· حيث أن النيابة العامة أسندت إلى المتهم فى القضية رقم 4119 / 1980 جنح مركز المنيا أنه فى يوم 10 / 5 / 1980 بدائرة المركز ، ضبط بالطريق العام بحالة سكر بين ، وطلبت النيابة عقابه بالمواد 1 ، 7 ، 9 من القانون رقم 63 / 1976 بشأن حظر الخمور.
· وحيث أن محكمة مركز المنيا قضت حضوريا بجلسة 18 / 5 / 1980 بحبس المتهم شهرا واحدا مع الشغل والنفاذ ، فاستأنف ذاك المتهم بذات التاريخ.
· وحيث أن النيابة العامة بجلسة المحاكمة طلبت تأييد الحكم المستأنف . وحضر المتهم ودفاعه بالجلسة.
المحكمــة
بعد تلاوة تقرير التلخيص الذى تلاه السيد رئيس المحكمة.
وبعد سماع المرافعة الشفهية ومطالعة الأوراق ، والمداولة قانونا.
· وحيث أن الاستئناف قدم فى الميعاد القانونى ، واستوفى شرائطه القانونية ، ومن ثم فهو مقبول شكلا عملا بنص المادتين 402 ، 406 من قانون الإجراءات الجنائية.
· وحيث أنه لدى سؤال المتهم بالجلسة أنكر ما نسب إليه.
· وحيث أن الحكم المستأنف فى محله للأسباب الواردة به ، والتى تأخذ بها هذه المحكمة قاعدة من قواعد هذا الحكم.
· وحيث أن الاتهام ثابت قبل المتهم من محضر ضبط الواقعة ومما هو مبين بالأوراق ، إذ قرر المتهم أن ما حدث منه كان ـ غصبا عنه ـ وأنه ما كان يعلم أن الكينا التى ثمل منها مسكرة ، ثم علل تقريره هذا أمام النيابة العامة بأسلوب الاعتراف وذلك بتاريخ 12 / 5 / 1980 قائلا : إنه ما شرب المشروب الكحولى إلا لكى يشفى من مرضه.
· وحيث أن المتهم لم يدفع الاتهام بأى دفاع مقبول ، ومن ثم يتعين عقابه طبقا لمواد القيد عملا بنص المادة 304 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية.
· وحيث أن المحكمة لا يفوتها أن تشير ـ قبلا ـ فى تجلة واحترام إلى قرار النيابة العامة ـ الصادر منها إثر فراغها من تحقيق الاتهام بتاريخ 12 / 5/ 1980 ـ بحبس المتهم مع تقديمه إلى المحاكمة مقيد الحرية يرسف فى أغلال ما جنت يداه ، فهذا القرار ما كان منها إلا على طريق الإيمان بالله عملا على تحقيق الانضباط الخلقى السليم فى المجتمع ولئن كانت النيابة قد قامت من جانبها بهذا الإجراء المشروع لها ، إلا أنه فاتها استعمال حقها المواتى لها ، وتعنى به المحكمة : استئناف حكم محكمة أول درجة بهدف التشديد على المتهم ، وذلك حتى يتسنى لهذه المحكمة أن تنزل بالمتهم العقاب الأقصى بشقيه تعديلا للحكم الجزئى ، فأصبحت المحكمة بإزاء متهم استعمل حقه باستئنافه المنظور فقط وهو منطق معكوس.
والمتهم السكير بمنطقه الطبيعى والفطرى معا ، على هذا ، يظمأ إلى براءة. لكنها أصبحت له أمام هذه المحكمة : كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ (يَحْسَبُهُ الظَمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ) [النور : 39] .
والمحكمة لا تقرر ذلك منطلقا من سراب بل من واقع الأوراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* جنحة 6273 لسنة 1980 جنح مستأنف المنيا
· وحيث أنه يهم المحكمة أولا وقبل كل شيء أن ترسى قضاء ـ فى حدود إرادة الله ـ تجعل تعاليم الإسلام بمبادئه السامية هى خاتمة المطاف ، إذ أن الدين عند الله الإسلام ، وبه تضع المحكمة نصب أعين هذا المتهم ـ وأمثاله ـ قواعد عادلة تسرى على جميع خلق الله إلى يوم الدين.
والإنجيل ذاته جعل الخمر محرمة ، فقد جاء فى أكثر من موضع بالكتاب المقدس أمر بعدم شرب الخمر . ففى رسالة بولس إلى أهل أفسوس بالإصحاح ( 5 : 18 ) " ولا تسكروا بالخمر الذى فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح " . ومن أمثال سليمان بالإصحاح ( 20 : 1 ) "الخمر مستهزئة ، والمسكر عجاج ، ومن يترنح بهما فليس بحكيم " .
· وحيث أن المسيحية تمج الخمر ولا تنادى بشربها ، وموقفها من شارب الخمر دقيق وصريح ، لا تبيحها ، وتؤثم شاربها وتلعنه ، لا بل إنها تلعن من يقدم كأسا واحدة منها لصاحبه ، وهى تحذر الناس بلغة قوية حتى من الاقتراب منها. تقول الأمثال ( 23 – 29 – 32 ) : " لمن الويل ، لمن الشقاوة ؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب ؟ لمن الجروح بلا سبب؟ لمن إزمهرار العينين ؟ للذين يدمنون الخمر " وقد جاء فى رسالة الرسول بولس الأولى إلى أهل كورنتوس إصحاح 10 عدد 23 : " كل الأشياء تحل لى ، لكن ليس كل الأشياء توافق. كل الأشياء تحل لى لكن ليس كل الأشياء تبنى " ومن الاستثناء الواضح فى كلمة " لكن " ترى المحكمة أن شرب الخمر لا يوافق المجتمع الإيمانى الذى ينبغى أن نعيشه ، ولا يوافق ظروفنا المادية لأن الخمر هى قمة الهدم : هدم صحة شاربها وكرامته ونفسيته ومادياته. وفى الكتاب المقدس أيضا :
1 ـ " لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حباتها فى الكأس وساغت مرقرقة ، فى الآخر تلسع كالحية ، وتلدغ كالأفعوان : خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك .
2 ـ " عنبهم عنب سم ، ولهم عناقيد مرارة ، خمرهم جمة الثعابين وسم الأصلال القاتل "
3 ـ " هؤلاء ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر "
4 ـ " الزنا والخمر والسلافة تخلب القلب ، حقا إن الخمر غادرة ".
5 ـ " اصحوا أيها السكارى ، وابكوا وولولوا يا جميع شاربى الخمر "
6 ـ لا زناة ، لا سارقون ، لا طماعون ، لا سكيرون يرثون ملكوت الله " .
· وحيث أن المحكمة تقرر وهى بإزاء استعراضها للواقعة ، بأنها واقعة مثال : مثال لكارثة خلقية بأى معيار ، وبكل الاعتبارات والمقاييس ، وأن أمثال هذه الواقعة كثير : ارتكب ولا يزال يرتكبها آخرون لا يمثلون اليوم ـ كالمتهم ـ فى قفص الاتهام مقيدى الحرية ، غلت أيديهم ، وتعنى المحكمة بهؤلاء : أساطين الخمارات ، ونوادى وصالات اللعب والقمار اللذين هم : لمراكزهم أو لشخصياتهم أو لمادياتهم ـ بكل أسف ـ يُتركون. والمتهم فى مثل هذه الوقائع المزرية ـ والماثل خير مثال على ذلك ـ عادة ما يكون شخصا بسيطا عاديا ليست له الحظوة أو السطوة أو الوزن الاجتماعى وفقا للمعايير ـ المشبوهة ـ السائدة فى هذا المجتمع. فهناك متهمون عديدون لحمتهم الخمر وسداهم ، لا ينالهم أبدا صوت الاتهام ولا قيد السجان ورسف الأغلال ، وهؤلاء فى دولتنا ـ عقابهم عند الله يوم القيامة : جهنم وبئس المصير ،هم وإن كانوا قد فروا من طائلة القانون العقابى فى الدنيا إلا أنهم لن يستطيعوا أبدا أن يفروا من الله.
· وحيث أن المحكمة ـ هنا تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد أن تضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه تحت أى وصف ، ومن خلال أى عذر أن يشرب ، وأن تضع نصب أعينها أنه أولى بها أن تحارب الشرب شرا فى مكامنه وجذوره هنا وهناك حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى والله عزيز حكيم.
· وحيث أن الإسلام ـ كنص الدستور ـ هو دين الدولة ، والشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع فإن المحكمة فى هذا المقام تردد قول الله سبحانه وتعالى ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [ المائدة : 47 ] كما تستحضر قول الخالق (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [ النساء : 59 ] وأخيرا تستعرض قول العزيز الجبار (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [ النساء : 65 ]
ومنطلقا من هذا فإن للمحكمة هنا وقفة لابد منها ـ دون معقب ـ لإعلاء كلمة الله :
إن الإسلام : وهو خاتم الديانات جميعا ، قد حرم الخمر تحريما قاطعا ، يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ ) [ المائدة : 90 ـ 91 ]
هذا النص ولاشك قاطع الدلالة على تحريم الخمر ، لأن شاربها كعابد الأوثان من دون الله كافر ، وفوق هذا فإنها أم الخبائث كما وصفها خاتم الأنبياء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
تأسيسا على ذلك ـ وقد أورد التقرير الطبى المودع بالأوراق ـ أن المتهم " تناول مشروبا كحوليا ، وفى حالة سكر بين " ـ فإن المحكمة تقر بأن العقوبات الإسلامية فى الحدود مقدرة ـ ذات حد واحد ـ وليس للقاضى أن يستبدل بها عقوبات أخرى ، ومن جهة أخرى فإن طبيعة العقوبات فى الشريعة الإسلامية لا تسمح بالتفريق فى العقوبة بين فرد وفرد ولا بين مسلم وغير مسلم ، وأن لكل جريمة فى الإسلام عقوبتها ـ فمن ارتكب جريمة استحق عقوبتها على أى مذهب أو دين لأن العقوبة فى الإسلام ـ كما هى فى الشرائع السماوية ـ تتجه إلى العدالة وحماية الفضيلة والأخلاق ، وإن العقوبات التى يكون هدفها كذلك ، لا ينظر فيها إلى مقدار الجريمة ، إنما ينظر فيها إلى مقدار آثار الجريمة فى المجتمع ، والفضيلة التى عمل الإسلام على حمايتها هى الفضيلة الخلقية التى تنظم السلوك الإنسانى العام دون نظر إلى إرضاء الناس أو ملاءمتها لأغراضهم إذا كانت ـ كالخمر ـ مفسدة فلا تخضع للأوضاع ولا لأعراف الناس ، كى يحكم عليهم بالخير أو الشر.
ومن ثم فإنه بالنسبة لحد الشرب فإن جمهور الفقهاء حرموا الخمرعلى المسلمين وغير المسلمين ، ومن يشربها يكون قد ارتكب جريمة يعاقب عليها ، وبمقتضى قاعدة أن " لغير المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " يجب أن يعاقب كل من على غير دين الإسلام بما يعاقب به المسلم سواء بسواء.
وبالبناء على ما تقدم : فالخمر لا تُعد حلالا فى دين من الأديان ، واستباحة النصارى لها ـ ليست بالقواعد التى أسلفنا ـ استباحة مشتقة من دينهم ، فدينهم حرمها . كما وأن التدخل لمنعها لا يُعد تدخلا فى الحرية الدينية ، إذ التدخل يكون إذا كانت المسألة أمرا يطلبه دينهم ولا يحرمه ويحبب فيه بينما يمنعه الإسلام أو يعاقب عليه. والحال فى الخمر ليس كذلك إذ أن الديانتين تتفقان على تحريمها تماما.
ومن ناحية أخرى فالحدود تعد أحكامها من النظام العام ، وما هو كذلك بهذا الوصف يطبق حتما على جميع المقيمين بالدولة دون تفرقة بين دين ودين ، وإنما كانت الحدود ـ إقامة ـ من النظام العام لأنها لحماية الفضيلة والآداب العامة فى الأمة ، وفضلا عن ذلك فإن كل ما ورد به نص مجمع عليه عند فقهاء الشريعة يعد فى الإسلام من النظام العام.
وأخيرا فإن سد الذرائع المؤدية إلى الشر توجب وضع العقوبات الزاجرة لمن يشرب الخمر أو يسكر منها ، فى أى موضع سواء. إذ أن رؤية المسلم غيره يشرب الخمر يغريه هو بها فكان سدا للذريعة أن يعمم العقاب حيث لا استثناء فى قانون الله ، وحيث كان المرض يجب القضاء عليه ، وحيثما كان الجانى وجبت عقوبته دون التفات إلى جنسه أو دينه ، إذ عدم إقامة الحد تعطيل للحدود وهذا إثم عظيم.
ومتى استقام ما تقدم وكانت الواقعة على ما جاء بمدونات الدعوى وما جرت به التحقيقات قد قام الدليل على ثبوتها وصحة إسنادها إلى المتهم فإنه يتعين رفض الاستئناف موضوعا وتأييد الحكم المستأنف مصداقا لقول الله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [ القيامة : 38]
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بقبول الاستئناف شكلا وفى الموضوع برفضه وبتأييد الحكم المستأنف.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
08 أكتوبر 2011
خمور / (4) سكر بين بالطريق العام وإدانة والنفاذ
· حيث أن النيابة العامة أسندت إلى المتهم أنه بتاريخ 13 / 9 / 1978 بدائرة قسم بنى سويف
1ـ تناول مشروبات كحولية بالطريق العام
2ـ وجد بحالة سكر بين بالطريق العام.
وطلبت عقابه بالمواد 1 ، 2 / 1 ، 5 ، 7 ، 8 ، 9 من القانون رقم 36 / 1976 بحظر شرب الخمر.
· وحيث أن الاتهام ثابت قبل المتهم ـ المعلن لجلسة 11 / 10 / 1980 ـ من محضر ضبط الواقعة المحرر بتاريخ 13 / 9 / 1978 بمعرفة رئيس مكافحة جرائم الآداب والذى أورد بصدر محضره أن المتهم تواجد خلف شركة بيع المصنوعات : يهذى وبجواره زجاجة إلى نصفها تنفذ منها رائحة كحولية نفاذة ، واتضح له من بطاقة المتهم الشخصية اسمه ومهنته ، كما وجد بداخلها مبلغا من المال ، وورقة يانصيب وكشف نتيجة رهانات على سباق خيل.
· وحيث أن الاتهام ثابت أيضا قبل المتهم من الكشف الطبى رقم 15063 والذى أورى أنه " بتوقيع الكشف الطبى على المتهم وجد أنه فى حالة سكر بين ، وقد تم غسيل معدته " .
· وحيث أنه بسؤال المتهم بمحضر الضبط اعترف بما أسند إليه معللا الواقعة الإجرامية بأنه مريض بانخفاض ضغطه ، ,أنه لن يشرب مرة أخرى بالطريق وبأنه يجهل القانون.
· وحيث أنه لدى سؤال المتهم أمام النيابة العامة أنكر .
· وحيث أن المتهم لم يحضر المحاكمة لدفع الاتهام بأى دفاع مقبول ومن ثم ينعين عقابه طبقا لمواد الاتهام عملا بنص المادة 304 / 20 من قانون الإجراءات الجنائية.
· وحيث أنه بادئ ذى بدء فإن المحكمة تقرر بأن دفاع المتهم بالأوراق بمرضه مردود شرعا بقول الله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [البقرة : 173 ] وقولـه عز من قائل :(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [ المائدة : 3 ] وقد أدى هذا الاستثناء إلى نظر الفقهاء فى الإباحة عند التداوى بالمحرم ، والتقت آراؤهم حول الاستثناء فقالوا بالإباحة فى حدود القدر الذى يزول به الضرر ، وهذا لا يتوافر إلا بشرطين :
الأول : الرجوع إلى الطبيب الذى يصف الدواء ، بشرط أن يكون مسلما ، ثقة ، مأمونا ، معروفا بالصدق والأمانة.
الثانى : ألا يوجد من الحلال ما يقوم مقام هذا المحرم الممنوع ، على أن تكون حالة المريض تفرض تناول هذا النوع المحرم من الدواء ، ذلك أنه من المقرر فى الإسلام : " أن الضرورات تبيح المحظورات" . وحسبنا أن ندرك فى هذا المقام ما فى هذا الدين الحنيف من يسر ، فهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج مع تعليق الأمر كله بالنية المستقرة والمستكنة ، ثم بالتقوى وهذه أمور كلها موكولة إلى الله وحده.
· وحيث أنه انطلاقا مما نصت عليه المادة الثانية من الدستور من أن الإسلام دين الدولة ، ومبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع ، ثم ما نصت عليه المادة السابعة من قانون العقوبات من أنه: "لا تخل أحكام هذا القانون بأى حال من الأحوال ، بالحقوق المقررة فى الشريعة الغراء" ومن ثم فإن الله تعالى قال : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء : 59]
ــــــــــــــــــــــــــ
* جنحة رقم 7517 لسنة 1978 جنح بندر بني سويف.
· وحيث أنه بالبناء على ما تقدم تستحضر المحكمة فى ذهنها لدى هذا القضاء قول الله فى الخمر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ ) [ المائدة : 90 ـ 91]
ومما لا شك فيه ، والحال كذلك أن هذا النص قاطع الدلالة على تحريم الخمر إذ أن شاربها كعابد الأوثان من دون الله كافر ، وفوق ذلك فهى " أم الخبائث " كما وصفها صلى الله عليه وسلم .
· وحيث إن فقهاء المذاهب الثلاثة قد أجمعوا ثلاثتهم على أن : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " . وعلى أن كل مسكر يطلق عليه اسم الخمر ويأخذ حكمه ، ومن ثم فإن الشريعة الإسلامية الغراء فى عمومها وشمولها وأصالة قواعدها صالحة لكل زمان ومكان قادرة على حكم الناس جميعهم ، ووضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام دستورا فوق دستور البشر ينتظم الجميع فى محبة وسلام.
· وحيث أن كل تشريع أو حكم يخالف ما جاء به الإسلام باطل ويجب رده والاحتكام إلى شريعة الله ، كما يجب على كل مسلم أن يأمر بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وليس لأحد أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تُقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل فى نفاذ شريعة الله بين الناس ، بل إن التسويف فى إقرار القوانين الإسلامية معصية لله ورسوله واتباع لطريق الغي والهوى دون الرشاد والهدى ، وقد ورد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
· وحيث إنه ليس أبلغ من الحاجة إلى الرجوع ـ تماما ـ إلى الإسلام الحنيف ، وأن على علماء الأزهر بث الدعوة الإسلامية ، ونشرها فى كل دروب الحياة ومسالكها علما وعملا ، بل وقديما كانت الرعية توجه الحاكم وتنصحه وترشده إلى اتباع شرع الله والالتزام بأحكامه ، وصدق الله القائل : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَّفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك ) [ المائدة : 49] ذلك أن الذين جعلوا القرآن عضين من الحكام أو العلماء هم أعدى أعداء الله ، شياطين خرساء صمتت عن الحق وقوله لتجمعهم الولائم والمناصب أو المال الحرام ، وقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله". وحين قال : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " . وإن الجور كل الجور أن لا يحكم بكتاب الله ، وألا يكون دستورا فى دولة كنيتها : " العلم والإيمان "
· وحيث إن المحكمة كان يعنيها تماما أن تعزف عن تطبيق حكم قانون وضعى أجوف هالك متهالك ، أخل فعلا بالحقوق المقررة بالشريعة الغراء فضلا عن الدستور لكونه مستقى من شرائع دول أخرى لا تؤمن بالله ربا ولا بمحمد نبيا ورسولا ، فى الوقت الذى كانت تهفو نفس المحكمة فيه إلى أن تطبق حدا من حدود الله على مثل هذا الآثم السكير الذى لم يدع إلاً ولا ذمة إلا داسها وقد تناول المشروب الحرام ثم وجد بحالة سكر بين بالطريق العام. ولئن كانت المحكمة قد غلت يمناها فى مرارة وكمد وهى تفتش عن نص إسلامى زاجر تطبقه فخرا لها واعتزازا به فلا تجد حتى بالمجهر ، إلا أنه بقى لها أمران ولا معقب عليها من بشر !
الأمر الأول : تناشد المحكمة كلا من السيد رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية فى دورتها هذه ـ دون تردد ولا هوادة ـ إبراء لذمتهما أمام الله والناس . تناشدهما إقرار مشروعات قوانين الله ورسوله المقدمة إليهما بصدد حدود الله فى الخمر والسرقة والردة والزنا والقذف والحرابة ، أيضا فى القصاص والديات وتحريم الفوائد ، وذلك قياسا على قانون حماية القيم من العيب رقم 95 / 1980 وغيره من القوانين الأخرى المجافية لتعاليم الله.
الأمر الثانى : تقرر المحكمة إزاء استعراضها للواقعة الماثلة بأنها مثال حقيقى لكارثة خلقية بأى معيار ، ومثالها فى مصر كثير ، فهناك متهمون آخرون لحمتهم وسداهم احتساء الخمر ، ورغم أنهم عديدون حقا إلا أنه لا ينالهم أبدا سوط الاتهام ولا قيد السجان أو رسف الأغلال ، وكل هذا تحت سياج من سيادة القانون ذاته ، والمحكمة تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، أن تضرب بيد من حديد على يد هؤلاء وأولئك حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
ومتى استقام ما تقدم وكانت الواقعة على ما جاء بمدونات الدعوى العمومية وما جرت به التحقيقات وما ثبت بالأوراق قد قام الدليل على ثبوتها وصحة إسنادها إلى المتهم فإنه مصداقا لقول الله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [ المدثر : 38 ]
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة غيابيا : بحبس المتهم ستة أشهر مع الشغل وتغريمه مائتا جنيه والنفاذ عن كل من العقوبتين.
محكمة جنح قسم بنى سويف
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
محمود السيد السبروت وكيل النائب العام
محمد محمود عبد الله أمين السر
جلسة 1 / 11 / 1980
1ـ تناول مشروبات كحولية بالطريق العام
2ـ وجد بحالة سكر بين بالطريق العام.
وطلبت عقابه بالمواد 1 ، 2 / 1 ، 5 ، 7 ، 8 ، 9 من القانون رقم 36 / 1976 بحظر شرب الخمر.
· وحيث أن الاتهام ثابت قبل المتهم ـ المعلن لجلسة 11 / 10 / 1980 ـ من محضر ضبط الواقعة المحرر بتاريخ 13 / 9 / 1978 بمعرفة رئيس مكافحة جرائم الآداب والذى أورد بصدر محضره أن المتهم تواجد خلف شركة بيع المصنوعات : يهذى وبجواره زجاجة إلى نصفها تنفذ منها رائحة كحولية نفاذة ، واتضح له من بطاقة المتهم الشخصية اسمه ومهنته ، كما وجد بداخلها مبلغا من المال ، وورقة يانصيب وكشف نتيجة رهانات على سباق خيل.
· وحيث أن الاتهام ثابت أيضا قبل المتهم من الكشف الطبى رقم 15063 والذى أورى أنه " بتوقيع الكشف الطبى على المتهم وجد أنه فى حالة سكر بين ، وقد تم غسيل معدته " .
· وحيث أنه بسؤال المتهم بمحضر الضبط اعترف بما أسند إليه معللا الواقعة الإجرامية بأنه مريض بانخفاض ضغطه ، ,أنه لن يشرب مرة أخرى بالطريق وبأنه يجهل القانون.
· وحيث أنه لدى سؤال المتهم أمام النيابة العامة أنكر .
· وحيث أن المتهم لم يحضر المحاكمة لدفع الاتهام بأى دفاع مقبول ومن ثم ينعين عقابه طبقا لمواد الاتهام عملا بنص المادة 304 / 20 من قانون الإجراءات الجنائية.
· وحيث أنه بادئ ذى بدء فإن المحكمة تقرر بأن دفاع المتهم بالأوراق بمرضه مردود شرعا بقول الله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [البقرة : 173 ] وقولـه عز من قائل :(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [ المائدة : 3 ] وقد أدى هذا الاستثناء إلى نظر الفقهاء فى الإباحة عند التداوى بالمحرم ، والتقت آراؤهم حول الاستثناء فقالوا بالإباحة فى حدود القدر الذى يزول به الضرر ، وهذا لا يتوافر إلا بشرطين :
الأول : الرجوع إلى الطبيب الذى يصف الدواء ، بشرط أن يكون مسلما ، ثقة ، مأمونا ، معروفا بالصدق والأمانة.
الثانى : ألا يوجد من الحلال ما يقوم مقام هذا المحرم الممنوع ، على أن تكون حالة المريض تفرض تناول هذا النوع المحرم من الدواء ، ذلك أنه من المقرر فى الإسلام : " أن الضرورات تبيح المحظورات" . وحسبنا أن ندرك فى هذا المقام ما فى هذا الدين الحنيف من يسر ، فهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج مع تعليق الأمر كله بالنية المستقرة والمستكنة ، ثم بالتقوى وهذه أمور كلها موكولة إلى الله وحده.
· وحيث أنه انطلاقا مما نصت عليه المادة الثانية من الدستور من أن الإسلام دين الدولة ، ومبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع ، ثم ما نصت عليه المادة السابعة من قانون العقوبات من أنه: "لا تخل أحكام هذا القانون بأى حال من الأحوال ، بالحقوق المقررة فى الشريعة الغراء" ومن ثم فإن الله تعالى قال : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء : 59]
ــــــــــــــــــــــــــ
* جنحة رقم 7517 لسنة 1978 جنح بندر بني سويف.
· وحيث أنه بالبناء على ما تقدم تستحضر المحكمة فى ذهنها لدى هذا القضاء قول الله فى الخمر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ ) [ المائدة : 90 ـ 91]
ومما لا شك فيه ، والحال كذلك أن هذا النص قاطع الدلالة على تحريم الخمر إذ أن شاربها كعابد الأوثان من دون الله كافر ، وفوق ذلك فهى " أم الخبائث " كما وصفها صلى الله عليه وسلم .
· وحيث إن فقهاء المذاهب الثلاثة قد أجمعوا ثلاثتهم على أن : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " . وعلى أن كل مسكر يطلق عليه اسم الخمر ويأخذ حكمه ، ومن ثم فإن الشريعة الإسلامية الغراء فى عمومها وشمولها وأصالة قواعدها صالحة لكل زمان ومكان قادرة على حكم الناس جميعهم ، ووضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام دستورا فوق دستور البشر ينتظم الجميع فى محبة وسلام.
· وحيث أن كل تشريع أو حكم يخالف ما جاء به الإسلام باطل ويجب رده والاحتكام إلى شريعة الله ، كما يجب على كل مسلم أن يأمر بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وليس لأحد أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تُقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل فى نفاذ شريعة الله بين الناس ، بل إن التسويف فى إقرار القوانين الإسلامية معصية لله ورسوله واتباع لطريق الغي والهوى دون الرشاد والهدى ، وقد ورد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
· وحيث إنه ليس أبلغ من الحاجة إلى الرجوع ـ تماما ـ إلى الإسلام الحنيف ، وأن على علماء الأزهر بث الدعوة الإسلامية ، ونشرها فى كل دروب الحياة ومسالكها علما وعملا ، بل وقديما كانت الرعية توجه الحاكم وتنصحه وترشده إلى اتباع شرع الله والالتزام بأحكامه ، وصدق الله القائل : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَّفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك ) [ المائدة : 49] ذلك أن الذين جعلوا القرآن عضين من الحكام أو العلماء هم أعدى أعداء الله ، شياطين خرساء صمتت عن الحق وقوله لتجمعهم الولائم والمناصب أو المال الحرام ، وقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله". وحين قال : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " . وإن الجور كل الجور أن لا يحكم بكتاب الله ، وألا يكون دستورا فى دولة كنيتها : " العلم والإيمان "
· وحيث إن المحكمة كان يعنيها تماما أن تعزف عن تطبيق حكم قانون وضعى أجوف هالك متهالك ، أخل فعلا بالحقوق المقررة بالشريعة الغراء فضلا عن الدستور لكونه مستقى من شرائع دول أخرى لا تؤمن بالله ربا ولا بمحمد نبيا ورسولا ، فى الوقت الذى كانت تهفو نفس المحكمة فيه إلى أن تطبق حدا من حدود الله على مثل هذا الآثم السكير الذى لم يدع إلاً ولا ذمة إلا داسها وقد تناول المشروب الحرام ثم وجد بحالة سكر بين بالطريق العام. ولئن كانت المحكمة قد غلت يمناها فى مرارة وكمد وهى تفتش عن نص إسلامى زاجر تطبقه فخرا لها واعتزازا به فلا تجد حتى بالمجهر ، إلا أنه بقى لها أمران ولا معقب عليها من بشر !
الأمر الأول : تناشد المحكمة كلا من السيد رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية فى دورتها هذه ـ دون تردد ولا هوادة ـ إبراء لذمتهما أمام الله والناس . تناشدهما إقرار مشروعات قوانين الله ورسوله المقدمة إليهما بصدد حدود الله فى الخمر والسرقة والردة والزنا والقذف والحرابة ، أيضا فى القصاص والديات وتحريم الفوائد ، وذلك قياسا على قانون حماية القيم من العيب رقم 95 / 1980 وغيره من القوانين الأخرى المجافية لتعاليم الله.
الأمر الثانى : تقرر المحكمة إزاء استعراضها للواقعة الماثلة بأنها مثال حقيقى لكارثة خلقية بأى معيار ، ومثالها فى مصر كثير ، فهناك متهمون آخرون لحمتهم وسداهم احتساء الخمر ، ورغم أنهم عديدون حقا إلا أنه لا ينالهم أبدا سوط الاتهام ولا قيد السجان أو رسف الأغلال ، وكل هذا تحت سياج من سيادة القانون ذاته ، والمحكمة تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، أن تضرب بيد من حديد على يد هؤلاء وأولئك حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
ومتى استقام ما تقدم وكانت الواقعة على ما جاء بمدونات الدعوى العمومية وما جرت به التحقيقات وما ثبت بالأوراق قد قام الدليل على ثبوتها وصحة إسنادها إلى المتهم فإنه مصداقا لقول الله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [ المدثر : 38 ]
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة غيابيا : بحبس المتهم ستة أشهر مع الشغل وتغريمه مائتا جنيه والنفاذ عن كل من العقوبتين.
محكمة جنح قسم بنى سويف
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
محمود السيد السبروت وكيل النائب العام
محمد محمود عبد الله أمين السر
جلسة 1 / 11 / 1980
مور /(5) سكر بين بالطريق العام وإدانة والنفاذ
وحيث أن النيابة العامة أسندت إلى المتهم أنه بتاريخ 16 / 11 / 1981 بدائرة قسم بولاق ضبط بحالة سكر بين بالطريق العام ، وطلبت عقابه بالمواد 1 ، 2 ، 3 ، 7 من القانون رقم / 1976 بحظر شرب الخمر.
· وحيث أن الاتهام ثابت من قبل المتهم ـ المحبوس احتياطيا ـ وذلك من محضر ضبط الواقعة المحرر 17 / 11 / 1981 الساعة الواحدة صباحا بمعرفة أحد أمناء الشرط والذى أورد بصدر محضره أن الجانى ضبط يسير بالطريق العام يتسكع يمنة ويسرة ، وبالاقتراب منه تبين أن فمه تفوح منه رائحة الخمر ، فقام باصطحابه لديوان القسم ، ثم بسؤاله ، اعترف بتناول الخمر دون إكراه من أحد ، وطلب السماح بنهاية أقواله.
· وحيث أن الاتهام ثابت أيضا من الكشف الطبى رقم 5136 الموقع على الجانى بتاريخ 16 / 11 / 1981 والذى أورى أنه " وجد فى حالة سكر بين وليس فى إدراكه الكامل "
· وحيث أنه لدى سؤال المتهم أمام النيابة العامة بتاريخ 17 / 11 / 1981 ، أنكر نسبة الاتهام إليه ، معللا سبب إسناد الاتهام إليه أنه تشاجر مع أمين الشرطة.
· وحيث أن المتهم لم يدفع الاتهام بأى دفاع مقبول ومن ثم يتعين عقابه طبقا لمواد الاتهام عملا بنص المادة 304 / 2 أ . جـ
الجانب الإلهى :
· وحيث أن الشريعة الإسلامية حرمت الخمر تحريما قاطعا ، فهى " أم الخبائث " وتراها مضيعة للنفس والعقل والصحة والمال والدين فحرمتها منذ أربعة عشر قرنا ، ووضعت التحريم موضع التنفيذ منذ نزلت آيات التحريم ، إلا أن مصر تطبق القوانين الوضعية ، وتعطل أحكام الشريعة الإسلامية ، فأصبحت الخمر مباحة لشاربها ـ ولا عقاب على شربها أو السكر منها ، الهم إلا إذا وجد شاربها فى حالة سكر بين بالطريق العام ، فإن كان السكر بينا ولكن فى محل خاص فلا عقاب عليه ، أى أن العقوبة التى يقررها القانون المصري ليست على شرب الخمر ولا على السكر وإنما على وجود السكران فى طريق عام ، كما هو الحال فى تلكم الدعوى ، وذاك الاثم.
· وحيث أن الله جلت قدرته قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ المائدة : 90 ] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " . وقوله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه". وقوله صلى الله عليه وسلم : " من شرب الخمر فاجلدوه " . والخمر محرمة سواء على المسلم أو غيره : فالقاعدة : أن السكر تحرمه الأديان جميعا
وقد رأى فقهاء الإسلام ـ لكل ما سبق ـ حد " غير المسلم " على السكر ، وليس فى قواعد الشريعة ما يمنع من تطبيق حد الشرب على "غير المسلمين " إذ تبين أن السماح لهم بشرب الخمر يؤدى إلى الفساد الاجتماعى ، ولا شك أنه يؤدى إلى ذلك ، لأن السماح لهم بالشرب يقتضى وجود الخمر فى البلاد مما يشجع المسلم على شربها وهذا ـ بالتالى ـ يؤدى إلى هدم قواعد التحريم وإذا كانت الدول المسيحية واليهودية ـ بعضها ـ يحرم الخمر على رعاياها مسيحيين وبوذيين ومسلمين فأولى بالدول الإسلامية أن تحرم الخمر على رعاياها أيا كانت ديانتهم ومذاهبهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جنحة رقم 3000 لسنة 1981 جنح بلدية القاهرة قسم بولاق أبو العلا.
· وحيث أن ركنى الجريمة فى الإسلام هما الشرب والقصد الجنائي قد توافرا لدى الجانى ، فهو قد شرب " كأسين " حسبما قرر ، وحسبما أورى تقرير الطبيب وكفى لاعتباره شاربا أن يصل المشروب إلى حلقه ، بله يعتبر كذلك إذا شرب المسكر لدفع العطش ، أما من شرب مضطرا لدفع " غصته " فلا حد عليه لقوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) [البقرة: 173] كذا من شرب مكرها ـ ماديا أو أدبيا ـ فلا حد عليه لقول رسول الله : " عفى الله لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " والرأى الراجح حد الجانى المتداوى بالخمر إذا شربها المريض لقول رسول الله : " من تداوى بالخمر فلا شفاه الله ، إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها " . ويشترط أن يؤدى الشرب إلى السكر ، وهذا ما توافر للجانى الماثل بما تبينته المحكمة من الأوراق وبالنسبة للقصد الجنائى فإنه توفر بعلم الجانى أنه شرب خمرا ، ولا يقبل الجهل ممن نشأ فى بلاد المسلمين لأن نشأته بينهم تجعل العلم بالتحريم مفترضا فيه ، وعلى أى الأوضاع لا يقبل الادعاء بجهل القانون.
· وحيث أنه انطلاقا مما نصت عليه المادة الثانية من الدستور من أن " الإسلام دين الدولة ، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع " ومما نصت عليه المادة السابعة من قانون العقوبات من أنه : " لا تُخِلُّ أحكام هذا القانون فى أى حال من الأحوال بالحقوق المقررة بالشريعة الغراء " . تقول المحكمة أنه انطلاقا من هذا وذاك فإن الله قال : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [ النساء : 59 ] وتأسيسا على ما تقدم وكان النص القرآنى ـ بصدد الخمر ـ قاطع الدلالة على تحريمها ، ومن ثم فإن القرآن : بتعاليمه وأصوله وقواعده أنزله الله على النبى الكريم محمد ؛ وكلفه بتبليغه للناس كافة ، وبالتالى فإن الشريعة الإسلامية الغراء فى عمومها ، وشمولها وأصالة قواعدها صالحة لكل زمان ومكان ، قادرة على حكم الناس جميعهم ـ دينا ودنيا ـ ووضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل ، والحلال والحرام دستورا ينتظم الجميع فى محبة وسلام.
· وحيث أن كل تشريع أو قانون أو حكم يخالف ما جاء به الإسلام : باطل ويجب رده والاحتكام إلى شريعة الديان هجرا وصدا ونكرانا لشريعة الإنسان ، كما يجب الأمر بتطبيق الشريعة الإسلامية لزاما ، وليس لأحد أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل ، لا بل إن التسويف فى إقرار القوانين الإسلامية معصية لله ورسوله ، واتباع لطريق الغى والهوى دون الرشاد والهدى ، وليس أبلغ من الحاجة إلى الرجوع تماما إلى الإسلام الحنيف ، وأن على علماء الأزهر بث الدعوة الإسلامية ونشرها علما وعملا فى كل دروب الحياة ومسالكها.
· وحيث أنه وقد استقام ما تقدم فإن مشروع قانون الذى قدم إلى مجلس الشعب بتاريخ 20 / 12 / 1975 ـ وغيره ـ بشأن تعديل قانون العقوبات أو القانون رقم 63 / 1976 ـ تعديلا يصبح بمقتضاه قانونا إسلاميا كاملا قد نص فى المادة 324 منه على أنه : " يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها " . ومصدر هذا النص العقابى ما أثر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه استشار عليا بن أبى طالب كرم الله وجهه فى عقوبة شارب الخمر فقال : " نرى أن يجلد ثمانين لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحد المفترى ثمانون جلدة ".
والأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا إذ هى من حقوق الله الخالصة ، وليسس للأفراد أو الجماعة إسقاطها أو العفو عنها ، والعقوبة ـ هنا ـ لا تنفذ على السكران حتى يفيق لأن العقوبة جعلت للتأديب والزجر ، والسكران لا يشعر تماما بما يحدث له ، وعند التنفيذ يضرب ـ الجانى ـ بسوط غير يابس ضربا متوسطا ـ ثمانين جلدة ـ لئلا يجرح أو يبرح ، وأن لا يكون بالسوط عقد فى طرفه حتى لا يصاب الجسم ، ويضرب الجانى قائما ، والمرأة جالسة ، ويكون الضرب على سائر الأعضاء إلا الوجه والفرج والرأس.
· وحيث أن هذه المحكمة كانت تهفو إلى أن تطبق حدا من حدود الله على مثل هذا الآثم السكير الذى لم يدع إلا ولا ذمة إلا وداسها عندما شرب ثم وجد بحالة سكر بين بالطري االعام ، ولئن كانت هذه المحكمة قد غلت يمناها فى مرارة وكمد وهى تفتش عن نص إسلامى زاجر تطبقه فخرا لها واعتزازا به فلا تجد ، إلا أنه بقى لها أمر ـ ولا معقب عليها من أحد !
أن تناشد كلا من السيد رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية التوأم ، دون تردد ولا هوادة ولا لين ، وغبراء لذمتهما أمام الله والناس : إقرار مشروعات القوانين المقدمة إلى الأخيرة خاصة بحدود الله ، وإخراجها من حيز الطمس إلى حيز اللمس ، ومن حيز الخنوع إلى نطاق الخضوع لله ، ومن حيز الأدراج إلى نطاق الإفراج ، ومن حيز التنميق إلى نطاق التنفيذ ، ومن حيز التنميق إلى حيز التطبيق ، وكل هذا قياسا على قوانين حماية القيم من العيب رقم 95 / 1980 ، وتعديل قانون الأحوال الشخصية ، وحماية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى ونص المادة 179 من قانون العقوبات الوضعى ، وغيرها كثير ، وذلك نزولا على قوله تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَّفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك ) [ المائدة : 49]
كما تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، ومن بينها جهاز الشرطة أن تضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه ـ تحت أى وصف ، ومن خلال أى عذر ـ أن يشرب الخمر وان تضع نصب أعينها أنه لا استثناء فى قانون الله ، أنه : " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " . ومن ثم فأولى بها أن تحارب الشرب شرا فى مكامنه وجذوره فى كل مكان ، خلقا للانضباط الحق ومنعا للتسيب المهين حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى والله عزيز حكيم. وأن عليها أن تحارب السكر حيث يكون وتضربه وأصحابه فى مكامنه وجذوره ، بما لها من سلطات واستخبارات سرية لا حد لها شريطة الحصول على إذن مسبق من النيابة العامة فثمة جناة الخمر لحمتهم والسكر سداهم.
· وحيث أن النظام القانونى المصرى فى هيكله العام نظاما قانونينا إسلاميا وفقا للدستور فإنه لا محل فيه إذن لقداسة التشريع الوضعى فى خصوصية حدود الله.
· وحيث أنه متى استقام ما تقدم ومصداقا لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : 38 ]
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة حضوريا بحبس المتهم ستة أشهر مع الشغل والنفاذ
محكمة جنح قسم بولاق أبو العلا (البلدية)
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
رمضان عبد الحليم بدر وكيل النائب العام
محمد عبد الحميد نصر أمين السر
جلسة 12 / 12 / 1981
· وحيث أن الاتهام ثابت من قبل المتهم ـ المحبوس احتياطيا ـ وذلك من محضر ضبط الواقعة المحرر 17 / 11 / 1981 الساعة الواحدة صباحا بمعرفة أحد أمناء الشرط والذى أورد بصدر محضره أن الجانى ضبط يسير بالطريق العام يتسكع يمنة ويسرة ، وبالاقتراب منه تبين أن فمه تفوح منه رائحة الخمر ، فقام باصطحابه لديوان القسم ، ثم بسؤاله ، اعترف بتناول الخمر دون إكراه من أحد ، وطلب السماح بنهاية أقواله.
· وحيث أن الاتهام ثابت أيضا من الكشف الطبى رقم 5136 الموقع على الجانى بتاريخ 16 / 11 / 1981 والذى أورى أنه " وجد فى حالة سكر بين وليس فى إدراكه الكامل "
· وحيث أنه لدى سؤال المتهم أمام النيابة العامة بتاريخ 17 / 11 / 1981 ، أنكر نسبة الاتهام إليه ، معللا سبب إسناد الاتهام إليه أنه تشاجر مع أمين الشرطة.
· وحيث أن المتهم لم يدفع الاتهام بأى دفاع مقبول ومن ثم يتعين عقابه طبقا لمواد الاتهام عملا بنص المادة 304 / 2 أ . جـ
الجانب الإلهى :
· وحيث أن الشريعة الإسلامية حرمت الخمر تحريما قاطعا ، فهى " أم الخبائث " وتراها مضيعة للنفس والعقل والصحة والمال والدين فحرمتها منذ أربعة عشر قرنا ، ووضعت التحريم موضع التنفيذ منذ نزلت آيات التحريم ، إلا أن مصر تطبق القوانين الوضعية ، وتعطل أحكام الشريعة الإسلامية ، فأصبحت الخمر مباحة لشاربها ـ ولا عقاب على شربها أو السكر منها ، الهم إلا إذا وجد شاربها فى حالة سكر بين بالطريق العام ، فإن كان السكر بينا ولكن فى محل خاص فلا عقاب عليه ، أى أن العقوبة التى يقررها القانون المصري ليست على شرب الخمر ولا على السكر وإنما على وجود السكران فى طريق عام ، كما هو الحال فى تلكم الدعوى ، وذاك الاثم.
· وحيث أن الله جلت قدرته قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ المائدة : 90 ] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " . وقوله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه". وقوله صلى الله عليه وسلم : " من شرب الخمر فاجلدوه " . والخمر محرمة سواء على المسلم أو غيره : فالقاعدة : أن السكر تحرمه الأديان جميعا
وقد رأى فقهاء الإسلام ـ لكل ما سبق ـ حد " غير المسلم " على السكر ، وليس فى قواعد الشريعة ما يمنع من تطبيق حد الشرب على "غير المسلمين " إذ تبين أن السماح لهم بشرب الخمر يؤدى إلى الفساد الاجتماعى ، ولا شك أنه يؤدى إلى ذلك ، لأن السماح لهم بالشرب يقتضى وجود الخمر فى البلاد مما يشجع المسلم على شربها وهذا ـ بالتالى ـ يؤدى إلى هدم قواعد التحريم وإذا كانت الدول المسيحية واليهودية ـ بعضها ـ يحرم الخمر على رعاياها مسيحيين وبوذيين ومسلمين فأولى بالدول الإسلامية أن تحرم الخمر على رعاياها أيا كانت ديانتهم ومذاهبهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جنحة رقم 3000 لسنة 1981 جنح بلدية القاهرة قسم بولاق أبو العلا.
· وحيث أن ركنى الجريمة فى الإسلام هما الشرب والقصد الجنائي قد توافرا لدى الجانى ، فهو قد شرب " كأسين " حسبما قرر ، وحسبما أورى تقرير الطبيب وكفى لاعتباره شاربا أن يصل المشروب إلى حلقه ، بله يعتبر كذلك إذا شرب المسكر لدفع العطش ، أما من شرب مضطرا لدفع " غصته " فلا حد عليه لقوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) [البقرة: 173] كذا من شرب مكرها ـ ماديا أو أدبيا ـ فلا حد عليه لقول رسول الله : " عفى الله لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " والرأى الراجح حد الجانى المتداوى بالخمر إذا شربها المريض لقول رسول الله : " من تداوى بالخمر فلا شفاه الله ، إن الله لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها " . ويشترط أن يؤدى الشرب إلى السكر ، وهذا ما توافر للجانى الماثل بما تبينته المحكمة من الأوراق وبالنسبة للقصد الجنائى فإنه توفر بعلم الجانى أنه شرب خمرا ، ولا يقبل الجهل ممن نشأ فى بلاد المسلمين لأن نشأته بينهم تجعل العلم بالتحريم مفترضا فيه ، وعلى أى الأوضاع لا يقبل الادعاء بجهل القانون.
· وحيث أنه انطلاقا مما نصت عليه المادة الثانية من الدستور من أن " الإسلام دين الدولة ، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع " ومما نصت عليه المادة السابعة من قانون العقوبات من أنه : " لا تُخِلُّ أحكام هذا القانون فى أى حال من الأحوال بالحقوق المقررة بالشريعة الغراء " . تقول المحكمة أنه انطلاقا من هذا وذاك فإن الله قال : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [ النساء : 59 ] وتأسيسا على ما تقدم وكان النص القرآنى ـ بصدد الخمر ـ قاطع الدلالة على تحريمها ، ومن ثم فإن القرآن : بتعاليمه وأصوله وقواعده أنزله الله على النبى الكريم محمد ؛ وكلفه بتبليغه للناس كافة ، وبالتالى فإن الشريعة الإسلامية الغراء فى عمومها ، وشمولها وأصالة قواعدها صالحة لكل زمان ومكان ، قادرة على حكم الناس جميعهم ـ دينا ودنيا ـ ووضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل ، والحلال والحرام دستورا ينتظم الجميع فى محبة وسلام.
· وحيث أن كل تشريع أو قانون أو حكم يخالف ما جاء به الإسلام : باطل ويجب رده والاحتكام إلى شريعة الديان هجرا وصدا ونكرانا لشريعة الإنسان ، كما يجب الأمر بتطبيق الشريعة الإسلامية لزاما ، وليس لأحد أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل ، لا بل إن التسويف فى إقرار القوانين الإسلامية معصية لله ورسوله ، واتباع لطريق الغى والهوى دون الرشاد والهدى ، وليس أبلغ من الحاجة إلى الرجوع تماما إلى الإسلام الحنيف ، وأن على علماء الأزهر بث الدعوة الإسلامية ونشرها علما وعملا فى كل دروب الحياة ومسالكها.
· وحيث أنه وقد استقام ما تقدم فإن مشروع قانون الذى قدم إلى مجلس الشعب بتاريخ 20 / 12 / 1975 ـ وغيره ـ بشأن تعديل قانون العقوبات أو القانون رقم 63 / 1976 ـ تعديلا يصبح بمقتضاه قانونا إسلاميا كاملا قد نص فى المادة 324 منه على أنه : " يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها " . ومصدر هذا النص العقابى ما أثر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه استشار عليا بن أبى طالب كرم الله وجهه فى عقوبة شارب الخمر فقال : " نرى أن يجلد ثمانين لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحد المفترى ثمانون جلدة ".
والأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا إذ هى من حقوق الله الخالصة ، وليسس للأفراد أو الجماعة إسقاطها أو العفو عنها ، والعقوبة ـ هنا ـ لا تنفذ على السكران حتى يفيق لأن العقوبة جعلت للتأديب والزجر ، والسكران لا يشعر تماما بما يحدث له ، وعند التنفيذ يضرب ـ الجانى ـ بسوط غير يابس ضربا متوسطا ـ ثمانين جلدة ـ لئلا يجرح أو يبرح ، وأن لا يكون بالسوط عقد فى طرفه حتى لا يصاب الجسم ، ويضرب الجانى قائما ، والمرأة جالسة ، ويكون الضرب على سائر الأعضاء إلا الوجه والفرج والرأس.
· وحيث أن هذه المحكمة كانت تهفو إلى أن تطبق حدا من حدود الله على مثل هذا الآثم السكير الذى لم يدع إلا ولا ذمة إلا وداسها عندما شرب ثم وجد بحالة سكر بين بالطري االعام ، ولئن كانت هذه المحكمة قد غلت يمناها فى مرارة وكمد وهى تفتش عن نص إسلامى زاجر تطبقه فخرا لها واعتزازا به فلا تجد ، إلا أنه بقى لها أمر ـ ولا معقب عليها من أحد !
أن تناشد كلا من السيد رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية التوأم ، دون تردد ولا هوادة ولا لين ، وغبراء لذمتهما أمام الله والناس : إقرار مشروعات القوانين المقدمة إلى الأخيرة خاصة بحدود الله ، وإخراجها من حيز الطمس إلى حيز اللمس ، ومن حيز الخنوع إلى نطاق الخضوع لله ، ومن حيز الأدراج إلى نطاق الإفراج ، ومن حيز التنميق إلى نطاق التنفيذ ، ومن حيز التنميق إلى حيز التطبيق ، وكل هذا قياسا على قوانين حماية القيم من العيب رقم 95 / 1980 ، وتعديل قانون الأحوال الشخصية ، وحماية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى ونص المادة 179 من قانون العقوبات الوضعى ، وغيرها كثير ، وذلك نزولا على قوله تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَّفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك ) [ المائدة : 49]
كما تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، ومن بينها جهاز الشرطة أن تضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه ـ تحت أى وصف ، ومن خلال أى عذر ـ أن يشرب الخمر وان تضع نصب أعينها أنه لا استثناء فى قانون الله ، أنه : " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " . ومن ثم فأولى بها أن تحارب الشرب شرا فى مكامنه وجذوره فى كل مكان ، خلقا للانضباط الحق ومنعا للتسيب المهين حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى والله عزيز حكيم. وأن عليها أن تحارب السكر حيث يكون وتضربه وأصحابه فى مكامنه وجذوره ، بما لها من سلطات واستخبارات سرية لا حد لها شريطة الحصول على إذن مسبق من النيابة العامة فثمة جناة الخمر لحمتهم والسكر سداهم.
· وحيث أن النظام القانونى المصرى فى هيكله العام نظاما قانونينا إسلاميا وفقا للدستور فإنه لا محل فيه إذن لقداسة التشريع الوضعى فى خصوصية حدود الله.
· وحيث أنه متى استقام ما تقدم ومصداقا لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : 38 ]
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة حضوريا بحبس المتهم ستة أشهر مع الشغل والنفاذ
محكمة جنح قسم بولاق أبو العلا (البلدية)
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
رمضان عبد الحليم بدر وكيل النائب العام
محمد عبد الحميد نصر أمين السر
جلسة 12 / 12 / 1981
خمور / ( 6 ) سكر بين بالطريق العام وبراءة
· وحيث أن النيابة العامة أسندت إلى المتهم أنه بتاريخ 8 / 10 / 1980 بدائرة قسم بنى سويف ، وجد بحالة سكر بين بالطريق العام ، وطلبت عقابه بالمواد 1 ، 2 من القانون 63 / 1976 بحظر شرب الخمر.
· وحيث أن المتهم حضر بالجلسة مقيد الحرية مقدما بجلسة 11 / 10 / 1980 من قبل النيابة العامة التى تملك ذلك. والمتهم أنكر أمام المحكمة ما هو منسوب إليه.
· وحيث أن محضر ضبط الواقعة أبان عن أن عدة أشخاص قد اطرحت الأرض تلعب قمارا ، وباقتراب سيارة الشرطة منهم : فروا جميعا هاربين عدا الماثل فقد تمكنت الشرطة من ضبطه ، وأثناء محاورته اشتم الضابط رائحة مواد كحولية تنبعث من فمه ، ولاحظ أيضا أنه يترنح وقد هم بركوب سيارة الشرطة . وبتحويل المتهم إلى المستشفى للكشف طبيا عليه أفادت النتيجة المرافقة للأوراق أن المتهم وجد بحالة سكر بين وذلك من رائحة فمه ومن الفحص الإكلينكى ، ,أنه قد أخذت عينات من دمه وقيئه وبوله لإرسالها إلى المعمل للتحليل.
· وحيث أنه بسؤال المتهم لدى الشرطة بتاريخ 8 / 10 / 1980 أنكر ما أسند إليه مقررا ملكيته لمبلغ الخمسة جنيهات التى وجدت معه ، كما أنكر عن نفسه من ناحية أخرى لعب القمار.
· وحيث أن المتهم أمام النيابة العامة ـ الخصم الشريف له ولكل متهم ـ ومنذ مطلع التحقيق معه أنكر تماما ما أسند إليه.
· وحيث أن المتهم بجلسة المحاكمة العلنية أنكر أيضا ما هو منسوب إليه.
· وحيث أن المحكمة حجزت الدعوى للحكم فيها بجلسة اليوم.
· وحيث أن استنادا إلى إنكار المتهم أمام جهتى التحقيق والاستجواب ، تأسيسا على واقعة أخرى لو حققتها النيابة العامة لأدى ذلك إلى براءة ساحة المتهم منذ فجر التحقيق بحفظ الأوراق إداريا ، إلا أن الجهة المعنية لم تحفل بتحقيق تلك الواقعة المتعلقة ببيع المتهم سمكا لمحرر المحضر ، ثم لما لم يعجبه هذا السمك عاد ليلقى به فى وجه المتهم وحدثت مشادة أدت إلى تدبير واقعة المحضر الجديد هذا له لاتهامه بوجوده فى حالة سكر بين بالطريق العام زورا ومكيدة للمتهم ، وزجا به فى متاهات أخرى ما كان يتصورها أو يحسب لها حسابا.
· وحيث أن المحكمة من جانبها لا يمكن لها أن تدين بريئا ، اطمأن وجدانها إلى قيام الشك فى إسناد الاتهام إليه ، فقد كان صوت المتهم بالتحقيقات ينطوى على نبرات من الظلم والحيف قد وقع به ، ومنه تستشف المحكمة براءة المتهم من الاتهام براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، خاصة وأن ثمة واقعة أومأ إليها المتهم يجأر بها دون خشية السلطة الأولى ألا وهى الشرطة ، وتعنى بها المحكمة سابق الخلاف بينه وبين محرر بلاغ النجدة.
· وحيث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد صدق قوله : " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ، فإنه خير للقاضى أن يقضى بالعفو من أن يتعدى بالعقوبة " . ويعنى هذا أن القاعدة العامة فى الشريعة الإسلامية أن الحدود تدرأ بالشبهات والحدود هى العقوبات المقدرة ، وإذا كان الأصل أن لهذه القاعدة أخذت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم سالف البسط ، ومنه تلقته الأمة بالقبول والطاعة ، وأجمع
ــــــــــــــــــــــــــــ
* قضية رقم 12930 لسنة 1980 جنح بندر بني سويف.
عليه فقهاء الأمصار ، فإنه قد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه أنه قال : " لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلىَّ من أن أقيمها بالشبهات " .
وإذا كان التعريف الفقهى للشبهة أنها هى : " ما يشبه الثابت وليس بثابت " . فإنه من الأمثلة عليها : شبهة عدم الثبوت الذى يتمثل ـ هنا ـ فى عدم تحقيق سلطة الاتهام لسابق الخلاف بين المتهم الماثل ومحرر بلاغ النجدة وبالتالى فثمة شبهة ، ووجب تبرئة ساحة المتهم مما هو منسوب إليه وذلك لقيام الشبهة فى ركن من أركان الجريمة التى تحاكم عنها هذه المحكمة ، كذلك لقيام تلك الشبهة فى ثبوت الجريمة أو إسنادها إلى المتهم.
ومن ناحية أخرى فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سالف البيان ـ أيضا ـ يعنى فى شقة الأخير أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أن الجانى قد ارتكب الجريمة ، فإذا كان هناك شك فى أن الجانى قد ارتكبها ، وجب العفو عنه قضاء ببراءته مما هو منسوب إليه ، لأن براءة المجرم حال الشك خير للجماعة ، وأدعى إلى تحقيق العدالة من عقاب البرئ حال قيام الشك.
ومتى استقام ما تقدم وكانت الواقعة على ما جاء بمدونات الدعوى العمومية وما جرت به التحقيقات ، وما ثبت من الأوراق قد قام الدليل فيها ومنها على هزة الاتهام لدى قضاء هذه المحكمة إذ أن القضاء الجنائي على وجه الخصوص قضاء يقينى بحت ، والمحكمة تقضي بما انتهت إليه عملا بنص المادة 304 / 1 من قانون الإجراءات الجنائية . ونزولا على قاعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادرءوا الحدود بالشبهات " فى المقام الأول.
لهذه الأسباب
حكمت المحكمة حضوريا : ببراءة المتهم مما هو منسوب إليه
محكمة جنح قسم بنى سويف
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
محمود السيد سبروت وكيل النائب العام
محمد محمود عبد الله أمين السر
جلسة 8 / 11 /1980
· وحيث أن المتهم حضر بالجلسة مقيد الحرية مقدما بجلسة 11 / 10 / 1980 من قبل النيابة العامة التى تملك ذلك. والمتهم أنكر أمام المحكمة ما هو منسوب إليه.
· وحيث أن محضر ضبط الواقعة أبان عن أن عدة أشخاص قد اطرحت الأرض تلعب قمارا ، وباقتراب سيارة الشرطة منهم : فروا جميعا هاربين عدا الماثل فقد تمكنت الشرطة من ضبطه ، وأثناء محاورته اشتم الضابط رائحة مواد كحولية تنبعث من فمه ، ولاحظ أيضا أنه يترنح وقد هم بركوب سيارة الشرطة . وبتحويل المتهم إلى المستشفى للكشف طبيا عليه أفادت النتيجة المرافقة للأوراق أن المتهم وجد بحالة سكر بين وذلك من رائحة فمه ومن الفحص الإكلينكى ، ,أنه قد أخذت عينات من دمه وقيئه وبوله لإرسالها إلى المعمل للتحليل.
· وحيث أنه بسؤال المتهم لدى الشرطة بتاريخ 8 / 10 / 1980 أنكر ما أسند إليه مقررا ملكيته لمبلغ الخمسة جنيهات التى وجدت معه ، كما أنكر عن نفسه من ناحية أخرى لعب القمار.
· وحيث أن المتهم أمام النيابة العامة ـ الخصم الشريف له ولكل متهم ـ ومنذ مطلع التحقيق معه أنكر تماما ما أسند إليه.
· وحيث أن المتهم بجلسة المحاكمة العلنية أنكر أيضا ما هو منسوب إليه.
· وحيث أن المحكمة حجزت الدعوى للحكم فيها بجلسة اليوم.
· وحيث أن استنادا إلى إنكار المتهم أمام جهتى التحقيق والاستجواب ، تأسيسا على واقعة أخرى لو حققتها النيابة العامة لأدى ذلك إلى براءة ساحة المتهم منذ فجر التحقيق بحفظ الأوراق إداريا ، إلا أن الجهة المعنية لم تحفل بتحقيق تلك الواقعة المتعلقة ببيع المتهم سمكا لمحرر المحضر ، ثم لما لم يعجبه هذا السمك عاد ليلقى به فى وجه المتهم وحدثت مشادة أدت إلى تدبير واقعة المحضر الجديد هذا له لاتهامه بوجوده فى حالة سكر بين بالطريق العام زورا ومكيدة للمتهم ، وزجا به فى متاهات أخرى ما كان يتصورها أو يحسب لها حسابا.
· وحيث أن المحكمة من جانبها لا يمكن لها أن تدين بريئا ، اطمأن وجدانها إلى قيام الشك فى إسناد الاتهام إليه ، فقد كان صوت المتهم بالتحقيقات ينطوى على نبرات من الظلم والحيف قد وقع به ، ومنه تستشف المحكمة براءة المتهم من الاتهام براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، خاصة وأن ثمة واقعة أومأ إليها المتهم يجأر بها دون خشية السلطة الأولى ألا وهى الشرطة ، وتعنى بها المحكمة سابق الخلاف بينه وبين محرر بلاغ النجدة.
· وحيث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد صدق قوله : " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ، فإنه خير للقاضى أن يقضى بالعفو من أن يتعدى بالعقوبة " . ويعنى هذا أن القاعدة العامة فى الشريعة الإسلامية أن الحدود تدرأ بالشبهات والحدود هى العقوبات المقدرة ، وإذا كان الأصل أن لهذه القاعدة أخذت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم سالف البسط ، ومنه تلقته الأمة بالقبول والطاعة ، وأجمع
ــــــــــــــــــــــــــــ
* قضية رقم 12930 لسنة 1980 جنح بندر بني سويف.
عليه فقهاء الأمصار ، فإنه قد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه أنه قال : " لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلىَّ من أن أقيمها بالشبهات " .
وإذا كان التعريف الفقهى للشبهة أنها هى : " ما يشبه الثابت وليس بثابت " . فإنه من الأمثلة عليها : شبهة عدم الثبوت الذى يتمثل ـ هنا ـ فى عدم تحقيق سلطة الاتهام لسابق الخلاف بين المتهم الماثل ومحرر بلاغ النجدة وبالتالى فثمة شبهة ، ووجب تبرئة ساحة المتهم مما هو منسوب إليه وذلك لقيام الشبهة فى ركن من أركان الجريمة التى تحاكم عنها هذه المحكمة ، كذلك لقيام تلك الشبهة فى ثبوت الجريمة أو إسنادها إلى المتهم.
ومن ناحية أخرى فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سالف البيان ـ أيضا ـ يعنى فى شقة الأخير أنه لا يصح الحكم بالعقوبة إلا بعد التثبت من أن الجانى قد ارتكب الجريمة ، فإذا كان هناك شك فى أن الجانى قد ارتكبها ، وجب العفو عنه قضاء ببراءته مما هو منسوب إليه ، لأن براءة المجرم حال الشك خير للجماعة ، وأدعى إلى تحقيق العدالة من عقاب البرئ حال قيام الشك.
ومتى استقام ما تقدم وكانت الواقعة على ما جاء بمدونات الدعوى العمومية وما جرت به التحقيقات ، وما ثبت من الأوراق قد قام الدليل فيها ومنها على هزة الاتهام لدى قضاء هذه المحكمة إذ أن القضاء الجنائي على وجه الخصوص قضاء يقينى بحت ، والمحكمة تقضي بما انتهت إليه عملا بنص المادة 304 / 1 من قانون الإجراءات الجنائية . ونزولا على قاعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادرءوا الحدود بالشبهات " فى المقام الأول.
لهذه الأسباب
حكمت المحكمة حضوريا : ببراءة المتهم مما هو منسوب إليه
محكمة جنح قسم بنى سويف
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
محمود السيد سبروت وكيل النائب العام
محمد محمود عبد الله أمين السر
جلسة 8 / 11 /1980
خمور / ( 7 ) سكر بين بالطريق العام وإحالة إلى المحكمة الدستورية العليا
· وحيث أن النيابة العامة أسندت إلى الجانى أنه بتاريخ 18 / 12 / 1981 بدائرة قسم بولاق ، ضبط بالطريق العام بحالة سكر بين وطلبت إنزال العقاب به وفقا لنصوص المواد 2 ، 3 ، 5 ، 7 من القانون 63 / 1976 بحظر شرب الخمر.
الجانب القانونى :
· حيث أن واقعات الدعوى سرت على الوجه التالى :
محضر ضبط الواقعة المحرر بتاريخ 18 / 12 / 1981 فى الساعة العاشرة مساء والمحرر بمعرفة أحد السادة أمناء الشرطة الثابت به أن أحد السادة نقباء الشرطة ظفر بالمتهم حالة كونه بالطريق العام فى سكر بين ، فقام بأسره وسلمه لمحقق الواقعة فأنهى الجانى إلى الأخير أنه وهو ذو ثمان وعشرين عاما ويعمل حداد مسلح : قد شرب اختيارا وطواعية منه ودون ضغط أو إكراه من أحد لكونه كان ـ حسب تعبيره ـ إلى حد ما متضايقا ، وأنكر سبق الشرب من ذى قبل ثم رفض التوقيع على سابق ما تقرر.
أرفق بالأوراق تقرير طبى رقم 2468 بذات التاريخ السابق صادرا عن مستشفى بولاق العام ، وثابت به أن الجانى كان بحالة سكر بين .
قامت النيابة العامة بالتحقيق مع الجانى ، فأنكر مقررا أنه ما أخذ إلا من داره ، بسبب مديونيته لآحاد الناس ، وعرج منكرا ما تقرر بمحضر الضبط ، نافيا سكره والتقرير الطبي كذلك . واستطرد بنفى أى خلافات سابقة بينه وبين محرر المحضر ، وأنهى أقواله بنفى الاتهام كلية عن نفسه أو أنه ذو سوابق . اختتمت النيابة التحقيق معه آمرة بحبسه المدة التى يجيزها لها القانون ، ثم قدمته إلى المحاكمة بهذه الجلسة يرسف فى أغلال ما جنت يداه.
· وحيث أن الاتهام على هذه الصورة قد توافرت أركانه فى جانب الجانى الذى لم يدفع الاتهام بأى دفع أو دفاع تقبله المحكمة أو تستسيغه ومن ثم يتعين عقابه.
ولكن كيف يكون إنزال العقاب ؟ وعلى أية صورة ؟ وبأى قانون ؟
إن فى الأمر جانبا هاما وخطيرا لا يمكن طرحه أو الالتفات عنه.
ألا وهو
الجانب الإلهى :
· حيث أن الإسلام حرم الخمر فى بلد دينها الإسلام تحريما قاطعا لأن الله قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ ) [ المائدة 90 ـ 91 ]
والأمر هنا بالاجتناب أبلغ ألفاظ النهى ، وأعمق قواعد الأمر بالكف. ولا يوجد فى القرآن نص محرم قوى التحريم والدلالة على ذلك بمثل هذه العبارة القوية، وإذا كانت الخمر حراما فشربها معصية ، ومن ارتكب معصية نزل به العقاب ، ولذا فلقد أتى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، ولقد انعقد إجماع الصحابة كذلك على وجوب عقابه لأن الرسول قال: "كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام". والخمر كل ما خامر العقل وستره من غير عد ولا إحصاء ، لأنه جدَّ من أنواع المسكرات مالا يحصى عددا ولا نوعا ، فالإسكار الذى هو فيها هو سبب التحريم والعقاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قضية رقم 3352 لسنة 1981 جنح بلدية القاهرة قسم بولاق أبو العلا.
· وحيث إنه ثبت أيضا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " من شرب الخمر فاجلدوه " . وأنه قال : " لعن الله الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه" . ولما كان عهد أبى بكر صنع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء عمر بن الخطاب استشار الناس فى الحد فقال ابن عوف أقل الحدود ثمانين. وقال على بن أبى طالب " إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحد المفترى ثمانون جلدة ".
· وحيث أنه يشترط لإقامة الحد أن يشربها الجانى مختارا ، وما عدا ذلك فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". كما يشترط أن يكون مكلفا فلا حد على صغير أو مجنون أو معتوه ، لأن إقامة الحد من باب العبادة ، والعبادة لا تجب إلا على مكلف ، كما يشترط العلم . " يراجع فى ذلك كله مؤلف العقوبة فى الفقه الإسلامى للأستاذ الشيخ أبو زهرة من صفحة 162 ـ 167 " .
· وحيث أن يثبت الشرب بالبينة أو الإقرار ، ولا يشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون سكرانا بالفعل أو أن تكون الرائحة تنبعث من فمه. والمحكمة قد وجدت من جماع ما تقدم توافر ركنى الجريمة عند الجانى من شرب وقصد جنائي ، فقد ثبت كلاهما فى يقين المحكمة وضميرها بما لا يقبل الشك أو التأويل أو التخمين ، ولكن غلت يمناها فى مرارة وكمد عن إنزال حد الإسلام بالجانى ، وعزفت عنه مكرهة فى ذلك راجية عفو الله وحده. ولا يفوتها ان ترفع ذكر الله من طريق أخر ، وتعلى حده من زاوية أخرى وذلك بأن تحجم وتمتنع عن تطبيق مواد القيد فى القانون الوضعى لأنه قانون هالك متهالك أجوف مستقى من شرائع لا تعرف الله ربا ولا محمدا نبيا ورسولا ، وخير للمحكمة أن تضرب بقانون البشر عرض الحائط ، هادفة أن يشاء الله ـ على أيدى أعضاء المحكمة الدستورية العليا ـ أن يقضى بعدم دستورية مواد القيد هذه ، فتكون الخطوة التالية حتما هى إنفاذ قانون السماء ، حدا لشارب الخمر.
· وحيث أن ذلك كله إنما كان على الوجه القانونى البحت ، وبسلوك قانونى رصين ذلك أن مواد القيد من لدن النيابة العامة غير دستورية على وجه الإطلاق ، استنادا على نص المادة الثانية من الدستور الدائم والتى جرى نصها على أن الإسلام دين الدولة ومبدائ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع ، كما جاء نص المادة السابعة من قانون العقوبات على الوجه الآتى متوائما مع نص الدستور سالف البيان : " لا تُخِلُّ أحكام هذا القانون بأى حال من الأحوال بالحقوق المقررة بالشريعة الغراء."
وترتيبا على ذلك فقد جرى نص المادة 25 / 1 أولا من القانون رقم 48 / 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا ، على أنه : " تختص المحكمة الدستورية العليا دون غيرها بالرقابة القضائية على دستورية القوانين واللائحة " كما جرى نص المادة ( 29 أ ) من ذات القانون على أنه : " تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح ، إذا تراءى لإحدى المحاكم ذات الاختصاص القضائى أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص فى قانون لازم للفصل فى النزاع أوقفت الدعوى وأحالت الأوراق إلى المحمة الدستورية العليا للفصل فى المسألة الدستورية ".
· وحيث أنه بالبناء على ما تقدم يقرر قاضى هذه المحكمة أن المواد 1 ، 2 ، 3 ، 5 ، 7 من القانون 63 / 1976 بحظر شرب الخمر والمقيدة به هذه الدعوى إنما هى نصوص غير دستورية بالنظر إلى ما سلف بيانه وذلك لأوجه المخالفة الآتية :
أولا : بنص كتاب الله ، حرم الله سبحانه وتعالى شرب الخمر وأمر باجتنابه ، وذلك بما أوردته المحكمة عند التقديم للجانب الإلهى فى هذا الحكم ، كما ثبت بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبإجماع الصحابة مقدار عقوبة جلد شارب الخمر حسبما أوردته المحكمة فى صلب هذا الحكم سلفا وأن ذلك يعتبر حدا من حدود الإسلام لا مفر منه لكل من توافرت فيه شروط الجريمة وعند ثبوت الشرب وركنيه طبقا لما سبق بيانه فى هذا الحكم. ونهاية للمطاف فإن الله تعالى قال : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء : 59]
ومن ثم وكان ما سبق هو الحق والعدل والصدق فإن الشريعة الإسلامية الغراء فى عمومها وشمولها وأصالة قواعدها صالحة للتطبيق فى كل مكان وزمان قادرة على حكم الناس جميعهم دنيا ودين كما أنها قادرة حقا على وضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام دستورا ينتظم الجميع فى محبة وسلام ، لما كان ذلك وكان قانون البشر لا يتسنى له ما سبق ، فإن مواد القيد الوضعية تكون غير دستورية.
ثانيا : المحافظة على العقل توجب تحريم الخمر ، ومن يشربها فإنما يرتكب جريمة نكراء فى حق المجتمع لأنها تغرى بالعداوة وتدفع إلى الشر. فالسكران يندفع إلى الجريمة وإلى القول البذئ ، مما يضر بالوطن ذاته ، وكثير من مدمنى الخمر يرتكبون أحط الجرائم وأبشعها أثناء سكرهم ، بل إن منهم من يسكر ليزول تردده ثم يقدم من فوره على ارتكاب جريمته. فهى حقا إذن أم الخبائث كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ ما من شر يتردد فيه الإنسان إلا أقدم عليه إذا سكر. ومن ثم فإن العقاب الواجب إنزاله بالمتهم هو ما جاء بنص المادة 324 من مشروع القانون المقدم إلى السلطة التشريعية منذ 20 / 12 /1975 والتى جرى نصها على أن : " يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها " وبالتالى فإن مواد القيد تكون غير دستورية بالنظر إلى نص المادة الثانية من الدستور الدائم.
ثالثا : أن الأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا. لأنها حقوق الله الخالصة وليس للأفراد أو الجماعة أو السلطان إسقاطها لا بل إن إقامة الحدود جزء من عبادة الإمام وجهاد يجب أن يعان عليه، وإذا كان الجهاد فى قتال الأعداء لدفع أذى المعتدين وحماية الأمة منهم ، فإن تنقية الأمة من عناصر الفساد يعتبر من الجهاد أيضا : إذ هو جهاد لحماية الدين والأخلاق والفضيلة ، وصون المجتمع من عناصر الفساد التى تنخر فى عظامه ، ولا قوة لأمة يسودها الانحلال الخلقى ، بل إنه لا أمن فيها ولا سلامة . وفوق ذلك لا سبيل لمحاربة الأعداء إلا إذا كان المجتمع سليما من الفساد ، ولا يتأتى هذا إلا بإنزال عقاب الإسلام بشارب الخمر. وإذا كان ذلك كذلك فإن مواد القيد تتسم بعدم الشرعية وتكون غير دستورية طبقا لنص المادة الثانية من الدستور المصرى.
رابعا : ومن بين أسباب المخالفة الدستورية ما هو متعارض حقا مع القاعدة الإسلامية ، ذلك أن مواد القيد وقانون الحظر بجملته إن اعتبر قاعدة : فهو يبيح الخمر لشاربيها ولا عقاب فيه على شربها أو السكر منها اللهم إلا إن وجد شاربها فى حالة سكر بين وبالطريق العام. فإن كان بينا ولكن فى محل خاص فلا جرم ولا عقاب . بمعنى أن العقوبة التى يقررها القانون المصرى ليست على شرب الخمر حيث هو ، ولا على السكر حيث يكون ، وإنما على وجود السكران فى طريق عام. كما هو الحال فى تلكم الدعوى. ومن ثم كانت مواد القيد مخالفة لنص المادة الثانية من الدستور.
وتأسيسا على ما تقدم فقد لزم بالنصوص الإلهية ، والإسلامية ، لزم إخراج القوانين الإسلامية جميعها من حيز الطمس إلى نطاق اللمس قياسا على قوانين أخر : كحماية القيم من العيب ، تعديل قانون الأحوال الشخصية ، حماية الوحدة الوطنية ، نص المادة 179 من قانون العقوبات ، وذلك إحقاقا لقول الله سبحانه وتعالى : (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 2 ، 3 ]
· وحيث أن المحكمة تركز على أمرين ولا معقب :
الأمر الأول : أن القاضى فى حكمه ينفذ حكم الله أو رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا حكم الإمام فهو لا يستمد القانون الذى يحكم به من الإمام ، بل يستمده من حكم الله أحكم الحاكمين الذى يخضع له غير الأمير ، والأمير والحاكم وغير الحاكم ، فإذا جاءت القوانين متفقة ونصوص الكتاب والسنة متمشية مع مبادئ الشريعة الإسلامية العامة وروحها التشريعية ، وجبت الطاعة لها . وحققت العقوبة أثرها على من خالفها ، أما إذا جاءت خارجة على مبادئ الشريعة فإنها تقع باطلة بطلانا مطلقا ، وليس لأحد أن يطيعها ، بل على كل قاض مسلم أن يحاربها دون هوادة ، وينصب من نفسه عدوا لها.
وأساس البطلان المقرر سالف القول هو أن الأوامر والنواهى من قبل الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن عبثا ، وأن الله أنزل كتابه وبعث رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لطاعتهما والعمل بما جاء بهما ، وتحقيقا لذلك ورد قول الله تعالى (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) [ الحشر : 7 ] ومن ثم فإن كل عمل أو تصرف أو فعل جاء موافقا لنصوص الشريعة الإسلامية أو مبادئها العامة وروحها السمحة فهو صحيح نافذ ، أما إن جاء مخالفا لها فهو باطل بطلانا مطلقا ولا يترتب عليه أى أثر.
وما سلف هو رأى جمهور الفقهاء ومن ثم فالتشريعات الوضعية على وجه القطع وعلى اختلاف أسمائها وصورها تكون باطلة بصفة أصلية بطلانا مطلقا كلما جاءت مخالفة لنصوص الشريعة الإسلامية أو خارجة على مبادئها العامة أو مباينة لروح التشريع الإسلامى. والأدلة على هذا البطلان كثيرة توجزها المحكمة فى الأمور التالية :
1 ـ أن الله أمر باتباع الشريعة ، ونهى عن اتباع ما يخالفها وذلك بقوله : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) [ الجاثية : 18 ، 19 ] لا بل أن الله لم يجعل لمؤمن أن يرضى بغير حكم الله أو أن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله ثم إن الله لم يجعل لمؤمن ولا مؤمنة أن يختار لنفسه أو يرضى لها غير ما اختاره لها الله ورسوله ، ومن تخير غير ذلك فهو ضال لم يعرف الإيمان قلبه وذلك لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) [ الأحزاب : 36]
2ـ أن الله حرم على المؤمنين أن يسبقوه أو يقدموا على رسوله بقول أو فعل أو أمر أو نهى أو رأى وذلك لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ الحجرات : 1 ] وبقوله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) [ الحجرات : 2 ] وإذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سببا لحبوط العمل ؛ فكيف بتقديم أراء البشر وعقولهم وأفكارهم وسياساتهم على ما جاء به الرسول العظيم.
3ـ أن الله أمر أن يكون الحكم طبقا لما أنزل ، وجعل من لم يحكم بما أنزل كافرا ، وظالما ، وفاسقا ، فمن أعرض عن الحكم بحد الله فى الخمر أو السرقة أو الزنا لأنه يفضل الحكم بغيره مما وضعه البشر فهو كافر قطعا . ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم ، وإلا فهو فاسق [ تفسير المنار ، وروح المعانى للألوسي ، وتفسير الطبرى والقرطبي ]
ومن ثم فإذا لم يكن لمؤمن أن يؤمن بغير ما أنزل أو يقبل حكما غير حكمه ، فليس لمؤمن أن يحاول التوفيق بين ما جاء من عند الله وبين ما يخالف حكم الله ، أو أن يجمع بين حكم الله وحكم الطاغوت أو حكم الهوى . فإن ذلك إن حدث فهو الكفر المقنع ، والنفاق المغلف ، والعبادة السافرة لغير الله . وبالتالى فعلى كل مسلم أن يحارب الدعوة إلى هذا التوفيق الزائف وأن يعرض عن الداعين إليه وذلك لقوله تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [النساء : 61 ـ 63]
4ـ أن الله نفى الإيمان عن العباد مقسما بنفسه على ذلك حتى يحكموا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما شجر بينهم ولم يكتف فى إثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد ، بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين حقا أن ينتفى عن صدورهم الحرج أو الضيق أو التبرم من قضاء رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكمه فقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء : 65] ويستدل الفقهاء بهذه الآية على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام.
5ـ أن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين ، ولو أمرت به السلطة الحاكمة ، أو أباحته القوة المهيمنة لأن حق الهيئة الحاكمة فى التشريع مقيد بأن يكون التشريع موافقا لنصوص الشريعة متفقا مع مبادئها العامة وروحها التشريعية ، فإن استباحت تلك الهيئة لنفسها أن تخرج عن حدود وظيفتها بأن تصدر قوانين لا تتفق والشريعة وتضعها بالقوة موضع التنفيذ فإن عملها ذاك لا يحل هذه القوانين المحرمة ، ولا يبيح لمسلم أن يتبعها أو يطبقها أو يطيعها أو يحكم بها أو ينفذها من أى زاوية ، ومن واجب الموظفين الامتناع كذلك عن تنفيذها لأن طاعة أولى الأمر غير واجبة لهم استقلالا ، فالله سبحانه حذف " الطاعة " عند ذكر أولى الأمر فى قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ )[النساء : 59] وهذا دليل على أن الطاعة لا تجب لهم استقلالا . ثم لا طاعة لأولى الأمر إلا بعد استيفاء الطاعة لله وللرسول ، وذلك فى كل ما يصدر من ولى الأمر من أمر أو نهى لأنه : " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " . وعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال أيضا : " إنما الطاعة فى المعروف " . وقال فى ولاة الأمر : " من أمركم منهم بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
وهذا أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ الخليفة الأول لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " أطيعونى ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم " . وهؤلاء فقهاء الأمة ومجتهدوها يجمعون على أن طاعة أولى الأمر لا تجب إلا فيما أمر به الله ، ولا طاعة لهم فيما يخالف ذلك.
ومتى كان ذلك كذلك : فإن أولى الأمر بحسب نصوص الشريعة الإسلامية ليس لهم حق التشريع المطلق ، بل إن حقهم فى التشريع قاصر على تشريعات تنفيذية ، وأخرى تنظيمية فقط ، وهذه وتلك لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة لا فيما فصلت فيه. فحق التشريع لأولى الأمر مقيد لا مطلق.
6 ـ أن الشريعة الإسلامية هى الدستور الأساسى للمسلمين ، وكل ما يوافق هذا الدستور فهو صحيح ، وكل ما يخالفه فهو باطل . لأن الشريعة جاءت من عند الله ليعمل بها فى كل زمان ومكان ، وهى واجبة التطبيق حتى تلغى أو تنسخ وهذا لن يكون إلى يوم الدين ، لأنه ليس بعد الرسول قرآن لانقطاع الوحى ، ولا سنة أيضا لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الدستور الوضعى قد نص على أن دين الدولة هو الإسلام ، وهذا يقتضى أن تقيد القوانين بنصوص الشريعة ، وفى جميع المجالات ، وجميع أوجه النشاط فلا تحل إلا ما أحلته الشريعة ولا تحرم إلا ما حرمته.
7ـ إن نظرية الشريعة الإسلامية فى بطلان كل ما يخالف القرآن والسنة ، هى نظرية تعترف بها اليوم غالبية البلاد التى تطبق القوانين الوضعية ، وإن اختلفت فى تطبيقها ، بمعنى أن أكثر البلاد المتمدينة ترى بطلان كل قانون جاء مخالفا للدستور المنصوص فيه على أن الإسلام دين الدولة ،باعتبار أن الدستور هو التشريع الأساسى لهذه البلاد . واستيفاء التشريعات المخالفة للشريعة شكلها القانونى لا يمنع من كونها رغم ذلك تشريعات باطلة بطلانا مطلقا من ناحية الموضوع ، فصحة الشكل لا يمنع من بطلان الموضوع ، لأن صحة الشكل لا تحيل الحرام حلالا ، ولا الباطل صحيحا ولا الحلال حراما. ومن ثم وجب على القاضى المسلم ألا يطبق التشريعات التى وصمت بمخالفتها للشريعة مهما استوقفت شكلها القانونى [ يراجع فى كل ما سبق مؤلف التشريع الجنائي الإسلامى مقارنا بالقانون الوضعى للأستاذ الشهيد المرحوم عبد القادر عودة صفحات 223 ـ 237 ]
أما الثانى : أن القاضى الذى ينفذ الحدود ليس نائبا عن ولى الأمر ، وذلك أمر مقرر ثابت فى الفقه الإسلامى لأن القضاء كسائر الولايات من الفروض الكفائية يقوم به من يتخصص فى فقه الأحكام وطرق القضاء ومناهج الاستدلال ، والترجيح بين الأدلة. وإن تولى ذلك القاضى بتمكين ولى الأمر له ، فليس معنى ذلك أنه نائب عنه وولى الأمر مكنه من نيل ما تخصص فيه ، ولو لم يفعل ذلك لكان آثما ومعطلا لفرض كفائي . وقد جاء فى الأحكام السلطانية لأبى يعلي : " إذا ولاه صار ناظرا للمسلمين لا عمن ولاهن فيكون القاضى فى حكم الإمام فى كل بلد ". [ يراجع فى ذلك كله مؤلف العقوبة للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة صفحات 299 وما بعدها ]
وحيث أن النظام الدستورى المصرى فى هيكله العام نظام إسلامى بحكم الدستور وبالتالى فلا محل فيه لقداسة التشريع الوضعى فى خصوص مواد القيد.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة حضوريا:
أولا : بوقف السير مؤقتا فى الدعوى العمومية.
ثانيا : قررت المحكمة :
1ـ إحالة الأوراق بحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية مواد القيد من لدن النيابة العامة.
2ـ الإفراج عن الجانى إذا دفع ضمانا ماليا قدره عشرة جنيهات.
محكمة جنح قسم بولاق أبو العلا محكمة البلدية
الدائرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
رمضان عبد الحليم بدر وكيل النائب العام
محمد عبد الحميد نصر أمين السر
جلسة 30 / 1 /1982
الجانب القانونى :
· حيث أن واقعات الدعوى سرت على الوجه التالى :
محضر ضبط الواقعة المحرر بتاريخ 18 / 12 / 1981 فى الساعة العاشرة مساء والمحرر بمعرفة أحد السادة أمناء الشرطة الثابت به أن أحد السادة نقباء الشرطة ظفر بالمتهم حالة كونه بالطريق العام فى سكر بين ، فقام بأسره وسلمه لمحقق الواقعة فأنهى الجانى إلى الأخير أنه وهو ذو ثمان وعشرين عاما ويعمل حداد مسلح : قد شرب اختيارا وطواعية منه ودون ضغط أو إكراه من أحد لكونه كان ـ حسب تعبيره ـ إلى حد ما متضايقا ، وأنكر سبق الشرب من ذى قبل ثم رفض التوقيع على سابق ما تقرر.
أرفق بالأوراق تقرير طبى رقم 2468 بذات التاريخ السابق صادرا عن مستشفى بولاق العام ، وثابت به أن الجانى كان بحالة سكر بين .
قامت النيابة العامة بالتحقيق مع الجانى ، فأنكر مقررا أنه ما أخذ إلا من داره ، بسبب مديونيته لآحاد الناس ، وعرج منكرا ما تقرر بمحضر الضبط ، نافيا سكره والتقرير الطبي كذلك . واستطرد بنفى أى خلافات سابقة بينه وبين محرر المحضر ، وأنهى أقواله بنفى الاتهام كلية عن نفسه أو أنه ذو سوابق . اختتمت النيابة التحقيق معه آمرة بحبسه المدة التى يجيزها لها القانون ، ثم قدمته إلى المحاكمة بهذه الجلسة يرسف فى أغلال ما جنت يداه.
· وحيث أن الاتهام على هذه الصورة قد توافرت أركانه فى جانب الجانى الذى لم يدفع الاتهام بأى دفع أو دفاع تقبله المحكمة أو تستسيغه ومن ثم يتعين عقابه.
ولكن كيف يكون إنزال العقاب ؟ وعلى أية صورة ؟ وبأى قانون ؟
إن فى الأمر جانبا هاما وخطيرا لا يمكن طرحه أو الالتفات عنه.
ألا وهو
الجانب الإلهى :
· حيث أن الإسلام حرم الخمر فى بلد دينها الإسلام تحريما قاطعا لأن الله قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ ) [ المائدة 90 ـ 91 ]
والأمر هنا بالاجتناب أبلغ ألفاظ النهى ، وأعمق قواعد الأمر بالكف. ولا يوجد فى القرآن نص محرم قوى التحريم والدلالة على ذلك بمثل هذه العبارة القوية، وإذا كانت الخمر حراما فشربها معصية ، ومن ارتكب معصية نزل به العقاب ، ولذا فلقد أتى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، ولقد انعقد إجماع الصحابة كذلك على وجوب عقابه لأن الرسول قال: "كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام". والخمر كل ما خامر العقل وستره من غير عد ولا إحصاء ، لأنه جدَّ من أنواع المسكرات مالا يحصى عددا ولا نوعا ، فالإسكار الذى هو فيها هو سبب التحريم والعقاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قضية رقم 3352 لسنة 1981 جنح بلدية القاهرة قسم بولاق أبو العلا.
· وحيث إنه ثبت أيضا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " من شرب الخمر فاجلدوه " . وأنه قال : " لعن الله الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه" . ولما كان عهد أبى بكر صنع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء عمر بن الخطاب استشار الناس فى الحد فقال ابن عوف أقل الحدود ثمانين. وقال على بن أبى طالب " إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحد المفترى ثمانون جلدة ".
· وحيث أنه يشترط لإقامة الحد أن يشربها الجانى مختارا ، وما عدا ذلك فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". كما يشترط أن يكون مكلفا فلا حد على صغير أو مجنون أو معتوه ، لأن إقامة الحد من باب العبادة ، والعبادة لا تجب إلا على مكلف ، كما يشترط العلم . " يراجع فى ذلك كله مؤلف العقوبة فى الفقه الإسلامى للأستاذ الشيخ أبو زهرة من صفحة 162 ـ 167 " .
· وحيث أن يثبت الشرب بالبينة أو الإقرار ، ولا يشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون سكرانا بالفعل أو أن تكون الرائحة تنبعث من فمه. والمحكمة قد وجدت من جماع ما تقدم توافر ركنى الجريمة عند الجانى من شرب وقصد جنائي ، فقد ثبت كلاهما فى يقين المحكمة وضميرها بما لا يقبل الشك أو التأويل أو التخمين ، ولكن غلت يمناها فى مرارة وكمد عن إنزال حد الإسلام بالجانى ، وعزفت عنه مكرهة فى ذلك راجية عفو الله وحده. ولا يفوتها ان ترفع ذكر الله من طريق أخر ، وتعلى حده من زاوية أخرى وذلك بأن تحجم وتمتنع عن تطبيق مواد القيد فى القانون الوضعى لأنه قانون هالك متهالك أجوف مستقى من شرائع لا تعرف الله ربا ولا محمدا نبيا ورسولا ، وخير للمحكمة أن تضرب بقانون البشر عرض الحائط ، هادفة أن يشاء الله ـ على أيدى أعضاء المحكمة الدستورية العليا ـ أن يقضى بعدم دستورية مواد القيد هذه ، فتكون الخطوة التالية حتما هى إنفاذ قانون السماء ، حدا لشارب الخمر.
· وحيث أن ذلك كله إنما كان على الوجه القانونى البحت ، وبسلوك قانونى رصين ذلك أن مواد القيد من لدن النيابة العامة غير دستورية على وجه الإطلاق ، استنادا على نص المادة الثانية من الدستور الدائم والتى جرى نصها على أن الإسلام دين الدولة ومبدائ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع ، كما جاء نص المادة السابعة من قانون العقوبات على الوجه الآتى متوائما مع نص الدستور سالف البيان : " لا تُخِلُّ أحكام هذا القانون بأى حال من الأحوال بالحقوق المقررة بالشريعة الغراء."
وترتيبا على ذلك فقد جرى نص المادة 25 / 1 أولا من القانون رقم 48 / 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا ، على أنه : " تختص المحكمة الدستورية العليا دون غيرها بالرقابة القضائية على دستورية القوانين واللائحة " كما جرى نص المادة ( 29 أ ) من ذات القانون على أنه : " تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح ، إذا تراءى لإحدى المحاكم ذات الاختصاص القضائى أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص فى قانون لازم للفصل فى النزاع أوقفت الدعوى وأحالت الأوراق إلى المحمة الدستورية العليا للفصل فى المسألة الدستورية ".
· وحيث أنه بالبناء على ما تقدم يقرر قاضى هذه المحكمة أن المواد 1 ، 2 ، 3 ، 5 ، 7 من القانون 63 / 1976 بحظر شرب الخمر والمقيدة به هذه الدعوى إنما هى نصوص غير دستورية بالنظر إلى ما سلف بيانه وذلك لأوجه المخالفة الآتية :
أولا : بنص كتاب الله ، حرم الله سبحانه وتعالى شرب الخمر وأمر باجتنابه ، وذلك بما أوردته المحكمة عند التقديم للجانب الإلهى فى هذا الحكم ، كما ثبت بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبإجماع الصحابة مقدار عقوبة جلد شارب الخمر حسبما أوردته المحكمة فى صلب هذا الحكم سلفا وأن ذلك يعتبر حدا من حدود الإسلام لا مفر منه لكل من توافرت فيه شروط الجريمة وعند ثبوت الشرب وركنيه طبقا لما سبق بيانه فى هذا الحكم. ونهاية للمطاف فإن الله تعالى قال : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء : 59]
ومن ثم وكان ما سبق هو الحق والعدل والصدق فإن الشريعة الإسلامية الغراء فى عمومها وشمولها وأصالة قواعدها صالحة للتطبيق فى كل مكان وزمان قادرة على حكم الناس جميعهم دنيا ودين كما أنها قادرة حقا على وضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام دستورا ينتظم الجميع فى محبة وسلام ، لما كان ذلك وكان قانون البشر لا يتسنى له ما سبق ، فإن مواد القيد الوضعية تكون غير دستورية.
ثانيا : المحافظة على العقل توجب تحريم الخمر ، ومن يشربها فإنما يرتكب جريمة نكراء فى حق المجتمع لأنها تغرى بالعداوة وتدفع إلى الشر. فالسكران يندفع إلى الجريمة وإلى القول البذئ ، مما يضر بالوطن ذاته ، وكثير من مدمنى الخمر يرتكبون أحط الجرائم وأبشعها أثناء سكرهم ، بل إن منهم من يسكر ليزول تردده ثم يقدم من فوره على ارتكاب جريمته. فهى حقا إذن أم الخبائث كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ ما من شر يتردد فيه الإنسان إلا أقدم عليه إذا سكر. ومن ثم فإن العقاب الواجب إنزاله بالمتهم هو ما جاء بنص المادة 324 من مشروع القانون المقدم إلى السلطة التشريعية منذ 20 / 12 /1975 والتى جرى نصها على أن : " يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها " وبالتالى فإن مواد القيد تكون غير دستورية بالنظر إلى نص المادة الثانية من الدستور الدائم.
ثالثا : أن الأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا. لأنها حقوق الله الخالصة وليس للأفراد أو الجماعة أو السلطان إسقاطها لا بل إن إقامة الحدود جزء من عبادة الإمام وجهاد يجب أن يعان عليه، وإذا كان الجهاد فى قتال الأعداء لدفع أذى المعتدين وحماية الأمة منهم ، فإن تنقية الأمة من عناصر الفساد يعتبر من الجهاد أيضا : إذ هو جهاد لحماية الدين والأخلاق والفضيلة ، وصون المجتمع من عناصر الفساد التى تنخر فى عظامه ، ولا قوة لأمة يسودها الانحلال الخلقى ، بل إنه لا أمن فيها ولا سلامة . وفوق ذلك لا سبيل لمحاربة الأعداء إلا إذا كان المجتمع سليما من الفساد ، ولا يتأتى هذا إلا بإنزال عقاب الإسلام بشارب الخمر. وإذا كان ذلك كذلك فإن مواد القيد تتسم بعدم الشرعية وتكون غير دستورية طبقا لنص المادة الثانية من الدستور المصرى.
رابعا : ومن بين أسباب المخالفة الدستورية ما هو متعارض حقا مع القاعدة الإسلامية ، ذلك أن مواد القيد وقانون الحظر بجملته إن اعتبر قاعدة : فهو يبيح الخمر لشاربيها ولا عقاب فيه على شربها أو السكر منها اللهم إلا إن وجد شاربها فى حالة سكر بين وبالطريق العام. فإن كان بينا ولكن فى محل خاص فلا جرم ولا عقاب . بمعنى أن العقوبة التى يقررها القانون المصرى ليست على شرب الخمر حيث هو ، ولا على السكر حيث يكون ، وإنما على وجود السكران فى طريق عام. كما هو الحال فى تلكم الدعوى. ومن ثم كانت مواد القيد مخالفة لنص المادة الثانية من الدستور.
وتأسيسا على ما تقدم فقد لزم بالنصوص الإلهية ، والإسلامية ، لزم إخراج القوانين الإسلامية جميعها من حيز الطمس إلى نطاق اللمس قياسا على قوانين أخر : كحماية القيم من العيب ، تعديل قانون الأحوال الشخصية ، حماية الوحدة الوطنية ، نص المادة 179 من قانون العقوبات ، وذلك إحقاقا لقول الله سبحانه وتعالى : (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 2 ، 3 ]
· وحيث أن المحكمة تركز على أمرين ولا معقب :
الأمر الأول : أن القاضى فى حكمه ينفذ حكم الله أو رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا حكم الإمام فهو لا يستمد القانون الذى يحكم به من الإمام ، بل يستمده من حكم الله أحكم الحاكمين الذى يخضع له غير الأمير ، والأمير والحاكم وغير الحاكم ، فإذا جاءت القوانين متفقة ونصوص الكتاب والسنة متمشية مع مبادئ الشريعة الإسلامية العامة وروحها التشريعية ، وجبت الطاعة لها . وحققت العقوبة أثرها على من خالفها ، أما إذا جاءت خارجة على مبادئ الشريعة فإنها تقع باطلة بطلانا مطلقا ، وليس لأحد أن يطيعها ، بل على كل قاض مسلم أن يحاربها دون هوادة ، وينصب من نفسه عدوا لها.
وأساس البطلان المقرر سالف القول هو أن الأوامر والنواهى من قبل الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن عبثا ، وأن الله أنزل كتابه وبعث رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لطاعتهما والعمل بما جاء بهما ، وتحقيقا لذلك ورد قول الله تعالى (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) [ الحشر : 7 ] ومن ثم فإن كل عمل أو تصرف أو فعل جاء موافقا لنصوص الشريعة الإسلامية أو مبادئها العامة وروحها السمحة فهو صحيح نافذ ، أما إن جاء مخالفا لها فهو باطل بطلانا مطلقا ولا يترتب عليه أى أثر.
وما سلف هو رأى جمهور الفقهاء ومن ثم فالتشريعات الوضعية على وجه القطع وعلى اختلاف أسمائها وصورها تكون باطلة بصفة أصلية بطلانا مطلقا كلما جاءت مخالفة لنصوص الشريعة الإسلامية أو خارجة على مبادئها العامة أو مباينة لروح التشريع الإسلامى. والأدلة على هذا البطلان كثيرة توجزها المحكمة فى الأمور التالية :
1 ـ أن الله أمر باتباع الشريعة ، ونهى عن اتباع ما يخالفها وذلك بقوله : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) [ الجاثية : 18 ، 19 ] لا بل أن الله لم يجعل لمؤمن أن يرضى بغير حكم الله أو أن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله ثم إن الله لم يجعل لمؤمن ولا مؤمنة أن يختار لنفسه أو يرضى لها غير ما اختاره لها الله ورسوله ، ومن تخير غير ذلك فهو ضال لم يعرف الإيمان قلبه وذلك لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) [ الأحزاب : 36]
2ـ أن الله حرم على المؤمنين أن يسبقوه أو يقدموا على رسوله بقول أو فعل أو أمر أو نهى أو رأى وذلك لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ الحجرات : 1 ] وبقوله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) [ الحجرات : 2 ] وإذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سببا لحبوط العمل ؛ فكيف بتقديم أراء البشر وعقولهم وأفكارهم وسياساتهم على ما جاء به الرسول العظيم.
3ـ أن الله أمر أن يكون الحكم طبقا لما أنزل ، وجعل من لم يحكم بما أنزل كافرا ، وظالما ، وفاسقا ، فمن أعرض عن الحكم بحد الله فى الخمر أو السرقة أو الزنا لأنه يفضل الحكم بغيره مما وضعه البشر فهو كافر قطعا . ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم ، وإلا فهو فاسق [ تفسير المنار ، وروح المعانى للألوسي ، وتفسير الطبرى والقرطبي ]
ومن ثم فإذا لم يكن لمؤمن أن يؤمن بغير ما أنزل أو يقبل حكما غير حكمه ، فليس لمؤمن أن يحاول التوفيق بين ما جاء من عند الله وبين ما يخالف حكم الله ، أو أن يجمع بين حكم الله وحكم الطاغوت أو حكم الهوى . فإن ذلك إن حدث فهو الكفر المقنع ، والنفاق المغلف ، والعبادة السافرة لغير الله . وبالتالى فعلى كل مسلم أن يحارب الدعوة إلى هذا التوفيق الزائف وأن يعرض عن الداعين إليه وذلك لقوله تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا) [النساء : 61 ـ 63]
4ـ أن الله نفى الإيمان عن العباد مقسما بنفسه على ذلك حتى يحكموا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما شجر بينهم ولم يكتف فى إثبات الإيمان لهم بهذا التحكيم المجرد ، بل اشترط لاعتبارهم مؤمنين حقا أن ينتفى عن صدورهم الحرج أو الضيق أو التبرم من قضاء رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكمه فقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء : 65] ويستدل الفقهاء بهذه الآية على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام.
5ـ أن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين ، ولو أمرت به السلطة الحاكمة ، أو أباحته القوة المهيمنة لأن حق الهيئة الحاكمة فى التشريع مقيد بأن يكون التشريع موافقا لنصوص الشريعة متفقا مع مبادئها العامة وروحها التشريعية ، فإن استباحت تلك الهيئة لنفسها أن تخرج عن حدود وظيفتها بأن تصدر قوانين لا تتفق والشريعة وتضعها بالقوة موضع التنفيذ فإن عملها ذاك لا يحل هذه القوانين المحرمة ، ولا يبيح لمسلم أن يتبعها أو يطبقها أو يطيعها أو يحكم بها أو ينفذها من أى زاوية ، ومن واجب الموظفين الامتناع كذلك عن تنفيذها لأن طاعة أولى الأمر غير واجبة لهم استقلالا ، فالله سبحانه حذف " الطاعة " عند ذكر أولى الأمر فى قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ )[النساء : 59] وهذا دليل على أن الطاعة لا تجب لهم استقلالا . ثم لا طاعة لأولى الأمر إلا بعد استيفاء الطاعة لله وللرسول ، وذلك فى كل ما يصدر من ولى الأمر من أمر أو نهى لأنه : " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " . وعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال أيضا : " إنما الطاعة فى المعروف " . وقال فى ولاة الأمر : " من أمركم منهم بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
وهذا أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ الخليفة الأول لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " أطيعونى ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم " . وهؤلاء فقهاء الأمة ومجتهدوها يجمعون على أن طاعة أولى الأمر لا تجب إلا فيما أمر به الله ، ولا طاعة لهم فيما يخالف ذلك.
ومتى كان ذلك كذلك : فإن أولى الأمر بحسب نصوص الشريعة الإسلامية ليس لهم حق التشريع المطلق ، بل إن حقهم فى التشريع قاصر على تشريعات تنفيذية ، وأخرى تنظيمية فقط ، وهذه وتلك لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة لا فيما فصلت فيه. فحق التشريع لأولى الأمر مقيد لا مطلق.
6 ـ أن الشريعة الإسلامية هى الدستور الأساسى للمسلمين ، وكل ما يوافق هذا الدستور فهو صحيح ، وكل ما يخالفه فهو باطل . لأن الشريعة جاءت من عند الله ليعمل بها فى كل زمان ومكان ، وهى واجبة التطبيق حتى تلغى أو تنسخ وهذا لن يكون إلى يوم الدين ، لأنه ليس بعد الرسول قرآن لانقطاع الوحى ، ولا سنة أيضا لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الدستور الوضعى قد نص على أن دين الدولة هو الإسلام ، وهذا يقتضى أن تقيد القوانين بنصوص الشريعة ، وفى جميع المجالات ، وجميع أوجه النشاط فلا تحل إلا ما أحلته الشريعة ولا تحرم إلا ما حرمته.
7ـ إن نظرية الشريعة الإسلامية فى بطلان كل ما يخالف القرآن والسنة ، هى نظرية تعترف بها اليوم غالبية البلاد التى تطبق القوانين الوضعية ، وإن اختلفت فى تطبيقها ، بمعنى أن أكثر البلاد المتمدينة ترى بطلان كل قانون جاء مخالفا للدستور المنصوص فيه على أن الإسلام دين الدولة ،باعتبار أن الدستور هو التشريع الأساسى لهذه البلاد . واستيفاء التشريعات المخالفة للشريعة شكلها القانونى لا يمنع من كونها رغم ذلك تشريعات باطلة بطلانا مطلقا من ناحية الموضوع ، فصحة الشكل لا يمنع من بطلان الموضوع ، لأن صحة الشكل لا تحيل الحرام حلالا ، ولا الباطل صحيحا ولا الحلال حراما. ومن ثم وجب على القاضى المسلم ألا يطبق التشريعات التى وصمت بمخالفتها للشريعة مهما استوقفت شكلها القانونى [ يراجع فى كل ما سبق مؤلف التشريع الجنائي الإسلامى مقارنا بالقانون الوضعى للأستاذ الشهيد المرحوم عبد القادر عودة صفحات 223 ـ 237 ]
أما الثانى : أن القاضى الذى ينفذ الحدود ليس نائبا عن ولى الأمر ، وذلك أمر مقرر ثابت فى الفقه الإسلامى لأن القضاء كسائر الولايات من الفروض الكفائية يقوم به من يتخصص فى فقه الأحكام وطرق القضاء ومناهج الاستدلال ، والترجيح بين الأدلة. وإن تولى ذلك القاضى بتمكين ولى الأمر له ، فليس معنى ذلك أنه نائب عنه وولى الأمر مكنه من نيل ما تخصص فيه ، ولو لم يفعل ذلك لكان آثما ومعطلا لفرض كفائي . وقد جاء فى الأحكام السلطانية لأبى يعلي : " إذا ولاه صار ناظرا للمسلمين لا عمن ولاهن فيكون القاضى فى حكم الإمام فى كل بلد ". [ يراجع فى ذلك كله مؤلف العقوبة للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة صفحات 299 وما بعدها ]
وحيث أن النظام الدستورى المصرى فى هيكله العام نظام إسلامى بحكم الدستور وبالتالى فلا محل فيه لقداسة التشريع الوضعى فى خصوص مواد القيد.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة حضوريا:
أولا : بوقف السير مؤقتا فى الدعوى العمومية.
ثانيا : قررت المحكمة :
1ـ إحالة الأوراق بحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية مواد القيد من لدن النيابة العامة.
2ـ الإفراج عن الجانى إذا دفع ضمانا ماليا قدره عشرة جنيهات.
محكمة جنح قسم بولاق أبو العلا محكمة البلدية
الدائرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
رمضان عبد الحليم بدر وكيل النائب العام
محمد عبد الحميد نصر أمين السر
جلسة 30 / 1 /1982
خمور / (8) سكر بين بالطريق العام وجلد
· وحيث إن النيابة العامة أسندت إلى الجانى أنه وبتاريخ 7 / 2 / 1982 ضبط بحالة سكر بين بالطريق العام. وطالبت إنزال العقاب به وفق نصوص المواد 1 ، 2 ، 7 من القانون رقم 63 / 1976 بحظر شرب الخمر.
· وحيث إن واقعات الدعوى وفى مجال تبيان إثم الجانى المستوجب لعقاب الله بيانا كافيا ، يتحقق به أركان الجريمة ، والظروف التى وقعت فيها ، وأدلة ثبوت وقوع الفعل المؤثم من الجانى ، بحيث يتضح منه وجه الاستدلال وسلامة المأخذ ، فإن المحكمة هيمنة وسيطرة منها على كافة جوانبها وعناصرها تستعرضها على الوجه الآتي:
بتاريخ 7 / 2 / 1982 وفى تمام الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة صباحا تم لأحد السادة نقباء الشرطة ضبط الواقعة ، أثبت بالمحضر مقدمة له: أنه تم ضبط المتهم حالة كونه يسير مترنحا بشارع عدلى ، يهذى بعبارات غامضة ، غير طبيعية ، فقام من فوره بالقبض عليه ، تحقق معه فقرر بأنه وهو فى بدء العقد الرابع من عمره ؛ ويعمل محاسبا أحضروه إلى قسم الشرطة جبرا عنه . ثم ـ على حد تعبيره ـ وصف التقرير الطبى المتوقع عليه بأنه "غلط" . والمحضر ختاما ممهور بتوقيعه .
أرفق بالأوراق تقرير طبى مؤرخ 7 / 2 / 1982 برقم 260 صادر عن مستشفى أحمد ماهر التعلميى تضمن أنه بالكشف الظاهرى على الجانى "وجد أنه فى حالة سكر بين" .
بذات التاريخ عرضت الأوراق برمتها والمتهم على النيابة العامة ، فدعته داخل غرفة التحقيق ، وسألته شفاهة وإجمالا عن الاتهام المنسوب إليه بعد إذ أحاطته علما بها وبعقوبتها وبشخص وكيل النائب العام وبأن النيابة العامة هى التى تباشر التحقيق معه ، فاعترف مقراً بأنه قد شرب زجاجتين من البيرة ، داخل بار بشارع عدلى ، ولما هم بالخروج يحاول استيقاف سيارة أجرة له يستقلها ليعند قافلا إلى منزله ـ عندئذ تم القبض عليه .
إثر ذلك أمرت النيابة بإخلاء سبيل الجانى وقدمته إلى المحاكمة بالقيد والوصف سالفى البيان بمستهل هذا الحكم ، وكلفته بالمثول بالجلسة المحددة ، فكان أن حضر فى اليوم المبين أمام القضاء بالجلسة المنعقدة علنا بسراى المحكمة .
سألت المحكمة الجانى عن الاتهام المنسوب إليه فاعترف بالشرب ، اختيارا وعندئذ أمرت المحكمة بإلقاء القبض عليه وحبسه على ذمة الدعوى ولحين صدور الحكم فيها بإذن الله بجلسة اليوم ، وذلك وفقا لما للمحكمة من حق مقرر بنص المادتين 134 ، 303 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية .
· وحيث إن الاتهام ثابت قبل الجانى ، وذلك من محضر ضبط الواقعة ، ومما أثبته الكشف الطبى المتوقع عليه ، ومن اعترافه الثابت أمام سلطة الاتهام ثم فى مجلس القضاء بجلسة المحاكمة العلنية اختيارا منه .
· وحيث إن المحكمة قد ثبت فى يقينها ، واستقر فى وجدانها أن الجانى قد ارتكب جريمته وأتى فعله المؤثم والمعاقب عليه ، وذلك وفقا لما جرى به أسلوب الدليل فى الإسلام ، وطبقا لما جرى به نص المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية الوضعى.
إذ يشترط ـ فى الفقه الإسلامى ـ لإقامة الحد: أن يشرب الجانى باختياره ، وأن يكون مكلفا فلا حد على صغير أو مجنون أو معتوه ، كما يشترط العلم .
كما يثبت الشرب ـ فى الإسلام ـ بالبينة أو الإقرار أو الاعتراف . والأوراق المعروضة تنطق بتوافر تلك الشروط ، كما تشهد بالثبوت من واقع الاعتراف أمام مجلس القضاء بالجلسة العلنية ، إذ أن هذا فى حقيقته إقرار على النفس بارتكاب الجريمة المؤثمة بقانون الإسلام . ويجمع الاعتراف هنا بين كونه إجراء يباشره المتهم ودليلا تأخذ به المحكمة ، إذ الإدلاء بالاعتراف أمام المحكمة هو إجراء من إجراءات الإثبات . ومضمون الاعتراف ذاته هو الدليل الواضح الذى تعتمد عليه المحكمة ، ومن ناحية أخرى فقد تحققت شروط صحة هذا الاعتراف من أهلية إجرائية ، وإرادة حرة . كما أن مضمونه واضح لا لبس فيه ولا إبهام ولا غموض ، فهو وارد على الواقعة الإجرامية ذاتها ، تلك المسندة إلى الجانى والمؤثمة فى ذات الوقت . وعلى ذلك درجت أحكام محكمتنا العليا [ نقض 10 / 6 / 1952 مجموعة الأحكام س ـ 3 رقم 403 ص 1076 . ويراجع فى ذلك مؤلف الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية جزء 1 ، 2 للأستاذ الدكتور أحمد فتحى سرور صفحة 398 وما بعدها ] .
كما وأن ركنى الجريمة متوافران لدى الجانى من شرب وقصد جنائى ، وثبت كلاهما فى يقين المحكمة وضميرها بما لا يقبل الشك أو التأويل أو التخمين .
· وحيث إنه تجدر الإشارة إلى أن الخصومة الجنائية ترمى إلى معرفة الحقيقة المطلقة ، مما يقتضى أن يصدر حكم القاضى عن اقتناع يقينى بصحة ما ينتهى إليه من وقائع ، فالحقيقة لا يمكن توافرها إلا باليقين التام لا بمجرد الظن والاحتمال ، وبعبارة أخرى فإن اليقين هو أساس الحقيقة القضائية . وفضلا عن ذلك فإن اليقين هو الذى يولد الثقة فى عدالة حكم القضاء. ذلك أنه فى مرحلة الحكم : يجب أن يتوافر اليقين التام بالإدانة لا مجرد الترجيح [المرجع السابق صفحة 461 وما بعدها] .
· وحيث إنه تأسيسا على ما سلف بيانه ، كان يتعين عقاب الجانى طبقا لمواد التجريم الوضعية نزولا على نص المادة 304 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية ، إلا أن المحكمة بادئ ذى بدء ، لابد أن تتخذ موقفا من مواد القيد هذه وهى التى سطرتها النيابة العامة ، موقفا تؤصله على جوهر من الإسلام والقانون معا ، ثم تنتهى إلى ما انتهت إليه بالبند الأول من المنطوق بشأن الجانى .
فوجهة نظر الإسلام فى مثل هذه النوعية من الجرائم هو أن الشريعة الإسلامية حرمت الخمر تحريما قاطعا لكونها مضيعة للنفس والعقل والجسد والمال . فحرمتها واضعة التحريم موضع التنفيذ ، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ)) ؟ [سورة المائدة: 90 ، 91] وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" ، وقد انعقد إجماع الصحابة والفقهاء على أن الخمر هو كل ما خامر العقل وستره دون عدٍّ ولا إحصاء ، لأنه جَدّ من أنواع المسكرات مالا يحصى نوعا ولا عدا ، فالإسكار الذى هو فيها هو سبب التحريم. [يراجع مؤلف العقوبة للإمام أبو زهرة صفحة 162 وما بعدها] ، كما وأن الخمر وأثرها الضار واضح على الصحة بالغ الضرر ، وقد أثبت الطب أن شربها يؤدى إلى اضطرابات فى الجهاز العصبى المركزى ومنها فقد الإحساس ، والدوار ، وطنين الأذن ، كما يؤدى إلى التسمم الكحولى الذى قد يؤدى إلى الوفاة وإلى ضعف التركيز والذاكرة وانخفاض مستوى الذكاء . كما أن تأثيرها مباشر على المخ والأغشية المحيطة به ، ثم إن شربها يؤدى إلى فقدان الشهية للطعام وإلى الالتهابات وقرح المعدة ، وتليف الكبد ، والقىء وفقدان الوزن ، وانخفاض معدل نبضات القلب ، وهبوط فى مركز التنفس بالمخ ثم إن الامتناع الفجائى عنها يعرض للانهيار التام وربما للجنون .
· وحيث إنه قد ثبت أنه قد أتى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، وروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه" وأنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ولما ولى عمر بن الخطاب الخلافة استشار عليا بن أبى طالب فقال له : "أرى أن يجلد ثمانين لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون جلدة" ، كما جرى نص المادة الأولى من مشروع قانون حد الشرب ـ المقدم إلى السلطة التشريعية منذ 17 / 6 / 1976 والصادر عن اللجنة العليا بوزارة العدل ـ على أن "يحرم شرب الخمر وتعاطيها ، وحيازتها ، وإحرازها ، وصنعها ، وتحضيرها ، وإنتاجها ، وجلبها ، واستيرادها ، وتصديرها ، والاتجار فيها ، وتقديمها ، وإهداؤها ، وترويجها ، ونقلها ، والدعوة إليها ، والإعلان عنها ، وسائر أوجه النشاط المتعلق بها" ونصت المادة 324 من مشروع قانون إسلامى آخر ـ قدم إلى ذات السلطة فى 20 / 12 / 1975 على أن: "يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها" . وجميع الأشربة المسكرة متساوية فى كونها تسكر وفيها المفسدة ، والله لا يفرق بين المتماثلين ، وكل من استحل المسكر فقد كفر [ تراجع الفتوى رقم 699 من الفتاوى الإسلامية المجلدان الثالث والرابع س 1981 صفحة 1567 ] .
· وحيث إن المادة 191 من الدستور قد جرى نصها على أن: "كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام ـ قبل ـ صدور هذا الدستور يبقى صحيحا نافدا ، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقا للقواعد والإجراءات المقررة فى هذا الدستور" .
هذا النص لا ينصرف حكمه إلا إلى التشريعات التى لم تلغ أو تعدل بقوة نفاذ هذا الدستور بغير حاجة إلى تدخل من المشرع [ نقض جلسة 24 / 3 / 1975 طعن 45 ق مجموعة الأحكام الصادرة من الهيئة العامة للمواد الجنائية. ومن الدائرة الجنائية س 26 صفحة 258 والطعون أرقام 866 / 45 ق جلسة 9 / 6 / 1975 ق جلسة 15 / 6 / 1975 ، 302 / 45 ق جلسة 21 / 12 / 1975 م ] .
وترتيبا على ذلك فإن القوانين السابقة على التعديل الدستورى الذى نص على أن "الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع" تعتبر منسوخة فى أحكامها المخالفة للشريعة الإسلامية ، كما تعبر معدلة بما يتفق وأحكام الشريعة الغراء ـ القابل منها لهذا التعديل وسارية بالنسبة للقوانين التى تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية ، ولا تثار بالنسبة لتلك القوانين مسألة مدى دستوريتها ما دامت سابقة على الدستور وإلا لثارت هذه المسألة بالنسبة لكل تشريع يصدر بتعديل تشريع سابق أيا كانت درجة التشريع ، أى سواء أكان هذا التشريع تشريعا دستوريا أو عاديا أو فرعيا .
وإنما تثار مسألة الدستورية بالنسبة للقوانين اللاحقة على الدستور المخالفة له فقط لأن هذه القوانين هى التى يتصور أن يكون واضعها قد خالف بها الدستور أما القوانين السابقة عليه : فإنه لا يتصور بداهة أن يراعى فى سنها أحكام دستور لم يولد بعد ، ولم يعرف أحكامه أحد ، ذلك بأن قانونا ما غير دستورى يعنى أن واضع ذلك القانون قد خالف أحكام الدستور القائم فعلا .
· وحيث إنه أخذا بما سلف بيانه قانونا ، فإن القدر المتيقن والذى لا يمكن أن يثار بالنسبة له أى خلاف هو : أن التعديل الدستورى ـ سالف البسط ـ قد ترتب عليه فور نفاذه بطلان جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، وبمجرد صدور هذا التعديل ـ المستفتى عليه ـ فقد لفظت تلكم القوانين أنفاسها الأخيرة ، ومنها القانون الذى احتوى مواد القيد فى هذه الدعوى ، وفارقت إثر ذلك حياتها إلى غير رجعة . ومن ثم فإن القول بلزوم التطبيق لقوانين فانية حتى تقوم السلطة التشريعية بسن قوانين بديلة مستمدة من الشريعة الغراء ـ فضلا عن أنه قول ليست له أية قيمة قانونية أو حتى منطقية ـ فمعناه الوحيد أن تظل مصر دولة بربرية بلا قانون بالنسبة لتلك القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، والتى ألغيت بالتعديل الدستورى (سالف البيان).
ومن ثم فقد أصبحت قوانين معادية معدومة الوجود ، لا بل إن القول بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية فيه إعمال لنص الدستور ذاته ، كما وأن فيه تنزيه للمشرع الوضعى عن العبث ، ومن المعروف فى فقه التفسير أن "التفسير الذى يعمل النص خير من التفسير الذى يهمله" فضلا عن أن هذا الحل الشرعى القانونى هو المخرج الوحيد الذى يملأ الفراغ الناتج عن بطلان القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية والمعمول بها فى مصر .
والقول بوجوب انتظار استصدار تشريعات من السلطة التشريعية مستمدة من الشريعة الغراء ، يؤدى إلى أوضاع شاذة بغير ما وصف ولا حدود ، ذلك لأنه لم يوضع ضابط زمنى دستورى أو قانونى بعد لتلك التشريعات ، ثم إنه إذا جارينا ذلك الفهم لكان معنى هذا أزلية فى تعطيل نصوص الدستور الوضعى بغير ما سند من الدستور ذاته ، لا بل إن الأخذ بهذا المنطق الغريب يؤدى بالتالى إلى إمكان تعطيل الدستور وإهمال كل قيمة له بل وإهدار جميع نصوصه ، والأثر الحتمى لذلك هو تضييع حقوق الأفراد وحرياتهم وضماناتهم بغير ما سند من القانون أو العقل أو المنطق ومن ثم فإن النتيجة الحتمية التى لا يمكن أن يثار حولها جدل هى: أن جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية باطلة معدومة لافتقارها إلى سند الشرعية.
· وحيث إنه يترتب على اعتبار النصوص المخالفة للشريعة الإسلامية أنها باطلة بطلانا مطلقا نتائج هامة يثبتها قاضى هذه المحكمة إجمالا فيما يلى:
أولاً: من وجهة تطبيق النصوص الباطلة: يجب على القاضى ألا يطبقها فى القانون الوضعى ، وعليه أن يطبقها فقط فى حالات الصحة ، وليس للقاضى أن يحتج بأن القوانين لا تخوله حق الفصل فى صحتها وبطلانها ، مرتكنا فى ذلك إلى نفس هذه القوانين ، فإن سلطة القاضى فى إهدار ما يخالف الشريعة تأتى من الشريعة ذاتها لا من القوانين المخالفة لها .
وإذا وصم القاضى القانون المخالف فى حكمه بالبطلان ، وجب عليه أن يطبق حكم الشريعة تطبيقا مباشرا وفوريا وليس يهمه بعد ذلك أن ينفذ حكمه أولا ينفذ ما دام قد أدى واجبه ، وعمل ما يعتقده أنه الحق والصواب ، فضلا عن أن التنفيذ ليس من اختصاصه بل من اختصاص السلطة التنفيذية القابضة على الحكم فى البلاد ، وهى الملزمة لزوم حتم أن تنفذ هى أحكام القضاء كلما كانت نهائية أو مقرونة بالنفاذ .
ثانياً: من وجهة تطبيق القوانين بصفة عامة: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان أن لا يطبق من أحكام القوانين الوضعية ـ بكافة أنواعها ـ إلا الأحكام التى تتفق ونصوص الشريعة ، أما تلك المخالفة لها فتهمل إهمالا تاما ويجب تجاهلها بلا حدود ، لتحل محلها أحكام الشريعة هكذا فورا ودون معقب .
ثالثاً: من وجهة تطبيق الشريعة: يترتب على بطلان النصوص القانونية الوضعية المخالفة للشريعة أن تطبق المحاكم وفى الحال نصوص قوانين الشريعة دون حاجة لتدخل من الهيئة التشريعية . لا . بل إنه يترتب على البطلان أن يلتزم مجلس الشعب حدود الشريعة فيما يصدره من قوانين جديدة . [ يراجع مؤلف التشريع الجنائى الإسلامى للأستاذ الشهيد عبد القادر عودة جزء 1 بند 195 ] .
· وحيث إنه ترتيبا على سالف القول: فإنه لم يعد فى مصر بعد التعديل الدستورى ـ فى نص المادة الثانية منه ـ مكان إلا لشريعة الإسلام ، ويجب لذلك أن يسلك القاضى اليوم سلوك الشريعة ومداخلها مستعينا فى ذلك بأحكام أصول الفقه علما وأساساً فى استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية ومنابعها الأصلية ، مستأنسا بالثروة الفقهية الهائلة فى الإسلام ، قياساً على نهجه فى الرجوع عند كل حكم إلى مراجع القانون الوضعى المختلفة لعلماء مصر . لا بل إن المسئولية الجسيمة ـ بعد التعديل الدستورى المشار إليه ـ لم تعد مسئولية السلطة التشريعية فى البلاد بل مسئولية القاضى ، ثم هى ذاتها مسئوليته أمام الله ، ذلك أن صياغة أحكام الشريعة الإسلامية فى قوالب وتقنينات على نمط القوانين الأدنى هو غير ذى ضرورة ، فتلك القوالب لم تكن فى عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تظهر إلا مؤخرا ، فضلا عن أنها لم تكن فى عصر الدولة الإسلامية ، ثم إن عدم سن القوانين لا يمكن أن يعطل تنفيذ الدستور الوضعى ذاته لحظة واحدة .
وإذا كانت السلطة التشريعية ترغب فى سن قوانين من الشريعة على النمط الوضعى فكان ينبغى عليها أن تعد هذه القوانين قبل نفاذ العديل الدستورى لا بعده ، وإذا كان الدستور لم ينص على فترة زمنية أو مرحلة انتقالية محددة يتم خلالها إعداد تلك القوانين ؛ فهذا لا يعنى إلا أن المشرع الدستورى قد قصد إعمال الشريعة الإسلامية فور نفاذ التعديل الدستورى ، ولا معنى أبدا لامتناع السلطة التشريعية عن البدء فورا فى سن قوانين مستمدة من شريعة الإسلام حتى الآن إلا أن هذا المجلس يعتنق وجهة النظر هذه ، ويرى أن البناء القانونى كله ـ فى مصر ـ قد أصبح قائما على الإسلام .
والآن: يجب على من يرى عدم تطبيق الشريعة إلى أن يتم تقنينها أن يجيب على سؤالين:
السؤال الأول: أيهما أفضل أن يطبق القاضى الشريعة الإسلامية مستمدا أحكامه من مصادرها الشرعية ؛ أم يمتنع عن تطبيقها ـ دون سند ـ حتى يتم تقنينها والسلطة التشريعية قد جمدت مشروعات قوانينها فى أزلية لا حساب لها؟.
السؤال الثانى: كيف كانت تحكم دولة الإسلام ردحا طويلا من الزمان ، قبل ظهور قوالب التقنينات فى مصر على النمط الأوروبى الذى استوردته الدولة على يد علمائها وفقهائها من رجالات القانون ؟ .
· وحيث إن الشريعة الإسلامية هى قانون الدولة الإسلامية ما وافقها من قوانين وضعية وجب إعماله تطبيقا ومنهجا وتنفيذا ، وما خالفها وجب صده ورده وعصيانه دون تردد ؛ لأن شريعة الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قانونا ـ ما نزلت على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لإعمالها وإنفاذها وتطبيقها جملة وتفصيلا فى كل زمان ومكان وإلى يوم الدين ، لا تلغى ولا تنسخ ولا تعصى وذلك طاعة لله القائل: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)) [سورة المائدة: 49] .
ثم إن النصوص كقاعدة عامة لا تنسخ إلا بنصوص فى مثل قوتها ، أو أقوى منها ، وإعمالا لهذه القاعدة القانونية الضاربة بأصولها فى جذور التاريخ ، فإن ما بين أيدينا "كتاب الله" "وسنة رسول الله" ولا يمكن أن ينسخ كلام الله بعد انقطاع الوحى ، ولا تتأنى سنة أخرى بعد وفاة رسول الله ، ومن ثم فليس لأية سلطة فى ظل الشريعة الإسلامية ، ليس لها حق التشريع بعد الله إلا بسن التشريعات التنفيذية والتنظيمية التى تستهدف ضمان تنفيذ منهج الله حدودا وأحكاما ، روحا ونصا ، أساسا وقاعدة ، هدفا وغاية ومن ثم وكانت الشريعة فى مصر ـ بكل أسف ـ قد قضت نحبها ، فى الحدود والقصاص والديات والفوائد ، على يد السلطة التشريعية فى البلاد . فإن هذا الوضع وإن أصبح مألوفا إلا أنه مقيت ممجوج ، انقضى أوانه وزال عصره وعهده .
ويلزم القول الآن: إنه لا يوجد سند شرعى مطلقا لتطبيق القوانين الوضعية المخالفة لحدود الله ، فهى قد عادت معدومة باطلة ، ووجب بالتالى تنحيتها إعمالا لشريعة الديان القائل: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)) [سورة النساء: 105] وقال: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة النساء: 65] وقال: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)) [سورة الأحزاب: 36] وقال: ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا)) [سورة النور:51] .
والنظام الدستورى المصرى فى هيكله العام : نظامٌ إسلامىٌّ ، ومن ثم فلا محل فيه بتاتا لقداسة التشريع الوضعى فيما خالف قول الله وحدوده ـ ومنها مواد القيد فى هذه الدعوى ـ والتى هى فى حقيقتها تعطيل لأحكام شريعة الإسلام حيث حد الله فى الخمر فأصبحت هذه فى ظل القانون الوضعى مباحة وحلالا على شاربيها ولا عقاب على الشرب منها مطلقا إلا أن يوجد شاربها فى حالة سكر بين وبالطريق العام . فإن كان السكر بينا ولكن فى محل خاص فلا إثم ولا عقاب . ثم هو إن كان سكرا غير بين فلا جريمة ولا عقاب . وهذا يعنى أن العقوبة التى قررها الشارع المصرى ليست على شرب الخمر حيث هو ، ولا على السكر أينما يكون وممن يكون ، وإنما على وجود السكران فى طريق عام ، كما هو الحال فى هذه الدعوى وهذا الأثيم .
· وحيث إنه لا مجال أبدا لقولة حق أريد بها باطل بأن القوانين الوضعية واجبة التطبيق طاعة لولى الأمر ، ولاء ليمين يحلفه القاضى:
إذ أن الطاعة تستند استنادا خاطئا على تفسير خاطئ لقول الله: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولى الأمر منكم)) [سورة النساء: 59] إذ الأخذ بخاطئ التفسير هذا بأن الله أمر بطاعة أولى الأمر ، تماما كما أمر بطاعته وطاعة رسوله ، يؤدى هذا التفسير الخاطئ إلى منزلق خطير هو: وجوب طاعة القوانين الوضعية التى تولدت عن أولى الأمر حتى ما خالف منها حدود الله ، وأن المشرع وحده هو المسئول عن تلك القوانين المعادية للإسلام أمام الله .
هذا القول فضلا عن كامل خطئه ، فإنه لا سند له من الشرع أو العقل أو المنطق ، لأن الآية الكريمة أوجبت طاعة الله وطاعة رسوله كل منهما استقلالا ، أما طاعة أولى الأمر فإنها تكون بالتبعية بمعنى أنها لا تكون إلا حيث تكون أوامرهم موافقة ومستمدة من أوامر الله ، إذ أنه عز من قائل كرر فعل الطاعة مرتين ثنتين لا ثالث لهما ، مرة عنده وأخرى عند رسوله ، وطرحها والتفت عنها عند: "أولى الأمر" عاطفا طاعتهم على طاعة الله ورسوله . ومفاد ذلك أن طاعة الله ورسوله كلتيهما واجبتان استقلالا أما طاعة أولى الأمر فلا تكون ولا ينبغى أن تكون إلا حيث يتوافر لها شرطان لازمان لها:
الشرط الأول: أن تُسْتَقَى أوامرهم كليا وجزئيا من أوامر الله أو من أوامر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
الشرط الثانى: ألا يطاع أولوا الأمر إلا بعد استيفاء طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم). والتجرد لهما تماما . إذ الأمر البشرى هنا إن تمت طاعته كان معصية لله إن هو خالف أمرا له . وقد ورد فى ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة " وقوله: "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" .
ثم إن الولاء ليمين حلفه القاضى عندما ولى القضاء على احترام القوانين ، حقيقته حسن النية والقصد الشريف لديه أنه لم يكن فى حسبانه ، ولم يدر بخلده أبدا عند ذاك اليمين ، أنه ـ وهو القاضى المسلم ـ سيتنكب الطريق يوما ما عصيانا لله ، إذ أن كلمات الله ـ سالفة البيان ـ فى قدسيتها وأزليتها موجهة بالدرجة الأولى إلى القضاة ، حيث شجاعة الإسلام وحيث النزاهة والعدل والإيمان بالله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم إن قاضى هذه المحكمة حلف اليمين فى إطار كلمة التوحيد ، وقد روى أن رسول الله قال: " لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك " .
والحق كل الحق أنه ليست معضلة ولا طلسما ولا لغزا ، أن تكون حدود الله فى مصر قوانين ، يعمل بها ، ويطبقها القاضى بين الناس . وإن من المخازى النكراء أن يتشدق البعض بأن ثمة إلزاما وحتما على القاضى المسلم يكلف بتطبيق قانون وضعى ، طارحا قوانين الله الخالق الرازق .
والمحكمة تومئ إلى نص المادة الثانية عشر من الدستور والتى جرى نصها على أن: " يلتزم المجتمع برعاية الأخلاق وحمايتها ، وعليه مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية ، والقيم الخلقية ، والآداب العامة ، وتلتزم الدولة باتباع هذه المبادئ والتمكين لها " . ومن ثم فإن المحكمة تتساءل: ماذا بعد هجر كتاب الله دستورا من قيم خلقية؟ وماذا بعد عدم تقنين حدود الله والقصاص والديات ومنع الربا من رعاية للأخلاق وحمايتها؟ وما بعد عدم اتخاذ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة وقيادة من مستوى رفيع للتربية الدينية أو الآداب العامة؟ وماذا بعد طرح مشروعات قوانين الله جمعاء من التزام للدولة باتباع المبادئ والتمكين لها؟ .
إن القاعدة الإسلامية والقانونية معا ، والتى ينبغى إعمالها فى كل مجال هى: (إن الحكم إلا لله) [سورة الأنعام: 57] وإن القيمة المثلى ما قاله الله : ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية: 88] . ومن ثم فإنه إذا كانت وثيقة إعلان الدستور قد ورد بصلبها ما نصه : "باسم الله وعونه ، نلتزم إلى غير ما حد ودون قيد أو شرط ، أن نبذل الجهد عرفانا بحق الله ورسالاته ، على أن نقبل ونمنح لأنفسنا هذا الدستور ، مؤكدين عزمنا الأكيد على الدفاع عنه وعلى حمايته" إذا كان ذلك كذلك : فهل الالتزام فى دولة دينها الإسلام يكون بالالتزام بغير ما أنزل الله؟ إنه لأمر نادر وشاذ وعجيب!!! وهل العرفان بحق الله ورسالاته نسف حدود الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ إنه لأمر غريب ومقيت!!! وهل الدفاع والحماية والعزم الأكيد لهذا وذاك يكونان لغير دستور الله؟؟؟ . إنه لأمر ممجوج يتأباه ويلفظه جميع القضاة المسلمين ، فهناك مشروعات قوانين إسلامية طى الأدراج يجب أن تظهر للنور ، لتكون قوانين مطبقة فى البلاد بغير ما قيد ولا شرط ولا حدود .
والمحكمة تشير أيضا ـ فى إصرار ـ إلى ما نصت عليه المادة 74 من الدستور والتى جرى نصها على أن: "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية ، أو سلامة الوطن ، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستورى . أن يتخذ من الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ، ويوجه بيانا إلى الشعب ، ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات" ومنطلقا من هذا النص الدستورى ، وقياسا على سابق العديد من الاستفتاءات فى شتى صورها وأشكالها وتباين أنواعها ، فإن لقاضى هذه المحكمة أن يطالب ـ بحزم الإسلام ـ بإجراء استفتاء دستورى عادل على مشروعا قوانين الإسلام ، فليس من خطر يهدد كيان الأمة أعتى من تجميد تلك الحدود الإلهية . وليس من هلاك يهدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن أعنف ولا أعتى من تعطيل شرعة الله . وليس يعوق مؤسسات الدولة حقا فى كل اتجاه من تجاهل وطرح دين الله أو سنة رسول الله .
والمحكمة تنوه ـ وهى فى عزة الإسلام ـ إلى ما نصت عليه المادة 112 من الدستور والتى جرى نصها على أنه: "لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين" كما وأن السلطة التشريعية فى البلاد قد فوضته رئيسا لمصر فى إصدار قرارات لها قوة القانون . ومن ثم فإن قاضى هذه المحكمة منطلقا من كلمة التوحيد ، وأمانة الكلمة ، تناشد السيد رئيس الجمهورية استعمال حقه الدستورى ذاك ، وعليه أن يبث الروح فى مشروعات حدود الله جمعاء ، وذلك بإصدارها قانونا يتلى إلى يوم القيامة ، ليطبق وينفذ بين الناس ، فهذا حقه الدستورى والإلهى معا ، إبراء لذمته أمام الله والناس ، ووضعا للأمور فى نصابها العادل المتين إعمالا لقول الله: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله)) سورة المائدة: 49 فالقرآن وهو دين الله ، أوحى بتعاليمه وشرائعه إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون هو الحكم والحكم ، وليكون صالحا لكل زمان ومكان ، لأنه وضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام . وكل تشريع يخالف ما جاء به كتاب الله أو ما قاله محمدٌ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنما هو باطل ورد ، يجب تنحيته وطرحه والالتفات عنه تماما ، والاحتكام إلى شرعة الله ورسوله .
وليس لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل فى إقرار قوانين السماء ، لأن التسويف فى ذلك معصية لله ورسوله واتباع لطريق الغىّ والهوى دون الرشاد والهدى . كل هذا نزولا على قوله الله أمرا وطاعة .
وتوجه المحكمة فى هذا المقام إلى السيد رئيس الجمهورية قول الله تعالى: ((ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطا)) [سورة الكهف: 28] . وتثنى لسيادته بقول الله: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية:18]. وفى الثالثة تكرر له قول الخالق: ((فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى * قال: رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا ؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)) [سورة طه: 124 ، 125 ، 126] .
· وحيث إن المحكمة لا يفوتها وهى بإزاء استعراضها لجريمة الجانى الماثل ، وعلى ما سلف استهلالا للحكم ـ أن تقرر بأن جريمته تلك : هى مثال لكارثة خلقية رخيصة بكل المقاييس والمعايير والاعتبارات . وأن مثالها ارتكب ولا يزال يرتكبها آخرون ـ غير المحاسب الجانى ـ لا يمثلون ـ ولن يمثلوا أبدا مثله فى قفص الاتهام . تعنى المحكمة بهؤلاء: صناديد الخمارات ، وتجار الخمور بتراخيص القانون ، وأساطين صالات لعب الميسر والقمار هنا وهناك ، وعتاولة مجرمى الخمر بملاهى شارع الهرم ، وجميعا يشربونها مطمئنين بلا وازع ولا رادع ولا ضمير ، وإنهم لمراكزهم أو لصفاتهم أو لمادياتهم أو لذواتهم وشخصياتهم ـ بكل أسف ـ يتركون ، بل وبحماية القانون لهم يتنعمون ، ولكنهم خوارج !!! ، اجرامهم فاق الحد والتصور ، لحمتهم الخمر وسداهم احتساؤها ! ، عديدون حقا لا ينالهم أبدا أصوات الاتهام ولا قيد السجان أو رسف الأغلال ، وكل هذا يحدث فى مصر بسياج من السلطان !!! .
لذا فالمحكمة تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، أن تضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه ـ تحت أى وصف ومن خلال أى عذر ـ أن يشرب الخمر ، وأن تضع نصب أعينها أنه قد هلك من كانوا قبلنا ، كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ ، وأن يكون فى المقام الأول لديها أنه لا استثناء فى قانون الله . ومن ثم فإن عليها بيد من حديد أن تحارب الشرب شرا فى مكامنه وجذوره فى كل مكان ، خلقا للانضباط الحق ، ونشراً لقيم السماء وتعاليم الله ، ومنعا للتسيب المهين وذلك حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم .
· وحيث إن المحكمة قد انتهت فى سالف القواعد ، قواعد العقائد ، إلى بطلان كل قانون مخالف لأحكام شريعة السماء ، وعلى رأس هذه القوانين: مواد القيد فى هذه الدعوى ، فجميعها باطلة بطلانا مطلقا ، ثم هى تفتقر إلى سند "الشرعية" ومن ثم وجب تطبيق شريعة الإسلام وأحكامها ، نزولا على طاعة الله ورسوله ، وتمكينا لأحكامه فى الدولة أن تكون .
تضع المحكمة حد الشرب الإسلامى موضع التنفيذ ، حكما بما أنزل الله وما جاء على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد ثبتت الإدانة فى جانب المتهم ثبوت اليقين .
· وحيث إن الأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا ، إذ هى من حقوق الله خالصة ، ومن ثم فإن المحكمة تشمل حكمها بالنفاذ ، تاركة وزر عدم تنفيذ العقوبة المقضى بها على السلطة المسئولة عن ذلك . منوهة أنه طبقا للقواعد الشرعية ، وعند التنفيذ ، يضرب الجانى بسوط غير يابس ، ضربا متوسطا لئلا يجرح أو يبرح ، وألا يكون بالسوط عقدة فى طرفه حتى لا يصاب الجسم ، كما يضرب الجانى قائما ، ويكون الضرب على سائر الأعضاء عدا الوجه والفرج والرأس .
· وحيث إن الله قال: ((كل نفس بما كسبت رهينة)) [سورة المدثر: 38] .
فلهــذه الأسبــاب
أولاً: حكمت المحكمة حضوريا ، بجلد المتهم ثمانين جلدة مع النفاذ .
ثانياً: تحتكم المحكمة إلى إجراء استفتاء دستورى عادل تجريه السلطات المعنية حول مشروعات قوانين الحدود والقصاص والديات وتحريم الفوائد .
ثالثاً: إن المحكمة ـ درءاً ليوم قد يأتى يمتنع فيه جميع القضاة عن تطبيق ما سوى ما أنزل الله تناشد السيد رئيس الجمهورية إصدار قوانين الحدود ، كما تناشد السلطة التشريعية ، وكل مسئول عن التشريع فى الدولة إقرارها قوانين يطبقها القضاة وتنفذها السلطة .
رابعاً: على الأزهر ، ووزارة الأوقاف ، ودار الإفتاء ، وأجهزة الإعلام كل فى مجاله . مطالبة الجهات المعنية بإصدارها إقرار مشروعات القوانين الإسلامية جميعها ، وإخراجها من حيز الطمس إلى نطاق اللمس ، ومن حيز الأدراج إلى عالم الإفراج ، ومن حيز التمويه إلى بساط التنفيذ ، ومن حيز التنميق إلى حيث التطبيق .
خامساً: على النيابة العامة إخبار كل بصفته ممن ورد ذكره بالبندين الأخيرين بنسخة طبق الأصل من هذا الحكم صلبا ومنطوقا .
محكمة جنح قسم عابدين
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
هانى عباس عبد الجواد وكيل النائب العام
هانى محمد خلف أمين السر
جلسة 12 جمادى الأولى ـ 1402 هـ .
8 / 3 / 1982 .
· وحيث إن واقعات الدعوى وفى مجال تبيان إثم الجانى المستوجب لعقاب الله بيانا كافيا ، يتحقق به أركان الجريمة ، والظروف التى وقعت فيها ، وأدلة ثبوت وقوع الفعل المؤثم من الجانى ، بحيث يتضح منه وجه الاستدلال وسلامة المأخذ ، فإن المحكمة هيمنة وسيطرة منها على كافة جوانبها وعناصرها تستعرضها على الوجه الآتي:
بتاريخ 7 / 2 / 1982 وفى تمام الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة صباحا تم لأحد السادة نقباء الشرطة ضبط الواقعة ، أثبت بالمحضر مقدمة له: أنه تم ضبط المتهم حالة كونه يسير مترنحا بشارع عدلى ، يهذى بعبارات غامضة ، غير طبيعية ، فقام من فوره بالقبض عليه ، تحقق معه فقرر بأنه وهو فى بدء العقد الرابع من عمره ؛ ويعمل محاسبا أحضروه إلى قسم الشرطة جبرا عنه . ثم ـ على حد تعبيره ـ وصف التقرير الطبى المتوقع عليه بأنه "غلط" . والمحضر ختاما ممهور بتوقيعه .
أرفق بالأوراق تقرير طبى مؤرخ 7 / 2 / 1982 برقم 260 صادر عن مستشفى أحمد ماهر التعلميى تضمن أنه بالكشف الظاهرى على الجانى "وجد أنه فى حالة سكر بين" .
بذات التاريخ عرضت الأوراق برمتها والمتهم على النيابة العامة ، فدعته داخل غرفة التحقيق ، وسألته شفاهة وإجمالا عن الاتهام المنسوب إليه بعد إذ أحاطته علما بها وبعقوبتها وبشخص وكيل النائب العام وبأن النيابة العامة هى التى تباشر التحقيق معه ، فاعترف مقراً بأنه قد شرب زجاجتين من البيرة ، داخل بار بشارع عدلى ، ولما هم بالخروج يحاول استيقاف سيارة أجرة له يستقلها ليعند قافلا إلى منزله ـ عندئذ تم القبض عليه .
إثر ذلك أمرت النيابة بإخلاء سبيل الجانى وقدمته إلى المحاكمة بالقيد والوصف سالفى البيان بمستهل هذا الحكم ، وكلفته بالمثول بالجلسة المحددة ، فكان أن حضر فى اليوم المبين أمام القضاء بالجلسة المنعقدة علنا بسراى المحكمة .
سألت المحكمة الجانى عن الاتهام المنسوب إليه فاعترف بالشرب ، اختيارا وعندئذ أمرت المحكمة بإلقاء القبض عليه وحبسه على ذمة الدعوى ولحين صدور الحكم فيها بإذن الله بجلسة اليوم ، وذلك وفقا لما للمحكمة من حق مقرر بنص المادتين 134 ، 303 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية .
· وحيث إن الاتهام ثابت قبل الجانى ، وذلك من محضر ضبط الواقعة ، ومما أثبته الكشف الطبى المتوقع عليه ، ومن اعترافه الثابت أمام سلطة الاتهام ثم فى مجلس القضاء بجلسة المحاكمة العلنية اختيارا منه .
· وحيث إن المحكمة قد ثبت فى يقينها ، واستقر فى وجدانها أن الجانى قد ارتكب جريمته وأتى فعله المؤثم والمعاقب عليه ، وذلك وفقا لما جرى به أسلوب الدليل فى الإسلام ، وطبقا لما جرى به نص المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية الوضعى.
إذ يشترط ـ فى الفقه الإسلامى ـ لإقامة الحد: أن يشرب الجانى باختياره ، وأن يكون مكلفا فلا حد على صغير أو مجنون أو معتوه ، كما يشترط العلم .
كما يثبت الشرب ـ فى الإسلام ـ بالبينة أو الإقرار أو الاعتراف . والأوراق المعروضة تنطق بتوافر تلك الشروط ، كما تشهد بالثبوت من واقع الاعتراف أمام مجلس القضاء بالجلسة العلنية ، إذ أن هذا فى حقيقته إقرار على النفس بارتكاب الجريمة المؤثمة بقانون الإسلام . ويجمع الاعتراف هنا بين كونه إجراء يباشره المتهم ودليلا تأخذ به المحكمة ، إذ الإدلاء بالاعتراف أمام المحكمة هو إجراء من إجراءات الإثبات . ومضمون الاعتراف ذاته هو الدليل الواضح الذى تعتمد عليه المحكمة ، ومن ناحية أخرى فقد تحققت شروط صحة هذا الاعتراف من أهلية إجرائية ، وإرادة حرة . كما أن مضمونه واضح لا لبس فيه ولا إبهام ولا غموض ، فهو وارد على الواقعة الإجرامية ذاتها ، تلك المسندة إلى الجانى والمؤثمة فى ذات الوقت . وعلى ذلك درجت أحكام محكمتنا العليا [ نقض 10 / 6 / 1952 مجموعة الأحكام س ـ 3 رقم 403 ص 1076 . ويراجع فى ذلك مؤلف الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية جزء 1 ، 2 للأستاذ الدكتور أحمد فتحى سرور صفحة 398 وما بعدها ] .
كما وأن ركنى الجريمة متوافران لدى الجانى من شرب وقصد جنائى ، وثبت كلاهما فى يقين المحكمة وضميرها بما لا يقبل الشك أو التأويل أو التخمين .
· وحيث إنه تجدر الإشارة إلى أن الخصومة الجنائية ترمى إلى معرفة الحقيقة المطلقة ، مما يقتضى أن يصدر حكم القاضى عن اقتناع يقينى بصحة ما ينتهى إليه من وقائع ، فالحقيقة لا يمكن توافرها إلا باليقين التام لا بمجرد الظن والاحتمال ، وبعبارة أخرى فإن اليقين هو أساس الحقيقة القضائية . وفضلا عن ذلك فإن اليقين هو الذى يولد الثقة فى عدالة حكم القضاء. ذلك أنه فى مرحلة الحكم : يجب أن يتوافر اليقين التام بالإدانة لا مجرد الترجيح [المرجع السابق صفحة 461 وما بعدها] .
· وحيث إنه تأسيسا على ما سلف بيانه ، كان يتعين عقاب الجانى طبقا لمواد التجريم الوضعية نزولا على نص المادة 304 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية ، إلا أن المحكمة بادئ ذى بدء ، لابد أن تتخذ موقفا من مواد القيد هذه وهى التى سطرتها النيابة العامة ، موقفا تؤصله على جوهر من الإسلام والقانون معا ، ثم تنتهى إلى ما انتهت إليه بالبند الأول من المنطوق بشأن الجانى .
فوجهة نظر الإسلام فى مثل هذه النوعية من الجرائم هو أن الشريعة الإسلامية حرمت الخمر تحريما قاطعا لكونها مضيعة للنفس والعقل والجسد والمال . فحرمتها واضعة التحريم موضع التنفيذ ، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ)) ؟ [سورة المائدة: 90 ، 91] وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" ، وقد انعقد إجماع الصحابة والفقهاء على أن الخمر هو كل ما خامر العقل وستره دون عدٍّ ولا إحصاء ، لأنه جَدّ من أنواع المسكرات مالا يحصى نوعا ولا عدا ، فالإسكار الذى هو فيها هو سبب التحريم. [يراجع مؤلف العقوبة للإمام أبو زهرة صفحة 162 وما بعدها] ، كما وأن الخمر وأثرها الضار واضح على الصحة بالغ الضرر ، وقد أثبت الطب أن شربها يؤدى إلى اضطرابات فى الجهاز العصبى المركزى ومنها فقد الإحساس ، والدوار ، وطنين الأذن ، كما يؤدى إلى التسمم الكحولى الذى قد يؤدى إلى الوفاة وإلى ضعف التركيز والذاكرة وانخفاض مستوى الذكاء . كما أن تأثيرها مباشر على المخ والأغشية المحيطة به ، ثم إن شربها يؤدى إلى فقدان الشهية للطعام وإلى الالتهابات وقرح المعدة ، وتليف الكبد ، والقىء وفقدان الوزن ، وانخفاض معدل نبضات القلب ، وهبوط فى مركز التنفس بالمخ ثم إن الامتناع الفجائى عنها يعرض للانهيار التام وربما للجنون .
· وحيث إنه قد ثبت أنه قد أتى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، وروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه" وأنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ولما ولى عمر بن الخطاب الخلافة استشار عليا بن أبى طالب فقال له : "أرى أن يجلد ثمانين لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون جلدة" ، كما جرى نص المادة الأولى من مشروع قانون حد الشرب ـ المقدم إلى السلطة التشريعية منذ 17 / 6 / 1976 والصادر عن اللجنة العليا بوزارة العدل ـ على أن "يحرم شرب الخمر وتعاطيها ، وحيازتها ، وإحرازها ، وصنعها ، وتحضيرها ، وإنتاجها ، وجلبها ، واستيرادها ، وتصديرها ، والاتجار فيها ، وتقديمها ، وإهداؤها ، وترويجها ، ونقلها ، والدعوة إليها ، والإعلان عنها ، وسائر أوجه النشاط المتعلق بها" ونصت المادة 324 من مشروع قانون إسلامى آخر ـ قدم إلى ذات السلطة فى 20 / 12 / 1975 على أن: "يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها" . وجميع الأشربة المسكرة متساوية فى كونها تسكر وفيها المفسدة ، والله لا يفرق بين المتماثلين ، وكل من استحل المسكر فقد كفر [ تراجع الفتوى رقم 699 من الفتاوى الإسلامية المجلدان الثالث والرابع س 1981 صفحة 1567 ] .
· وحيث إن المادة 191 من الدستور قد جرى نصها على أن: "كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام ـ قبل ـ صدور هذا الدستور يبقى صحيحا نافدا ، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقا للقواعد والإجراءات المقررة فى هذا الدستور" .
هذا النص لا ينصرف حكمه إلا إلى التشريعات التى لم تلغ أو تعدل بقوة نفاذ هذا الدستور بغير حاجة إلى تدخل من المشرع [ نقض جلسة 24 / 3 / 1975 طعن 45 ق مجموعة الأحكام الصادرة من الهيئة العامة للمواد الجنائية. ومن الدائرة الجنائية س 26 صفحة 258 والطعون أرقام 866 / 45 ق جلسة 9 / 6 / 1975 ق جلسة 15 / 6 / 1975 ، 302 / 45 ق جلسة 21 / 12 / 1975 م ] .
وترتيبا على ذلك فإن القوانين السابقة على التعديل الدستورى الذى نص على أن "الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع" تعتبر منسوخة فى أحكامها المخالفة للشريعة الإسلامية ، كما تعبر معدلة بما يتفق وأحكام الشريعة الغراء ـ القابل منها لهذا التعديل وسارية بالنسبة للقوانين التى تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية ، ولا تثار بالنسبة لتلك القوانين مسألة مدى دستوريتها ما دامت سابقة على الدستور وإلا لثارت هذه المسألة بالنسبة لكل تشريع يصدر بتعديل تشريع سابق أيا كانت درجة التشريع ، أى سواء أكان هذا التشريع تشريعا دستوريا أو عاديا أو فرعيا .
وإنما تثار مسألة الدستورية بالنسبة للقوانين اللاحقة على الدستور المخالفة له فقط لأن هذه القوانين هى التى يتصور أن يكون واضعها قد خالف بها الدستور أما القوانين السابقة عليه : فإنه لا يتصور بداهة أن يراعى فى سنها أحكام دستور لم يولد بعد ، ولم يعرف أحكامه أحد ، ذلك بأن قانونا ما غير دستورى يعنى أن واضع ذلك القانون قد خالف أحكام الدستور القائم فعلا .
· وحيث إنه أخذا بما سلف بيانه قانونا ، فإن القدر المتيقن والذى لا يمكن أن يثار بالنسبة له أى خلاف هو : أن التعديل الدستورى ـ سالف البسط ـ قد ترتب عليه فور نفاذه بطلان جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، وبمجرد صدور هذا التعديل ـ المستفتى عليه ـ فقد لفظت تلكم القوانين أنفاسها الأخيرة ، ومنها القانون الذى احتوى مواد القيد فى هذه الدعوى ، وفارقت إثر ذلك حياتها إلى غير رجعة . ومن ثم فإن القول بلزوم التطبيق لقوانين فانية حتى تقوم السلطة التشريعية بسن قوانين بديلة مستمدة من الشريعة الغراء ـ فضلا عن أنه قول ليست له أية قيمة قانونية أو حتى منطقية ـ فمعناه الوحيد أن تظل مصر دولة بربرية بلا قانون بالنسبة لتلك القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، والتى ألغيت بالتعديل الدستورى (سالف البيان).
ومن ثم فقد أصبحت قوانين معادية معدومة الوجود ، لا بل إن القول بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية فيه إعمال لنص الدستور ذاته ، كما وأن فيه تنزيه للمشرع الوضعى عن العبث ، ومن المعروف فى فقه التفسير أن "التفسير الذى يعمل النص خير من التفسير الذى يهمله" فضلا عن أن هذا الحل الشرعى القانونى هو المخرج الوحيد الذى يملأ الفراغ الناتج عن بطلان القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية والمعمول بها فى مصر .
والقول بوجوب انتظار استصدار تشريعات من السلطة التشريعية مستمدة من الشريعة الغراء ، يؤدى إلى أوضاع شاذة بغير ما وصف ولا حدود ، ذلك لأنه لم يوضع ضابط زمنى دستورى أو قانونى بعد لتلك التشريعات ، ثم إنه إذا جارينا ذلك الفهم لكان معنى هذا أزلية فى تعطيل نصوص الدستور الوضعى بغير ما سند من الدستور ذاته ، لا بل إن الأخذ بهذا المنطق الغريب يؤدى بالتالى إلى إمكان تعطيل الدستور وإهمال كل قيمة له بل وإهدار جميع نصوصه ، والأثر الحتمى لذلك هو تضييع حقوق الأفراد وحرياتهم وضماناتهم بغير ما سند من القانون أو العقل أو المنطق ومن ثم فإن النتيجة الحتمية التى لا يمكن أن يثار حولها جدل هى: أن جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية باطلة معدومة لافتقارها إلى سند الشرعية.
· وحيث إنه يترتب على اعتبار النصوص المخالفة للشريعة الإسلامية أنها باطلة بطلانا مطلقا نتائج هامة يثبتها قاضى هذه المحكمة إجمالا فيما يلى:
أولاً: من وجهة تطبيق النصوص الباطلة: يجب على القاضى ألا يطبقها فى القانون الوضعى ، وعليه أن يطبقها فقط فى حالات الصحة ، وليس للقاضى أن يحتج بأن القوانين لا تخوله حق الفصل فى صحتها وبطلانها ، مرتكنا فى ذلك إلى نفس هذه القوانين ، فإن سلطة القاضى فى إهدار ما يخالف الشريعة تأتى من الشريعة ذاتها لا من القوانين المخالفة لها .
وإذا وصم القاضى القانون المخالف فى حكمه بالبطلان ، وجب عليه أن يطبق حكم الشريعة تطبيقا مباشرا وفوريا وليس يهمه بعد ذلك أن ينفذ حكمه أولا ينفذ ما دام قد أدى واجبه ، وعمل ما يعتقده أنه الحق والصواب ، فضلا عن أن التنفيذ ليس من اختصاصه بل من اختصاص السلطة التنفيذية القابضة على الحكم فى البلاد ، وهى الملزمة لزوم حتم أن تنفذ هى أحكام القضاء كلما كانت نهائية أو مقرونة بالنفاذ .
ثانياً: من وجهة تطبيق القوانين بصفة عامة: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان أن لا يطبق من أحكام القوانين الوضعية ـ بكافة أنواعها ـ إلا الأحكام التى تتفق ونصوص الشريعة ، أما تلك المخالفة لها فتهمل إهمالا تاما ويجب تجاهلها بلا حدود ، لتحل محلها أحكام الشريعة هكذا فورا ودون معقب .
ثالثاً: من وجهة تطبيق الشريعة: يترتب على بطلان النصوص القانونية الوضعية المخالفة للشريعة أن تطبق المحاكم وفى الحال نصوص قوانين الشريعة دون حاجة لتدخل من الهيئة التشريعية . لا . بل إنه يترتب على البطلان أن يلتزم مجلس الشعب حدود الشريعة فيما يصدره من قوانين جديدة . [ يراجع مؤلف التشريع الجنائى الإسلامى للأستاذ الشهيد عبد القادر عودة جزء 1 بند 195 ] .
· وحيث إنه ترتيبا على سالف القول: فإنه لم يعد فى مصر بعد التعديل الدستورى ـ فى نص المادة الثانية منه ـ مكان إلا لشريعة الإسلام ، ويجب لذلك أن يسلك القاضى اليوم سلوك الشريعة ومداخلها مستعينا فى ذلك بأحكام أصول الفقه علما وأساساً فى استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية ومنابعها الأصلية ، مستأنسا بالثروة الفقهية الهائلة فى الإسلام ، قياساً على نهجه فى الرجوع عند كل حكم إلى مراجع القانون الوضعى المختلفة لعلماء مصر . لا بل إن المسئولية الجسيمة ـ بعد التعديل الدستورى المشار إليه ـ لم تعد مسئولية السلطة التشريعية فى البلاد بل مسئولية القاضى ، ثم هى ذاتها مسئوليته أمام الله ، ذلك أن صياغة أحكام الشريعة الإسلامية فى قوالب وتقنينات على نمط القوانين الأدنى هو غير ذى ضرورة ، فتلك القوالب لم تكن فى عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تظهر إلا مؤخرا ، فضلا عن أنها لم تكن فى عصر الدولة الإسلامية ، ثم إن عدم سن القوانين لا يمكن أن يعطل تنفيذ الدستور الوضعى ذاته لحظة واحدة .
وإذا كانت السلطة التشريعية ترغب فى سن قوانين من الشريعة على النمط الوضعى فكان ينبغى عليها أن تعد هذه القوانين قبل نفاذ العديل الدستورى لا بعده ، وإذا كان الدستور لم ينص على فترة زمنية أو مرحلة انتقالية محددة يتم خلالها إعداد تلك القوانين ؛ فهذا لا يعنى إلا أن المشرع الدستورى قد قصد إعمال الشريعة الإسلامية فور نفاذ التعديل الدستورى ، ولا معنى أبدا لامتناع السلطة التشريعية عن البدء فورا فى سن قوانين مستمدة من شريعة الإسلام حتى الآن إلا أن هذا المجلس يعتنق وجهة النظر هذه ، ويرى أن البناء القانونى كله ـ فى مصر ـ قد أصبح قائما على الإسلام .
والآن: يجب على من يرى عدم تطبيق الشريعة إلى أن يتم تقنينها أن يجيب على سؤالين:
السؤال الأول: أيهما أفضل أن يطبق القاضى الشريعة الإسلامية مستمدا أحكامه من مصادرها الشرعية ؛ أم يمتنع عن تطبيقها ـ دون سند ـ حتى يتم تقنينها والسلطة التشريعية قد جمدت مشروعات قوانينها فى أزلية لا حساب لها؟.
السؤال الثانى: كيف كانت تحكم دولة الإسلام ردحا طويلا من الزمان ، قبل ظهور قوالب التقنينات فى مصر على النمط الأوروبى الذى استوردته الدولة على يد علمائها وفقهائها من رجالات القانون ؟ .
· وحيث إن الشريعة الإسلامية هى قانون الدولة الإسلامية ما وافقها من قوانين وضعية وجب إعماله تطبيقا ومنهجا وتنفيذا ، وما خالفها وجب صده ورده وعصيانه دون تردد ؛ لأن شريعة الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قانونا ـ ما نزلت على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لإعمالها وإنفاذها وتطبيقها جملة وتفصيلا فى كل زمان ومكان وإلى يوم الدين ، لا تلغى ولا تنسخ ولا تعصى وذلك طاعة لله القائل: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)) [سورة المائدة: 49] .
ثم إن النصوص كقاعدة عامة لا تنسخ إلا بنصوص فى مثل قوتها ، أو أقوى منها ، وإعمالا لهذه القاعدة القانونية الضاربة بأصولها فى جذور التاريخ ، فإن ما بين أيدينا "كتاب الله" "وسنة رسول الله" ولا يمكن أن ينسخ كلام الله بعد انقطاع الوحى ، ولا تتأنى سنة أخرى بعد وفاة رسول الله ، ومن ثم فليس لأية سلطة فى ظل الشريعة الإسلامية ، ليس لها حق التشريع بعد الله إلا بسن التشريعات التنفيذية والتنظيمية التى تستهدف ضمان تنفيذ منهج الله حدودا وأحكاما ، روحا ونصا ، أساسا وقاعدة ، هدفا وغاية ومن ثم وكانت الشريعة فى مصر ـ بكل أسف ـ قد قضت نحبها ، فى الحدود والقصاص والديات والفوائد ، على يد السلطة التشريعية فى البلاد . فإن هذا الوضع وإن أصبح مألوفا إلا أنه مقيت ممجوج ، انقضى أوانه وزال عصره وعهده .
ويلزم القول الآن: إنه لا يوجد سند شرعى مطلقا لتطبيق القوانين الوضعية المخالفة لحدود الله ، فهى قد عادت معدومة باطلة ، ووجب بالتالى تنحيتها إعمالا لشريعة الديان القائل: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)) [سورة النساء: 105] وقال: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة النساء: 65] وقال: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)) [سورة الأحزاب: 36] وقال: ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا)) [سورة النور:51] .
والنظام الدستورى المصرى فى هيكله العام : نظامٌ إسلامىٌّ ، ومن ثم فلا محل فيه بتاتا لقداسة التشريع الوضعى فيما خالف قول الله وحدوده ـ ومنها مواد القيد فى هذه الدعوى ـ والتى هى فى حقيقتها تعطيل لأحكام شريعة الإسلام حيث حد الله فى الخمر فأصبحت هذه فى ظل القانون الوضعى مباحة وحلالا على شاربيها ولا عقاب على الشرب منها مطلقا إلا أن يوجد شاربها فى حالة سكر بين وبالطريق العام . فإن كان السكر بينا ولكن فى محل خاص فلا إثم ولا عقاب . ثم هو إن كان سكرا غير بين فلا جريمة ولا عقاب . وهذا يعنى أن العقوبة التى قررها الشارع المصرى ليست على شرب الخمر حيث هو ، ولا على السكر أينما يكون وممن يكون ، وإنما على وجود السكران فى طريق عام ، كما هو الحال فى هذه الدعوى وهذا الأثيم .
· وحيث إنه لا مجال أبدا لقولة حق أريد بها باطل بأن القوانين الوضعية واجبة التطبيق طاعة لولى الأمر ، ولاء ليمين يحلفه القاضى:
إذ أن الطاعة تستند استنادا خاطئا على تفسير خاطئ لقول الله: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولى الأمر منكم)) [سورة النساء: 59] إذ الأخذ بخاطئ التفسير هذا بأن الله أمر بطاعة أولى الأمر ، تماما كما أمر بطاعته وطاعة رسوله ، يؤدى هذا التفسير الخاطئ إلى منزلق خطير هو: وجوب طاعة القوانين الوضعية التى تولدت عن أولى الأمر حتى ما خالف منها حدود الله ، وأن المشرع وحده هو المسئول عن تلك القوانين المعادية للإسلام أمام الله .
هذا القول فضلا عن كامل خطئه ، فإنه لا سند له من الشرع أو العقل أو المنطق ، لأن الآية الكريمة أوجبت طاعة الله وطاعة رسوله كل منهما استقلالا ، أما طاعة أولى الأمر فإنها تكون بالتبعية بمعنى أنها لا تكون إلا حيث تكون أوامرهم موافقة ومستمدة من أوامر الله ، إذ أنه عز من قائل كرر فعل الطاعة مرتين ثنتين لا ثالث لهما ، مرة عنده وأخرى عند رسوله ، وطرحها والتفت عنها عند: "أولى الأمر" عاطفا طاعتهم على طاعة الله ورسوله . ومفاد ذلك أن طاعة الله ورسوله كلتيهما واجبتان استقلالا أما طاعة أولى الأمر فلا تكون ولا ينبغى أن تكون إلا حيث يتوافر لها شرطان لازمان لها:
الشرط الأول: أن تُسْتَقَى أوامرهم كليا وجزئيا من أوامر الله أو من أوامر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
الشرط الثانى: ألا يطاع أولوا الأمر إلا بعد استيفاء طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم). والتجرد لهما تماما . إذ الأمر البشرى هنا إن تمت طاعته كان معصية لله إن هو خالف أمرا له . وقد ورد فى ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة " وقوله: "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" .
ثم إن الولاء ليمين حلفه القاضى عندما ولى القضاء على احترام القوانين ، حقيقته حسن النية والقصد الشريف لديه أنه لم يكن فى حسبانه ، ولم يدر بخلده أبدا عند ذاك اليمين ، أنه ـ وهو القاضى المسلم ـ سيتنكب الطريق يوما ما عصيانا لله ، إذ أن كلمات الله ـ سالفة البيان ـ فى قدسيتها وأزليتها موجهة بالدرجة الأولى إلى القضاة ، حيث شجاعة الإسلام وحيث النزاهة والعدل والإيمان بالله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم إن قاضى هذه المحكمة حلف اليمين فى إطار كلمة التوحيد ، وقد روى أن رسول الله قال: " لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك " .
والحق كل الحق أنه ليست معضلة ولا طلسما ولا لغزا ، أن تكون حدود الله فى مصر قوانين ، يعمل بها ، ويطبقها القاضى بين الناس . وإن من المخازى النكراء أن يتشدق البعض بأن ثمة إلزاما وحتما على القاضى المسلم يكلف بتطبيق قانون وضعى ، طارحا قوانين الله الخالق الرازق .
والمحكمة تومئ إلى نص المادة الثانية عشر من الدستور والتى جرى نصها على أن: " يلتزم المجتمع برعاية الأخلاق وحمايتها ، وعليه مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية ، والقيم الخلقية ، والآداب العامة ، وتلتزم الدولة باتباع هذه المبادئ والتمكين لها " . ومن ثم فإن المحكمة تتساءل: ماذا بعد هجر كتاب الله دستورا من قيم خلقية؟ وماذا بعد عدم تقنين حدود الله والقصاص والديات ومنع الربا من رعاية للأخلاق وحمايتها؟ وما بعد عدم اتخاذ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة وقيادة من مستوى رفيع للتربية الدينية أو الآداب العامة؟ وماذا بعد طرح مشروعات قوانين الله جمعاء من التزام للدولة باتباع المبادئ والتمكين لها؟ .
إن القاعدة الإسلامية والقانونية معا ، والتى ينبغى إعمالها فى كل مجال هى: (إن الحكم إلا لله) [سورة الأنعام: 57] وإن القيمة المثلى ما قاله الله : ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية: 88] . ومن ثم فإنه إذا كانت وثيقة إعلان الدستور قد ورد بصلبها ما نصه : "باسم الله وعونه ، نلتزم إلى غير ما حد ودون قيد أو شرط ، أن نبذل الجهد عرفانا بحق الله ورسالاته ، على أن نقبل ونمنح لأنفسنا هذا الدستور ، مؤكدين عزمنا الأكيد على الدفاع عنه وعلى حمايته" إذا كان ذلك كذلك : فهل الالتزام فى دولة دينها الإسلام يكون بالالتزام بغير ما أنزل الله؟ إنه لأمر نادر وشاذ وعجيب!!! وهل العرفان بحق الله ورسالاته نسف حدود الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ إنه لأمر غريب ومقيت!!! وهل الدفاع والحماية والعزم الأكيد لهذا وذاك يكونان لغير دستور الله؟؟؟ . إنه لأمر ممجوج يتأباه ويلفظه جميع القضاة المسلمين ، فهناك مشروعات قوانين إسلامية طى الأدراج يجب أن تظهر للنور ، لتكون قوانين مطبقة فى البلاد بغير ما قيد ولا شرط ولا حدود .
والمحكمة تشير أيضا ـ فى إصرار ـ إلى ما نصت عليه المادة 74 من الدستور والتى جرى نصها على أن: "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية ، أو سلامة الوطن ، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستورى . أن يتخذ من الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ، ويوجه بيانا إلى الشعب ، ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات" ومنطلقا من هذا النص الدستورى ، وقياسا على سابق العديد من الاستفتاءات فى شتى صورها وأشكالها وتباين أنواعها ، فإن لقاضى هذه المحكمة أن يطالب ـ بحزم الإسلام ـ بإجراء استفتاء دستورى عادل على مشروعا قوانين الإسلام ، فليس من خطر يهدد كيان الأمة أعتى من تجميد تلك الحدود الإلهية . وليس من هلاك يهدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن أعنف ولا أعتى من تعطيل شرعة الله . وليس يعوق مؤسسات الدولة حقا فى كل اتجاه من تجاهل وطرح دين الله أو سنة رسول الله .
والمحكمة تنوه ـ وهى فى عزة الإسلام ـ إلى ما نصت عليه المادة 112 من الدستور والتى جرى نصها على أنه: "لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين" كما وأن السلطة التشريعية فى البلاد قد فوضته رئيسا لمصر فى إصدار قرارات لها قوة القانون . ومن ثم فإن قاضى هذه المحكمة منطلقا من كلمة التوحيد ، وأمانة الكلمة ، تناشد السيد رئيس الجمهورية استعمال حقه الدستورى ذاك ، وعليه أن يبث الروح فى مشروعات حدود الله جمعاء ، وذلك بإصدارها قانونا يتلى إلى يوم القيامة ، ليطبق وينفذ بين الناس ، فهذا حقه الدستورى والإلهى معا ، إبراء لذمته أمام الله والناس ، ووضعا للأمور فى نصابها العادل المتين إعمالا لقول الله: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله)) سورة المائدة: 49 فالقرآن وهو دين الله ، أوحى بتعاليمه وشرائعه إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون هو الحكم والحكم ، وليكون صالحا لكل زمان ومكان ، لأنه وضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام . وكل تشريع يخالف ما جاء به كتاب الله أو ما قاله محمدٌ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنما هو باطل ورد ، يجب تنحيته وطرحه والالتفات عنه تماما ، والاحتكام إلى شرعة الله ورسوله .
وليس لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل فى إقرار قوانين السماء ، لأن التسويف فى ذلك معصية لله ورسوله واتباع لطريق الغىّ والهوى دون الرشاد والهدى . كل هذا نزولا على قوله الله أمرا وطاعة .
وتوجه المحكمة فى هذا المقام إلى السيد رئيس الجمهورية قول الله تعالى: ((ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطا)) [سورة الكهف: 28] . وتثنى لسيادته بقول الله: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية:18]. وفى الثالثة تكرر له قول الخالق: ((فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى * قال: رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا ؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)) [سورة طه: 124 ، 125 ، 126] .
· وحيث إن المحكمة لا يفوتها وهى بإزاء استعراضها لجريمة الجانى الماثل ، وعلى ما سلف استهلالا للحكم ـ أن تقرر بأن جريمته تلك : هى مثال لكارثة خلقية رخيصة بكل المقاييس والمعايير والاعتبارات . وأن مثالها ارتكب ولا يزال يرتكبها آخرون ـ غير المحاسب الجانى ـ لا يمثلون ـ ولن يمثلوا أبدا مثله فى قفص الاتهام . تعنى المحكمة بهؤلاء: صناديد الخمارات ، وتجار الخمور بتراخيص القانون ، وأساطين صالات لعب الميسر والقمار هنا وهناك ، وعتاولة مجرمى الخمر بملاهى شارع الهرم ، وجميعا يشربونها مطمئنين بلا وازع ولا رادع ولا ضمير ، وإنهم لمراكزهم أو لصفاتهم أو لمادياتهم أو لذواتهم وشخصياتهم ـ بكل أسف ـ يتركون ، بل وبحماية القانون لهم يتنعمون ، ولكنهم خوارج !!! ، اجرامهم فاق الحد والتصور ، لحمتهم الخمر وسداهم احتساؤها ! ، عديدون حقا لا ينالهم أبدا أصوات الاتهام ولا قيد السجان أو رسف الأغلال ، وكل هذا يحدث فى مصر بسياج من السلطان !!! .
لذا فالمحكمة تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، أن تضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه ـ تحت أى وصف ومن خلال أى عذر ـ أن يشرب الخمر ، وأن تضع نصب أعينها أنه قد هلك من كانوا قبلنا ، كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ ، وأن يكون فى المقام الأول لديها أنه لا استثناء فى قانون الله . ومن ثم فإن عليها بيد من حديد أن تحارب الشرب شرا فى مكامنه وجذوره فى كل مكان ، خلقا للانضباط الحق ، ونشراً لقيم السماء وتعاليم الله ، ومنعا للتسيب المهين وذلك حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم .
· وحيث إن المحكمة قد انتهت فى سالف القواعد ، قواعد العقائد ، إلى بطلان كل قانون مخالف لأحكام شريعة السماء ، وعلى رأس هذه القوانين: مواد القيد فى هذه الدعوى ، فجميعها باطلة بطلانا مطلقا ، ثم هى تفتقر إلى سند "الشرعية" ومن ثم وجب تطبيق شريعة الإسلام وأحكامها ، نزولا على طاعة الله ورسوله ، وتمكينا لأحكامه فى الدولة أن تكون .
تضع المحكمة حد الشرب الإسلامى موضع التنفيذ ، حكما بما أنزل الله وما جاء على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد ثبتت الإدانة فى جانب المتهم ثبوت اليقين .
· وحيث إن الأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا ، إذ هى من حقوق الله خالصة ، ومن ثم فإن المحكمة تشمل حكمها بالنفاذ ، تاركة وزر عدم تنفيذ العقوبة المقضى بها على السلطة المسئولة عن ذلك . منوهة أنه طبقا للقواعد الشرعية ، وعند التنفيذ ، يضرب الجانى بسوط غير يابس ، ضربا متوسطا لئلا يجرح أو يبرح ، وألا يكون بالسوط عقدة فى طرفه حتى لا يصاب الجسم ، كما يضرب الجانى قائما ، ويكون الضرب على سائر الأعضاء عدا الوجه والفرج والرأس .
· وحيث إن الله قال: ((كل نفس بما كسبت رهينة)) [سورة المدثر: 38] .
فلهــذه الأسبــاب
أولاً: حكمت المحكمة حضوريا ، بجلد المتهم ثمانين جلدة مع النفاذ .
ثانياً: تحتكم المحكمة إلى إجراء استفتاء دستورى عادل تجريه السلطات المعنية حول مشروعات قوانين الحدود والقصاص والديات وتحريم الفوائد .
ثالثاً: إن المحكمة ـ درءاً ليوم قد يأتى يمتنع فيه جميع القضاة عن تطبيق ما سوى ما أنزل الله تناشد السيد رئيس الجمهورية إصدار قوانين الحدود ، كما تناشد السلطة التشريعية ، وكل مسئول عن التشريع فى الدولة إقرارها قوانين يطبقها القضاة وتنفذها السلطة .
رابعاً: على الأزهر ، ووزارة الأوقاف ، ودار الإفتاء ، وأجهزة الإعلام كل فى مجاله . مطالبة الجهات المعنية بإصدارها إقرار مشروعات القوانين الإسلامية جميعها ، وإخراجها من حيز الطمس إلى نطاق اللمس ، ومن حيز الأدراج إلى عالم الإفراج ، ومن حيز التمويه إلى بساط التنفيذ ، ومن حيز التنميق إلى حيث التطبيق .
خامساً: على النيابة العامة إخبار كل بصفته ممن ورد ذكره بالبندين الأخيرين بنسخة طبق الأصل من هذا الحكم صلبا ومنطوقا .
محكمة جنح قسم عابدين
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
هانى عباس عبد الجواد وكيل النائب العام
هانى محمد خلف أمين السر
جلسة 12 جمادى الأولى ـ 1402 هـ .
8 / 3 / 1982 .
خمور / (8) سكر بين بالطريق العام وجلد
كتبهااحمد الجمل ، في 9 يونيو 2011 الساعة: 15:13 م
· وحيث إن النيابة العامة أسندت إلى الجانى أنه وبتاريخ 7 / 2 / 1982 ضبط بحالة سكر بين بالطريق العام. وطالبت إنزال العقاب به وفق نصوص المواد 1 ، 2 ، 7 من القانون رقم 63 / 1976 بحظر شرب الخمر.
· وحيث إن واقعات الدعوى وفى مجال تبيان إثم الجانى المستوجب لعقاب الله بيانا كافيا ، يتحقق به أركان الجريمة ، والظروف التى وقعت فيها ، وأدلة ثبوت وقوع الفعل المؤثم من الجانى ، بحيث يتضح منه وجه الاستدلال وسلامة المأخذ ، فإن المحكمة هيمنة وسيطرة منها على كافة جوانبها وعناصرها تستعرضها على الوجه الآتي:
بتاريخ 7 / 2 / 1982 وفى تمام الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة صباحا تم لأحد السادة نقباء الشرطة ضبط الواقعة ، أثبت بالمحضر مقدمة له: أنه تم ضبط المتهم حالة كونه يسير مترنحا بشارع عدلى ، يهذى بعبارات غامضة ، غير طبيعية ، فقام من فوره بالقبض عليه ، تحقق معه فقرر بأنه وهو فى بدء العقد الرابع من عمره ؛ ويعمل محاسبا أحضروه إلى قسم الشرطة جبرا عنه . ثم ـ على حد تعبيره ـ وصف التقرير الطبى المتوقع عليه بأنه "غلط" . والمحضر ختاما ممهور بتوقيعه .
أرفق بالأوراق تقرير طبى مؤرخ 7 / 2 / 1982 برقم 260 صادر عن مستشفى أحمد ماهر التعلميى تضمن أنه بالكشف الظاهرى على الجانى "وجد أنه فى حالة سكر بين" .
بذات التاريخ عرضت الأوراق برمتها والمتهم على النيابة العامة ، فدعته داخل غرفة التحقيق ، وسألته شفاهة وإجمالا عن الاتهام المنسوب إليه بعد إذ أحاطته علما بها وبعقوبتها وبشخص وكيل النائب العام وبأن النيابة العامة هى التى تباشر التحقيق معه ، فاعترف مقراً بأنه قد شرب زجاجتين من البيرة ، داخل بار بشارع عدلى ، ولما هم بالخروج يحاول استيقاف سيارة أجرة له يستقلها ليعند قافلا إلى منزله ـ عندئذ تم القبض عليه .
إثر ذلك أمرت النيابة بإخلاء سبيل الجانى وقدمته إلى المحاكمة بالقيد والوصف سالفى البيان بمستهل هذا الحكم ، وكلفته بالمثول بالجلسة المحددة ، فكان أن حضر فى اليوم المبين أمام القضاء بالجلسة المنعقدة علنا بسراى المحكمة .
سألت المحكمة الجانى عن الاتهام المنسوب إليه فاعترف بالشرب ، اختيارا وعندئذ أمرت المحكمة بإلقاء القبض عليه وحبسه على ذمة الدعوى ولحين صدور الحكم فيها بإذن الله بجلسة اليوم ، وذلك وفقا لما للمحكمة من حق مقرر بنص المادتين 134 ، 303 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية .
· وحيث إن الاتهام ثابت قبل الجانى ، وذلك من محضر ضبط الواقعة ، ومما أثبته الكشف الطبى المتوقع عليه ، ومن اعترافه الثابت أمام سلطة الاتهام ثم فى مجلس القضاء بجلسة المحاكمة العلنية اختيارا منه .
· وحيث إن المحكمة قد ثبت فى يقينها ، واستقر فى وجدانها أن الجانى قد ارتكب جريمته وأتى فعله المؤثم والمعاقب عليه ، وذلك وفقا لما جرى به أسلوب الدليل فى الإسلام ، وطبقا لما جرى به نص المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية الوضعى.
إذ يشترط ـ فى الفقه الإسلامى ـ لإقامة الحد: أن يشرب الجانى باختياره ، وأن يكون مكلفا فلا حد على صغير أو مجنون أو معتوه ، كما يشترط العلم .
كما يثبت الشرب ـ فى الإسلام ـ بالبينة أو الإقرار أو الاعتراف . والأوراق المعروضة تنطق بتوافر تلك الشروط ، كما تشهد بالثبوت من واقع الاعتراف أمام مجلس القضاء بالجلسة العلنية ، إذ أن هذا فى حقيقته إقرار على النفس بارتكاب الجريمة المؤثمة بقانون الإسلام . ويجمع الاعتراف هنا بين كونه إجراء يباشره المتهم ودليلا تأخذ به المحكمة ، إذ الإدلاء بالاعتراف أمام المحكمة هو إجراء من إجراءات الإثبات . ومضمون الاعتراف ذاته هو الدليل الواضح الذى تعتمد عليه المحكمة ، ومن ناحية أخرى فقد تحققت شروط صحة هذا الاعتراف من أهلية إجرائية ، وإرادة حرة . كما أن مضمونه واضح لا لبس فيه ولا إبهام ولا غموض ، فهو وارد على الواقعة الإجرامية ذاتها ، تلك المسندة إلى الجانى والمؤثمة فى ذات الوقت . وعلى ذلك درجت أحكام محكمتنا العليا [ نقض 10 / 6 / 1952 مجموعة الأحكام س ـ 3 رقم 403 ص 1076 . ويراجع فى ذلك مؤلف الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية جزء 1 ، 2 للأستاذ الدكتور أحمد فتحى سرور صفحة 398 وما بعدها ] .
كما وأن ركنى الجريمة متوافران لدى الجانى من شرب وقصد جنائى ، وثبت كلاهما فى يقين المحكمة وضميرها بما لا يقبل الشك أو التأويل أو التخمين .
· وحيث إنه تجدر الإشارة إلى أن الخصومة الجنائية ترمى إلى معرفة الحقيقة المطلقة ، مما يقتضى أن يصدر حكم القاضى عن اقتناع يقينى بصحة ما ينتهى إليه من وقائع ، فالحقيقة لا يمكن توافرها إلا باليقين التام لا بمجرد الظن والاحتمال ، وبعبارة أخرى فإن اليقين هو أساس الحقيقة القضائية . وفضلا عن ذلك فإن اليقين هو الذى يولد الثقة فى عدالة حكم القضاء. ذلك أنه فى مرحلة الحكم : يجب أن يتوافر اليقين التام بالإدانة لا مجرد الترجيح [المرجع السابق صفحة 461 وما بعدها] .
· وحيث إنه تأسيسا على ما سلف بيانه ، كان يتعين عقاب الجانى طبقا لمواد التجريم الوضعية نزولا على نص المادة 304 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية ، إلا أن المحكمة بادئ ذى بدء ، لابد أن تتخذ موقفا من مواد القيد هذه وهى التى سطرتها النيابة العامة ، موقفا تؤصله على جوهر من الإسلام والقانون معا ، ثم تنتهى إلى ما انتهت إليه بالبند الأول من المنطوق بشأن الجانى .
فوجهة نظر الإسلام فى مثل هذه النوعية من الجرائم هو أن الشريعة الإسلامية حرمت الخمر تحريما قاطعا لكونها مضيعة للنفس والعقل والجسد والمال . فحرمتها واضعة التحريم موضع التنفيذ ، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ)) ؟ [سورة المائدة: 90 ، 91] وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" ، وقد انعقد إجماع الصحابة والفقهاء على أن الخمر هو كل ما خامر العقل وستره دون عدٍّ ولا إحصاء ، لأنه جَدّ من أنواع المسكرات مالا يحصى نوعا ولا عدا ، فالإسكار الذى هو فيها هو سبب التحريم. [يراجع مؤلف العقوبة للإمام أبو زهرة صفحة 162 وما بعدها] ، كما وأن الخمر وأثرها الضار واضح على الصحة بالغ الضرر ، وقد أثبت الطب أن شربها يؤدى إلى اضطرابات فى الجهاز العصبى المركزى ومنها فقد الإحساس ، والدوار ، وطنين الأذن ، كما يؤدى إلى التسمم الكحولى الذى قد يؤدى إلى الوفاة وإلى ضعف التركيز والذاكرة وانخفاض مستوى الذكاء . كما أن تأثيرها مباشر على المخ والأغشية المحيطة به ، ثم إن شربها يؤدى إلى فقدان الشهية للطعام وإلى الالتهابات وقرح المعدة ، وتليف الكبد ، والقىء وفقدان الوزن ، وانخفاض معدل نبضات القلب ، وهبوط فى مركز التنفس بالمخ ثم إن الامتناع الفجائى عنها يعرض للانهيار التام وربما للجنون .
· وحيث إنه قد ثبت أنه قد أتى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، وروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه" وأنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ولما ولى عمر بن الخطاب الخلافة استشار عليا بن أبى طالب فقال له : "أرى أن يجلد ثمانين لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون جلدة" ، كما جرى نص المادة الأولى من مشروع قانون حد الشرب ـ المقدم إلى السلطة التشريعية منذ 17 / 6 / 1976 والصادر عن اللجنة العليا بوزارة العدل ـ على أن "يحرم شرب الخمر وتعاطيها ، وحيازتها ، وإحرازها ، وصنعها ، وتحضيرها ، وإنتاجها ، وجلبها ، واستيرادها ، وتصديرها ، والاتجار فيها ، وتقديمها ، وإهداؤها ، وترويجها ، ونقلها ، والدعوة إليها ، والإعلان عنها ، وسائر أوجه النشاط المتعلق بها" ونصت المادة 324 من مشروع قانون إسلامى آخر ـ قدم إلى ذات السلطة فى 20 / 12 / 1975 على أن: "يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها" . وجميع الأشربة المسكرة متساوية فى كونها تسكر وفيها المفسدة ، والله لا يفرق بين المتماثلين ، وكل من استحل المسكر فقد كفر [ تراجع الفتوى رقم 699 من الفتاوى الإسلامية المجلدان الثالث والرابع س 1981 صفحة 1567 ] .
· وحيث إن المادة 191 من الدستور قد جرى نصها على أن: "كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام ـ قبل ـ صدور هذا الدستور يبقى صحيحا نافدا ، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقا للقواعد والإجراءات المقررة فى هذا الدستور" .
هذا النص لا ينصرف حكمه إلا إلى التشريعات التى لم تلغ أو تعدل بقوة نفاذ هذا الدستور بغير حاجة إلى تدخل من المشرع [ نقض جلسة 24 / 3 / 1975 طعن 45 ق مجموعة الأحكام الصادرة من الهيئة العامة للمواد الجنائية. ومن الدائرة الجنائية س 26 صفحة 258 والطعون أرقام 866 / 45 ق جلسة 9 / 6 / 1975 ق جلسة 15 / 6 / 1975 ، 302 / 45 ق جلسة 21 / 12 / 1975 م ] .
وترتيبا على ذلك فإن القوانين السابقة على التعديل الدستورى الذى نص على أن "الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع" تعتبر منسوخة فى أحكامها المخالفة للشريعة الإسلامية ، كما تعبر معدلة بما يتفق وأحكام الشريعة الغراء ـ القابل منها لهذا التعديل وسارية بالنسبة للقوانين التى تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية ، ولا تثار بالنسبة لتلك القوانين مسألة مدى دستوريتها ما دامت سابقة على الدستور وإلا لثارت هذه المسألة بالنسبة لكل تشريع يصدر بتعديل تشريع سابق أيا كانت درجة التشريع ، أى سواء أكان هذا التشريع تشريعا دستوريا أو عاديا أو فرعيا .
وإنما تثار مسألة الدستورية بالنسبة للقوانين اللاحقة على الدستور المخالفة له فقط لأن هذه القوانين هى التى يتصور أن يكون واضعها قد خالف بها الدستور أما القوانين السابقة عليه : فإنه لا يتصور بداهة أن يراعى فى سنها أحكام دستور لم يولد بعد ، ولم يعرف أحكامه أحد ، ذلك بأن قانونا ما غير دستورى يعنى أن واضع ذلك القانون قد خالف أحكام الدستور القائم فعلا .
· وحيث إنه أخذا بما سلف بيانه قانونا ، فإن القدر المتيقن والذى لا يمكن أن يثار بالنسبة له أى خلاف هو : أن التعديل الدستورى ـ سالف البسط ـ قد ترتب عليه فور نفاذه بطلان جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، وبمجرد صدور هذا التعديل ـ المستفتى عليه ـ فقد لفظت تلكم القوانين أنفاسها الأخيرة ، ومنها القانون الذى احتوى مواد القيد فى هذه الدعوى ، وفارقت إثر ذلك حياتها إلى غير رجعة . ومن ثم فإن القول بلزوم التطبيق لقوانين فانية حتى تقوم السلطة التشريعية بسن قوانين بديلة مستمدة من الشريعة الغراء ـ فضلا عن أنه قول ليست له أية قيمة قانونية أو حتى منطقية ـ فمعناه الوحيد أن تظل مصر دولة بربرية بلا قانون بالنسبة لتلك القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، والتى ألغيت بالتعديل الدستورى (سالف البيان).
ومن ثم فقد أصبحت قوانين معادية معدومة الوجود ، لا بل إن القول بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية فيه إعمال لنص الدستور ذاته ، كما وأن فيه تنزيه للمشرع الوضعى عن العبث ، ومن المعروف فى فقه التفسير أن "التفسير الذى يعمل النص خير من التفسير الذى يهمله" فضلا عن أن هذا الحل الشرعى القانونى هو المخرج الوحيد الذى يملأ الفراغ الناتج عن بطلان القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية والمعمول بها فى مصر .
والقول بوجوب انتظار استصدار تشريعات من السلطة التشريعية مستمدة من الشريعة الغراء ، يؤدى إلى أوضاع شاذة بغير ما وصف ولا حدود ، ذلك لأنه لم يوضع ضابط زمنى دستورى أو قانونى بعد لتلك التشريعات ، ثم إنه إذا جارينا ذلك الفهم لكان معنى هذا أزلية فى تعطيل نصوص الدستور الوضعى بغير ما سند من الدستور ذاته ، لا بل إن الأخذ بهذا المنطق الغريب يؤدى بالتالى إلى إمكان تعطيل الدستور وإهمال كل قيمة له بل وإهدار جميع نصوصه ، والأثر الحتمى لذلك هو تضييع حقوق الأفراد وحرياتهم وضماناتهم بغير ما سند من القانون أو العقل أو المنطق ومن ثم فإن النتيجة الحتمية التى لا يمكن أن يثار حولها جدل هى: أن جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية باطلة معدومة لافتقارها إلى سند الشرعية.
· وحيث إنه يترتب على اعتبار النصوص المخالفة للشريعة الإسلامية أنها باطلة بطلانا مطلقا نتائج هامة يثبتها قاضى هذه المحكمة إجمالا فيما يلى:
أولاً: من وجهة تطبيق النصوص الباطلة: يجب على القاضى ألا يطبقها فى القانون الوضعى ، وعليه أن يطبقها فقط فى حالات الصحة ، وليس للقاضى أن يحتج بأن القوانين لا تخوله حق الفصل فى صحتها وبطلانها ، مرتكنا فى ذلك إلى نفس هذه القوانين ، فإن سلطة القاضى فى إهدار ما يخالف الشريعة تأتى من الشريعة ذاتها لا من القوانين المخالفة لها .
وإذا وصم القاضى القانون المخالف فى حكمه بالبطلان ، وجب عليه أن يطبق حكم الشريعة تطبيقا مباشرا وفوريا وليس يهمه بعد ذلك أن ينفذ حكمه أولا ينفذ ما دام قد أدى واجبه ، وعمل ما يعتقده أنه الحق والصواب ، فضلا عن أن التنفيذ ليس من اختصاصه بل من اختصاص السلطة التنفيذية القابضة على الحكم فى البلاد ، وهى الملزمة لزوم حتم أن تنفذ هى أحكام القضاء كلما كانت نهائية أو مقرونة بالنفاذ .
ثانياً: من وجهة تطبيق القوانين بصفة عامة: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان أن لا يطبق من أحكام القوانين الوضعية ـ بكافة أنواعها ـ إلا الأحكام التى تتفق ونصوص الشريعة ، أما تلك المخالفة لها فتهمل إهمالا تاما ويجب تجاهلها بلا حدود ، لتحل محلها أحكام الشريعة هكذا فورا ودون معقب .
ثالثاً: من وجهة تطبيق الشريعة: يترتب على بطلان النصوص القانونية الوضعية المخالفة للشريعة أن تطبق المحاكم وفى الحال نصوص قوانين الشريعة دون حاجة لتدخل من الهيئة التشريعية . لا . بل إنه يترتب على البطلان أن يلتزم مجلس الشعب حدود الشريعة فيما يصدره من قوانين جديدة . [ يراجع مؤلف التشريع الجنائى الإسلامى للأستاذ الشهيد عبد القادر عودة جزء 1 بند 195 ] .
· وحيث إنه ترتيبا على سالف القول: فإنه لم يعد فى مصر بعد التعديل الدستورى ـ فى نص المادة الثانية منه ـ مكان إلا لشريعة الإسلام ، ويجب لذلك أن يسلك القاضى اليوم سلوك الشريعة ومداخلها مستعينا فى ذلك بأحكام أصول الفقه علما وأساساً فى استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية ومنابعها الأصلية ، مستأنسا بالثروة الفقهية الهائلة فى الإسلام ، قياساً على نهجه فى الرجوع عند كل حكم إلى مراجع القانون الوضعى المختلفة لعلماء مصر . لا بل إن المسئولية الجسيمة ـ بعد التعديل الدستورى المشار إليه ـ لم تعد مسئولية السلطة التشريعية فى البلاد بل مسئولية القاضى ، ثم هى ذاتها مسئوليته أمام الله ، ذلك أن صياغة أحكام الشريعة الإسلامية فى قوالب وتقنينات على نمط القوانين الأدنى هو غير ذى ضرورة ، فتلك القوالب لم تكن فى عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تظهر إلا مؤخرا ، فضلا عن أنها لم تكن فى عصر الدولة الإسلامية ، ثم إن عدم سن القوانين لا يمكن أن يعطل تنفيذ الدستور الوضعى ذاته لحظة واحدة .
وإذا كانت السلطة التشريعية ترغب فى سن قوانين من الشريعة على النمط الوضعى فكان ينبغى عليها أن تعد هذه القوانين قبل نفاذ العديل الدستورى لا بعده ، وإذا كان الدستور لم ينص على فترة زمنية أو مرحلة انتقالية محددة يتم خلالها إعداد تلك القوانين ؛ فهذا لا يعنى إلا أن المشرع الدستورى قد قصد إعمال الشريعة الإسلامية فور نفاذ التعديل الدستورى ، ولا معنى أبدا لامتناع السلطة التشريعية عن البدء فورا فى سن قوانين مستمدة من شريعة الإسلام حتى الآن إلا أن هذا المجلس يعتنق وجهة النظر هذه ، ويرى أن البناء القانونى كله ـ فى مصر ـ قد أصبح قائما على الإسلام .
والآن: يجب على من يرى عدم تطبيق الشريعة إلى أن يتم تقنينها أن يجيب على سؤالين:
السؤال الأول: أيهما أفضل أن يطبق القاضى الشريعة الإسلامية مستمدا أحكامه من مصادرها الشرعية ؛ أم يمتنع عن تطبيقها ـ دون سند ـ حتى يتم تقنينها والسلطة التشريعية قد جمدت مشروعات قوانينها فى أزلية لا حساب لها؟.
السؤال الثانى: كيف كانت تحكم دولة الإسلام ردحا طويلا من الزمان ، قبل ظهور قوالب التقنينات فى مصر على النمط الأوروبى الذى استوردته الدولة على يد علمائها وفقهائها من رجالات القانون ؟ .
· وحيث إن الشريعة الإسلامية هى قانون الدولة الإسلامية ما وافقها من قوانين وضعية وجب إعماله تطبيقا ومنهجا وتنفيذا ، وما خالفها وجب صده ورده وعصيانه دون تردد ؛ لأن شريعة الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قانونا ـ ما نزلت على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لإعمالها وإنفاذها وتطبيقها جملة وتفصيلا فى كل زمان ومكان وإلى يوم الدين ، لا تلغى ولا تنسخ ولا تعصى وذلك طاعة لله القائل: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)) [سورة المائدة: 49] .
ثم إن النصوص كقاعدة عامة لا تنسخ إلا بنصوص فى مثل قوتها ، أو أقوى منها ، وإعمالا لهذه القاعدة القانونية الضاربة بأصولها فى جذور التاريخ ، فإن ما بين أيدينا "كتاب الله" "وسنة رسول الله" ولا يمكن أن ينسخ كلام الله بعد انقطاع الوحى ، ولا تتأنى سنة أخرى بعد وفاة رسول الله ، ومن ثم فليس لأية سلطة فى ظل الشريعة الإسلامية ، ليس لها حق التشريع بعد الله إلا بسن التشريعات التنفيذية والتنظيمية التى تستهدف ضمان تنفيذ منهج الله حدودا وأحكاما ، روحا ونصا ، أساسا وقاعدة ، هدفا وغاية ومن ثم وكانت الشريعة فى مصر ـ بكل أسف ـ قد قضت نحبها ، فى الحدود والقصاص والديات والفوائد ، على يد السلطة التشريعية فى البلاد . فإن هذا الوضع وإن أصبح مألوفا إلا أنه مقيت ممجوج ، انقضى أوانه وزال عصره وعهده .
ويلزم القول الآن: إنه لا يوجد سند شرعى مطلقا لتطبيق القوانين الوضعية المخالفة لحدود الله ، فهى قد عادت معدومة باطلة ، ووجب بالتالى تنحيتها إعمالا لشريعة الديان القائل: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)) [سورة النساء: 105] وقال: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة النساء: 65] وقال: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)) [سورة الأحزاب: 36] وقال: ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا)) [سورة النور:51] .
والنظام الدستورى المصرى فى هيكله العام : نظامٌ إسلامىٌّ ، ومن ثم فلا محل فيه بتاتا لقداسة التشريع الوضعى فيما خالف قول الله وحدوده ـ ومنها مواد القيد فى هذه الدعوى ـ والتى هى فى حقيقتها تعطيل لأحكام شريعة الإسلام حيث حد الله فى الخمر فأصبحت هذه فى ظل القانون الوضعى مباحة وحلالا على شاربيها ولا عقاب على الشرب منها مطلقا إلا أن يوجد شاربها فى حالة سكر بين وبالطريق العام . فإن كان السكر بينا ولكن فى محل خاص فلا إثم ولا عقاب . ثم هو إن كان سكرا غير بين فلا جريمة ولا عقاب . وهذا يعنى أن العقوبة التى قررها الشارع المصرى ليست على شرب الخمر حيث هو ، ولا على السكر أينما يكون وممن يكون ، وإنما على وجود السكران فى طريق عام ، كما هو الحال فى هذه الدعوى وهذا الأثيم .
· وحيث إنه لا مجال أبدا لقولة حق أريد بها باطل بأن القوانين الوضعية واجبة التطبيق طاعة لولى الأمر ، ولاء ليمين يحلفه القاضى:
إذ أن الطاعة تستند استنادا خاطئا على تفسير خاطئ لقول الله: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولى الأمر منكم)) [سورة النساء: 59] إذ الأخذ بخاطئ التفسير هذا بأن الله أمر بطاعة أولى الأمر ، تماما كما أمر بطاعته وطاعة رسوله ، يؤدى هذا التفسير الخاطئ إلى منزلق خطير هو: وجوب طاعة القوانين الوضعية التى تولدت عن أولى الأمر حتى ما خالف منها حدود الله ، وأن المشرع وحده هو المسئول عن تلك القوانين المعادية للإسلام أمام الله .
هذا القول فضلا عن كامل خطئه ، فإنه لا سند له من الشرع أو العقل أو المنطق ، لأن الآية الكريمة أوجبت طاعة الله وطاعة رسوله كل منهما استقلالا ، أما طاعة أولى الأمر فإنها تكون بالتبعية بمعنى أنها لا تكون إلا حيث تكون أوامرهم موافقة ومستمدة من أوامر الله ، إذ أنه عز من قائل كرر فعل الطاعة مرتين ثنتين لا ثالث لهما ، مرة عنده وأخرى عند رسوله ، وطرحها والتفت عنها عند: "أولى الأمر" عاطفا طاعتهم على طاعة الله ورسوله . ومفاد ذلك أن طاعة الله ورسوله كلتيهما واجبتان استقلالا أما طاعة أولى الأمر فلا تكون ولا ينبغى أن تكون إلا حيث يتوافر لها شرطان لازمان لها:
الشرط الأول: أن تُسْتَقَى أوامرهم كليا وجزئيا من أوامر الله أو من أوامر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
الشرط الثانى: ألا يطاع أولوا الأمر إلا بعد استيفاء طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم). والتجرد لهما تماما . إذ الأمر البشرى هنا إن تمت طاعته كان معصية لله إن هو خالف أمرا له . وقد ورد فى ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة " وقوله: "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" .
ثم إن الولاء ليمين حلفه القاضى عندما ولى القضاء على احترام القوانين ، حقيقته حسن النية والقصد الشريف لديه أنه لم يكن فى حسبانه ، ولم يدر بخلده أبدا عند ذاك اليمين ، أنه ـ وهو القاضى المسلم ـ سيتنكب الطريق يوما ما عصيانا لله ، إذ أن كلمات الله ـ سالفة البيان ـ فى قدسيتها وأزليتها موجهة بالدرجة الأولى إلى القضاة ، حيث شجاعة الإسلام وحيث النزاهة والعدل والإيمان بالله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم إن قاضى هذه المحكمة حلف اليمين فى إطار كلمة التوحيد ، وقد روى أن رسول الله قال: " لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك " .
والحق كل الحق أنه ليست معضلة ولا طلسما ولا لغزا ، أن تكون حدود الله فى مصر قوانين ، يعمل بها ، ويطبقها القاضى بين الناس . وإن من المخازى النكراء أن يتشدق البعض بأن ثمة إلزاما وحتما على القاضى المسلم يكلف بتطبيق قانون وضعى ، طارحا قوانين الله الخالق الرازق .
والمحكمة تومئ إلى نص المادة الثانية عشر من الدستور والتى جرى نصها على أن: " يلتزم المجتمع برعاية الأخلاق وحمايتها ، وعليه مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية ، والقيم الخلقية ، والآداب العامة ، وتلتزم الدولة باتباع هذه المبادئ والتمكين لها " . ومن ثم فإن المحكمة تتساءل: ماذا بعد هجر كتاب الله دستورا من قيم خلقية؟ وماذا بعد عدم تقنين حدود الله والقصاص والديات ومنع الربا من رعاية للأخلاق وحمايتها؟ وما بعد عدم اتخاذ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة وقيادة من مستوى رفيع للتربية الدينية أو الآداب العامة؟ وماذا بعد طرح مشروعات قوانين الله جمعاء من التزام للدولة باتباع المبادئ والتمكين لها؟ .
إن القاعدة الإسلامية والقانونية معا ، والتى ينبغى إعمالها فى كل مجال هى: (إن الحكم إلا لله) [سورة الأنعام: 57] وإن القيمة المثلى ما قاله الله : ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية: 88] . ومن ثم فإنه إذا كانت وثيقة إعلان الدستور قد ورد بصلبها ما نصه : "باسم الله وعونه ، نلتزم إلى غير ما حد ودون قيد أو شرط ، أن نبذل الجهد عرفانا بحق الله ورسالاته ، على أن نقبل ونمنح لأنفسنا هذا الدستور ، مؤكدين عزمنا الأكيد على الدفاع عنه وعلى حمايته" إذا كان ذلك كذلك : فهل الالتزام فى دولة دينها الإسلام يكون بالالتزام بغير ما أنزل الله؟ إنه لأمر نادر وشاذ وعجيب!!! وهل العرفان بحق الله ورسالاته نسف حدود الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ إنه لأمر غريب ومقيت!!! وهل الدفاع والحماية والعزم الأكيد لهذا وذاك يكونان لغير دستور الله؟؟؟ . إنه لأمر ممجوج يتأباه ويلفظه جميع القضاة المسلمين ، فهناك مشروعات قوانين إسلامية طى الأدراج يجب أن تظهر للنور ، لتكون قوانين مطبقة فى البلاد بغير ما قيد ولا شرط ولا حدود .
والمحكمة تشير أيضا ـ فى إصرار ـ إلى ما نصت عليه المادة 74 من الدستور والتى جرى نصها على أن: "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية ، أو سلامة الوطن ، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستورى . أن يتخذ من الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ، ويوجه بيانا إلى الشعب ، ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات" ومنطلقا من هذا النص الدستورى ، وقياسا على سابق العديد من الاستفتاءات فى شتى صورها وأشكالها وتباين أنواعها ، فإن لقاضى هذه المحكمة أن يطالب ـ بحزم الإسلام ـ بإجراء استفتاء دستورى عادل على مشروعا قوانين الإسلام ، فليس من خطر يهدد كيان الأمة أعتى من تجميد تلك الحدود الإلهية . وليس من هلاك يهدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن أعنف ولا أعتى من تعطيل شرعة الله . وليس يعوق مؤسسات الدولة حقا فى كل اتجاه من تجاهل وطرح دين الله أو سنة رسول الله .
والمحكمة تنوه ـ وهى فى عزة الإسلام ـ إلى ما نصت عليه المادة 112 من الدستور والتى جرى نصها على أنه: "لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين" كما وأن السلطة التشريعية فى البلاد قد فوضته رئيسا لمصر فى إصدار قرارات لها قوة القانون . ومن ثم فإن قاضى هذه المحكمة منطلقا من كلمة التوحيد ، وأمانة الكلمة ، تناشد السيد رئيس الجمهورية استعمال حقه الدستورى ذاك ، وعليه أن يبث الروح فى مشروعات حدود الله جمعاء ، وذلك بإصدارها قانونا يتلى إلى يوم القيامة ، ليطبق وينفذ بين الناس ، فهذا حقه الدستورى والإلهى معا ، إبراء لذمته أمام الله والناس ، ووضعا للأمور فى نصابها العادل المتين إعمالا لقول الله: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله)) سورة المائدة: 49 فالقرآن وهو دين الله ، أوحى بتعاليمه وشرائعه إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون هو الحكم والحكم ، وليكون صالحا لكل زمان ومكان ، لأنه وضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام . وكل تشريع يخالف ما جاء به كتاب الله أو ما قاله محمدٌ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنما هو باطل ورد ، يجب تنحيته وطرحه والالتفات عنه تماما ، والاحتكام إلى شرعة الله ورسوله .
وليس لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل فى إقرار قوانين السماء ، لأن التسويف فى ذلك معصية لله ورسوله واتباع لطريق الغىّ والهوى دون الرشاد والهدى . كل هذا نزولا على قوله الله أمرا وطاعة .
وتوجه المحكمة فى هذا المقام إلى السيد رئيس الجمهورية قول الله تعالى: ((ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطا)) [سورة الكهف: 28] . وتثنى لسيادته بقول الله: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية:18]. وفى الثالثة تكرر له قول الخالق: ((فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى * قال: رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا ؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)) [سورة طه: 124 ، 125 ، 126] .
· وحيث إن المحكمة لا يفوتها وهى بإزاء استعراضها لجريمة الجانى الماثل ، وعلى ما سلف استهلالا للحكم ـ أن تقرر بأن جريمته تلك : هى مثال لكارثة خلقية رخيصة بكل المقاييس والمعايير والاعتبارات . وأن مثالها ارتكب ولا يزال يرتكبها آخرون ـ غير المحاسب الجانى ـ لا يمثلون ـ ولن يمثلوا أبدا مثله فى قفص الاتهام . تعنى المحكمة بهؤلاء: صناديد الخمارات ، وتجار الخمور بتراخيص القانون ، وأساطين صالات لعب الميسر والقمار هنا وهناك ، وعتاولة مجرمى الخمر بملاهى شارع الهرم ، وجميعا يشربونها مطمئنين بلا وازع ولا رادع ولا ضمير ، وإنهم لمراكزهم أو لصفاتهم أو لمادياتهم أو لذواتهم وشخصياتهم ـ بكل أسف ـ يتركون ، بل وبحماية القانون لهم يتنعمون ، ولكنهم خوارج !!! ، اجرامهم فاق الحد والتصور ، لحمتهم الخمر وسداهم احتساؤها ! ، عديدون حقا لا ينالهم أبدا أصوات الاتهام ولا قيد السجان أو رسف الأغلال ، وكل هذا يحدث فى مصر بسياج من السلطان !!! .
لذا فالمحكمة تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، أن تضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه ـ تحت أى وصف ومن خلال أى عذر ـ أن يشرب الخمر ، وأن تضع نصب أعينها أنه قد هلك من كانوا قبلنا ، كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ ، وأن يكون فى المقام الأول لديها أنه لا استثناء فى قانون الله . ومن ثم فإن عليها بيد من حديد أن تحارب الشرب شرا فى مكامنه وجذوره فى كل مكان ، خلقا للانضباط الحق ، ونشراً لقيم السماء وتعاليم الله ، ومنعا للتسيب المهين وذلك حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم .
· وحيث إن المحكمة قد انتهت فى سالف القواعد ، قواعد العقائد ، إلى بطلان كل قانون مخالف لأحكام شريعة السماء ، وعلى رأس هذه القوانين: مواد القيد فى هذه الدعوى ، فجميعها باطلة بطلانا مطلقا ، ثم هى تفتقر إلى سند "الشرعية" ومن ثم وجب تطبيق شريعة الإسلام وأحكامها ، نزولا على طاعة الله ورسوله ، وتمكينا لأحكامه فى الدولة أن تكون .
تضع المحكمة حد الشرب الإسلامى موضع التنفيذ ، حكما بما أنزل الله وما جاء على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد ثبتت الإدانة فى جانب المتهم ثبوت اليقين .
· وحيث إن الأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا ، إذ هى من حقوق الله خالصة ، ومن ثم فإن المحكمة تشمل حكمها بالنفاذ ، تاركة وزر عدم تنفيذ العقوبة المقضى بها على السلطة المسئولة عن ذلك . منوهة أنه طبقا للقواعد الشرعية ، وعند التنفيذ ، يضرب الجانى بسوط غير يابس ، ضربا متوسطا لئلا يجرح أو يبرح ، وألا يكون بالسوط عقدة فى طرفه حتى لا يصاب الجسم ، كما يضرب الجانى قائما ، ويكون الضرب على سائر الأعضاء عدا الوجه والفرج والرأس .
· وحيث إن الله قال: ((كل نفس بما كسبت رهينة)) [سورة المدثر: 38] .
فلهــذه الأسبــاب
أولاً: حكمت المحكمة حضوريا ، بجلد المتهم ثمانين جلدة مع النفاذ .
ثانياً: تحتكم المحكمة إلى إجراء استفتاء دستورى عادل تجريه السلطات المعنية حول مشروعات قوانين الحدود والقصاص والديات وتحريم الفوائد .
ثالثاً: إن المحكمة ـ درءاً ليوم قد يأتى يمتنع فيه جميع القضاة عن تطبيق ما سوى ما أنزل الله تناشد السيد رئيس الجمهورية إصدار قوانين الحدود ، كما تناشد السلطة التشريعية ، وكل مسئول عن التشريع فى الدولة إقرارها قوانين يطبقها القضاة وتنفذها السلطة .
رابعاً: على الأزهر ، ووزارة الأوقاف ، ودار الإفتاء ، وأجهزة الإعلام كل فى مجاله . مطالبة الجهات المعنية بإصدارها إقرار مشروعات القوانين الإسلامية جميعها ، وإخراجها من حيز الطمس إلى نطاق اللمس ، ومن حيز الأدراج إلى عالم الإفراج ، ومن حيز التمويه إلى بساط التنفيذ ، ومن حيز التنميق إلى حيث التطبيق .
خامساً: على النيابة العامة إخبار كل بصفته ممن ورد ذكره بالبندين الأخيرين بنسخة طبق الأصل من هذا الحكم صلبا ومنطوقا .
محكمة جنح قسم عابدين
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
هانى عباس عبد الجواد وكيل النائب العام
هانى محمد خلف أمين السر
جلسة 12 جمادى الأولى ـ 1402 هـ .
8 / 3 / 1982 .
· وحيث إن النيابة العامة أسندت إلى الجانى أنه وبتاريخ 7 / 2 / 1982 ضبط بحالة سكر بين بالطريق العام. وطالبت إنزال العقاب به وفق نصوص المواد 1 ، 2 ، 7 من القانون رقم 63 / 1976 بحظر شرب الخمر.
· وحيث إن واقعات الدعوى وفى مجال تبيان إثم الجانى المستوجب لعقاب الله بيانا كافيا ، يتحقق به أركان الجريمة ، والظروف التى وقعت فيها ، وأدلة ثبوت وقوع الفعل المؤثم من الجانى ، بحيث يتضح منه وجه الاستدلال وسلامة المأخذ ، فإن المحكمة هيمنة وسيطرة منها على كافة جوانبها وعناصرها تستعرضها على الوجه الآتي:
بتاريخ 7 / 2 / 1982 وفى تمام الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة صباحا تم لأحد السادة نقباء الشرطة ضبط الواقعة ، أثبت بالمحضر مقدمة له: أنه تم ضبط المتهم حالة كونه يسير مترنحا بشارع عدلى ، يهذى بعبارات غامضة ، غير طبيعية ، فقام من فوره بالقبض عليه ، تحقق معه فقرر بأنه وهو فى بدء العقد الرابع من عمره ؛ ويعمل محاسبا أحضروه إلى قسم الشرطة جبرا عنه . ثم ـ على حد تعبيره ـ وصف التقرير الطبى المتوقع عليه بأنه "غلط" . والمحضر ختاما ممهور بتوقيعه .
أرفق بالأوراق تقرير طبى مؤرخ 7 / 2 / 1982 برقم 260 صادر عن مستشفى أحمد ماهر التعلميى تضمن أنه بالكشف الظاهرى على الجانى "وجد أنه فى حالة سكر بين" .
بذات التاريخ عرضت الأوراق برمتها والمتهم على النيابة العامة ، فدعته داخل غرفة التحقيق ، وسألته شفاهة وإجمالا عن الاتهام المنسوب إليه بعد إذ أحاطته علما بها وبعقوبتها وبشخص وكيل النائب العام وبأن النيابة العامة هى التى تباشر التحقيق معه ، فاعترف مقراً بأنه قد شرب زجاجتين من البيرة ، داخل بار بشارع عدلى ، ولما هم بالخروج يحاول استيقاف سيارة أجرة له يستقلها ليعند قافلا إلى منزله ـ عندئذ تم القبض عليه .
إثر ذلك أمرت النيابة بإخلاء سبيل الجانى وقدمته إلى المحاكمة بالقيد والوصف سالفى البيان بمستهل هذا الحكم ، وكلفته بالمثول بالجلسة المحددة ، فكان أن حضر فى اليوم المبين أمام القضاء بالجلسة المنعقدة علنا بسراى المحكمة .
سألت المحكمة الجانى عن الاتهام المنسوب إليه فاعترف بالشرب ، اختيارا وعندئذ أمرت المحكمة بإلقاء القبض عليه وحبسه على ذمة الدعوى ولحين صدور الحكم فيها بإذن الله بجلسة اليوم ، وذلك وفقا لما للمحكمة من حق مقرر بنص المادتين 134 ، 303 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية .
· وحيث إن الاتهام ثابت قبل الجانى ، وذلك من محضر ضبط الواقعة ، ومما أثبته الكشف الطبى المتوقع عليه ، ومن اعترافه الثابت أمام سلطة الاتهام ثم فى مجلس القضاء بجلسة المحاكمة العلنية اختيارا منه .
· وحيث إن المحكمة قد ثبت فى يقينها ، واستقر فى وجدانها أن الجانى قد ارتكب جريمته وأتى فعله المؤثم والمعاقب عليه ، وذلك وفقا لما جرى به أسلوب الدليل فى الإسلام ، وطبقا لما جرى به نص المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية الوضعى.
إذ يشترط ـ فى الفقه الإسلامى ـ لإقامة الحد: أن يشرب الجانى باختياره ، وأن يكون مكلفا فلا حد على صغير أو مجنون أو معتوه ، كما يشترط العلم .
كما يثبت الشرب ـ فى الإسلام ـ بالبينة أو الإقرار أو الاعتراف . والأوراق المعروضة تنطق بتوافر تلك الشروط ، كما تشهد بالثبوت من واقع الاعتراف أمام مجلس القضاء بالجلسة العلنية ، إذ أن هذا فى حقيقته إقرار على النفس بارتكاب الجريمة المؤثمة بقانون الإسلام . ويجمع الاعتراف هنا بين كونه إجراء يباشره المتهم ودليلا تأخذ به المحكمة ، إذ الإدلاء بالاعتراف أمام المحكمة هو إجراء من إجراءات الإثبات . ومضمون الاعتراف ذاته هو الدليل الواضح الذى تعتمد عليه المحكمة ، ومن ناحية أخرى فقد تحققت شروط صحة هذا الاعتراف من أهلية إجرائية ، وإرادة حرة . كما أن مضمونه واضح لا لبس فيه ولا إبهام ولا غموض ، فهو وارد على الواقعة الإجرامية ذاتها ، تلك المسندة إلى الجانى والمؤثمة فى ذات الوقت . وعلى ذلك درجت أحكام محكمتنا العليا [ نقض 10 / 6 / 1952 مجموعة الأحكام س ـ 3 رقم 403 ص 1076 . ويراجع فى ذلك مؤلف الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية جزء 1 ، 2 للأستاذ الدكتور أحمد فتحى سرور صفحة 398 وما بعدها ] .
كما وأن ركنى الجريمة متوافران لدى الجانى من شرب وقصد جنائى ، وثبت كلاهما فى يقين المحكمة وضميرها بما لا يقبل الشك أو التأويل أو التخمين .
· وحيث إنه تجدر الإشارة إلى أن الخصومة الجنائية ترمى إلى معرفة الحقيقة المطلقة ، مما يقتضى أن يصدر حكم القاضى عن اقتناع يقينى بصحة ما ينتهى إليه من وقائع ، فالحقيقة لا يمكن توافرها إلا باليقين التام لا بمجرد الظن والاحتمال ، وبعبارة أخرى فإن اليقين هو أساس الحقيقة القضائية . وفضلا عن ذلك فإن اليقين هو الذى يولد الثقة فى عدالة حكم القضاء. ذلك أنه فى مرحلة الحكم : يجب أن يتوافر اليقين التام بالإدانة لا مجرد الترجيح [المرجع السابق صفحة 461 وما بعدها] .
· وحيث إنه تأسيسا على ما سلف بيانه ، كان يتعين عقاب الجانى طبقا لمواد التجريم الوضعية نزولا على نص المادة 304 / 2 من قانون الإجراءات الجنائية ، إلا أن المحكمة بادئ ذى بدء ، لابد أن تتخذ موقفا من مواد القيد هذه وهى التى سطرتها النيابة العامة ، موقفا تؤصله على جوهر من الإسلام والقانون معا ، ثم تنتهى إلى ما انتهت إليه بالبند الأول من المنطوق بشأن الجانى .
فوجهة نظر الإسلام فى مثل هذه النوعية من الجرائم هو أن الشريعة الإسلامية حرمت الخمر تحريما قاطعا لكونها مضيعة للنفس والعقل والجسد والمال . فحرمتها واضعة التحريم موضع التنفيذ ، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ)) ؟ [سورة المائدة: 90 ، 91] وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" ، وقد انعقد إجماع الصحابة والفقهاء على أن الخمر هو كل ما خامر العقل وستره دون عدٍّ ولا إحصاء ، لأنه جَدّ من أنواع المسكرات مالا يحصى نوعا ولا عدا ، فالإسكار الذى هو فيها هو سبب التحريم. [يراجع مؤلف العقوبة للإمام أبو زهرة صفحة 162 وما بعدها] ، كما وأن الخمر وأثرها الضار واضح على الصحة بالغ الضرر ، وقد أثبت الطب أن شربها يؤدى إلى اضطرابات فى الجهاز العصبى المركزى ومنها فقد الإحساس ، والدوار ، وطنين الأذن ، كما يؤدى إلى التسمم الكحولى الذى قد يؤدى إلى الوفاة وإلى ضعف التركيز والذاكرة وانخفاض مستوى الذكاء . كما أن تأثيرها مباشر على المخ والأغشية المحيطة به ، ثم إن شربها يؤدى إلى فقدان الشهية للطعام وإلى الالتهابات وقرح المعدة ، وتليف الكبد ، والقىء وفقدان الوزن ، وانخفاض معدل نبضات القلب ، وهبوط فى مركز التنفس بالمخ ثم إن الامتناع الفجائى عنها يعرض للانهيار التام وربما للجنون .
· وحيث إنه قد ثبت أنه قد أتى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، وروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه" وأنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ولما ولى عمر بن الخطاب الخلافة استشار عليا بن أبى طالب فقال له : "أرى أن يجلد ثمانين لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون جلدة" ، كما جرى نص المادة الأولى من مشروع قانون حد الشرب ـ المقدم إلى السلطة التشريعية منذ 17 / 6 / 1976 والصادر عن اللجنة العليا بوزارة العدل ـ على أن "يحرم شرب الخمر وتعاطيها ، وحيازتها ، وإحرازها ، وصنعها ، وتحضيرها ، وإنتاجها ، وجلبها ، واستيرادها ، وتصديرها ، والاتجار فيها ، وتقديمها ، وإهداؤها ، وترويجها ، ونقلها ، والدعوة إليها ، والإعلان عنها ، وسائر أوجه النشاط المتعلق بها" ونصت المادة 324 من مشروع قانون إسلامى آخر ـ قدم إلى ذات السلطة فى 20 / 12 / 1975 على أن: "يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل مسلم شرب الخمر أو سكر من غيرها" . وجميع الأشربة المسكرة متساوية فى كونها تسكر وفيها المفسدة ، والله لا يفرق بين المتماثلين ، وكل من استحل المسكر فقد كفر [ تراجع الفتوى رقم 699 من الفتاوى الإسلامية المجلدان الثالث والرابع س 1981 صفحة 1567 ] .
· وحيث إن المادة 191 من الدستور قد جرى نصها على أن: "كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام ـ قبل ـ صدور هذا الدستور يبقى صحيحا نافدا ، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقا للقواعد والإجراءات المقررة فى هذا الدستور" .
هذا النص لا ينصرف حكمه إلا إلى التشريعات التى لم تلغ أو تعدل بقوة نفاذ هذا الدستور بغير حاجة إلى تدخل من المشرع [ نقض جلسة 24 / 3 / 1975 طعن 45 ق مجموعة الأحكام الصادرة من الهيئة العامة للمواد الجنائية. ومن الدائرة الجنائية س 26 صفحة 258 والطعون أرقام 866 / 45 ق جلسة 9 / 6 / 1975 ق جلسة 15 / 6 / 1975 ، 302 / 45 ق جلسة 21 / 12 / 1975 م ] .
وترتيبا على ذلك فإن القوانين السابقة على التعديل الدستورى الذى نص على أن "الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع" تعتبر منسوخة فى أحكامها المخالفة للشريعة الإسلامية ، كما تعبر معدلة بما يتفق وأحكام الشريعة الغراء ـ القابل منها لهذا التعديل وسارية بالنسبة للقوانين التى تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية ، ولا تثار بالنسبة لتلك القوانين مسألة مدى دستوريتها ما دامت سابقة على الدستور وإلا لثارت هذه المسألة بالنسبة لكل تشريع يصدر بتعديل تشريع سابق أيا كانت درجة التشريع ، أى سواء أكان هذا التشريع تشريعا دستوريا أو عاديا أو فرعيا .
وإنما تثار مسألة الدستورية بالنسبة للقوانين اللاحقة على الدستور المخالفة له فقط لأن هذه القوانين هى التى يتصور أن يكون واضعها قد خالف بها الدستور أما القوانين السابقة عليه : فإنه لا يتصور بداهة أن يراعى فى سنها أحكام دستور لم يولد بعد ، ولم يعرف أحكامه أحد ، ذلك بأن قانونا ما غير دستورى يعنى أن واضع ذلك القانون قد خالف أحكام الدستور القائم فعلا .
· وحيث إنه أخذا بما سلف بيانه قانونا ، فإن القدر المتيقن والذى لا يمكن أن يثار بالنسبة له أى خلاف هو : أن التعديل الدستورى ـ سالف البسط ـ قد ترتب عليه فور نفاذه بطلان جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، وبمجرد صدور هذا التعديل ـ المستفتى عليه ـ فقد لفظت تلكم القوانين أنفاسها الأخيرة ، ومنها القانون الذى احتوى مواد القيد فى هذه الدعوى ، وفارقت إثر ذلك حياتها إلى غير رجعة . ومن ثم فإن القول بلزوم التطبيق لقوانين فانية حتى تقوم السلطة التشريعية بسن قوانين بديلة مستمدة من الشريعة الغراء ـ فضلا عن أنه قول ليست له أية قيمة قانونية أو حتى منطقية ـ فمعناه الوحيد أن تظل مصر دولة بربرية بلا قانون بالنسبة لتلك القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، والتى ألغيت بالتعديل الدستورى (سالف البيان).
ومن ثم فقد أصبحت قوانين معادية معدومة الوجود ، لا بل إن القول بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية فيه إعمال لنص الدستور ذاته ، كما وأن فيه تنزيه للمشرع الوضعى عن العبث ، ومن المعروف فى فقه التفسير أن "التفسير الذى يعمل النص خير من التفسير الذى يهمله" فضلا عن أن هذا الحل الشرعى القانونى هو المخرج الوحيد الذى يملأ الفراغ الناتج عن بطلان القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية والمعمول بها فى مصر .
والقول بوجوب انتظار استصدار تشريعات من السلطة التشريعية مستمدة من الشريعة الغراء ، يؤدى إلى أوضاع شاذة بغير ما وصف ولا حدود ، ذلك لأنه لم يوضع ضابط زمنى دستورى أو قانونى بعد لتلك التشريعات ، ثم إنه إذا جارينا ذلك الفهم لكان معنى هذا أزلية فى تعطيل نصوص الدستور الوضعى بغير ما سند من الدستور ذاته ، لا بل إن الأخذ بهذا المنطق الغريب يؤدى بالتالى إلى إمكان تعطيل الدستور وإهمال كل قيمة له بل وإهدار جميع نصوصه ، والأثر الحتمى لذلك هو تضييع حقوق الأفراد وحرياتهم وضماناتهم بغير ما سند من القانون أو العقل أو المنطق ومن ثم فإن النتيجة الحتمية التى لا يمكن أن يثار حولها جدل هى: أن جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية باطلة معدومة لافتقارها إلى سند الشرعية.
· وحيث إنه يترتب على اعتبار النصوص المخالفة للشريعة الإسلامية أنها باطلة بطلانا مطلقا نتائج هامة يثبتها قاضى هذه المحكمة إجمالا فيما يلى:
أولاً: من وجهة تطبيق النصوص الباطلة: يجب على القاضى ألا يطبقها فى القانون الوضعى ، وعليه أن يطبقها فقط فى حالات الصحة ، وليس للقاضى أن يحتج بأن القوانين لا تخوله حق الفصل فى صحتها وبطلانها ، مرتكنا فى ذلك إلى نفس هذه القوانين ، فإن سلطة القاضى فى إهدار ما يخالف الشريعة تأتى من الشريعة ذاتها لا من القوانين المخالفة لها .
وإذا وصم القاضى القانون المخالف فى حكمه بالبطلان ، وجب عليه أن يطبق حكم الشريعة تطبيقا مباشرا وفوريا وليس يهمه بعد ذلك أن ينفذ حكمه أولا ينفذ ما دام قد أدى واجبه ، وعمل ما يعتقده أنه الحق والصواب ، فضلا عن أن التنفيذ ليس من اختصاصه بل من اختصاص السلطة التنفيذية القابضة على الحكم فى البلاد ، وهى الملزمة لزوم حتم أن تنفذ هى أحكام القضاء كلما كانت نهائية أو مقرونة بالنفاذ .
ثانياً: من وجهة تطبيق القوانين بصفة عامة: يترتب على الأخذ بنظرية البطلان أن لا يطبق من أحكام القوانين الوضعية ـ بكافة أنواعها ـ إلا الأحكام التى تتفق ونصوص الشريعة ، أما تلك المخالفة لها فتهمل إهمالا تاما ويجب تجاهلها بلا حدود ، لتحل محلها أحكام الشريعة هكذا فورا ودون معقب .
ثالثاً: من وجهة تطبيق الشريعة: يترتب على بطلان النصوص القانونية الوضعية المخالفة للشريعة أن تطبق المحاكم وفى الحال نصوص قوانين الشريعة دون حاجة لتدخل من الهيئة التشريعية . لا . بل إنه يترتب على البطلان أن يلتزم مجلس الشعب حدود الشريعة فيما يصدره من قوانين جديدة . [ يراجع مؤلف التشريع الجنائى الإسلامى للأستاذ الشهيد عبد القادر عودة جزء 1 بند 195 ] .
· وحيث إنه ترتيبا على سالف القول: فإنه لم يعد فى مصر بعد التعديل الدستورى ـ فى نص المادة الثانية منه ـ مكان إلا لشريعة الإسلام ، ويجب لذلك أن يسلك القاضى اليوم سلوك الشريعة ومداخلها مستعينا فى ذلك بأحكام أصول الفقه علما وأساساً فى استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية ومنابعها الأصلية ، مستأنسا بالثروة الفقهية الهائلة فى الإسلام ، قياساً على نهجه فى الرجوع عند كل حكم إلى مراجع القانون الوضعى المختلفة لعلماء مصر . لا بل إن المسئولية الجسيمة ـ بعد التعديل الدستورى المشار إليه ـ لم تعد مسئولية السلطة التشريعية فى البلاد بل مسئولية القاضى ، ثم هى ذاتها مسئوليته أمام الله ، ذلك أن صياغة أحكام الشريعة الإسلامية فى قوالب وتقنينات على نمط القوانين الأدنى هو غير ذى ضرورة ، فتلك القوالب لم تكن فى عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تظهر إلا مؤخرا ، فضلا عن أنها لم تكن فى عصر الدولة الإسلامية ، ثم إن عدم سن القوانين لا يمكن أن يعطل تنفيذ الدستور الوضعى ذاته لحظة واحدة .
وإذا كانت السلطة التشريعية ترغب فى سن قوانين من الشريعة على النمط الوضعى فكان ينبغى عليها أن تعد هذه القوانين قبل نفاذ العديل الدستورى لا بعده ، وإذا كان الدستور لم ينص على فترة زمنية أو مرحلة انتقالية محددة يتم خلالها إعداد تلك القوانين ؛ فهذا لا يعنى إلا أن المشرع الدستورى قد قصد إعمال الشريعة الإسلامية فور نفاذ التعديل الدستورى ، ولا معنى أبدا لامتناع السلطة التشريعية عن البدء فورا فى سن قوانين مستمدة من شريعة الإسلام حتى الآن إلا أن هذا المجلس يعتنق وجهة النظر هذه ، ويرى أن البناء القانونى كله ـ فى مصر ـ قد أصبح قائما على الإسلام .
والآن: يجب على من يرى عدم تطبيق الشريعة إلى أن يتم تقنينها أن يجيب على سؤالين:
السؤال الأول: أيهما أفضل أن يطبق القاضى الشريعة الإسلامية مستمدا أحكامه من مصادرها الشرعية ؛ أم يمتنع عن تطبيقها ـ دون سند ـ حتى يتم تقنينها والسلطة التشريعية قد جمدت مشروعات قوانينها فى أزلية لا حساب لها؟.
السؤال الثانى: كيف كانت تحكم دولة الإسلام ردحا طويلا من الزمان ، قبل ظهور قوالب التقنينات فى مصر على النمط الأوروبى الذى استوردته الدولة على يد علمائها وفقهائها من رجالات القانون ؟ .
· وحيث إن الشريعة الإسلامية هى قانون الدولة الإسلامية ما وافقها من قوانين وضعية وجب إعماله تطبيقا ومنهجا وتنفيذا ، وما خالفها وجب صده ورده وعصيانه دون تردد ؛ لأن شريعة الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قانونا ـ ما نزلت على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لإعمالها وإنفاذها وتطبيقها جملة وتفصيلا فى كل زمان ومكان وإلى يوم الدين ، لا تلغى ولا تنسخ ولا تعصى وذلك طاعة لله القائل: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)) [سورة المائدة: 49] .
ثم إن النصوص كقاعدة عامة لا تنسخ إلا بنصوص فى مثل قوتها ، أو أقوى منها ، وإعمالا لهذه القاعدة القانونية الضاربة بأصولها فى جذور التاريخ ، فإن ما بين أيدينا "كتاب الله" "وسنة رسول الله" ولا يمكن أن ينسخ كلام الله بعد انقطاع الوحى ، ولا تتأنى سنة أخرى بعد وفاة رسول الله ، ومن ثم فليس لأية سلطة فى ظل الشريعة الإسلامية ، ليس لها حق التشريع بعد الله إلا بسن التشريعات التنفيذية والتنظيمية التى تستهدف ضمان تنفيذ منهج الله حدودا وأحكاما ، روحا ونصا ، أساسا وقاعدة ، هدفا وغاية ومن ثم وكانت الشريعة فى مصر ـ بكل أسف ـ قد قضت نحبها ، فى الحدود والقصاص والديات والفوائد ، على يد السلطة التشريعية فى البلاد . فإن هذا الوضع وإن أصبح مألوفا إلا أنه مقيت ممجوج ، انقضى أوانه وزال عصره وعهده .
ويلزم القول الآن: إنه لا يوجد سند شرعى مطلقا لتطبيق القوانين الوضعية المخالفة لحدود الله ، فهى قد عادت معدومة باطلة ، ووجب بالتالى تنحيتها إعمالا لشريعة الديان القائل: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)) [سورة النساء: 105] وقال: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [سورة النساء: 65] وقال: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)) [سورة الأحزاب: 36] وقال: ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا)) [سورة النور:51] .
والنظام الدستورى المصرى فى هيكله العام : نظامٌ إسلامىٌّ ، ومن ثم فلا محل فيه بتاتا لقداسة التشريع الوضعى فيما خالف قول الله وحدوده ـ ومنها مواد القيد فى هذه الدعوى ـ والتى هى فى حقيقتها تعطيل لأحكام شريعة الإسلام حيث حد الله فى الخمر فأصبحت هذه فى ظل القانون الوضعى مباحة وحلالا على شاربيها ولا عقاب على الشرب منها مطلقا إلا أن يوجد شاربها فى حالة سكر بين وبالطريق العام . فإن كان السكر بينا ولكن فى محل خاص فلا إثم ولا عقاب . ثم هو إن كان سكرا غير بين فلا جريمة ولا عقاب . وهذا يعنى أن العقوبة التى قررها الشارع المصرى ليست على شرب الخمر حيث هو ، ولا على السكر أينما يكون وممن يكون ، وإنما على وجود السكران فى طريق عام ، كما هو الحال فى هذه الدعوى وهذا الأثيم .
· وحيث إنه لا مجال أبدا لقولة حق أريد بها باطل بأن القوانين الوضعية واجبة التطبيق طاعة لولى الأمر ، ولاء ليمين يحلفه القاضى:
إذ أن الطاعة تستند استنادا خاطئا على تفسير خاطئ لقول الله: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولى الأمر منكم)) [سورة النساء: 59] إذ الأخذ بخاطئ التفسير هذا بأن الله أمر بطاعة أولى الأمر ، تماما كما أمر بطاعته وطاعة رسوله ، يؤدى هذا التفسير الخاطئ إلى منزلق خطير هو: وجوب طاعة القوانين الوضعية التى تولدت عن أولى الأمر حتى ما خالف منها حدود الله ، وأن المشرع وحده هو المسئول عن تلك القوانين المعادية للإسلام أمام الله .
هذا القول فضلا عن كامل خطئه ، فإنه لا سند له من الشرع أو العقل أو المنطق ، لأن الآية الكريمة أوجبت طاعة الله وطاعة رسوله كل منهما استقلالا ، أما طاعة أولى الأمر فإنها تكون بالتبعية بمعنى أنها لا تكون إلا حيث تكون أوامرهم موافقة ومستمدة من أوامر الله ، إذ أنه عز من قائل كرر فعل الطاعة مرتين ثنتين لا ثالث لهما ، مرة عنده وأخرى عند رسوله ، وطرحها والتفت عنها عند: "أولى الأمر" عاطفا طاعتهم على طاعة الله ورسوله . ومفاد ذلك أن طاعة الله ورسوله كلتيهما واجبتان استقلالا أما طاعة أولى الأمر فلا تكون ولا ينبغى أن تكون إلا حيث يتوافر لها شرطان لازمان لها:
الشرط الأول: أن تُسْتَقَى أوامرهم كليا وجزئيا من أوامر الله أو من أوامر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
الشرط الثانى: ألا يطاع أولوا الأمر إلا بعد استيفاء طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم). والتجرد لهما تماما . إذ الأمر البشرى هنا إن تمت طاعته كان معصية لله إن هو خالف أمرا له . وقد ورد فى ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة " وقوله: "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" .
ثم إن الولاء ليمين حلفه القاضى عندما ولى القضاء على احترام القوانين ، حقيقته حسن النية والقصد الشريف لديه أنه لم يكن فى حسبانه ، ولم يدر بخلده أبدا عند ذاك اليمين ، أنه ـ وهو القاضى المسلم ـ سيتنكب الطريق يوما ما عصيانا لله ، إذ أن كلمات الله ـ سالفة البيان ـ فى قدسيتها وأزليتها موجهة بالدرجة الأولى إلى القضاة ، حيث شجاعة الإسلام وحيث النزاهة والعدل والإيمان بالله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم إن قاضى هذه المحكمة حلف اليمين فى إطار كلمة التوحيد ، وقد روى أن رسول الله قال: " لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك " .
والحق كل الحق أنه ليست معضلة ولا طلسما ولا لغزا ، أن تكون حدود الله فى مصر قوانين ، يعمل بها ، ويطبقها القاضى بين الناس . وإن من المخازى النكراء أن يتشدق البعض بأن ثمة إلزاما وحتما على القاضى المسلم يكلف بتطبيق قانون وضعى ، طارحا قوانين الله الخالق الرازق .
والمحكمة تومئ إلى نص المادة الثانية عشر من الدستور والتى جرى نصها على أن: " يلتزم المجتمع برعاية الأخلاق وحمايتها ، وعليه مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية ، والقيم الخلقية ، والآداب العامة ، وتلتزم الدولة باتباع هذه المبادئ والتمكين لها " . ومن ثم فإن المحكمة تتساءل: ماذا بعد هجر كتاب الله دستورا من قيم خلقية؟ وماذا بعد عدم تقنين حدود الله والقصاص والديات ومنع الربا من رعاية للأخلاق وحمايتها؟ وما بعد عدم اتخاذ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة وقيادة من مستوى رفيع للتربية الدينية أو الآداب العامة؟ وماذا بعد طرح مشروعات قوانين الله جمعاء من التزام للدولة باتباع المبادئ والتمكين لها؟ .
إن القاعدة الإسلامية والقانونية معا ، والتى ينبغى إعمالها فى كل مجال هى: (إن الحكم إلا لله) [سورة الأنعام: 57] وإن القيمة المثلى ما قاله الله : ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية: 88] . ومن ثم فإنه إذا كانت وثيقة إعلان الدستور قد ورد بصلبها ما نصه : "باسم الله وعونه ، نلتزم إلى غير ما حد ودون قيد أو شرط ، أن نبذل الجهد عرفانا بحق الله ورسالاته ، على أن نقبل ونمنح لأنفسنا هذا الدستور ، مؤكدين عزمنا الأكيد على الدفاع عنه وعلى حمايته" إذا كان ذلك كذلك : فهل الالتزام فى دولة دينها الإسلام يكون بالالتزام بغير ما أنزل الله؟ إنه لأمر نادر وشاذ وعجيب!!! وهل العرفان بحق الله ورسالاته نسف حدود الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ إنه لأمر غريب ومقيت!!! وهل الدفاع والحماية والعزم الأكيد لهذا وذاك يكونان لغير دستور الله؟؟؟ . إنه لأمر ممجوج يتأباه ويلفظه جميع القضاة المسلمين ، فهناك مشروعات قوانين إسلامية طى الأدراج يجب أن تظهر للنور ، لتكون قوانين مطبقة فى البلاد بغير ما قيد ولا شرط ولا حدود .
والمحكمة تشير أيضا ـ فى إصرار ـ إلى ما نصت عليه المادة 74 من الدستور والتى جرى نصها على أن: "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية ، أو سلامة الوطن ، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستورى . أن يتخذ من الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ، ويوجه بيانا إلى الشعب ، ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات" ومنطلقا من هذا النص الدستورى ، وقياسا على سابق العديد من الاستفتاءات فى شتى صورها وأشكالها وتباين أنواعها ، فإن لقاضى هذه المحكمة أن يطالب ـ بحزم الإسلام ـ بإجراء استفتاء دستورى عادل على مشروعا قوانين الإسلام ، فليس من خطر يهدد كيان الأمة أعتى من تجميد تلك الحدود الإلهية . وليس من هلاك يهدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن أعنف ولا أعتى من تعطيل شرعة الله . وليس يعوق مؤسسات الدولة حقا فى كل اتجاه من تجاهل وطرح دين الله أو سنة رسول الله .
والمحكمة تنوه ـ وهى فى عزة الإسلام ـ إلى ما نصت عليه المادة 112 من الدستور والتى جرى نصها على أنه: "لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين" كما وأن السلطة التشريعية فى البلاد قد فوضته رئيسا لمصر فى إصدار قرارات لها قوة القانون . ومن ثم فإن قاضى هذه المحكمة منطلقا من كلمة التوحيد ، وأمانة الكلمة ، تناشد السيد رئيس الجمهورية استعمال حقه الدستورى ذاك ، وعليه أن يبث الروح فى مشروعات حدود الله جمعاء ، وذلك بإصدارها قانونا يتلى إلى يوم القيامة ، ليطبق وينفذ بين الناس ، فهذا حقه الدستورى والإلهى معا ، إبراء لذمته أمام الله والناس ، ووضعا للأمور فى نصابها العادل المتين إعمالا لقول الله: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله)) سورة المائدة: 49 فالقرآن وهو دين الله ، أوحى بتعاليمه وشرائعه إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون هو الحكم والحكم ، وليكون صالحا لكل زمان ومكان ، لأنه وضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام . وكل تشريع يخالف ما جاء به كتاب الله أو ما قاله محمدٌ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنما هو باطل ورد ، يجب تنحيته وطرحه والالتفات عنه تماما ، والاحتكام إلى شرعة الله ورسوله .
وليس لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يبدى رأيا فى وجوب ذلك ، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل فى إقرار قوانين السماء ، لأن التسويف فى ذلك معصية لله ورسوله واتباع لطريق الغىّ والهوى دون الرشاد والهدى . كل هذا نزولا على قوله الله أمرا وطاعة .
وتوجه المحكمة فى هذا المقام إلى السيد رئيس الجمهورية قول الله تعالى: ((ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطا)) [سورة الكهف: 28] . وتثنى لسيادته بقول الله: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)) [سورة الجاثية:18]. وفى الثالثة تكرر له قول الخالق: ((فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى * قال: رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا ؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)) [سورة طه: 124 ، 125 ، 126] .
· وحيث إن المحكمة لا يفوتها وهى بإزاء استعراضها لجريمة الجانى الماثل ، وعلى ما سلف استهلالا للحكم ـ أن تقرر بأن جريمته تلك : هى مثال لكارثة خلقية رخيصة بكل المقاييس والمعايير والاعتبارات . وأن مثالها ارتكب ولا يزال يرتكبها آخرون ـ غير المحاسب الجانى ـ لا يمثلون ـ ولن يمثلوا أبدا مثله فى قفص الاتهام . تعنى المحكمة بهؤلاء: صناديد الخمارات ، وتجار الخمور بتراخيص القانون ، وأساطين صالات لعب الميسر والقمار هنا وهناك ، وعتاولة مجرمى الخمر بملاهى شارع الهرم ، وجميعا يشربونها مطمئنين بلا وازع ولا رادع ولا ضمير ، وإنهم لمراكزهم أو لصفاتهم أو لمادياتهم أو لذواتهم وشخصياتهم ـ بكل أسف ـ يتركون ، بل وبحماية القانون لهم يتنعمون ، ولكنهم خوارج !!! ، اجرامهم فاق الحد والتصور ، لحمتهم الخمر وسداهم احتساؤها ! ، عديدون حقا لا ينالهم أبدا أصوات الاتهام ولا قيد السجان أو رسف الأغلال ، وكل هذا يحدث فى مصر بسياج من السلطان !!! .
لذا فالمحكمة تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم فى البلاد ، أن تضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه ـ تحت أى وصف ومن خلال أى عذر ـ أن يشرب الخمر ، وأن تضع نصب أعينها أنه قد هلك من كانوا قبلنا ، كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ ، وأن يكون فى المقام الأول لديها أنه لا استثناء فى قانون الله . ومن ثم فإن عليها بيد من حديد أن تحارب الشرب شرا فى مكامنه وجذوره فى كل مكان ، خلقا للانضباط الحق ، ونشراً لقيم السماء وتعاليم الله ، ومنعا للتسيب المهين وذلك حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم .
· وحيث إن المحكمة قد انتهت فى سالف القواعد ، قواعد العقائد ، إلى بطلان كل قانون مخالف لأحكام شريعة السماء ، وعلى رأس هذه القوانين: مواد القيد فى هذه الدعوى ، فجميعها باطلة بطلانا مطلقا ، ثم هى تفتقر إلى سند "الشرعية" ومن ثم وجب تطبيق شريعة الإسلام وأحكامها ، نزولا على طاعة الله ورسوله ، وتمكينا لأحكامه فى الدولة أن تكون .
تضع المحكمة حد الشرب الإسلامى موضع التنفيذ ، حكما بما أنزل الله وما جاء على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد ثبتت الإدانة فى جانب المتهم ثبوت اليقين .
· وحيث إن الأصل فى الحدود أنها لا تقبل عفوا ولا إسقاطا ، إذ هى من حقوق الله خالصة ، ومن ثم فإن المحكمة تشمل حكمها بالنفاذ ، تاركة وزر عدم تنفيذ العقوبة المقضى بها على السلطة المسئولة عن ذلك . منوهة أنه طبقا للقواعد الشرعية ، وعند التنفيذ ، يضرب الجانى بسوط غير يابس ، ضربا متوسطا لئلا يجرح أو يبرح ، وألا يكون بالسوط عقدة فى طرفه حتى لا يصاب الجسم ، كما يضرب الجانى قائما ، ويكون الضرب على سائر الأعضاء عدا الوجه والفرج والرأس .
· وحيث إن الله قال: ((كل نفس بما كسبت رهينة)) [سورة المدثر: 38] .
فلهــذه الأسبــاب
أولاً: حكمت المحكمة حضوريا ، بجلد المتهم ثمانين جلدة مع النفاذ .
ثانياً: تحتكم المحكمة إلى إجراء استفتاء دستورى عادل تجريه السلطات المعنية حول مشروعات قوانين الحدود والقصاص والديات وتحريم الفوائد .
ثالثاً: إن المحكمة ـ درءاً ليوم قد يأتى يمتنع فيه جميع القضاة عن تطبيق ما سوى ما أنزل الله تناشد السيد رئيس الجمهورية إصدار قوانين الحدود ، كما تناشد السلطة التشريعية ، وكل مسئول عن التشريع فى الدولة إقرارها قوانين يطبقها القضاة وتنفذها السلطة .
رابعاً: على الأزهر ، ووزارة الأوقاف ، ودار الإفتاء ، وأجهزة الإعلام كل فى مجاله . مطالبة الجهات المعنية بإصدارها إقرار مشروعات القوانين الإسلامية جميعها ، وإخراجها من حيز الطمس إلى نطاق اللمس ، ومن حيز الأدراج إلى عالم الإفراج ، ومن حيز التمويه إلى بساط التنفيذ ، ومن حيز التنميق إلى حيث التطبيق .
خامساً: على النيابة العامة إخبار كل بصفته ممن ورد ذكره بالبندين الأخيرين بنسخة طبق الأصل من هذا الحكم صلبا ومنطوقا .
محكمة جنح قسم عابدين
الدائــرة
محمود عبد الحميد غراب رئيس المحكمة
هانى عباس عبد الجواد وكيل النائب العام
هانى محمد خلف أمين السر
جلسة 12 جمادى الأولى ـ 1402 هـ .
8 / 3 / 1982 .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)