محاضرة ألقاها الأستاذ أحمد بك مصطفى المحامي على المحامين تحت التمرين في يوم الجمعة 12 إبريل سنة 1920 م
مزايا المحامى
المصدر مجلة المحاماه
كفى المحامي شرفًا تعريفه بأنه الكفيل بالدفاع لأبناء وطنه عن الشرف والنفسوالحرية أو المال، ويقينًا أن مهنته تجعله أمام مواطنيه من أكبر رجال الشرفوأكثرهم حرية وهي لذاتها معدودة من أهم الطبقات الضرورية في الهيئة الاجتماعية ذاتالنظامات القويمة الدستورية. ممايؤثر عن العلامة ماريون دي بانسيه من طيب القول فيما دونه عن المحامي كلمات هن أمالكتاب فقد نعته بأنه (حر من القيود التي تأسر غيره من الناس، فخور بأنه يكتنف منيحميهم، وأنه لا سيد ولا مسود، وهو الإنسان بكرامته الأصلية إذا كان في الوجود بينالناس من يمثل معنى الإنسان) وإليكم نص كلماته. L’ illustre présidentHenrion de Pensey a racé de l’avoct dans ces magnifiques paroles: Libre desentraves qui captivent les autres hommes, trop fier pour avoir des protégés,sans esclave et sans maitre, ce serait l’homme dans sa dignité originelle, siun tel homme pouvait encore exister sur la terre. شرفيتعالى مع عزة النفس ويترفع عن الألقاب فأنعم به من امتياز وسمو مقام بلا مظاهرخارجية فالمعنى أرقى والمراتب أسمى (وأني لتعروني هزة عند هذا المقال ولا يتاح ليخلع تلك النعال - (الحكومية)). ولهذهالصناعة تاريخ مجيد في كل الأزمان قد يضيق المقام عن سرد ماضيها ففي حاضرها مايغني عن غابرها فحيثما كان القضاء كانت المحاماة وإني وجدت العدالة وجد المحاميوليس ذلك بغريب على من كان شعاره الأدب وحليته العلم وقد تسمو به مداركه لقصرجهاده على تنقيح العلوم كما وصل إليه أبناء هذه المهنة في تخصيص أنفسهم لخدمةالعلم بسلامة الذوق ومتانة الرأي (Avocat consultant)مما قد يقضي به تقدم السن وكثرة التجارب وقد ينتهي بهمحب العلم والعمل به إلى التدريس فقط. ولماكان موضوع محاضرتي في بيان مزايا المحامي فقصر القول على ما ينبغي لصناعة المرافعةمن المعدات لمن تيسرت له أسبابها وكملت فيه صفاتها كافٍ حتى تكون أعماله جارية علىالنهج المطلوب وافية بالغرض المقصود. وهذهالمعدات وتلك الأسباب منها ما يكون فطريًا في بعض الناس يمنحه الله له بلا معاناةاكتساب ولا تجشم استعداد، ومنها ما يكون كسبيًا لا يحصل عليه الإنسان إلا بواسطةالاكتساب والأخذ في الأسباب. فيالمعدات الفطرية ينبغيلطالب هذا الفن كي ما يقدم عليه أن تكون المعدات المهيئة له حاضرة لديه وهي أمورثلاثة: الأمرالأول: في القوى الجسدية. الأمرالثاني: في القوى العقلية. الأمرالثالث: القوى الخلقية. 1 - في القوى الجسدية: إذالم يكن الإنسان جيد الصحة سليم البنية خليًا من الأمراض المؤلمة فلا تبلغ قوةالفكر حد كمالها ولا يكون لأعماله نظام مضبوط ولا تأثير حسن لأن قوة الجسد أساس كلالقوى وقلما ينفع البناء إذا لم يقوِ الأساس فلا بد للمشتغل بصناعة المرافعة أنتكون أطرافه سليمة وأعضاؤه نشيطة حتى يسهل عليه التردد على دوائر القضاء المختلفةوالانتقال إلى مراكزه المتعددة ويؤدي أعماله بسرعة وخفة حركة ولطف إشارة وأن يكونبصره قويًا (إلا من وهب الله الفطنة وحدة الذهن في المدركة….) لأنه لا يستغني عنمراجعة كتب الشرائع ونصوص القوانين ومؤلفات الشراح وقراءة أوراق القضايا -(دوسيهات الجنايات من قلم النسخ) والسهر في تجهيز المدافعة فيها وتحضير مذكراتهاوتحرير ما لا بد من كتابته، وأن تكون أدوات نطقه كالحنجرة واللسان والأسنانوالشفتين صحيحة وصوته معتدلاً حتى تخرج الحروف من مخارجها ويميز الكلمات بعضها منبعض ويؤدي العبارات صريحة بإلقاء محسن مؤثر في نفوس السامعين لأن المدار فيالمحاكم على الخطابة وحسن الإلقاء. وربمايدرك المرافع بعذوبة خطابته وجودة تأديته ما لا يدركه غيره بكثرة البراهين وسردالقوانين إذا كان في حروفه اختلال وفي صوته بشاعة، وأن يكون صدوره ورئتاه في سلامةمن العلل حتى لا يحول ضيق نفسه عن استرساله في الكلام ولا تعوقه العلل عن إظهارصوته بكيفيات مختلفة من جهر وتخافت وشدة ولين وتوسط حسبما تقتضيه المقامات وما لميكن الصدر سليمًا فلا سبيل إلى حسن الإلقاء، وبالجملة متى كان الإنسان متمتعًابقوة جسده لم يكن له اهتمام إلا فيما هو بصدده من إحكام العمل وضبطه بخلاف ما إذاكان متألمًا بالأمراض فإنه يكون دائمًا مفكرًا في نفسه مشغولاً بأمره وهيهات أنيحسن ما يعهد إليه من أعمال هذه الصناعة، والخلاصة أن العقل السليم في الجسمالسليم وواجب الرياضة البدنية وتنظيم أوقات الأعمال العقلية موجب للرياضة النفسية. 2 - في القوى العقلية: القوىالعقلية هي التي يترتب عليها نجاح المرافعة الشفهية مباشرةً وإصابة الغرض إصالةوإنما القوى الجسدية مهاد لها ومتكأ تتكئ عليه كالجسم تقوم به الروح المدبرة لشؤونالحياة وهو بدونها لا يقصد، وأنواع القوى العقلية عديدة والمهم منها في هذا المقامثلاث: القوىالحافظة: حاجةالمرافع إلى القوة الحافظة شديدة إذ كثير ما يطلب منه سرد نصوص القوانين والأحكامالشرعية وقد يرجع أحيانًا إلى الأوامر العالية واللوائح والقرارات استشهادًا علىمدعاه وتأييدًا لما يراه فيلزمه أن يكون حافظًا لتلك النصوص وتواريخ صدورها ليعلمالناسخ منها والمنسوخ لأن القول قد يجر بعضه بعضًا فربما انتقل الكلام إلى مايحتاج بعض الأمر إلى الاستشهاد بنص لائحة مثلاً. فإنلم يكن لديه من قوة الحافظة ما يجعل ذهنه حاضرًا وقع في الارتباك، لا سيما وعلمكمبمواعيد قانون المرافعات مما لا يخلو الحال من حفظه (صم) ويحتاج أيضًا أن يذكرأمام المحكمة على التعاقب مجمل ما في أوراق القضايا التي استعد للمرافعة فيها،فإذا لم يكن حفظه جيدًا وقع لا محالة في المكاره: أولاً:أن يضطر في كل قضية إلى التقلب والنظر في مفردات الأوراق مرة أو مرارًا والبحث عمايحتاج إليه منها ليتلوه بحروفه على القضاء، ولا يخفى ما يستوجبه هذا الصنع منإضاعة الزمن وإيقاع السامعين في الملل. ثانيًا:أنه يقع في الاضطراب إذا كانت هذه القضايا متشابهة وينقل نظره من قضية لأخرىفيختلط عليه الأمر لا سيما في قضايا الحساب. ثالثًا:أنه يضطر إلى استعداد جديد كلما أخرت هذه القضايا لنسيانه مدة ما بين الأجلين ماكان أعده أولاً وكذلك يحتاج لأن يحفظ إثبات الخصم أو أوجه دفعه وجهًا فوجهًافيمكنه بعد انتهاء كلامه أن يرد عليها على الترتيب ولو علق عليها بمذكرة يدون فيهاالدفوع، وربما يلزم الرد على عدة خصوم كل منهم يأتي بجملة أو وجه فإذا لم يكنواعيًا كل ما أتوا به من الدلائل كانت مرافعته ناقصة وحجته ضعيفة ولا يكفي أن يأتيعلى وجه أو وجهين ويقول ليس في باقي الكلام ما يوجب الرد كما يقع من كثير لأن هذايدل على ضيق الفطن ومثله لا يعد حجة عند العقلاء بل لا بد من التعرض إجمالاً أوتفصيلاً لكل وجه بالإفساد إن كان قابلاً وإلا فالسكوت يعد تسليمًا. وعلىالمرافع إذا آنس من نفسه النسيان أن يكتب أثناء مرافعة الخصم رؤوس المسائل وإشاراتالدلائل ليتذكر منها باقيها فلا تغرب عنه إذا أراد المناقشة فيها. القوةالمذكرة: أقوىسلاح يتقي به الإنسان عاديات المرافعة الفجائية هو القوة المفكرة لأن ما يرتبهبقوة فكره ويقيده بقوة حفظه إنما يظهر أثره إذا كانت المرافعة في موضوع الدعوى ومنالدور الأول منها. أماإذا كانت دفوع فرعية خارجة عن الموضوع أو في الموضوع وبعد انتهاء الدور الأول منالكلام فلا يجديه ذلك الاستعداد نفعًا، والمدار إذا ذاك على ما يتذكره المرافع منحوادث وإجراءات ربما بعد العهد بها ومن دلائل نقلية أو عقلية ربما لم يكن فيحسبانه الاستناد عليها في ذلك الوقت. فإذاكان ضعيف الذاكرة عجز عن تسديد الدليل ولزمته الحجة وقد قيل ليس الخطيب بأول كلاميلقيه بل بما يليه. القوةالمفكرة: إذااتسع فكر المرافع وانفسح مجال تصرفه في المعقولات برع في الجدال وترتيب الأقوالومهر في تنسيق الأدلة وانتزاعها من أقوال الخصوم وأوراق القضايا وعبارات القوانين. وتفاضلأرباب هذه الصناعة ذاتيًا إنما هو بالقوى المفكرة، إذ بها يكون تطبيق الحوادث علىالنصوص القانونية، وليس كل من حفظ القانون أو فهمه يجيد ذلك ولنا في القضايا التيترفع إلى محكمة الاستئناف أو إلى النقض والإبرام شواهد عديدة على خطأ التطبيقالأول أو نقص الإجراءات ومخالفة روح القانون وإهمال بعض الطلبات في قضايا الالتماسما يدل على الخطأ الواقع من القضاة أو المرافعين (من أعضاء النيابة أو منا نحنالمحامين) وبها يهتدي إلى طريق العدل والاتصاف إذا كان الحكم المطلوب ليس له نص فيالقانون كما يكثر ذلك في الدعاوى المدنية المحتاجة للصرف وبها يختار الأصلحوالأوفق إذا أمكن سلوك طريقين أو طرق نتائجها متفاوتة كما إذا صلحت الحادثةللانطباق على مادتين مؤداهما مختلف فترويج إيقاع الحكم على مقتضى إحداهما يحتاجإلى استعمال قوة الفكر، وكما إذا أمكن أن تؤول المادة الواحدة تأويلين متغايرينفترجيح أحدهما على الآخر لا يكون إلا لمرجحات ينتزعها الفكر الصائب وبها يمكنالتوفيق بين النصوص المتضاربة والمواد المتناقضة وحملها على ما يوافق المصلحة وبهاننتزع الحجج الإلزامية والإقناعات الجدلية من أقوال الخصوم توصلاً إلى إفحامهمونقض كلامهم وأكثر ما تمس الحاجة إلى ذلك إذا ألجأ الإنسان للمرافعة قبل أن يستعدلها أو بوغت في أثناء المرافعة بما لم يحط به خبرًا أو إذا لم يكن له في الواقعبرهان حقيقي لينتج مطلوبه، والمرافع النبيه لا يعدم طريقة للمناقشة في أدلةالأخصام وإلزامهم من كلامهم ولو بعض الإلزام. الأمرالثالث: القوى الخلقية: الخُلقملكة في الإنسان تصدر عنها الأفعال بلا تكلف وبدون تصنع وهو بحسب هذه الأفعال يكونحسنًا وسيئًا، ولا ريب أن التعويد التدريجي على عادات مخصوصة والتربية على صفاتمعينة وملاحظتها من عهد الصغر مما يجعل هذه الصفات خُلقًا في الإنسان وقد قيلالإنسان ابن عوائده لا ابن طبيعته إلا أنه لا ينكر أن الناس يتفاوتون في قبولالتربية والتخلق فمنهم سريع التأثر ومنهم بطيئه ومتوسطه كما يدل عليه اتفاق أشخاصفي درجة التربية واختلافهم في الأخلاق فلا بد أن يكون في الطباع أصول جبليةالأخلاق عنها ينشأ الاختلاف في قبول التربية بالسرعة والبطء والذي يريد أن ينتظمفي سلك المرافعة ينبغي أن يكون متخلقًا بالأخلاق الحسنة عمومًا وبأربعة منهاخصوصًا وهي: الإنصاف،والجرأة، والأدب، والثبات. بأنيكون في طبعه أصول لها في تربية تعود عليها. الإنصاف الإنصافهو التمسك بالعدل والميل مع الحق فإذا اتخذه المرافع شعارًا وجعله له ديدنًا فيمرافعاته اطمأن لكلامه السامعون وارتاح لبيانه الحاضرون وإذا كان للإنسان مذهبمعروف ومشرب معلوم آلت إليه جميع أحواله وأبت الشكوك أن تتطرق إلى شيء من أقوالهوأفعاله لأن مقاصده تقررت في الأذهان وعرف بها بين العموم فإذا صدر منه ما يحتمللذاته مخالفة ذلك المذهب حمل على المحمل الحسن وزال الإبهام وكفى صاحبه مؤونةالتأويل واستراح من زعم إساءة الظنون به وتضارب الأوهام في أمره بخلاف ما إذا كانمجهول المذهب فإن كل ما يصدر عنه تعرف له التهم ويذهب الناس فيه مذاهب شتى بعدماطمئنان النفوس إليه وثقتها بأمره. وأليقمذهب تدور عليه أعمال المرافع هو الإنصاف ولذا نجد لأقل أقواله تأثير في القلوبفلم يحتج في تصديق الناس له إلى طويل معاناة، وإنصافه يكون بإذعانه للحق وتركهالتشبث بالمحاولات إذا ظهر بالأدلة القاطعة أن الحق ما رآه الخصم ولا يعز عليه بعدطول الجدال أن يتنازل عن طلباته والتسليم لمناظره بحجته فإنه في الحقيقة لم يسلمإلا للحق - لا للخصم ولم يرجع إلا إلى العدل، والحق لم يكن خاصًا به حتى يحجر علىالأذهان اعتقاده لغيره فهو أحق بالاتباع حيثما وجد وعلى أي لسان ظهر، وليعلم أنالإنسان عرضة للخطأ ومرمى للغلط ففخره إنما يكون بقلة الأغلاط لا بالعصمة منها ومنيحاول غير ذلك فهو يحاول أن لا يكون إنسانًا ولم تزل فحول العلماء قديمًا وحديثًايقرون بالخطأ ويعترفون بالزلل ويرجعون بأنفسهم عن كثير من آرائهم معتذرين بأنالعاقل عليه أن يتحرى الصواب لا أن يصيب بالفعل، وليحذر المرافع إذا انصاع إلىالحق واعترف بقوة دليل الخصم أن يتعدى إلى الاعتراف بحقيقة ما أودع لديه منالمعلومات ويتطرف بإفشاء ما أؤتمن عليه من الأسرار، ولهذه الصناعة من الدقة في هذهالنقطة ما هو معلوم لديكم من سر الصناعة والحرص على الأمانة (Secret professionel) فإن ذلك ذنب لايغتفر وسيئة لا تمحى قد يلومونا على عدم الإنصاف بين ذوي القربى ومن تجمعهم أواصرالصلة في إصلاح شقاق الأهل ولو كان منا المنصف الذي يرفض قضية الولد ضد أبيه كي لايكون لسان العقوق في مجلس القضاء وهدم قواعد البر بالوالدين أو قد يستعصي علىالمحامي منع شقاق الأخوين ولا يدري اللائمون أنهم في ذلك مغالون غير عالمين بحقيقةالنفوس البشرية فقد يتطاير شرر الشر بين الأقربين بما لا يتفق في خصومة بين من لاتجمعهم أدنى صلة ولعله على قدر الوفاق يكون الشقاق وبنسبة العشم يكون الألم، اللهمإلا أن يكون بعرض الصلح أو التحكيم للتوصل لفض الخلاف وحسم النزاع بالحسنى. منالإنصاف أن يكون المرافع معتدلاً في طلبه مراعيًا المقام فلا ينبغي له أن يحتد فيشرح وقائع المخالفات وصغائر الجنح ويشتد في الطلب كما لو كان في كبائر الجنايات،والمثل الظاهر في هذا المعنى موظف النيابة الذي يظن أن واجباته منحصرة في طلبالعقاب لكل متهم وإن كان بريئًا وأنه إن لم يفعل ذلك يكون مقصرًا في أداء واجباتهمتراخيًا عن القيام بها والعبرة بصون اللسان بحسن البيان عن الابتذال. كمالا ينبغي للمحامي أن يشط عن مواقع الحقائق ويتغالى في مطالبه ويتبسط في مسالكهبمحاولة ما لا يمكنه من الظاهر كأن يعمد إلى من عظم اجتراؤه وفحشت جريمته وعاينالشهود العدول فعله وأقر بذنبه أو كاد يقر به وقامت الأدلة الظاهرة على ارتكابهللجناية فيجحد كل ما اُتهم به، ويطلب براءته فيضيع الزمن عبثًا بل خير له لو نازعفي ثبوت ركن من أركان الجناية قانونًا وأولى له ثم أولى أن بحث توفر شرط منشرائطها ليمكن تخفيف العقوبة والمعاملة بالرأفة أو كأن يطلب في تعويض شيء حقير ممايقع التسامح في مثله عادةً أموالاً غزيرة ويقدر في التضمينات مبالغ باهظة بينهاوبين القيمة الحقيقية مراحل زاعمًا أنه إن لم يسلم في الكل لسلم له فيما دونه ممايقرب منه وبذلك يكون قد حصل على قيمة ما هو مطلوب له في الواقع أو بالأقل على قيمةتامة، متمسكًا بما اشتهر على بعض الألسنة (ادعى الباطل حتى يسلم لك الحق)، ولكنتلك خدعة ومن طلب أخذ الحق زائدًا أعوزه نيله ناقصًا وما أقدر من قدر الأشياء قدرهاووقف عند حدها أن يذعن لقوله ويصدق في خبره ويقنع بإشارته فضلاً على صريح عبارتهوما أحق من تجاوز الحدود أن يُساء به الظن ويرمي بالتلبيس والتغرير ويكذب حتى فيالصدق ويخطئ في الصواب ألا ترى كيف تجد في نفسك ارتياحًا إذا اشتريت شيئًا ممن عرفأن يبيع سلعه بقيم محدودة ولا تجد ذلك الارتياح إذا اشتريته ممن اعتاد المساومةولو كنت في الحالة الأولى مغبونًا وفي الثانية رابحًا وما ذلك إلا لاطمئنان النفسإلى من اعتاد الحق وعدم اطمئنانها إلى من لم يعتده، ويكون الإنصاف بتخير القضاياالحقة التي لا تمس المرافعة فيها بجانب الذمة ولا بجانب الفضيلة فإن الإشارة إلىدرجة المحامي في طبقات الهيئة الاجتماعية أدعى إلى سلوك هذا السبيل من الإنصافقيامًا بالخدمة العامة المفروضة على كل فرد في مهنته للجماعة وتطالب بها الأمة كلطائفة في أداء الحقوق المقدسة للوطن، فلا يذهب بالمحامي حب الربح وطلب الكسب إلىأن يقبل كل ما يعرض عليه من القضايا أيًا كانت بل عليه أن ينتقي منها ما لا تؤديالمحاماة فيه إلى اهتضام حق أو استلاب مال ولا يقضي الاهتمام به إلى خذل فضيلة أونصر رذيلة حتى لا يجلب بالسعي في مصلحة شخصه ضررًا على الهيئة الاجتماعية عملاًبحديث (حب لأخيك ما تحب لنفسك)، فليس له أن يدخل في الخصومة إذا علم أن موكله يريدأخذ ما ليس له أو يلتهم حقًا للغير قبله وهو بعد معرفة ذلك منه إذا سهل له بلوغمأربه واحتال لدرك أمنيته يكون قد رضي بمشاركته في الخيانة ولا فرق حينئذٍ بينهوبين من يشترك في جريمة، ولا إذا علم ممن انتدبه للدفاع عنه أنه ممن يعيثون فيالأرض فسادًا ويكدرون صفو النظام الإنساني لأن تعضيد مثل هؤلاء للسعي في تخليصهممن العقاب موجب لتماديهم في الإضرار بالناس وحسبك بذلك خلة في خلائق المحامي لاتعد من مزاياه ونحن في مقام بيانها للدلالة بالاقتضاء على تجنب ضدها من المساوئوما دمنا في ذكر المحاسن أطلقنا العنان لحسن البيان. البتالجرأة المرادبالجرأة هنا قوة القلب وثبات الجأش في المواقف الخطيرة وقد برهنت المشاهدات على أنكل عمل عظم شأنه في العالم وسار ذكره بين الناس أساسه قوة القلب ولولا ثبات الجأشلما انتقل من حيز الفكر إلى الخارج ولما أمكن بقاؤه في الوجود مرعى النظام محمودالأثر. وإنماكانت الجرأة من الصفات الضرورية التحقيق في المرافع لأنه حين يقوم في مجلس القضاءوبالخطابة القانونية يكون قد أخذ على نفسه عهدة أمر خطير وقبل تحمل عبء عظيم تنتظرالناس نتيجته وتتشوف لعاقبته إذ وراء خطابته هذه حكم قاطع وقضاء محتوم بعده مستقبلسعيد أو شقي، ومن المتعين أن تنجلي هذه الخطابة إما عن دم بريء بحقن ونفس زكيةتسلم وحق ضائع يثبت وضرر واقع يزال فتكون النتيجة خيرًا حصل بالأمة وإما أن تنجلىعن دم بطل يهرق ونفس طاهرة تعذب وحق مقرر يضيع وضرر مريع يبقى فتكون العاقبة شرًاحل بالأمة فيلزمه لأجل أن يظفر بالنتيجة الحسنة وينجو من العاقبة السيئة ويؤدي ماعهد إليه وافيًا أن يثبت في هذا الموقف العظيم مدافعًا بسلاح القانون معتصمًا بحصنالحكمة مبرزًا من الإقدام والجرأة ما تستدعيه الحال، وأما إذا طاش لبه من الهولومنعه الخجل أو الوجل عن إجادة القول فإن عبارته تقصر عن الوفاء بالغرض ولا تقومبإبراز ما في النفس من المعاني ويلحق كلامه العي واختلال الإلقاء وينبني على ذلكعجزه عن العبء الذي أقدم على حمله وذهاب الثقة به ورجوعه بالخيبة والخسران فالهيبةكما قيل خيبة نعوذ بالله منها. وعروضالهيبة لطالب الخطابة إما أن يكون منشؤه خور طبع وضعف قلب كما يحصل لكثير يحاولونالقيام في مواقف الخطابة فتأبى عليهم طباعهم ويدركهم من الخوف ما ترتجف منه القلوبوتسارع له الأنفاس وتتقطع عنده الأصوات فلا تسمع ما يعقل ولا تعقل ما يسمع وهذا لاعلاج له والأجدر بصاحبه أن يطلب له عملاً غير الخطابة، وإما أن يكون منشؤه وساوستعرض له وقت ما يهم بالكلام ملاحظتها تمنع الفكر واللسان عن سرعة الحركة ولكنطروؤها غير متأصل وملاحظتها غير لازمة فهذا يمكن علاجه بقلع تلك الوساوس وإزالة تلكالأوهام، والممارسة وطول الزمن أكبر معين على محوها، ومحوها يكون بتنبيه الفكر إلىأنها في غير محلها وتدبر أنها لا وجه لها، لأنها إن كانت ناشئة عن التفكر فيمايبديه من الأقوال ومخافة أن لا يسعفه منطقه بالبيان فيرتج عليه في الخطابة وينفذالقول والناس ينتظرون فلا يجدون ويستمعون فلا يسمعون وهنالك الخجل الفاضح والخزيالواضح فالأمر هين ولا وجه للمخافة لأن حصول ذلك في الغالب يكون لأحد اثنين رجلدعي بغتة للكلام فيما لم يكن أعلم بحقيقته من قبل فيبتدئ التكلم قبل استحضار أجزاءالموضوع إجمالاً فترتيب المبادئ والخواتيم ومواضع انتقالات المعاني فينفذ منهالكلام ويقف دون الإتمام، ورجل قيد فكره بحفظ عبارة معينة يتلوها وقت الحاجةبحروفها وحظر على نفسه التصرف فيها فإذا شذت منه كلمة واحدة انسد عليه سبيل الكلامووقع في الخطر. والمرافعليس واحدًا منهما لأنه لا يحضر لمجلس القضاء إلا بعد أن يطلع على أوراق القضيةالتي أخذ على عهدته المرافعة فيها ويبحث عما يمكن أن يكون حجة له فيها يستند بهوما يمكن أن يكون حجة عليه ليتبصر في دفعه عند الضرورة فهو لا يقوم بالكلام إلاوعنده فكر ومعانٍ قائمة غاية الأمر أنه يريد أن يعبر عنها وليس في ذلك شيء منالصعوبة لأن كل ناطق يمكنه أن يقول ما شاء من العبارات ما دام عنده فكر يريد أنيبرزه إلى غيره، كل إنسان يعرف عن نفسه أنه يتكلم مع من يدعو الأمر إلى كلامهالأزمنة الطويلة والأوقات العديدة لا يعتريه ملل أو وجل كما نشاهد في عملنا اليوميمع من نقف أمامهم وقد جمعتنا بهم رابطة المنبت والعلم واتحاد المشارب واتفاقالمآرب. الأدب وهوصفة في الخلائق تبعث في النفس حب التواضع فنقر بها إلى من علاها وتسمو بها إلى مندونها وخليق بالمحامي أن يجعل شعاره الأدب في القول باختيار الألفاظ المؤديةللمعاني المقصودة بلا خشونة وتوخى إلقاءها بلا غلط كما يهذب قلمه في التحرير علىالنمط الذي تزين ألفاظه معانيه وألفاظه زائنات المعاني. وحليةالأدب فضيلة أليق بالمحامي التخلق بها في معاشرته ومعاملته فإن له بين الناس قدرًايزداد بالأب ويكمل بالمحاسنة وقد يأخذ باللين ما لا يأخذ بالشدة وغلبة المحامي علىخصمه إنما تكون بآداب المناظرة فيقرن الدليل بالدليل ويقرع الحجة بالحجة وكلما لأنجانبه وظهرت مزاياه عرف بين الناس بالخلق الحسن فتسلك معه سبيل المجاملة وردالنظير بنظير فلا يؤاخذ زميلاً إن بدرت منه كلمة خارجة عن حدود اللياقة أو استعمللفظًا جارحًا فحسن الجواب أبلغ في النوال، ادفع بالتي هي أحسن، وناهيك بخزي منيعتدي فيرد عليه اعتداؤه بالملاطفة وأبلغ حديث شريف يؤدي أرقى معنى في هذا البابمن مكارم الأخلاق (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلقحسن). حاجةالمرافع ماسة لسلوك الأدب مع القاضي فيحترمه ويعتني بطلبه فتكون موعظة حسنة ومثلاًيقاس عليه - قد تكون علاقة المحامي بزملائه أكثر أدبًا وبموكله أظهر في حسنالمعاملة واستنباط المجهولات بالمحاسنة فقد يكون بين أرباب القضايا من يظنونالمحامي حاكمًا كما يسمعون العامة ويخشون بأسه فلا يفضون إليه بسر أمرهم ولا يدلونإليه بحججهم وأولئك خير لهم حلم الحليم وأدب الأديب للوصول للحق وإبداء الرأيبسلامة ذوق، يتوهم بعض الجهلاء إن واجب المحامي تقمص جلابيب موكله والاتصاف بخصالهواتخاذ مظهر العداء لخصمه ويغالبون في ذلك إلى حد الإساءة للإخوان ونقض الرعايةالواجبة للزملاء فلا يأخذ الغرور ناشئًا في الصناعة الاقتداء بتلك الخصال الذميمةومناوأة زملائه بل حسن التفاهم قاعدة التعامل والمودة رابطة متينة في العمل قوامهاالأدب والتآلف بحسن المؤازرة والتضامن بين أبناء الطائفة بالتناصر والتعاون(وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). الثبات وهوإحكام الرأي وتأسيسه على التؤدة والتروي ثم التمسك به والحرص عليه وعدم التذبذب فيالفكرة للعدول عنها من غير بحث وما دام الأمر مبناه علم يقين وحكمه ظاهر جلي لايحتاج إلى التردد فلا مفر من الاعتصام به والاستمرار عليه وهي من الخلال الشريفةالتي يتصف بها المحامي المنصف الجريء الأديب لتكمل الصفات ويمتاز بحسن المزاياوأجل المحاسن، قيل إن الرجوع للحق فضيلة ولا تنافي بين هذا وذاك اللهم إن الثباتعلى الرأي والدأب على العمل فرضته حسن العقيدة وقاعدته بناء الرأي على فكرة سديدةفمتى ما انكشف غامض أمرها وظهر الحق بخلافها فإن التمسك بالحق هو الثبات ولا خلافبين الصدر والعجز إذ المقرر في الأذهان وتوافر فيه الإجماع هو الثبات على الحقوعدم نقض العهد إن العهد كان مسؤولاً. في الأسباب الكسبية تحصيلالعلوم واقتناء المعارف وتقوية المدارك بالدرس والمطالعة والكد في العمل بالمثابرةوهي أهم الأسباب الكسبية، فمتى أتم الشاب دراسته ونال جائزة لم يكن مثله إلا كمثلطارق باب بيده المفتاح يسوغ له الدخول ويباح له الانتفاع (كلمة مأثورة عن المرحومالأستاذ الإمام الشيخ عبده مفتي الديار المصرية). ومادامت تلك الأسباب في نمو وازدياد هيأ الإنسان نفسه بها للمحافظة على مقامه والحرصعلى ما ادخره لمستقبله منها وكلكم ولا فخر رجال من ذوي الكرامة وأهل العلم فلا شكأن تعلو بمثلكم تلك الصناعة وتطبيق العلم على العمل هو منتهى المهارة ومبلغالاجتهاد في تدوين المسائل القانونية وتقريرها على التوسع ببحث المؤلفات ومراجعةالموسوعات في مقارنة الأحكام وإسنادها لمختلف الآراء فيما ذهب إليه الشراح يؤديللنهوض بالمهنة وبلوغها الشأو الأنسب لها من الرفعة فلا تضيق أوقاتكم بالاطلاعوالأخذ بتلك الأسباب فإن لنا فيكم منتهى الآمال وما مذهب الحرية وأنتم ناصروه إلاحلية للفضيلة وقد تمسكتم بها، وقد يتناول موضوعنا من الإسهاب في كل باب ما يضيقالمقام عن سرده كالإشارة إلى ما لا ينبغي للمحامي الاشتغال به مع مهنته مما قديؤثر في شرفها ودرجتها من الاعتبار وكذلك الحقوق والواجبات بتوسع يفوق هذا المقالبالإيجاز، نم الكلام عن الاستفتاء والاستشارة والأتعاب بما يقتضي المحافظة علىالكرامة وعلو النفس بما يزيد عن المساعدة القضائية المجانية - طبعًا - في نجدةالمسكين وإعانة الفقير وإعانة الملهوف وكل ما في كرم الأخلاق من المزايا الإنسانيةوإنما هي نبذة يسيرة في تجارب مدة قصيرة قضيتها أثناء التمرين بمكتب صديقي الأستاذعبد العزيز بك فهمي حياه الله وبياه ونجح الله مسعاه ولا بد أن عنايتنا بتلكالمزايا والتوسع فيها يستوجب حتمًا بلوغ مهنتنا أسمى درجات الشرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق