخير، إذ أيد قضاءها السابق على إصدار قانون الإجراءات الجنائية، قد ساير المبادئ القانونية التي أسلفنا بيانها.
وبذلك يمكن القول بأن الوضع لم يتغير بعد صدور قانون الإجراءات الجنائية الجديد عنه قبل صدوره وأن قضاء محكمة النقض السابق على صدور القانون المذكور يجد سنده من النصوص الحديثة.
على أننا نرى أن تستعمل محكمة النقض حقها في رقابة محكمة الموضوع من حيث تقدير جدية التحريات المسوغة للإذن بالتفتيش ولا نكتفي بترك هذا الحق لمحكمة الموضوع، إذ يجب أن تقيم محكمة الموضوع قضاءها في هذا الشأن على أصول ثابتة في الأوراق، يؤيد هذا النظر مسلك محكمة النقض الفرنسية إذ أبطلت حكمًا قاضيًا ببطلان تفتيش إجراء البوليس بمقولة إن رضا المتهم بهذا التفتيش لم يكن مبنيًا على علمه بعدم أحقية البوليس في دخول منزله، فنقضت محكمة النقض الفرنسية هذا الحكم قائلة إنه لم يسبب قضاءه المذكور في صدد عدم صحة التصريح الصادر من المتهم بدخول مسكنه مما يحرم المحكمة العليا من مباشرة حقها في الرقابة على الأحكام [(32)].
الخلاصة:
يبين من استخلاص أحكام التفتيش من مجموع النصوص المتقاربة في موضوعها، ومن الاستهداء بالمصدر التاريخي للمادة (91) من قانون الإجراءات الجنائية، ومن الأعمال التحضيرية والمناقشات التي دارت حولها، أن المشرع المصري لم يتعلق مراده بالخروج على المبادئ التي استقر عليها الفقه والقضاء في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى، فهو لم يقصد معنى آخر من اشتراط فتح التحقيق أكثر من صحة اتصال سلطة التحقيق بالواقعة المراد استصدار الإذن بشأنها ووجوب تحقق تلك السلطة من توافر الشرائط التي يستلزمها القانون لصحة التفتيش من جدية البلاغ والتحريات والاقتناع بقيام الجريمة والدلائل على مرتكبها وجدوى إجراء التفتيش لديه، دون أن يشترط القانون لإجراء التفتيش القيام بإجراءات شكلية، بل يكفي طرح تلك العناصر على محكمة الموضوع وإقرارها إياها لصحة التفتيش.
وطبقًا للرأي الذي نادينا به يجب على محكمة الموضوع أن تشير في حكمها إلى ما استخلصته من العناصر التي طُرحت على المحقق عند استصدار إذن التفتيش حتى تعمل محكمة النقض رقابتها عند الاقتضاء.
[(1)] بهذا المعنى الطعن رقم (1375) سنة 22 قضائية جلسة 4 يونيو سنة 1953، وبحث للدكتور أحمد محمد إبراهيم في المحاماة سنة 34 عدد 4 صـ 533.
[(2)] المادة (8) من قانون 19 - 22 يوليو سنة 1791 و(359) من الدستور الفرنسي الصادر في 5 فريكتيدور سنة 3 للثورة، (76) من الدستور الفرنسي الصادر في 22 فريمير سنة 7، 3 من دستور سنة 1848 وديباجة دستور 27/ 10/ 1946، (107) و(112) من دستور تشيكوسلوفاكيا، (7) و(10) من دستور بلجيكا، (8) و(10) و(19) من دستور استونيا، (79) من دستور الدانمرك، (6) و(8) من دستور إسبانيا، (10) من دستور اليونان الملكي، (3) من الإعلان الدستوري الصادر من القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثورة الجيش المؤرخ 10/ 2/ 1953 إلخ…
[(3)] في هذا المعنى رسالة الدكتور الشاوي في النظرية العامة للتفتيش صـ 30، وفستان هيلي جزء 4 صـ 388.
[(4)] انظر أحكام النقض في 2/ 11/ 1936 محاماة سنة 17 رقم (246)، 13/ 3/ 1939 محاماة سنة 19 رقم (509)، 15/ 5/ 1939 محاماة سنة 20 رقم (20)، 20/ 11/ 1942 مجموعة محمود عمر الجنائية جزء 6 قاعدة (7)، 16/ 10/ 1944 نفس المجموعة قاعدة (376)، 20/ 11/ 1944 نفس المجموعة قاعدة (401)، 24/ 1/ 1949 المجموعة المذكورة جزء 7 قاعدة (802) - ومجموعة أحكام الدائرة الجنائية لمحكمة النقض السنة الأولى قاعدة (228) والسنة الثانية قاعدة (357) والسنة الثالثة قواعد (7)، (131)، (135)، (180)، (208)، (244)، (266)، (283).
[(5)] الواقع أن القانون المقصود هو قانون 7 فبراير سنة 1933 كما سيأتي بيانه.
[(6)] انظر موسوعة التعليقات على مواد قانون الإجراءات الجنائية للأستاذ أحمد عثمان حمزاوي طبعة سنة 1953 صـ 464 وما بعدها.
[(7)] فستان هيلي طبعة 1866 جزء 4 صـ 395 وما بعدها، 362 ومانجان في (التحقيق المكتوب) جزء أول بند 89 - ولبواتفان شرح قانون تحقيق الجنايات جزء أول مادة (87) بند (24) وجارو جزء 3 بند (901).
[(8)] Juris Classeur تحقيق جنايات مادة (87) بند (7) - قارن بحث الأستاذ محمد عبد العزيز يوسف فهمي في المحاماة سنة 32 صـ 763.
[(9)] فستان هيلي جزء 4 صـ 427 - قاموس المصطلحات القضائية لكابيتان صـ 286.
[(10)] انظر الترجمة الرسمية لقانون تحقيق الجنايات المختلط الصادر سنة 1937 فقد سار على هذا النسق.
[(11)] تناول القانون الأخير إلغاء الفقرة الرابعة من المادة (87) معدلة التي تُلزم القاضي بإجراء التفتيش بنفسه دون ندب غيره كما عدل النص الخاص بحالة وجود المتهم المطلوب تفتيشه مقبوضًا عليه خارج دائرة اختصاص قاضي التحقيق (انظر داللوز الدوري 1936 - 4 - 21).
[(12)] انظر تعليق جورج ليلوار في داللوز الدوري سنة 1933 جزء رابع صـ 65 وما بعدها، ومقال بورنيه عن حدود حق التفتيش المخول لقاضي التحقيق طبقًا لقانوني 7/ 2/ 1933، 25/ 3/ 1935 في مجلة علم الجنائي وقانون العقوبات المقارن سنة 1938 صـ 793 وما بعدها، وبحث النائب العام آنسلي في المجلة العقابية سنة 1933 صـ 96.
[(13)] تعليق ليلوار في داللوز الدوري سنة 1933 - 1 - 65 السابق الإشارة إليه.
[(14)] لبواتفان (قاموس النيابة والضبطية القضائية) طبعة سابعة جزء ثالث تحت كلمة (تحقيق ابتدائي) بند (10) صـ 212، لونز دوزنجارت في (سقوط الدعوى العمومية بمضي المدة) في القانونين الفرنسي والألماني صـ 64، فيدال ومانيول في (شرح القانون الجنائي) طبعة 1949 بند (699) والأحكام التي أشار إليها.
[(15)] فستان هيلي جزء رابع بند (1783) صـ 362.
[(16)] نقض 19/ 11/ 1887 سيري 1888 - 1 - 139، محكمة رينز 3/ 11/ 1887 داللوز 1888 - 2 - 232 المشار إليها في مؤلف لونز دوزنجارت سالف الذكر صـ 70.
[(17)] لونز دوزنجارت سالف الذكر صـ 68.
[(18)] دونديو دي فابر طبعة ثانية بند (1089)، (1091).
[(19)] ماصابيو في النيابة العامة طبعة خامسة جزء ثانٍ صـ 185.
[(20)] انظر (ماركيزيت) التحقيق، طبعة سنة 1950 صـ 34، 35 فيدال ومانيول طبعة سنة 1949 صـ 1168 بند (814/ 3) نقض فرنسي 12/ 2/ 1927، داللوز الأسبوعي 1927 صـ 209 - جواييه (النيابة العامة) صـ 316، 318 بحث بورنيه السالف الإشارة إليه صـ 796 وما بعدها.
[(21)] فستان هيلي جزء رابع بند (1728) صـ 359، دي فيرجير (المرجع العملي لقضاة التحقيق) جزء ثانٍ صـ 56، ماصابيو سالف الذكر جزء ثانٍ بند (2422) صـ 186، مانجان جزء ثانٍ صـ 147.
[(22)] لبواتفان: قاموس النيابة العامة طبعة سابعة جزء ثالث تحت كلمة (تحقيق ابتدائي) بند (12).
[(23)] ماركيزيت المرجع السابق صـ 33.
[(24)] انظر بحث بورنيه سالف الذكر صـ 796.
[(25)] المرجع السابق صـ 796.
[(26)] فستان هيلي جزء رابع صـ 5.
[(27)] جارو تحقيق جنايات جزء أول بند (90) صـ 191.
[(28)] محكمة جنح مصر المختلطة في 18/ 11/ 1940 بولتان سنة 54 صـ 1.
[(29)] انظر في هذا المعنى Juris - Classeur تحقيق جنائي مادة (87) بند (6).
[(30)] في هذا المعنى رسالة الدكتور توفيق الشاوي عن التفتيش صـ 18.
[(31)] فيدال ومانيول طبعة سنة 1949 صـ 1180 بند (821) هامش 2.
[(32)] نقض جنائي فرنسي 7/ 12/ 1935 جازيت الباليه 24 يناير سنة 1936 ومشار إليه في مجلة علم الجنائي سنة 1936 صـ 259 وما بعدها.
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954
بحث
التحقيق المفتوح
في قانون الإجراءات الجنائية الجديد
للسيد الأستاذ عادل يونس المحامي العام لدى محكمة النقض
تنص المادة (91) من قانون الإجراءات الجنائية في فقرتها الأولى على أن تفتيش المنازل عمل من أعمال التحقيق، ولا يجوز الالتجاء إليه إلا في تحقيق مفتوح، وبناءً على تهمة موجهة إلى شخص مقيم في المنزل المراد تفتيشه بارتكاب جناية أو جنحة أو باشتراكه في ارتكابها، أو إذا وجدت قرائن على أنه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة.
وتطبيقًا لهذا النص قضت محكمة النقض أخيرًا في حكمها الصادر بتاريخ 4 يونيه سنة 1953 في الطعن رقم (1265) سنة 22 قضائية بأن قضاءها مستقر على أن (تفتيش المنازل إجراء من إجراءات التحقيق لا تأمر به سلطة من سلطاته إلا لمناسبة جريمة ترى أنها وقعت وصحت نسبتها إلى شخص بعينه وأن هناك من الدلائل ما يكفي لاقتحام مسكنه الذي كفل الدستور حرمته وحرم القانون على رجال السلطة دخوله إلا في أحوال خاصة وأن تقدير كفاية تلك الدلائل وإن كان من شؤون سلطة التحقيق إلا أنه خاضع لرقابة محكمة الموضوع بحيث إذا رأت أنه لم يكن هناك ما يبرره كان لها أن لا تأخذ بالدليل المستمد منه باعتبار أنه إذا فقد المبرر لإجرائه أصبح عملاً يحرمه القانون فلا يسوغ أن يؤخذ منه، وقد جاء قانون الإجراءات الجنائية يؤكد هذه المبادئ بما نص عليه في المادة (91) منه من أن تفتيش المنازل عمل من أعمال التحقيق، ولا يجوز الالتجاء إليه إلا في تحقيق مفتوح، وبناءً على تهمة موجهة إلى شخص مقيم في المنزل المراد تفتيشه بارتكاب جناية أو جنحة أو باشتراكه في ارتكابها أو إذا وجدت قرائن على أنه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة - وإذا كان الشارع قد نص على أن يكون هناك تحقيق مفتوح فإنما قصد بذلك التحقيق الذي تتولاه سلطة التحقيق بناءً على ما يصل إلى علمها من الإبلاغ عن جناية أو جنحة ولم يشترط الشارع للتحقيق المفتوح الذي يسوغ التفتيش أن يكون قد قطع مرحلة أو استظهر قدرًا معينًا من أدلة الإثبات بل ترك ذلك لتقدير سلطة التحقيق لكي لا يكون من وراء غل يدها احتمال فوات الغرض منه مما تتأثر به مصلحة الجماعة التي تسمو على مصلحة الفرد [(1)]).
يؤخذ من هذا الحكم أن قانون الإجراءات الجنائية قنن المبادئ التي استقرت عليها أحكام محكمة النقض قبل إصداره، وأن المشرع لم يتعلق مراده بالخروج على تلك المبادئ التي استقر عليها الفقه والقضاء في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى.
غير أن هذا الحكم لم يواجه ما إذا كانت النيابة العامة ملزمة بفتح محضر قبل إصدار الإذن أو لا، وهل تغنيها تحريات الضبطية القضائية التي ترى أنها جدية عن إجراء تحقيق بمعرفتها أو لا.
وللوصول إلى الإجابة على ذلك يتعين بيان الوضع قبل إصدار قانون الإجراءات الجنائية وبعد إصداره، وتقصي المصادر التشريعية للقانون الحالي وتطورها، وقبل أن نعرض لهذا كله يقتضينا البحث بيان حدود حق سلطة التحقيق في الإذن بتفتيش منازل الأشخاص وتأصيل هذا الحق قانونًا.
مدى حق سلطات التحقيق في تفتيش الأشخاص والمنازل:
الأصل في تفتيش المساكن والأشخاص الحظر، فقد كفلت الدساتير الحرية الشخصية وحرمة المنازل [(2)] كما رددت القوانين المختلفة هذا الحظر إذ نصت المادة (128) عقوبات مصري المقابلة للمادة (184) عقوبات فرنسي على حظر دخول الموظفين أو المستخدمين العموميين أو أحد الأشخاص المكلفين بخدمة عمومية - اعتمادًا على وظيفتهم - منزل آحاد الناس بغير رضائه فيما عدا الأحوال المقررة في القانون، كما تضمنت المادة (370) عقوبات مصري هذا الحظر بالنسبة إلى أفراد الناس.
غير أنه إذا تعارضت حرمة المساكن وكفالة الحرية الشخصية مع حق المجتمع في تحقيق الجرائم والبحث عن مرتكبيها، رجحت كفة المجتمع وأبيحت هذه الحرمات على أن يكون ذلك في حدود هذا النطاق حتى لا يجرى إطلاق هذا الحق إلى سوء استعماله والإسراف فيه.
فالأساس القانوني لتبرير حق الهيئة الاجتماعية، ممثلة في سلطات التحقيق النائبة عنها، هو تمكينها من الدفاع عن نفسها ضد الجناة [(3)].
والأصل في التفتيش ألا يملكه إلا رجال التحقيق، ولا يجوز أن يتولاه رجال الضبطية القضائية إلا في أحوال معينة جاءت على سبيل الحصر في القانون، أو إذا أذنت لهم بذلك السلطة القضائية، فهو إجراء من إجراءات التحقيق الابتدائي الغرض منه جمع الأدلة تأييدًا لجريمة وقعت واتهام قائم ضد شخص ما بالقدر الذي تتطلبه مصلحة التحقيق ولا يقصد منه كشف الجرائم.
الوضع في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى:
تناولت المواد (30)، (68)، (69)، (70) من قانون تحقيق الجنايات الصادر بالقانون رقم (4) لسنة 1904 أحكام تفتيش منازل المتهمين وغيرهم في مواد الجنايات والجنح، كما تناولتها المواد (53)، (54)، (75) من قانون تحقيق الجنايات المختلط الملغى الصادر بالقانون رقم (57) لسنة 1937.
وعلى الرغم من أن هذه النصوص لم تفصح عن أن التفتيش إجراء من إجراءات التحقيق وأنه لا يصح ما لم تكن هناك جريمة معينة قد وقعت، فإن الفقه والقضاء قد استقرا على أن التفتيش إجراء قضائي وليس عملاً إداريًا من أعمال البوليس الغرض منه اكتشاف الجرائم ومرتكبيها، وأن تقدير جدية التحريات التي تسبق الإذن بالتفتيش متروك للنيابة العامة تحت إشراف المحاكم، وأن إصدار الإذن لا يقتضي إجراء تحقيق سابق له [(4)].
وبديهي أنه للقول بوقوع الجريمة قبل صدور الإذن لا يتحتم أن يكون وقوعها هذا ثابتًا بطريق مشاهدة رجل الضبط القضائي لها حال ارتكابها، لأن هذه المشاهدة إنما تنشئ حالة تلبس تخوله حق التفتيش بدون إذن من سلطة التحقيق.
مشروع القانون المقدم من الحكومة إلى البرلمان:
عندما رأت الحكومة تعديل قانون تحقيق الجنايات تقدمت بمشروع قانون إلى البرلمان تناولت فيه التفتيش في المواد (122)، (124)، (126) ولم تتكلم هذه المواد عن ضرورة إجراء تحقيق مفتوح، وقد أدخلت لجنة الإجراءات الجنائية بمجلس الشيوخ هذا التعبير وأشارت إليه في تقريرها المؤرخ 24 يونيو سنة 1948 وذلك (نقلاً عن المادة 87 من القانون الفرنسي المضافة بقانون 25 مارس سنة 1935 [(5)] لتقرير أن تفتيش المنازل وضبط الأشياء هو عمل من أعمال التحقيق ولا يجوز الالتجاء إليه إلا في تحقيق مفتوح وبناءً على تهمة موجهة إلى شخص معين وليس وسيلة من الوسائل التي يجوز لمأموري الضبطية القضائية الالتجاء إليها لاستكشاف الجرائم وضبط مرتكبيها).
وجاء في تقرير لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب المؤرخ 20 فبراير سنة 1950 ما يلي:
(فسرت المادة (94) (التي أضافتها لجنة الإجراءات الجنائية بمجلس الشيوخ)… … … … بأن المقصود منها ألا يباشر المحقق هذا الإجراء إلا إذا سبقه اتهام صريح تؤيده أدلة مقبولة أو قريبة الاحتمال فوافق مندوب وزارة العدل على هذا التعبير).
كما جاء في تقريرها الثاني المؤرخ 2 مايو سنة 1950 ما يلي:
(اقترح أحد النواب تعديل هذه المادة باستبدال عبارة (تحقيق بدأ فيه) بعبارة (تحقيق مفتوح) الواردة بها ولم ترَ اللجنة فرقًا بين عبارتي (تحقيق بدأ فيه) و(تحقيق مفتوح).
ويبين من مطالعة المادة (91) إجراءات جنائية ومقارنتها بالمادة (87) تحقيق جنايات فرنسي أن المشرع لم ينقل جميع أحكام المادة الفرنسية وأنه قد أسقط منها بعض فقراتها، غير أنه يبدو أنه لم يقصد الخروج عن المبادئ الواردة بها لخضوعها للقواعد المقررة قانونًا [(6)].
وتنص الفقرة الأولى من المادة (87) معدلة فرنسي على ما يأتي:
(يعد دخول المنازل وتفتيشها من أعمال التحقيق التي لا يجوز مباشرتها ما لم يكن هناك تحقيق في حالة فتح l’instruction étant ouverte وكان الشخص المراد دخول منزله فاعلاً في جريمة أو شريكًا فيها أو على الأقل يظن أنه يحوز أشياء تتعلق بالجريمة).
الوضع بعد صدور قانون الإجراءات الجنائية:
مقطع النزاع هو الوقوف على ما إذا كان المشرع في قانون الإجراءات الجنائية قد قصد تغيير الأوضاع المستقرة فقهًا وقضاءً في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى أو أنه لم يرم إلى شيء من ذلك.
وللوصول إلى ذلك يتعين تقصي التطور التشريعي للقانون - الفرنسي مصدر تشريعنا - في هذا الصدد.
جرى نص المادة (87) تحقيق جنايات فرنسي وقت إصدارها في سنة 1808 على ما يأتي:
(ينتقل قاضي التحقيق إذا طلب إليه ذلك، وله أن ينتقل من تلقاء نفسه، إلى منزل المتهم لإجراء تفتيش عن الأوراق والأشياء وعلى العموم جميع الأشياء التي يرى أنها تفيد في إظهار الحقيقة).
وعلى ضوء هذا النص جرى الشراح القدامى أمثال فستان هيلي ومانجان ولبواتفان وجارو وغيرهم [(7)] على التفسير الذي أسلفنا بيانه دون حاجة إلى النص، على أن التفتيش من إجراءات التحقيق ودون استلزام فتح تحقيق.
وجاء تعديل 7 فبراير سنة 1933 بعبارة (التحقيق المفتوح) وقبل أن نمضي إلى تتبع هذا التعديل نقول إن المشرع الفرنسي قصد التحقيق بمعناه القضائي instruction، وإن كان بعض الشراح والمعلقين قد أورد كلمة information شرحًا لهذه الكلمة [(8)] فإن المقصود بهذا اللفظ أنه مرادف لكلمة instruction وكلمة information في علم القانون لها معنيان: فهي تشمل بمعناها الواسع جميع أعمال التحقيق الابتدائي، وفي معناها الضيق تعني محضر سماع الشهود فقط أخذًا من نص المادة (76) تحقيق جنايات فرنسي، والمعنى الواسع لهذه الكلمة هو المعمول به حاليًا [(9)].
أما معنى (جمع الاستدلالات) فهو (information sommaire) [(10)].
وقد بدأت فكرة تعديل المادة (87) فرنسي في سنة 1878 حين شكلت لجنة غير برلمانية لتعديل قانون التحقيق الجنائي الفرنسي، ووافق مجلس الشيوخ على مشروع التعديل المذكور في 5/ 8/ 1882 غير أن مجلس النواب لم يفحصه، فأهمل إلى أن تقدم رئيس الوزراء إذ ذاك مسيو كليمنصو في 18/ 1/ 1907 بالاشتراك مع وزير العدل المسيو جيوديني بمشروع قانون خاص بضمانات الحرية الفردية، يرمي إلى إلغاء بعض مواد القانون وتعديل البعض الآخر، وقد وافق عليه مجلس الشيوخ ولكنه لم يعرض على مجلس النواب حتى نشبت الحرب العالمية الأولى، وفي 13/ 11/ 1918 تقدم النائب بول مونيس بمشروع القانون المذكور وبعد أن تمت مناقشته في مجلس البرلمان هيأ له الظهور أخيرًا بقانون 7/ 2/ 1933.
ويتضح من ذلك أن أول تعديل للمادة (87) كان بقانون 7/ 2/ 1933 لا بقانون 25/ 3/ 1935 [(11)].
وسبب الحرص على وضع تعديل سنة 1933 - كما يبين ذلك من التعليقات على هذا القانون [(12)] - هو أنه قبل إلغاء المادة (10) من قانون التحقيق الجنائي الفرنسي، كان دخول المنازل الذي يجرى بمعرفة مديري البوليس ومرؤوسيهم له صفة وقائية بقصد البحث عن الجرائم واكتشافها، فحرص واضعو القانون الجديد على النص على اعتبار التفتيش من أعمال التحقيق، كما أن إطلاق نص مادة (87) تحقيق جنائي فرنسي آثار انتقادات عديدة نادت بالحد من هذا الحق.
وكان النص الذي وافق عليه مجلس الشيوخ في سنة 1882 يرمي إلى اشتراط صدور أمر قضائي mandat لإمكان إجراء التفتيش، وفي ذلك ما فيه من تعقيد للإجراءات وتفويت للغرض من التفتيش إذ من المعلوم أن الأوامر القضائية يلزم فيها تعيين الشخص الموجهة إليه وإعلانه بها بمعرفة قلم المحضرين أو أحد رجال السلطة العامة.
أما النص الوارد في مشروع سنة 1907 المقدم من وزارة كليمنصو فكان يرمي إلى اشتراط استجواب المتهم لأول مرة قبل تفتيش منزله.
وواضح أن هذه النصوص معيبة لأنها تستبعد حالة التحقيق ضد مجهول، وقد انتقد ذلك مسيو مونيس مقرر القانون ونادى بأن اشتراط الاستجواب يبدو غير مقبول، ففي بعض القضايا مثل الجاسوسية وتزييف النقود حيث يستلزم الأمر العمل بمنتهى السرعة، فإن أي تنبيه يكفي لدفع المتهم وشركائه وأقاربه وأصدقائه إلى إخفاء آثار الجريمة.
وكانت لجنة مجلس الشيوخ في مشروعها الأول قد اكتفت بثبوت وقوع جناية أو جنحة لإمكان إعطاء حق التفتيش للقاضي المحقق، ولكن هذه الصياغة انتقدها مسيو. ريبو ونادى في جلسة 7/ 2/ 1909 بأنها ضيقة جدًا وتؤدي إلى عدم الاستفادة من هذا الإجراء لاكتشاف جريمة مفترضة présumé. فرد عليه مسيو مونيس في نفس الجلسة قائلاً:
(إذا كنا نعطي لنائب الجمهورية (رئيس النيابة) حق العمل فورًا في المنزل الذي تقع فيه الجريمة والبحث عن جميع المستندات، فإننا نسلم بأن لقاضي التحقيق أن يقوم بنفس العمل، فبالنسبة إلى نائب الجمهورية فإن الأمر ليس فيه صعوبة لأن ذلك لا يكون إلا في حالة التلبس، أما بالنسبة إلى قاضي التحقيق فنحن نطلب كضمان وحيد لإمكان إصدار أمر التفتيش بمعرفته، لإصدار أمر قضائي mandat لأن ذلك يضيق من سلطانه، بل كل ما نطلبه هو أن يكون هناك تحقيق مفتوح [(13)]، فكان هذا سبب دخول تعبير (التحقيق المفتوح) في النص.
هذه هي الدعائم التي قام عليها التعديل الفرنسي - مصدر تشريعنا الحالي - ويبين منها بجلاء أنه لا يشترط لاستصدار أمر التفتيش سوى مجرد وقوع جناية أو جنحة ووجود اتهام لشخص ما على أنه فاعل أصلي أو شريك في ارتكابها أو على الأقل وجود قرائن تدل على أن المطلوب تفتيش منزله يحوز أشياء تتعلق بالجريمة وأن يكون هناك تحقيق في حالة فتح instruction étant ouverte.
ولكن ما هو المقصود بهذه العبارة ؟ سنتناول التعريف بها طبقًا للنظام الفرنسي الذي يقوم فيه قاضي التحقيق بالاختصاصات التي تقوم بها النيابة العامة في مصر عملاً بالمرسوم بقانون رقم (353) لسنة 1952.
من المعلوم أن التحقيق الابتدائي هو إجراء يتخذ بمعرفة السلطة القضائية المختصة بقصد البحث عن الأشخاص الذين يظن أنهم قد ارتكبوا جريمة وقعت، وجمع الأدلة وتقدير مدى كفايتها لمحاكمة فاعليها [(14)].
فأول واجب للمحقق قبل أن يبدأ التحقيق هو التثبت من وقوع الجريمة ولا تتوقف صحة
الإجراءات على ضرورة وجود محضر للتحقق من جسم الجريمة بل يكفي أن يثبت لدى القاضي أن الجريمة وقعت [(15)].
وقد حكم في فرنسا بأن مجرد أوامر قاضي التحقيق ordonnances بإجراء التفتيش تعد عملاً من أعمال التحقيق [(16)].
أما محاضر جمع الاستدلالات التي يقوم بها رجال الضبطية القضائية فليست لها قيمة أكثر من تهيئة الوسيلة للنيابة العامة لتقرير ما إذا كانت الوقائع التي وصل إليها خبرها، بناءً على هذه المحاضر، تبرر مباشرة إجراءات الاتهام برفع الدعوى العمومية مباشرةً أمام القضاء (في مواد الجنح) أو بإخطار قاضي التحقيق المختص وحده بإجراء التحقيق [(17)].
فالنيابة العامة يصل إليها خبر وقوع الجريمة عن طريق محاضر البوليس أو عن طريق بلاغ من الغير أو عن طريق شكوى المجني عليه نفسه، والرأي أن لها حرية تقدير ملاءمة اتخاذ الإجراءات الجنائية أو عدم اتخاذها [(18)].
كيفية اتصال قاضي التحقيق في فرنسا بالواقعة:
يتصل قاضي التحقيق بالقضية ويعتبر التحقيق مفتوحًا في فرنسا في الأحوال الآتية:
أولاً: تقديم طلب فتح تحقيق réquisitoire introductif ويحدث هذا عملاً بعد أن يطلع نائب الجمهورية (رئيس النيابة) على المحضر الذي أجراه البوليس ويرى أن هناك محلاً لفتح تحقيق فيتقدم بطلبه كتابةً إلى قاضي التحقيق بوساطة ورقه يطلق عليها هذه التسمية (مادة 47 تحقيق جنائي فرنسي)، وسمي هذا الإجراء بطلب افتتاح التحقيق لأنه أول إجراء في الدعوى وما سبقه لم يكن سوى تمهيد لها [(19)].
وهذا الإجراء واجب في الجنايات وجوازي في الجنح، ولا يشترط فيه شكل خاص (فيما عدا جرائم الصحف) ويجوز أن يتم على نموذج مطبوع ويكفي الإشارة فيه إلى نوع الجريمة ونص القانون والشخص المطلوب فتح التحقيق ضده والاكتفاء بالإشارة إلى المستندات المرافقة للطلب دون التنويه بتفصيلاتها، وبمجرد وصول هذا الطلب إلى قاضي التحقيق يصبح التحقيق مفتوحًا، كما أنه يمكن توجيه طلب فتح التحقيق ضد مجهول وبذلك يفتح التحقيق في جريمة مسندة إلى مجهول [(20)].
ولا يشترط أن يصدر القاضي أمرًا خاصًا كي يصبح التحقيق مفتوحًا بل يعتبر التحقيق كذلك بمجرد اتصال القاضي بالقضية عن طريق طلب النيابة سالف البيان وقد كان القانون الفرنسي القديم يشترط لبدء التحقيق إصدار أمر من الضابط الجنائي le lieutenant criminel بالإذن بالتحقيق permission d’instruction، وكان هذا الإذن تذيل به الشكوى لفتح إجراءات التحقيق، ولكن هذا الإذن زال في ظل القانون الحالي وحلت محله أعمال التحقيق ذاتها [(21)].
ثانيًا: حالة تقديم شكوى مصحوبة بادعاء مدني (مادة 63 فرنسي) فبمجرد تقديم الشكوى المصحوبة بالادعاء المدني يصبح القاضي مختصًا بالتحقيق ويجب عليه التحقيق طالما أن الادعاء مقبول، فإذا تلقى قاضي التحقيق شكوى دون أن تكون مصحوبة بادعاء بحق مدني، فلا يستطيع فتح التحقيق وعليه في هذه الحالة أن يحيل الشكوى إلى النيابة (نائب الجمهورية أي رئيس النيابة) وهذا الأخير يعتبر أنه تلقاها مباشرةً ويستطيع حفظها أو رفع الدعوى العمومية مباشرةً أو يطلب فتح تحقيق [(22)].
ويتصل قاضي التحقيق أيضًا بالواقعة في حالات أخرى نص عليها القانون كإحالة قضية إليه من غرفة الاتهام أو من محكمة الجنايات لإجراء تحقيقات هي في الواقع تكميلية [(23)].
ففي هذه الأحوال جميعًا يعتبر التحقيق في حالة فتح بمجرد اتصال القاضي بالواقعة المطلوب التحقيق فيها دون حاجة إلى اتخاذ إجراء شكلي كما قدمنا، وله أن يبدأ بإصدار أمر التفتيش ويلتزم بداءةً ذي بدء حينما يتلقى طلب فتح التحقيق أن يبحث فيما إذا كان اتصاله بالواقعة تم صحيحًا أو لا، فعليه أن يتحقق من اختصاصه وأن الواقعة تكون جناية أو جنحة وليست مجرد مخالفة، ومن صحة تحريك الدعوى الجنائية وهل سقط الحق في إقامتها، ثم يبحث علاقة الشخص المطلوب تفتيش منزله بالتهمة [(24)].
وتبدو المسألة غير معقدة إذا كان المتهم معين الاسم في طلب فتح التحقيق المقدم من النيابة العامة أو من المدعي بالحق المدني، فإذا فُتح التحقيق ضد مجهول فإن سلطة التقدير التي للقاضي قد تنقلب إلى تعسف، فهنا يجب على القاضي أن يقارن بين فرض النجاح التي قد تلوح له من إجراء التفتيش وبين المساس بمصالح الأفراد [(25)].
فالتحقيق الابتدائي يبدأ بطلب التحقيق أو بالشكوى المحالة إلى القاضي والتي تتضمن إبلاغ الجريمة إليه، وينتهي بالقرار الذي يصدر بإخراج المتهم من التهمة أو باتهامه فيها [(26)].
وكما يقول جارو [(27)] تعتبر الدعوى العمومية قد تحركت بل إجراء من شأنه اتصال القاضي اتصالاً صحيحًا بالدعوى، ولا شك أن تقديم طلب فتح التحقيق من النيابة العامة للقاضي يترتب عليه تحرك الدعوى العمومية وفتح التحقيق.
فمتى اتصل القاضي بالقضية اتصالاً صحيحًا حق له إجراء التفتيش سواء بنفسه (كما كان يحتم عليه ذلك قانون سنة 1933) أو بوساطة من يندبه من رجال الضبطية القضائية (كما يؤخذ ذلك من تعديل سنة 1935).
وكما قدمنا لا يشترط لبدء التحقيق فتح محضر مثبت لذلك لأن مجرد تقديم الطلب من النيابة العامة أو مجرد الادعاء المدني يجعل التحقيق في حالة فتح.
الوضع التشريعي في مصر:
هذا هو الحكم في فرنسا حيث يقوم قاضي التحقيق بإجراءات التحقيق الابتدائي، أما النيابة فلا تقوم به هناك إلا في حالة التلبس فقط، أما في مصر فحتى قبل صدور المرسوم بقانون رقم (353) لسنة 1952 فإن النيابة العامة تشترك مع قاضي التحقيق في تحقيق الجنح (وقد أصبح لها بمقتضى التعديل الأخير الحق في إجراء التحقيق في جميع الجنايات والجنح عدا جرائم التفالس والجرائم التي تقع بواسطة الصحف).
وتطبيقًا للقواعد التي أسلفنا بيانها، فإن التحقيق يعد مفتوحًا بالنسبة إلى قاضي التحقيق - في حالة قيامه بالتحقيق - بمجرد تقديم طلب فتح التحقيق إليه (مواد 63 و64 معدلة إجراءات جنائية).
ولا يشترط حينئذٍ للقول بقيام التحقيق المفتوح أكثر من إحالة التحقيق إليه مع مراعاة ما سبق ذكره من صحة اتصال القاضي بالواقعة - وفي هذه الحالة إذا رأى القاضي - في حدود سلطته التقديرية - محلاً لإجراء التفتيش كان له أن يجريه بنفسه أو يندب غيره من مأموري الضبطية القضائية للقيام به، دون أن يكون ملزمًا بفتح محضر قبل الانتقال للتفتيش.
وقد جرى القضاء المختلط على أنه لا بطلان إذا أشر قاضي التحقيق على طلب النيابة ذلك بعبارة (تأذن) ووقع عليها دون إصدار أمر بالتفتيش طالما أن الطلب المذكور قد تضمن البيانات التي اشترطها القانون في المادة (62) من قانون تحقيق الجنايات المختلط [(28)].
لما كان ذلك فما هو الحكم بالنسبة إلى التحقيق الذي تجريه النيابة العامة بوصفها سلطة تحقيق لها نفس اختصاصات قاضي التحقيق ؟
لا يتصور عقلاً أن يتقدم عضو النيابة إلى نفسه بطلب فتح تحقيق حتى يقال إنه فتح التحقيق، فإذا ما وردت إليه تحريات قام بها أحد رجال الضبط القضائي وتبين منها ثبوت وقوع جناية
أو جنحة ووجود قرائن تسمح بتوجيه الاتهام إلى الشخص المراد تفتيش منزله، ورأى عضو النيابة كفاية هذه التحريات وجديتها، وأقرته محكمة الموضوع فيما بعد على ذلك، فإنه يصبح متصلاً بتحقيق الواقعة وله أن ينتقل بنفسه لإجراء التفتيش الذي يرى لزوم إجرائه أو يندب لذلك أحد رجال الضبط القضائي بغير ثمة حاجة إلى أن يفتح محضرًا يثبت فيه هذه الإجراءات ابتداءً، وكل ما يُطلب منه هو تسجيل إذنه بالتفتيش كتابةً على محضر التحريات.
وهذا التفسير فضلاً عن أنه يتفق وحكم المنطق فإنه يساير التطور التشريعي للمادة (87) فرنسي التي نقلت عنها المادة (91) من قانون الإجراءات الجنائية المصري كما رأينا.
يؤيد هذا النظر أن المادة (50/ 1) إجراءات جنائية التي وردت في الكتاب الأول (الدعوى الجنائية وجمع الاستدلالات والتحقيق) قد نصت صراحةً على أنه (لا يجوز التفتيش إلا للبحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة الجاري جمع الاستدلالات أو حصول التحقيق بشأنها).
فكل ما يهم الشارع هو ثبوت وقوع الجريمة واطمئنان المحقق إلى ذلك قبل الإذن بالتفتيش [(29)].
ففتح محضر تحقيق قبل التفتيش غير لازم إذ يكفي - كما قدمنا - للقول بأن التحقيق قد بدأ، أن يصح اتصال المحقق بالواقعة دون اشتراط أي إجراء شكلي، فهذا الاتصال الصحيح فيه معنى تحريك الدعوى العمومية وبالتالي يعد أنه بدأ في التحقيق [(30)]، وكل ما يمتنع على المحقق هو إصدار أمر تفتيش للبحث عن جريمة لم يثبت له وقوعها. فمثلاً لا يجوز إجراء التفتيش بقصد البحث فيما إذا كان أحد المشتبه فيهم يجوز أن يوجه إليه اتهام أو لا [(31)].
لكل ما تقدم يكون قضاء محكمة النقض الأخير، إذ أيد قضاءها السابق على إصدار قانون الإجراءات الجنائية، قد ساير المبادئ القانونية التي أسلفنا بيانها.
وبذلك يمكن القول بأن الوضع لم يتغير بعد صدور قانون الإجراءات الجنائية الجديد عنه قبل صدوره وأن قضاء محكمة النقض السابق على صدور القانون المذكور يجد سنده من النصوص الحديثة.
على أننا نرى أن تستعمل محكمة النقض حقها في رقابة محكمة الموضوع من حيث تقدير جدية التحريات المسوغة للإذن بالتفتيش ولا نكتفي بترك هذا الحق لمحكمة الموضوع، إذ يجب أن تقيم محكمة الموضوع قضاءها في هذا الشأن على أصول ثابتة في الأوراق، يؤيد هذا النظر مسلك محكمة النقض الفرنسية إذ أبطلت حكمًا قاضيًا ببطلان تفتيش إجراء البوليس بمقولة إن رضا المتهم بهذا التفتيش لم يكن مبنيًا على علمه بعدم أحقية البوليس في دخول منزله، فنقضت محكمة النقض الفرنسية هذا الحكم قائلة إنه لم يسبب قضاءه المذكور في صدد عدم صحة التصريح الصادر من المتهم بدخول مسكنه مما يحرم المحكمة العليا من مباشرة حقها في الرقابة على الأحكام [(32)].
الخلاصة:
يبين من استخلاص أحكام التفتيش من مجموع النصوص المتقاربة في موضوعها، ومن الاستهداء بالمصدر التاريخي للمادة (91) من قانون الإجراءات الجنائية، ومن الأعمال التحضيرية والمناقشات التي دارت حولها، أن المشرع المصري لم يتعلق مراده بالخروج على المبادئ التي استقر عليها الفقه والقضاء في ظل قانون تحقيق الجنايات الملغى، فهو لم يقصد معنى آخر من اشتراط فتح التحقيق أكثر من صحة اتصال سلطة التحقيق بالواقعة المراد استصدار الإذن بشأنها ووجوب تحقق تلك السلطة من توافر الشرائط التي يستلزمها القانون لصحة التفتيش من جدية البلاغ والتحريات والاقتناع بقيام الجريمة والدلائل على مرتكبها وجدوى إجراء التفتيش لديه، دون أن يشترط القانون لإجراء التفتيش القيام بإجراءات شكلية، بل يكفي طرح تلك العناصر على محكمة الموضوع وإقرارها إياها لصحة التفتيش.
وطبقًا للرأي الذي نادينا به يجب على محكمة الموضوع أن تشير في حكمها إلى ما استخلصته من العناصر التي طُرحت على المحقق عند استصدار إذن التفتيش حتى تعمل محكمة النقض رقابتها عند الاقتضاء.
[(1)] بهذا المعنى الطعن رقم (1375) سنة 22 قضائية جلسة 4 يونيو سنة 1953، وبحث للدكتور أحمد محمد إبراهيم في المحاماة سنة 34 عدد 4 صـ 533.
[(2)] المادة (8) من قانون 19 - 22 يوليو سنة 1791 و(359) من الدستور الفرنسي الصادر في 5 فريكتيدور سنة 3 للثورة، (76) من الدستور الفرنسي الصادر في 22 فريمير سنة 7، 3 من دستور سنة 1848 وديباجة دستور 27/ 10/ 1946، (107) و(112) من دستور تشيكوسلوفاكيا، (7) و(10) من دستور بلجيكا، (8) و(10) و(19) من دستور استونيا، (79) من دستور الدانمرك، (6) و(8) من دستور إسبانيا، (10) من دستور اليونان الملكي، (3) من الإعلان الدستوري الصادر من القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثورة الجيش المؤرخ 10/ 2/ 1953 إلخ…
[(3)] في هذا المعنى رسالة الدكتور الشاوي في النظرية العامة للتفتيش صـ 30، وفستان هيلي جزء 4 صـ 388.
[(4)] انظر أحكام النقض في 2/ 11/ 1936 محاماة سنة 17 رقم (246)، 13/ 3/ 1939 محاماة سنة 19 رقم (509)، 15/ 5/ 1939 محاماة سنة 20 رقم (20)، 20/ 11/ 1942 مجموعة محمود عمر الجنائية جزء 6 قاعدة (7)، 16/ 10/ 1944 نفس المجموعة قاعدة (376)، 20/ 11/ 1944 نفس المجموعة قاعدة (401)، 24/ 1/ 1949 المجموعة المذكورة جزء 7 قاعدة (802) - ومجموعة أحكام الدائرة الجنائية لمحكمة النقض السنة الأولى قاعدة (228) والسنة الثانية قاعدة (357) والسنة الثالثة قواعد (7)، (131)، (135)، (180)، (208)، (244)، (266)، (283).
[(5)] الواقع أن القانون المقصود هو قانون 7 فبراير سنة 1933 كما سيأتي بيانه.
[(6)] انظر موسوعة التعليقات على مواد قانون الإجراءات الجنائية للأستاذ أحمد عثمان حمزاوي طبعة سنة 1953 صـ 464 وما بعدها.
[(7)] فستان هيلي طبعة 1866 جزء 4 صـ 395 وما بعدها، 362 ومانجان في (التحقيق المكتوب) جزء أول بند 89 - ولبواتفان شرح قانون تحقيق الجنايات جزء أول مادة (87) بند (24) وجارو جزء 3 بند (901).
[(8)] Juris Classeur تحقيق جنايات مادة (87) بند (7) - قارن بحث الأستاذ محمد عبد العزيز يوسف فهمي في المحاماة سنة 32 صـ 763.
[(9)] فستان هيلي جزء 4 صـ 427 - قاموس المصطلحات القضائية لكابيتان صـ 286.
[(10)] انظر الترجمة الرسمية لقانون تحقيق الجنايات المختلط الصادر سنة 1937 فقد سار على هذا النسق.
[(11)] تناول القانون الأخير إلغاء الفقرة الرابعة من المادة (87) معدلة التي تُلزم القاضي بإجراء التفتيش بنفسه دون ندب غيره كما عدل النص الخاص بحالة وجود المتهم المطلوب تفتيشه مقبوضًا عليه خارج دائرة اختصاص قاضي التحقيق (انظر داللوز الدوري 1936 - 4 - 21).
[(12)] انظر تعليق جورج ليلوار في داللوز الدوري سنة 1933 جزء رابع صـ 65 وما بعدها، ومقال بورنيه عن حدود حق التفتيش المخول لقاضي التحقيق طبقًا لقانوني 7/ 2/ 1933، 25/ 3/ 1935 في مجلة علم الجنائي وقانون العقوبات المقارن سنة 1938 صـ 793 وما بعدها، وبحث النائب العام آنسلي في المجلة العقابية سنة 1933 صـ 96.
[(13)] تعليق ليلوار في داللوز الدوري سنة 1933 - 1 - 65 السابق الإشارة إليه.
[(14)] لبواتفان (قاموس النيابة والضبطية القضائية) طبعة سابعة جزء ثالث تحت كلمة (تحقيق ابتدائي) بند (10) صـ 212، لونز دوزنجارت في (سقوط الدعوى العمومية بمضي المدة) في القانونين الفرنسي والألماني صـ 64، فيدال ومانيول في (شرح القانون الجنائي) طبعة 1949 بند (699) والأحكام التي أشار إليها.
[(15)] فستان هيلي جزء رابع بند (1783) صـ 362.
[(16)] نقض 19/ 11/ 1887 سيري 1888 - 1 - 139، محكمة رينز 3/ 11/ 1887 داللوز 1888 - 2 - 232 المشار إليها في مؤلف لونز دوزنجارت سالف الذكر صـ 70.
[(17)] لونز دوزنجارت سالف الذكر صـ 68.
[(18)] دونديو دي فابر طبعة ثانية بند (1089)، (1091).
[(19)] ماصابيو في النيابة العامة طبعة خامسة جزء ثانٍ صـ 185.
[(20)] انظر (ماركيزيت) التحقيق، طبعة سنة 1950 صـ 34، 35 فيدال ومانيول طبعة سنة 1949 صـ 1168 بند (814/ 3) نقض فرنسي 12/ 2/ 1927، داللوز الأسبوعي 1927 صـ 209 - جواييه (النيابة العامة) صـ 316، 318 بحث بورنيه السالف الإشارة إليه صـ 796 وما بعدها.
[(21)] فستان هيلي جزء رابع بند (1728) صـ 359، دي فيرجير (المرجع العملي لقضاة التحقيق) جزء ثانٍ صـ 56، ماصابيو سالف الذكر جزء ثانٍ بند (2422) صـ 186، مانجان جزء ثانٍ صـ 147.
[(22)] لبواتفان: قاموس النيابة العامة طبعة سابعة جزء ثالث تحت كلمة (تحقيق ابتدائي) بند (12).
[(23)] ماركيزيت المرجع السابق صـ 33.
[(24)] انظر بحث بورنيه سالف الذكر صـ 796.
[(25)] المرجع السابق صـ 796.
[(26)] فستان هيلي جزء رابع صـ 5.
[(27)] جارو تحقيق جنايات جزء أول بند (90) صـ 191.
[(28)] محكمة جنح مصر المختلطة في 18/ 11/ 1940 بولتان سنة 54 صـ 1.
[(29)] انظر في هذا المعنى Juris - Classeur تحقيق جنائي مادة (87) بند (6).
[(30)] في هذا المعنى رسالة الدكتور توفيق الشاوي عن التفتيش صـ 18.
[(31)] فيدال ومانيول طبعة سنة 1949 صـ 1180 بند (821) هامش 2.
[(32)] نقض جنائي فرنسي 7/ 12/ 1935 جازيت الباليه 24 يناير سنة 1936 ومشار إليه في مجلة علم الجنائي سنة 1936 صـ 259 وما بعدها.
الجرائم الانتخابية
كتبهااحمد الجمل ، في 23 مايو 2009 الساعة: 23:42 م
مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الرابعة - عدد يوليه سنة 1924
الجرائم الانتخابية
المادتان (284) فقرة أولى عقوبات والمادتان (76) و(77) فقرة أولى من قانون الانتخاب - المادتان (32) و(47) مكررة عقوبات
تثير دائمًا الانتخابات العامة منازعات ومباحث تختلف وتتباين باختلاف وتباين وجهة نظر الجماعات لا سيما إذا كانت الأمة حديثة العهد بالقانون الذي تجرى الانتخابات بمقتضاه، من ذلك النزاع الذي طرح أمام القضاء خاصًا بجريمة التهديد الكتابية.
هدد شخص آخر كتابةً بارتكاب جريمة ضد النفس معاقب عليها بالقتل أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، وكان التهديد لمنع ناخب من استعمال حق التصويت أو لإكراهه على التصويت على وجه خاص، والجريمة تنطبق على نصين: النص الأول المادة (284) فقرة أولى عقوبات التي جاءت معدلة للمادة القديمة بمقتضى القانون رقم (28) سنة 1910 والنص الثاني الفقرة الأولى من المادة (77) من قانون الانتخاب الصادر في 30 إبريل سنة 1923. فالبحث قائم حول أي القانونين واجب تطبيقه، أقانون العقوبات الذي يجعل الحادثة جناية أم قانون الانتخاب الذي جاء أكثر هوادة وجعل الحادثة جنحة قد يُقضى فيها بالغرامة فقط ؟
وقد اشتد الجدل في أي الرأيين هو الصواب عقب حادثة معينة وقعت إبان المعركة الانتخابية الماضية وتردد ذكرها في مواقف عدة وكان اقتناعنا برأينا القانوني في الحادثة يجعلنا نرى أن الخلاف إنما اشتد بسبب النزعة الحزبية، إلا أننا رأينا كثيرين ممن لم يتأثروا بهذه النزعة يرون الصواب في الرأي المخالف، وهذا ما دعانا إلى إثبات هذا البحث.
إذا رجعنا إلى أي قاعدة من القواعد الأساسية في القانون الجنائي نراها جميعها تشير إلى أن قانون الانتخاب هو القانون الواجب تطبيقه على الحادثة.
فأول هذه القواعد المبدأ الذي يقضي بأن القانون اللاحق يلغي القانون السابق، وقد نص على هذه القاعدة في باب القواعد العمومية من قانون العقوبات في الفقرة الأولى من المادة الخامسة منه، إذ قضت بأنه يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها وهذا هو المبدأ المنطبق على العقل وعلى البداهة، إذ في إصدار الشارع لقانون جديد معنى عدوله عن القانون السابق وإلا فيكون عابثًا متخبطًا، لم يناقش الشراح هذا المبدأ لبداهته إنما ناقشوا القاعدة التي تتفرع منه، الخاصة بمعرفة ما إذا كان يمكن تطبيق القانون الجديد على جريمة وقعت قبل صدوره باعتبار أنه هو القانون الأصوب وقسموا بحثهم إلى قسمين: الأول القوانين الخاصة بالموضوع، والثاني الخاص منها بالشكل وأوجبوا تطبيق القانون الجديد في أحدها دون الآخر، ولا وجه للتمشي في هذا البحث إذ لا علاقة له ببحثنا الذي ينطبق على أصل القاعدة التي بموجبها يطبق القانون المعاصر للحادثة أي الذي حصلت الحادثة بعد إصداره، وقد أورد الدستور في المادتين (26) و(27) منه مقتضى هذه القاعدة والقاعدة المتفرعة منها وهما تقابلان المادة (3) من القانون الأساسي الصادر في 14 يونيو سنة 1883.
والقاعدة الثانية هي التي تقضي بأن يطبق القانون الأخف إذا وجد قانونان مختلفان، وهذه القاعدة واردة كذلك بنص صريح في الفقرة الثانية من المادة (5) عقوبات التي جاءت استثناءً لقاعدة عدم رجعية القوانين، إذ نصت على أنه إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائيًا قانون أصلح للمتهم فهو الذي يتبع دون غيره، أي لو أن المتهم ارتكب جريمته قبل صدور قانون الانتخاب الحالي لحوكم عملاً بهذه المادة بمقتضى قانون الانتخاب لا بقانون العقوبات لأنه قانون أصلح للمتهم، فبالأولى لو أن الجريمة وقعت بعد صدور قانون الانتخاب لا قبله، وقد عرضت مثله هذه الحالة إبان فترة الانتقال في فرنسا بين القوانين التي كان معمولاً بها وقت الثورة وبين قانون العقوبات الفرنسي الذي صدر سنة 1810 وكانت الحالة ذات أهمية كبرى لأن البحث كان يشمل جميع الجرائم كما أن العقوبات القديمة التي ارتكبت الجرائم وقت قيام القوانين التي نصت عليها كانت أشد من الجزاء المنصوص عنه في قانون العقوبات الجديد، فعرض الأمر على مجلس الدولة فقضى بأنه (من المبادئ المرعية في المسائل الجنائية أن يؤخذ دائمًا بالرأي الذي في مصلحة الإنسانية والذي يؤدي إلى التبرئة أو التخفيف) (راجع شوفو وهيلي شرح قانون العقوبات جزء أول فقرة 27)، وقضت اللجنة العليا في فرنسا كذلك بتاريخ 19 يوليو سنة 1809 (بأنه يتحتم تطبيق أخف القانونين على المتهم سواء أكان أقدمهما أو أحدثهما) كما أنه جاء في الدكريتو الذي نشر مع قانون العقوبات الفرنسي في 23 يوليو سنة 1810 فقرة هذا تعريبها: إذا كانت العقوبة المنصوص عنها في قانوننا الحديث أخف من العقوبة التي كان ينص عليها القانون الحالي فتطبق المحاكم العقوبة المنصوص عنها في القانون الجديد.
يضاف إلى ما تقدم أن القانون الأخف والقانون القائم وقت ارتكاب الجريمة هو أيضًا قانون خاص، والقاعدة أنه إذا وجد قانون خاص فيعمل به دون العام إذ نظر الشارع حين وضعه إلى ظروف معينة ما كان اعتبرها وقت أن سنَّ القانون العام، فإذا نص الشارع في القانون الخاص على مبدأ أو على عقوبة مخالفة لما جاء في القانون العام، فمعنى هذا أنه قدَّر ظروفًا جديدة طرأت ودعت إلى وضع القانون الجديد ما كان اعتبرها، من قبل فبادر وغيَّر النص القديم بنص جديد على اعتبار أنه هو الرأي الصحيح فيتقرر إلغاء النص القديم على هذا الاعتبار.
يقول أنصار الرأي الآخر بإغفال كل هذه الاعتبارات القانونية الأساسية وسدل الستار عليها واعتبار أن الشارع قصد أن يعاقب بالعقوبات الواردة في المادة (77) على أنواع التهديد التي لم ينص عنها في قانون العقوبات وتطبيق قانون العقوبات على التهديد المنصوص عنه فيه، ولكن خطأ هذا الرأي ظاهر، إذ كيف يستطاع الأخذ به حال أنه لم ينص في القانون على شيء مما يشير إلى هذه التفرقة، وقد جاء نص المادة (77) انتخابات نصًا صريحًا جليًا شاملاً خاليًا من أي قيد يمكن الرجوع بواسطته إلى تأييد هذا الرأي، إلا أن هذا الرأي لحمته الاستنتاج الذي لا يعتمد على أساس صحيح وحجته التفسير الغير القويم وإلا لو كان حقيقة قصد الشارع شيئًا من هذا لنص عليه صراحةً كما فعل في قانون الانتخاب القديم الصادر في سنة 1913 إذ ورد فيه في المادة (48)، وهي المقابلة للمادة (77) من القانون الحالي هذا القيد (إلا إذا كان الفعل معاقبًا عليه بأشد من ذلك بمقتضى نص من نصوص قانون العقوبات)، أفليس في حذف هذا القيد من النص الجديد إعلان صريح بأن الشارع رأى من الظروف ما جعله يعدل عن رأيه الأول فجعل ينظر إلى جرائم التهديد الانتخابية نظرة تختلف عن نظره إليها من قبل، أن مجرد تلاوة نص المادة (48) من القانون القديم مع المادة (77) من القانون الحالي والمقارنة بينهما لكافٍ للاقتناع اقتناعًا وثيقًا بأن الشارع إنما أراد العدول عن رأيه الأول وأنه عهد إلى جعل جميع جرائم التهديد الانتخابية جنحًا لا جنايات.
أما الحكمة التي حدت بالشارع إلى هذا التغيير فهي حكمة يانعة، أساسها مجاراة قواعد روح الاجتماع، فإن الفرد يتأثر في تصرفاته بين المجموع بمؤثرات يكون بعيدًا عنها لو انفرد في تصرفه، ثم اعتبار ما ينشأ من الاضطراب الفكري في نفوس الجمهور وقت قيام المعركة الانتخابية العلم بأن الشخص الذي يرتكب جريمة خاصة بمثل هذه الظروف يكون مساقًا إليها بعوامل تختلف كثيرًا عن العوامل التي تحرك عامل الإجرام في الظروف العادية، يعلم الشارع أن النظام السياسي الحديث من شأنه أن ينشئ في البلد التنازع الحزبي وهذا يسبب التنافس بين هذه الأحزاب فيؤدي هذا التنافس والتجاذب إلى مثل هذه الجرائم ويعلم كذلك أن الأصل في كل هذه المشادات إنما هو العمل لخدمة الأمة ولرفع شأن الوطن فقضى بأن يغض الطرف ولو قليلاً عما ينتج عنها من أمثال جريمتنا هذه وهو يعلم أن كلا العملين فيه إجرام، إلا أن الإجرام السياسي يختلف عنصرًا عن الإجرام العادي.
قد يقال عكس ذلك، قد يقال إن الشارع نظر إلى هذه الجرائم نظرة لا هوادة فيها وقدر أنها ستكون كثيرة متعددة فأوجد النص الجديد يعاقب به على أنواع التهديد التي لم ينص عليها في القانون العام ليقف في طبار هذه الكثرة يشجها، ولكن لم يكن قصد الشارع هذا من جهة لأن فيه إضافة على النص كما قدمنا، ومن جهة فهذا الرأي قد يؤول إلى معاقبة أبسط الجرائم كالمخالفات فعلاً بعقوبات جسيمة لا لشيء إلا لأنها كثيرة.
قيل إن المادة (32) عقوبات تنطبق على حالتنا هذه [(1)] لأنه يوجد جريمتان لكل منهما عقوبة فيجب تطبيق الأشد، الرأي بعيد عن الصحة، إنما يتعين علينا مناقشته لأنه كان ضمن الحجج التي ناضل بها أهل الرأي المخالف لإثبات نظريتهم، الفقرة الأولى من المادة (32) عقوبات تنص على الحالة التي يطلق عليها الشراح قولهم Concour idéal de l’ infraction مثل هذا أن يشرع زيد في قتل عمر فيطلق عليه عيارًا ناريًا فيسبب له إصابة في ساقه تستوجب عجزه عن أعماله الشخصية مدة تقل عن عشرين يومًا، فالمتهم في هذه الحالة يكون ارتكب بفعل واحد جريمتين، الأولى شروع في قتل معاقب عليه في المادة (194) و(45) و(46) عقوبات، والثانية ضرب بالمادة (206) عقوبات، فالقانون يقضي بأن العقوبة الأشد تجب العقوبة الأخف فيعاقب المتهم بعقوبة الشروع في قتل دون عقوبة الضرب، ومثال ذلك أيضًا أن يقدم متهم ورقة مزورة ليستعين بها على أخذ مبلغ بطريق النصب فالعمل واحد إنما مكون لجريمتين الأولى استعمال ورقة مزورة والثانية نصب فيعاقب المتهم بالعقوبة الأشد للجريمتين لا بكلتيهما (راجع جرانمولان شرح قانون العقوبات جزء أول فقرة 458) أما الجزء الثاني من المادة (32) عقوبات فخاص بوقوع جرائم متعددة يجمعها قصد جنائي واحد كمن زور في الدفاتر العمومية بقصد إخفاء جريمة اختلاس ارتكبها فيعاقب المتهم بأشد العقوبتين وهذه الحالة هي ما يسمونه Connexité، وترى أنه من العبث إيجاد وجه شبه بين حالتنا وهاتين الحالتين.
يتبقى بعد ذلك أن نناقش ما إذا كانت الحالة تحتمل أن يقال عنها أنها تنطبق على المادة (47) مكررة عقوبات، هذه المادة حديثة في القانون المصري أضيفت إليه بمقتضى القانون الصادر في 16 يونيو سنة 1910 بعد حادثة قتل سياسي مشهورة وهي وإن تكن حديثة في التشريع المصري إلا أنها قديمة في القانون الفرنسي المأخوذة عنه، وهي تقابل منه المادة (89) ومعدلة بالقانون الصادر في 28 إبريل سنة 1832 وأول خصيصة لهذه المادة هي أنها تعاقب على مجرد الاتفاق الجنائي فهي تخرج بذلك على القواعد العامة وتعاقب على الأعمال التحضيرية لارتكاب الجرائم فهي بادئ ذي بدء مادة قصد بها إدخال حالة جديدة في دائرة قانون العقوبات لم يكن قبل ذلك ينال مرتكبيها جزاءً ما، وقد اشترط الشراح شروطًا أربعة لتكوين هذه الجريمة:
أولاً: أن يكون هناك تصميم على العمل لا مجرد فكرة مبهم تفصيلها.
ثانيًا: أن يكون هذا التصميم قد بُت فيه وتقرر العمل بموجبه.
ثالثًا: أن يكون الاتفاق بين شخصين أو أكثر.
رابعًا: أن يكون الاتفاق الجنائي خاصًا بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عنها في المادتين (86) و(87 ع. ف.) أي التعدي على ولي الأمر أو على سلامة الدولة، وقد أراد الشارع المصري أن يجعل نص المادة شاملاً فلم ينص على الركن الرابع فخالف في ذلك النصوص الفرنسية، إلا أنه لا نزاع في أن الأركان الثلاثة الأخرى غير متوفرة هنا، فليس لدينا أي تصميم على ارتكاب جريمة ما بل لدينا جريمة معينة تمت وانتهى بارتكابها كل ما فكر المتهمون في ارتكابه، وهذا يزيل مباشرة أهم صفة تتبين بها جريمة الاتفاق الجنائي التي أجمع الشراح على أنها جريمة مستمرة (راجع شوفو وهيلي شرح العقوبات جزء ثانٍ فقرة 453 وجرسون شرح قانون العقوبات المادة (89) فقرة (5) و(6) وكذا هيلي وجرو).
على أن الأستاذ جرسون قد تصور حالة مثل حالتنا هذه تمامًا فعجل إلى نفي اعتبار التهديد علامة على وجود الجريمة أو أنه مكون لها فذكر ما يأتي: أن التصميم على التنفيذ يجب أن يقول على نية صادقة جازمة جاءت بناءً على تروٍ سابق فلا يكفي مجرد إظهار الرغبة في ارتكاب الجريمة أو التهديد بارتكابها (جرسون المادة (89) فقرة 9).
لقد أوجزت فيما تقدم الأدلة التي يجب من أجلها اعتبار الحادثة منطبقة على قانون الانتخاب دون العقوبات، وأجبت كذلك على ما نشر من الآراء المخالفة إلا أنه بقيت كلمة عامة عن تفسير القانون الجنائي لها اعتبار خاص في هذا المجال، لأن القول باعتبار الحادثة جناية مبني على المغالاة في التفسير والتمادي في الاستنتاج على أنه يجب على القاضي الجنائي أن يراعي في تفسيره القانون أمرين هامين: الأول أن يكون التفسير ملازمًا للنص خاليًا خاصةً من التوسع والاسترسال في التشبيه والاستنتاج، والأمر الثاني أن يكون القانون الواجب تطبيقه قانونًا صريحًا غير موضع نظر لدى المشتغلين بالقانون، إذ أنه غير مفروض أن يكون الجمهور ملمًا بأطراف الموسوعات القضائية عالمًا بمختلف الآراء، ولا أرى أفضل من أن ألفت النظر في هذه المناسبة إلى ما ذكره شوفو وهيلي في شرح العقوبات جزء أول فقرة (24) وظاهر منها أنه يتحتم رفض الحكم بمقتضى مادة من قانون العقوبات أصبح العمل بها موضع نظر بين الشراح والمشتغلين بالقانون كما لو أصبح هذا القانون مشكوكًا في وجوب تطبيقه لصدور قانون آخر بعده وفي موضوعه وأنه غير لائق بحسن سير العدالة أن يعلق مصير المتقاضين على نتيجة التكلف في الاستقراء والتمادي في تحليل مختلف النظريات، بل يجب دائمًا أن يعول في المحاكمات على الظاهر الواضح من النصوص وأن يفسر دائمًا ما خفي أو استتر لمصلحة من يقع عليهم حكم هذه القوانين.
والرأي المتقدم هو بالذات رأي الشارع الذي وضع المادة (77) من قانون الانتخاب وكان يكفي الإشارة إلى ذلك لإقناع أصحاب الرأي المخالف إلا نه يفضل دائمًا أن تظهر النصوص القانونية منطبقة على روح التشريع، فقد جاء في محضر اللجنة التشريعية [(2)] حين فحص هذه المادة العبارة الآتية معربة عن الفرنساوية: (وقد كان ترتيب الجرائم الانتخابية بحسب ماهيتها وخطورتها وخففت العقوبات التي كانت شديدة في المشروع وهذه العقوبات تحول دون تطبيق عقوبات أشد منها يكون منصوصًا عنها في قانون العقوبات للجرائم المبينة في المواد من (86) إلى (78) من قانون الانتخاب).
مقصود قوسة
[(1)] نشر تحبيذ هذا الرأي والرأي التالي له في مقالتين افتتاحيتين بجريدة السياسة في غضون شهر أكتوبر سنة 1923.
[(2)] هذا المحضر لم ينشر على ما نعلم، إنما اطلعنا على صورة رسمية منه مستخرجة من وزارة الحقانية وعليها توقيع نفس سكرتير اللجنة جناب المسيو واتلي.
م. ق.
كتبهااحمد الجمل ، في 23 مايو 2009 الساعة: 23:42 م
مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الرابعة - عدد يوليه سنة 1924
الجرائم الانتخابية
المادتان (284) فقرة أولى عقوبات والمادتان (76) و(77) فقرة أولى من قانون الانتخاب - المادتان (32) و(47) مكررة عقوبات
تثير دائمًا الانتخابات العامة منازعات ومباحث تختلف وتتباين باختلاف وتباين وجهة نظر الجماعات لا سيما إذا كانت الأمة حديثة العهد بالقانون الذي تجرى الانتخابات بمقتضاه، من ذلك النزاع الذي طرح أمام القضاء خاصًا بجريمة التهديد الكتابية.
هدد شخص آخر كتابةً بارتكاب جريمة ضد النفس معاقب عليها بالقتل أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، وكان التهديد لمنع ناخب من استعمال حق التصويت أو لإكراهه على التصويت على وجه خاص، والجريمة تنطبق على نصين: النص الأول المادة (284) فقرة أولى عقوبات التي جاءت معدلة للمادة القديمة بمقتضى القانون رقم (28) سنة 1910 والنص الثاني الفقرة الأولى من المادة (77) من قانون الانتخاب الصادر في 30 إبريل سنة 1923. فالبحث قائم حول أي القانونين واجب تطبيقه، أقانون العقوبات الذي يجعل الحادثة جناية أم قانون الانتخاب الذي جاء أكثر هوادة وجعل الحادثة جنحة قد يُقضى فيها بالغرامة فقط ؟
وقد اشتد الجدل في أي الرأيين هو الصواب عقب حادثة معينة وقعت إبان المعركة الانتخابية الماضية وتردد ذكرها في مواقف عدة وكان اقتناعنا برأينا القانوني في الحادثة يجعلنا نرى أن الخلاف إنما اشتد بسبب النزعة الحزبية، إلا أننا رأينا كثيرين ممن لم يتأثروا بهذه النزعة يرون الصواب في الرأي المخالف، وهذا ما دعانا إلى إثبات هذا البحث.
إذا رجعنا إلى أي قاعدة من القواعد الأساسية في القانون الجنائي نراها جميعها تشير إلى أن قانون الانتخاب هو القانون الواجب تطبيقه على الحادثة.
فأول هذه القواعد المبدأ الذي يقضي بأن القانون اللاحق يلغي القانون السابق، وقد نص على هذه القاعدة في باب القواعد العمومية من قانون العقوبات في الفقرة الأولى من المادة الخامسة منه، إذ قضت بأنه يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها وهذا هو المبدأ المنطبق على العقل وعلى البداهة، إذ في إصدار الشارع لقانون جديد معنى عدوله عن القانون السابق وإلا فيكون عابثًا متخبطًا، لم يناقش الشراح هذا المبدأ لبداهته إنما ناقشوا القاعدة التي تتفرع منه، الخاصة بمعرفة ما إذا كان يمكن تطبيق القانون الجديد على جريمة وقعت قبل صدوره باعتبار أنه هو القانون الأصوب وقسموا بحثهم إلى قسمين: الأول القوانين الخاصة بالموضوع، والثاني الخاص منها بالشكل وأوجبوا تطبيق القانون الجديد في أحدها دون الآخر، ولا وجه للتمشي في هذا البحث إذ لا علاقة له ببحثنا الذي ينطبق على أصل القاعدة التي بموجبها يطبق القانون المعاصر للحادثة أي الذي حصلت الحادثة بعد إصداره، وقد أورد الدستور في المادتين (26) و(27) منه مقتضى هذه القاعدة والقاعدة المتفرعة منها وهما تقابلان المادة (3) من القانون الأساسي الصادر في 14 يونيو سنة 1883.
والقاعدة الثانية هي التي تقضي بأن يطبق القانون الأخف إذا وجد قانونان مختلفان، وهذه القاعدة واردة كذلك بنص صريح في الفقرة الثانية من المادة (5) عقوبات التي جاءت استثناءً لقاعدة عدم رجعية القوانين، إذ نصت على أنه إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائيًا قانون أصلح للمتهم فهو الذي يتبع دون غيره، أي لو أن المتهم ارتكب جريمته قبل صدور قانون الانتخاب الحالي لحوكم عملاً بهذه المادة بمقتضى قانون الانتخاب لا بقانون العقوبات لأنه قانون أصلح للمتهم، فبالأولى لو أن الجريمة وقعت بعد صدور قانون الانتخاب لا قبله، وقد عرضت مثله هذه الحالة إبان فترة الانتقال في فرنسا بين القوانين التي كان معمولاً بها وقت الثورة وبين قانون العقوبات الفرنسي الذي صدر سنة 1810 وكانت الحالة ذات أهمية كبرى لأن البحث كان يشمل جميع الجرائم كما أن العقوبات القديمة التي ارتكبت الجرائم وقت قيام القوانين التي نصت عليها كانت أشد من الجزاء المنصوص عنه في قانون العقوبات الجديد، فعرض الأمر على مجلس الدولة فقضى بأنه (من المبادئ المرعية في المسائل الجنائية أن يؤخذ دائمًا بالرأي الذي في مصلحة الإنسانية والذي يؤدي إلى التبرئة أو التخفيف) (راجع شوفو وهيلي شرح قانون العقوبات جزء أول فقرة 27)، وقضت اللجنة العليا في فرنسا كذلك بتاريخ 19 يوليو سنة 1809 (بأنه يتحتم تطبيق أخف القانونين على المتهم سواء أكان أقدمهما أو أحدثهما) كما أنه جاء في الدكريتو الذي نشر مع قانون العقوبات الفرنسي في 23 يوليو سنة 1810 فقرة هذا تعريبها: إذا كانت العقوبة المنصوص عنها في قانوننا الحديث أخف من العقوبة التي كان ينص عليها القانون الحالي فتطبق المحاكم العقوبة المنصوص عنها في القانون الجديد.
يضاف إلى ما تقدم أن القانون الأخف والقانون القائم وقت ارتكاب الجريمة هو أيضًا قانون خاص، والقاعدة أنه إذا وجد قانون خاص فيعمل به دون العام إذ نظر الشارع حين وضعه إلى ظروف معينة ما كان اعتبرها وقت أن سنَّ القانون العام، فإذا نص الشارع في القانون الخاص على مبدأ أو على عقوبة مخالفة لما جاء في القانون العام، فمعنى هذا أنه قدَّر ظروفًا جديدة طرأت ودعت إلى وضع القانون الجديد ما كان اعتبرها، من قبل فبادر وغيَّر النص القديم بنص جديد على اعتبار أنه هو الرأي الصحيح فيتقرر إلغاء النص القديم على هذا الاعتبار.
يقول أنصار الرأي الآخر بإغفال كل هذه الاعتبارات القانونية الأساسية وسدل الستار عليها واعتبار أن الشارع قصد أن يعاقب بالعقوبات الواردة في المادة (77) على أنواع التهديد التي لم ينص عنها في قانون العقوبات وتطبيق قانون العقوبات على التهديد المنصوص عنه فيه، ولكن خطأ هذا الرأي ظاهر، إذ كيف يستطاع الأخذ به حال أنه لم ينص في القانون على شيء مما يشير إلى هذه التفرقة، وقد جاء نص المادة (77) انتخابات نصًا صريحًا جليًا شاملاً خاليًا من أي قيد يمكن الرجوع بواسطته إلى تأييد هذا الرأي، إلا أن هذا الرأي لحمته الاستنتاج الذي لا يعتمد على أساس صحيح وحجته التفسير الغير القويم وإلا لو كان حقيقة قصد الشارع شيئًا من هذا لنص عليه صراحةً كما فعل في قانون الانتخاب القديم الصادر في سنة 1913 إذ ورد فيه في المادة (48)، وهي المقابلة للمادة (77) من القانون الحالي هذا القيد (إلا إذا كان الفعل معاقبًا عليه بأشد من ذلك بمقتضى نص من نصوص قانون العقوبات)، أفليس في حذف هذا القيد من النص الجديد إعلان صريح بأن الشارع رأى من الظروف ما جعله يعدل عن رأيه الأول فجعل ينظر إلى جرائم التهديد الانتخابية نظرة تختلف عن نظره إليها من قبل، أن مجرد تلاوة نص المادة (48) من القانون القديم مع المادة (77) من القانون الحالي والمقارنة بينهما لكافٍ للاقتناع اقتناعًا وثيقًا بأن الشارع إنما أراد العدول عن رأيه الأول وأنه عهد إلى جعل جميع جرائم التهديد الانتخابية جنحًا لا جنايات.
أما الحكمة التي حدت بالشارع إلى هذا التغيير فهي حكمة يانعة، أساسها مجاراة قواعد روح الاجتماع، فإن الفرد يتأثر في تصرفاته بين المجموع بمؤثرات يكون بعيدًا عنها لو انفرد في تصرفه، ثم اعتبار ما ينشأ من الاضطراب الفكري في نفوس الجمهور وقت قيام المعركة الانتخابية العلم بأن الشخص الذي يرتكب جريمة خاصة بمثل هذه الظروف يكون مساقًا إليها بعوامل تختلف كثيرًا عن العوامل التي تحرك عامل الإجرام في الظروف العادية، يعلم الشارع أن النظام السياسي الحديث من شأنه أن ينشئ في البلد التنازع الحزبي وهذا يسبب التنافس بين هذه الأحزاب فيؤدي هذا التنافس والتجاذب إلى مثل هذه الجرائم ويعلم كذلك أن الأصل في كل هذه المشادات إنما هو العمل لخدمة الأمة ولرفع شأن الوطن فقضى بأن يغض الطرف ولو قليلاً عما ينتج عنها من أمثال جريمتنا هذه وهو يعلم أن كلا العملين فيه إجرام، إلا أن الإجرام السياسي يختلف عنصرًا عن الإجرام العادي.
قد يقال عكس ذلك، قد يقال إن الشارع نظر إلى هذه الجرائم نظرة لا هوادة فيها وقدر أنها ستكون كثيرة متعددة فأوجد النص الجديد يعاقب به على أنواع التهديد التي لم ينص عليها في القانون العام ليقف في طبار هذه الكثرة يشجها، ولكن لم يكن قصد الشارع هذا من جهة لأن فيه إضافة على النص كما قدمنا، ومن جهة فهذا الرأي قد يؤول إلى معاقبة أبسط الجرائم كالمخالفات فعلاً بعقوبات جسيمة لا لشيء إلا لأنها كثيرة.
قيل إن المادة (32) عقوبات تنطبق على حالتنا هذه [(1)] لأنه يوجد جريمتان لكل منهما عقوبة فيجب تطبيق الأشد، الرأي بعيد عن الصحة، إنما يتعين علينا مناقشته لأنه كان ضمن الحجج التي ناضل بها أهل الرأي المخالف لإثبات نظريتهم، الفقرة الأولى من المادة (32) عقوبات تنص على الحالة التي يطلق عليها الشراح قولهم Concour idéal de l’ infraction مثل هذا أن يشرع زيد في قتل عمر فيطلق عليه عيارًا ناريًا فيسبب له إصابة في ساقه تستوجب عجزه عن أعماله الشخصية مدة تقل عن عشرين يومًا، فالمتهم في هذه الحالة يكون ارتكب بفعل واحد جريمتين، الأولى شروع في قتل معاقب عليه في المادة (194) و(45) و(46) عقوبات، والثانية ضرب بالمادة (206) عقوبات، فالقانون يقضي بأن العقوبة الأشد تجب العقوبة الأخف فيعاقب المتهم بعقوبة الشروع في قتل دون عقوبة الضرب، ومثال ذلك أيضًا أن يقدم متهم ورقة مزورة ليستعين بها على أخذ مبلغ بطريق النصب فالعمل واحد إنما مكون لجريمتين الأولى استعمال ورقة مزورة والثانية نصب فيعاقب المتهم بالعقوبة الأشد للجريمتين لا بكلتيهما (راجع جرانمولان شرح قانون العقوبات جزء أول فقرة 458) أما الجزء الثاني من المادة (32) عقوبات فخاص بوقوع جرائم متعددة يجمعها قصد جنائي واحد كمن زور في الدفاتر العمومية بقصد إخفاء جريمة اختلاس ارتكبها فيعاقب المتهم بأشد العقوبتين وهذه الحالة هي ما يسمونه Connexité، وترى أنه من العبث إيجاد وجه شبه بين حالتنا وهاتين الحالتين.
يتبقى بعد ذلك أن نناقش ما إذا كانت الحالة تحتمل أن يقال عنها أنها تنطبق على المادة (47) مكررة عقوبات، هذه المادة حديثة في القانون المصري أضيفت إليه بمقتضى القانون الصادر في 16 يونيو سنة 1910 بعد حادثة قتل سياسي مشهورة وهي وإن تكن حديثة في التشريع المصري إلا أنها قديمة في القانون الفرنسي المأخوذة عنه، وهي تقابل منه المادة (89) ومعدلة بالقانون الصادر في 28 إبريل سنة 1832 وأول خصيصة لهذه المادة هي أنها تعاقب على مجرد الاتفاق الجنائي فهي تخرج بذلك على القواعد العامة وتعاقب على الأعمال التحضيرية لارتكاب الجرائم فهي بادئ ذي بدء مادة قصد بها إدخال حالة جديدة في دائرة قانون العقوبات لم يكن قبل ذلك ينال مرتكبيها جزاءً ما، وقد اشترط الشراح شروطًا أربعة لتكوين هذه الجريمة:
أولاً: أن يكون هناك تصميم على العمل لا مجرد فكرة مبهم تفصيلها.
ثانيًا: أن يكون هذا التصميم قد بُت فيه وتقرر العمل بموجبه.
ثالثًا: أن يكون الاتفاق بين شخصين أو أكثر.
رابعًا: أن يكون الاتفاق الجنائي خاصًا بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عنها في المادتين (86) و(87 ع. ف.) أي التعدي على ولي الأمر أو على سلامة الدولة، وقد أراد الشارع المصري أن يجعل نص المادة شاملاً فلم ينص على الركن الرابع فخالف في ذلك النصوص الفرنسية، إلا أنه لا نزاع في أن الأركان الثلاثة الأخرى غير متوفرة هنا، فليس لدينا أي تصميم على ارتكاب جريمة ما بل لدينا جريمة معينة تمت وانتهى بارتكابها كل ما فكر المتهمون في ارتكابه، وهذا يزيل مباشرة أهم صفة تتبين بها جريمة الاتفاق الجنائي التي أجمع الشراح على أنها جريمة مستمرة (راجع شوفو وهيلي شرح العقوبات جزء ثانٍ فقرة 453 وجرسون شرح قانون العقوبات المادة (89) فقرة (5) و(6) وكذا هيلي وجرو).
على أن الأستاذ جرسون قد تصور حالة مثل حالتنا هذه تمامًا فعجل إلى نفي اعتبار التهديد علامة على وجود الجريمة أو أنه مكون لها فذكر ما يأتي: أن التصميم على التنفيذ يجب أن يقول على نية صادقة جازمة جاءت بناءً على تروٍ سابق فلا يكفي مجرد إظهار الرغبة في ارتكاب الجريمة أو التهديد بارتكابها (جرسون المادة (89) فقرة 9).
لقد أوجزت فيما تقدم الأدلة التي يجب من أجلها اعتبار الحادثة منطبقة على قانون الانتخاب دون العقوبات، وأجبت كذلك على ما نشر من الآراء المخالفة إلا أنه بقيت كلمة عامة عن تفسير القانون الجنائي لها اعتبار خاص في هذا المجال، لأن القول باعتبار الحادثة جناية مبني على المغالاة في التفسير والتمادي في الاستنتاج على أنه يجب على القاضي الجنائي أن يراعي في تفسيره القانون أمرين هامين: الأول أن يكون التفسير ملازمًا للنص خاليًا خاصةً من التوسع والاسترسال في التشبيه والاستنتاج، والأمر الثاني أن يكون القانون الواجب تطبيقه قانونًا صريحًا غير موضع نظر لدى المشتغلين بالقانون، إذ أنه غير مفروض أن يكون الجمهور ملمًا بأطراف الموسوعات القضائية عالمًا بمختلف الآراء، ولا أرى أفضل من أن ألفت النظر في هذه المناسبة إلى ما ذكره شوفو وهيلي في شرح العقوبات جزء أول فقرة (24) وظاهر منها أنه يتحتم رفض الحكم بمقتضى مادة من قانون العقوبات أصبح العمل بها موضع نظر بين الشراح والمشتغلين بالقانون كما لو أصبح هذا القانون مشكوكًا في وجوب تطبيقه لصدور قانون آخر بعده وفي موضوعه وأنه غير لائق بحسن سير العدالة أن يعلق مصير المتقاضين على نتيجة التكلف في الاستقراء والتمادي في تحليل مختلف النظريات، بل يجب دائمًا أن يعول في المحاكمات على الظاهر الواضح من النصوص وأن يفسر دائمًا ما خفي أو استتر لمصلحة من يقع عليهم حكم هذه القوانين.
والرأي المتقدم هو بالذات رأي الشارع الذي وضع المادة (77) من قانون الانتخاب وكان يكفي الإشارة إلى ذلك لإقناع أصحاب الرأي المخالف إلا نه يفضل دائمًا أن تظهر النصوص القانونية منطبقة على روح التشريع، فقد جاء في محضر اللجنة التشريعية [(2)] حين فحص هذه المادة العبارة الآتية معربة عن الفرنساوية: (وقد كان ترتيب الجرائم الانتخابية بحسب ماهيتها وخطورتها وخففت العقوبات التي كانت شديدة في المشروع وهذه العقوبات تحول دون تطبيق عقوبات أشد منها يكون منصوصًا عنها في قانون العقوبات للجرائم المبينة في المواد من (86) إلى (78) من قانون الانتخاب).
مقصود قوسة
[(1)] نشر تحبيذ هذا الرأي والرأي التالي له في مقالتين افتتاحيتين بجريدة السياسة في غضون شهر أكتوبر سنة 1923.
[(2)] هذا المحضر لم ينشر على ما نعلم، إنما اطلعنا على صورة رسمية منه مستخرجة من وزارة الحقانية وعليها توقيع نفس سكرتير اللجنة جناب المسيو واتلي.
م. ق.
الجريمة المستحيلة
مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الجريمة المستحيلة
في الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على الجريمة الخائبةDélit Man qué على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883 بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27 فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94) انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية فهو استبدادي Arbitraire ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل (النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة، وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة 1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة 1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24 مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
خليل عفت ثابت
قاضي محكمة الأقصر الجزئية
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الجريمة المستحيلة
في الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على الجريمة الخائبةDélit Man qué على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883 بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27 فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94) انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية فهو استبدادي Arbitraire ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل (النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة، وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة 1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة 1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24 مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
خليل عفت ثابت
قاضي محكمة الأقصر الجزئية
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)