مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة التاسعة عشرة سنة 1939
بحث في سلطة الوزير في إيقاف الموظفين للإحالة على التحقيق الإداري
هل يملك الوزير حق إيقاف الموظف لإحالته على التحقيق ؟
جرى العمل لدينا أحيانًا على ذلك، وهو فيما نرى أمر مخالف للقانون، لقد فرق التشريع الإداري لدينا بين حالتي كبار الموظفين المعينين بمرسوم وغيرهم من الموظفين المعينين بقرار وزاري.
ففيما يتعلق بالموظفين المعينين بقرار وزاري قضى الأمر العالي الصادر في 10 إبريل سنة 1883 بلائحة المستخدمين الملكيين بأن لرئيس المصلحة أو الوزير في الأحوال المستعجلة حق إيقاف الموظف بشرط تقديمه حالاً إلى مجلس التأديب المادة (8) الفقرة الأخيرة [(1)].
يتبين من تلك المادة أن الوزير لا يملك سلطة الإيقاف إلا بشرط الإحالة على مجلس التأديب، فإذا نحن فسرنا ذلك النص على وجه يبيح له حق الإيقاف من أجل التحقيق الذي لا يمكن أن تعرف (حين صدور قرار الإيقاف) مدته بالدقة ولا عما إذا كان سينتهي أمر ذلك التحقيق بالحفظ أو بتوقيع جزاء من الجزاءات البسيطة الداخلة في حدود سلطة الوزير نفسه، أو سينتهي بالإحالة على مجلس التأديب فإنه لمن البين أن ذلك التفسير فيه مخالفة ظاهرة لنص المادة (8) المشار إليها أو هو على الأقل - فيه أخذ بالتوسع في تفسيرها من حيث يجب التضييق في التفسير - فالمادة الثامنة تشترط لصحة قرار الإيقاف شرطين:
الأول: الإحالة على مجلس التأديب.
الثاني: أن تتم الإحالة فورًا أي في مدة قصيرة معقولة.
فالمشرع حين يريد أن يمنح السلطة الإدارية حق الإيقاف لمجرد الإحالة على التحقيق فهو ينص على ذلك صراحةً كما فعل بشأن العمد [(2)].
ومما تقضي به المبادئ العامة أن النصوص المتعلقة بالسلطة التأديبية لا يجوز التوسع في تفسيرها كما أن من الواجب اتباع الإجراءات والأوضاع الشكلية اتباعًا دقيقًا [(3)]، لأن تلك الأوضاع الشكلية إنما قررها المشرع على أنها ضمانة من ضمانات الموظفين إزاء السلطة التأديبية [(4)]، وتقضي المحاكم لدينا باختصاصها طبقًا للمادة (15) من لائحة الترتيب في كافة الدعاوى التي ترفع على الحكومة بطلب تضمينات ناشئة عن إجراءات إدارية تقع مخالفة للقوانين أو الأوامر العالية إذا كانت المخالفة متعلقة بالشكل والأوضاع [(5)].
ذكرنا أن ذلك التفسير (الذي يذهب إليه الرأي القائل بحق الوزير في الإيقاف للتحقيق) مخالف للمادة (8) نصًا وفضلاً عن ذلك فهو مخالف مخالفة خطيرة لروح التشريع إذ يفتح الباب فتحًا مشينًا أمام تعسف الرؤساء (والوزراء) من حيث لم يوضع ذلك التشريع لسنة 1883 إلا لوضع حد لذلك العسف فلو أننا سلمنا للرؤساء بسلطة الإيقاف لمجرد التحقيق دون تحديد مدة الإيقاف تحديدًا دقيقًا وأمدًا قصيرًا بل تركنا أمر تحديد المدة موكولاً لتقديرهم أصبح الموظفون عرضة لإجراءات تعسفية استبدادية تجري باسم (الإيقاف للتحقيق) هذا هو عين ما يشاهد فعلاً حين يجري العمل طبقًا لذلك التفسير الخاطئ أي حين يقرر الوزير إيقاف الموظف لمجرد الإحالة على التحقيق.
ولم يوضع تشريع سنة 1883 كما ذكرنا إلا لوضع ضمانات لحماية الموظف من الإجراءات الاستبدادية التي كان يعانيها قديمًا [(6)].
وأن سلطة إيقاف الموظفين (قبل المحاكمة التأديبية) هي سلطة خطيرة لأنها فضلاً عما تصيب به الموظفين الموقوفين أدبيًا في سمعتهم فهي كذلك تصيبهم ماديًا في إيقاف مرتباتهم ولذلك كان من الطبيعي أن تشريع سنة 1883 لا يدع هذه السلطة للرؤساء دون أن يضع لها قيدًا يحول دون عسفهم فلذلك حتم المشروع على الرؤساء ألا يصدروا أمر الإيقاف إلا مع الإحالة على هيئة أخرى (مجلس التأديب)، وبذلك لا تكون المدة اللازمة للتحقيق خاضعة لأهواء الرؤساء.
ثم إن مجلس التأديب حين يرى أن إجراءات المحاكمة التأديبية من شأنها أن تطول كثيرًا في حين أن التهمة المسندة للموظف الموقوف (الذي أحيل إلى المجلس) لا تستوجب إلا توقيع جزاء من الجزاءات البسيطة (الإنذار أو قطع المرتب لغاية 15 يومًا) أو هي لا تستوجب أكثر من جزاء الإيقاف مع الحرمان من المرتب لمدة ثلاثة شهور في أنه مضت على إيقاف الموظف (وحرمانه من المرتب) أكثر من تلك المدة فإن مجلس التأديب له الحق في تلك الأحوال أن يقرر عدم إيقاف المرتب للمدة الباقية أثناء المحاكمة التأديبية وذلك بناءً على نص المادة الثامنة السابق الإشارة إليها بالفقرة الأخيرة إذ تنص على ما يأتي:
(يترتب على توقيف المستخدم عن العمل حرمانه من ماهيته ما لم يقرر مجلس الإدارة (مجلس التأديب) غير ذلك).
هذا فضلاً عن أن للمجلس بلا ريب الحق في أن يطلب من الوزير إلغاء قرار الإيقاف المؤقت حين يرى أن المحاكمة التأديبية لم تعد تستلزم ذلك.
لما تقدم نلاحظ أن المشرع - في الأنظمة التأديبية الخاصة بطوائف معينة من الموظفين [(7)] – حينما يخول للرؤساء حق إيقاف الموظف (قبل المحاكمة التأديبية) نجده يشترط دائمًا أن يكون قرار الإيقاف صادرًا للإحالة على مجلس التأديب (لا على التحقيق)، ونجد المشرع يأتي في ذلك بعبارات لا تدع مجالاً للشك في نية ذلك هو شأن التشريع الخاص بنظام تأديب رجال الجامعة ونظام تأديب رجال النيابة [(8)].
ففيما يتعلق بنظام تأديب رجال الجامعة فقد نصت المادة (21) من القانون الصادر في 30 إبريل سنة 1933 رقم (21) على ما يلي:
(… يجوز لمدير الجامعة أن يقف مؤقتًا عن مباشرة العمل أي عضو من أعضاء هيئة التدريس محال [(9)] إلى مجلس تأديب).
وفيما يتعلق بتأديب أعضاء النيابات بالمحاكم الأهلية نص دكريتو 11 يناير سنة 1897 بالمادة (4) على ما يلي:
(يجوز لناظر الحقانية وللنائب العمومي إيقاف عضو النيابة المحال [(9)] على مجلس تأديب إيقافًا مؤقتًا).
وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن حالة الموظفين المعينين بمرسوم نرى لزامًا علينا أن نشير إلى ما ورد فيما يسمونه (قانون المصلحة المالية) [(10)] فقد نص في المادة (111) من ذلك القانون طبعة 1932 على ما يأتي:
(كل مستخدم يرتكب ذنبًا يستوجب الرفت يلزم إيقافه عن إشغال وظيفته في الحال وهذا الإيقاف يعلن له كتابةً).
وأننا نلاحظ على هذا النص ما يلي:
أولاً: أنه يعني المستخدم الذي (يرتكب ذنبًا) والموظف عند الإحالة على التحقيق لا يصح اعتباره ارتكب ذنبًا إذ لا يصح ذلك قبل صدور القرار التأديبي بالإدانة.
ثانيًا: إذا فرض إن كان المقصود بهذا النص إنما هو إيقاف الموظف بإحالته على التحقيق وبمجرد إسناد تهمة ما إليه فإن هذا النص يصبح في هذه الحالة نصًا باطلاً لا يجوز الأخذ به لأنه لم يكن نصًا تشريعيًا بالمعنى الصحيح مما هو في الواقع إلا مجرد منشور لوزارة المالية صدر في 22 أغسطس سنة 1895 (وقد ذكر ذلك صراحةً في قانون المصلحة المالية)، ووزير المالية لا اختصاص له في تنظيم طريقة إيقاف موظفي الحكومة وبيان الوقت الذي يجوز فيه ذلك، ولا يجوز فإذا صح لوزير المالية أن يتكلم عن إيقاف المرتب عن الموظف فلا اختصاص له في الكلام عن إيقاف الموظف عن العمل وفرق بين الاثنين ثم أن ذلك المنشور (إذا أخذ بذلك التفسير) يشمل إذا تعديلاً لنص المادة (8) من الأمر الصادر سنة 1883 بلائحة المستخدمين الملكيين (إذ لم تجز تلك المادة الإيقاف للإحالة على مجلس التأديب)، ومن البديهي أن الوزير لا يملك هذا التعديل.
ويجب ملاحظة أن ذلك النص المادة (111) غير خاص بالموظفين المعينين بمرسوم كما سنبين ذلك تفصيلاً فيما بعد.
الموظفون المعينون بمرسوم وحق الإيقاف:
بناءً على أحكام الدكريتو الصادر بإنشاء المحكمة العليا التأديبية (في 24 ديسمبر سنة 1888)، وهو خاص بتأديب كبار الموظفين المعينين بمرسوم للوزير المختص حق إحالة الموظف إلى المحكمة العليا التأديبية [(11)]، ويتبين من أحكام ذلك الدكريتو أن الوزير لا يملك إلا الإحالة على المحكمة العليا التأديبية، فليست له سلطة الإيقاف من أجل مجرد التحقيق أو حتى من أجل الإحالة على تلك الهيئة التأديبية، فلكي يكون للوزير تلك السلطة يجب لذلك نص صريح ولقد خلا التشريع الإداري لدينا من مثل هذا النص.
وتلك إحدى الامتيازات التي اختص بها المشرع كبار الموظفين المعينين بمرسوم دون غيرهم من المعينين بقرار وزاري وذلك في أمر تأديبهم، فكبار الموظفين المعينين بمرسوم (الذين يعينهم دكريتو سنة 1881) غير خاضعين لسلطة الرئيس (أو الوزير) التأديبية (التي تتضمن الإنذار بقطع المرتب لغاية 15 يوم) كما هو شأن الموظفين المعينين بقرار وزاري والهيئة التأديبية التي تحاكم كبار الموظفين (المحكمة العليا التأديبية) يتوفر في أعضائها من ضمانات الاستقلال وكفاية ما لا يتوفر في أعضاء المجالس التأديبية التي تحاكم الموظفين المعينين بقرار وزاري ثم إن القرار الذي تصدره المحكمة العليا التأديبية يجب أن يكون مسببًا (مادة (11) من دكريتو سنة 1889 المشار إليه) ولإمكان صدور الحكم بالعزل من تلك المحكمة العليا اشترطت أغلبية خاصة وهي ثلاثة أرباع أعضاء المحكمة وأن يصدق عليه الملك مادة (9) وجريًا وراء روح التشريع هذه نلاحظ أنه يسمح للموظف بمحامٍ أمام المحكمة العليا التأديبية (مع عدم وجود نص يبيح ذلك)، وهذا بخلاف الحال مع الموظفين المعينين بقرار وزاري [(12)].
مما تقدم يتبين لنا أن حرمان الوزير من حق الإيقاف للإحالة على التحقيق (أو حتى على المحكمة العليا التأديبية) ليس بالأمر الغريب بل هو أثر من الآثار الطبيعية لتلك الروح التي بيناها ولقد قرر المشرع مثل هذا الامتياز لرجال القضاء الأهلي فلم يمنح الوزير ولا أية هيئة أخرى سلطة إيقافهم [(13)].
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن ثمة حالة واحدة ورد فيها في التشريع الإداري ذكر لإيقاف كبار الموظفين المعينين بمرسوم كان ذلك في الأمر العالي الصادر في 19 فبراير سنة 1887 بإنشاء المحكمة العليا الإدارية لتأديب الوزراء وكبار الموظفين [(14)].
المحكمة العليا الإدارية: ولكن سلطة الإيقاف لم تُمنح هنا للوزير من أجل الإحالة على التحقيق، إنما يحدث الإيقاف عند إحالة مجلس الوزراء للموظف أمام تلك المحكمة المادة (3) الفقرة الثانية، والرأي عندي أنه بعد إنشاء المحكمة العليا التأديبية (سنة 1888 وإنشاء النظام الدستوري في البلاد سنة 1923) [(15)].
فقد أصبحت تلك (المحكمة الإدارية العليا) لا وجود لها قانونًا كما أنه لم يكن ثمة لها وجود عملاً [(16)].
ونعتقد أننا بغير حاجة إلى التنبيه بأن المادة (111) [(17)] مما يسمونه (قانون المصلحة المالية) التي تقدم الكلام عنها غير خاصة بكبار الموظفين المعينين بمرسوم إنما هي تعني غيرهم من الموظفين المعينين بقرار وزاري، ويتبين ذلك من أن تلك المادة إنما تتكلم عن (المستخدم) لا (الموظف) ثم إن المادة (115) من القانون المشار إليه نصت بعبارة صريحة على أن أحكام المادة (111)، وغيرها لا تسري على كبار الموظفين المعينين بمرسوم، وفضلاً عن ذلك فإن تلك المادة كما قدمنا يجب عدم تطبيقها لأنها في الواقع عبارة عن منشور لوزارة المالية (في 22 أغسطس سنة 1895) وهو منشور باطل قانونًا لمخالفته لأحكام الأمر العالي الصادر بلائحة المستخدمين سنة 1883.
وإذا كان لا يوجد أي نص قانوني يخول الوزير الحق في الإيقاف فليس ثمة أيضًا أي مبدأ قانوني يمكن أن يستند إليه في ذلك.
فإذا كان الوزير في وزارته هو صاحب السلطة الرئاسية [(18)] فإن السلطة التأديبية (Pouvoir disciplinaire) إنما صاحبها رئيس الدولة الأعلى وذلك لأنه صاحب الولاية العامة في عزل الموظفين (بناءً على ما يقضي به الدستور المصري بالمادة (44) وتقابلها المادة (3) (الفقرة الثالثة) من (القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 25 فبراير سنة 1875) [(19)].
وفي ذلك يقول الأستاذ جورج رينار (أستاذ القانون العام بجامعة ننسى في مؤلفه طبعة سنة 1922 Cours de droit public صفحة 248 ما نصه:
Le pouvoir disciplinaire appartient, dans sa plus haute expression, au chef de l’Etat, comme une conséquence de droit de révocation.
وبناءً على ذلك فليس للوزير من حقوق السلطة التأديبية (كما هو شأنه فيما يتعلق بسلطة تعيين الموظفين أو عزلهم) إلا ما تنص عليه القوانين واللوائح (الصادرة من رئيس الدولة الأعلى)، فالسلطة التأديبية التي يخضع لها الموظفون إنما تبين أحكامها وإجراءاتها القوانين واللوائح وعلى الرئيس (الوزير أو رئيس المصلحة) اتباع الإجراءات المنصوص عليها بدقة تامة وإلا كان الأمر الإداري الصادر من الرئيس باطلاً، ذلك هو ما قرره الفقه والقضاء الإداري في فرنسا [(20)].
ثم أن قرار إيقاف الموظف عن عمله لا يتضمن حتمًا إيقاف المرتب عن الموظف فلكي يكون للإيقاف ذلك الأثر يجب لذلك نص قانوني صريح إذ يصح أن يكون إيقاف الموظف غير مصحوب بإيقاف المرتب (كما تقضي بذلك المادة (40) من الدكريتو الصادر في فرنسا في 22 مارس سنة 1926) [(21)] أو يكون مصحوبًا بإيقاف بعض المرتب للجمعيه كما هو الشأن في التشريع الإيطالي حيث يتضمن الإيقاف عن العمل الحرمان من المرتب من نصفه إلى ثلثيه [(22)].
وإذا كان إيقاف المعين بقرار وزاري في مصر يتضمن إيقاف المرتب فذلك راجع إلى وجود نص بذلك (كما قدمنا) ولكن لا يوجد ما يقابل هذا النص فيما يتعلق بكبار الموظفين المعينين بمرسوم فإذا سلمنا جدلاً بأن الوزير في مصر له حق إيقاف الموظفين المعينين بمرسوم للإحالة على التحقيق فما هي القيود التي أحاط بها تلك السلطة وأين النص القانوني الذي يخول له إيقاف المرتب ؟
وهل من المقبول عقلاً أن نقول بأن المشرع الذي قيد سلطة الرئيس هذه بالنسبة للموظفين المعينين بقرار وزاري قد تركها بغير قيود أو حدود بالنسبة لكبار الموظفين المعينين بمرسوم مع أن المشرع جرى دائمًا على عكس ذلك إذ كان دوامًا (كما قدمنا) يكفل لهؤلاء ضمانات وامتيازات أكثر مما قرر لأولئك ؟؟
وهل مما يتلاءم مع روح التشريع أن نقول بأن المشرع الذي حرم الوزير حتى سلطة توجيه (إنذار) إلى كبار الموظفين المعينين بمرسوم ؟؟
وحتى سلطة النقل (إذ يشترط صدور مرسوم) نقول هل من المخول أن نسلم بأن هذا المشرع يمنح الوزير سلطة الإيقاف ومع إيقاف المرتب أيضًا ؟!
ثم أن ثمة مبدأ نلاحظ أن المشرع لدينا قد جرى دائمًا عليه فيما يتعلق بتأديب الموظفين: ذلك أنه لم يمنح مطلقًا حق الإيقاف (قبل المحاكمة التأديبية) إلا للرؤساء [(23)] الذين سبق أن منحهم سلطة توقيع بعض جزاءات تأديبية على الموظفين.
ومن الثابت أن المشرع لم يمنح للرؤساء (سواء كان من رؤساء المصالح أو الوزراء) سلطة توقيع أي جزاء تأديبي على كبار الموظفين المعينين بمرسوم، فإذا سلمنا بالرأي القائل بمنح الوزير سلطة الإيقاف (قبل المحاكمة التأديبية) فكيف إذا يمكن تفسير سر خروج المشرع على ذلك المبدأ ؟
كلمة ختامية:
يتبين مما تقدم أن الوزير - طبقًا للتشريع المصري القائم وطبقًا للمبادئ العامة للقانون العام - لا يملك سلطة إيقاف كبار الموظفين المعينين بمرسوم [(24)] للإحالة على التحقيق أو حتى للإحالة إلى المحكمة العليا التأديبية، فمثل هذا القرار (قرار الإيقاف) هو قرار باطل فهو معيب بعلة (تجاوز الاختصاص) (Juridiction) إذ لا يستند مصدره إلى نص قانوني يعطيه اختصاص إصداره ونرى الآن لزامًا علينا أن نذكر كلمة عما نراه من نقص التشريع لدينا بهذا الصدد.
مما لا موضع للجدل فيه أن التحقيق الإداري (أو المحاكمة التأديبية) قد يستلزم أحيانًا إبعاد الموظف مؤقتًا عن دائرة عمله، ولا ريب أن التشريع القائم الآن يعوزه بهذا الصدد بعض الإصلاح.
ولكن هذا الإصلاح لا يمكن أن يكون بإعطاء الوزير سلطة الإيقاف (كما يجري عليه العمل لدينا) أثناء التحقيق بل وبعد تمامه ولمدة غير محدودة.
إنه لا يجوز بحال أن يعامل الموظف الذي تنسب إليه تهمة ما معاملة المذنب قبل صدور قرار السلطة التأديبية بالإدانة، أن إيقاف الموظف عن العمل (مع إيقاف المرتب عنه) قبل صدور قرار الإدانة هو إجراء لا تبرره العدالة ولا صالح العمل ذاته لأنه مما يتطلبه حسن سير الأعمال الحكومية إنما هو بث روح الطمأنينة والشعور بالاستقرار في نفوس الموظفين [(25)] - ومما يحقق نشر تلك الروح أن نعمد إلى إيقاف الموظف لمجرد الإحالة على التحقيق - فقرار الإيقاف رغم أنه (إيقاف مؤقت) له صيغة تأديبية خطيرة فالموظف الموقوف (نظرًا لإيقاف راتبه لمدة غير محدودة) هو أسوأ - لا شك - حالاً ممن يوقع عليه جزاء الإنذار بل وجزاء الحرمان من المرتب لمدة 15 يومًا بل هو من بعض الوجوه أسوأ حالاً من الموظف المحال على الاستيداع أو على المعاش لأنه في هاتين الحالتين الأخيرتين يتقاضى جزءًا من راتبه (خلافًا للموظف أثناء مدة الإيقاف)، ولأنه (أي الموظف الموقوف) بحكم أنه لا يزال يعتبر موظفًا فهو لا يستطيع أن يزاول مهنة أو عملاً آخر للقيام بنفقة معيشته (وذلك خلافًا للموظف المحال على الاستيداع أو المعاش).
مما تقدم يتبين أن مثل هذا الإيقاف هو إجراء استبدادي ظالم لا يتفق مع ما تمليه أبسط مبادئ العدالة أو الإنسانية ولا مع ما يقضي به حسن سير الأعمال في المصالح الحكومية.
فإذا كان التحقيق (أو المحاكم التأديبية) - كما ذكرنا – يتطلب إبعاد الموظف مؤقتًا عن دائرة عمله فيمكن أن يحقق ذلك الغرض بنقل الموظف مؤقتًا (إذا أمكن ذلك دون ضرر بالموظف وبالعمل الحكومي ذاته)، وإلا فليُمنح إجازة وإذا كان نظام الإجازات لا يسمح للموظف إلا بمدة محدودة لا تفي بما تتطلبه إجراءات التحقيق أو المحاكمة التأديبية فإننا نقترح تعديل النظام الخاص بالإجازات، سيعترض علينا ولكن كيف يتقاضى الموظف مرتبًا وهو لا يقوم بعمل من أعمال وظيفته التي يستحق من أجلها مرتبه ؟ وردًا على ذلك ندلي بما يأتي:
1 - أن نظام الإجازات نفسه ينقض هذا الاعتراض لأنه يسمح للموظف بإجازة لمدة غير قصيرة يمكن أن تمتد إلى أكثر من أربعة شهور (إذا كانت إجازة خارج القطر وصحبتها إجازة مرضية) فالموظف هنا لا يقوم بعمل ما مع أنه يتقاضى مرتبه كاملاً، ثم أنه طبقًا للنظام المتبع الآن يستولي الموظف الموقوف على جميع مرتبه أثناء مدة الإيقاف بعد صدور القرار التأديبي بالبراءة مع أنه لم يقم بعمل ما.
2 - في فرنسا كان دكريتو 22 مارس سنة 1926 المادة (40) يجيز الإيقاف لمدة ثلاثة شهور أخرى إذا كان التحقيق لم ينته [(26)].
3 - في بعض البلاد التي قررت فيها الخدمة العسكرية الإجبارية يتقاضى الموظف راتبه كاملاً أثناء تأدية الخدمة العسكرية مع أنه لا يقوم بأداء أعمال وظيفته [(27)].
4 - أن الموظف ليس (أجيرًا باليومية) لا يراعي في أمر تقدير أجره إلا اعتبار واحد وهو أداء العمل اليومي ومن الناحية القانونية فليست العلاقة التي تربط الموظف بالحكومة بعلاقة (مركز تعاقدي) تطبق عليها أحكام القانون الخاص (كما لو كان عقد إجارة أشخاص أو عقد وكالة)، فلا تعتبر العلاقة قد نشأت إلا لصالح الطرفين المتعاقدين، إنما العلاقة التي تربط الموظف بالحكومة (كما هو مقرر لدى فقهاء القانون العام ولدى القضاء الفرنسي والمصري) هي علاقة (مركز قانوني أو نظامي) خاضعة لأحكام القانون العام ويترتب على ذلك اعتبار أن هذه العلاقة لم تنشأ لصالح طرفين متعاقدين إنما هي لم تنشأ إلا لخدمة الصالح العام وأن كل ما تقرر للموظف من حقوق لم يقصد منها تقرير حقوق شخصية للموظف (وأن له فيها حقًا مكتسبًا) وإنما أريد بها تمكين الموظف من العمل في الجو الذي يتفق والصالح العام.
وإنا لنعتقد أن الاعتبارات التي سبق أن بيناها تثبت أن الرأي الذي نشير به هو الذي يتفق مع كرامة الوظيفة وصالح العمل أي الصالح العام كما أنه يقضي على مظاهر العسف والاستبداد التي نشاهدها أحيانًا لدى الرؤساء أو الوزراء الذين يسيئون استعمال سلطة الإيقاف.
الدكتور عبد الحميد متولي
أستاذ القانون الإداري والدستوري
بمدرسة البوليس
[(1)] (…أما في الأحوال المستعجلة فيسوغ لرؤساء المصالح أن يمنعوا المستخدمين مؤقتًا عن العمل بشرط أن يعرضوا عن ذلك حالاً لمجلس الإدارة (مجلس التأديب)، ولكن بمراجعة النص الفرنسي (وهو الأصل) للمادة يتضح لنا أن المقصود هو المعنى الذي بيناه في أعلاه.
وذلك هو النص الوحيد لدينا بهذا الصدد، على أن هنالك بعض طوائف من الموظفين لهم أنظمة خاصة للتأديب (كرجال الجامعة أو الجيش أو القضاء) وسوف نعرض لها بالقدر الذي يعنينا في هذا البحث.
[(2)] انظر المادة الخامسة من الأمر العالي الصادر في 18 مارس سنة 1895 بشأن العمد والمشايخ حيث تنص المادة الخامسة على أن للمدير حق إيقاف العمد والمشايخ أثناء التحقيق بشرط ألا تزيد مدة الإيقاف عن ثلاثة شهور.
[(3)] انظر مجلة القانون العام Revue de Droit Public et de la Science Politique لسنة 1937 صفحة 665، وما يليها وعلى الخصوص صفحة 675 حيث تجد حكمًا حديثًا لمجلس الدولة بتاريخ 27 مارس سنة 1936 في قضية Bonny وقد جاء في حيثيات ذلك الحكم ما نصه:
La procédure est stricte. Le chef de service excède les limites de son pouvoir disciplinaire, s’il n’observe pas scrupuleusement cette procédure les éléments de la procédure constituent autant de garanties pour le fonctionnaire. Ne pas observer une formalité, c’est priver le fonctionnaire d’une garantie. La sanction est la nullité de la decision disciplinairé.
[(4)] وليلاحظ أن ضمانات الموظفين لم يراعَ في تقريرها صالح الموظفين بمقدار ما روعي صالح العمل ذاته أي الصالح العام ويعرف الفقهاء الفرنسيون (نظام الموظفين Statut des fonctionnaire بأنه عبارة عن ضمانات الموظفين، راجع مثلاً كتاب العلامة هو ريو في كتابه Précis de Droit Administratif طبعة 1925 صـ 272 حيث يقول ما نصه:
Tous les fonctionnaires ont un statut, c’est - à - dire des garanties de stabilité contre l’arbitraire gouvernemental.
[(5)] حكم محكمة الاستئناف الأهلية بمصر دوائر مجتمعة أول مارس سنة 1928 وزارة الحقانية ضد سليمان بك عزت عدد 5 صفحة 107 المجموعة الرسمية السنة التاسعة والعشرون سنة 1928، محكمة الاستئناف الأهلية بمصر في 22/ 2/ 1932 عدد 9 صفحة 114 السنة الثالثة الجريدة القضائية.
[(6)] تبين لنا ذلك بجلاء من مراجعة الأعمال التحضيرية السابقة لذلك التشريع - راجع قاموس القضاء والإدارة للأستاذ جلاد الجزء الثالث صفحة 281 حيث ورد فيه تقرير مرفوع للخديوي من شريف باشا رئيس مجلس النظار بطلب تشكيل قومسيون مكلف بتحضير القوانين المتعلقة بشروط قبول الموظفين الملكيين وترقيتهم ورفتهم في 20 أكتوبر سنة 1881:
(إن حالة المستخدمين الملكية تستحق التفات الحكومة إليها فإنه ينبغي أن توضع قوانين بعد مطالعة أحكامها وإمعان النظر فيها بغاية الدقة ومزيد الاعتناء تبين فيها الشروط التي يلزم مراعاتها في قبول المستخدمين من أي رتبة كانوا وترقيتهم ليكونوا آمنين مما عساه أن يحصل في أي وقت من الإجراءات الاستبدادية……… إلخ).
وكذلك تجد في صفحة 287 صورة المذكرة الإيضاحية لذلك التشريع (أي للأمر العالي الصادر في 11 إبريل سنة 1883) وقد ورد فيها ما يلي:
(بما أنه من أقصى آمالنا أن كل مستخدم يتمتع بثمرات خدمته ما دام سالكًا فيها مسلك الصدق والاستقامة…، ومن المعلوم أن المستخدم إن لم يكن آمنًا من خطرات التقصد واثقًا بما يؤيد له الانتفاع بالحقوق التي يكتسبها من الخدمة لم يزل مضطرب الفكر مشغول البال فيما يؤول إليه حاله… أما إذا كان متيقنًا بحفظ مركزه عالمًا باستحصاله على الترقي متثبتًا من عدم حرمانه مما توجبه له حقوق خدمته فبالطبع لا يألو جهدًا التشبث لإمكان الحصول على ما يحسن به أمره حالاً واستقبالاً بواسطة القيام بإيفاء واجبات الخدمة كما ينبغي ومع كون هذه اللائحة تعود بالفوائد الجمة على المستخدمين لأنها تضمن لهم حقوقهم في خدمتهم السابقة وتتكفل لهم بالأمن والوثوق ببقائهم في الخدمة والترقي وعدم تسلط كبار الموظفين على الأصاغر بالرفت والمعاملة السيئة بغير وجه قانوني… إلخ).
نقول: (ولو أن هذا الإيقاف يصدر كأمر تحفظي إلا أنه نظرًا لأنه يتضمن إيقاف المرتب قد أصبحت له صيغة تأديبية خطيرة وهو لا شك أشد وقعًا على الموظف من بعض الجزاءات الأخرى كالإنذار وقع المرتب لمدة 15 يومًا حتى أن المشرع ذكر مدة ذلك الإيقاف في عداد الجزاءات انظر قانون العمد إذ تنص المادة الخامسة من الأمر العالي الصادر سنة 1895 على الجزاءات التي توقع على العمد والمشايخ هي الآتية: الإنذار… والإيقاف أثناء التحقيق… إلخ).
[(7)] اللهم إلا إذا استثنينا نظام تأديب العمد.
[(8)] ويلاحظ أن رجال القضاء لا يجوز إيقافهم عند الإحالة إلى المحاكم التأديبية.
[(9)] تلك اللفظة (محال) أو (المحال) تكاد تدل على أن الإحالة على مجلس التأديب يجب أن تكون سابقة على قرار الإيقاف وليست فقط مصاحبة له.
[(10)] يجب أن يكون معلومًا أن ما يسمى (بقانون المصلحة المالية) ليس قانونًا بالمعنى الصحيح وذلك برغم أنه يشبه القوانين المقننة كقانون العقوبات والقانون المدني في أنه عبارة عن متن واحد لتشمل أحكام في مواد متسلسلة قد رتبت نصوصه ترتيبًا وبوبت أجزاؤه تبويبًا (فقانون المصلحة المالية) هذا (يطلق عليه أحيانًا القانون المالي) هو في الواقع عبارة عن مجموعة ضمت بعضًا من الأوامر العالية واللوائح ومنشورات وزارة المالية وفتاوى اللجنة المالية وغيرها، لذلك كانت تسمية هذه المجموعة بقانون تسمية خاطئة معيبة يجدر بولاة الأمور النظر في أمر تغييرها لا سيما أنه لا يوجد هناك ما يُسمى بالمصلحة المالية.
[(11)] تنص المادة (2) من ذلك الدكريتو على ما يأتي:
(يسوغ إحالة كل موظف على المحكمة العليا التأديبية لأمور تتعلق بتأدية وظيفته وذلك بناءً على طلب ناظر الديوان التابع له الموظف).
وتنص المادة (5) على ما يأتي:
(تنظر المحكمة العليا التأديبية في الدعوى بناءً على طلب مبين فيه أسبابها يقدم من ناظر الديوان المختصة بذلك لناظر الحقانية بصفة كونه رئيسًا للمحكمة المذكورة أما إذا كان الموظف تابعًا لنظارة الحقانية فيكون تقديم الطلب إلى مجلس النظار وهو يعين الناظر الذي يقوم مقام ناظر الحقانية في رئاسة المحكمة التأديبية العليا).
[(12)] وتحت سلطان تلك الروح أيضًا (ولبعض الظروف السياسية) صدر مرسوم في 22 سبتمبر سنة 1930 يقرر بأن الموظفين المعينين بمرسوم يكون عزلهم بمرسوم لا بمجرد قرار من مجلس الوزراء كما هو شأن الموظفين المعينين بقرار وزاري.
[(13)] وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمرسوم بقانون رقم (68) بإنشاء محكمة نقض وإبرام الصادر في 2 مايو سنة 1921 ما نصه (ومع أن بعض الشرائع يجيز إيقاف القاضي المحال على مجلس التأديب فقد رأى عدم اتباع ذلك اكتفاءً بما يتسنى للوزارة من تصرف إداري في شأنه حتى يعرض الأمر على مجلس التأديب فيقرر ما يراه من الإجراءات).
[(14)] نص ذلك الأمر العالي (بجواز مسؤولية النظار (الوزراء) أو رؤساء المصالح وكبار المأمورين لدى محكمة عليا إدارية)، وذلك في الأحوال الآتية:
(إذا أمر أحد النظار (الوزراء) ورؤساء المصالح وغيرهم من كبار المأمورين (كبار الموظفين):
1 - بصرف مبلغ من مصروفات أذنوا بها خارجًا عن الاعتمادات المقررة.
2 - أو أجرى تحويل مبلغ من فصول إلى أخرى في الميزانية قبل أن يصدق مجلس نظارنا على تحويلها.
3 - أو اتخذ إجراءات مخالفة للقوانين واللوائح المتبعة) مادة (1)، وتشكل هذه المحكمة (تحت رئاسة رئيس مجلس النظار…….، ويكون أعضاؤها النظار الذين لا دخل لهم في الدعوى والمستشار المالي ومستشار خديوي مادة (2)، وتنظر المحكمة في الدعوى بناءً على طلب مجلس النظار ويبقى الناظر أو رئيس المصلحة أو المأمور المقامة عليه الدعوى موقوفًا عن وظيفته في ذلك الحين مادة (3).
[(15)] انظر في ذلك كتابنا (القانون الإداري المصري) الجزء الأول (طبعة 1938) صفحة 182 حيث ذكرنا ما نصه (نرى أنه بعد إنشاء النظام الدستوري للدولة لم تعد هنالك حاجة إلى هذه المحكمة بالنسبة للوزراء إذ أن الأعمال التي يسألون من أجلها أمام هذه المحكمة تدخل في نطاق الأعمال التي يسألون عنها مسؤولية سياسية أمام مجلس النواب وكذا الجزاءات التي تحكم بها المحكمة (اللوم أو الرفت) هي كذلك من نتائج تلك المسؤولية السياسية).
ونضيف هنا أن الأعمال التي كان يسأل عنها كبار الموظفين أمام تلك (المحكمة الإدارية) أصبحت من اختصاص (المحكمة العليا التأديبية) التي تحاكم الموظف (لأمور تتعلق بتأدية الوظيفة) مادة (2).
[(16)] علمنا من قلم المحفوظات برئاسة مجلس الوزراء أن تلك المحكمة الإدارية العليا لم يحدث منذ إنشائها (عام 1887) أن عقدت ولو مرة واحدة حتى اليوم.
[(17)] إذ تنص المادة بأن (كل مستخدم يرتكب ذنبًا) ففي العصر الذي وضعت فيه تلك المادة سنة 1895 كان المشرع يستعمل عادةً لفظة (المستخدم) للدلالة على الموظفين المعينين بقرار وزاري ولم يحدث مطلقًا أن قصد بها كبار الموظفين المعينين بمرسوم فقد كان يشير إلي هؤلاء بلفظة (الموظف).
ويكفي لإثبات ذلك الرجوع إلى نصوص الأوامر العالية الصادرة في 10 إبريل سنة 1883 وفي 24 مايو سنة 1885 وهي خاصة بالمستخدمين (الموظفين المعينين بقرار وزاري)، وإلى نصوص الأمرين العاليين الصادرين في 19 فبراير سنة 1887 وفي 24 ديسمبر سنة 1888، وقانون رقم (7) لسنة 1906 وهي خاصة بالموظفين المعينين بمرسوم.
[(18)] للوزير بصفته الرئيس الإداري الأعلى في وزارته هذه السلطة الرئاسية وبمقتضى هذه السلطة للوزير الحق في توزيع الأعمال بين مرؤوسيه من الموظفين (وذلك طبعًا مع مراعاة القوانين واللوائح)، ولهم رقابة أعمالهم وتصرفاتهم فله الحق أن يطلب منهم إلغاء الأوامر الصادرة منهم كما له حق تعديل أو إيقاف أو إلغاء القرارات أو الأوامر الصادرة منهم حتى ولو لم تكن مخالفة للقانون (على أن المشرع يستثني أحيانًا بعض الأعمال من تلك السلطة (راجع مؤلف الأستاذ جيز Cours de droid public (طبعة 1924) صفحة 111، 112 وكذلك مؤلف الأستاذ جورج رينار Cours de droit public (طبعة 1922) صفحة 248.
[(19)] تنص المادة (44) من الدستور المصري على أن (الملك يولي ويعزل الموظفين على الوجه المبين بالقوانين)، ولا يجوز فيما نرى (كما هو الشأن في تفسير النص المقابل لهذا في الدستور الفرنسي) أن يفسر هذا النص تفسيرًا حرفيًا فنقول بأن الدستور إنما يمنح سلطة التعيين والعزل لرئيس السلطة التنفيذية فقط وأن ليس للسلطة التشريعية إلا أن تقرر الشروط والقيود التي يجب عليه مراعاتها ولكن ليس لها (أي للسلطة التشريعية) أن تمنح هذا الاختصاص لشخص آخر (للوزير مثلاً) أو لأية هيئة أخرى، إنما يجب أن تفسر هذه المادة في ضوء التقاليد التي سار عليها المشرع المصري وفي ضوء التفسير الذي أجمع عليه الفقه الفرنسي في تفسير المادة المقابلة في الدستور الفرنسي فتقول بأن هذه المادة إنما تقرر (اختصاصًا عامًا).
أي أن للملك سلطة تعيين وعزل الموظفين الذين لم تقرر لتعيينهم أو عزلهم طريقة أخرى على أن هذا النص - فيما نرى – رديء الصياغة، وكان من الأوفق أن يقتبس النص المقابل في الدستور البلجيكي مادة (66) إذ تنص على أن (الملك يعين في وظائف الإدارة العامة وفي السلك الخارجي ما عدا الاستثناءات التي تقررها القوانين)، ولكن نرى إضافة (والمراسيم) بعد كلمة القوانين لزيادة التفصيل يراجع كتابنا في (القانون الإداري) صفحة 37 - 41.
[(20)] راجع مؤلف الأستاذ جيز: المبادئ العامة للقانون الإداري (الطبعة الثالثة) الجزء الثالث صفحة 87 وما يتبعها وكذلك مجلة القانون العام وعلم السياسة (الفرنسية) لسنة 1937 صفحة 665 وما بعدها: تعليق على حكم مجلس الدولة في قضية بوني (الصادر في 27 مارس سنة 1936).
[(21)] مجلة القانون العام لسنة 1937 صفحة 666.
[(22)] ضمانات الموظفين (طبعة 1936) رسالة الدكتوراة للأستاذ عباس زكي، وراجع أيضًا دالوز Répertoire Pratique الجزء السادس طبعة 1914، رقم (236) تحت عنوان Fonctionnaires Publics
[(23)] كما هو شأن مدير الجامعة إزاء أعضاء هيئة التدريس بالجامعة (قانون رقم (21) لسنة 1933) وشأن النائب العمومي ووزير الحقانية إزاء أعضاء النيابة (دكريتو 11 يناير سنة 1897)، وشأن المدير ووزير الداخلية إزاء العمد (الأمر العالي الصادر في 16 مارس سنة 1895)، وشأن رئيس المصلحة أو الوزير إزاء الموظفين المعينين بقرار وزاري (وقد سبق الكلام في ذلك).
[(24)] يلاحظ أننا بالإشارة إلى كبار الموظفين المعينين بمرسوم لا نعني تلك الطوائف التي وضع لها المشرع نظامًا تأديبيًا خاصًا كرجال القضاء الأهلي وأعضاء النيابة وإن كان رجال القضاء كما قدمنا، لا يجوز لأية هيئة أن توقفهم عن العمل.
[(25)] فكما يقول العلامة هو ريوفي كتابه Précis élémentaire de droit Administratif طبعة سنة 1925 صـ 278 أن أول ما يعوز الموظفين إنما هو استقرار مراكزهم، وفي صـ 272 يقول ما نصه:
Tous les fonctionnaires ont un statut, c’est à - dire - des garanties de stabilité contre l’arbitraire gouvernmental.
[(26)] مجلة القانون العام (السابق الإشارة إليها) عدد 1937 صفحة 666.
[(27)] من تقرير الدكتور ليمجروبر Leimgruber نائب رئيس حكومة الاتحاد السويسري إلى مؤتمر العلوم الإدارية المنعقد في فينا من 19 - 24 يونيه سنة 1933 صفحة 18.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
بحث في التشريع والقضاء التجاريين
مجلة المحاماة - العدد السادس
السنة العشرون سنة 1940
بحث في التشريع والقضاء التجاريين
لما كانت المعاملات التجارية تحتاج إلى السرعة بسبب تجددها المستمر، كان من الصعب إلزام التجار مراعاة الأحكام المدنية البطيئة، فتقررت قواعد خاصة للمواد التجارية تتناسب مع مقتضيات التجارية وتنظيم الثقة - أساس المعاملات التجارية - وتحمي معاهدها من بورصات ومصارف ومخازن وغيرها، وقد جمعت هذه الأحكام في قانون خاص مسمى قانون التجارة تمييزًا لها عن القانون المدني العادي، وكان من نتائج تمييز القانون التجاري عن القانون المدني إيجاد نظام قضائي خاص للفصل في المنازعات التجارية وفكرة عرض القضايا التجارية على محاكم خاصة فكرة قديمة جدًا، ويقول العالم الفرنسي المسيو ريفيو الباحث الأثري في الشرائع المصرية القديمة في كتابه الذي نشره بباريس في أواخر القرن التاسع عشر إن قدماء المصريين احترفوا بالتجارة وكان لمصر الفرعونية في عصرها الذهبي أسطول حربي تجاري لحفظ سيادة مصر السياسية ولنشر تجارتها في سائر الأنحاء ولما كثر تردد الأجانب على مصر أنشئ بمدينة نوكواتيس محكمة خاصة تنظر في الدعاوى التجارية التي تنشأ بين المصريين واليونانيين.
ويرى ريفيو أن قوانين قدماء المصريين كانت تتناول بعض الأحكام الخاصة بالتجارة، أما قوانين روما فلا تعرف التفرقة بين القانون المدني والقانون التجاري، ولما جاء الإسلام وجد العرب يشتغلون بالتجارة بين الحجاز واليمن والشام ثم امتدت تجارتهم في ظل راية الإسلام من الصين شرقًا إلى الأندلس في المحيط الأطلسي غربًا وبحر البلطيق شمالاً ومخرت سفنهم البحار تحمل أصناف التجارة من الهند والصيد ومدغشقر وزنجبار واليمن إلى البصرة فبغداد فالدار البيضاء فقرطبة فصقلية فالقيروان فالإسكندرية وجاء في القرآن الكريم أحكام خاصة بالتجارة فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) إلى أن قال (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم).
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة التي نزلت منذ ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن أن القاعدة في الإثبات الكتابة ما عدا الأحوال التجارية وهذا مذهب عطاء وابن جريح والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري وهذا ما تأخذ به الشرائع الحديثة منذ القرن التاسع عشر فقد استثنى المشرع الحديث المواد التجارية كما نعلم من قاعدة وجوب الإثبات بالكتابة مهما بلغت قيمتها (كتاب الإثبات للأستاذ أحمد نشأت بك).
ثم إن بحوث فقهاء الشريعة الإسلامية في المسائل التجارية من حوالات وسفاتج وشركات وبيوع وقروض وإفلاس كنز لا يفنى ومعين لا ينضب ويجد الباحث ما يريد الوقوف عليه في هذا الشأن في بطون كتب الفقه الإسلامي خصوصًا فقه الإمام مالك بن أنس بن مالك والتي ترجم لبعضها إلى اللغة الفرنسية ومحفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس، ويشعر المطلع على هذه المصنفات أنه يقرأ في كتب شرح القانون التجاري الحديث.
ولم يقتصر بحث علماء الشريعة في القانون التجاري البري - وإنما عالجوا - خصوصًا وقت وجودهم في الأندلس - القانون التجاري البحري وأخذ الإفرنج عنهم كثيرًا من قواعدهم وألفاظهم ونذكر فقط على سبيل التمثيل أن الإفرنج أخذوا كلمة avorie عن عرب الأندلس من كلمة (عوار)، ومعناها (عيب) إذ يقول العرب سلعة ذات عوار: وأخذوا أيضًا كلمة (أميرال عن كلمة أمير البحر)، وأخذوا كلمة arsenal عن (دار الصناعة)، ويطول بنا المقام إذا استرسلنا في بيان ذلك ويكفي أنه قد شهد بذلك علماء الإفرنج فقد وضع البارون (كاردي فو) كتابًا في تراث عرب الأندلس أسماه le penseur d’islam شهد فيه بما كان لعرب الأندلس من فضل على المدنية الأوربية الحالية وخاصةً ما كان منها متصلاً بفن الملاحة والتشريع البحري فهم الذين اخترعوا (بيت الإبرة) أي البوصلة لهداية السفن في الملاحة كما أن شهاب الدين أحمد بن ماجد مؤلف كتاب (الفوائد في أصول البحر والقواعد) هو الذي قاد سفن فاسكو دي جاما إلى الهند من طريق جنوب إفريقيا عام 1498، وقد أخذ المسيو Gabriel Farrand وزير فرنسا المفوض بعض صور زنكغرافية لكتاب ابن ماجد ونشره بين ما كتبه المستشرقون بباريس عام 1921، وقد وضع أيضًا سليمان ماهر المعروف بالماهري كتابًا آخر في فن الملاحة والأحكام التي تجري على الملاحين وأصحاب السفن وهذه الكتب محفوظة مع آلاف الكتب العربية المخطوطة في مكتبة الفاتيكان بروما كما أفاض كثير من علماء الغرب في فضل الشركة الإسلامية على القوانين الأوربية في الماضي، ويكفي أن نشير الآن إلى الكتاب الذي ظهر منذ عامين واشترك في وضعه بعض المستشرقين وعنوانه The legay of Islam أي تراث الإسلام فقد أكد فيه المستشرق الكبير المسيو ساتبلانا في مقال عن الشريعة الإسلامية أن أوربا أخذت بعض قواعدها في القانونين المدني والتجاري عن الشريعة الإسلامية وهذا هو ما قاله بالحرف الواحد:
(Among our positive acquisitions from arab law, there are legal institutions such as limited partinerships (quiràd), and certain technicalities of commercial law. But even omitting these, there is no doubt that the high ethical standard of certrain parts of arab law acted favourable on the development of our modern concepts and, therin lies its enduting merit). [(1)]
اتصل التجار الإيطاليون وغيرهم من الأوربيين وفي العصور الوسطى إبان الحرب الصليبية وبعدها بالمسلمين واطلعوا على نظامهم الفقهي والقضائي الرائع بحكمته وبساطته وخلوه من التعقيدات الشكلية فساعدهم ذلك وشجعهم على التخلص من تعقيدات القانون الروماني والقانون الكنسي التي تدعو إلى بطء المعاملات وعرقلة التجارة فقط روى زميلنا الدكتور علي إبراهيم الزيني بك الأستاذ بجامعة فؤاد الأول أن أحد عظماء كتاب الغرب وهو ليربيور ليجونيير.
قال (إن العادات التي أدخلها التجار الإيطاليون في كل مكان تكون معظمها من عناصر مستمدة من القانون الروماني ولو أن منها أيضًا عناصر مأخوذة من عادات العرب والأتراك).
والواقع هو أن أحكام الشريعة الإسلامية على ما عرفناها من البساطة والخلو من التعقيد والرسميات ملائمة بنوع خاص للسرعة والثقة اللذين تقتضيهما المعاملات التجارية ولهذا سرعان ما اقتبس الغربيون أحسن ما في تلك العادات واتخذوه قانونًا للتجارة عندهم، ولما جاء عهد المغفور له محمد علي باشا كانت التجارة من أهم ما عنى به فأنشأ لها ديوانًا خاصًا شبيهًا بوزارة التجارة (القضاء التجاري - مقال منشور بجريدة الأهرام يوم 4 فبراير سنة 1940 للأستاذ عبد الله حسين المحامي)، كما أنشأ سنة 1261 مجلسًا للفصل في المنازعات التجارية بين الأهالي والأجانب وجعل مقره الإسكندرية (القضاء التجاري في مصر مقال منشور للأستاذ محمد محمود علام المحامي بجريدة الأهرام في 28 نوفمبر سنة 1938)، وفي سنة 1465 هجرية أنشأ مجلسًا آخر على نمطه في القاهرة وكان كل من هذين المجلسين يتكون من عدد من أعيان التجار غالبهم وطنيون والأقلية أجانب وقد أنشئ بعد ذلك، سنة 1855 مجلس استئنافي تنظر فيه الأحكام المستأنفة من المجالس الابتدائية التجارية وكان هذا المجلس مكونًا من ستة أعضاء نصفهم من الأجانب (المحاماة للمرحوم أحمد فتحي زغلول باشا)، وفي سنة 1856 صدرت لائحة تقضي بأن مجالس التجارة تحكم في القضايا وفقًا للعرف التجاري في مصر وطبقًا للقانون التجاري العثماني وعند عدم النص يرجع إلى القانون الفرنسي.
ولما تبوأ عرش مصر العاهل العظيم المغفور له إسماعيل باشا وجه عظيم عنايته إلى تجارة مصر البحرية فأنشأ الشركة العزيزية التي عرفت فيما بعد بمصلحة البوستة الخديوية وكان يتبعها أسطول تجاري كان فيه من البواخر الكبيرة ست وعشرون تجوب البحار رافعة العلم المصري وتنقل الناس والمتاجر والبريد بين ثغور مصر وشواطئ البحر الأبيض المتوسط في سوريا والأناضول وبلاد اليونان وشواطئ الدردنيل والبوسفور وثغور البحر الأحمر كسوا كن ومصرع وينبع وجدة والجديدة وتجتاز بوغاز باب المندب إلى زيلع وبربره وأراد بعد ذلك المغفور له إسماعيل باشا أن يحيط هذا الأسطول الضخم بسياج من القوانين العصرية تطبقها محاكم تُحاكي النظم الأوربية في تشكيلها.
ونحن جميعًا نعلم كيف انتهى الأمر بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1876 تلك المحاكم التي حاول نوبار باشا عام 1884 بمناسبة مؤتمر المحاكم المختلطة أن يقضي على استقلالها ونزع كل صفة دولية لها ولكنه أخفق في مسعاه بحجة أن المحاكم الأهلية لم يتم تنظيمها بعد وقد شكل في محيط المحاكم المختلطة دوائر تجارية للفصل في القضايا التجارية ثم أصلحت المحاكم الأهلية ووضعت لها شرائعها من مدنية وتجارية وغيرها على مثال القانون الفرنسي واستمر القضاءان يعملان جنبًا إلى جنب في توزيع العدالة وتقديم العلم القانوني في مصر إلا أن المحاكم المختلطة كانت تتوسع من ناحيتها في تطبيق نظرية ابتدعتها ونعتتها بنظرية الصالح المختلط وكان من مقتضاها أن كل قضية يكون فيها لأجنبي صالح ولو كان صوريًا تكون من اختصاصها، ثم إن اتفاق مونترو عام 1937، ولو أنه لا يقضي على هذه النظرية إلا أنه أصبح مشروعًا طبقًا لأحكامه جواز الاتفاق بين أولي الشأن من مصريين وأجانب أو أجانب فقط على قبول اختصاص المحاكم الأهلية بعد أن كانت المحاكم المختلطة تقضي باطراد بعدم شرعية هذا الاتفاق وكان من نتائج ذلك الزيادة المستمرة فيما يعرض الآن من القضايا على المحاكم الوطنية وقد بدأت مصر منذ الخامس عشر من أكتوبر سنة 1937 فترة الانتقال المنصوص عليها في اتفاقية مونترو والمقصود منها توطيد التعاون بين المصريين والأجانب ولهذا عني أولو الأمر بتهيئة المحاكم الوطنية للفصل في قضايا المحاكم المختلطة بعد انتهاء فترة الانتقال منذ وضعت معاهدة مونترو موضع التنفيذ وجد أن القضايا التجارية في المحاكم الأهلية في ازدياد مستمر فقد بلغت عام 1638 - 1939 أمام محكمة مصر الأهلية وحدها 539 قضية كلية وحوالي 1200 قضية جزئية، وهذا ما حدا بأولي الأمر إلى إنشاء دوائر تجارية في محيط القضاء الأهلي.
إن للقضاء التجاري خصومًا وأنصارًا فخصوم القضاء التجاري يقولون إن مثل هذا القضاء كان يوجد ما يبرره في العهد الماضي لما كان القانون التجاري لم تدون عاداته ولم تصدر بها مجموعة خاصة أما الآن فقد جمعت تلك العادات ودونت وصدرت بها قوانين خاصة فالقضاة العاديون أي الفنيون أقدر من التجار أنفسهم على الفصل في القضايا التجارية، فيوجد في كثير من الدعاوى أمور يستدعي الفصل فيها خبرة فنية خاصة لا تتوافر في القضاة التجار كما أنه قد تعرض بعض القضايا على المحاكم التجارية فتحكم فيها بعدم الاختصاص لأنها مدنية، فيسبب ذلك لذوى الشأن مصاريف كما يضيع عليهم وقتًا طويلاً ويُضاف إلى ذلك تحيز القضاة التجار إلى زملائهم من التجار فقد ثبت في فرنسا أن الدعاوى التي يحكم فيها قضاة من التجار وتستأنف أمام القضاء الاستئنافي حيث لا يجلس قضاة من التجار تلغي أحكامها بنسبة أكثر من الأحكام الأخرى التي تلغى أمام الاستئناف، ويكون قد حكم فيها ابتدائيًا من قضاة فنيين ويقولون أيضًا إن إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وهما بلدان تجاريان عظيمان تخضع فيهما المعاملات المدنية والتجارية لقواعد واحدة مستمدة من القانون العام المسمى Common Law، ولا يوجد فيها قضاء تجاري مستقل وقد ألغيت بالفعل المحاكم التجارية في إسبانيا عام 1868، وفي اليونان عام 1887، وفي هولندا عام 1827 وفي إيطاليا عام 1888، وفي رومانيا عام 1890، وكذلك لا توجد محاكم تجارية في دوقية لوكسمبورج وألغيت كذلك في المكسيك عام 1857، وفي شيلي عام 1866، ووضعت سويسرا أيضًا عام 1883 قانونًا للالتزامات شاملاً ما كان منها مدنيًا أو تجاريًا وهو الذي أدمج عام 1912 في القانون المدني السويسري.
أما أنصار القضاء التجاري فيرون أن القانون التجاري لم يبين جميع الأحكام الخاصة بالتجارة بل لا يزال هذا التشريع ناقصًا فالقانون التجاري لم يبين أحكام الحساب الجاري والتأمينات البرية كما أن بعض القوانين التجارية لها صيغة الأمر أما الأخرى فتفسيرية ولهذا وجب الالتجاء إلى قضاة من التجار لأنهم أعرف بعاداتهم وتقاليدهم من القضاة الفنيين ولهذا توجد محاكم تجارية في النمسا والمجر وألمانيا وبلجيكا وروسيا القيصرية وفي بعض مقاطعات سويسرا وتركيا والأرجنتين إنما المحاكم التجارية في النمسا وألمانيا يرأسها قاضٍ فني يعاونه اثنان من المحلفين التجار أما في فرنسا وهي مصر تشريعنا فكانت المحاكم التجارية تعقد فيها في الزمن القديم في الأسواق والموالد ويجلس للحكم فيها حراس هذه الأسواق وبعض التجار وأول محكمة تجارية نظامية عرفت في تاريخ فرنسا هي محكمة باريس التجارية التي أنشأها شارل التاسع عام 1563، وبعد ذلك كثرت في فرنسا هذه المحاكم وكان عددها 67 محكمة في منتصف القرن الثامن عشر، ولم يلغِ تشريع الثورة الفرنسية هذه المحاكم بل أبقاها ولا زالت منتشرة في جميع أنحاء فرنسا بين كاليه وبوردو ومارسيليا وليون ونانسي وغيرها تقضي في أقضية التجار رغم ما يوجه لها من النقد ويجلس للحكم فيها قضاة من التجار.
أما القضاء التجاري المختلط في مصر فقد كان قبل معاهدة مونترو ويجلس للفصل فيه قضاة فنيون عاديون ففي المحاكم الجزئية التجارية كان يجلس فيها قاضٍ فني أما المحاكم الابتدائية فكان يجلس فيها ثلاثة من القضاة الفنيين اثنان منهم من الأجانب أحدهما الرئيس وقاضٍ وطني ومعهما اثنان من المحلفين التجار أحدهما وطني والآخر أجنبي ويجلسان بجانب القضاة العاديين ورأي المحلفين قطعي في الدعوى لا استشاري بمعنى أنه إذا انضم لرأيهما أحد القضاة الثلاثة صدر الحكم وفقًا لرأيهما أما بعد معاهدة مونترو فإسقاطًا لحجة خصوم القضاء التجاري أُلغي نظام المحلفين وأصبح القضاة الفنيون هم وحدهم الذين يفصلون في الأقضية التجارية وهذا أيضًا هو النظام الذي اتبع الآن في تشكيل المحاكم التجارية في محيط القضاء الوطني ولقد ثبت بالتجربة أن القضاء التجاري المشكل على هذا الوجه قد قام خير قيام بالفصل في أنواع النزاع التجاري، لم يكن للمصريين نصيب يذكر في التجارة والشركات التجارية التي تشتغل في بلادهم لأن الشركات المساهمة التي كانت تؤلف في مصر عمادها رؤوس الأموال الأجنبية والعمل الأجنبي غير أنه لما قامت الحرب الكبرى عام 1914، وامتنع ورود الكثير من المصنوعات وأصناف المتاجر اندفعت بعض الأموال المصرية في سبيل الصناعة والتجارة إلى جانب الزراعة التي كان ميل المصريين متجهًا دائمًا إليها ولهذا أصبح قانون التجارة لا يتفق مع مقتضيات هذا العصر فالقانون التجاري الأهلي لا يشمل جميع المسائل الخاصة بالتجارة بل أغفل الشيء الكثير منها فقد انفرد التشريع المختلط بالصلح الواقي من الإفلاس ولا مقابل له في التشريع الأهلي وما أشد حاجة التجار الوطنيين إلى هذا النوع من الحماية أسوة بزملائهم الأجانب أمام المحاكم المختلطة كما أن نظام وكلاء الديانة في حاجة إلى أسس وقواعد ثابتة ويا حبذا لو أخذ في مصر بنظام وكلاء الديانة الموظفين كما هو عليه الحال في النظام الإنكليزي وإنا ندعو خريجي كليتي التجارة والحقوق إلى الانتظام في سلك وكلاء الديانة ليكونوا عونًا على تحقيق مشاكل الإفلاس المعقدة ولهذا يقع على عاتق لجنة تعديل القانون التجاري سرعة تنقيح القوانين التجارية وسد نقصها والاستعانة في ذلك بما قرره القضاء المختلط من المبادئ الهامة في هذا الشأن فالقانون التجاري المصري لم يعد متفقًا مع مقتضيات هذا العصر فبينما فرنسا التي أخذنا عنها تشريعنا تابعت حركة إصلاح القوانين التجارية واشتركت في المؤتمرات الدولية بشأن التشريع التجاري وآخر ما عملته إصدارها في عهد وزارة المسيو بلوم Blaume عام 1934 عدة قوانين جديدة خاصة بالأوراق التجارية والشركات والإفلاس وراعت في القوانين الخاصة بالأوراق التجارية ما كان قد قرره مؤتمر جنيف عام 1930 بشأنها - إذا بالتشريع المصري لم يطرأ عليه أي تعديل.
ونذكر في هذا المقام أن أول من فكر في العهد الحديث في تعديل القوانين المصرية هو صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا وقت أن كان عميدًا لكلية الحقوق فقد أدرك بثاقب رأيه أن القوانين المعمول بها في حاجة إلى إعادة نظر كاملة لأن تجارب الحياة كشفت فيها عن عيوب وعن وجوه إصلاح فلما ولي مقاليد الحكم عام 1939 عمد إلى تأليف لجان لبناء القوانين الجديدة وراعى في تشكيلها أصدق الاعتبارات التي تتفق والصالح العام واختار لها أيضًا العلماء الأجانب قاصدًا بذلك أن تكون القوانين الجديدة مثالاً يُحتذى به في بعض الأمم الأخرى فتصبح مرجعًا يهتدي به لتذكر بين أمم الأرض كما كان يذكر القانون الألماني والقانون السويسري، ولكن قضت الأقدار بعد ذلك أن تحل هذه اللجان ثم يُعاد تأليفها المرة بعد المرة والتشريع واقف كما هو بينما الحياة تتطور والبلاد في حاجة إلى إصلاح قانوني إلى أن ولي مقاليد وزارة العدل حضرة صاحب المعالي الوزير مصطفى الشوربجي بك فعمل على إصلاح التشريع التجاري البري واختار للجنة تعديله ثلاثة من أعلام القانون في مصر وهم حضرات أصحاب العزة حامد فهمي بك وفؤاد حسني بك والدكتور محمد صالح بك، أما القانون البحري فقد كان أسعد حظًا من القانون التجاري البري فقد رأى حضرة صاحب المعالي أمين أنيس باشا وزير العدل السابق حاجة القضاء المختلط القائم وحدة حتى الآن بأعباء تطبيقه إلى قانون بحري جديد يتفق مع ما وصلت إليه الوحدات البحرية من التقدم والرقي فألف عام 14935 لجنة لتعديله برئاسة حضرة صاحب السعادة يونس صالح باشا المستشار الملكي وقد قطعت هذه اللجنة شوطًا كبيرًا نحو إتمامه فأدت بجهدها العظيم جزءًا كبيرًا من الأمانة التي وكلت إليها.
ستلغي المحاكم المختلطة في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة 1949 أي بعد تسع سنين وما ذلك الأجل ببعيد وسيؤول عملها إلى المحاكم الوطنية وإلى القضاة الواقفين والجالسين والمحامين الوطنيين ولهذا يجب متابعة التجديد في أنظمتنا القضائية الأهلية حتى إذا ما انتهت فترة الانتقال توطد الأمر كله للمحاكم الوطنية فلا يجد المتقاضون صعوبة أو اختلافًا بين القضاء المختلط الماضي والقضاء الوطني الباقي.
محمد كامل أمين حلس
القاضي بمحكمة مصر الأهلية
[(1)] وقد عالج الشيخ الجليل ابن عابدين في رسائله المطبوعة في الأستانة بعض المسائل الخاصة بالتشريع البحري نذكر منها عقد التأمين البحري.
السنة العشرون سنة 1940
بحث في التشريع والقضاء التجاريين
لما كانت المعاملات التجارية تحتاج إلى السرعة بسبب تجددها المستمر، كان من الصعب إلزام التجار مراعاة الأحكام المدنية البطيئة، فتقررت قواعد خاصة للمواد التجارية تتناسب مع مقتضيات التجارية وتنظيم الثقة - أساس المعاملات التجارية - وتحمي معاهدها من بورصات ومصارف ومخازن وغيرها، وقد جمعت هذه الأحكام في قانون خاص مسمى قانون التجارة تمييزًا لها عن القانون المدني العادي، وكان من نتائج تمييز القانون التجاري عن القانون المدني إيجاد نظام قضائي خاص للفصل في المنازعات التجارية وفكرة عرض القضايا التجارية على محاكم خاصة فكرة قديمة جدًا، ويقول العالم الفرنسي المسيو ريفيو الباحث الأثري في الشرائع المصرية القديمة في كتابه الذي نشره بباريس في أواخر القرن التاسع عشر إن قدماء المصريين احترفوا بالتجارة وكان لمصر الفرعونية في عصرها الذهبي أسطول حربي تجاري لحفظ سيادة مصر السياسية ولنشر تجارتها في سائر الأنحاء ولما كثر تردد الأجانب على مصر أنشئ بمدينة نوكواتيس محكمة خاصة تنظر في الدعاوى التجارية التي تنشأ بين المصريين واليونانيين.
ويرى ريفيو أن قوانين قدماء المصريين كانت تتناول بعض الأحكام الخاصة بالتجارة، أما قوانين روما فلا تعرف التفرقة بين القانون المدني والقانون التجاري، ولما جاء الإسلام وجد العرب يشتغلون بالتجارة بين الحجاز واليمن والشام ثم امتدت تجارتهم في ظل راية الإسلام من الصين شرقًا إلى الأندلس في المحيط الأطلسي غربًا وبحر البلطيق شمالاً ومخرت سفنهم البحار تحمل أصناف التجارة من الهند والصيد ومدغشقر وزنجبار واليمن إلى البصرة فبغداد فالدار البيضاء فقرطبة فصقلية فالقيروان فالإسكندرية وجاء في القرآن الكريم أحكام خاصة بالتجارة فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) إلى أن قال (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم).
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة التي نزلت منذ ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن أن القاعدة في الإثبات الكتابة ما عدا الأحوال التجارية وهذا مذهب عطاء وابن جريح والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري وهذا ما تأخذ به الشرائع الحديثة منذ القرن التاسع عشر فقد استثنى المشرع الحديث المواد التجارية كما نعلم من قاعدة وجوب الإثبات بالكتابة مهما بلغت قيمتها (كتاب الإثبات للأستاذ أحمد نشأت بك).
ثم إن بحوث فقهاء الشريعة الإسلامية في المسائل التجارية من حوالات وسفاتج وشركات وبيوع وقروض وإفلاس كنز لا يفنى ومعين لا ينضب ويجد الباحث ما يريد الوقوف عليه في هذا الشأن في بطون كتب الفقه الإسلامي خصوصًا فقه الإمام مالك بن أنس بن مالك والتي ترجم لبعضها إلى اللغة الفرنسية ومحفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس، ويشعر المطلع على هذه المصنفات أنه يقرأ في كتب شرح القانون التجاري الحديث.
ولم يقتصر بحث علماء الشريعة في القانون التجاري البري - وإنما عالجوا - خصوصًا وقت وجودهم في الأندلس - القانون التجاري البحري وأخذ الإفرنج عنهم كثيرًا من قواعدهم وألفاظهم ونذكر فقط على سبيل التمثيل أن الإفرنج أخذوا كلمة avorie عن عرب الأندلس من كلمة (عوار)، ومعناها (عيب) إذ يقول العرب سلعة ذات عوار: وأخذوا أيضًا كلمة (أميرال عن كلمة أمير البحر)، وأخذوا كلمة arsenal عن (دار الصناعة)، ويطول بنا المقام إذا استرسلنا في بيان ذلك ويكفي أنه قد شهد بذلك علماء الإفرنج فقد وضع البارون (كاردي فو) كتابًا في تراث عرب الأندلس أسماه le penseur d’islam شهد فيه بما كان لعرب الأندلس من فضل على المدنية الأوربية الحالية وخاصةً ما كان منها متصلاً بفن الملاحة والتشريع البحري فهم الذين اخترعوا (بيت الإبرة) أي البوصلة لهداية السفن في الملاحة كما أن شهاب الدين أحمد بن ماجد مؤلف كتاب (الفوائد في أصول البحر والقواعد) هو الذي قاد سفن فاسكو دي جاما إلى الهند من طريق جنوب إفريقيا عام 1498، وقد أخذ المسيو Gabriel Farrand وزير فرنسا المفوض بعض صور زنكغرافية لكتاب ابن ماجد ونشره بين ما كتبه المستشرقون بباريس عام 1921، وقد وضع أيضًا سليمان ماهر المعروف بالماهري كتابًا آخر في فن الملاحة والأحكام التي تجري على الملاحين وأصحاب السفن وهذه الكتب محفوظة مع آلاف الكتب العربية المخطوطة في مكتبة الفاتيكان بروما كما أفاض كثير من علماء الغرب في فضل الشركة الإسلامية على القوانين الأوربية في الماضي، ويكفي أن نشير الآن إلى الكتاب الذي ظهر منذ عامين واشترك في وضعه بعض المستشرقين وعنوانه The legay of Islam أي تراث الإسلام فقد أكد فيه المستشرق الكبير المسيو ساتبلانا في مقال عن الشريعة الإسلامية أن أوربا أخذت بعض قواعدها في القانونين المدني والتجاري عن الشريعة الإسلامية وهذا هو ما قاله بالحرف الواحد:
(Among our positive acquisitions from arab law, there are legal institutions such as limited partinerships (quiràd), and certain technicalities of commercial law. But even omitting these, there is no doubt that the high ethical standard of certrain parts of arab law acted favourable on the development of our modern concepts and, therin lies its enduting merit). [(1)]
اتصل التجار الإيطاليون وغيرهم من الأوربيين وفي العصور الوسطى إبان الحرب الصليبية وبعدها بالمسلمين واطلعوا على نظامهم الفقهي والقضائي الرائع بحكمته وبساطته وخلوه من التعقيدات الشكلية فساعدهم ذلك وشجعهم على التخلص من تعقيدات القانون الروماني والقانون الكنسي التي تدعو إلى بطء المعاملات وعرقلة التجارة فقط روى زميلنا الدكتور علي إبراهيم الزيني بك الأستاذ بجامعة فؤاد الأول أن أحد عظماء كتاب الغرب وهو ليربيور ليجونيير.
قال (إن العادات التي أدخلها التجار الإيطاليون في كل مكان تكون معظمها من عناصر مستمدة من القانون الروماني ولو أن منها أيضًا عناصر مأخوذة من عادات العرب والأتراك).
والواقع هو أن أحكام الشريعة الإسلامية على ما عرفناها من البساطة والخلو من التعقيد والرسميات ملائمة بنوع خاص للسرعة والثقة اللذين تقتضيهما المعاملات التجارية ولهذا سرعان ما اقتبس الغربيون أحسن ما في تلك العادات واتخذوه قانونًا للتجارة عندهم، ولما جاء عهد المغفور له محمد علي باشا كانت التجارة من أهم ما عنى به فأنشأ لها ديوانًا خاصًا شبيهًا بوزارة التجارة (القضاء التجاري - مقال منشور بجريدة الأهرام يوم 4 فبراير سنة 1940 للأستاذ عبد الله حسين المحامي)، كما أنشأ سنة 1261 مجلسًا للفصل في المنازعات التجارية بين الأهالي والأجانب وجعل مقره الإسكندرية (القضاء التجاري في مصر مقال منشور للأستاذ محمد محمود علام المحامي بجريدة الأهرام في 28 نوفمبر سنة 1938)، وفي سنة 1465 هجرية أنشأ مجلسًا آخر على نمطه في القاهرة وكان كل من هذين المجلسين يتكون من عدد من أعيان التجار غالبهم وطنيون والأقلية أجانب وقد أنشئ بعد ذلك، سنة 1855 مجلس استئنافي تنظر فيه الأحكام المستأنفة من المجالس الابتدائية التجارية وكان هذا المجلس مكونًا من ستة أعضاء نصفهم من الأجانب (المحاماة للمرحوم أحمد فتحي زغلول باشا)، وفي سنة 1856 صدرت لائحة تقضي بأن مجالس التجارة تحكم في القضايا وفقًا للعرف التجاري في مصر وطبقًا للقانون التجاري العثماني وعند عدم النص يرجع إلى القانون الفرنسي.
ولما تبوأ عرش مصر العاهل العظيم المغفور له إسماعيل باشا وجه عظيم عنايته إلى تجارة مصر البحرية فأنشأ الشركة العزيزية التي عرفت فيما بعد بمصلحة البوستة الخديوية وكان يتبعها أسطول تجاري كان فيه من البواخر الكبيرة ست وعشرون تجوب البحار رافعة العلم المصري وتنقل الناس والمتاجر والبريد بين ثغور مصر وشواطئ البحر الأبيض المتوسط في سوريا والأناضول وبلاد اليونان وشواطئ الدردنيل والبوسفور وثغور البحر الأحمر كسوا كن ومصرع وينبع وجدة والجديدة وتجتاز بوغاز باب المندب إلى زيلع وبربره وأراد بعد ذلك المغفور له إسماعيل باشا أن يحيط هذا الأسطول الضخم بسياج من القوانين العصرية تطبقها محاكم تُحاكي النظم الأوربية في تشكيلها.
ونحن جميعًا نعلم كيف انتهى الأمر بإنشاء المحاكم المختلطة سنة 1876 تلك المحاكم التي حاول نوبار باشا عام 1884 بمناسبة مؤتمر المحاكم المختلطة أن يقضي على استقلالها ونزع كل صفة دولية لها ولكنه أخفق في مسعاه بحجة أن المحاكم الأهلية لم يتم تنظيمها بعد وقد شكل في محيط المحاكم المختلطة دوائر تجارية للفصل في القضايا التجارية ثم أصلحت المحاكم الأهلية ووضعت لها شرائعها من مدنية وتجارية وغيرها على مثال القانون الفرنسي واستمر القضاءان يعملان جنبًا إلى جنب في توزيع العدالة وتقديم العلم القانوني في مصر إلا أن المحاكم المختلطة كانت تتوسع من ناحيتها في تطبيق نظرية ابتدعتها ونعتتها بنظرية الصالح المختلط وكان من مقتضاها أن كل قضية يكون فيها لأجنبي صالح ولو كان صوريًا تكون من اختصاصها، ثم إن اتفاق مونترو عام 1937، ولو أنه لا يقضي على هذه النظرية إلا أنه أصبح مشروعًا طبقًا لأحكامه جواز الاتفاق بين أولي الشأن من مصريين وأجانب أو أجانب فقط على قبول اختصاص المحاكم الأهلية بعد أن كانت المحاكم المختلطة تقضي باطراد بعدم شرعية هذا الاتفاق وكان من نتائج ذلك الزيادة المستمرة فيما يعرض الآن من القضايا على المحاكم الوطنية وقد بدأت مصر منذ الخامس عشر من أكتوبر سنة 1937 فترة الانتقال المنصوص عليها في اتفاقية مونترو والمقصود منها توطيد التعاون بين المصريين والأجانب ولهذا عني أولو الأمر بتهيئة المحاكم الوطنية للفصل في قضايا المحاكم المختلطة بعد انتهاء فترة الانتقال منذ وضعت معاهدة مونترو موضع التنفيذ وجد أن القضايا التجارية في المحاكم الأهلية في ازدياد مستمر فقد بلغت عام 1638 - 1939 أمام محكمة مصر الأهلية وحدها 539 قضية كلية وحوالي 1200 قضية جزئية، وهذا ما حدا بأولي الأمر إلى إنشاء دوائر تجارية في محيط القضاء الأهلي.
إن للقضاء التجاري خصومًا وأنصارًا فخصوم القضاء التجاري يقولون إن مثل هذا القضاء كان يوجد ما يبرره في العهد الماضي لما كان القانون التجاري لم تدون عاداته ولم تصدر بها مجموعة خاصة أما الآن فقد جمعت تلك العادات ودونت وصدرت بها قوانين خاصة فالقضاة العاديون أي الفنيون أقدر من التجار أنفسهم على الفصل في القضايا التجارية، فيوجد في كثير من الدعاوى أمور يستدعي الفصل فيها خبرة فنية خاصة لا تتوافر في القضاة التجار كما أنه قد تعرض بعض القضايا على المحاكم التجارية فتحكم فيها بعدم الاختصاص لأنها مدنية، فيسبب ذلك لذوى الشأن مصاريف كما يضيع عليهم وقتًا طويلاً ويُضاف إلى ذلك تحيز القضاة التجار إلى زملائهم من التجار فقد ثبت في فرنسا أن الدعاوى التي يحكم فيها قضاة من التجار وتستأنف أمام القضاء الاستئنافي حيث لا يجلس قضاة من التجار تلغي أحكامها بنسبة أكثر من الأحكام الأخرى التي تلغى أمام الاستئناف، ويكون قد حكم فيها ابتدائيًا من قضاة فنيين ويقولون أيضًا إن إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وهما بلدان تجاريان عظيمان تخضع فيهما المعاملات المدنية والتجارية لقواعد واحدة مستمدة من القانون العام المسمى Common Law، ولا يوجد فيها قضاء تجاري مستقل وقد ألغيت بالفعل المحاكم التجارية في إسبانيا عام 1868، وفي اليونان عام 1887، وفي هولندا عام 1827 وفي إيطاليا عام 1888، وفي رومانيا عام 1890، وكذلك لا توجد محاكم تجارية في دوقية لوكسمبورج وألغيت كذلك في المكسيك عام 1857، وفي شيلي عام 1866، ووضعت سويسرا أيضًا عام 1883 قانونًا للالتزامات شاملاً ما كان منها مدنيًا أو تجاريًا وهو الذي أدمج عام 1912 في القانون المدني السويسري.
أما أنصار القضاء التجاري فيرون أن القانون التجاري لم يبين جميع الأحكام الخاصة بالتجارة بل لا يزال هذا التشريع ناقصًا فالقانون التجاري لم يبين أحكام الحساب الجاري والتأمينات البرية كما أن بعض القوانين التجارية لها صيغة الأمر أما الأخرى فتفسيرية ولهذا وجب الالتجاء إلى قضاة من التجار لأنهم أعرف بعاداتهم وتقاليدهم من القضاة الفنيين ولهذا توجد محاكم تجارية في النمسا والمجر وألمانيا وبلجيكا وروسيا القيصرية وفي بعض مقاطعات سويسرا وتركيا والأرجنتين إنما المحاكم التجارية في النمسا وألمانيا يرأسها قاضٍ فني يعاونه اثنان من المحلفين التجار أما في فرنسا وهي مصر تشريعنا فكانت المحاكم التجارية تعقد فيها في الزمن القديم في الأسواق والموالد ويجلس للحكم فيها حراس هذه الأسواق وبعض التجار وأول محكمة تجارية نظامية عرفت في تاريخ فرنسا هي محكمة باريس التجارية التي أنشأها شارل التاسع عام 1563، وبعد ذلك كثرت في فرنسا هذه المحاكم وكان عددها 67 محكمة في منتصف القرن الثامن عشر، ولم يلغِ تشريع الثورة الفرنسية هذه المحاكم بل أبقاها ولا زالت منتشرة في جميع أنحاء فرنسا بين كاليه وبوردو ومارسيليا وليون ونانسي وغيرها تقضي في أقضية التجار رغم ما يوجه لها من النقد ويجلس للحكم فيها قضاة من التجار.
أما القضاء التجاري المختلط في مصر فقد كان قبل معاهدة مونترو ويجلس للفصل فيه قضاة فنيون عاديون ففي المحاكم الجزئية التجارية كان يجلس فيها قاضٍ فني أما المحاكم الابتدائية فكان يجلس فيها ثلاثة من القضاة الفنيين اثنان منهم من الأجانب أحدهما الرئيس وقاضٍ وطني ومعهما اثنان من المحلفين التجار أحدهما وطني والآخر أجنبي ويجلسان بجانب القضاة العاديين ورأي المحلفين قطعي في الدعوى لا استشاري بمعنى أنه إذا انضم لرأيهما أحد القضاة الثلاثة صدر الحكم وفقًا لرأيهما أما بعد معاهدة مونترو فإسقاطًا لحجة خصوم القضاء التجاري أُلغي نظام المحلفين وأصبح القضاة الفنيون هم وحدهم الذين يفصلون في الأقضية التجارية وهذا أيضًا هو النظام الذي اتبع الآن في تشكيل المحاكم التجارية في محيط القضاء الوطني ولقد ثبت بالتجربة أن القضاء التجاري المشكل على هذا الوجه قد قام خير قيام بالفصل في أنواع النزاع التجاري، لم يكن للمصريين نصيب يذكر في التجارة والشركات التجارية التي تشتغل في بلادهم لأن الشركات المساهمة التي كانت تؤلف في مصر عمادها رؤوس الأموال الأجنبية والعمل الأجنبي غير أنه لما قامت الحرب الكبرى عام 1914، وامتنع ورود الكثير من المصنوعات وأصناف المتاجر اندفعت بعض الأموال المصرية في سبيل الصناعة والتجارة إلى جانب الزراعة التي كان ميل المصريين متجهًا دائمًا إليها ولهذا أصبح قانون التجارة لا يتفق مع مقتضيات هذا العصر فالقانون التجاري الأهلي لا يشمل جميع المسائل الخاصة بالتجارة بل أغفل الشيء الكثير منها فقد انفرد التشريع المختلط بالصلح الواقي من الإفلاس ولا مقابل له في التشريع الأهلي وما أشد حاجة التجار الوطنيين إلى هذا النوع من الحماية أسوة بزملائهم الأجانب أمام المحاكم المختلطة كما أن نظام وكلاء الديانة في حاجة إلى أسس وقواعد ثابتة ويا حبذا لو أخذ في مصر بنظام وكلاء الديانة الموظفين كما هو عليه الحال في النظام الإنكليزي وإنا ندعو خريجي كليتي التجارة والحقوق إلى الانتظام في سلك وكلاء الديانة ليكونوا عونًا على تحقيق مشاكل الإفلاس المعقدة ولهذا يقع على عاتق لجنة تعديل القانون التجاري سرعة تنقيح القوانين التجارية وسد نقصها والاستعانة في ذلك بما قرره القضاء المختلط من المبادئ الهامة في هذا الشأن فالقانون التجاري المصري لم يعد متفقًا مع مقتضيات هذا العصر فبينما فرنسا التي أخذنا عنها تشريعنا تابعت حركة إصلاح القوانين التجارية واشتركت في المؤتمرات الدولية بشأن التشريع التجاري وآخر ما عملته إصدارها في عهد وزارة المسيو بلوم Blaume عام 1934 عدة قوانين جديدة خاصة بالأوراق التجارية والشركات والإفلاس وراعت في القوانين الخاصة بالأوراق التجارية ما كان قد قرره مؤتمر جنيف عام 1930 بشأنها - إذا بالتشريع المصري لم يطرأ عليه أي تعديل.
ونذكر في هذا المقام أن أول من فكر في العهد الحديث في تعديل القوانين المصرية هو صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا وقت أن كان عميدًا لكلية الحقوق فقد أدرك بثاقب رأيه أن القوانين المعمول بها في حاجة إلى إعادة نظر كاملة لأن تجارب الحياة كشفت فيها عن عيوب وعن وجوه إصلاح فلما ولي مقاليد الحكم عام 1939 عمد إلى تأليف لجان لبناء القوانين الجديدة وراعى في تشكيلها أصدق الاعتبارات التي تتفق والصالح العام واختار لها أيضًا العلماء الأجانب قاصدًا بذلك أن تكون القوانين الجديدة مثالاً يُحتذى به في بعض الأمم الأخرى فتصبح مرجعًا يهتدي به لتذكر بين أمم الأرض كما كان يذكر القانون الألماني والقانون السويسري، ولكن قضت الأقدار بعد ذلك أن تحل هذه اللجان ثم يُعاد تأليفها المرة بعد المرة والتشريع واقف كما هو بينما الحياة تتطور والبلاد في حاجة إلى إصلاح قانوني إلى أن ولي مقاليد وزارة العدل حضرة صاحب المعالي الوزير مصطفى الشوربجي بك فعمل على إصلاح التشريع التجاري البري واختار للجنة تعديله ثلاثة من أعلام القانون في مصر وهم حضرات أصحاب العزة حامد فهمي بك وفؤاد حسني بك والدكتور محمد صالح بك، أما القانون البحري فقد كان أسعد حظًا من القانون التجاري البري فقد رأى حضرة صاحب المعالي أمين أنيس باشا وزير العدل السابق حاجة القضاء المختلط القائم وحدة حتى الآن بأعباء تطبيقه إلى قانون بحري جديد يتفق مع ما وصلت إليه الوحدات البحرية من التقدم والرقي فألف عام 14935 لجنة لتعديله برئاسة حضرة صاحب السعادة يونس صالح باشا المستشار الملكي وقد قطعت هذه اللجنة شوطًا كبيرًا نحو إتمامه فأدت بجهدها العظيم جزءًا كبيرًا من الأمانة التي وكلت إليها.
ستلغي المحاكم المختلطة في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة 1949 أي بعد تسع سنين وما ذلك الأجل ببعيد وسيؤول عملها إلى المحاكم الوطنية وإلى القضاة الواقفين والجالسين والمحامين الوطنيين ولهذا يجب متابعة التجديد في أنظمتنا القضائية الأهلية حتى إذا ما انتهت فترة الانتقال توطد الأمر كله للمحاكم الوطنية فلا يجد المتقاضون صعوبة أو اختلافًا بين القضاء المختلط الماضي والقضاء الوطني الباقي.
محمد كامل أمين حلس
القاضي بمحكمة مصر الأهلية
[(1)] وقد عالج الشيخ الجليل ابن عابدين في رسائله المطبوعة في الأستانة بعض المسائل الخاصة بالتشريع البحري نذكر منها عقد التأمين البحري.
بحث في تحويل الديون التجارية
مجلة المحاماة - السنة الرابعة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
بحث في تحويل الديون التجارية
قررت محكمة مصر الابتدائية منعقدة بهيئة استئنافية قاعدة أنه (لا يجوز التنازل عن الأحكام وتحويل الديون المقضي بها فيها إلى الغير إلا برضاء المدين ولو كان أصل الدين دينًا تجاريًا).
استلفت نظري هذا الحكم وأنا أقلب صفحات العدد الأخير من مجلة المحاماة لمخالفته ما هو مقرر مشهور في حوالة الديون التجارية فطالعت أسبابه وأنا طامع أن أجد فيها ما يبرر الخروج على المعروف الثابت فلم أجد سوى ما يأتي:
- بما أنه لا نزاع في أن المستأنف ليس بيده ورقة تجارية يستند إليها في دعواه بل كل ما يرتكن إليه هو الحكم الصادر له.
- وبما أن هذا الحكم لا يمكن بأية حالة من الأحوال اعتباره سندًا تجاريًا حائزًا لشروط الأوراق التجارية التي تنتقل ملكيتها بمجرد تحويل بغير حاجة إلى رضاء المدين تلك الشروط التي إن فاتت أية ورقة تجارية سٍقط اعتبارها كورقة تجارية مهما كان موضوعها والمتعاملين بها تجارًا (راجع بودري في كتاب البيع بند 799 تعليقًا على المادة 1690 فرنسي).
- وبما أنه إذا تبين ذلك أصبح من المتعين اقتضاء رضاء المدين لكي يكون التحويل صحيحًا ورضاء المدين في هذه الدعوى لا أثر له.
أسباب غامضة أكبر ظني أن الإشارة فيها يرجع إلى المادة (349) القائلة لا تنتقل ملكية الديون والحقوق المبيعة ولا يعتبر بيعها صحيحًا إلا إذا رضي المدين بذلك بموجب كتابة إلخ.
- وزيادة على ذلك لا يصح الاحتجاج بالبيع على غير المتعاقدين إلا إذا كان تاريخ الورقة المشتملة على رضاء المدين به ثابتًا بوجه رسمي ولا يسوغ ذلك الاحتجاج إلا من التاريخ المذكور فقط وكل هذا بدون إخلال بأصول التجارة فيما يتعلق بالسندات والأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها.
التبس معنى الفقرة الأخيرة من هذه المادة عل محكمة مصر كما يظهر، فظنت إن القانون المصري قد ساوى بين الديون المدنية والتجارية فيما يختص بشروط تحويلها فاقتضى رضاء المدين في النوعين لكي يصبح التحويل صحيحًا ولكن استثنى من ذلك السندات والأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها كالكمبيالات والسندات التي تحت الإذن فأجاز تحويلها دون حاجة لرضاء المدين.
على أن الظاهر الواضح أن (وكل هذا بدون إخلال بأصول التجارة فيما يتعلق بالسندات والأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها) إنما ترجع الإشارة فيها إلى ما تقدمها مباشرةً من الكلام على صحة الاحتجاج بتاريخ التحويل على الغير لا إلى صحة التحويل فيما بين الدائن والمدين، يدل على ذلك:
أولاً: نص المادة (436) من القانون المدني المختلط وهي التي تقابل المادة (349) أهلي فقد جاء في أولها:
La propriété du droit cédé est transmise vis - a - vis des tiers;
1 - Par La notification du transport au debiteur cédé.
2 - Par l’acceptation du cédé dans un acte ayant date certaine et à partir de cette date seulement. Elle est val able contre le cédé quoique l’acte n’ait pas date certaine du moment de son acceptation, et le tout sans prejudice des régles du commerce pour la cession des titres et effets de commerce.
وهذا النص لا يعتوره ما في النص الأهلي من الغموض بل هو صريح في أن استثناء الأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها إنما هو من وجوب إثبات تاريخ الرضاء بالنسبة للغير لا من اقتضاء الرضاء نفسه.
ثانيًا: جاء في الفقرة الأخيرة من المادة المختلطة وهي الخاصة بالتحويل بين الوطنيين ما لا يترك مجالاً للشك في قصد الشارع المصري قالت:
Méanmoins les obligations purement civiles nécent entre indigénes, ne pourront être cédées qu’ avec le consentement du debiture lequel ne pourra être établi que pas ecrit ou par delation du serment.
فيخرج من حكم هذا النص بداهة الديون التي ليست تجارية صرفًا.
ثالثًا: قضت محكمة الاستئناف المختلطة تأييدًا لما تقدم بأن:
La cession ayant pour object une créance commerciale est valable même quand les deux parties sont des sujets locaux, sans besoin du consentment du debiteur (Bulletin Au XXI p. 348).
رابعًا: أما البند الذي استندت عليه محكمة مصر في شرح العلامة بودري فلا علاقة له بموضوع بحثنا البتة بل هو خاص كما يتبين من مجرد الاطلاع على عنوانه بالكلام على ما استثناه القانون الفرنسي من حكم المادة (1690)، وهي التي تنص على وجوب إثبات تاريخ الرضا بالنسبة للغير كما في القانون الأهلي والمختلط.
على أن العلامة بودري قد عالج علاقة المحتال بالمدين في موضع آخر من كتابه ورأيه الصريح أن عدم رضاء المدين بالتحويل (أو إعلانه به كما في القانون المختلط) لا يقف عائقًا في سبيل انتقال ملكية الدين إلى المحتال ولا يمنع هذا الأخير من مقاضاة المدين بطلب حقه منه (راجع شرح البيع للعلامة متقدم الذكر بند 851).
ولا يعترض على ما تقدم بأن الفقرة الأخيرة من المادة (349) باقتضائها إثبات تاريخ قبول المدين حتى في تحويل الديون التجارية قد اقتضت ضمنًا هذا القبول فإن القانونين الأهلي والمختلط قد افترضا كذلك وجود الرضاء عند الكلام على صحة الاحتجاج بالتحويل على الغير كالمادة الأهلية سواء بسواء (مادة 1690 فرنسي، و436 مختلط)، ولم يقل في فرنسا ولا أمام المحاكم المختلطة أحد بأن هذا الافتراض معناه أن تحويل الديون لا يكون صحيحًا فيما بين المحتال والمدين إلا إذا رضى هذا الأخير بالتحويل، بل المفهوم هناك أن قبول المدين الذي اشترط الشارع إثباته بورقة رسمية أو ثابتة التاريخ هو نوع من الإعلان يراد به كإعلان التحويل إلى المدين حماية الغير من أن يتعاقد مع الدائن على الدين المحول مرة أخرى (انظر شرح البيع للعلامة بودري بند 767 وما بعده).
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
بحث في تحويل الديون التجارية
قررت محكمة مصر الابتدائية منعقدة بهيئة استئنافية قاعدة أنه (لا يجوز التنازل عن الأحكام وتحويل الديون المقضي بها فيها إلى الغير إلا برضاء المدين ولو كان أصل الدين دينًا تجاريًا).
استلفت نظري هذا الحكم وأنا أقلب صفحات العدد الأخير من مجلة المحاماة لمخالفته ما هو مقرر مشهور في حوالة الديون التجارية فطالعت أسبابه وأنا طامع أن أجد فيها ما يبرر الخروج على المعروف الثابت فلم أجد سوى ما يأتي:
- بما أنه لا نزاع في أن المستأنف ليس بيده ورقة تجارية يستند إليها في دعواه بل كل ما يرتكن إليه هو الحكم الصادر له.
- وبما أن هذا الحكم لا يمكن بأية حالة من الأحوال اعتباره سندًا تجاريًا حائزًا لشروط الأوراق التجارية التي تنتقل ملكيتها بمجرد تحويل بغير حاجة إلى رضاء المدين تلك الشروط التي إن فاتت أية ورقة تجارية سٍقط اعتبارها كورقة تجارية مهما كان موضوعها والمتعاملين بها تجارًا (راجع بودري في كتاب البيع بند 799 تعليقًا على المادة 1690 فرنسي).
- وبما أنه إذا تبين ذلك أصبح من المتعين اقتضاء رضاء المدين لكي يكون التحويل صحيحًا ورضاء المدين في هذه الدعوى لا أثر له.
أسباب غامضة أكبر ظني أن الإشارة فيها يرجع إلى المادة (349) القائلة لا تنتقل ملكية الديون والحقوق المبيعة ولا يعتبر بيعها صحيحًا إلا إذا رضي المدين بذلك بموجب كتابة إلخ.
- وزيادة على ذلك لا يصح الاحتجاج بالبيع على غير المتعاقدين إلا إذا كان تاريخ الورقة المشتملة على رضاء المدين به ثابتًا بوجه رسمي ولا يسوغ ذلك الاحتجاج إلا من التاريخ المذكور فقط وكل هذا بدون إخلال بأصول التجارة فيما يتعلق بالسندات والأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها.
التبس معنى الفقرة الأخيرة من هذه المادة عل محكمة مصر كما يظهر، فظنت إن القانون المصري قد ساوى بين الديون المدنية والتجارية فيما يختص بشروط تحويلها فاقتضى رضاء المدين في النوعين لكي يصبح التحويل صحيحًا ولكن استثنى من ذلك السندات والأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها كالكمبيالات والسندات التي تحت الإذن فأجاز تحويلها دون حاجة لرضاء المدين.
على أن الظاهر الواضح أن (وكل هذا بدون إخلال بأصول التجارة فيما يتعلق بالسندات والأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها) إنما ترجع الإشارة فيها إلى ما تقدمها مباشرةً من الكلام على صحة الاحتجاج بتاريخ التحويل على الغير لا إلى صحة التحويل فيما بين الدائن والمدين، يدل على ذلك:
أولاً: نص المادة (436) من القانون المدني المختلط وهي التي تقابل المادة (349) أهلي فقد جاء في أولها:
La propriété du droit cédé est transmise vis - a - vis des tiers;
1 - Par La notification du transport au debiteur cédé.
2 - Par l’acceptation du cédé dans un acte ayant date certaine et à partir de cette date seulement. Elle est val able contre le cédé quoique l’acte n’ait pas date certaine du moment de son acceptation, et le tout sans prejudice des régles du commerce pour la cession des titres et effets de commerce.
وهذا النص لا يعتوره ما في النص الأهلي من الغموض بل هو صريح في أن استثناء الأوراق التي تنتقل الملكية فيها بتحويلها إنما هو من وجوب إثبات تاريخ الرضاء بالنسبة للغير لا من اقتضاء الرضاء نفسه.
ثانيًا: جاء في الفقرة الأخيرة من المادة المختلطة وهي الخاصة بالتحويل بين الوطنيين ما لا يترك مجالاً للشك في قصد الشارع المصري قالت:
Méanmoins les obligations purement civiles nécent entre indigénes, ne pourront être cédées qu’ avec le consentement du debiture lequel ne pourra être établi que pas ecrit ou par delation du serment.
فيخرج من حكم هذا النص بداهة الديون التي ليست تجارية صرفًا.
ثالثًا: قضت محكمة الاستئناف المختلطة تأييدًا لما تقدم بأن:
La cession ayant pour object une créance commerciale est valable même quand les deux parties sont des sujets locaux, sans besoin du consentment du debiteur (Bulletin Au XXI p. 348).
رابعًا: أما البند الذي استندت عليه محكمة مصر في شرح العلامة بودري فلا علاقة له بموضوع بحثنا البتة بل هو خاص كما يتبين من مجرد الاطلاع على عنوانه بالكلام على ما استثناه القانون الفرنسي من حكم المادة (1690)، وهي التي تنص على وجوب إثبات تاريخ الرضا بالنسبة للغير كما في القانون الأهلي والمختلط.
على أن العلامة بودري قد عالج علاقة المحتال بالمدين في موضع آخر من كتابه ورأيه الصريح أن عدم رضاء المدين بالتحويل (أو إعلانه به كما في القانون المختلط) لا يقف عائقًا في سبيل انتقال ملكية الدين إلى المحتال ولا يمنع هذا الأخير من مقاضاة المدين بطلب حقه منه (راجع شرح البيع للعلامة متقدم الذكر بند 851).
ولا يعترض على ما تقدم بأن الفقرة الأخيرة من المادة (349) باقتضائها إثبات تاريخ قبول المدين حتى في تحويل الديون التجارية قد اقتضت ضمنًا هذا القبول فإن القانونين الأهلي والمختلط قد افترضا كذلك وجود الرضاء عند الكلام على صحة الاحتجاج بالتحويل على الغير كالمادة الأهلية سواء بسواء (مادة 1690 فرنسي، و436 مختلط)، ولم يقل في فرنسا ولا أمام المحاكم المختلطة أحد بأن هذا الافتراض معناه أن تحويل الديون لا يكون صحيحًا فيما بين المحتال والمدين إلا إذا رضى هذا الأخير بالتحويل، بل المفهوم هناك أن قبول المدين الذي اشترط الشارع إثباته بورقة رسمية أو ثابتة التاريخ هو نوع من الإعلان يراد به كإعلان التحويل إلى المدين حماية الغير من أن يتعاقد مع الدائن على الدين المحول مرة أخرى (انظر شرح البيع للعلامة بودري بند 767 وما بعده).
بحث مسؤولية أمين النقل
كتبهااحمد الجمل ، في 6 أبريل 2009 الساعة: 00:24 ص
مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث مسؤولية أمين النقل
للأستاذ محمد حامد رضوان المحامي من الدرجة الأولى الممتازة بإدارة قضايا الحكومة
تشغل مسؤولية أمين النقل حيزًا ظاهرًا أمام القضاء وتثير الكثير من البحوث وخاصةً عن ماهية الشروط الواردة في عقد النقل ومدى الأخذ بها وعن الخطأ الجسيم والغش من جانب، والخطأ اليسير من جانب آخر وعن سلطة القاضي إزاء هذه الشروط هذا ولما كانت مسؤولية أمين النقل تخضع لأحكام المواد (90) إلى (104) من القانون التجاري ولأحكام القواعد العامة في الالتزامات فإن هذه المسؤولية يجب النظر إليها على ضوء ما ورد في القانون المدني الجديد على أنه يتعين بادئ ذي بدء التعرض لماهية عقد النقل من ناحية ولتعريفة النقل من ناحية أخرى.
ماهية عقد النقل:
عقد النقل هو عقد يلتزم بموجبه شخص طبيعي أو معنوي، بالقيام بنقل بضائع أو أشخاص بوسيلة من وسائل النقل من مكان إلى مكان آخر مقابل أجر معلوم وبشروط معينة.
والرأي الثابت أن من عقود الإذعان [(1)] Contrat d’adhesion، وليس من العقود الرضائية البحتة، كما يذهب إلى ذلك أمناء النقل أحيانًا، بدعوى أن هذا النوع من العقود لا يتوفر إلا حيث يوجد احتكار قانوني أو فعلي لشخص لشيء يعد ضروريًا للطرف الآخر، ولما كانت وسائل النقل متعددة بين برية، بالسكة الحديد والسيارات والعربات، ونهرية، بالمراكب والسفن من بخارية وشراعية فإن ركن الاحتكار يعد غير متوافر، ذلك أن هذا النوع من العقود يتميز بتعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات الأولى بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين وباحتكار هذه السلع والمرافق، احتكارًا قانونيًا أو فعليًا أو قيام منافسة محدودة النشاط بشأنها وبتوجيه عرض الانتفاع بها إلى الجمهور بشروط متماثلة على وجه الدوام بالنسبة لكل فئة منها، ولذلك فإن عقد النقل هو دون ريب من هذه العقود، وأهمية هذا البحث تبدو في أن القانون المدني الجديد وإن اعتبر المادة (100) تسليم العامة بالشروط المقررة في هذا النوع من العقود قبولاً حقيقيًا يتوافر معه قيام العقد، أخذًا بالرأي الغالب في الفقه والقضاء [(2)]، إلا أنه قد أجاز المادة (149) للقاضي أن يُعدل الشروط التعسفية فيها أو يعطي الطرف المذعن منها.
وقد اختلف الرأي حول طبيعة هذا العقد فيذهب الرأي إلى أنه من عقود التراضي التي تنعقد بدون حاجة إلى أي إجراء وليست تذكرة النقل إلا صورة من صور إثباته [(3)]، ولكن الرأي الآخر يذهب إلى القول بأنه عقد عيني وإلى أن رضاء أمين النقل والراسل ليس من نوع الرضاء في العقود العادية حيث تكون الإرادة حرة طليقة بل إن رخاء الراسل لا يتم إلا بعد تسليم الأشياء المراد نقلها إلى أمين النقل فعلاً وعندئذ فقط يقبل الشروط المعروضة عليه وعندئذٍ فقط يتم العقد، أما قبل ذلك فليس ثمة عقد نقل بل قد يوجد عقد وعد بالنقل قد يترتب التزامًا بالتعويض. [(4)]
وعقد النقل من العقود الملزمة لجانبين كما أنه ليس عقدًا شكليًا، وإذا كانت المادة (95) من القانون التجاري المصري، و(100) من القانون الفرنسي تنص على أن (تذكرة النقل هي عبارة من مشارطة بين المرسل وأمين النقل أو بين المرسل والوكيل بالعمولة وبين أمين النقل) فإن هذا ليس معناه أن الكتابة ركن في العقد أو أنها وسيلة الإثبات الوحيدة بل هي ترمي إلى أنه يمكن تعرف شروط النقل وأحكامه من واقع البوليصة ولقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن وضع البضائع في الردهة الداخلية للمحطة فيعترض معه قانونًا أنها في طريق النقل ولو لم يحرر العقد بعد فهي بذلك لم تستلزم تحرير العقد لإمكان تمامه. [(5)]
ولكن هل عقد النقل عقد مدني أم تجاري ؟ أما بالنسبة للناقل فإنه إذا كان يتخذ النقل حرفة له فإن العقد يعد تجاريًا (م (2) تجاري مصري و(632) فرنسي)، أما إذا كانت عمليات النقل عمليات فردية فهل معنى ذلك أنها ليست من قبيل الأعمال التجارية ؟ وهنا يجب أن نُفرق في النظر إلى المسألة بين الراسل والمرسل إليه من جهة وبين أمين النقل من جهة أخرى، فبالنسبة للأولين لا يعد تجاريًا إلا إذا كان متعلقًا بتجارة أيهما وهذا الحل مبني على نظرية الأعمال التجارية بالتبعية بالنسبة للتاجر يُعد تجاريًا إذا هو أرسل بضاعته المبيعة للمشتري أو للوكيل بالعمولة لبيعها ولكنه يُعد مدنيًا إذا هو نقل بعض أمتعته وحاجياته الخاصة، أما بالنسبة لأمين النقل إذا كان شخصًا عاديًا لا يحترف النقل وإنما قام بعملية فردية فإذا كان النقل بالمجان فالرأي الراجح في الفقه وفي القضاء أنه لا يوجد عقد نقل بل عقد غير معين يخضع للقواعد العامة في الالتزامات أما إذا كان مقابل أجر فإن العملية في ذاتها تعد عملاً تجاريًا ولو أن الشخص الذي يقوم بها ليس تاجرًا ولهذا فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الدولة إذا باشرت بنفسها النقل بالسكة الحديدية فإنها تقوم بعمل تجاري ولو أنها ليست تاجرة. [(6)]
وطرفا هذا العقد هما الراسل expédituer وأمين النقل voturieg أما المرسل إليه فمركزه هو مركز المستفيد من مشارطة عقدت لصالحه stipulation pour autrivi، ويكون الحق في رفع الدعوى بسبب هذا العقد لهؤلاء فقط. [(7)]
وشروط هذا العقد شروط مطبوعة وضعت مقدمًا في نموذج معين عام بالنسبة للجميع ولا يمكن المناقشة فيها، كما أنها ترتكز على أساس التعريفة التي يضعها أمين النقل بعد موافقة السلطات الحكومية وهي تقسم النقل إلى فئات وأنواع متعددة مختلفة الشروط والأحكام، ولذلك فإنه يتعين علينا مناقشة هذه التعريفة وماهيتها.
ماهية التعريفة:
( أ ) الصفة اللائحية: يثور البحث حول ماهية التعريفة ومدى وجوب الأخذ بها وهل لها صفة تشريعية أم صفة جزائية، وأهمية هذا البحث مردها أن عقد النقل يحيل إليها في الكثير من الشروط، ولما كانت هذه التعريفة تنقسم إلى عدة أقسام لذلك تبدو أهمية تكييفها القانوني فهي تختلف باختلاف نوع البضاعة وعما إذا كان النقل بالطريق السريع أو العادي كما أن هنالك تعريفة عامة وتعريفة خاصة كما أن هنالك تعاريف متعددة.
فتحديد أجر النقل هو من العناصر الرئيسية في كل تعريفة وتدور حوله شروط النقل، فالتعريفة ذات السعر المنخفض عن العادي تستلزم بالتبعية حتمًا زيادة التزامات الراسل، ولكل تعريفة من هذه التعريفات شروطها المميزة، والتعريفة ذات السعر المنخفض تستلزم تخفيض الأجر كما تشترط بعض شروط لصالح أمين النقل كعدم مسؤوليته في حالة امتداد أجل النقل (التأخير) أو تحديد المسؤولية في هذه الحالة أو إلقاء عبء شحن وتفريغ العربة على عاتق الراسل أو المرسل إليه.
وفي فرنسا تعد التعريفة، رغم اعتراضات البعض، لائحة تشريعية تتمتع بما تتمتع به اللوائح الإدارية من قوة وتدير الخطوط الحديدية هنالك الشركة الأهلية للسكك الحديدية الفرنسية Societé National de chemins de fers، وهنالك تقوم الشركة والحكومة معًا بتحضير مشروع هذه التعريفة وتتمتع الإدارة بسلطة واسعة عند وضعها ومراجعتها ومردها إلى الصالح العام فإذا ما وافقت الحكومة على ما تضمنته، وبعد أن تدخل عليها من التعديلات ما تراه، وضعت التعريفة في صورة لائحة تقوم الحكومة بالتصديق عليها ونشرها بالجريدة الرسمية وعندئذٍ تكتسب صفتها هذه وتكون ملزمة للكافة فلا يجوز الخروج على أحكامها لا من الراسل أو المرسل إليه ولا من أمين النقل ولا يجوز التعديل في أحكامها إلا بالطريق الذي وضعت به. [(8)]
وأما في مصر فقد صدرت تعريفة النقل بالسكة الحديد بموجب قرار من معالي وزير المواصلات بتاريخ 3 مايو سنة 1930 وقد نشرت بالوقائع الرسمية بالعدد 66 الصادر في 10 يوليه سنة 1930، ولكن الاعتراضات التي وجهت إلى هذه التعريفة وإلى مدى التمسك بها تقوم على أساس أنها لا يمكن أن تتجاوز قوة القرار الوزاري ما دامت لا تستند إلى قانون يخول إصدارها فهي بذلك ليست لائحة تفويضية، ولما كان عقد النقل تحكمه النصوص الخاصة في القانون التجاري والنصوص العامة في باب الالتزامات في القانون المدني فإن هذه الأحكام هي الواجبة التطبيق دون التعريفة لأنها لا يمكن أن تسمو إلى مرتبتهما.
(ب) الصفة الجزائية:
إذا تركنا جانبًا الخلاف حول ماهية التعريفة من الناحية التشريعية ومدى قوتها الإلزامية فإننا نجد أن رأيًا آخر يذهب إلى الأخذ بها على أساس آخر فلقد ذهبت بعض الأحكام إلى أنه لما كانت بوليصة الشحن تحيل فيما تحويه من شروط إلى التعريفة باعتبارها جزءًا رئيسيًا مكملاً لعقد النقل وخاصةً بالنسبة للتعويضات عند قيام مسؤولية أمين النقل فإن ذلك يعد شرطًا جزائيًا يتعين الأخذ به تطبيقًا لأحكام المادة (123) من القانون المدني القديم، ولذلك فلقد أخذت هذه الأحكام بالتعويضات المقدرة في التعريفة وبالحدود الواردة فيها. [(9)]
على أننا إذا رجعنا إلى أحكام الشرط الجزائي في القانون المدني الجديد لوجدنا أن المادة (225) تنص على أنه إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الإنفاقي فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشًا أو خطأ جسيمًا، وتطبيقًا لأحكام هذه المادة فإننا لو اعتبرنا أن إحالة بوليصة الشحن إلى التعريفة يعد شرطًا جزائيًا فإن الحدود التي وردت بها تعد حدًا أقصى لا يجوز تجاوزه إلا في حالتي الغش والخطأ الجسيم اللهم إلا إذا أمكن القول بأن هذا الشرط يقصد به إلى الإعفاء من المسؤولية حيث لا تجيز نصوص القانون وأحكامه ذلك.
نطاق مسؤولية أمين النقل:
إذا لم تتضمن بوليصة النقل شروطًا خاصة أو كانت هذه الشروط مجرد تطبيق للقواعد العامة في الالتزامات أو للأحكام الخاصة بعقد النقل في القانون التجاري أو كانت هذه الشروط شروطًا مكتوبة لا مطبوعة فإنه في جميع هذه الأحوال يتعين الأخذ بالقواعد العامة ويكون العقد في هذه الحالة عقدًا رضائيًا بحتًا كسائر العقود، ويترتب على ذلك أن أمين النقل يلتزم بنقل الشيء كاملاً وسليمًا من جهة معينة إلى جهة أخرى وبالشروط المتفق عليها وخلال المدة التي حددها الطرفان، فإذا لم ينفذ التزامه فإنه يعد مرتكبًا خطأ تعاقديًا يجعله مسؤولاً مسؤولية تعاقدية وعليه هو إما أن يثبت قيامه بتنفيذ التزامه على الوجه المتفق عليه أو يدفع عن نفسه المسؤولية بإثبات قيام السبب الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي أو العيب في الشيء أو فعل الراسل أو المرسل إليه أو فعل الغير.
ولقد نصت المادة (97) من قانون التجارة على أن (أمين النقل ضامن للأشياء المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل ذلك بسبب عيب ناشئ عن نفس الأشياء المذكورة أو بسبب قوة قاهرة أو خطأ أو إهمال ن مرسلها) كما نصت المادة (98) على أنه (إذا لم يحصل النقل في الميعاد المتفق عليه بسبب قوة قاهرة فلا يترتب على التأخير إلزام أمين النقل بتعويضات).
ويسأل أمين النقل في حالات ثلاث أولاها حال ضياع الشيء المنقول كلية أو جزئية، وثانيها حال إصابته بتلف، والحال الثالثة هي حال التأخير، وإلى جانب الحالات والنصوص الخاصة التي سنتعرض لها فيما بعد فإن مسؤولية أمين النقل حال عدم تضمن عقد النقل لشروط خاصة تقوم، كما في القواعد العامة، على أساس خطأ مفترض قانونًا قبل أمين النقل لمجرد عدم قيامه بتنفيذ التزامه ويكون شأنه كشأن الخطأ في المسؤولية التعاقدية غير قابل لإثبات عكسه ولكن يكون لأمين النقل أن يدفع هذه المسؤولية بإثبات نفي قيام علاقة السببية بين ركن الخطأ الثابت قانونًا من عدم التنفيذ وبين ركن الضرر الذي يثبته مدعيه، وذلك بإثبات قيام السبب الأجنبي وأن الضرر يرجع إليه وحده أما إذا كان يرجع لخطأ أمين النقل من ناحية وللسبب الأجنبي من ناحية أخرى فإنه لا يسأل إلا بنسبة ما ارتكبه من خطأ.
ويكون أمين النقل عندئذٍ ملتزمًا بتعويض الطرف الآخر (الراسل أو المرسل إليه) عما لحقه من خسارة وما فاته من ربح بالقيد الذي ذكرناه.
على أنه تطبيقًا للقواعد العامة لا يكون مسؤولاً إلا عن الضرر المباشر فقط أما الضرر غير المباشر فلا يسأل عنه إطلاقًا سواء أكان الخطأ المنسوب إليه يسيرًا أو جسيمًا مصحوبًا بغش أو تدليس أو غير مصحوب، كما أنه حتى في نطاق الضرر المباشر لا يسأل إلا عن الضرر المتوقع فقط إلا إذا كان الخطأ الذي ارتكب جسيمًا أو مصحوبًا بغش أو تدليس فإنه يسأل في هذه الحالة عن الضرر المباشر المتوقع وغير المتوقع، كما أن هذا التعويض يستحق دون حاجة إلى التكليف الرسمي.
وإذا فقدت البضاعة أو تلفت فإن أمين النقل يلتزم بقيمتها ولكن الخلاف بين الشراح والمحاكم في فرنسا على حالة السلع المسعرة تسعيرًا جبريًا فهل تحتسب على أساس التسعير الرسمي وقت الشحن أم وقت وصول البضاعة، أما في حالة التلف فيلتزم بالفرق بين قيمة البضاعة سليمة وقيمتها تالفة أما في حالة التأخير فيلتزم بتعويض الضرر الذي ترتب عليه. [(10)]
ما قلناه خاص بنقل البضائع والأشياء على أن الأمر يختلف بعض الشيء بالنسبة لنقل الأشخاص فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق فهل يكون أساس الرجوع على الناقل المسؤولية التعاقدية أم المسؤولية التقصيرية وعلى أساس إثبات خطأ معين ارتكبه الناقل أم على أساس المسؤولية الشيئية، على أن الأمر من ناحية أخرى يقتضي التفرقة بين النقل بأجر، وهو الصورة الغالبة والعادية وبين النقل المجاني.
ففي حالة النقل بأجر لا ريب في أنه يربط المسافر بالناقل عقد نقل هو الذي يحكم الرابطة القانونية بينهما على أنه يتعين معرفة التزامات الناقل فيه وهل التزامه في هذه الحالة التزامًا بغاية فيلتزم بتمكين المسافر من الوصول سليمًا إلى الجهة المتفق عليها أم هو التزام بوسيلة فيلتزم بأن يضع تحت تصرفه وسيلة النقل إلى غايته [(11)]، كان القضاء الفرنسي في بادئ الأمر يذهب إلى الرأي الثاني على أساس أنه لا محل لمقارنة المسافر بالبضائع لأن له حركة ذاتية وإرادة خاصة ذلك لأنه في حالة تلف البضائع أو ضياعها يفترض إهمال أمين النقل في المحافظة عليها لأن له سيطرة تامة عليها أثناء نقلها أما الإنسان فهو كائن له إرادة خاصة وقد يغافل أمين النقل ويتسبب في إلحاق الأذى بنفسه عن إهمال وتقصير، على أن هذا القضاء، وعلى رأسه محكمة النقض، لم يستطع أن يثبت على هذا الرأي لكثرة الحوادث ولأن الأخذ به يترتب عليه أن يتحتم على المسافر أو ورثته أن يثبتوا خطأ معينًا ارتكبه أمين النقل وهو أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً في بعض الأحوال لذلك لم يرَ بدًا من القول بأن أمين النقل يلتزم بموجب العقد بنقل الشخص سليمًا ومعافى إلى الجهة المقصودة فإذا أصيب أثناء النقل كانت مسؤوليته تعاقدية فيفترض قانونًا أنه قد ارتكب تقصيرًا ولا يستطيع أن يدفعه إلا بإثبات نفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر بإثبات قيام السبب الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي وخطأ المصاب وفعل الغير، وهذه المسؤولية تؤدي إلى نفس النتيجة التي يمكن الوصول إليها عن طريق الأخذ بالمسؤولية الشيئية (المادة (1384) فقرة (1) مدني فرنسي).
هذا ويثار في هذا الصدد مسألة اجتماعية المسؤوليتين والخيرة بينهما فقد يكون العمل الواحد إخلالاً بالتزام تعاقدي يحقق المسؤولية التعاقدية وهو في الوقت ذاته عمل ضار يحقق المسؤولية التقصيرية وهنا تجتمع المسؤوليتان فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق، وأخذ بالرأي القائل بالتزام الناقل بسلامته، كانت من جهة إخلالاً بهذا الالتزام التعاقدي فتحقق المسؤولية التعاقدية وكانت من جهة أخرى عملاً ضارًا في ذاته فتجتمع إلى جانب المسؤولية التعاقدية المسؤولية التقصيرية في مثل هذا الغرض لا يجوز إطلاقًا الجمع بينهما وإنما يكون الرجوع على أساس إحداهما فقط، ولكن عن أيتهما ؟ أيترك للمصاب الخيرة بين المسؤوليتين فيختار أكثرهما ملاءمة له ؟ أو أن المسؤولية التقصيرية لا تقوم إذا كان هناك عقد بين الطرفين يحدد مدى المسؤولية فتبقى المسؤولية التعاقدية وحدها، ولا يكون هنالك مجالاً للخيرة ؟ اختلف الرأي في فرنسا فالبعض يأخذ بالرأي الأول والبعض الآخر يأخذ بالرأي الثاني وإن كان الراجح هو الرأي الأول ؟ [(12)]
أما في مصر فتذهب بعض المحاكم إلى بناء المسؤولية على أساس المسؤولية التعاقدية والبعض الآخر على أساس المسؤولية التقصيرية، هذا وقد حكمت محكمة مصر الابتدائية في 13 مارس سنة 1951 بأنه بمجرد قيام المسافر بدفع الأجر المفروض لمتعهد النقل فإنه يبرم بينهما عقد يلتزم فيه الناقل بتأمين سلامة المسافر ووصوله سالمًا إلى المكان الذي يقصده وهذا الالتزام يستخلصه القاضي تفسيرًا لإرادتي المتعاقدين المشتركة إذ أن المسافر ينتظر الوصول سالمًا إلى المكان الذي يقصده ولو أن الناقل لم يتعهد بذلك ولو ضمنًا لما أقدم المسافر على التعاقد كما ذكرت أن هذه المسؤولية لا يدفعها إلا إثبات القوة القاهرة أو خطأ المصاب (المحاماة س 31 العدد الثامن - رقم (393) صـ 1386). [(13)]
ويختلف الأمر في حالة النقل المجاني [(14)] ذلك لأنه لا يمكن القول بقيام عقد نقل في هذه الحالة ذلك لأن من عناصر هذا العقد الجوهرية وضع أجر معين لأمين النقل ولذلك ذهب البعض إلى القول بوجود عقد غير مسمى أقرب لعقود الوكالة والعارية منه لعقد النقل بجامع نية التبرع في هذه العقود ولقد كانت هذه الفكرة موضع النقد في فرنسا ذلك لأن فكرة التعاقد لم تدر بخلد الطرفين إطلاقًا ولذلك فإن القضاء الفرنسي رفض الأخذ بالمسؤولية التعاقدية في هذه الحالة وكان أمامه أما الأخذ بالمسؤولية الشيئية (المادة 1384/ 1)، وتشبيه حالة المسافر الذي يصاب أثناء الطريق بحالة المارة التي تصدمها العربات والمركبات فيكون الحارس القانوني مسؤول عن هذه الحوادث مسؤولية يفترض معها قيام الخطأ وهو فرض غير قابل لإثبات عكسه ويكون المصاب مكلفًا في هذه الحالة بإثبات ركن الضرر، وأما أن تبني المسؤولية في هذه الحالة على أساس إثبات التقصير في جانب أمين النقل المادتان (1382)، (1383).
ولكن القضاء والفقه في فرنسا رفض أن يطبق حكم المادة (1384) فقرة أولى (المسؤولية الشيئية) على حالة النقل المجاني لما في تطبيق حكم هذه المادة على الشخص الذي يتطوع بتأدية خدمة مجانية لآخر من مصادمة للعدالة ولحسن التقدير، ولهذا فلقد ذهب البعض إلى القول بأن الراكب بغير عوض يتحمل في الواقع تبعة الأخطار المنظورة والعادية التي تنجم عن ركوبه ولكن أخذ على هذا الرأي صعوبة تحديد فكرة قبول التبعة من ناحية والأفكار المنظورة والعادية من ناحية أخرى كما أنه يحمل إرادة الطرفين فكرة لم تدر بخلدهما وقت قيام الرابطة القانونية ولو أن الراكب أدرك مبلغ الخطر الذي يعرض نفسه إليه وما في ركوبه المجاني من إسقاط لحقه قبل الناقل لما أقدم على الركوب أو لفضل الركوب بأجر، كما أنه من ناحية أخرى فإن هذا الاتفاق المزعوم بفرض وجوده غير صحيح ذلك لأن القضاء قد استقر على عدم جواز الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية التقصيرية، ولذلك فإن الرأي الراجح في فرنسا يبني المسؤولية في هذه الحالة على أساس إثبات تقصير أمين النقل المادتين (1382)، (1383).
أما في مصر فلقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها الصادر في 13 نوفمبر سنة 1930 بلتان 43/ 22 بأن من يقبل الركوب في سيارة تفضلاً من صاحبها فلا يجوز له المطالبة بالتعويض عن الحوادث والأضرار التي تصيبه من جراء ركوبه إلا إذا نشأت عن تقصير جسيم من قائد السيارة وبهذا المعنى أيضًا حكم محكمة مصر المختلطة في 23 مايو سنة 1949 (بأن الراكب يعتبر قابلاً لبقية الأخطار المتوقعة risques possibles).
على أن النقد الذي وجه إلى هذين الحكمين يرتكز على أنه لا يجوز الاستناد على فكرة قبول الراكب لتبعة الركوب في سبيل تخفيف مسؤولية الناقل ذلك لأن الاستناد لهذه الفكرة في القانون الفرنسي قصد به فقط استبعاد المادة (1384) على حالة النقل المجاني ونظرية المسؤولية الشيئية لم يكن مأخوذًا بها في مصر حتى صدور القانون المدني الجديد كما أنه لا مبرر لاشتراط التقصير الجسيم لشغل مسؤولية الناقل في حالة النقل بغير عوض وأنه يمكن أن يسأل حتى عن خطئه اليسير ويمكن الاستناد لفكرة الخدمة لتخفيف التعويض. [(15)]
دفع المسؤولية:
قلنا فيما سبق أنه إذا لم يوجد نص خاص في عقد النقل فإن الناقل يعد مسؤولاً إذا لم يقم بتسليم الشيء كاملاً وسليمًا وفي الموعد المتفق عليه ويفترض خطؤه حتى يقوم هو بإثبات أن مرد عدم التنفيذ راجع لسبب أجنبي خارج عن إرادته وعندئذ تنقطع علاقة السببية بين الخطأ المفروض والضرر الذي أثبت وتبرأ ذمة أمين النقل، وهذا السبب الأجنبي قد يكون قوة قاهرة أو حادثًا فجائيًا وقد يكون خطأ الراسل أو المرسل إليه وقد يكون مرده إلى عيب في ذات الشيء المنقول أو فعل الغير وفي كل هذه الأحوال تبرأ ذمة أمين النقل بشروط سنتكلم عنها فيما بعد.
1 - القوة القاهرة والحادث الفجائي: المسألة الأولى التي تعرض هي معرفة ما إذا كان المدلول القانوني لكل من هذين التعبيرين واحد أم لكل منهما تعريفة وهل يتفقان في الحكم في الالتزامات عامة وفي عقد النقل خاصة، الرأي الراجح في الفقه والقضاء لا يميز بينهما فهما اسمان مختلفان لمعنى واحد، إذا نظر إليه من حيث إنه غير متوقع الحصول فهو حادث فجائي، وإذا نظر إليه من حيث أنه لا يمكن دفعه فهو قوة قاهرة ولذلك فإن الفقهاء يحيلون في تعريف كل منهما على الآخر.
والقوة القاهرة force majeves والحادث الفجائي cas fortivt هو عائق يعترض تنفيذ المدين لالتزامه وقد يكون مصدره راجع لعوامل طبيعية أو إنسانية كصاعقة أو زلزال أو فيضان أو حرف أو ثورة ومن ناحية أخرى فهو حادث غير متوقع كما أنه لا تمكن مقاومته ولو أمكن توقعه ويشترط أن يؤدي لاستحالة تنفيذ الالتزام استحالة تامة ومطلقة وعامة كما أنه يشترط ألا يكون للمدين بالذات أو أي شخص يسأل عنه شأن في حصوله.
على أن هنالك رأي يفرق بين القوة القاهرة والحادث الفجائي وخاصة في عقد النقل بالذات ويحصر إعفاء أمين النقل على الأولى دون الثاني وأساس هذا الرأي أن المادة (97) تجاري مصري وما يقابلها في القانون الفرنسي قد نصت على أن مسؤولية أمين النقل لا تنتفي إلا بإثبات القوة القاهرة أو خطأ أو إهمال من مرسلها ولقد ذكرت هذه المادة القوة القاهرة دون الحادث الفجائي مما يدل في نظرهم، على أن أمين النقل يُسأل حتى في حالة قيامه ويجعلون أساس التفرقة بينهما ركن الخروج المادي l’extériaité de l’evenement للحادث عن نشاط المدين وشهرته من ناحية أخرى Son importance et son notoriorité لأن وقوع الحادث داخل منشآت المدين يستحيل معه إقامة الدليل الذي ينفي لأول وهلة كل شك في فطنة إسناده إليه أما شهرة الحادث ففيها ما يؤيد وقوعه ولأن في أهميته ما يستحيل معه تحامي نتائجه فالحوادث غير العادية وحدها هي التي تعتبر قوة قاهرة وهي التي يمكن دفع المسؤولية بها خلافًا للحوادث الفجائية العادية التي ليس لها مثل هذا الأثر، فالحروب والزلازل والصواعق والثورات وازدحام البضائع كل هذه عوامل خارجة عن إرادة أمين النقل وعن نشاطه فلا يسأل عنها أما الحادث الفجائي فإنه أمر داخلي يتعلق بنشاط المدين ولو لم تكن لإرادته دخل في حدوثه فهو على حد قولهم الخطر الملازم للحرفة أو الصناعة ويمثلون لذلك بانفجار مصنع أو قاطرة أو عدم كفاية الأدوات أو الأشخاص الذين يقومون بالعمل أو قلة وسائل النقل فكل هذه عوامل يجب أن يتحمل تبعتها أمين النقل.
على أن الفقه والقضاء منذ عهد غير قصير لم يأخذ بالرأي القائل بالتفرقة بين القوة القاهرة من جهة والحادث الفجائي من جهة أخرى سواء في عقد النقل خاصةً أو في الالتزامات عامةً وانتهى الرأي إلى أن مدلولهما واحد ويترتب عليهما إعفاء أمين النقل من المسؤولية وأن القانون إذا استعمل أحد اللفظين فإنه يقصد أيضًا التعبير الآخر. [(16)]
2 - خطأ الراسل أو المرسل إليه: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع لخطأ من الراسل أو المرسل إليه فقد يرجع سبب التلف إلى عامل سابق على الشحن أو لعيب في الحزم أو بسبب سوء الشحن والتفريغ إذا كان متفقًا على أن يتم ذلك بمعرفة أحدهما. [(17)]
3 - العيب الخاص: ويقصد به أن يحوي الشيء المنقول آفة هلاكه وإعدامه وقد يكون مرده حالة طبيعية، أو غير طبيعية ولكن لا دخل لأمين النقل في حدوثها، من شأنها أن يهلك الشيء من ذات نفسه دون أن تتدخل عوامل خارجية وذلك كقابلية البضاعة للفساد من تلقاء نفسها أو لأنها من الأشياء التي تتلف بطبيعتها بسبب الموسم الذي تنقل فيه فكثير من الخضروات والفاكهة تخمر وتتعفن خاصةً في فصل الصيف فإذا فسدت البضاعة في هذه الأحوال فلا يكون الناقل مسؤولاً وهذا ما تنص عليه المادة (97) تجاري (أمين النقل ضامن للأشياء المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل بسبب عيب ناشئ عن نفس الأشياء…).[(18)]
4 - فعل الغير: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع إلى فعل الغير فلا يكون أمين النقل مسؤولاً على شريطة أن يكون هذا الغير شخصًا أجنبيًا عن الناقل غير تابع له وألا يكون مسؤولاً عنه مسؤولية تعاقدية أو تقصيرية كما يشترط القضاء الفرنسي أن تتوافر في فعل الغير شروط القوة القاهرة. [(19)]
الشروط المعدلة لأحكام المسؤولية:
1 - ماهيتها وسلطة المحكمة إزاءها: يندر أن تكون عقود النقل على الصورة البسيطة التي بيناها بالاكتفاء بإحكام القواعد العامة دون اشتراط شروط خاصة لأن ذلك غالبًا ما يكون مع صغار أمناء النقل أو من يقوم بعملية عرضية، ولما كانت تتولى شؤون النقل في مصر مصلحة السكة الحديد بصفة رئيسية وتقوم إلى جوارها شركات النقل المختلفة، ولذلك نجد أنها تشترط في بوالص الشحن التي تعدها شروطًا كثيرة ترمي غالبًا إلى إعفائها من المسؤولية أو الحد منها وتحديد التعويض في أضيق صورة ولا يتمتع الطرف الآخر بحرية مناقشة هذه الشروط أو التعديل فيها.
ولما كانت عقود الإذعان تتميز بتعلق موضوعها بسلع أو مرافق ضرورية للجمهور وباحتكارها أو قيام منافسة محدودة وبأن العرض موجه للجمهور عامة بشروط واحدة لا تتغير بتغير الأشخاص ولا مجال للمناقشة فيها لذلك فإن هذه العناصر متوافرة تمامًا في عقد النقل، على أنه إذا انتفت هذه العناصر جميعًا أو إحداها فإن العقد لا يعد آنئذٍ عقد إذعان كما إذا ثبت أن شروط النقل كانت مكتوبة لا مطبوعة أو كانت موضع مساومة وبحث جدي أو كانت مخالفة للصور المطبوعة والمطبقة على الكافة.
ولقد انقسم الرأي حول طبيعة هذه العقود إلى فريقين أولهما ينكر عليها صيغتها التعاقدية إذ أن العقد يوافق إرادتين عن حرية واختيار بينما هو في هذا النوع من العقود مجرد إذعان أو انضمام لا يصدر عن إرادة حرة بل على المتعاقد أن ينزل على حكم هذه الشركات فالرابطة القانونية بينهما قد خلقها في الواقع إرادة المحتكر وحده ولذلك فإن أصحاب هذا الرأي يرون أن يفسر هذا العقد وأن تحدد التزاماته وحقوقه على ضوء هذه الاعتبارات وعلى أساس المصلحة العامة لمجموع الأفراد فتراعي مقتضيات العدالة وحسن النية وما تستلزمه الظروف الاقتصادية أما الفريق الثاني فيرى أن حجج الفريق الأول ساقطة ولا تصلح أساسًا للقول بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ثم بتوافق إرادتين فكثير من العقود في العهد الحديث يتحقق فيها إضطرار أحد طرفيها أو كليهما للتعاقد دون أن يذهب أحد إلى القول باعتبار هذا الاضطرار إكراه مبطلاً للعقد كما أن انعدام المساواة بين المتعاقدين لا يمكن تجنبه فهو كثير الحدوث في العقود الرضائية البحتة أليست شروط عقود الإيجار والعمل ترمي غالبًا إلى رعاية مصلحة المؤجر ورب العمل أكثر من رعاية مصلحة المستأجر والعامل ؟ لذلك فإن هذا الفريق يرى أن ركن الاضطرار في هذه العقود أقل منه في غيرها فالكل أمام المحتكر سواء والعقود جميعًا على وتيرة واحدة ولا توضع إلا بعد موافقة السلطات الحكومية ولهذا فإن هذا الفريق يرى أن العقد في هذه الحالة عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين وأن علاج الضعف المزعوم لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي تم بتوافق إرادتين ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد بل بتقوية الجانب الضعيف سواء بالوسائل الاقتصادية أو التشريعية والقضاء في فرنسا وفي مصر لم يتأثر كثيرًا بالمذهب الأول بل أخذ كمبدأ عام بالمذهب الثاني ولكنه مع أخذه باعتبار هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أخذ يتلمس الطرق للحد من قسوتها وتعسفها بدعوى أنها تتناقض مع جوهر العقد أو لأنها مخالفة للنظام العام والآداب أو لأن المتعاقد لم يكن ليستطيع الوقوف عليها وقت التعاقد أو لتناقضها مع شروط مكتوبة.[(20)]
والقانون المدني الجديد وإن أخذ بالمذهب الثاني على النحو الذي طبقه القضاء فاعتبر هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أعطى للقاضي سلطة تعديل الشروط الجائزة أو الإعفاء منها، فالمادة (100) منه تنص على أن (القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل المناقشة فيها)، كما تنص المادة (149) على أنه إذا تم العقد بطريقة الإذعان وكان قد تضمن شروطًا تعسفية فإنه يجوز للقاضي أن يُعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقًا لما تقضي به العدالة ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك، كما تنص المادة (151) فقرة ثانية على أنه (لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضار بمصلحة الطرف المذعن).. على أننا نرى من المفيد أن ننقل أولاً مذكرة المشروع التمهيدي على المادة (149) ثم نتناول بعد ذلك سلطة المحكمة على ضوئها فلقد جاء فيها (تناول المشروع فيما تقدم بيان الأحوال التي يتم فيها التعاقد بطريقة الإذعان)، وقد قصد إلى التخفيف مما يلازم هذا الضرب من التعاقد من شدة وحرج، بالنسبة للعاقد المذعن فأقام لصالحه استثناءين من إحكام القواعد العامة في تفسير العقود فالأصل أن الحاجة إلى التفسير لا تعرض متى كانت عبارة العقد واضحة ففي مثل هذه الحالة تطبق شروط التعاقد كما أفرغت بيد أن الحكم يختلف فيما يتعلق بما يدرج في عقود الإذعان من الشروط الجائرة فالالتجاء إلى التفسير يتعين بشأنها، ولو كانت واضحة العبارة بينة السياق فمن واجب القاضي أن يثبت في هذه الحالة مما إذا كان العاقد قد تنبه إلى هذه الشروط فإذا استوثق من تنبه هذا العاقد إليها كما لو كان العاقد الآخر قد احتاط فجعل تلك الشروط مخطوطة باليد في عقد مطبوع، تحتم عليه أيضًا إمضاء حكمها رعاية لاستقرار المعاملات أما إذا تبين أن العاقد المذعن لم يتنبه إلى الشروط الجائزة فعليه أن يستبعدها وينزل على أحكام القواعد العامة، في هذا النطاق الضيق يطبق هذا الاستثناء فلا يبلغ الأمر حد استبعاد الشرط الجائر بدعوى أن المذعن قد أكره على قبوله، متى تنبه إليه هذا العاقد وارتضاه فالإذعان لا يختلط بالإكراه، بل إن التوحيد بينهما أمر ينبو به ما ينبغي للتعامل من أسباب الاستقرار ثم أن ما يولى من حماية إلى العاقد المذعن ينبغي أن يكون محلاً لأحكام تشريعية عامة، كما هو الشأن في حالة الاستقلال أو التشريعات خاصة. [(21)]
ولذلك فإن على القاضي أن يتبين أولاً ما إذا كانت عبارات العقد واضحة أم غامضة فإن كانت الأخير كان عليه أن يُطبق قواعد التفسير فلا تفسر هذه العبارات بما يضر مصلحة الطرف المذعن المادة (151) ف (2) أما إذا كانت العبارة واضحة فإن على القاضي أن يبحث ما إذا كانت هذه الشروط تطابق القواعد العامة أم أنها شروط جائرة تخالف في الكثير منها هذه القواعد وفي هذه الحالة يتعين التفرقة بين حالة معرفة الطرف الآخر لها وقبوله التعاقد عن علم بها أم أنه كان جاهلاً بها وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يكون للقاضي سلطة التعديل من هذه الشروط أو الإعفاء منها.
هذا وقد حكمت محكمة النقض المصرية في 25 مايو سنة 1950 بأن الشرط الوارد في عقد من عقود الإذعان لا يُقاس قبوله على قبول المكره ولم يجز القانون المدني للقاضي تعديل هذه الشروط أو الإعفاء منها إلا إذا كان شرط الإذعان تعسفيًا، وهذا الحكم تفسير للمادتين (100)، (149) مدني جديد ولم تجز محكمتنا العليا إبطال شرط من شروط عقد الإذعان بهذه الصفة فقط بل اشترطت أن يكون هذا الشرط تعسفيًا ولا شكل أن خير مقياس للتفرقة في هذه الحالة هو الرجوع للقواعد العامة لمعرفة مدى مطابقة الشرط أو مخالفته إياها.
وقد أخذ على هذا الحكم أنه لم يتبين حكمة التشريع فالمشرع قد رمى من وضع المادة (149) إلى أن يخرج القاضي عن وظيفته وهو تطبيق العقد إلى شيء آخر هو العمل على توازن شروط العقد بين العاقدين ليتعرف هل يوجد توازن حقيقي أم لا يوجد ومدى الإكراه الاقتصادي الذي انتهى بالعاقد إلى الإذعان. [(22)]
وعلى ذلك فإن على المحكمة أن تُطبق هذه القواعد على عقد النقل ونجد أن تطبيقها سيؤدي إلى الأخذ بذات الأحكام والمبادئ التي كان معمولاً بها، ولا زالت، والتي تفرق بين شرط عدم المسؤولية من ناحية وشرط تحديد المسؤولية من ناحية أخرى وكما تفرق من جانب بين حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس من جانب وحالة الخطأ اليسير من جانب آخر.
2 - شرط عدم المسؤولية: إذا اشترط أمين النقل هذا الشرط في بوليصة الشحن وارتكب بعد ذلك خطأ، سواء أكان مفرضًا أم مثبتًا، فما هو حكم هذا الشرط ؟ هل يترتب عليه براءة ذمته ؟ أم يعد شرطًا باطلاً لا أثر له فتطبق القواعد العامة السالفة الذكر ؟ هذا وقد يرتكب خطأ جسيمًا أو تدليسًا أو غشًا أو قد يرتكب مجرد خطأ يسير والحكم في الحالتين لا يمكن أن يكون واحدًا.
( أ ) الحالة الأولى: حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس: اختلف الرأي في فرنسا حول التسوية بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من جانب آخر فيذهب رأي إلى ضرورة أعمال التسوية بينهما في الحكم وأن شرط عدم المسؤولية مع قيام إحداها شرط باطل وأنه يتعين في هذه الحالة الرجوع للقواعد العامة للمسؤولية التعاقدية كما يرتكز أيضًا على أن قيام الغش والتدليس والخطأ الجسيم يجعلنا إزاء المسؤولية التقصيرية حيث يكون هذا الشرط باطلًل لأنه في الواقع إعفاء منها حيث تحرمه نصوص القانون وأحكامه أما الرأي الآخر فيفرق بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من جانب آخر ويكون أمين النقل في الأولى مسؤولاً مسؤولية تعاقدية يجوز معها الاتفاق على تعديل أحكامها أما في الأخيرة (الغش والخطأ الجسيم) فيكون أساس مسؤوليته هو المسؤولية التقصيرية التي لا يجوز الاتفاق على الإعفاء منها. [(23)]
هذا وتنص المادة (217) من القانون المدني الجديد:
(1 - يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة.
2 - وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو خطئه الجسيم ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسؤوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه.
3 - ويقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على العمل غير المشروع).
وهذه المادة تسوي بين الغش والخطأ الجسيم وتبطل شرط عدم المسؤولية حال قيام المسؤولية التقصيرية وتُجيز الاتفاق على تحمل المدين عبء القوة القاهرة وتبطل شرط عدم مسؤولية المدين ذاته عن غشه وخطئه الجسيم وإن إجازته عن الغش والخطأ الجسيم الذي يقع من تابعيه في تنفيذ التزامه.[(24)]
وإذا طبقنا حكم هذه المادة على مسؤولية أمين النقل لوجدنا أن شرط عدم المسؤولية الذي تشترطه مثلاً مصلحة السكة الحديدية في بوالص الشحن ترمي به إلى إعفائها من المسؤولية عن كافة الأخطاء، بما في ذلك الغش، التي يرتكبها تابعوها أو التي قد ترتكبها هي، وعلى ذلك فإنه يتعين تبيان مدلول الشرط وهو يرمي إلى الغاية السالفة الذكر، فإذا كان الغش أو الخطأ الجسيم منسوبًا إلى المصلحة ذاتها كشخص معنوي وكان الضرر المحقق الذي وقع نتيجة طبيعية لهما فإن شرط عدم المسؤولية يعد في هذه الحالة باطلاً وتكون المصلحة مسؤولة تطبيقًا للقواعد العامة أما إذا كان الغش أو الخطأ الجسيم منسوبًا إلى أحد عمالها فإن هذا الشرط يُعد شرطًا صحيحًا وواجب العمل به وتبرأ ذمة المصلحة في هذه الحالة، هذا ويجوز إثبات الغش والخطأ الجسيم بكافة الوسائل بما في ذلك البينة والقرائن إلا أنه يتعين على من يتمسك بهما أن يقدم الدليل المقنع للمحكمة على قيامهما ولا تكفي مجرد قرائن بسيطة أو افتراضات مجردة.
على أنه إذا كان الرجوع على أمين النقل مع وجود هذا الشرط على النحو الذي بيناه غير منتج لصحته فإن الراسل أو المرسل إليه يستطيع الرجوع على أساس قواعد المسؤولية التقصيرية على أن يثبت الخطأ الجسيم أو الغش قبل شخص معين من تابعي المصلحة وتكون المسؤولية مردها مسؤولية المتبرع عن الأخطاء التي تقع من تابعه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها (م 174) على أنه إذا أخذ بالمذهب الذي يقوم بعدم جواز الرجوع بالمسؤولية التقصيرية عند قيام المسؤولية التعاقدية فعندئذٍ لا يكون هنالك مجال للرجوع.
(ب) الحالة الثانية: حالة الخطأ اليسير: إذا كان الخطأ الذي ارتكبه أمين النقل خطأ يسيرًا فهل يكون شرط عدم المسؤولية صحيحًا أم باطلاً فتطبق القواعد العامة ؟ أم يكون من شأنه قلب عبء الإثبات ؟ لإمكان الإجابة على هذه الأسئلة فإن علينا أن نستعرض الحالة في فرنسا ثم في مصر.
1 - في فرنسا: في بادئ الأمر وعلى الأخص في الفترة ما بين سنة 1856، وسنة 1874 ذهب القضاء إلى القول ببطلان هذا الشرط لمخالفته للنظام العام والآداب ولكنه تعرض لموجة شديدة من النقد من جانب الفقه لمخالفته لقاعدة أساسية هي أن العقد شريعة المتعاقدين وأن هذا الشرط ليس فيه مخالفة للنظام العام أو الآداب فضلاً عن أن القانون الروماني كان يأخذ به في غير حالة الغش والخطأ الجسيم، ولذلك فلقد اضطر القضاء للعدول عن رأيه وهنا نجد اتجاهان أولهما الأخذ بصحة هذا الشرط وأنه يترتب على الأخذ به انتفاء المسؤولية التعاقدية وإن كان من الجائز الرجوع على أساس المسؤولية التقصيرية في حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس، أما الاتجاه الثاني فيذهب إلى القول بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء الإثبات فيفترض أن عدم تنفيذ الالتزام مرده القوة القاهرة وعلى الراسل أو المرسل إليه أن يثبت خطأ معينًا قبل أمين النقل.
ولقد جاء بحكم محكمة النقض الفرنسية في 22 يوليه سنة 1902 بأن شرط عدم المسؤولية عن التأخير أو التلف من شأنه أن يرفع المسؤولية عن عاتق الناقل ما لم يثبت الحكم قبله خطأ معينًا (دالوز 1902 - 1 - 33)، كما جاء في حكم آخر لنفس المحكمة صادر في 18 فبراير سنة 1902 بأنه إذا ورد بتعريفة شركة السكة الحديد شرط عدم المسؤولية عن التأخير والتلف أثناء الطريق وأن تحميل وتفريغ العربة يقع على عاتق الراسل أو المرسل إليه فإن هذا الشرط صحيح وأن الحكم الذي يقضي بمسؤولية الشركة عن التلف لسبب واحد هو أن الشركة لم تتخذ أثناء الطريق العناية الأولية ووقاية هذه البضائع من الأمطار فإنه حكم خاطئ يتعين نقضه (دالوز 1902 - 1 - 477). [(25)]
وقد رأى المشرع الفرنسي في سنة 1905 أن يضيف فقرة جديدة إلى المادة (103) من القانون التجاري الخاصة بمسؤولية أمين النقل في حالتي التلف والفقد الكلي أو الجزئي وهذه الإضافة الجديدة تقضي بأن كل شرط مخالف لأحكام هذه المادة مدون في بوليصة النقل أو أية ورقة أخرى يعد باطلاً، وقد صدرت هذه الإضافة بناءً على مشروع قانون اقترحه أحد أعضاء البرلمان السير رابيير وصدر التعديل في 17 مارس سنة 1905 والغاية منه تحريم شرط عدم المسؤولية في حالتي التلف والضياع المنصوص عليها في المادة (103)، ولكنه لم يتعرض من قريب أو بعيد للمادة (104) الخاصة بالمسؤولية في حالة التأخير ويرمي هذا القانون إلى استبعاد الأخذ بالأحكام التي كانت تعفي أمين النقل كلية من المسؤولية وكذلك الأحكام التي كانت تأخذ بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء الإثبات من على عاتق أمين النقل إلى عاتق الراسل أو المرسل إليه الذي كان يتعين عليهما طبقًا للقواعد السابقة إثبات خطأ معين قبل أمين النقل وهو عبء صعب إن لم يكن مستحيلاً فأراد الشارع بهذا التعديل أن يعفيهما من ذلك. [(26)]
2 - في مصر: لا يوجد قانون مماثل لقانون رابيير الفرنسي الصادر في 17 مارس سنة 1905، ولذلك يتحتم الرجوع للقواعد العامة في الالتزامات ونصوص القانون التجاري في عقد النقل ويكون الوضع هنا كالوضع في فرنسا قبل صدور قانون رابيير ويكون هذا الشرط صحيح في حالة الخطأ اليسير ولكن لا يؤخذ به في حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس - وما سبق أن قلناه عن حكم المادة (217) من القانون المدني الجديد عند الكلام على حكم شرط عدم المسؤولية، حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس يسري هنا من باب أولى، وقد سلمت بصحة هذا الشرط وضرورة العمل به في غير حالة الغش محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 16 مارس سنة 1950 في القضية رقم (96) تجاري سنة 60 قضائية والمنشور بمجلة التشريع والقضاء السنة الثانية العدد رقم (14) صـ 239 كما أخذ القضاء المختلط بصحة هذا الشرط وإن أجاز للراسل إثبات الخطأ الجسيم أو الغش قبل أمين النقل (بلتان س 41 صـ 119). [(27)]
3 - شروط تحديد المسؤولية: قد لا تذهب بوليصة النقل إلى حد اشتراط عدم مسؤولية أمين النقل مكتفية بتحديدها والتخفيف من آثارها فلقد تنص على أنه لا يُسأل عن الأضرار التي قد تترتب على تأخير شحن أو وصول البضاعة وهذا الشرط يرد غالبًا في التعريفة ذات الأجر المخفض فترتضى المصلحة سلفًا إنقاص أجر النقل عن سعره العادي في مقابل تحمل الراسل تبعة التأخير كما قد تشترط البوليصة أن يكون شحن وتفريغ العربات المعدة للبضائع بمعرفة الراسل أو المرسل إليه أو تشترط تحديد مسؤوليتها في حدود معينة بالنسبة للأشياء الفنية التي تقتضي رعاية خاصة كما أن أمين النقل قد يشترط في البوليصة تحديد التعويض الذي يستحقه الطرف الآخر بحد أقصى، وهذه الشروط إذا نظر لكل منها على حدة لوجدنا أنها شروط صحيحة لا تخالف القواعد العامة في شيء وقد تبدو للوهلة الأولى شديدة الوطأة في مجموعها، إلا أنه بتحليلها نجدها صحيحة ولذلك فإن كل ما يرد في البوليصة من هذه الشروط صحيح وملزم لطرفيه وهذا هو الرأي المعمول به في فرنسا سواء قبل صدور قانون رابيير سنة 1905 أو بعده.
ذلك أنه يتضح من الأعمال التحضيرية للقانون السالف الذكر وخاصة من التقرير الخاص به والمقدم لمجلس الشيوخ بأن المشرع لم يذهب إلى حد تعطيل حرية إرادة الطرفين، وإنما اقتصر على تحريم شرط عدم المسؤولية دون أن يحرم شرط تحديدها ولعل من المفيد أن ننقل هنا ما جاء في كتاب ليون كان ورينو في القانون التجاري (موسوعة الجزء الثالث طبعة سنة 1923 صـ 606).
(Mais il a été bien entendu, lors de la discussion de la loi
de 1909, que la liberté des conventions reste entière en ce qui
concerne les clauses limitant l’indemnité ou en fixant même
le montant (clauses pénales). De plus, comme les dispositions
prohibitives sont de droit étroit, il y a lieu d’admettre que les
clauses de non - responsabilité ne sont nulles que pour les cas
de perte ou d’avaries mais qu’elles continuent à être valables
pour le cas de retard. Cela résulte, du reste, de ce que la dis -
position nouvlle don’t il s’agit a été insérée dans l’artile 103
G. Com, qui ne traite que la responsabilité de la perte, et des
avaries, alors que l’art. 104 G. Com. s’occupe du cas de retard).
وقد جاء في حكم لمحكمة إكس بفرنسا صادر في 22 مارس سنة 1935 بأن الشرط المدون في البوليصة ومن مقتضاه تحديد مسؤولية شركة الملاحة إلى حد أقصى لا يتعداه مقدار التعويض مهما كان الضرر الذي يُصيب المدعي في حالة ضياع المال أو تلفه أو نقصانه شرط جائز ويجب العمل به إلا في حالة الغش والتدليس (منشور بالمحاماة السنة الرابعة رقم 322 صـ 350).
وكما سبق أن بينا أن محكمة النقض الفرنسية قد أكدت في أحكامها العديدة ضرورة الأخذ بالتعريفة وبالحدود الواردة فيها وأن لها قوة القانون وأنها ليست مجرد اتفاقات عادية، هي قانون المتعاقدين في عرف المادة (1134) مدني، ولكنها اتفاقات مدرجة في قرارات تنظيمية لها صفة القرارات بالأعمال الإدارية فتلزم جميع أصحاب الشأن
(La cour de cassation a
maintes fois affirmé que les tarifs ont force de loi, et même de
loi d’intérêt public (24 mai 1884. D. 87 -1- 477). D’autre part, les
tarifs ne sont pas non plus des simples conventions, faisant la
loi entre les partis, au sens de l’art. 1134 C. Civ. Ce sont des
conventions insérées dans des arrêts réglementaires, ayant le
caractère d’actes administratifs qui s’imposent à la volonté des
intéressés, c’est à ce titre qu’elles ont force obligatiories).
لاكور في موجز التجاري طبعة سنة 1921 جزء 1 بند 988 صـ 566.
ولهذا فإن شرط تحديد المسؤولية في فرنسا يعد شرطًا صحيحًا ويجب العمل به [(28)] أما في مصر فإن هذا الشرط يعد شرطًا صحيحًا ويجب الأخذ، فالنسبة لتحديد التعويض فقد بينا فيما سبق أن الرأي الثابت في فرنسا يذهب إلى القول بأن التعريفة لائحة إدارية تنظيمية يجب العمل بها وإنها تسري على الكافة ومن الناحية الأخرى فإننا إذا سايرنا الرأي الذي يذهب إلى القول بأن إحالة البوليصة للتعريفة يُعد شرطًا جزائيًا فإن الأخذ بهذا الرأي يؤدي إلى وجوب تطبيق حكم هذه التعريفة في الحدود التي وردت بها بخصوص التعويض وذلك أخذًا بأحكام المادة (123) من القانون المدني القديم، والمادة (225) جديد، هذا بالنسبة للتعويض عن الفقد أو التلف أما بالنسبة لحالة التأخير فسبق أن بينا أن مصلحة السكة الحديد تجعل الشحن في هذه الحالة على أساس التعريفة ذات السعر المخفض اللهم إلا إذا ارتضى الراسل شحن رسالته بالتعريفة العادية مع دفع أجر أزيد، وتشترط المصلحة في التعريفة المخفضة شرط عدم مسؤوليتها عن التأخير أو التلف وتصف المحاكم المختلطة وبعض الفقهاء، هذا الشرط بأنه تأمين على مسؤولية السكة الحديد مضاف إلى عقد النقل ذلك أنه إذا تعاقد أمين النقل مع الراسل، تبعًا للقواعد العامة، صار مسؤولاً عن تقصيره وتقصير عماله لكن أمين النقل لا يرغب تحمل هذه المسؤولية، ويفضل أن يتحمل هذه التبعة مؤمن ansurevr يكون مسؤولاً قبل المرسل إليه مقابل أن يدفع إلى هذا المؤمن جعلا prime، وبذلك يصير غير مسؤول عن التعويض بسبب الضياع أو العيب وهذا هو ما يحصل بالنسبة لمالك الطرد فهو يجمع بين صفتين فهو مرسل أولاً ومؤمن ثانيًا، لأن دفعه أجرة أقل من الأجرة العادية هو بمثابة استيلائه على جعل يعوض عليه خسارته فإذا ما وقع الخطر risque الذي هو موضوع التأمين فضاعت البضاعة أو تلفت وجب عليه أن يتحمل هذه الخسارة بصفته مؤمنًا.[(29)]
هذا وقد قضت محكمة دمنهور الجزئية في حكمها الصادر بجلسة 14/ 12/ 1946 في القضية رقم (346) مدني دمنهور سنة 1946 المرفوعة من عاطف كرشاه ضد السكة الحديد (حكم لم يُنشر) بصحة هذه الشروط فلقد جاء فيه (وحيث إنه ولو أن عقد النقل من عقود الانضمام إلا أنه تعاقد صحيح انعقد بإيجاب وقبول لا يشوبها شائبة فهو ملزم لكل من طرفيه ومن ثم كانت شروط النقل وتعريفته وهما ركنان من أركان العقد وقد قبله الراسل عند تعاقده واجبًا التطبيق)، وقد أشار الحكم لنظرية العقد للسنهوري باشا وإلى حكمين أشير لهما في نفس هذا الكتاب صادر أحدهما من محكمة الاستئناف المختلطة في 20/ 4/ 47، والآخر من محكمة إسكندرية المختلطة في 5/ 7/ 1929.
ثم استطرد الحكم قائلاً (وحيث إن البند (26) من تعريفة البضائع التي قبل النقل على شروطها كما سبق البيان قضت على أنها في حالة فقد أو تلف البضائع ومهما كان سبب هذا الفقد أو التلف (عدم استدلال - احتراق - ابتلاء بماء المطر) فالمصلحة لا تسأل إلا عن قيمة البضاعة الحقيقية شرطًا بأن التعويض الذي يدفع لا يتجاوز الحدود القصوى المبينة بعد وهي مقدرة على أساس وزن البضائع والدرجة التي قدرت عليها الأجرة فعلاً..)، ثم أخذ الحكم بنفس المبلغ الذي قدرته المصلحة على أساس التعريفة وقدره 20 جنيهًا و625 مليمًا والذي عرضته على المدعي فرفضه وقضت عليه (على المدعي) بمصاريف دعواه…، وقد تأيد هذا الحكم استئنافيًا من محكمة دمنهور الابتدائية الوطنية بجلسة 5 يونيه سنة 1947.
هذا وبالنسبة لشرط عدم مسؤولية مصلحة السكة الحديد عن الأضرار التي قد تصب المرسل إليه نتيجة تأخير شحن البصل من محطة التصدير مما يترتب عليه تلفه فقد عُرضت عشرات القضايا على محكمة الإسكندرية الابتدائية الدائرة الرابعة التجارية برياسة أحمد محمد حطب بك وعضوية عادل مرزوق بك ومحمود عباس الغمراوي بك وقد قضت في هذه الدعاوى بعدم مسؤولية المصلحة وبصحة الشرط أخذًا بما استقر عليه الفقه والقضاء في هذا الصدد هذا ما لم يثبت قبل أمين النقل غش أو تدليس أو خطأ جسيم يقرب بينهما.
(يراجع الحكم الصادر في يوم الأحد 29 إبريل سنة 1951 في القضية رقم (1129) سنة 1950 تجاري كلي المرفوعة من أحمد مرسي نصر ضد المصلحة وأحكام كثيرة مماثلة، وبهذا المعنى أيضًا محكمة إسكندرية التجارية الجزئية في الدعوى رقم (403) سنة 1947 (تجاري جزئي)، وذلك بتاريخ 9 يناير سنة 1949 وفي القضية المرفوعة من فؤاد أمين ضد المصلحة).
الدفع بعدم قبول الدعوى:
( أ ) القواعد العامة: لما كان طرفًا عقد النقل هما الراسل وأمين النقل والمرسل إليه هو مجرد مستفيد من مشارطة عقدت لصالحه فإن الحق في رفع الدعوى يكون قاصرًا على أحد هؤلاء الثلاثة فإذا باع الراسل أو المرسل إليه البضاعة أثناء الطريق فإن المشتري لا يحق له مقاضاة أمين النقل إلا بعد اتباع إجراءات الحوالة وهي في القانون المدني الجديد القبول الثابت التاريخ أو الإعلان على يد محضر (م 305 هذا وكثيرًا ما ترفع الدعوى مباشرةً على وزير المواصلات للمطالبة بتعويض عن عملية نقل قامت بها مصلحة السكة الحديدية وفي رأيي أنه لا تكفي تبعية المصلحة للوزارة لإمكان مقاضاتها لأن ذلك لا يبرر تخطي المصلحة التي لها الصفة الأولى في هذا الشأن والتي هي أحد طرفي العقد والدعوى في هذه الحالة يجب أن ترفع على أمين النقل فضلاً عن أن المصلحة لها كيان ذاتي ولها مجلس إدارة خاص ترفع قراراته ومقترحاته لمجلس الوزراء دون وزارة المواصلات.
هذا وكثيرًا ما يرفع أصحاب الشأن الدعوى على مدير عام مصلحة السكك الحديد بصفته هذه وعلى ناظر محطة الجهة المرسلة إليها البضاعة ونحن نرى أنه يجب التفرقة بين حالتين أولاهما إذا كان أساس رفع الدعوى هو نسبة خطأ معين ارتكبه ناظر المحطة الأمر الذي يجعله مسؤولاً ويجعل المصلحة مسؤولة بالتبعية عن الأخطاء التي ارتكبها أثناء تأدية وظيفته أو بسببها والتي كان من شأنها إلحاق الأذى بالمدعي في هذه الحالة ونكون في هذه الحالة إزاء قواعد المسؤولية التقصيرية (م 174 مدني جديد)، وثانيهما إذا كان أساس رفع الدعوى هو مجرد إحلال المصلحة في تنفيذ التزاماتها الناتجة عن عقد النقل وفي هذه الحالة فإننا نرى أن الدعوى ضد ناظر المحطة في هذه الحالة غير مقبولة لأنه لا يمثل المصلحة في هذه الحالة ولأنه لم يكن طرفًا في العقد ولأنه ليس مسؤولاً بصفة شخصية ما دامت لم تنسب إليه واقعة معينة هذا وقد قضت محكمة الاستئناف المختلط في 27 ديسمبر سنة 1923 محاماة سنة 4 رقم (662) صـ 884:
(( أ ) بأن الدعوى الشخصية التي ترفع على الحكومة المصرية ممثلة في شخص الوزير التابعة له المصلحة ذات الشأن وتكون مبنية على خطأ تسأل عنه الوزارة الرئيسية يجب أن ترفع أمام محكمة مصر التابع لها مركز الوزارة الرئيسية فإذا حدثت إصابة من إصابات السكك الحديدية وجب رفع الدعوى أمام محكمة مصر التابع لها وزارة المواصلات ولا مبرر لإدخال ناظر المحطة القريبة من محل الحادثة لاختصاص محكمة أخرى خصوصًا إذا لم يثبت بوجه من الوجوه وقوع أي خطأ من ناظر المحطة يترتب عليه مسؤوليته شخصيًا.
(ب) إن موظف الحكومة مهما كانت درجته لا يجوز إدخاله في الدعوى باعتباره خصمًا آجلاً فيها ما دام يعمل تحت أمر رئيسه الأعلى التابع هو له اللهم إلا إذا ثبت أنه مدان شخصيًا ومسؤول شخصيًا عن نتائج الفعل الذي أوقع الحكومة في المسؤولية معه على أنه لما كان الغرض من إدخال ناظر المحطة القريبة هو جعل الاختصاص لمحكمة مكان وصول البضاعة فإننا نرى أنه إذا كان أساس الدعوى هو المسؤولية التعاقدية البحتة فإنه يمكن الاستناد إلى المادتين (61) و(62) من قانون المرافعات الجديد لتحقيق هذه الغاية فلقد نصت أولاهما (في المواد التي سبق فيها الاتفاق على موطن مختار لتنفيذ عقد يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه أو الموطن المختار للتنفيذ)، وتنص الأخرى في المواد التجارية يكون الاختصاص لمحكمة المدعى عليه أو للمحكمة التي في دائرتها تم الاتفاق وتسليم البضاعة أو التي في دائرتها يجب الوفاء).
2 - القواعد الخاصة: نظرًا لمسؤولية أمين النقل الخاصة وكثرة الأعمال التي يُكلف بها ولصعوبة إثبات الضرر بعد مدة معينة رأى المشرع أن يضع قواعد خاصة بانقضاء مسؤوليته فلقد نصت المادة (99) من القانون التجاري (على أن استلام الأشياء المنقولة ودفع أجرة النقل مبطلان لكل دعوى على أمين النقل وعلى الوكيل في ذلك بالعمولة إذا كان العيب الذي حصل فيها ظاهرًا من خارجها، وأما إذا كان غير ظاهر فيجوز إثباته بمعرفة محضر أو شيخ البلد، ولكن لا تقبل الدعوى بالعيب المذكور إلا إذا حصل الإخبار بها في ظرف ثمان وأربعين ساعة من وقت الاستلام وقدم الطلب للمحكمة في ظرف ثلاثين يومًا ويُضاف إلى هذين الميعادين، ميعاد مسافة الطريق).
وهنا يجب أن نفرق بين حالتي العيب الظاهر وغير الظاهر وحالة رفض استلام البضاعة.
( أ ) حالة العيب الظاهر: وفي هذه الحالة يتعين على المرسل إليه أن يتحقق عند استلام البضاعة من خلوها من التلف والنقص في الوزن أو الكيل وله أن يطلب تعيين خبير لإثبات حالتها كما أن له أن يرفض استلامها فإذا استلمها دون أي تحفظ ودون القيام بأي إجراء من هذا القبيل فقد بطل حقه في المطالبة بالتعويض.
(ب) حالة العيب الخفي: أما إذا كان العيب خفيًا غير ظاهر فمجرد تسلمه البضاعة ولو دون تحفظ لا يسقط حقه في المطالبة بالتعويض كالفرض السابق بل أن القانون قد نص على إجراءات خاصة يجب اتباعها في هذه الحالة فأجاز إثبات العيب بمعرفة محضر أو شيخ بلد كما استلزم من المرسل إليه أن يخطر أمين النقل في ظرف ثمانية وأربعين ساعة من الاستلام بهذا العيب، على أنه إذا استطاع المرسل إليه أن يتبين العيب وقت استلام البضاعة وأبدى تحفظاته على إيصال الاستلام الذي قبله أمين النقل فإن هذا يغني عن الإخبار وإلى جانب هذا يشترط القانون في المادة (99) تقديم الطلب (المقاضاة) في ظرف ثلاثين يومًا ويترتب على الإخلال بهذه الأحكام أن تصبح الدعوى غير مقبولة.
(ج) حالة رفض استلام البضاعة: بقي فرض واحد هو امتناع المرسل إليه من استلام البضاعة سواء أكان العيب ظاهرًا أو خفيًا وفي هذه الحالة لا محل لتطبيق المادة (99) لأنها مقترنة بالتسليم وهو لم يتم ولذلك فإن حكم هذه الحالة يخضع لحكم المادة (104) الخاصة بتقادم الدعوى التي ترفع قبل أمين النقل.
تقادم الدعوى:
تنص المادة (104) من القانون التجاري على أن كل دعوى على الوكيل بالعمولة وعلى أمين النقل بسبب التأخير في نقل البضائع أو بسبب ضياعها أو تلفها تسقط بمضي مائة وثلاثين يومًا فيما يختص بالإرساليات التي تحصل في داخل القطر المصري وبمضي سنة واحدة فيما يختص بالإرساليات التي تحصل للبلاد الأجنبية ويبتدئ الميعاد المذكور في حالة التأخير أو الضياع من اليوم الذي وجب فيه نقل البضائع وفي حالة التلف من يوم تسليمها، وذلك مع عدم صرف النظر مما يوجد من الغش أو الخيانة.
ويجب أولاً عدم الخلط بين هذه المادة والمادة (99) فإن الأخيرة خاصة بحالة العيب واستلام المرسل إليه للبضاعة وقد رسم القانون في هذه الحالة إجراءات معينة، أما المادة (104) فتطبق في أحوال الضياع الكلي أو الجزئي والتأخير والعيب إذا امتنع المرسل إليه عن استلام البضاعة.
أما عن طبيعة هذه المدة أهي مدة سقوط dècheance لا تسري عليها أسباب الانقطاع أم هي مدة تقادم عادي فإن الرأي الراجح والمأخوذ به فقهًا وقضاءً هي أنها مدة تقادم عادي تقطعه الأسباب العادية كالإقرار ورفع الدعوى، على أن تطبيق القواعد العامة في التقادم تؤدي إلى أن الإنذار والدعوى المستعجلة بكافة إجراءاتها لا يقطعان هذا التقادم إطلاقًا (كامل مرسي باشا في التقادم طبعة سنة 1943 بند 237 ومؤلفه الجديد في الحقوق العينية الأصلية ج 4 بند (254)، 286 صـ 260 - بلانيول وربيير واسمان موسوعة القانون المدني الجزء الثالث صـ 686 بند (727)، صـ 687 هذا ولا ترد على هذه المدة أسباب الإيقاف التي لا تسري إلا على التقادم الذي يتجاوز مدته الخمس سنوات (م 382 مدني جديد، (84)، (85) قديم).
كما أن هذه المدة لا تسري في حالة الغش والخيانة ولكن يتعين على من يتمسك بهما أن يقدم الدليل المقنع للمحكمة على قيامهما وعلى أن من نتيجتهما إلحاق الضرر الطبيعي المحقق به وسبق أن بينا أن هنالك رأي يُلحق الخطأ الجسيم بالغش على النحو السالف بيانه في هذه الحالات فإن القواعد العامة للتقادم هي الواجبة التطبيق.
[(1)] السنهوري موجز الالتزامات طبعة سنة 1938 صـ 68، ومحمد صالح في التجاري طبعة سنة 1938 صـ 609، ورينيه روجر في النقل طبعة سنة 1922 صـ 6، الأعمال التحضيرية للمدني الجديد جـ2، صـ 69.
[(2)] السنهوري صـ 69.
[(3)] محمد صالح س 609.
[(4)] رينيه روجر س 7.
[(5)] رينيه رجر صـ 8 - 10، ومحمد صالح بند (542)، واستئناف مختلط 24 مايو سنة 1929 بلتان 36 صـ 370.
[(6)] نقض فرنسي 8 يوليه سنة 1889 دالوز 89 - 1 - 353، 18 نوفمبر سنة 1895 سيري 1895 - 1 - 385 ورينيه روجر صـ 12.
[(7)] محمد صالح صـ 611، 620.
[(8)] موجز القانون التجاري لليون كان (دالوز 1928 ) فقرة (374) صـ 218 وجان أسكارا موجز القانون التجاري طبعة سنة 1948 جزء أول بند (1070) صـ 647، ولا كور موجز التجاري طبعة سنة 1921 بند (988) صـ 566، صـ 569 وليون كان في موسوعة التجاري الجزء الثالث طبعة سنة 1923 1923 بند (748) وجوسران في عقد النقل طبعة سنة 1926 بند (165) صـ 177.
[(9)] الجدول العشري الأول لمجلة المحاماة البنود (1401)، (1402)، (1418) وعبد السلام ذهني في القانون التجاري الجزء الأول بند (240).
[(10)] محمد صالح بند (548)، جان اسكارتيه 1088 صـ 657.
[(11)] محمد صالح صـ 628.
[(12)] موجز الالتزامات للسنهوري باشا صـ 318.
[(13)] يراجع في ذلك أيضًا حكم استئناف إسكندرية في 5/ 2/ 1950 محاماة س 30 صـ 501.
[(14)] بحث الدكتور بهجت يدوي بك في مجلة القانون والاقتصاد السنة الثانية صـ 137 إلى 152 تحت عنوان تعليقات على الأحكام في المواد المدنية: مسؤولية الناقل في النقل بغير عوض.
[(15)] بحث الدكتور بهجت بدوي بك السالف الذكر.
[(16)] السنهوري باشا موجز الالتزامات بند (284) هامش (1) حشمت أبو ستيت في الالتزامات طبعة سنة 1945 بند (369) محمد صالح في أصول التعهدات طبعة سنة 1933 بند (44) صـ 42 - سليمان مرقص في نظرية دفع المسؤولية المدنية طبعة سنة 1936 (الباب الأول من القسم الثاني صفحة 187، 222 وما بعدهما - لاكور موجز التجاري طبعة سنة 1921 بند (1017) - جان أسكارا موجز التجاري جـ 1 صـ 658.
[(17)] محمد صالح القانون التجاري جـ 1 صـ 615 - لاكور موجز التجاري جـ 1 صـ 584 - أسكارا في موجز التجاري جـ 1 صـ 658.
[(18)] لاكور موجز التجاري جـ 1 طبعة سنة 1921 سنة 1921 بند (1018) صـ 584 وأسكارا في موجز التجاري جـ 1 صـ 658، وموسوعة القانون التجاري لليون كان ورينو الجزء الثالث طبعة سنة 1923 صـ 576 بند (600).
[(19)] يُراجع كتاب أسكارا السالف الذكر بند (1090) صـ 658.
[(20)] السنهوري باشا موجز الالتزامات صـ 67.
[(21)] مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجديد الجزء الثالث صـ 291.
[(22)] مجلة المحاماة سنة 31 قاعدة رقم (224) صـ 742 كما يراجع تعليق المجلة على هذا الحكم.
[(23)] موجز القانون التجاري ليونكاريه ولاكوست طبعة سنة 1947 بند (1041) صـ 367 - جان إز في المسؤولية عن نقل الأمتعة طبعة سنة 1936 صـ 163 وما بعدها، وبند (174) هامش صـ 166.
[(24)] الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجديد الجزء الثاني صـ 553.
[(25)] تراجع بنفس المعنى الأحكام المنشورة في دالو 1900 - 1 - 433، وتعليق مسيو سارو، 1901 - 1 - 190، 192 - 1 - 39.
[(26)] لاكور موجز التجاري جـ 1 طبعة سنة 1921 فقرة (1027) صـ 587 مجموعات دالوز موجز التجاري للاكور طبعة سنة 1928 بند (382) صـ 223 - بونكارية ولاكوست موجز التجاري طبعة سنة 1947 صـ 367، بند (1041) - جان أسكارا موجز تجاري جـ 1 بند (1092) صـ 661 ليون كان ورينو جـ 3 طبعة سنة 1923 بند (626)، (627) - مازو طبعة سنة 1950 جـ 3 بند (2557).
[(27)] علي الزيني القانون التجاري جـ 1 صـ 785 - عبد السلام ذهني بك القانون التجاري جـ 1 صـ 308 - كامل ملش في القانون التجاري جـ 1 صـ 115 - محمد صالح في القانون التجاري جـ 1 صـ 420.
[(28)] لاكور موجز التجاري جـ 1 فقرة (1028) - أسكارا في موجز التجاري جـ 1 بند (1093) - جان إز في المسؤولية عن نقل الأمتعة صـ 163 - ليون كان ورينو موسوعة التجاري جـ 3 طبعة سنة 1923 صـ 606، 594 - جوسران في عقد النقل طبعة سنة 1926 بند (639) مكررًا أربعة صـ 628 مازو في المسؤولية المدنية طبعة سنة 1950 بنود (2549) صـ 589، (2592) مكررًا (2).
[(29)] س مخ 26/ 1/ 22 بلتان 34 س 138، س مخ 6/ 4/ 1922 بلتان 34 صـ 298، س مخ 6/ 2/ 930 بلتان 42 صـ 260 - نظرية العقد للسنهوري باشا صـ 287 عبد السلام ذهني بك في القانون التجاري صـ 310.
كتبهااحمد الجمل ، في 6 أبريل 2009 الساعة: 00:24 ص
مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث مسؤولية أمين النقل
للأستاذ محمد حامد رضوان المحامي من الدرجة الأولى الممتازة بإدارة قضايا الحكومة
تشغل مسؤولية أمين النقل حيزًا ظاهرًا أمام القضاء وتثير الكثير من البحوث وخاصةً عن ماهية الشروط الواردة في عقد النقل ومدى الأخذ بها وعن الخطأ الجسيم والغش من جانب، والخطأ اليسير من جانب آخر وعن سلطة القاضي إزاء هذه الشروط هذا ولما كانت مسؤولية أمين النقل تخضع لأحكام المواد (90) إلى (104) من القانون التجاري ولأحكام القواعد العامة في الالتزامات فإن هذه المسؤولية يجب النظر إليها على ضوء ما ورد في القانون المدني الجديد على أنه يتعين بادئ ذي بدء التعرض لماهية عقد النقل من ناحية ولتعريفة النقل من ناحية أخرى.
ماهية عقد النقل:
عقد النقل هو عقد يلتزم بموجبه شخص طبيعي أو معنوي، بالقيام بنقل بضائع أو أشخاص بوسيلة من وسائل النقل من مكان إلى مكان آخر مقابل أجر معلوم وبشروط معينة.
والرأي الثابت أن من عقود الإذعان [(1)] Contrat d’adhesion، وليس من العقود الرضائية البحتة، كما يذهب إلى ذلك أمناء النقل أحيانًا، بدعوى أن هذا النوع من العقود لا يتوفر إلا حيث يوجد احتكار قانوني أو فعلي لشخص لشيء يعد ضروريًا للطرف الآخر، ولما كانت وسائل النقل متعددة بين برية، بالسكة الحديد والسيارات والعربات، ونهرية، بالمراكب والسفن من بخارية وشراعية فإن ركن الاحتكار يعد غير متوافر، ذلك أن هذا النوع من العقود يتميز بتعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات الأولى بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين وباحتكار هذه السلع والمرافق، احتكارًا قانونيًا أو فعليًا أو قيام منافسة محدودة النشاط بشأنها وبتوجيه عرض الانتفاع بها إلى الجمهور بشروط متماثلة على وجه الدوام بالنسبة لكل فئة منها، ولذلك فإن عقد النقل هو دون ريب من هذه العقود، وأهمية هذا البحث تبدو في أن القانون المدني الجديد وإن اعتبر المادة (100) تسليم العامة بالشروط المقررة في هذا النوع من العقود قبولاً حقيقيًا يتوافر معه قيام العقد، أخذًا بالرأي الغالب في الفقه والقضاء [(2)]، إلا أنه قد أجاز المادة (149) للقاضي أن يُعدل الشروط التعسفية فيها أو يعطي الطرف المذعن منها.
وقد اختلف الرأي حول طبيعة هذا العقد فيذهب الرأي إلى أنه من عقود التراضي التي تنعقد بدون حاجة إلى أي إجراء وليست تذكرة النقل إلا صورة من صور إثباته [(3)]، ولكن الرأي الآخر يذهب إلى القول بأنه عقد عيني وإلى أن رضاء أمين النقل والراسل ليس من نوع الرضاء في العقود العادية حيث تكون الإرادة حرة طليقة بل إن رخاء الراسل لا يتم إلا بعد تسليم الأشياء المراد نقلها إلى أمين النقل فعلاً وعندئذ فقط يقبل الشروط المعروضة عليه وعندئذٍ فقط يتم العقد، أما قبل ذلك فليس ثمة عقد نقل بل قد يوجد عقد وعد بالنقل قد يترتب التزامًا بالتعويض. [(4)]
وعقد النقل من العقود الملزمة لجانبين كما أنه ليس عقدًا شكليًا، وإذا كانت المادة (95) من القانون التجاري المصري، و(100) من القانون الفرنسي تنص على أن (تذكرة النقل هي عبارة من مشارطة بين المرسل وأمين النقل أو بين المرسل والوكيل بالعمولة وبين أمين النقل) فإن هذا ليس معناه أن الكتابة ركن في العقد أو أنها وسيلة الإثبات الوحيدة بل هي ترمي إلى أنه يمكن تعرف شروط النقل وأحكامه من واقع البوليصة ولقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن وضع البضائع في الردهة الداخلية للمحطة فيعترض معه قانونًا أنها في طريق النقل ولو لم يحرر العقد بعد فهي بذلك لم تستلزم تحرير العقد لإمكان تمامه. [(5)]
ولكن هل عقد النقل عقد مدني أم تجاري ؟ أما بالنسبة للناقل فإنه إذا كان يتخذ النقل حرفة له فإن العقد يعد تجاريًا (م (2) تجاري مصري و(632) فرنسي)، أما إذا كانت عمليات النقل عمليات فردية فهل معنى ذلك أنها ليست من قبيل الأعمال التجارية ؟ وهنا يجب أن نُفرق في النظر إلى المسألة بين الراسل والمرسل إليه من جهة وبين أمين النقل من جهة أخرى، فبالنسبة للأولين لا يعد تجاريًا إلا إذا كان متعلقًا بتجارة أيهما وهذا الحل مبني على نظرية الأعمال التجارية بالتبعية بالنسبة للتاجر يُعد تجاريًا إذا هو أرسل بضاعته المبيعة للمشتري أو للوكيل بالعمولة لبيعها ولكنه يُعد مدنيًا إذا هو نقل بعض أمتعته وحاجياته الخاصة، أما بالنسبة لأمين النقل إذا كان شخصًا عاديًا لا يحترف النقل وإنما قام بعملية فردية فإذا كان النقل بالمجان فالرأي الراجح في الفقه وفي القضاء أنه لا يوجد عقد نقل بل عقد غير معين يخضع للقواعد العامة في الالتزامات أما إذا كان مقابل أجر فإن العملية في ذاتها تعد عملاً تجاريًا ولو أن الشخص الذي يقوم بها ليس تاجرًا ولهذا فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الدولة إذا باشرت بنفسها النقل بالسكة الحديدية فإنها تقوم بعمل تجاري ولو أنها ليست تاجرة. [(6)]
وطرفا هذا العقد هما الراسل expédituer وأمين النقل voturieg أما المرسل إليه فمركزه هو مركز المستفيد من مشارطة عقدت لصالحه stipulation pour autrivi، ويكون الحق في رفع الدعوى بسبب هذا العقد لهؤلاء فقط. [(7)]
وشروط هذا العقد شروط مطبوعة وضعت مقدمًا في نموذج معين عام بالنسبة للجميع ولا يمكن المناقشة فيها، كما أنها ترتكز على أساس التعريفة التي يضعها أمين النقل بعد موافقة السلطات الحكومية وهي تقسم النقل إلى فئات وأنواع متعددة مختلفة الشروط والأحكام، ولذلك فإنه يتعين علينا مناقشة هذه التعريفة وماهيتها.
ماهية التعريفة:
( أ ) الصفة اللائحية: يثور البحث حول ماهية التعريفة ومدى وجوب الأخذ بها وهل لها صفة تشريعية أم صفة جزائية، وأهمية هذا البحث مردها أن عقد النقل يحيل إليها في الكثير من الشروط، ولما كانت هذه التعريفة تنقسم إلى عدة أقسام لذلك تبدو أهمية تكييفها القانوني فهي تختلف باختلاف نوع البضاعة وعما إذا كان النقل بالطريق السريع أو العادي كما أن هنالك تعريفة عامة وتعريفة خاصة كما أن هنالك تعاريف متعددة.
فتحديد أجر النقل هو من العناصر الرئيسية في كل تعريفة وتدور حوله شروط النقل، فالتعريفة ذات السعر المنخفض عن العادي تستلزم بالتبعية حتمًا زيادة التزامات الراسل، ولكل تعريفة من هذه التعريفات شروطها المميزة، والتعريفة ذات السعر المنخفض تستلزم تخفيض الأجر كما تشترط بعض شروط لصالح أمين النقل كعدم مسؤوليته في حالة امتداد أجل النقل (التأخير) أو تحديد المسؤولية في هذه الحالة أو إلقاء عبء شحن وتفريغ العربة على عاتق الراسل أو المرسل إليه.
وفي فرنسا تعد التعريفة، رغم اعتراضات البعض، لائحة تشريعية تتمتع بما تتمتع به اللوائح الإدارية من قوة وتدير الخطوط الحديدية هنالك الشركة الأهلية للسكك الحديدية الفرنسية Societé National de chemins de fers، وهنالك تقوم الشركة والحكومة معًا بتحضير مشروع هذه التعريفة وتتمتع الإدارة بسلطة واسعة عند وضعها ومراجعتها ومردها إلى الصالح العام فإذا ما وافقت الحكومة على ما تضمنته، وبعد أن تدخل عليها من التعديلات ما تراه، وضعت التعريفة في صورة لائحة تقوم الحكومة بالتصديق عليها ونشرها بالجريدة الرسمية وعندئذٍ تكتسب صفتها هذه وتكون ملزمة للكافة فلا يجوز الخروج على أحكامها لا من الراسل أو المرسل إليه ولا من أمين النقل ولا يجوز التعديل في أحكامها إلا بالطريق الذي وضعت به. [(8)]
وأما في مصر فقد صدرت تعريفة النقل بالسكة الحديد بموجب قرار من معالي وزير المواصلات بتاريخ 3 مايو سنة 1930 وقد نشرت بالوقائع الرسمية بالعدد 66 الصادر في 10 يوليه سنة 1930، ولكن الاعتراضات التي وجهت إلى هذه التعريفة وإلى مدى التمسك بها تقوم على أساس أنها لا يمكن أن تتجاوز قوة القرار الوزاري ما دامت لا تستند إلى قانون يخول إصدارها فهي بذلك ليست لائحة تفويضية، ولما كان عقد النقل تحكمه النصوص الخاصة في القانون التجاري والنصوص العامة في باب الالتزامات في القانون المدني فإن هذه الأحكام هي الواجبة التطبيق دون التعريفة لأنها لا يمكن أن تسمو إلى مرتبتهما.
(ب) الصفة الجزائية:
إذا تركنا جانبًا الخلاف حول ماهية التعريفة من الناحية التشريعية ومدى قوتها الإلزامية فإننا نجد أن رأيًا آخر يذهب إلى الأخذ بها على أساس آخر فلقد ذهبت بعض الأحكام إلى أنه لما كانت بوليصة الشحن تحيل فيما تحويه من شروط إلى التعريفة باعتبارها جزءًا رئيسيًا مكملاً لعقد النقل وخاصةً بالنسبة للتعويضات عند قيام مسؤولية أمين النقل فإن ذلك يعد شرطًا جزائيًا يتعين الأخذ به تطبيقًا لأحكام المادة (123) من القانون المدني القديم، ولذلك فلقد أخذت هذه الأحكام بالتعويضات المقدرة في التعريفة وبالحدود الواردة فيها. [(9)]
على أننا إذا رجعنا إلى أحكام الشرط الجزائي في القانون المدني الجديد لوجدنا أن المادة (225) تنص على أنه إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الإنفاقي فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشًا أو خطأ جسيمًا، وتطبيقًا لأحكام هذه المادة فإننا لو اعتبرنا أن إحالة بوليصة الشحن إلى التعريفة يعد شرطًا جزائيًا فإن الحدود التي وردت بها تعد حدًا أقصى لا يجوز تجاوزه إلا في حالتي الغش والخطأ الجسيم اللهم إلا إذا أمكن القول بأن هذا الشرط يقصد به إلى الإعفاء من المسؤولية حيث لا تجيز نصوص القانون وأحكامه ذلك.
نطاق مسؤولية أمين النقل:
إذا لم تتضمن بوليصة النقل شروطًا خاصة أو كانت هذه الشروط مجرد تطبيق للقواعد العامة في الالتزامات أو للأحكام الخاصة بعقد النقل في القانون التجاري أو كانت هذه الشروط شروطًا مكتوبة لا مطبوعة فإنه في جميع هذه الأحوال يتعين الأخذ بالقواعد العامة ويكون العقد في هذه الحالة عقدًا رضائيًا بحتًا كسائر العقود، ويترتب على ذلك أن أمين النقل يلتزم بنقل الشيء كاملاً وسليمًا من جهة معينة إلى جهة أخرى وبالشروط المتفق عليها وخلال المدة التي حددها الطرفان، فإذا لم ينفذ التزامه فإنه يعد مرتكبًا خطأ تعاقديًا يجعله مسؤولاً مسؤولية تعاقدية وعليه هو إما أن يثبت قيامه بتنفيذ التزامه على الوجه المتفق عليه أو يدفع عن نفسه المسؤولية بإثبات قيام السبب الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي أو العيب في الشيء أو فعل الراسل أو المرسل إليه أو فعل الغير.
ولقد نصت المادة (97) من قانون التجارة على أن (أمين النقل ضامن للأشياء المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل ذلك بسبب عيب ناشئ عن نفس الأشياء المذكورة أو بسبب قوة قاهرة أو خطأ أو إهمال ن مرسلها) كما نصت المادة (98) على أنه (إذا لم يحصل النقل في الميعاد المتفق عليه بسبب قوة قاهرة فلا يترتب على التأخير إلزام أمين النقل بتعويضات).
ويسأل أمين النقل في حالات ثلاث أولاها حال ضياع الشيء المنقول كلية أو جزئية، وثانيها حال إصابته بتلف، والحال الثالثة هي حال التأخير، وإلى جانب الحالات والنصوص الخاصة التي سنتعرض لها فيما بعد فإن مسؤولية أمين النقل حال عدم تضمن عقد النقل لشروط خاصة تقوم، كما في القواعد العامة، على أساس خطأ مفترض قانونًا قبل أمين النقل لمجرد عدم قيامه بتنفيذ التزامه ويكون شأنه كشأن الخطأ في المسؤولية التعاقدية غير قابل لإثبات عكسه ولكن يكون لأمين النقل أن يدفع هذه المسؤولية بإثبات نفي قيام علاقة السببية بين ركن الخطأ الثابت قانونًا من عدم التنفيذ وبين ركن الضرر الذي يثبته مدعيه، وذلك بإثبات قيام السبب الأجنبي وأن الضرر يرجع إليه وحده أما إذا كان يرجع لخطأ أمين النقل من ناحية وللسبب الأجنبي من ناحية أخرى فإنه لا يسأل إلا بنسبة ما ارتكبه من خطأ.
ويكون أمين النقل عندئذٍ ملتزمًا بتعويض الطرف الآخر (الراسل أو المرسل إليه) عما لحقه من خسارة وما فاته من ربح بالقيد الذي ذكرناه.
على أنه تطبيقًا للقواعد العامة لا يكون مسؤولاً إلا عن الضرر المباشر فقط أما الضرر غير المباشر فلا يسأل عنه إطلاقًا سواء أكان الخطأ المنسوب إليه يسيرًا أو جسيمًا مصحوبًا بغش أو تدليس أو غير مصحوب، كما أنه حتى في نطاق الضرر المباشر لا يسأل إلا عن الضرر المتوقع فقط إلا إذا كان الخطأ الذي ارتكب جسيمًا أو مصحوبًا بغش أو تدليس فإنه يسأل في هذه الحالة عن الضرر المباشر المتوقع وغير المتوقع، كما أن هذا التعويض يستحق دون حاجة إلى التكليف الرسمي.
وإذا فقدت البضاعة أو تلفت فإن أمين النقل يلتزم بقيمتها ولكن الخلاف بين الشراح والمحاكم في فرنسا على حالة السلع المسعرة تسعيرًا جبريًا فهل تحتسب على أساس التسعير الرسمي وقت الشحن أم وقت وصول البضاعة، أما في حالة التلف فيلتزم بالفرق بين قيمة البضاعة سليمة وقيمتها تالفة أما في حالة التأخير فيلتزم بتعويض الضرر الذي ترتب عليه. [(10)]
ما قلناه خاص بنقل البضائع والأشياء على أن الأمر يختلف بعض الشيء بالنسبة لنقل الأشخاص فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق فهل يكون أساس الرجوع على الناقل المسؤولية التعاقدية أم المسؤولية التقصيرية وعلى أساس إثبات خطأ معين ارتكبه الناقل أم على أساس المسؤولية الشيئية، على أن الأمر من ناحية أخرى يقتضي التفرقة بين النقل بأجر، وهو الصورة الغالبة والعادية وبين النقل المجاني.
ففي حالة النقل بأجر لا ريب في أنه يربط المسافر بالناقل عقد نقل هو الذي يحكم الرابطة القانونية بينهما على أنه يتعين معرفة التزامات الناقل فيه وهل التزامه في هذه الحالة التزامًا بغاية فيلتزم بتمكين المسافر من الوصول سليمًا إلى الجهة المتفق عليها أم هو التزام بوسيلة فيلتزم بأن يضع تحت تصرفه وسيلة النقل إلى غايته [(11)]، كان القضاء الفرنسي في بادئ الأمر يذهب إلى الرأي الثاني على أساس أنه لا محل لمقارنة المسافر بالبضائع لأن له حركة ذاتية وإرادة خاصة ذلك لأنه في حالة تلف البضائع أو ضياعها يفترض إهمال أمين النقل في المحافظة عليها لأن له سيطرة تامة عليها أثناء نقلها أما الإنسان فهو كائن له إرادة خاصة وقد يغافل أمين النقل ويتسبب في إلحاق الأذى بنفسه عن إهمال وتقصير، على أن هذا القضاء، وعلى رأسه محكمة النقض، لم يستطع أن يثبت على هذا الرأي لكثرة الحوادث ولأن الأخذ به يترتب عليه أن يتحتم على المسافر أو ورثته أن يثبتوا خطأ معينًا ارتكبه أمين النقل وهو أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً في بعض الأحوال لذلك لم يرَ بدًا من القول بأن أمين النقل يلتزم بموجب العقد بنقل الشخص سليمًا ومعافى إلى الجهة المقصودة فإذا أصيب أثناء النقل كانت مسؤوليته تعاقدية فيفترض قانونًا أنه قد ارتكب تقصيرًا ولا يستطيع أن يدفعه إلا بإثبات نفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر بإثبات قيام السبب الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي وخطأ المصاب وفعل الغير، وهذه المسؤولية تؤدي إلى نفس النتيجة التي يمكن الوصول إليها عن طريق الأخذ بالمسؤولية الشيئية (المادة (1384) فقرة (1) مدني فرنسي).
هذا ويثار في هذا الصدد مسألة اجتماعية المسؤوليتين والخيرة بينهما فقد يكون العمل الواحد إخلالاً بالتزام تعاقدي يحقق المسؤولية التعاقدية وهو في الوقت ذاته عمل ضار يحقق المسؤولية التقصيرية وهنا تجتمع المسؤوليتان فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق، وأخذ بالرأي القائل بالتزام الناقل بسلامته، كانت من جهة إخلالاً بهذا الالتزام التعاقدي فتحقق المسؤولية التعاقدية وكانت من جهة أخرى عملاً ضارًا في ذاته فتجتمع إلى جانب المسؤولية التعاقدية المسؤولية التقصيرية في مثل هذا الغرض لا يجوز إطلاقًا الجمع بينهما وإنما يكون الرجوع على أساس إحداهما فقط، ولكن عن أيتهما ؟ أيترك للمصاب الخيرة بين المسؤوليتين فيختار أكثرهما ملاءمة له ؟ أو أن المسؤولية التقصيرية لا تقوم إذا كان هناك عقد بين الطرفين يحدد مدى المسؤولية فتبقى المسؤولية التعاقدية وحدها، ولا يكون هنالك مجالاً للخيرة ؟ اختلف الرأي في فرنسا فالبعض يأخذ بالرأي الأول والبعض الآخر يأخذ بالرأي الثاني وإن كان الراجح هو الرأي الأول ؟ [(12)]
أما في مصر فتذهب بعض المحاكم إلى بناء المسؤولية على أساس المسؤولية التعاقدية والبعض الآخر على أساس المسؤولية التقصيرية، هذا وقد حكمت محكمة مصر الابتدائية في 13 مارس سنة 1951 بأنه بمجرد قيام المسافر بدفع الأجر المفروض لمتعهد النقل فإنه يبرم بينهما عقد يلتزم فيه الناقل بتأمين سلامة المسافر ووصوله سالمًا إلى المكان الذي يقصده وهذا الالتزام يستخلصه القاضي تفسيرًا لإرادتي المتعاقدين المشتركة إذ أن المسافر ينتظر الوصول سالمًا إلى المكان الذي يقصده ولو أن الناقل لم يتعهد بذلك ولو ضمنًا لما أقدم المسافر على التعاقد كما ذكرت أن هذه المسؤولية لا يدفعها إلا إثبات القوة القاهرة أو خطأ المصاب (المحاماة س 31 العدد الثامن - رقم (393) صـ 1386). [(13)]
ويختلف الأمر في حالة النقل المجاني [(14)] ذلك لأنه لا يمكن القول بقيام عقد نقل في هذه الحالة ذلك لأن من عناصر هذا العقد الجوهرية وضع أجر معين لأمين النقل ولذلك ذهب البعض إلى القول بوجود عقد غير مسمى أقرب لعقود الوكالة والعارية منه لعقد النقل بجامع نية التبرع في هذه العقود ولقد كانت هذه الفكرة موضع النقد في فرنسا ذلك لأن فكرة التعاقد لم تدر بخلد الطرفين إطلاقًا ولذلك فإن القضاء الفرنسي رفض الأخذ بالمسؤولية التعاقدية في هذه الحالة وكان أمامه أما الأخذ بالمسؤولية الشيئية (المادة 1384/ 1)، وتشبيه حالة المسافر الذي يصاب أثناء الطريق بحالة المارة التي تصدمها العربات والمركبات فيكون الحارس القانوني مسؤول عن هذه الحوادث مسؤولية يفترض معها قيام الخطأ وهو فرض غير قابل لإثبات عكسه ويكون المصاب مكلفًا في هذه الحالة بإثبات ركن الضرر، وأما أن تبني المسؤولية في هذه الحالة على أساس إثبات التقصير في جانب أمين النقل المادتان (1382)، (1383).
ولكن القضاء والفقه في فرنسا رفض أن يطبق حكم المادة (1384) فقرة أولى (المسؤولية الشيئية) على حالة النقل المجاني لما في تطبيق حكم هذه المادة على الشخص الذي يتطوع بتأدية خدمة مجانية لآخر من مصادمة للعدالة ولحسن التقدير، ولهذا فلقد ذهب البعض إلى القول بأن الراكب بغير عوض يتحمل في الواقع تبعة الأخطار المنظورة والعادية التي تنجم عن ركوبه ولكن أخذ على هذا الرأي صعوبة تحديد فكرة قبول التبعة من ناحية والأفكار المنظورة والعادية من ناحية أخرى كما أنه يحمل إرادة الطرفين فكرة لم تدر بخلدهما وقت قيام الرابطة القانونية ولو أن الراكب أدرك مبلغ الخطر الذي يعرض نفسه إليه وما في ركوبه المجاني من إسقاط لحقه قبل الناقل لما أقدم على الركوب أو لفضل الركوب بأجر، كما أنه من ناحية أخرى فإن هذا الاتفاق المزعوم بفرض وجوده غير صحيح ذلك لأن القضاء قد استقر على عدم جواز الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية التقصيرية، ولذلك فإن الرأي الراجح في فرنسا يبني المسؤولية في هذه الحالة على أساس إثبات تقصير أمين النقل المادتين (1382)، (1383).
أما في مصر فلقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها الصادر في 13 نوفمبر سنة 1930 بلتان 43/ 22 بأن من يقبل الركوب في سيارة تفضلاً من صاحبها فلا يجوز له المطالبة بالتعويض عن الحوادث والأضرار التي تصيبه من جراء ركوبه إلا إذا نشأت عن تقصير جسيم من قائد السيارة وبهذا المعنى أيضًا حكم محكمة مصر المختلطة في 23 مايو سنة 1949 (بأن الراكب يعتبر قابلاً لبقية الأخطار المتوقعة risques possibles).
على أن النقد الذي وجه إلى هذين الحكمين يرتكز على أنه لا يجوز الاستناد على فكرة قبول الراكب لتبعة الركوب في سبيل تخفيف مسؤولية الناقل ذلك لأن الاستناد لهذه الفكرة في القانون الفرنسي قصد به فقط استبعاد المادة (1384) على حالة النقل المجاني ونظرية المسؤولية الشيئية لم يكن مأخوذًا بها في مصر حتى صدور القانون المدني الجديد كما أنه لا مبرر لاشتراط التقصير الجسيم لشغل مسؤولية الناقل في حالة النقل بغير عوض وأنه يمكن أن يسأل حتى عن خطئه اليسير ويمكن الاستناد لفكرة الخدمة لتخفيف التعويض. [(15)]
دفع المسؤولية:
قلنا فيما سبق أنه إذا لم يوجد نص خاص في عقد النقل فإن الناقل يعد مسؤولاً إذا لم يقم بتسليم الشيء كاملاً وسليمًا وفي الموعد المتفق عليه ويفترض خطؤه حتى يقوم هو بإثبات أن مرد عدم التنفيذ راجع لسبب أجنبي خارج عن إرادته وعندئذ تنقطع علاقة السببية بين الخطأ المفروض والضرر الذي أثبت وتبرأ ذمة أمين النقل، وهذا السبب الأجنبي قد يكون قوة قاهرة أو حادثًا فجائيًا وقد يكون خطأ الراسل أو المرسل إليه وقد يكون مرده إلى عيب في ذات الشيء المنقول أو فعل الغير وفي كل هذه الأحوال تبرأ ذمة أمين النقل بشروط سنتكلم عنها فيما بعد.
1 - القوة القاهرة والحادث الفجائي: المسألة الأولى التي تعرض هي معرفة ما إذا كان المدلول القانوني لكل من هذين التعبيرين واحد أم لكل منهما تعريفة وهل يتفقان في الحكم في الالتزامات عامة وفي عقد النقل خاصة، الرأي الراجح في الفقه والقضاء لا يميز بينهما فهما اسمان مختلفان لمعنى واحد، إذا نظر إليه من حيث إنه غير متوقع الحصول فهو حادث فجائي، وإذا نظر إليه من حيث أنه لا يمكن دفعه فهو قوة قاهرة ولذلك فإن الفقهاء يحيلون في تعريف كل منهما على الآخر.
والقوة القاهرة force majeves والحادث الفجائي cas fortivt هو عائق يعترض تنفيذ المدين لالتزامه وقد يكون مصدره راجع لعوامل طبيعية أو إنسانية كصاعقة أو زلزال أو فيضان أو حرف أو ثورة ومن ناحية أخرى فهو حادث غير متوقع كما أنه لا تمكن مقاومته ولو أمكن توقعه ويشترط أن يؤدي لاستحالة تنفيذ الالتزام استحالة تامة ومطلقة وعامة كما أنه يشترط ألا يكون للمدين بالذات أو أي شخص يسأل عنه شأن في حصوله.
على أن هنالك رأي يفرق بين القوة القاهرة والحادث الفجائي وخاصة في عقد النقل بالذات ويحصر إعفاء أمين النقل على الأولى دون الثاني وأساس هذا الرأي أن المادة (97) تجاري مصري وما يقابلها في القانون الفرنسي قد نصت على أن مسؤولية أمين النقل لا تنتفي إلا بإثبات القوة القاهرة أو خطأ أو إهمال من مرسلها ولقد ذكرت هذه المادة القوة القاهرة دون الحادث الفجائي مما يدل في نظرهم، على أن أمين النقل يُسأل حتى في حالة قيامه ويجعلون أساس التفرقة بينهما ركن الخروج المادي l’extériaité de l’evenement للحادث عن نشاط المدين وشهرته من ناحية أخرى Son importance et son notoriorité لأن وقوع الحادث داخل منشآت المدين يستحيل معه إقامة الدليل الذي ينفي لأول وهلة كل شك في فطنة إسناده إليه أما شهرة الحادث ففيها ما يؤيد وقوعه ولأن في أهميته ما يستحيل معه تحامي نتائجه فالحوادث غير العادية وحدها هي التي تعتبر قوة قاهرة وهي التي يمكن دفع المسؤولية بها خلافًا للحوادث الفجائية العادية التي ليس لها مثل هذا الأثر، فالحروب والزلازل والصواعق والثورات وازدحام البضائع كل هذه عوامل خارجة عن إرادة أمين النقل وعن نشاطه فلا يسأل عنها أما الحادث الفجائي فإنه أمر داخلي يتعلق بنشاط المدين ولو لم تكن لإرادته دخل في حدوثه فهو على حد قولهم الخطر الملازم للحرفة أو الصناعة ويمثلون لذلك بانفجار مصنع أو قاطرة أو عدم كفاية الأدوات أو الأشخاص الذين يقومون بالعمل أو قلة وسائل النقل فكل هذه عوامل يجب أن يتحمل تبعتها أمين النقل.
على أن الفقه والقضاء منذ عهد غير قصير لم يأخذ بالرأي القائل بالتفرقة بين القوة القاهرة من جهة والحادث الفجائي من جهة أخرى سواء في عقد النقل خاصةً أو في الالتزامات عامةً وانتهى الرأي إلى أن مدلولهما واحد ويترتب عليهما إعفاء أمين النقل من المسؤولية وأن القانون إذا استعمل أحد اللفظين فإنه يقصد أيضًا التعبير الآخر. [(16)]
2 - خطأ الراسل أو المرسل إليه: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع لخطأ من الراسل أو المرسل إليه فقد يرجع سبب التلف إلى عامل سابق على الشحن أو لعيب في الحزم أو بسبب سوء الشحن والتفريغ إذا كان متفقًا على أن يتم ذلك بمعرفة أحدهما. [(17)]
3 - العيب الخاص: ويقصد به أن يحوي الشيء المنقول آفة هلاكه وإعدامه وقد يكون مرده حالة طبيعية، أو غير طبيعية ولكن لا دخل لأمين النقل في حدوثها، من شأنها أن يهلك الشيء من ذات نفسه دون أن تتدخل عوامل خارجية وذلك كقابلية البضاعة للفساد من تلقاء نفسها أو لأنها من الأشياء التي تتلف بطبيعتها بسبب الموسم الذي تنقل فيه فكثير من الخضروات والفاكهة تخمر وتتعفن خاصةً في فصل الصيف فإذا فسدت البضاعة في هذه الأحوال فلا يكون الناقل مسؤولاً وهذا ما تنص عليه المادة (97) تجاري (أمين النقل ضامن للأشياء المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل بسبب عيب ناشئ عن نفس الأشياء…).[(18)]
4 - فعل الغير: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع إلى فعل الغير فلا يكون أمين النقل مسؤولاً على شريطة أن يكون هذا الغير شخصًا أجنبيًا عن الناقل غير تابع له وألا يكون مسؤولاً عنه مسؤولية تعاقدية أو تقصيرية كما يشترط القضاء الفرنسي أن تتوافر في فعل الغير شروط القوة القاهرة. [(19)]
الشروط المعدلة لأحكام المسؤولية:
1 - ماهيتها وسلطة المحكمة إزاءها: يندر أن تكون عقود النقل على الصورة البسيطة التي بيناها بالاكتفاء بإحكام القواعد العامة دون اشتراط شروط خاصة لأن ذلك غالبًا ما يكون مع صغار أمناء النقل أو من يقوم بعملية عرضية، ولما كانت تتولى شؤون النقل في مصر مصلحة السكة الحديد بصفة رئيسية وتقوم إلى جوارها شركات النقل المختلفة، ولذلك نجد أنها تشترط في بوالص الشحن التي تعدها شروطًا كثيرة ترمي غالبًا إلى إعفائها من المسؤولية أو الحد منها وتحديد التعويض في أضيق صورة ولا يتمتع الطرف الآخر بحرية مناقشة هذه الشروط أو التعديل فيها.
ولما كانت عقود الإذعان تتميز بتعلق موضوعها بسلع أو مرافق ضرورية للجمهور وباحتكارها أو قيام منافسة محدودة وبأن العرض موجه للجمهور عامة بشروط واحدة لا تتغير بتغير الأشخاص ولا مجال للمناقشة فيها لذلك فإن هذه العناصر متوافرة تمامًا في عقد النقل، على أنه إذا انتفت هذه العناصر جميعًا أو إحداها فإن العقد لا يعد آنئذٍ عقد إذعان كما إذا ثبت أن شروط النقل كانت مكتوبة لا مطبوعة أو كانت موضع مساومة وبحث جدي أو كانت مخالفة للصور المطبوعة والمطبقة على الكافة.
ولقد انقسم الرأي حول طبيعة هذه العقود إلى فريقين أولهما ينكر عليها صيغتها التعاقدية إذ أن العقد يوافق إرادتين عن حرية واختيار بينما هو في هذا النوع من العقود مجرد إذعان أو انضمام لا يصدر عن إرادة حرة بل على المتعاقد أن ينزل على حكم هذه الشركات فالرابطة القانونية بينهما قد خلقها في الواقع إرادة المحتكر وحده ولذلك فإن أصحاب هذا الرأي يرون أن يفسر هذا العقد وأن تحدد التزاماته وحقوقه على ضوء هذه الاعتبارات وعلى أساس المصلحة العامة لمجموع الأفراد فتراعي مقتضيات العدالة وحسن النية وما تستلزمه الظروف الاقتصادية أما الفريق الثاني فيرى أن حجج الفريق الأول ساقطة ولا تصلح أساسًا للقول بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ثم بتوافق إرادتين فكثير من العقود في العهد الحديث يتحقق فيها إضطرار أحد طرفيها أو كليهما للتعاقد دون أن يذهب أحد إلى القول باعتبار هذا الاضطرار إكراه مبطلاً للعقد كما أن انعدام المساواة بين المتعاقدين لا يمكن تجنبه فهو كثير الحدوث في العقود الرضائية البحتة أليست شروط عقود الإيجار والعمل ترمي غالبًا إلى رعاية مصلحة المؤجر ورب العمل أكثر من رعاية مصلحة المستأجر والعامل ؟ لذلك فإن هذا الفريق يرى أن ركن الاضطرار في هذه العقود أقل منه في غيرها فالكل أمام المحتكر سواء والعقود جميعًا على وتيرة واحدة ولا توضع إلا بعد موافقة السلطات الحكومية ولهذا فإن هذا الفريق يرى أن العقد في هذه الحالة عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين وأن علاج الضعف المزعوم لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي تم بتوافق إرادتين ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد بل بتقوية الجانب الضعيف سواء بالوسائل الاقتصادية أو التشريعية والقضاء في فرنسا وفي مصر لم يتأثر كثيرًا بالمذهب الأول بل أخذ كمبدأ عام بالمذهب الثاني ولكنه مع أخذه باعتبار هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أخذ يتلمس الطرق للحد من قسوتها وتعسفها بدعوى أنها تتناقض مع جوهر العقد أو لأنها مخالفة للنظام العام والآداب أو لأن المتعاقد لم يكن ليستطيع الوقوف عليها وقت التعاقد أو لتناقضها مع شروط مكتوبة.[(20)]
والقانون المدني الجديد وإن أخذ بالمذهب الثاني على النحو الذي طبقه القضاء فاعتبر هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أعطى للقاضي سلطة تعديل الشروط الجائزة أو الإعفاء منها، فالمادة (100) منه تنص على أن (القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل المناقشة فيها)، كما تنص المادة (149) على أنه إذا تم العقد بطريقة الإذعان وكان قد تضمن شروطًا تعسفية فإنه يجوز للقاضي أن يُعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقًا لما تقضي به العدالة ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك، كما تنص المادة (151) فقرة ثانية على أنه (لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضار بمصلحة الطرف المذعن).. على أننا نرى من المفيد أن ننقل أولاً مذكرة المشروع التمهيدي على المادة (149) ثم نتناول بعد ذلك سلطة المحكمة على ضوئها فلقد جاء فيها (تناول المشروع فيما تقدم بيان الأحوال التي يتم فيها التعاقد بطريقة الإذعان)، وقد قصد إلى التخفيف مما يلازم هذا الضرب من التعاقد من شدة وحرج، بالنسبة للعاقد المذعن فأقام لصالحه استثناءين من إحكام القواعد العامة في تفسير العقود فالأصل أن الحاجة إلى التفسير لا تعرض متى كانت عبارة العقد واضحة ففي مثل هذه الحالة تطبق شروط التعاقد كما أفرغت بيد أن الحكم يختلف فيما يتعلق بما يدرج في عقود الإذعان من الشروط الجائرة فالالتجاء إلى التفسير يتعين بشأنها، ولو كانت واضحة العبارة بينة السياق فمن واجب القاضي أن يثبت في هذه الحالة مما إذا كان العاقد قد تنبه إلى هذه الشروط فإذا استوثق من تنبه هذا العاقد إليها كما لو كان العاقد الآخر قد احتاط فجعل تلك الشروط مخطوطة باليد في عقد مطبوع، تحتم عليه أيضًا إمضاء حكمها رعاية لاستقرار المعاملات أما إذا تبين أن العاقد المذعن لم يتنبه إلى الشروط الجائزة فعليه أن يستبعدها وينزل على أحكام القواعد العامة، في هذا النطاق الضيق يطبق هذا الاستثناء فلا يبلغ الأمر حد استبعاد الشرط الجائر بدعوى أن المذعن قد أكره على قبوله، متى تنبه إليه هذا العاقد وارتضاه فالإذعان لا يختلط بالإكراه، بل إن التوحيد بينهما أمر ينبو به ما ينبغي للتعامل من أسباب الاستقرار ثم أن ما يولى من حماية إلى العاقد المذعن ينبغي أن يكون محلاً لأحكام تشريعية عامة، كما هو الشأن في حالة الاستقلال أو التشريعات خاصة. [(21)]
ولذلك فإن على القاضي أن يتبين أولاً ما إذا كانت عبارات العقد واضحة أم غامضة فإن كانت الأخير كان عليه أن يُطبق قواعد التفسير فلا تفسر هذه العبارات بما يضر مصلحة الطرف المذعن المادة (151) ف (2) أما إذا كانت العبارة واضحة فإن على القاضي أن يبحث ما إذا كانت هذه الشروط تطابق القواعد العامة أم أنها شروط جائرة تخالف في الكثير منها هذه القواعد وفي هذه الحالة يتعين التفرقة بين حالة معرفة الطرف الآخر لها وقبوله التعاقد عن علم بها أم أنه كان جاهلاً بها وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يكون للقاضي سلطة التعديل من هذه الشروط أو الإعفاء منها.
هذا وقد حكمت محكمة النقض المصرية في 25 مايو سنة 1950 بأن الشرط الوارد في عقد من عقود الإذعان لا يُقاس قبوله على قبول المكره ولم يجز القانون المدني للقاضي تعديل هذه الشروط أو الإعفاء منها إلا إذا كان شرط الإذعان تعسفيًا، وهذا الحكم تفسير للمادتين (100)، (149) مدني جديد ولم تجز محكمتنا العليا إبطال شرط من شروط عقد الإذعان بهذه الصفة فقط بل اشترطت أن يكون هذا الشرط تعسفيًا ولا شكل أن خير مقياس للتفرقة في هذه الحالة هو الرجوع للقواعد العامة لمعرفة مدى مطابقة الشرط أو مخالفته إياها.
وقد أخذ على هذا الحكم أنه لم يتبين حكمة التشريع فالمشرع قد رمى من وضع المادة (149) إلى أن يخرج القاضي عن وظيفته وهو تطبيق العقد إلى شيء آخر هو العمل على توازن شروط العقد بين العاقدين ليتعرف هل يوجد توازن حقيقي أم لا يوجد ومدى الإكراه الاقتصادي الذي انتهى بالعاقد إلى الإذعان. [(22)]
وعلى ذلك فإن على المحكمة أن تُطبق هذه القواعد على عقد النقل ونجد أن تطبيقها سيؤدي إلى الأخذ بذات الأحكام والمبادئ التي كان معمولاً بها، ولا زالت، والتي تفرق بين شرط عدم المسؤولية من ناحية وشرط تحديد المسؤولية من ناحية أخرى وكما تفرق من جانب بين حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس من جانب وحالة الخطأ اليسير من جانب آخر.
2 - شرط عدم المسؤولية: إذا اشترط أمين النقل هذا الشرط في بوليصة الشحن وارتكب بعد ذلك خطأ، سواء أكان مفرضًا أم مثبتًا، فما هو حكم هذا الشرط ؟ هل يترتب عليه براءة ذمته ؟ أم يعد شرطًا باطلاً لا أثر له فتطبق القواعد العامة السالفة الذكر ؟ هذا وقد يرتكب خطأ جسيمًا أو تدليسًا أو غشًا أو قد يرتكب مجرد خطأ يسير والحكم في الحالتين لا يمكن أن يكون واحدًا.
( أ ) الحالة الأولى: حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس: اختلف الرأي في فرنسا حول التسوية بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من جانب آخر فيذهب رأي إلى ضرورة أعمال التسوية بينهما في الحكم وأن شرط عدم المسؤولية مع قيام إحداها شرط باطل وأنه يتعين في هذه الحالة الرجوع للقواعد العامة للمسؤولية التعاقدية كما يرتكز أيضًا على أن قيام الغش والتدليس والخطأ الجسيم يجعلنا إزاء المسؤولية التقصيرية حيث يكون هذا الشرط باطلًل لأنه في الواقع إعفاء منها حيث تحرمه نصوص القانون وأحكامه أما الرأي الآخر فيفرق بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من جانب آخر ويكون أمين النقل في الأولى مسؤولاً مسؤولية تعاقدية يجوز معها الاتفاق على تعديل أحكامها أما في الأخيرة (الغش والخطأ الجسيم) فيكون أساس مسؤوليته هو المسؤولية التقصيرية التي لا يجوز الاتفاق على الإعفاء منها. [(23)]
هذا وتنص المادة (217) من القانون المدني الجديد:
(1 - يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة.
2 - وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو خطئه الجسيم ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسؤوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه.
3 - ويقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على العمل غير المشروع).
وهذه المادة تسوي بين الغش والخطأ الجسيم وتبطل شرط عدم المسؤولية حال قيام المسؤولية التقصيرية وتُجيز الاتفاق على تحمل المدين عبء القوة القاهرة وتبطل شرط عدم مسؤولية المدين ذاته عن غشه وخطئه الجسيم وإن إجازته عن الغش والخطأ الجسيم الذي يقع من تابعيه في تنفيذ التزامه.[(24)]
وإذا طبقنا حكم هذه المادة على مسؤولية أمين النقل لوجدنا أن شرط عدم المسؤولية الذي تشترطه مثلاً مصلحة السكة الحديدية في بوالص الشحن ترمي به إلى إعفائها من المسؤولية عن كافة الأخطاء، بما في ذلك الغش، التي يرتكبها تابعوها أو التي قد ترتكبها هي، وعلى ذلك فإنه يتعين تبيان مدلول الشرط وهو يرمي إلى الغاية السالفة الذكر، فإذا كان الغش أو الخطأ الجسيم منسوبًا إلى المصلحة ذاتها كشخص معنوي وكان الضرر المحقق الذي وقع نتيجة طبيعية لهما فإن شرط عدم المسؤولية يعد في هذه الحالة باطلاً وتكون المصلحة مسؤولة تطبيقًا للقواعد العامة أما إذا كان الغش أو الخطأ الجسيم منسوبًا إلى أحد عمالها فإن هذا الشرط يُعد شرطًا صحيحًا وواجب العمل به وتبرأ ذمة المصلحة في هذه الحالة، هذا ويجوز إثبات الغش والخطأ الجسيم بكافة الوسائل بما في ذلك البينة والقرائن إلا أنه يتعين على من يتمسك بهما أن يقدم الدليل المقنع للمحكمة على قيامهما ولا تكفي مجرد قرائن بسيطة أو افتراضات مجردة.
على أنه إذا كان الرجوع على أمين النقل مع وجود هذا الشرط على النحو الذي بيناه غير منتج لصحته فإن الراسل أو المرسل إليه يستطيع الرجوع على أساس قواعد المسؤولية التقصيرية على أن يثبت الخطأ الجسيم أو الغش قبل شخص معين من تابعي المصلحة وتكون المسؤولية مردها مسؤولية المتبرع عن الأخطاء التي تقع من تابعه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها (م 174) على أنه إذا أخذ بالمذهب الذي يقوم بعدم جواز الرجوع بالمسؤولية التقصيرية عند قيام المسؤولية التعاقدية فعندئذٍ لا يكون هنالك مجال للرجوع.
(ب) الحالة الثانية: حالة الخطأ اليسير: إذا كان الخطأ الذي ارتكبه أمين النقل خطأ يسيرًا فهل يكون شرط عدم المسؤولية صحيحًا أم باطلاً فتطبق القواعد العامة ؟ أم يكون من شأنه قلب عبء الإثبات ؟ لإمكان الإجابة على هذه الأسئلة فإن علينا أن نستعرض الحالة في فرنسا ثم في مصر.
1 - في فرنسا: في بادئ الأمر وعلى الأخص في الفترة ما بين سنة 1856، وسنة 1874 ذهب القضاء إلى القول ببطلان هذا الشرط لمخالفته للنظام العام والآداب ولكنه تعرض لموجة شديدة من النقد من جانب الفقه لمخالفته لقاعدة أساسية هي أن العقد شريعة المتعاقدين وأن هذا الشرط ليس فيه مخالفة للنظام العام أو الآداب فضلاً عن أن القانون الروماني كان يأخذ به في غير حالة الغش والخطأ الجسيم، ولذلك فلقد اضطر القضاء للعدول عن رأيه وهنا نجد اتجاهان أولهما الأخذ بصحة هذا الشرط وأنه يترتب على الأخذ به انتفاء المسؤولية التعاقدية وإن كان من الجائز الرجوع على أساس المسؤولية التقصيرية في حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس، أما الاتجاه الثاني فيذهب إلى القول بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء الإثبات فيفترض أن عدم تنفيذ الالتزام مرده القوة القاهرة وعلى الراسل أو المرسل إليه أن يثبت خطأ معينًا قبل أمين النقل.
ولقد جاء بحكم محكمة النقض الفرنسية في 22 يوليه سنة 1902 بأن شرط عدم المسؤولية عن التأخير أو التلف من شأنه أن يرفع المسؤولية عن عاتق الناقل ما لم يثبت الحكم قبله خطأ معينًا (دالوز 1902 - 1 - 33)، كما جاء في حكم آخر لنفس المحكمة صادر في 18 فبراير سنة 1902 بأنه إذا ورد بتعريفة شركة السكة الحديد شرط عدم المسؤولية عن التأخير والتلف أثناء الطريق وأن تحميل وتفريغ العربة يقع على عاتق الراسل أو المرسل إليه فإن هذا الشرط صحيح وأن الحكم الذي يقضي بمسؤولية الشركة عن التلف لسبب واحد هو أن الشركة لم تتخذ أثناء الطريق العناية الأولية ووقاية هذه البضائع من الأمطار فإنه حكم خاطئ يتعين نقضه (دالوز 1902 - 1 - 477). [(25)]
وقد رأى المشرع الفرنسي في سنة 1905 أن يضيف فقرة جديدة إلى المادة (103) من القانون التجاري الخاصة بمسؤولية أمين النقل في حالتي التلف والفقد الكلي أو الجزئي وهذه الإضافة الجديدة تقضي بأن كل شرط مخالف لأحكام هذه المادة مدون في بوليصة النقل أو أية ورقة أخرى يعد باطلاً، وقد صدرت هذه الإضافة بناءً على مشروع قانون اقترحه أحد أعضاء البرلمان السير رابيير وصدر التعديل في 17 مارس سنة 1905 والغاية منه تحريم شرط عدم المسؤولية في حالتي التلف والضياع المنصوص عليها في المادة (103)، ولكنه لم يتعرض من قريب أو بعيد للمادة (104) الخاصة بالمسؤولية في حالة التأخير ويرمي هذا القانون إلى استبعاد الأخذ بالأحكام التي كانت تعفي أمين النقل كلية من المسؤولية وكذلك الأحكام التي كانت تأخذ بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء الإثبات من على عاتق أمين النقل إلى عاتق الراسل أو المرسل إليه الذي كان يتعين عليهما طبقًا للقواعد السابقة إثبات خطأ معين قبل أمين النقل وهو عبء صعب إن لم يكن مستحيلاً فأراد الشارع بهذا التعديل أن يعفيهما من ذلك. [(26)]
2 - في مصر: لا يوجد قانون مماثل لقانون رابيير الفرنسي الصادر في 17 مارس سنة 1905، ولذلك يتحتم الرجوع للقواعد العامة في الالتزامات ونصوص القانون التجاري في عقد النقل ويكون الوضع هنا كالوضع في فرنسا قبل صدور قانون رابيير ويكون هذا الشرط صحيح في حالة الخطأ اليسير ولكن لا يؤخذ به في حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس - وما سبق أن قلناه عن حكم المادة (217) من القانون المدني الجديد عند الكلام على حكم شرط عدم المسؤولية، حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس يسري هنا من باب أولى، وقد سلمت بصحة هذا الشرط وضرورة العمل به في غير حالة الغش محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 16 مارس سنة 1950 في القضية رقم (96) تجاري سنة 60 قضائية والمنشور بمجلة التشريع والقضاء السنة الثانية العدد رقم (14) صـ 239 كما أخذ القضاء المختلط بصحة هذا الشرط وإن أجاز للراسل إثبات الخطأ الجسيم أو الغش قبل أمين النقل (بلتان س 41 صـ 119). [(27)]
3 - شروط تحديد المسؤولية: قد لا تذهب بوليصة النقل إلى حد اشتراط عدم مسؤولية أمين النقل مكتفية بتحديدها والتخفيف من آثارها فلقد تنص على أنه لا يُسأل عن الأضرار التي قد تترتب على تأخير شحن أو وصول البضاعة وهذا الشرط يرد غالبًا في التعريفة ذات الأجر المخفض فترتضى المصلحة سلفًا إنقاص أجر النقل عن سعره العادي في مقابل تحمل الراسل تبعة التأخير كما قد تشترط البوليصة أن يكون شحن وتفريغ العربات المعدة للبضائع بمعرفة الراسل أو المرسل إليه أو تشترط تحديد مسؤوليتها في حدود معينة بالنسبة للأشياء الفنية التي تقتضي رعاية خاصة كما أن أمين النقل قد يشترط في البوليصة تحديد التعويض الذي يستحقه الطرف الآخر بحد أقصى، وهذه الشروط إذا نظر لكل منها على حدة لوجدنا أنها شروط صحيحة لا تخالف القواعد العامة في شيء وقد تبدو للوهلة الأولى شديدة الوطأة في مجموعها، إلا أنه بتحليلها نجدها صحيحة ولذلك فإن كل ما يرد في البوليصة من هذه الشروط صحيح وملزم لطرفيه وهذا هو الرأي المعمول به في فرنسا سواء قبل صدور قانون رابيير سنة 1905 أو بعده.
ذلك أنه يتضح من الأعمال التحضيرية للقانون السالف الذكر وخاصة من التقرير الخاص به والمقدم لمجلس الشيوخ بأن المشرع لم يذهب إلى حد تعطيل حرية إرادة الطرفين، وإنما اقتصر على تحريم شرط عدم المسؤولية دون أن يحرم شرط تحديدها ولعل من المفيد أن ننقل هنا ما جاء في كتاب ليون كان ورينو في القانون التجاري (موسوعة الجزء الثالث طبعة سنة 1923 صـ 606).
(Mais il a été bien entendu, lors de la discussion de la loi
de 1909, que la liberté des conventions reste entière en ce qui
concerne les clauses limitant l’indemnité ou en fixant même
le montant (clauses pénales). De plus, comme les dispositions
prohibitives sont de droit étroit, il y a lieu d’admettre que les
clauses de non - responsabilité ne sont nulles que pour les cas
de perte ou d’avaries mais qu’elles continuent à être valables
pour le cas de retard. Cela résulte, du reste, de ce que la dis -
position nouvlle don’t il s’agit a été insérée dans l’artile 103
G. Com, qui ne traite que la responsabilité de la perte, et des
avaries, alors que l’art. 104 G. Com. s’occupe du cas de retard).
وقد جاء في حكم لمحكمة إكس بفرنسا صادر في 22 مارس سنة 1935 بأن الشرط المدون في البوليصة ومن مقتضاه تحديد مسؤولية شركة الملاحة إلى حد أقصى لا يتعداه مقدار التعويض مهما كان الضرر الذي يُصيب المدعي في حالة ضياع المال أو تلفه أو نقصانه شرط جائز ويجب العمل به إلا في حالة الغش والتدليس (منشور بالمحاماة السنة الرابعة رقم 322 صـ 350).
وكما سبق أن بينا أن محكمة النقض الفرنسية قد أكدت في أحكامها العديدة ضرورة الأخذ بالتعريفة وبالحدود الواردة فيها وأن لها قوة القانون وأنها ليست مجرد اتفاقات عادية، هي قانون المتعاقدين في عرف المادة (1134) مدني، ولكنها اتفاقات مدرجة في قرارات تنظيمية لها صفة القرارات بالأعمال الإدارية فتلزم جميع أصحاب الشأن
(La cour de cassation a
maintes fois affirmé que les tarifs ont force de loi, et même de
loi d’intérêt public (24 mai 1884. D. 87 -1- 477). D’autre part, les
tarifs ne sont pas non plus des simples conventions, faisant la
loi entre les partis, au sens de l’art. 1134 C. Civ. Ce sont des
conventions insérées dans des arrêts réglementaires, ayant le
caractère d’actes administratifs qui s’imposent à la volonté des
intéressés, c’est à ce titre qu’elles ont force obligatiories).
لاكور في موجز التجاري طبعة سنة 1921 جزء 1 بند 988 صـ 566.
ولهذا فإن شرط تحديد المسؤولية في فرنسا يعد شرطًا صحيحًا ويجب العمل به [(28)] أما في مصر فإن هذا الشرط يعد شرطًا صحيحًا ويجب الأخذ، فالنسبة لتحديد التعويض فقد بينا فيما سبق أن الرأي الثابت في فرنسا يذهب إلى القول بأن التعريفة لائحة إدارية تنظيمية يجب العمل بها وإنها تسري على الكافة ومن الناحية الأخرى فإننا إذا سايرنا الرأي الذي يذهب إلى القول بأن إحالة البوليصة للتعريفة يُعد شرطًا جزائيًا فإن الأخذ بهذا الرأي يؤدي إلى وجوب تطبيق حكم هذه التعريفة في الحدود التي وردت بها بخصوص التعويض وذلك أخذًا بأحكام المادة (123) من القانون المدني القديم، والمادة (225) جديد، هذا بالنسبة للتعويض عن الفقد أو التلف أما بالنسبة لحالة التأخير فسبق أن بينا أن مصلحة السكة الحديد تجعل الشحن في هذه الحالة على أساس التعريفة ذات السعر المخفض اللهم إلا إذا ارتضى الراسل شحن رسالته بالتعريفة العادية مع دفع أجر أزيد، وتشترط المصلحة في التعريفة المخفضة شرط عدم مسؤوليتها عن التأخير أو التلف وتصف المحاكم المختلطة وبعض الفقهاء، هذا الشرط بأنه تأمين على مسؤولية السكة الحديد مضاف إلى عقد النقل ذلك أنه إذا تعاقد أمين النقل مع الراسل، تبعًا للقواعد العامة، صار مسؤولاً عن تقصيره وتقصير عماله لكن أمين النقل لا يرغب تحمل هذه المسؤولية، ويفضل أن يتحمل هذه التبعة مؤمن ansurevr يكون مسؤولاً قبل المرسل إليه مقابل أن يدفع إلى هذا المؤمن جعلا prime، وبذلك يصير غير مسؤول عن التعويض بسبب الضياع أو العيب وهذا هو ما يحصل بالنسبة لمالك الطرد فهو يجمع بين صفتين فهو مرسل أولاً ومؤمن ثانيًا، لأن دفعه أجرة أقل من الأجرة العادية هو بمثابة استيلائه على جعل يعوض عليه خسارته فإذا ما وقع الخطر risque الذي هو موضوع التأمين فضاعت البضاعة أو تلفت وجب عليه أن يتحمل هذه الخسارة بصفته مؤمنًا.[(29)]
هذا وقد قضت محكمة دمنهور الجزئية في حكمها الصادر بجلسة 14/ 12/ 1946 في القضية رقم (346) مدني دمنهور سنة 1946 المرفوعة من عاطف كرشاه ضد السكة الحديد (حكم لم يُنشر) بصحة هذه الشروط فلقد جاء فيه (وحيث إنه ولو أن عقد النقل من عقود الانضمام إلا أنه تعاقد صحيح انعقد بإيجاب وقبول لا يشوبها شائبة فهو ملزم لكل من طرفيه ومن ثم كانت شروط النقل وتعريفته وهما ركنان من أركان العقد وقد قبله الراسل عند تعاقده واجبًا التطبيق)، وقد أشار الحكم لنظرية العقد للسنهوري باشا وإلى حكمين أشير لهما في نفس هذا الكتاب صادر أحدهما من محكمة الاستئناف المختلطة في 20/ 4/ 47، والآخر من محكمة إسكندرية المختلطة في 5/ 7/ 1929.
ثم استطرد الحكم قائلاً (وحيث إن البند (26) من تعريفة البضائع التي قبل النقل على شروطها كما سبق البيان قضت على أنها في حالة فقد أو تلف البضائع ومهما كان سبب هذا الفقد أو التلف (عدم استدلال - احتراق - ابتلاء بماء المطر) فالمصلحة لا تسأل إلا عن قيمة البضاعة الحقيقية شرطًا بأن التعويض الذي يدفع لا يتجاوز الحدود القصوى المبينة بعد وهي مقدرة على أساس وزن البضائع والدرجة التي قدرت عليها الأجرة فعلاً..)، ثم أخذ الحكم بنفس المبلغ الذي قدرته المصلحة على أساس التعريفة وقدره 20 جنيهًا و625 مليمًا والذي عرضته على المدعي فرفضه وقضت عليه (على المدعي) بمصاريف دعواه…، وقد تأيد هذا الحكم استئنافيًا من محكمة دمنهور الابتدائية الوطنية بجلسة 5 يونيه سنة 1947.
هذا وبالنسبة لشرط عدم مسؤولية مصلحة السكة الحديد عن الأضرار التي قد تصب المرسل إليه نتيجة تأخير شحن البصل من محطة التصدير مما يترتب عليه تلفه فقد عُرضت عشرات القضايا على محكمة الإسكندرية الابتدائية الدائرة الرابعة التجارية برياسة أحمد محمد حطب بك وعضوية عادل مرزوق بك ومحمود عباس الغمراوي بك وقد قضت في هذه الدعاوى بعدم مسؤولية المصلحة وبصحة الشرط أخذًا بما استقر عليه الفقه والقضاء في هذا الصدد هذا ما لم يثبت قبل أمين النقل غش أو تدليس أو خطأ جسيم يقرب بينهما.
(يراجع الحكم الصادر في يوم الأحد 29 إبريل سنة 1951 في القضية رقم (1129) سنة 1950 تجاري كلي المرفوعة من أحمد مرسي نصر ضد المصلحة وأحكام كثيرة مماثلة، وبهذا المعنى أيضًا محكمة إسكندرية التجارية الجزئية في الدعوى رقم (403) سنة 1947 (تجاري جزئي)، وذلك بتاريخ 9 يناير سنة 1949 وفي القضية المرفوعة من فؤاد أمين ضد المصلحة).
الدفع بعدم قبول الدعوى:
( أ ) القواعد العامة: لما كان طرفًا عقد النقل هما الراسل وأمين النقل والمرسل إليه هو مجرد مستفيد من مشارطة عقدت لصالحه فإن الحق في رفع الدعوى يكون قاصرًا على أحد هؤلاء الثلاثة فإذا باع الراسل أو المرسل إليه البضاعة أثناء الطريق فإن المشتري لا يحق له مقاضاة أمين النقل إلا بعد اتباع إجراءات الحوالة وهي في القانون المدني الجديد القبول الثابت التاريخ أو الإعلان على يد محضر (م 305 هذا وكثيرًا ما ترفع الدعوى مباشرةً على وزير المواصلات للمطالبة بتعويض عن عملية نقل قامت بها مصلحة السكة الحديدية وفي رأيي أنه لا تكفي تبعية المصلحة للوزارة لإمكان مقاضاتها لأن ذلك لا يبرر تخطي المصلحة التي لها الصفة الأولى في هذا الشأن والتي هي أحد طرفي العقد والدعوى في هذه الحالة يجب أن ترفع على أمين النقل فضلاً عن أن المصلحة لها كيان ذاتي ولها مجلس إدارة خاص ترفع قراراته ومقترحاته لمجلس الوزراء دون وزارة المواصلات.
هذا وكثيرًا ما يرفع أصحاب الشأن الدعوى على مدير عام مصلحة السكك الحديد بصفته هذه وعلى ناظر محطة الجهة المرسلة إليها البضاعة ونحن نرى أنه يجب التفرقة بين حالتين أولاهما إذا كان أساس رفع الدعوى هو نسبة خطأ معين ارتكبه ناظر المحطة الأمر الذي يجعله مسؤولاً ويجعل المصلحة مسؤولة بالتبعية عن الأخطاء التي ارتكبها أثناء تأدية وظيفته أو بسببها والتي كان من شأنها إلحاق الأذى بالمدعي في هذه الحالة ونكون في هذه الحالة إزاء قواعد المسؤولية التقصيرية (م 174 مدني جديد)، وثانيهما إذا كان أساس رفع الدعوى هو مجرد إحلال المصلحة في تنفيذ التزاماتها الناتجة عن عقد النقل وفي هذه الحالة فإننا نرى أن الدعوى ضد ناظر المحطة في هذه الحالة غير مقبولة لأنه لا يمثل المصلحة في هذه الحالة ولأنه لم يكن طرفًا في العقد ولأنه ليس مسؤولاً بصفة شخصية ما دامت لم تنسب إليه واقعة معينة هذا وقد قضت محكمة الاستئناف المختلط في 27 ديسمبر سنة 1923 محاماة سنة 4 رقم (662) صـ 884:
(( أ ) بأن الدعوى الشخصية التي ترفع على الحكومة المصرية ممثلة في شخص الوزير التابعة له المصلحة ذات الشأن وتكون مبنية على خطأ تسأل عنه الوزارة الرئيسية يجب أن ترفع أمام محكمة مصر التابع لها مركز الوزارة الرئيسية فإذا حدثت إصابة من إصابات السكك الحديدية وجب رفع الدعوى أمام محكمة مصر التابع لها وزارة المواصلات ولا مبرر لإدخال ناظر المحطة القريبة من محل الحادثة لاختصاص محكمة أخرى خصوصًا إذا لم يثبت بوجه من الوجوه وقوع أي خطأ من ناظر المحطة يترتب عليه مسؤوليته شخصيًا.
(ب) إن موظف الحكومة مهما كانت درجته لا يجوز إدخاله في الدعوى باعتباره خصمًا آجلاً فيها ما دام يعمل تحت أمر رئيسه الأعلى التابع هو له اللهم إلا إذا ثبت أنه مدان شخصيًا ومسؤول شخصيًا عن نتائج الفعل الذي أوقع الحكومة في المسؤولية معه على أنه لما كان الغرض من إدخال ناظر المحطة القريبة هو جعل الاختصاص لمحكمة مكان وصول البضاعة فإننا نرى أنه إذا كان أساس الدعوى هو المسؤولية التعاقدية البحتة فإنه يمكن الاستناد إلى المادتين (61) و(62) من قانون المرافعات الجديد لتحقيق هذه الغاية فلقد نصت أولاهما (في المواد التي سبق فيها الاتفاق على موطن مختار لتنفيذ عقد يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه أو الموطن المختار للتنفيذ)، وتنص الأخرى في المواد التجارية يكون الاختصاص لمحكمة المدعى عليه أو للمحكمة التي في دائرتها تم الاتفاق وتسليم البضاعة أو التي في دائرتها يجب الوفاء).
2 - القواعد الخاصة: نظرًا لمسؤولية أمين النقل الخاصة وكثرة الأعمال التي يُكلف بها ولصعوبة إثبات الضرر بعد مدة معينة رأى المشرع أن يضع قواعد خاصة بانقضاء مسؤوليته فلقد نصت المادة (99) من القانون التجاري (على أن استلام الأشياء المنقولة ودفع أجرة النقل مبطلان لكل دعوى على أمين النقل وعلى الوكيل في ذلك بالعمولة إذا كان العيب الذي حصل فيها ظاهرًا من خارجها، وأما إذا كان غير ظاهر فيجوز إثباته بمعرفة محضر أو شيخ البلد، ولكن لا تقبل الدعوى بالعيب المذكور إلا إذا حصل الإخبار بها في ظرف ثمان وأربعين ساعة من وقت الاستلام وقدم الطلب للمحكمة في ظرف ثلاثين يومًا ويُضاف إلى هذين الميعادين، ميعاد مسافة الطريق).
وهنا يجب أن نفرق بين حالتي العيب الظاهر وغير الظاهر وحالة رفض استلام البضاعة.
( أ ) حالة العيب الظاهر: وفي هذه الحالة يتعين على المرسل إليه أن يتحقق عند استلام البضاعة من خلوها من التلف والنقص في الوزن أو الكيل وله أن يطلب تعيين خبير لإثبات حالتها كما أن له أن يرفض استلامها فإذا استلمها دون أي تحفظ ودون القيام بأي إجراء من هذا القبيل فقد بطل حقه في المطالبة بالتعويض.
(ب) حالة العيب الخفي: أما إذا كان العيب خفيًا غير ظاهر فمجرد تسلمه البضاعة ولو دون تحفظ لا يسقط حقه في المطالبة بالتعويض كالفرض السابق بل أن القانون قد نص على إجراءات خاصة يجب اتباعها في هذه الحالة فأجاز إثبات العيب بمعرفة محضر أو شيخ بلد كما استلزم من المرسل إليه أن يخطر أمين النقل في ظرف ثمانية وأربعين ساعة من الاستلام بهذا العيب، على أنه إذا استطاع المرسل إليه أن يتبين العيب وقت استلام البضاعة وأبدى تحفظاته على إيصال الاستلام الذي قبله أمين النقل فإن هذا يغني عن الإخبار وإلى جانب هذا يشترط القانون في المادة (99) تقديم الطلب (المقاضاة) في ظرف ثلاثين يومًا ويترتب على الإخلال بهذه الأحكام أن تصبح الدعوى غير مقبولة.
(ج) حالة رفض استلام البضاعة: بقي فرض واحد هو امتناع المرسل إليه من استلام البضاعة سواء أكان العيب ظاهرًا أو خفيًا وفي هذه الحالة لا محل لتطبيق المادة (99) لأنها مقترنة بالتسليم وهو لم يتم ولذلك فإن حكم هذه الحالة يخضع لحكم المادة (104) الخاصة بتقادم الدعوى التي ترفع قبل أمين النقل.
تقادم الدعوى:
تنص المادة (104) من القانون التجاري على أن كل دعوى على الوكيل بالعمولة وعلى أمين النقل بسبب التأخير في نقل البضائع أو بسبب ضياعها أو تلفها تسقط بمضي مائة وثلاثين يومًا فيما يختص بالإرساليات التي تحصل في داخل القطر المصري وبمضي سنة واحدة فيما يختص بالإرساليات التي تحصل للبلاد الأجنبية ويبتدئ الميعاد المذكور في حالة التأخير أو الضياع من اليوم الذي وجب فيه نقل البضائع وفي حالة التلف من يوم تسليمها، وذلك مع عدم صرف النظر مما يوجد من الغش أو الخيانة.
ويجب أولاً عدم الخلط بين هذه المادة والمادة (99) فإن الأخيرة خاصة بحالة العيب واستلام المرسل إليه للبضاعة وقد رسم القانون في هذه الحالة إجراءات معينة، أما المادة (104) فتطبق في أحوال الضياع الكلي أو الجزئي والتأخير والعيب إذا امتنع المرسل إليه عن استلام البضاعة.
أما عن طبيعة هذه المدة أهي مدة سقوط dècheance لا تسري عليها أسباب الانقطاع أم هي مدة تقادم عادي فإن الرأي الراجح والمأخوذ به فقهًا وقضاءً هي أنها مدة تقادم عادي تقطعه الأسباب العادية كالإقرار ورفع الدعوى، على أن تطبيق القواعد العامة في التقادم تؤدي إلى أن الإنذار والدعوى المستعجلة بكافة إجراءاتها لا يقطعان هذا التقادم إطلاقًا (كامل مرسي باشا في التقادم طبعة سنة 1943 بند 237 ومؤلفه الجديد في الحقوق العينية الأصلية ج 4 بند (254)، 286 صـ 260 - بلانيول وربيير واسمان موسوعة القانون المدني الجزء الثالث صـ 686 بند (727)، صـ 687 هذا ولا ترد على هذه المدة أسباب الإيقاف التي لا تسري إلا على التقادم الذي يتجاوز مدته الخمس سنوات (م 382 مدني جديد، (84)، (85) قديم).
كما أن هذه المدة لا تسري في حالة الغش والخيانة ولكن يتعين على من يتمسك بهما أن يقدم الدليل المقنع للمحكمة على قيامهما وعلى أن من نتيجتهما إلحاق الضرر الطبيعي المحقق به وسبق أن بينا أن هنالك رأي يُلحق الخطأ الجسيم بالغش على النحو السالف بيانه في هذه الحالات فإن القواعد العامة للتقادم هي الواجبة التطبيق.
[(1)] السنهوري موجز الالتزامات طبعة سنة 1938 صـ 68، ومحمد صالح في التجاري طبعة سنة 1938 صـ 609، ورينيه روجر في النقل طبعة سنة 1922 صـ 6، الأعمال التحضيرية للمدني الجديد جـ2، صـ 69.
[(2)] السنهوري صـ 69.
[(3)] محمد صالح س 609.
[(4)] رينيه روجر س 7.
[(5)] رينيه رجر صـ 8 - 10، ومحمد صالح بند (542)، واستئناف مختلط 24 مايو سنة 1929 بلتان 36 صـ 370.
[(6)] نقض فرنسي 8 يوليه سنة 1889 دالوز 89 - 1 - 353، 18 نوفمبر سنة 1895 سيري 1895 - 1 - 385 ورينيه روجر صـ 12.
[(7)] محمد صالح صـ 611، 620.
[(8)] موجز القانون التجاري لليون كان (دالوز 1928 ) فقرة (374) صـ 218 وجان أسكارا موجز القانون التجاري طبعة سنة 1948 جزء أول بند (1070) صـ 647، ولا كور موجز التجاري طبعة سنة 1921 بند (988) صـ 566، صـ 569 وليون كان في موسوعة التجاري الجزء الثالث طبعة سنة 1923 1923 بند (748) وجوسران في عقد النقل طبعة سنة 1926 بند (165) صـ 177.
[(9)] الجدول العشري الأول لمجلة المحاماة البنود (1401)، (1402)، (1418) وعبد السلام ذهني في القانون التجاري الجزء الأول بند (240).
[(10)] محمد صالح بند (548)، جان اسكارتيه 1088 صـ 657.
[(11)] محمد صالح صـ 628.
[(12)] موجز الالتزامات للسنهوري باشا صـ 318.
[(13)] يراجع في ذلك أيضًا حكم استئناف إسكندرية في 5/ 2/ 1950 محاماة س 30 صـ 501.
[(14)] بحث الدكتور بهجت يدوي بك في مجلة القانون والاقتصاد السنة الثانية صـ 137 إلى 152 تحت عنوان تعليقات على الأحكام في المواد المدنية: مسؤولية الناقل في النقل بغير عوض.
[(15)] بحث الدكتور بهجت بدوي بك السالف الذكر.
[(16)] السنهوري باشا موجز الالتزامات بند (284) هامش (1) حشمت أبو ستيت في الالتزامات طبعة سنة 1945 بند (369) محمد صالح في أصول التعهدات طبعة سنة 1933 بند (44) صـ 42 - سليمان مرقص في نظرية دفع المسؤولية المدنية طبعة سنة 1936 (الباب الأول من القسم الثاني صفحة 187، 222 وما بعدهما - لاكور موجز التجاري طبعة سنة 1921 بند (1017) - جان أسكارا موجز التجاري جـ 1 صـ 658.
[(17)] محمد صالح القانون التجاري جـ 1 صـ 615 - لاكور موجز التجاري جـ 1 صـ 584 - أسكارا في موجز التجاري جـ 1 صـ 658.
[(18)] لاكور موجز التجاري جـ 1 طبعة سنة 1921 سنة 1921 بند (1018) صـ 584 وأسكارا في موجز التجاري جـ 1 صـ 658، وموسوعة القانون التجاري لليون كان ورينو الجزء الثالث طبعة سنة 1923 صـ 576 بند (600).
[(19)] يُراجع كتاب أسكارا السالف الذكر بند (1090) صـ 658.
[(20)] السنهوري باشا موجز الالتزامات صـ 67.
[(21)] مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجديد الجزء الثالث صـ 291.
[(22)] مجلة المحاماة سنة 31 قاعدة رقم (224) صـ 742 كما يراجع تعليق المجلة على هذا الحكم.
[(23)] موجز القانون التجاري ليونكاريه ولاكوست طبعة سنة 1947 بند (1041) صـ 367 - جان إز في المسؤولية عن نقل الأمتعة طبعة سنة 1936 صـ 163 وما بعدها، وبند (174) هامش صـ 166.
[(24)] الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجديد الجزء الثاني صـ 553.
[(25)] تراجع بنفس المعنى الأحكام المنشورة في دالو 1900 - 1 - 433، وتعليق مسيو سارو، 1901 - 1 - 190، 192 - 1 - 39.
[(26)] لاكور موجز التجاري جـ 1 طبعة سنة 1921 فقرة (1027) صـ 587 مجموعات دالوز موجز التجاري للاكور طبعة سنة 1928 بند (382) صـ 223 - بونكارية ولاكوست موجز التجاري طبعة سنة 1947 صـ 367، بند (1041) - جان أسكارا موجز تجاري جـ 1 بند (1092) صـ 661 ليون كان ورينو جـ 3 طبعة سنة 1923 بند (626)، (627) - مازو طبعة سنة 1950 جـ 3 بند (2557).
[(27)] علي الزيني القانون التجاري جـ 1 صـ 785 - عبد السلام ذهني بك القانون التجاري جـ 1 صـ 308 - كامل ملش في القانون التجاري جـ 1 صـ 115 - محمد صالح في القانون التجاري جـ 1 صـ 420.
[(28)] لاكور موجز التجاري جـ 1 فقرة (1028) - أسكارا في موجز التجاري جـ 1 بند (1093) - جان إز في المسؤولية عن نقل الأمتعة صـ 163 - ليون كان ورينو موسوعة التجاري جـ 3 طبعة سنة 1923 صـ 606، 594 - جوسران في عقد النقل طبعة سنة 1926 بند (639) مكررًا أربعة صـ 628 مازو في المسؤولية المدنية طبعة سنة 1950 بنود (2549) صـ 589، (2592) مكررًا (2).
[(29)] س مخ 26/ 1/ 22 بلتان 34 س 138، س مخ 6/ 4/ 1922 بلتان 34 صـ 298، س مخ 6/ 2/ 930 بلتان 42 صـ 260 - نظرية العقد للسنهوري باشا صـ 287 عبد السلام ذهني بك في القانون التجاري صـ 310.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)