بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

بحث مدى أحقية التاجر في الامتناع عن بيع سلعة مسعرة

مجلة المحاماة - العدد الرابع
السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954

بحث
مدى أحقية التاجر في الامتناع
عن بيع سلعة مسعرة
للسيد الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة أمن الدولة

1 - تمهيد:
من المعروف في علم الاقتصاد السياسي (نظرية الأثمان) أن الاقتصاديين الأحرار يرون أن ثمن السلعة يتحدد طبقًا لقانون العرض والطلب، ومن ثم فللتاجر أن يبيع بضاعته لأي شخص أراد وبأي ثمن شاء لا يرد على حريته قيد في هذا السبيل إلا أن الدولة - جريًا على فكرة التدخل في السياسة الاقتصادية - تعمل على شل تطبيق هذا القانون في بعض الأحوال لاعتبارات تقدرها، فحماية لبعض المستهلكين من عسف التجار ومغالاتهم في رفع الأسعار لسلعهم بغية الحصول على أكبر ربح ممكن رأى الشارع تسعير بعض المواد وبخاصة في السلع الضرورية للفرد فحدد لها ثمنًا لا يجوز للبائع أن يتعداه عند بيعه لها وهو ما يعبر عنه بالتسعير الجبري.
2 - موضوع البحث:
ولقد صدر في 4 أكتوبر سنة 1945 المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 الخاص بشؤون التسعيرة الجبري فنص في مادته السابعة (المعدلة بالقانون رقم 132 سنة 1948) على عقاب كل من باع سلعة مسعرة أو محددة الربح في تجارتها أو عرضها للبيع بسعر أو ربح يزيد على السعر أو الربح المحدد أو امتنع عن بيعها بهذا السعر أو الربح.
ولما أُلغي هذا المرسوم بقانون واستبدل به المرسوم بقانون رقم (163) سنة 1950 الصادر في 3 سبتمبر سنة 1950 ورد في مادته التاسعة النص على عقاب كل من باع سلعة مسعرة أو معينة الربح أو عرضها للبيع بسعر أو ربح يزيد عن السعر أو الربح المعين أو امتنع عن بيعها بهذا السعر أو الربح أو فُرض على المشتري شراء سلعة أخرى معها أو علق البيع على أي شرط آخر يكون مخالفًا للعرف التجاري.
وظاهر أن النص الجديد يغاير النص القديم مما دعانا إلى البحث في مدى أحقية التاجر في الامتناع عن بيع سلعة مسعرة وهل يجوز له ذلك إبان تطبيق المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 أو في ظل المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 المعمول به الآن أم لا ؟
3 - المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945:
أما المرسوم بقانون رقم (96) لسنة 1945 فلقد وردت صياغة مادته السابعة مطلقة من كل قيد مؤكدة عقاب كل تاجر يمتنع عن بيع سلعة مسعرة بسعرها الرسمي، ومن ثم فلا يسوغ له أن يمتنع عن بيعها لأي سبب كان، ولقد جاء في تفسير هذه المادة حكم من أحكام محكمة النقض والإبرام في القضية رقم (238) سنة 18 قضائية بتاريخ 23 فبراير سنة 1948 (متى كانت السلعة محددة السعر وعرض المشتري الثمن المحدد على البائع وجب على هذا الأخير أن يبيعها ولا يحتمل النص أن يباح للبائع أن يتعلل في الامتناع عن البيع بأية علة ثم يقول إن هذه العلة هي سبب امتناعه - ذلك لأن القانون أراد أن يخرج على الأصل في حرية التجارة لتدبير وسائل العيش الضرورية للناس فحدد أثمان بعض الحاجيات وأرغم التجار أن يبيعوها بهذا السعر وألا يحق لهم الامتناع عن البيع به…) [(1)]
4 - المرسوم بقانون رقم (163) سنة 1950:
ويبدو من المادة التاسعة من المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 أن المشرع ينص على أن كل من يمتنع عن بيع سلعة مسعرة بسعرها الرسمي أو يفرض على المشتري شراء سلعة أخرى معها أو يعلق البيع على أي شرط آخر يكون مخالفًا للعرف التجاري فإنه يقع تحت طائلة العقاب.
وبمطالعة المذكرة الإيضاحية note explicative المؤرخة 23 أغسطس سنة 1950 التي أجرتها وزارة التجارة والصناعة ورفعتها إلى مجلس الوزراء في شأن هذا التشريع - لم يرد فيها للأسف الشديد أية إشارة لهذا النص الجديد أو السبب الذي دعا إلى صياغة المادة التاسعة على النحو السابق.
وبالبحث في ثنايا أحكام محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية لم نعثر على حكم متعلق بتفسير هذه المادة.
وإذا كان المشرع المصري قد سن هذه المادة ولم يبين الغرض المقصود منها في المذكرة الإيضاحية، وإذا كان قضاء محكمتنا العليا لم يتعرض بعد لهذه المادة لاستيعاب مضمونها فقد وقع العبء كله على رجال الفقه المصري للتعليق على هذه المادة يفسرها ويوضح أوجه تطبيقها.
ويلوح لي من تلاوة هذه المادة أن المشرع خلص بطريق العلم أن النص القديم قد أوجد صعوبات في العمل إذ شُل يد التاجر كليةً عن حقه في التصرف في بضاعته فأراد أن يخفف من غلواء هذا النص الذي وضع خارجًا على حرية التجارة مخالفًا قانونًا اقتصاديًا في نظرية الأثمان مما حدا به إلى النص في المرسوم بقانون (163) سنة 1950 على عقاب كل بائع يعلق بيع سلعة مسعرة على أي شرط يكون مخالفًا للعرف التجاري ومضمون ذلك بمفهوم المخالفة á contrario أنه يجوز للبائع أن يعلق البيع على أي شرط يكون متفقًا مع العرف التجاري ومن ثم فيباح له الامتناع عن البيع للسلعة المسعرة إذا لم يقبل المشتري تنفيذ شرط وضعه البائع متفق مع العرف التجاري.
ويجب الرجوع إلى فقه القانون التجاري في تفسير العرف التجاري L’usage cemmercial الذي يكون الشرط الذي يضعه البائع ويعلق عليه بيع سلعته مسعرة متفقًا معه وبالتالي لا تثريب عليه إذا امتنع عن البيع لعدم قبول المشتري تنفيذ هذا الشرط.
والعرف التجاري ويسمى أيضًا بالضمير العام للسوق la concieuse générale de la place من أهم مصادر القانون التجاري وهو ناشئ منذ اللحظة التي تتحول فيها الشروط الصريحة المكتوبة إلى شروط ضمنية وتصير بفضل اتباعها بوجه عام منفصلة عن الاتفاق الصريح وقائمة باعتبارها نصًا موضوعيًا ضمنيًا.
ويقسم الأستاذ (جان اسكارا) أستاذ القانون التجاري بجامعة باريس في مؤلفه Mamuel de droit commercial العرف التجاري إلى قسمين:
( أ ) عرف واقعي أو اتفاقي ueage de fait ou conventionnel وهو شرط حقيقي ضمني مفهوم دون حاجة إلى النص عليه في الاتفاق veritable clause sous entendue ومثاله التقليدي طريقة حزم أو وزن أو تسليم البضاعة ومسموح الوزن، وهو شرط واجب التنفيذ ما لم يرد في الاتفاق المبرم نص يخالفه.
(ب) عرف قانوني ueage de droit وله قوة القاعدة القانونية الملزمة يكونه التوافق العام للمجتمع التجاري دون حاجة إلى النص عليه في الاتفاق مثل اعتبار التضامن مفروضًا في المواد التجارية.
ويمكن الاستئناس بآراء الغرف التجارية المختلفة chambre de commerce لمعرفة ما إذا كان الشرط الذي يفرضه التاجر على المشتري ويعلق بيع سلعة مسعرة عليه متفقًا مع العرف التجاري أم مخالفًا له إذ أن هذه الغرف تدرك أولاً بأول ما تعارف عليه التجار.
5 - خاتمة:
وفي الختام يمكننا أن نؤكد في هذا الصدد أنه لا لوم على التاجر إذا أراد أن يعلق بيع سلعة مسعرة على شرط يكون متفقًا مع العرف التجاري، كما أنه لا جريمة إن امتنع عن بيع تلك السلعة المسعرة إذا لم يقبل المشتري تنفيذ الشرط الذي وضعه التاجر متفقًا مع العرف التجاري.


[(1)] مجموعة القواعد القانونية المواد الجنائية الجزء السابع رقم 547 صـ 506.

بحث سوء النية في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد

مجلة المحاماة - العدد الخامس

السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954

بحث

سوء النية في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد

للسيد الأستاذ صلاح الدين عبد الوهاب وكيل نيابة الدرب الأحمر

القصد الجنائي:

إن مناط التجريم هو توافر القصد الجنائي لدى الجاني وذلك في الجرائم جميعًا على السواء - والقصد الجنائي قد يكون عامًا أي أن يتعمد الجاني ارتكاب الفعل المكون للركن المادي للجريمة عالمًا أن القانون يحرمه - وهذا النوع من القصد هو القدر اللازم في أغلب الجرائم العمدية حيث يكتفي القانون بمجرد ارتكاب الفعل مع الإرادة وقد يكون القصد الجنائي خاصًا فلا يكتفي القانون في جرائم معينة بمجرد ارتكاب الفعل المادي عن إرادة كاملة بل يستلزم فوق ذلك أن يكون ارتكاب الفعل لغرض خاص.

ففي هذه الحالات لا يتوافر القصد الجنائي إلا إذا كان ارتكاب الفعل تحقيقًا لهذا الغرض الخاص وبذلك قد يدخل الباعث في تكوين القصد الجنائي ويؤثر في الجريمة وجودًا وعدمًا.

ولا يُفهم من ذلك أن فكرة القصد الخاص dol speciale قاصرة على الحالة التي يمتزج فيها القصد بباعث من لون خاص هو نية الإضرار intention de nuire وإنما يكون القصد خاصًا كلما تطلب المشرع لتحقق ركن العمد أن تتوفر لدى الجاني النية أو الرغبة في تحقيق نتيجة معينة هي ضارة في ذاتها - بغض النظر عن تقدير الجاني لها واعتباره الشخصي إياها - وهنا لا قيام للمسؤولية الجنائية على أساس العمد إلا بتوافر القصد الخاص الذي نص عليه المشرع أي أنه يمكن القول إن التجريم يكون منصبًا على النتيجة الضارة التي تحوط المشرع لها بالنص على العقاب عند توافرها.

والمشرع قد يفصح عن استلزام القصد الجنائي ممتزجًا بالباعث الخبيث أي نية الإضرار (مثال ذلك) في جريمة البلاغ الكاذب (م 305 ع) وجريمة الإتلاف (م 361 ع) وجريمة إعطاء شيك لا يقابله رصيد قائم (م 337 ع) حيث يشترط في الأولى سوء القصد وفي الثانية قصد الإساءة وفي الثالثة سوء النية أو ممتزجًا بالرغبة في تحقق النتيجة الضارة المعينة كما في جريمة تعذيب متهم (م 126 ع) وجريمة النصب (م 336 ع) حيث يشترط في الأولى أن يكون التعذيب بقصد حمل المتهم على الاعتراف وفي الثانية أن يكون الاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها.

فإذا لم يكن اشتراط القصد الخاص منصوصًا عليه صراحةً كما في الأمثلة السابقة فإن طبيعة الجريمة قد توحي بالقول باستلزام هذا القصد كما في السرقة وجرائم القتل العمد والتزوير حيث يلزم أن يقترن القصد الجنائي بالنتيجة الضارة بل إن مناط التجريم في هذه الأنواع من الجرائم هو حدوث هذه النتيجة الضارة بذاتها.

القصد الجنائي في جريمة النصب:

تنص المادة (336) من قانون العقوبات على أنه (يعاقب بالحبس وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا مصريًا أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أي متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها أما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بخصوص ربح وهمي أو تسديد المبلغ الذي أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور - وأما بالتصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكًا له ولا له حق التصرف فيه وأما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة.

وهذه المادة على الوجه المتقدم إنما تبين بجلاء أن القصد الجنائي الذي استلزم المشرع توافره في جريمة النصب إنما هو قصد خاص - فلا يكتفي مجرد علم الجاني بأن الادعاءات التي يدعيها كاذبة بل يجب أن تتصرف نيته إلى الاستيلاء على جزء من ثروة الغير [(1)].

فالقصد الجنائي في جريمة النصب مركب من عنصرين:

الأول: العلم بالاحتيال.

والثاني: نية الاستيلاء على ثروة الغير.

أما عن العنصر الأول - وهو العلم بالاحتيال - فيجب أن يأتي الجاني الفعل وهو عالم بأنه كاذب ومضلل - فإذا كان الجاني يعتقد صحة ما يفعله أو يدعيه فلا عقاب ولو كان اعتقاده خاطئًا، وتذهب بعض الأحكام إلى أن استعمال الطرق السحرية ينهض بذاته دليلاً على سوء القصد في جريمة النصب ولكن يجب البحث دائمًا عن حقيقة اعتقاد الجاني وعليه هو إثبات حسن نيته ومتى ثبتت يتعين البراءة [(2)] والرجوع إلى اعتقاد الجاني يستشفه قاضي الموضوع من بين ثنايا التحقيق وأقوال المتهم.

أما عن العنصر الثاني وهو قصد الاستيلاء على جزء من ثروة الغير - فيفهم منه أنه يجب أن يقصد الجاني من طرق الاحتيال التي يستعملها أن ينتزع جزءًا من ثروة الغير وأن يستولى عليه ويضيفه إلى ملكه دون حق - وتطبيقًا لذلك حكم بأن المادة (336) لا تنطبق على من ينتحل صفة ليست له بقصد حمل بائع على تقسيط ثمن شيء مبيع دفع بعضه معجلاً ثم قام بسداد باقي الأقساط ولكنه عجز في النهاية عن دفع باقيها لأن اتخاذ الصفة الكاذبة لم يقصد به في هذه الحالة سلب مال المجني عليه وإنما قصد به أخذ رضاء البائع بالبيع بثمن بعضه مقسط وبعضه حال، وتكون العلاقة بين البائع والمشتري علاقة مدنية بحتة وليس فيها عمل جنائي [(3)] ومن هذا يظهر لنا أن القصد الجنائي في جريمة النصب وهو قصد خاص بمعنى أنه يجب أن يقصد الجاني الاستيلاء على جزء من ثروة المجني عليه - فإن هذا القصد لا يتوافر والجريمة لا تقوم متى تخلف عنصره الثاني ولو كان المتهم عالمًا بأنه يستعمل أساليب احتيالية للاستيلاء على الشيء كما لو كان يقصد الاستيلاء على شيء معين مزاحًا - وتقدير قصد المتهم أمر تعنى به محكمة الموضوع ويجب أن تستدل على وجوده من ظروف الجريمة وملابساتها جميعًا.

القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها في المادة (337) عقوبات:

تنص المادة (337 ع) على أنه يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى بسوء نية شيكًا لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب أو كان الرصيد أقل من قيمة الشيك أو سحب بعد إعطاء الشيك كل الرصيد أو بعضه بحيث يصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه الشيك بعدم الدفع.

وقبل أن نتكلم عن القصد الجنائي في هذه الجريمة بما يندرج تحته حتمًا الكلام عن معنى عبارة (سوء النية) الواردة بالمادة (337) المذكورة - يحسن أن نفسر معنى كلمة الشيك.

أولاً: ما تنص عليه المادة (193) تجاري:

تنص المادة (193) من القانون التجاري على أنه (إذا أثبت من حرر الحوالة الواجبة الدفع بمجرد الاطلاع عليها أو من حرر الورقة المتضمنة أمرًا بالدفع أن مقابل وفائها كان موجودًا ولم يستعمل في منفعته فحاملها الذي تأخر في تقديمها تضيع حقوقه التي على محررها المذكور.

والحوالة الواجبة الدفع بمجرد الدفع بمجرد الاطلاع عليها كما نصت المادة (193) تجاري إن هي إلا الشيك باعتباره أداة وفاء تقوم مقام النقود - ومعنى كونه أداة وفاء أن حامله ملزم بحسب الأصل أن يتوجه لصرف قيمته في يوم استحقاقه الذي هو يوم سحبه أيضًا.

فإذا تأخر المستفيد عن ذلك اليوم وتوجه للبنك المسحوب عليه فلم يجد له مقابل وفاء فقد أباح القانون التجاري لمحرر الشيك أن يثبت أن مقابل الوفاء كان موجودًا في وقت تحريره وأنه لم يستعمل في منفعته - وإذا استطاع إثبات ذلك فإن المسحوب له الشيك يتحمل مغبة إهماله في صرف قيمته وتأخره في ذلك.

ويلاحظ أن المادة (171) تجاري قضت بوجوب تقديمه للدفع في ظرف خمسة أيام محسوبًا منها اليوم المؤرخ فيه إذا كان مسحوبًا من البلدة التي يكون الدفع فيها - وأما إذا كان مسحوبًا في بلدة أخرى وجب تقديمه في ظرف ثمانية أيام محسوب منها اليوم المؤرخ فيه خلاف مدة المسافة.

وسبب تقصير هذه المواعيد هو رغبة المشرع في أن لا يلزم الساحب بالمحافظة على مقابل الوفاء لدى المسحوب عليه إلى ما لا نهاية حتى لا تتعرض بنوك الودائع لدفع مبالغ جسيمة في أوقات الأزمات أو الذعر المالي فتقدم إليها شيكات مسحوبة منذ عدة أسابيع أو شهور [(4)].

ثانيًا: الشيك في حكم المادة (337 ع):

وإذ أن المادة (337 ع) نصت على عقوبة إعطاء شيك بدون رصيد فإنه يجب تفسير (كلمة الشيك) بحيث تتسق مع تفسير القانون التجاري لها - وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه متى كان الحكم قد أثبت أن الشيك قد استوفى الشكل الذي يتطلعه القانون لكي تجري الورقة مجرى النقود - فإنه يعد شيكًا بالمعنى المقصود في حكم المادة (337 ع) ولا يؤثر في ذلك أن يكون تاريخه قد أثبت على غير الواقع ما دام أنه هو بذاته يدل على أنه مستحق الأداء بمجرد الاطلاع عليه - ذلك بأن المشرع إنما أراد أن يكون الشيك ورقة مطلقة للتداول وفي حمايتها حماية للجمهور والمعاملات [(5)].

والشيك الذي لا يطابق تاريخ إصداره التاريخ الحقيقي الذي حصل فيه الإصدار يسمى الشيك ذو التاريخ المقدم chéque postdaté - وقد ذهبت معظم الأحكام الفرنسية أن تقديم التاريخ أي ذكر تاريخ الإصدار على خلاف الواقع لا يرفع عن المحرر صفة الشيك وتسري على الساحب المادة (337) عقوبات متى ثبت سوء نيته [(6)] ومن هذا نرى أن القضاء الجنائي المصري والفرنسي لا يتقيد في تفسير لفظ الشيك بكونه مستكملاً كافة شرائط صحته أو غير مستكمل ما دام أن الشيك بحسب ظاهره يفيد أن الدفع بمجرد الاطلاع - فإذا كان للشيك تاريخان تاريخ إصدار وتاريخ استحقاق وثبت كلا التاريخين عليه فإن هذه الورقة بحسب ظاهرها تنتفي عنها صفة الشيك ولا تعدو أن تكون ورقة ائتمان كالكمبيالة فيها ذاتها ما يحول دون التعامل بها بغير صفتها هذه [(7)] ولنا على هذا النظر تعليق وهو أنه إذا ثبت من أي طريق أن الشيك صدر من الساحب في تاريخ سابق على التاريخ الثابت عليه كتاريخ للإصدار أي إذا ظهر حقيقة أن الشيك مقدم التاريخ فنرى أن هذا الوضع لا شك يؤثر في مسؤولية الساحب عندما يتبين أن لا رصيد له تحقيقًا أو إسقاطًا بحسب الظروف والأحوال.

فإذا كانت محكمة النقض المصرية قد قضت أن سوء النية المطلوب في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد قابل للسحب يتحقق بمجرد علم صاحب الشيك أنه وقد تم تحريره ليس له مقابل وفاء [(8)] فإن معنى ذلك أن علم الساحب بعدم وجود مقابل وفاء له وقت إصداره الشيك ينهض دليلاً على توافر سوء النية لديه ومن ثم تنطبق عليه المادة (337 ع) - إذا كان هو نظر محكمتنا العليا فلا شك أنه في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم يكون من صالح المتهم أن يثبت أنه وقت إصداره الشيك في التاريخ الحقيقي الذي لم يذكر في الشيك كتاريخ للإصدار بل ذكر تاريخ لاحق له - من صالحه أن يثبت أن في ذلك التاريخ كان مقابل الوفاء المستكمل للشروط موجودًا لحساب الساحب ولكننا للأسف نرى أن محكمة النقض ترى أنه لا يُجدي المتهم (ساحب الشيك) أن يثبت أن تحريره إنما كان في تاريخ سابق فطلبه تحقيق ذلك لا يكون مستأهلاً ردًا صريحًا [(9)].

ثالثًا: الأعمال التحضيرية للمادة (337 ع):

كانت المادة (337 ع) بحسب نصها في المشروع تقضي بأنه (يحكم بهذه العقوبات على كل من أعطى شيكًا (مع علمه) بأنه لا يقابله رصيد قائم وقابل للسحب.

وبجلسة 26 يوليو سنة 1937 طرحت هذه المادة بنصها السابق على مجلس النواب فقام النائب عبد المجيد الرمالي واقترح إضافة عبارة (بسوء نية) إلى نص المادة وعلق على ذلك بقوله إنه جرت العادة في الوقت الحاضر تأثرًا بظروف الأزمة على التعامل بالشيكات فتكتب لآجال معينة على أن تدفع في مواعيد الاستحقاق وقد يحل الموعد ويتعذر صرف الشيك لعسر التاجر - مع أنه كان حسن النية وقت تحريره فهل من الإنصاف أن توقع عليه عقوبة الحبس) وقد وافق وزير المالية وقتئذٍ على هذا الاقتراح بإضافة عبارة (بسوء النية) لكن مع حذف عبارة (مع علمه) لأن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم.

وقد قام النائب الأستاذ كامل صدقي وقال إنه لا يستطيع التفرقة بين سوء النية وبين العلم - وأضاف أنه لا يفهم أن شخصًا يجهل مقدار رصيده في البنك ثم هو مع هذا الجهل يعطي شيكًا ويفترض فيه بعد ذلك حسن النية - وهل يمكن التفريق في هذه الحالة بين سوء النية والعلم.

فقام وزير المالية وقال - أضرب مثلاً لما تساءل عنه حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي فمن الجائز أن يحرر شخص شيكًا وهو يعلم أنه ليس له رصيد في البنك ولكنه ينتظر أن يكون له رصيد في موعد الدفع يفي بصرف قيمة الشيك - فليس في هذا جريمة وإن كان فيه إهمال ظاهر - فلا نكن ملكيين أكثر من الملك فنصدر قانونًا أشد حكمًا من القانون الفرنسي الذي اقتبسنا منه حكم هذه المادة، وفي ظني أن حضرة النائب الأستاذ كامل صدقي يسلم معي بأنه قد يكون هناك علم ولا يكون سوء نية فيحسن إلا نأخذ الأمور طفرة وأن نترك التقدير للقاضي فإذا اتضح له سوء النية أصدر حكمه بالعقوبة.

وقد وافق جميع النواب على المادة بتعديلها المذكور مع التفسير الذي أراده وزير المالية - موافقة إجماعية.

ومما تقدم يتبين أن استبدال عبارة (بسوء نية) بعبارة (مع علمه) التي كانت تتضمنها هذه المادة في مشروع القانون إنما يعني اختلاف العبارتين معنى ومبنى فالعلم لا ينهض دائمًا دليلاً قاطعًا على سوء النية كما يظهر من المناقشات التي ذكرناها آنفًا - ويجب إذن أن نتقيد بالمعنى الذي ذهبت إليه السلطة التشريعية عند إقرارها للنص من أن سوء النية يشمل العلم وعدم العلم - ولكن العلم قاصر وحده عن إثبات توافر سوء النية الذي استلزم النص توافره كما يبدو.

رابعًا: تفسير سوء النية:

وإذا استقام كل ما تقدم وكان هذا هو ما ذهبت إليه مناقشات مجلس النواب وانتهى إليه قرار النص على الوجه الحالي على معنى اختلاف سوء النية عن العلم - فإنه يبدو أن محكمة النقض المصرية لا ترى هذا الرأي إذ أنها حكمت أن الجريمة المنصوص عليها في المادة (337 ع) تتحقق متى أصدر الساحب الشيك وهو يعلم وقت تحريره بأنه ليس له مقابل وفاء قابل للسحب وقد قصد المشرع بالعقاب على هذه الجريمة حماية الشيك باعتباره أداة وفاء تجري مجرى النقود في المعاملات فهو مستحق الأداء لدى الاطلاع دائمًا - ولهذا فلا يؤثر في قيام الجريمة بالنسبة إلى الساحب أن يكون المسحوب له على علم بحقيقة الواقع - فإذا قضت المحكمة ببراءة المتهم استنادًا إلى أنه كان يأمل لأسباب مقبولة في وجود هذا الرصيد عند تقديم الشيك لصرفه وأن المجني عليها كانت تعلم وقت قبولها الشيك بأنه لا يقابله رصيد مما تنتفي به الجريمة إذ لا يكون محتالاً عليها - فإنه يكون قد أخطأ [(10)].

ونرى أنه إذا كان هذا النظر يستقيم في حالة من حالات سحب الشيك فإنه قطعًا لا يستقيم في حالات أخرى إذ أن كون الشيك بحسب الأصل ورقة واجبة الدفع بمجرد الاطلاع وتقوم مقام النقود في المعاملات فإنه يحدث أحيانًا في الحياة العملية بل وكثيرًا وفي الغالب أن لا تكون هذه الورقة مستحقة الدفع لدى الاطلاع كما في حالة الشيك ذو التاريخ المقدم - ولا شك أننا من ناحية القانون إن لم نرَ في هذا الشيك ما يعيبه بوصفه شيكًا يدخل في حدود نص المادة (337 ع) - فلا أقل من أن نسمح للساحب (المتهم) أن يثبت أنه وقت سحب هذا الشيك كان لديه رصيد (مقابل وفاء) مستكمل للشروط وأنه لم يسحب هذا الرصيد كله أو بعضه بعد ذلك وإلا كان مستحقًا العقاب أيضًا بنص المادة وإنما أصبح هذا الرصيد غير قابل للصرف بسبب لا دخل لإرادته فيه كالحجز عليه مثلاً من دائني الساحب وهذا ما تشير إليه المادة (193) تجاري التي سردنا نصها آنفًا وإذا استطاع الساحب إثبات ذلك وجب أن تنقضي الجريمة - هذا التفسير هو ما تقتضيه العدالة والذوق القانوني السليم وهو تفسير لا يترك مجالاً للقول بوجود فارق بين روح القانون التجاري والجنائي - هذا الأخير الذي يعني في المادة (337) الشيك بمعناه الوارد بالمادة (193) تجاري.

الصورة الأولى: حالة الشيك ذو التاريخ الصحيح:

أي أن يكون التاريخ الثابت على الشيك هو نفس التاريخ الذي أعطي فيه الشيك فعلاً وفي هذه الحالة الأصل أن مجرد العلم بعدم وجود رصيد كافٍ يتضمن سوء النية - إذ أن الشيك وقد حرر في التاريخ الثابت عليه فإن (الحامل) أو المسحوب له في حل من التوجه لصرف قيمته في الحال - فإذا تبين أن ليس للساحب مقابل وفاء أو أن مقابل الوفاء غير كافٍ لتغطية قيمة الشيك فإن علم الساحب بذلك يعتبر دليلاً على سوء نيته.

وإنما أيضًا يحق للساحب إثبات حسن نيته بأنه كان يجهل عدم استكمال مقابل الوفاء للشروط

اللازمة لصرفه وأن جهله كان مبنيًا على أسباب معقولة ومستساغة - إذ أن القاضي الجنائي وهو يحكم باقتناعه يجب أن تترك له حرية استخلاص سوء النية وبالتالي وجود القصد الجنائي أو عدم وجوده من ظروف وملابسات الواقعة المعروضة عليه - فإن رأى توافر هذا القصد حكم بالعقاب وإلا فيحكم بالبراءة - وقد يعتبر أحيانًا الإهمال الفاحش في هذا السبيل قرينة على سوء النية [(11)].

الصورة الثانية: حالة الشيك ذي التاريخ المقدم chéque postdaté:

أما في حالة تأخير التاريخ عن اليوم الذي أعطي فيه الشيك فعلاً فإنه مجال إثبات حسن النية والدفع به كبير في هذه الصورة وهذا هو ما يُستنتج من سياق المناقشة التي دارت بمجلس النواب عن المادة (337 ع) والتي سردنا جانبًا منها قبل ذلك - فإذا استبان القاضي أن الساحب عند إصداره الشيك في التاريخ الذي أعطي فيه فعلاً ولو كان سابقًا على تاريخ الاستحقاق انصرفت نيته إلى عدم دفع قيمة الشيك وتضييع حق المسحوب له حكم بالعقاب لتوافر عنصر سوء النية - وإن استنتج من وقائع الدعوى وظروفها أن عدم صرف قيمة الشيك إنما جاء بناءً على أمر خارج عن إرادة الساحب فإنه ولو كان قد أخطأ وكان خطأه مؤسسًا على اعتقاد حسن ونية سليمة منه فإن العقاب غير واجب.

وهاتان الصورتان إنما نتكلم عنها في حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته - أما في حالة سحب الرصيد وحالة الأمر بعدم الدفع فإن في نفس العمل الذي يتضمن كل منهما دليل على توافر سوء النية - واستخلاص ذلك سهل ميسور لقاضي الموضوع ولا تثير الإشكال الذي تثيره الحالة الأولى وهي حالة انعدام الرصيد أو عدم كفايته.

خامسًا: نص المادة (337 ع) صورة من صور النصب:

ونرى أن إلحاق نص المادة (337 ع) بنص المادة (336 ع) التي تتكلم عن جريمة النصب والتي سبق أن أبنا القصد الجنائي فيها وأنه يتكون من عنصرين - نرى أن إلحاق المادة الأولى بالثانية في حكم العقاب اعتبار من المشرع أن جريمة إعطاء شيك بدون رصيد صورة من صور جريمة النصب أو تطبيق لها في ناحية خاصة هي ناحية التعامل بالشيك والتي رأى المشرع حمايتها.

لذا كان واجب أن يكون تفسير القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عنها بالمادة (337 ع) تفسيرًا يتسق مع القصد الجنائي في جريمة النصب، أي يجب القول باعتباره قصدًا خاصًا لا يتوافر إلا بظهور عنصر سوء النية الذي هو الباعث الخبيث أي نية الإضرار بالمسحوب له وتضييع حقه في مقابل الوفاء - وهذا القصد الخاص إنما هو صورة من صور القصد الخاص في جريمة النصب وهو نية الاستيلاء على ثروة الغير كلها أو بعضها - فلا تتم الجريمة إلا بتوافر هذا القصد الخاص فإذا انتفى فإنما يسقط ركنها المعنوي الذي لا تقوم بدونه.

كل هذا يدعونا إليه ما يظهر في العمل من حالات تسحب فيها شيكات ولا يتضمن سحبها سوء نية من أصدرها ومع ذلك يقدم الساحب للمحكمة ويكون من الغبن العقاب في مثل هذه الحالات، فإذا سحب موظف شيكًا على بنك مرتبه محول عليه - في يوم 25 من الشهر وهو يعتقد بناءً على ما علمه من الصحف أو غيرها - أن مرتبات الموظفين ستصرف في ذلك اليوم لمناسبة معينة وكانت الحقيقة أن المرتبات لا تصرف إلا يوم 27 فإنه يجب عدم عقابه على إصدار شيك بدون رصيد - ولو أنه وقت تحرير الشيك لم يكن لديه رصيد وهو يعلم ذلك ولكنه كان حسن النية واعتقد بناءً على أسباب معينة مقبولة أن في تاريخ استحقاق الشيك سيكون لديه رصيد كافٍ لورود راتبه - فتبين أن الشيك لم يصرف في يوم استحقاقه لعدم وجود الرصيد - فإن من العدالة القول إن سوء النية لا يتوافر البتة في هذا الخصوص - ويكون تقدير الظروف التي تبين حسن نية الساحب من خصائص قاضي الموضوع.

كل هذا علاوة على أنه في المجال الجنائي يجب أن لا تترك للأوراق فرصة السيطرة على القضاء بالعقاب على الناس إذا استطاع هؤلاء إثبات حسن النية (مادة 300 إجراءات).

سادسًا: حُسن النية La bonne foi:

والدفع بحُسن النية يجب أن تسمح المحكمة الجنائية للساحب (المتهم) بإثباته بكافة الطرق إذ هو يرادف انتفاء القصد الجنائي وعدم توافر سوء النية وليس الأمر كما تقول محكمة النقض إنه لا يُجدي المتهم طلب إثبات وتحقيق أن تحرير الشيك كان في تاريخ سابق على التاريخ الثابت به - إذ أن حسن النية يطلق بصفة عامة على اعتقاد مشروعية الفعل اعتقادًا مبنيًا على أسباب تبرره ويخضع تقديرها للقاضي وبذلك قضت محكمة النقض في حكم لها قالت فيه (إن حسن النية المؤثر في المسؤولية عن الجريمة رغم توافر أركانها هو من كليات القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض وهو معنى لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم ويكفي أن يكون الشارع قد ضبطه وأرشد إلى عناصره في نص معين أو مناسبة معينة ليستفيد القاضي من ذلك القاعدة العامة الواجبة الاتباع وحسن النية ليس معنى باطنيًا بقدر ما هو موقف أو حالة يوجد فيها الشخص نتيجة ظروف تشوه حكمه على الأمور رغم تقديره لها تقديرًا كافيًا واعتماده في تصرفه على أسباب معقولة [(12)].

هذا هو حُسن النية عرفته محكمة النقض المصرية بأنه من كليات القانون لا تختلف مقوماته باختلاف الجرائم فأي حالة يحق فيها للمتهم إثبات حسن نيته أنسب من محاكمته عن جريمة يشترط فيها القانون توافر سوء النية - ونرى أن السماح للمتهم بإثبات حسن نيته أو أن يدفع به ويدلل عليه لا يستلزم حتمًا إثبات عدم العلم فإن العلم إن كان قرينة في بعض الصور دون الأخرى على توافر سوء النية كما قلنا فإنها قرينة تقبل دائمًا إثبات الدليل العكسي من المتهم علاوة على أن العلم قد لا يعتبر في بعض الحالات متضمنًا سوء النية - وكل هذا يخضع لتقدير القاضي الجنائي ويدخل في تكوين اقتناعه بوجوب العقاب أو عدمه.

هذا هو رأينا في القصد الجنائي في جريمة إعطاء الشيك بدون رصيد - قصد خاص يقوم على سوء النية وقصد الإضرار بالمجني عليه والعلم ما هو إلا قرينة بسيطة على توافر هذا القصد يسمح دائمًا للمتهم بإثبات عكسها والدفع بحسن النية يجد مجاله الحيوي في هذه الجريمة قبل غيرها.

[(1)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 231.

[(2)] المرحوم أحمد بك أمين صـ 750.

[(3)] نقض 23/ 4/ 1934 مجموعة النقض جزء (3) صـ 310 رقم (233).

[(4)] الأوراق التجارية للدكتور صالح طبعة 1950 صـ 409.

[(5)] نقض 30/ 12/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الرابعة عدد 1 صـ 288 رقم (112).

[(6)] نقض فرنسي الدائرة الجنائية 31/ 6/ 1936 Caz. Pal. 15 - 16.

[(7)] نقض 10/ 11/ 1941 القضية 1910 سنة 11 ق.

[(8)] نقض جنائي 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.

[(9)] نقض 1/ 6/ 1948 القضية 730 سنة 18 ق.

[(10)] نقض جنائي 11/ 3/ 1952 مجموعة أحكام النقض السنة الثالثة العدد الثاني صـ 548 رقم 206.

[(11)] جرائم الأموال للدكتور القللي صـ 263.

[(12)] نقض جنائي 11 نوفمبر سنة 1946 مجموعة القواعد القانونية جزء 7 رقم 220 صـ 199 وما بعدها.

بحث قصور التشريع الجنائي عن حماية الحيازة في العقار

مجلة المحاماة – العدد العاشر
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952

بحث
قصور التشريع الجنائي عن حماية الحيازة في العقار
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي

مفارقات:
من يختلس منقولاً مملوكًا للغير يعد سارقًا ويعاقب بالحبس، ولو كان المسروق رغيفًا من الخبز وكان الباعث على السرقة الجوع…
أما من يختلس عقارًا مملوكًا للغير فلا يعد سارقًا ولا يعاقب، ولو كانت قيمة العقار ألوف الجنيهات وكان الباعث على الاختلاس الرغبة في سلب مال الغير، ولا عقاب عليه حتى لو استولى من ثمار العقار المغتصب على ما يقدر بمئات أو ألوف الجنيهات قبل أن يتمكن صاحب العقار من استرداده…
حقًا إن المشرع أضاف إلى قانون العقوبات في سنة 1904, بابًا خاصًا بانتهاك حرمة ملك الغير [(1)]، ولكنه لسوء الحظ اشترط للعقاب على الجرائم الواردة في هذا الباب شروطًا تركت ثغرة واسعة يفلت بواسطتها مرتكبو تلك الجرائم من العقاب.
وآية ذلك أن القانون لا يعاقب من اغتصب عقارًا ولا من دخل عقارًا في حيازة آخر إلا إذا كان ذلك (بقصد منع حيازته بالقوة) أو (بقصد ارتكاب جريمة فيه) !! وهذا هو القصد الجنائي في الجريمة المنصوص عليها في المواد (369) و (370) عقوبات, فإذا لم يثبت أن المتهم كان يقصد استعمال القوة بعد دخوله العقار فلا عقاب، ومن وضع يده على عقار في غياب صاحبه لا يعاقب [(2)].
ومن ذلك يبين أن من يغتصب عقارًا خلسةً من صاحبه لا يقع تحت طائلة قانون العقوبات، وكذلك من يغتصب عقارًا بالحيلة أو بواسطة إجراءات صورية يتخذها في غير مواجهة المالك أو الحائز، فهؤلاء لا حيلة للقانون الجنائي فيهم !!
وعلى مالك العقار أو حائزه أن يلجأ إلى القضاء المدني برفع دعوى الملكية أو دعوى منع التعرض أو استرداد الحيازة – إذا توافرت شروطهما - فإذا حالف التوفيق المالك أو الحائز الحقيقي، بعد وقت طويل وجهد كبير ونفقات طائلة، فلن يظفر في النهاية إلا باسترداد عقاره بعد أن يكون الغاصب قد احتله عدة سنوات، وبعد أن يكون قد استولى من ثماره على مئات أو ألوف من الجنيهات.
وإذا كان الغاصب معسرًا أو معدمًا - وغالبًا ما يكون - فلن يجد المالك أو الحائز ما يرجع به عليه فتضيع عليه الثمار كما تضيع عليه نفقات التقاضي.
ومن الغريب أن القانون الجنائي يعاقب مختلس المنقول بالحبس الذي قد يبلغ في السرقات البسيطة ثلاث سنوات (مادة (317) و (318) عقوبات) فإذا اقترنت السرقة بالإكراه كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة (مادة (314) عقوبات) بينما لا يعاقب مختلس العقار أصلاً إذا دخل العقار دون أن يقصد منع حيازة صاحبه بالقوة أو بقصد ارتكاب جريمة فيه! وحتى إذا دخل العقار بقصد منع حيازة صاحبه بالقوة أو يقصد ارتكاب جريمة فيه فعاقبه الحبس مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر أو غرامة لا تتجاوز عشرين جنيهًا (مادة (369) عقوبات)!
أرأيت هذه التفرقة الصارخة التي لا مبرر لها مطلقًا والتي لا يسيغها منطق ولا عدالة، بل التي تغري الكثيرين على استغلال هذا النقص في التشريع الجنائي للسطو على أملاك الناس وهم في مأمن من العقاب!
من صور السطو على العقار التي لا يعاقب عليها القانون:
ومن صور هذا السطو الذي شهدته ساحات المحاكم أخيرًا ما اقترفه ويقترفه مغامر أفاق احترف السطو على الأراضي والعقارات في غفلة من أصحابها، وطريقته في ذلك أن يحرر عقد إيجار صوري بينه وبين أحد أعوانه عن العقار الذي يريد اغتصابه، ثم يرفع دعوى ضد المستأجر المزعوم بطلب مبلغ يدعي أنه متأخر إيجار مع طلب إخلاء العقار وتسليمه إليه! وما أن يحصل على حكم بطلباته حتى يتقدم به للتنفيذ فيفاجأ صاحب العقار بأحد المحضرين يسلم ملكه إلى المؤجر المزعوم!
فإذا اتفق أن كان المالك أو الحائز حاضرًا - وكثيرًا ما لا يكون - وطلب الاستشكال في تنفيذ الحكم الذي لم يصدر في مواجهته فإن الإشكال لا يقبل غالبًا لعدم وجود المستندات الدالة على الملكية ووضع اليد وقت التنفيذ، فلا يسع المحضر القائم بالتنفيذ إلا أن يحرر محضر التسليم وينصرف.
وإذا لجأ مالك العقار أو حائزه إلى البوليس فكثيرًا ما يقف البوليس حائرًا أمام الحكم الصوري ومحضر التسليم الذي بنى عليه، ومن ثم يكلف الشاكي بمباشرة دعواه مدنيًا…
وإذا ما أراد المالك أو الحائز رفع إشكال بعريضة إلى القضاء المستعجل فلا يقبل دعواه بحجة أن التنفيذ قد تم، وإذا طلب من القضاء المستعجل إلغاء محضر التسليم قضى بعدم الاختصاص لمساس الفصل في الدعوى بأصل الحق ولأن تحقيق وضع اليد من اختصاص قضاء الموضوع..
فلا يجد المالك أو الحائز المجني عليه طريقًا إلا رفع دعوى عادية بطلب إلغاء محضر التسليم وإعادة وضع يده على العقار، وغني عن البيان أنه يشترط لقبول هذه الدعوى أن ترفع في ظرف سنة من تاريخ حصول التعرض وأن يثبت المدعي وضع يده على العقار وضعًا هادئًا ظاهرًا مستمرًا لا لبس فيه ولا غموض سنة كاملة على الأقل قبل حصول التعرض (مادة (961) مدني).
فإذا ما قدر للمالك النجاح في هذه الدعوى كان عليه أن ينتظر الفصل في الاستئناف قبل أن يسترد عقاره من غاصبه…
وهذه الإجراءات تستغرق عادةً سنة أو سنوات، وتكبد صاحبها الكثير من الجهد والنفقات ولا سبيل له إلى الحصول على شيء من تلك النفقات ما دام الغاصب معدمًا لا يملك من حطام الدنيا شيئًا.
ولقد راعنا أن تتكرر هذه المأساة من نفس الشخص مع عشرات من الضحايا الذين يرميهم القدر في طريقه، كما هالنا أنه في إحدى المغامرات دخل المنزل الذي أراد اغتصابه بطريق التسور ليلاً - على أثر إخلائه من ساكنيه - ليدعي وضع يده عليه!
ومع إنه صدرت عدة أحكام نهائية دفعت ذلك المغامر الجريء باحتراف السطو على أملاك الناس، فإنه لا زال حرًا طليقًا يعيث في الأرض فسادًا، ويرتكب كل يوم سطوًا جديدًا، ما دامت يد العدالة قاصرة عن أن تنزل به عقوبة رادعة له وزاجرة لأمثاله…
دفع اعتراض:
قد يقال إن الغصب في بعض تلك الصور يكون وليد إجراءات مدنية، وأن تحقيق صورية تلك الإجراءات وتحقيق وضع اليد يجب أن يترك للقواعد المدنية والقضاء المدني، وهذا القول مردود بأن كثيرًا من جرائم الأموال يستلزم تعرض سلطة التحقيق والقضاء الجنائي لمسائل مدنية وتطبيق أحكام القانون المدني كجرائم خيانة الأمانة والتزوير، ولم يكن ذلك حائلاً دون تجريم الفعل فيها وعقاب الفاعل.
وفي رأيي أن غصب العقار وسلب الحيازة - وإن تم تحت ستار إجراءات مدنية - إلا أنه جريمة ضد المجتمع أخطر من جرائم السرقة والنصف وخيانة الأمانة والتزوير وأولى منها بالعقاب متى ثبت في حق مرتكبها سوء النية وقصد الغصب.
وجوب تجريم غصب العقار:
لقد كثر هذا النوع من السطو كثرة أقلقت الملاك وشغلت المحاكم بحيث أصبح الأمر يستلزم تدخل المشرع لحماية الحيازة في العقار من طريق تجريم غصب العقار وسلب الحيازة - ولو لم يكون الغصب ملحوظًا فيه استعمال القوة أو مقصودًا منه ارتكاب جريمة - كالسرقة العادية في المنقول، ومن طريق تشديد عقوبة سلب الحيازة بالقوة بجعلها عقوبة الجناية أسوةً بالسرقة بإكراه، لعل في ذلك ما يحمي الحيازة في العقار حماية كافية ويردع المغامرين من السطو على أملاك الناس الآمنين.


[(1)] أضيف هذا الباب بناءً على طلب مجلس شورى القوانين، واقتبست أحكامه من المواد (441) وما بعدها من قانون العقوبات الهندي والمواد (352) وما بعدها من قانون العقوبات السوداني.
[(2)] العقوبات لأحمد بك أمين القسم الخاص طبعة أولى ص (814).
والموسوعة الجنائية لجندي بك عبد الملك الجزء الثاني ص (87) رقم (21) – (23).

إشكالات التنفيذ في الأحكام الجنائية

مجلة المحاماة - العدد العاشر

السنة الرابعة والثلاثون سنة 1954

إشكالات التنفيذ في الأحكام الجنائية

بحث للسيد الأستاذ فتحي عبد الصبور

وكيل نيابة مركز بني سويف والأحداث

1 - تثير إشكالات التنفيذ في المواد الجنائية كثيرًا من الصعوبات والجدل لدى القضاء، فقد يحدث أن يرفع المستشكل في الحكم الجنائي إشكاله لدى القضاء الجنائي وقد يقيمه أمام قاضي الأمور المستعجلة ويثور النزاع حول أيهما المختص هل هو القضاء الجنائي الذي أصدر الحكم المستشكل فيه أم هو القضاء المدني بما فيه قاضي الأمور المستعجلة.

وقد تثير أقلام المحضرين عند تنفيذ الحكم الجنائي بعد رفع الإشكال أو قبله اعتراضات في التنفيذ قد يدق عليها تذليلها إذا لم ترجع إلى نصوص القانون التي شرعت لإيضاح إجراءات الإشكال في تنفيذ الأحكام الجنائية.

2 - ونرى في معالجة هذا الموضوع أن نوضح ما ثار من جدال حوله في ظل نصوص قانوني المرافعات وتحقيق الجنايات القديمين ومقارنتها بالنصوص الجديدة الواردة في قانون المرافعات الجديد وقانون الإجراءات الجنائية لنخلص من ذلك إلى الجهة المختصة قانونًا بنظر إشكالات التنفيذ في الأحكام الجنائية سواء من المحكوم عليه أو من الغير ولنرى أثر رفع الإشكال ومدى أحقية المحضر في إثارة اعتراض على التنفيذ بعد رفع الإشكال أو عند التنفيذ.

في فرنسا:

3 - والنيابة العامة في فرنسا هي التي كانت تتلقى إشكالات التنفيذ في الأحكام الجنائية وهي التي تفصل فيها مع أن النيابة العامة حين تنفيذها الأحكام الجنائية تعد خصمًا يباشر تنفيذ الحكم الصادر لصالحه ولا يجوز أن يكون الخصم حكمًا وقد عدل عن هذا الرأي لمخالفته للعدالة وأصبحت المحاكم هي المختصة دون النيابة العامة بنظر هذه الإشكالات واستقر الفقه والقضاء على ذلك ولكن دار البحث حول تحديد المحكمة التي تختص بنظر الإشكالات في الأحكام الجنائية هل هي المحكمة التي أصدرت الحكم أم هي المحكمة الجنائية التي يقع في دائرتها التنفيذ أم هي المحكمة المدنية المستعجلة.

وقد استقر قضاء محكمة النقض الفرنسية على أن الاختصاص يكون للمحكمة التي أصدرت الحكم.

ويرى جارو أن الرجوع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم قد يكون فيه حرج لأن مسائل الإشكال في التنفيذ تتطلب بطبيعة الحال الفصل فيها بطريق الاستعجال وقد يقبض على المتهم خارج دائرة المحكمة التي أصدرت الحكم ولا يكون من المتيسر الفصل في إشكاله بالسرعة اللازمة فرأى جارو أن يكون الاختصاص في الفصل في الإشكال دائمًا لمحكمة الجنح التي يوجد بدائرتها المحكوم عليه وذلك بالنسبة للعقوبات البدنية. أما الإشكال في تنفيذ أحكام الغرامات والمصادرة فيرى جارو أن يرفع دائمًا إلى المحكمة المدنية لأن هذه الأحكام تقضي بملكية أو بدين وتفقد صفتها الجنائية بمجرد النطق بها.

في مصر:

في قانون المرافعات القديم وقانون تحقيق الجنايات الملغى:

4 - أما في مصر فكان قانون المرافعات القديم الصادر في 14 يونيه سنة 1882 المعدل بالديكريتو 31 أغسطس سنة 1892 ينص في المادة (28) منه على أنه (يحكم قاضي المواد الجزئية بمواجهة الأخصام في المنازعات المستعجلة المتعلقة بتنفيذ الأحكام والسندات الواجبة التنفيذ بشرط ألا يتعرض في حكمه لتفسير تلك الأحكام، ويحكم أيضًا في الأمور المستعجلة التي يخشى عليها من فوات الوقت بحيث لا يكون لحكمه تأثير في أصل الدعوى).

وكانت المادة (386) من قانون المرافعات القديم تنص على أنه (إذا حصل إشكال في التنفيذ فيما يكون متعلقًا بالإجراءات الوقتية يرفع أمره إلى محكمة المواد الجزئية الكائن بدائرتها محل التنفيذ وما يكون متعلقًا بأصل الدعوى يرفع أمره إلى المحكمة التي أصدرت الحكم).

أما قانون تحقيق الجنايات الملغى فلم يرد فيه أي نص بشأن الإشكالات في تنفيذ الأحكام الجنائية وإنما ورد في قانون تحقيق الجنايات المختلط نص المادة (330) منه وهي تقضي بأن (كل إشكال في التنفيذ وكل نزاع بين النيابة والمتهم يُرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم).

في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية:

5 - وقضت المادة (347) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية بأن الإشكالات في التنفيذ التي تُرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم أو التي بدائرتها محل التنفيذ هي التي يثار فيها نزاع في مسائل تتعلق بالأحوال الشخصية ونصت المادة (351) على أنه (إذا حصل إشكال في التنفيذ فبعد اتخاذ الإجراءات التحفظية إذا اقتضى الحال ذلك يرفع ما كان منه متعلقًا بالإجراءات الوقتية إلى المحكمة الجزئية الكائن بدائرتها محل التنفيذ وما يكون متعلقًا بأصل الدعوى يُرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم).

وتطبيقًا لذلك حكم بأن (تختص جهات الأحوال الشخصية بكل ما يمس شخص الإنسان ولا يتعدى ماله، إلا أنه من الأحوال الشخصية ما يستلزم الالتزام المالي كالنفقة والمهر وما إليهما فيختص بالفصل فيها جهات الأحوال الشخصية اختصاصًا محدودًا في أمور معينة تحدوه فكرة واحدة لا تخرج عنه لذلك يكون للمحاكم المدنية سلطة الإشراف على أحكام جهات الأحوال الشخصية لترقب صدورها في حدود اختصاصها وقد نصت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية على أن الإشكال لا يُرفع إلى المحكمة الشرعية إلا إذا تعلق بمسألة شرعية ومحصل ذلك أنه إذا أثار تنفيذ الحكم نزاعًا مدنيًا فتختص به المحكمة المدنية (حكم مستعجل مصر 16 مارس سنة 1933 مجلة المحاماة س 14 ع 1 صـ 41) [(1)].

وقضت محكمة النقض بأنه (لما كانت المادتان (15) و(16) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية (الملغاة) الأولى منهما تمنع هذه المحاكم من نظر أية دعوى لا تكون بذاتها من اختصاصها والثانية تحظر عليها الفصل في مسائل الأحوال الشخصية وتأويل الأحكام الصادرة فيها من الجهات المعهود إليها بنظرها وكان حكم الطاعة الذي قضى الحكم المطعون فيه بإيقاف تنفيذه صادرًا من المحكمة الشرعية في مسألة هي بلا جدال من صميم الأحوال الشخصية وكان الحكم المذكور لا يمس حقًا ماليًا ولا يحتمل تنفيذًا على المال مما ينتفي معه اختصاص المحاكم بنظر أي نزاع يقدم بشأنه، لما كان ذلك كذلك كان الحكم المطعون فيه باطلاً لتجاوز المحكمة التي أصدرته حدود ولايتها فيتعين نقضه والحكم بعدم اختصاص المحاكم بنظر الدعوى (راجع نقض 2 مارس سنة 1949 مجموعة رسمية ع 3 و4 س 51 صـ 9 وكان الحكم المطعون فيه بإيقاف تنفيذ حكم الطاعة).

رأي الفقه والقضاء:

6 - وفي ظل هذه النصوص السالفة رأى جمهور الفقهاء أن المسائل الجنائية كالمسائل الشرعية تخضع لقاعدة عامة تحكم اختصاص قاضي الأمور المستعجلة وهي أنه لا يختص إلا إذا كان موضوع الحق بين الطرفين من اختصاص المحكمة المدنية التي هو فرع منها ويتحدد اختصاصه باختصاصها، أما إذا كان مثار النزاع في الإشكال مسألة تمس الموضوع الذي فصل فيه الحكم وتخرج عن تطبيق القانون المدني فلا يختص القاضي المستعجل بنظر الإشكال، أما إذا كان التنفيذ قد لحق المال وأثار نزاعًا في نفاذ الالتزام ولزومه لسبب من أسباب انقضاء الالتزامات أو ادعى الغير حقًا على المال موضوع التنفيذ أو غير ذلك من المنازعات التي تحكمها قواعد القانون المدني ففي هذه الأحوال جميعًا يختص القاضي المستعجل بنظر الإشكال في التنفيذ كما تختص المحكمة المدنية بنظر النزاع موضوعًا (مؤلف قاضي الأمور المستعجلة للأستاذ محمد علي رشدي صـ 603).

7 - وإذا كان المشرع قد أوضح فكرته في الاختصاص في إشكالات التنفيذ في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية فإذا لم يورد نصًا يرتب قاعدة الاختصاص في قانون تحقيق الجنايات القديم إلا أن ذلك لا يعني أن المشرع أراد أن يخرج عن القاعدة التي أوضحها بل يعني أنه أغفل تطبيقًا لها لا تدعو إلى تكراره حاجة ولعل السبب في ذلك أنه لا يتصور حالات كثيرة يحتمل فيها الإشكال في العقوبة بوجهي الإشكال السريع والموضوعي كما في القانون المدني فإذا استشكل في تنفيذ حكم جنائي فإنما يقصد عدم تنفيذه على المستشكل فإذا أوقف التنفيذ فلا يكون ثمة موضوع بين المستشكل والنيابة وإذا أرادت النيابة التنفيذ فإنما بدعوى عمومية يصدر فيها حكم جديد يختلف عن الحكم الأول المستشكل فيه.

ومؤدى رأى الجمهور [(2)] أن المحكمة الجنائية التي أصدرت الحكم هي التي تختص بنظر الإشكالات في تنفيذ الأحكام الجنائية ولا يختص بها قاضي الأمور المستعجلة لأن موضوع الإشكال لا تختص به المحكمة المدنية أما إذا كانت المحكمة المدنية تختص بموضوع الإشكال لسريان قواعد القانون المدني عليه فيختص قاضي الأمور المستعجلة بنظر الإشكال بوجهه السريع وقد حكم بهذا المبدأ قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر في 26 يوليه سنة 1933 (محاماة س 14 صـ 46 ع 1).

8 - وقد قضت محكمة مصر الكلية في حكمها الصادر في 4 أكتوبر سنة 1943 المنشور بمجلة المجموعة الرسمية س 44 صـ 215 بعدم اختصاص القضاء المستعجل بنظر الإشكالات في تنفيذ الأحكام الجنائية وقررت قاعدة هامة هي أن (القضاء المستعجل نظام مدني أقامه قانون المرافعات المدنية والتجارية بمقتضى المادتين (28) و(386) منه فبديهي أن يكون بالنسبة للأحكام الصادرة في الدعاوى المدنية والتجارية فقط لا في الدعاوى الجنائية التي نظمت إجراءاتها بقوانين أخرى، وليس من المعقول أن الشارع وهو يضع نصوص قانون المرافعات كان يفكر في المسائل الجنائية حتى يقال إنه شرع لها أيضًا في المادتين (28) و(386) ما دام لم يصف الأحكام التي تكلم عنها بأنها الأحكام المدنية والتجارية وإلا على هذا القياس يمكن القول بأن جميع النصوص التي ذكرت الأحكام دون وصف لها تتناول الأحكام كلها من مدنية وجنائية وغيرها وهذا القول لا يمكن الأخذ به على إطلاقه لأن من المقرر أن العمل بأحكام المرافعات لا يكون إلا في المبادئ العامة التي تقتضيها العدالة ولم يرتب لها القانون الجنائي حكمًا خاصًا وليس اختصاص القضاء المستعجل من المبادئ العامة بل هو على النقيض من هذا استثناءً من القاعدة العامة القائلة بأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع فلو لم ينص قانون المرافعات صراحةً على اختصاص القاضي الجزئي بنظر إشكالات التنفيذ الوقتية لكان نظرها من اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم تطبيقًا للقاعدة العامة المذكورة ولقاعدة أخرى هي أن تنفيذ الحكم يعتبر من ملحقات الدعوى الأصلية التي صدر فيها.

وقد قُضي بأن البحث في جواز تنفيذ حكم الغلق على غير المحكوم عليه إذا كان شاغلاً للمحل المحكوم بغلقه هو بحث في شخصية العقوبة التي قضى بها الحكم وهي قاعدة من قواعد العقوبات لا تخضع لأحكام القانون المدني فلا يختص قاضي الأمور المستعجلة بنظر هذا الإشكال (حكم قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر في 30 إبريل سنة 1933 محاماة س 14 ع 9 صـ 643).

رأي عكسي:

9 - على أنه وجد في الفقه والقضاء رأي آخر يذهب إلى أن قاضي الأمور المستعجلة يختص بالنظر في الإشكالات في الأحكام الجنائية لأمرين:

أولهما: عموم نص المادتين (28) و(386) مرافعات (قديم) فيختص قاضي الأمور المستعجلة بإيقاف تنفيذ العقوبة المالية كالرد والمصادرة والإزالة والغلق لأن تنفيذها قد يمس حقوق الغير المالية. والقول باختصاص القاضي الجنائي وحده بنظر إشكالات تنفيذ الأحكام الجنائية يتعارض مع عموم نص هاتين المادتين.

ثانيهما: سرعة القضاء المستعجل لوجود خطر في إشكال تنفيذ حكم الغلق أو ما شاكله وهو ما يستدعي سرعة الفصل في الإشكالات الأمر الذي لا يتوافر في القضاء العادي. ويذهب هذا الرأي على ذلك إلى أنه لا يجوز للقاضي المستعجل بحث صحة أو بطلان الحكم الجنائي أو تفسير ما ورد فيه غامضًا من عبارات وإنما يكون له بحث مدى تأثير الحكم الجنائي على حقوق المستشكل المالية إذا كان من الغير (قضاء الأمور المستعجلة للأستاذ محمد علي راتب صـ 644).

أحكام القضاء:

10 - وقد وجد بين أحكام المحاكم بعض الأحكام التي اتجهت إلى الأخذ بهذا الرأي فقضت محكمة إسكندرية الكلية برئاسة القاضي مصطفى مرعي في حكمها الصادر في 13 إبريل سنة 1933 المنشور بمجلة المحاماة س 13 صـ 1034 تحت رقم 511 بأن (الإشكالات التي تعترض تنفيذ الأحكام الجنائية القاضية بعقوبة مالية مثل الرد والمصادرة والإزالة والغلق والهدم تدخل في اختصاص قاضي المواد المستعجلة الذي يقع التنفيذ في دائرته لأن المحاكم الجنائية لا تقضي في الأموال إلا إذا اتصل قضاؤها بالدعوى العمومية ولأن الأحكام الصادرة بعقوبة مالية تفقد صفتها الجنائية بمجرد صدور الحكم بها).

وقضى قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر (القاضي محمد علي راتب) في 24 فبراير سنة 1935 المنشور بمجلة المحاماة السنة 15 صـ 411 باختصاص قاضي الأمور المستعجلة طبقًا لنص المادتين (28) و(386) مرافعات بالإشكالات الحاصلة في التنفيذ حتى ولو صدرت من محكمة جنائية متى كان التنفيذ حاصلاً عن عقوبات مالية تمس حقوق الغير كالغلق والمصادرة والإزالة والقول بغير ذلك واختصاص القاضي الجنائي بنظر مثل هذه الإشكالات يتعارض مع نصوص المادتين المذكورتين اللتين قررتا مبدأ عامًا وأصولاً وضوابط لم يرد في قانون تحقيق الجنايات ما يخالفها.

وحكمت محكمة الاستئناف المختلطة باختصاص القضاء المستعجل في الفصل في إشكال التنفيذ الحاصل من أحد الملاك على الشيوع في منزل في تنفيذ حكم صادر من محكمة المخالفات في مواجهة أحد الشركاء بإزالة جزء من مباني المنزل (الغازيت المختلطة عدد 34 رقم 285).

الرد على هذا الرأي:

11 - ويرد على هذا الرأي بالأمور الآتية:

أولاً: إن نص المادتين (28) و(386) من قانون المرافعات المدنية (القديم) خاص بالأحكام المدنية والتجارية ولا يسري على الأحكام الجنائية التي نظمت إجراءاتها لقوانين أخرى.

ثانيًا: أما حجة سرعة فصل القضاء المستعجل فهي حجة ضعيفة لأن الإجراءات الجنائية بطبيعتها أسرع من الإجراءات المدنية وليس هناك خطر على الأفراد بل الخطر من عدم الفصل سريعًا في الإشكال في الأحكام الجنائية إنما هو على النيابة. ويمكن للنيابة العامة وهي التي تقوم بالتنفيذ أن تحدد أقرب جلسة لنظر الإشكال في التنفيذ.

ثالثًا: إن عقوبة الإغلاق أو المصادرة عقوبة تكميلية عندما يُقضى بها مع الغرامة فالحكم بها لا يمكن اعتباره من قبيل الفصل في حقوق مدنية ولا تفقد العقوبة التكميلية بعد الحكم صفتها كعقوبة.

رابعًا: أصحاب هذا الرأي يتناقضون فإنهم يسلمون بقاعدة أن قاضي الأمور المستعجلة فرع من المحكمة التابع لها يتقيد في اختصاصه بالحكم في الإجراءات الوقتية بنفس القيود والأوضاع التي تحد من اختصاصها سواء ما بُني على الفصل بين السلطات الإدارية والقضائية أو ما أسس على اختلاف درجات القضاء أو أنواعه [(3)] (راجع حكم مصر الكلية 4/ 10/ 1943 مجموعة رسمية س 44).

خامسًا: ولا يمكن القول بأن اختصاص قاضي الأمور المستعجلة بالإشكال في العقوبة المالية كالرد أو المصادرة أو الإزالة أو الإغلاق لمساسها بحقوق الغير المالية ولأن المحاكم المدنية هي صاحبة الولاية العامة على المال وليس للمحاكم الجنائية أن تمس الأموال بأحكامها فإن هذا القول ظاهر البطلان ولا سند له في القانون.

في نصوص قانون الإجراءات الجنائية:

12 - هذا ما كان عليه الفقه والقضاء قبل صدور قانون الإجراءات الجنائية الجديد وكان الرأي الراجح هو عدم اختصاص قاضي الأمور المستعجلة (كقاعدة عامة) في نظر الإشكالات في تنفيذ الأحكام الجنائية، وكان مثار هذا الخلاف هو خلو قانون تحقيق الجنايات من نصوص تبين الجهة المختصة في نظر هذه الإشكالات.

ولكن قانون الإجراءات الجنائية الجديد قد تضمن نصوص المواد (524) و(525) و(526) و(527) بينة الإجراءات في حالة الإشكالات في تنفيذ الأحكام الجنائية.

فقضت المادة (524) منه بأن (كل إشكال من المحكوم عليه في التنفيذ يُرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم ومع ذلك إذا كان النزاع خاصًا بتنفيذ حكم صادر من محكمة الجنايات يُرفع إلى غرفة الاتهام بالمحكمة الابتدائية).

ونصت المادة (525) على أنه (يقدم النزاع إلى المحكمة بواسطة النيابة العامة على وجه السرعة ويعلن ذوو الشأن بالجلسة التي تحدد لنظره وتفصل المحكمة فيه في غرفة المشورة بعد سماع النيابة العامة وذوي الشأن، وللمحكمة أن تجري التحقيقات التي ترى لزومها ولها في كل الأحوال أن تأمر بوقف التنفيذ حتى يفصل في النزاع وللنيابة العامة عند الاقتضاء وقبل تقديم النزاع إلى المحكمة أن توقف تنفيذ الحكم مؤقتًا).

وجاء بالمادة (526) منه أنه (إذا حصل نزاع في شخصية المحكوم عليه يفصل في ذلك النزاع بالكيفية والأوضاع المقررة في المادتين السابقتين).

ثم نصت المادة (527) على أنه (في حالة تنفيذ الأحكام المالية على أموال المحكوم عليه إذا قام نزاع من غير المتهم بشأن الأموال المطلوب التنفيذ عليها يرفع الأمر إلى المحكمة المدنية طبقًا لما هو مقرر في قانون المرافعات.

13 - وقد حسم المشرع بهذه النصوص ذلك الخلاف الذي كان قائمًا في عهد قانون تحقيق الجنايات بشأن الجهة المختصة بالفصل في النزاع الذي يقع بين النيابة والمحكوم عليهم وغيرهم بشأن تنفيذ الأحكام الجنائية.

وجاء في المذكرة الإيضاحية وتقرير مجلس الشيوخ عن هذه النصوص أن كل إشكال في التنفيذ يُرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المتعلق به هذا الإشكال، أما إذا كان التنفيذ يجري على أموال المحكوم عليه على مقتضى قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية فيتبع بشأن ما يحصل فيه من إشكال أو نزاع ما هو مقرر في القانون المذكور، وظاهر أن تنفيذ الأحكام المالية بطريق الحجز على أموال المحكوم عليه يكون أما بالطرق المقررة في قانون المرافعات أو بالطرق الإدارية المقررة لتحصيل الأموال الأميرية وفي الحالتين إذا قام نزاع من غير المتهم بشأن الأموال المطلوب الحجز عليها كأن ادعى ملكيتها فيرفع هذا الإشكال إلى المحكمة المدنية طبقًا لما هو مقرر في قانون المرافعات، أما إذا كان الإشكال يتعلق بالحكم نفسه من حيث مضمونه أو من حيث قابليته للتنفيذ فإنه يُرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم أو المحكمة الابتدائية حسب الأحوال.

14 - ومؤدى هذه النصوص والمذكرة الإيضاحية أن إشكالات التنفيذ في الأحكام الجنائية تختص بها كقاعدة عامة المحكمة التي أصدرت الحكم وهي المحكمة الجنائية ما لم يكن الحكم المستشكل فيه حكمًا ماليًا أي بالغرامة أو بالتعويض ويكون التنفيذ به على مقتضى قانون المرافعات أي بطريق الحجز أو بالطرق الإدارية لتحصيل الأموال الأميرية فيرفع الإشكال في هذه الحالة إلى المحكمة المدنية.

15 - ولا يدخل في عبارة الأحكام المالية الواردة في المادة (527) إجراءات التعويضات التكميلية كالهدم والغلق والمصادرة والإزالة إذ هذه العقوبات شخصية وليست لها صفة (المالية) كالغرامة ولأنها لا يمكن أن تكون محلاً للتنفيذ بالطريق المدني أو الإداري.

وعلى ذلك فلا تشمل المادة (527) حالة التنفيذ بالعقوبة التكميلية بغير طريق التنفيذ المدني بل بطريق التنفيذ الجنائي للعقوبة.

16 - وإذا كان تنفيذ حكم الغرامة بالطريق الجنائي كالإكراه البدني فلا يجوز الاستشكال فيه أمام القضاء المدني المستعجل بل يكون الإشكال فيه أمام المحكمة التي أصدرت الحكم.

وقد نص في المادة (526) من قانون الإجراءات على أنه (إذا حصل نزاع في شخصية المحكوم عليه يفصل في ذلك النزاع بالكيفية والأوضاع المقررة في المادتين السابقتين وهي (م (524) و(525)) أي تنظره المحكمة التي أصدرت الحكم) مع أن هذا الإشكال يكون مرفوعًا من غير المحكوم عليه الأمر الذي يؤكد ما وضح في المذكرة الإيضاحية من أن المادة (527) خاصة بحالة الإشكال المرفوع من غير المحكوم عليه عن حكم جنائي مالي - بالغرامة أو بالتعويض - ويكون التنفيذ به بالطريق المدني أو الإداري وليس بالطرق الجنائية.

17 - ويرى الدكتور علي زكي العرابي أنه لا فرق بين عقوبة الغرامة والمصادرة وبين باقي العقوبات المقيدة للحرية لأنها كلها وإن اختلفت أشكالها عقوبات جنائية وضعت لغرض واحد وهو تأديب الجاني ولا تصدر إلا من محكمة واحدة وهي المحكمة الجنائية وعقوبة الغرامة لا تسقط إلا بالمادة المسقطة للعقوبات لا بالمادة المقررة للديون وتنفذ بالإكراه فالصفة الجنائية ملازمة لها في كل أدوارها ولا يفهم القول بأن الحكم يكون بمثابة حكم مدني ولذلك يرى أن الإشكال في تنفيذها يجب أن يُرفع للمحكمة الجنائية شأن الإشكال في تنفيذ أية عقوبة أخرى خصوصًا وأن نص المادة (524) لم يجز بين نوع وآخر من العقوبات.

18 - أما صاحب الرأي العكسي الأستاذ محمد علي راتب فقد رأى أن مؤدى نصوص قانون الإجراءات الجنائية أنه إذا كان الإشكال من المحكوم عليه تختص المحكمة التي أصدرت الحكم الجنائي وحدها فتنظر الإشكال في العقوبات المالية والبدنية، أما إذا كان الإشكال من الغير في تنفيذ الأحكام المالية على أموال المحكوم عليه فيختص قاضي الأمور المستعجلة وإن كانت المادة (527) قد ذكرت عبارة المحكمة المدنية فإن قاضي الأمور المستعجلة فرع منها وفق المادة (49) من قانون المرافعات (كتاب قاضي الأمور المستعجلة لراتب صـ 647 طبعة 1952) ولم يفسر الأستاذ راتب عبارة الأحكام المالية الواردة بالمادة (527) إجراءات ولم يوضع هذا النص وفق المذكرة الإيضاحية والأعمال التحضيرية.

19 - وقد قضت محكمة النقض أخيرًا في دائرتها الجنائية بتاريخ 9 مارس سنة 1953 في القضية رقم (1341) سنة 22 قضائية في طعن رفع عن حكم صادر من المحكمة الجنائية برفض الإشكال المرفوع في تنفيذ حكم غلق من الغير فقالت (إذا كان الحكم المطعون فيه الصادر برفض الإشكال في تنفيذ حكم بإغلاق محل قد أثبت أن رخصة المحل التي يستشكل الطاعن في الحكم الصادر بإغلاقه ليست باسم المستشكل وإنما هي باسم الذي حرر ضده محضر المخالفة وصدر عليه الحكم بالغرامة والإغلاق فإن إجراءات المخالفة تكون صحيحة ولا يكون للطاعن صفة في رفع هذا الإشكال ويكون قضاء الحكم المطعون فيه برفضه قضاءً سليمًا) (راجع مجموعة الأحكام الجزء الرابع الدائرة الجنائية صـ 597).

ويُستفاد من هذا الحكم بجلاء:

أولاً: إن المحكمة الجنائية التي أصدرت الحكم الجنائي بالغلق هي المختصة بنظر الإشكال مع رفعه من الغير، ولو كانت المحكمة غير مختصة لنقضت محكمة النقض الحكم لأن هذا الاختصاص من النظام العام.

ثانيًا: إن نظر الإشكال في تنفيذ حكم الغلق يمس إجراءات المخالفة والمحاكمة الجنائية فتختص به المحكمة التي أصدرت الحكم.

20 - وقضت محكمة أسيوط الابتدائية (الدائرة المستعجلة) بأن (قاضي الأمور المستعجلة غير مختص بنظر الإشكالات عن إيقاف أحكام الإزالة وبديهي أن المادة (479/ 1) مرافعات تسري في المواد المدنية والتجارية فقط لا في الدعاوى الجنائية التي نظمتها إجراءات بقوانين أخرى).

(صدر هذا الحكم في القضية رقم 894 سنة 1950).

21 - ولا يمكن القول بأن العقوبات التكميلية شخصية بمعنى أنه لا يمكن التنفيذ بها في مواجهة الغير إذ قضت محكمة النقض في 20/ 11/ 1950 في القضية رقم (192) سنة 20 قضائية بأن (المبدأ المقرر في القانون الجنائي المعروف بشخصية العقوبة بمعنى عدم تجاوزها شخص المحكوم عليه وممتلكاته، هذا المبدأ لا يطوي العقوبات التكميلية فإنه يجرى تنفيذها في مواجهة الغير متى كان موضوع الدعوى ماسًا بالأمن أو النظام العام أو مصلحة المجتمع أو يكون للعقوبة التكميلية هنا صفة عينية لا شخصية فهي تدبير وقائي ضد شخص معين).

22 - على أن البحث في إشكال تنفيذ حكم الغلق مثلاً ولو كان من الغير يتصل بأصل الحق أي بموضوع المحاكمة وهو ما يمنع قاضي الأمور المستعجلة عن الفصل فيه، فإذا ما أصر قاضي الأمور المستعجلة على اختصاصه بنظر الإشكال في تنفيذ حكم جنائي بالغلق فإنه لا يلبث أن يقضي برفض الإشكال موضوعًا لأنه يجره البحث إلى التعرض لأصل الحق وكان الأولى به أن يقضي بعدم اختصاصه.

مثال ذلك: قُضي بأن (تنفيذ حكم الغلق الصادر وفق القانون (13) سنة 1904 يكون على نفقة المخالف المحكوم عليه ولكن تنفيذه يكون في الوقت نفسه على المحل موضوع المخالفة ولو كان مستعمله وقت التنفيذ شخصًا آخر خلاف المحكوم عليه يكون قد استأجره من المالك أو انتفع به بإذنه وعلى المالك أن يسوي شؤونه مع هذا المستأجر أو مستعمل المحل طبقًا لما هو منصوص عليه في المادة (8) من اللائحة المرفقة بالقانون المذكور وعلى ذلك لا يقبل من هذا المستأجر أو المنتفع الاستشكال في تنفيذ الغلق على المحل بحجة أنه شخص آخر غير المحكوم عليه) (قاضي مستعجل مصر 11 نوفمبر سنة 1935 محاماة س 16 ع 5 صـ 530) أليس هذا تعرض لأصل الحق وإجراءات المحاكمة.

مثال آخر: وهذا ما قضت به محكمة بني سويف الجزئية في قضية الإشكال رقم (596) سنة 1954 مدني بني سويف في 13 مارس سنة 1954 في إشكال مرفوع من الغير عن حكم غلق فبعد أن حكمت باختصاصها بنظره على أساس أن أحكام الغلق في رأيها تدخل ضمن عبارة (الأحكام المالية) الواردة بالمادة (527) من قانون الإجراءات قضت برفض الإشكال موضوعًا على أساس عدم جدية استئجار المستشكل للمحل المراد غلقه وعدم ثبوت تاريخ عقد الإيجار. ومع أن هذا الحكم معيب فما ذهب إليه من أن عبارة الأحكام المالية الواردة في المادة (527) إجراءات تشمل أحكام الغلق والمصادرة والإزالة مع أن المقصود بها أحكام الغرامة أو أحكام التعويض المدني الصادرة من المحاكم الجنائية ويكون تنفيذها بالطريق المدني أو الإداري دون الطرق الجنائية للتنفيذ - مع ذلك ألا يعد تعرض المحكمة لبحث حق المستشكل في إلغاء الغلق من عدمه مساس بموضوع المحاكمة التي صدر فيها حكم الغلق الأمر الذي كان يستوجب من المحكمة أن تقضي بعدم اختصاصها لمساس الإشكال بموضوع الحق.

أحكام التعويض الصادرة من المحاكم الجنائية:

23 - تختص المحكمة الجنائية بالفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم عند فصلها في الدعوى الجنائية وذلك ما لم ترَ المحكمة أن الفصل في هذه التعويضات يستلزم إجراء تحقيق خاص ينبني عليه إرجاء الفصل في الدعوى الجنائية، فعندئذٍ تحيل المحكمة الدعوى إلى المحكمة المدنية بلا مصاريف (م 309 إجراءات - الدكتور علي زكي العرابي الجزء الثاني صـ 26).

24 - وإن كانت الدعوى المدنية تتبع الدعوى الجنائية فذلك بالنسبة للاختصاص فقط ولكنها تبقى مستقلة عنها فيما يختص بإجراءات الإثبات وحضور الخصوم وغيابهم وما يترتب على ذلك من آثار.

وقد قُضي بأن (الفكرة التشريعية من ضم الدعوى المدنية للدعوى العمومية في قضاء واحد توجب أن تخضع الدعوى المدنية لجميع قواعد الإجراءات التي تحكم سير الدعوى أمام المحكمة الجنائية وصدور الحكم فيها وطرق الطعن فيه ومواعيده إلا أن هذه الوحدة تنتهي عند هذا الحد، فإذا صدر الحكم في الدعوى المدنية من المحكمة الجنائية فإنه يقرر حقًا مدنيًا يخضع لأحكام القانون المدني من حيث سقوطه أو بقاؤه ومن حيث تنفيذه على مال المدعى عليه وما إلى ذلك (وبذلك لا يستلزم مجرد صدور الحكم في الدعوى المدنية من المحكمة الجنائية أن تختص بالفصل في كل ما يعترض تنفيذه من الصعوبات. وإن صح ذلك في كل ما يمس الحق وموضوعه مساسًا يرجع إلى أحكام القانون المدني فإن قاضي الأمور المستعجلة هو الهيئة الطبيعية للفصل في ذلك) (قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر 20 أكتوبر سنة 1932 محاماة س 14 ع 5 صـ 371). أما إن مس الإشكال أي إجراء من إجراءات المحاكمة فلا يختص القضاء المستعجل بنظر الإشكال.

وتطبيقًا لهذه القاعدة نعالج اختصاص قاضي الأمور المستعجلة بإشكالات التنفيذ عن الأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية في الدعاوى المدنية بالتعويض في حالين:

أولاً: حالة سقوط الحكم الغيابي المدني بمضي ستة شهور:

25 - كانت المادة (344) من قانون المرافعات القديم تنص على أنه (يبطل الحكم الصادر في غيبة الخصم ويعد كأنه لم يكن إذا لم يحصل تنفيذه في بحر ستة أشهر من تاريخه) ثم جاءت المادة (393) من قانون المرافعات الجديد تنص على أنه (يصبح الحكم الغيابي كأن لم يكن إذا لم يعلن خلال ستة أشهر من تاريخ صدوره).

ولم يرد في قانون الإجراءات الجنائية نص يوضح مصير الحكم الصادر من المحكمة الجنائية بالتعويض غيابيًا دون أن يعلن خلال ستة شهور من تاريخ صدوره ورأى الدكتور علي زكي العرابي أن نص المادة (393) مرافعات جديد لا ينطبق على الأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية سواء فيما يتعلق بالدعوى المدنية أو الجنائية (المبادئ الأساسية للإجراءات الجنائية الجزء الثاني بند 26).

فلا يختص قاضي الأمور المستعجلة بنظر إشكالات التنفيذ عن أحكام التعويض الغيابية الصادرة من المحاكم الجنائية استنادًا على مضي ستة شهور دون إعلانه (تطبيقًا للمادة (393) مرافعات على فرض سريان هذه المادة على أحكام التعويض الصادرة من المحكمة الجنائية) لأن سقوط الحكم بمضي ستة شهور هو جزاء يلحق إجراءً من إجراءات الدعوى وهو الحكم فيها فيسقطه دون تأثير على الحق في ذاته ولا ما اتخذ من إجراءات والبحث في ذلك الشق المدني وأثره على الحكم الجنائي القاضي بالتعويض من اختصاص المحكمة الجنائية التي أصدرته وعن عملها لتبعية الدعوى المدنية للدعوى الجنائية في الاختصاص ويكون الحكم الصادر إجراء من إجراءاتها (راجع قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر 10 نوفمبر سنة 1932 محاماة س 15 صـ 279).

ثانيًا: حالة سقوط التعويضات بمضي المدة:

26 - قضت المادتان (234) و(259) إجراءات على أن الدعوى المدنية الناشئة عن الجريمة تنقضي بمضي المدة المقررة في القانون المدني وعلى أن الأحكام المقررة لمضي المدة في القانون المدني هي التي تتبع فيما يختص بسقوط التعويضات المحكوم بها نهائيًا من المحكمة الجنائية، وتسقط أحكام التعويضات بمضي خمس عشرة سنة من تاريخ الحكم النهائي بها، إلا أن المادة (395) من قانون الإجراءات تنص على أنه إذا حضر المحكوم عليه في غيبته أو قبض عليه قبل سقوط العقوبة بمضي المدة يبطل حتمًا الحكم السابق صدوره سواء فيما يتعلق بالعقوبة أو التضمينات ويعاد نظر الدعوى أمام المحكمة وإذا كان الحكم السابق بالتضمينات قد نفذ (لجواز تنفيذه قرر صدوره وفق المادة 385 إجراءات) تأمر المحكمة برد المبالغ المتحصلة كلها أو بعضها.

وقاضي الأمور المستعجلة كما قدمنا يختص بإشكالات التنفيذ في أحكام التعويض فيما يتصل بالحق المدني في موضوعه فيختص بإشكال التنفيذ المستند على سقوطه بمضي المدة لأن ذلك يخضع لأحكام القانون المدني ولاختصاص المحكمة المدنية وقاضي الأمور المستعجلة فرع منها. (راجع قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر 10 نوفمبر سنة 1932 محاماة س 15 صـ 279).

27 - على أننا لا نرى اختصاص قاضي الأمور المستعجلة بنظر الإشكال في تنفيذ حكم بالتعويض صادر من محكمة الجنايات غيابيًا عند تنفيذه بعد حضور المحكوم عليه أو القبض عليه لأن سقوط الحكم سواء فيما يتعلق بالعقوبة أو التضمينات يعد إجراء من إجراءات الدعوى وهو الذي تختص به المحكمة الجنائية. وتكون غرفة الاتهام بالمحكمة الابتدائية هي المختصة لنظر مثل هذا الإشكال.

أثر رفع الإشكال في الأحكام الجنائية:

28 - ورفع الإشكال في الأحكام الجنائية لا يوقف تنفيذ الحكم لأن المادة (525) إجراءات قد أعطت حق الأمر بوقف التنفيذ للنيابة العامة عند الاقتضاء أن توقف تنفيذ الحكم مؤقتًا ولو قبل تقديم الإشكال إلى المحكمة.

كما أن للمحكمة الجنائية التي تنظر الإشكال وهي التي أصدرت الحكم أن تأمر بوقف تنفيذ الحكم المستشكل فيه حتى يفصل في النزاع (م 525 فقرة أولى إجراءات).

اعتراض المحضر عند تنفيذ الحكم الجنائي:

29 - يحدث أحيانًا أن يثير المحضر عند تنفيذ حكم جنائي بالغلق أو الإزالة مثلاً ويمتنع عن تنفيذ العقوبة التكميلية بحجة أن إشكالاً قد رُفع ولم ترَ النيابة العامة أو المحكمة التي أصدرت الحكم وقف التنفيذ بعد رفع الإشكال فيلجأ إلى قاضي المحكمة الجزئية أو قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة لاستصدار تأشيرة منه على الأوراق بوقف التنفيذ فهل للمحضر ذلك التصرف أم لا وهل الأمر الذي يصدره قاضي الأمور الوقتية أو القاضي الجزئي أمر قضائي أم لا ؟

قُضي بأنه (إذا امتنع قلم المحضرين عن تنفيذ حكم مدني وعرض الأمر على قاضي المحكمة الجزئية فأقر قلم المحضرين على رأيه فلا يعتبر هذا الأمر من القاضي قضاءً فاصلاً في موضوع النزاع لا لشيء إلا لأن الدعوى لم تُرفع بذلك ولا يعد أمرًا صادرًا على عريضة بما للقاضي من سلطة الفصل في الأمور الوقتية لأن العريضة لم تقدم ولأن الاستمرار في التنفيذ أو إيقافه هو نزاع محله دعوى تُرفع بالطريق العادي أو بالاستشكال لا بأمر يصدر على عريضة فالأمر لم يصدر من القاضي بما له من السلطة القضائية أو الولائية بل بصفة إدارية باعتباره رئيسًا للمحكمة تطبيقًا للمادة (383) مرافعات (قديم) ومحل تنفيذ هذه المادة أن يكون الامتناع عن التنفيذ ناشئًا عن أسباب إدارية أو شكلية فإذا استند إلى نزاع في الموضوع أو القانون امتنع على القاضي الفصل فيه بناءً على شكوى من صاحب الشأن ووجب أن تُرفع بذلك دعوى إلى المحكمة المختصة (حكم قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر في 1/ 6/ 1936 محاماة س 16 صـ 970 ع 9 و10).

30 - وفي قانون المرافعات الجديد نصت المادة (458) منه على أن (المحضرون ملزمون بإجراء التنفيذ بناءً على طلب ذي الشأن متى سلمهم السند التنفيذي، فإذا امتنع المحضر جاز لطالب التنفيذ أن يرفع أمره إلى رئيس المحكمة أو إلى قاضي المواد الجزئية التابع لها المحضر)، وهو يماثل حكم المادة (383) القديمة ومحله كذلك أن يكون النزاع بين صاحب الشأن والمحضر الممتنع عن التنفيذ مبنيًا على أسباب إدارية أو شكلية أما إذا كان امتناع المحضر مبني على نزاع في الموضوع أو القانون لا يجوز لرئيس المحكمة أو القاضي الجزئي أن يفصل في امتناع المحضر كشكوى صاحب الشأن وإنما ينبغي رفع دعوى بذلك إلى المحكمة المختصة.

31 - هذا هو الحكم في إشكالات التنفيذ في الأحكام المدنية فمن باب أولى - والمحاكم المدنية إجمالاً لا اختصاص لها في إشكالات تنفيذ الأحكام الجنائية - لا يجوز للمحضر أن يمتنع عن تنفيذ الحكم الجنائي فيما يختص بالعقوبة التكميلية كالغلق أو الإزالة.

ولا يجوز لرئيس المحكمة أو القاضي الجزئي الفصل في صحة هذا الامتناع من عدمه وإنما يكون للمحكمة الجنائية التي أصدرت الحكم عندما يعرض عليها الإشكال في التنفيذ أن تنظر فيما يثيره قلم المحضرين من إشكال حول التنفيذ. وقضت بمثل ذلك محكمة بني سويف الابتدائية في غرفة المشورة في التظلم المرفوع من النيابة العامة عن الأمر الصادر من وكيل المحكمة بوقف تنفيذ حكم غلق في المخالفة المستأنفة رقم (138) سنة 1953 بني سويف وقد قضت المحكمة في هذا الحكم بأنه (لا سبيل للاحتجاج بنص المادة (480) مرافعات التي تنص على أنه إذا عرض عند التنفيذ إشكال وطلب رفعه إلى قاضي الأمور المستعجلة فللمحضر أن يوقف التنفيذ أو أن يمضي فيه على سبيل الاحتياط مع تكليف الخصوم في الحالتين الحضور أمام القاضي وفي جميع الأحوال لا يجوز للمحضر أن يتم التنفيذ قبل أن يصدر القاضي حكمه. فإنه فضلاً عن أن هذه المادة قد وردت في قانون المرافعات لتطبيقها على المسائل المدنية فإنها تطلبت من المحضر عندما يعرض له إشكالاً عند التنفيذ عرض الأمر على القاضي (أي المحكمة) بدلالة قول المادة قبل أن يصدر القاضي حكمه ومن ثم فما كان للمحضر أن يعرض الأمر على وكيل المحكمة ليفصل فيه سلطته الإدارية التي لا أساس لها من القانون).

خلاصة البحث:

32 - وجماع ما تقدم أن الاختصاص بنظر إشكالات التنفيذ في الأحكام الجنائية يكون كقاعدة عامة للمحكمة التي أصدرت الحكم وهي المحكمة الجنائية ولغرفة الاتهام إذا كان الحكم المستشكل فيه صادرًا من محكمة الجنايات، وهذه القاعدة عامة بالنسبة للإشكال من المحكوم عليه أو من الغير على أنه يستثنى من هذه القاعدة ثلاث حالات:

1 - حالة الإشكال في تنفيذ حكم بالغرامة بطريق التنفيذ المدني وفق قانون المرافعات على أموال الغير ففي هذه الحالة يختص قاضي الأمور المستعجلة بنظر الإشكال.

2 - حالة الإشكال في تنفيذ حكم التعويض الصادر من المحكمة الجنائية نهائيًا بطريق التنفيذ على مقتضى قانون المرافعات على أموال الغير فيختص بنظره في هذه الحالة قاضي الأمور المستعجلة.

3 - حالة الإشكال في الحكم الصادر بالتعويض من المحكمة الجنائية نهائيًا على أساس سقوط التضمينات بمضي المدة فيختص بنظر الإشكال في هذه الحالة قاضي الأمور المستعجلة.

كما نخلص من ذلك البحث إلى أن الإشكال في الأحكام الجنائية لا يترتب على رفعه وقف تنفيذ الحكم ما لم ترَ النيابة العامة أو المحكمة التي تنظر الإشكال وقف التنفيذ حتى يفصل في الإشكال وإلى أن المحضر لا يجوز له الامتناع عن تنفيذ العقوبات التكميلية إذا أثير إشكال بشأنها إلا بعرض الأمر على المحكمة المختصة بنظر الإشكال.

________________________________________

[(1)] راجع حكم محكمة مصر الكلية في 22/ 6/ 1932 محاماة س 13 صـ 912 في إشكالات تنفيذ الأحكام الشرعية.

[(2)] يرى جرافولان أن الاختصاص في كل إشكال في التنفيذ يكون للمحكمة التي أصدرت الحكم فهي أولى المحاكم بالاختصاص قياسًا على (م 386) مرافعات قديم ولم يعنَ بالتفرقة بين اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم وقاضي الأمور المستعجلة في نظر إشكالات التنفيذ مع أن المادة (386) مرافعات جعلت الاختصاص للمحكمة التي أصدرت الحكم عند الفصل في موضوع النزاع بين الطرفين في الإشكال لا في وجهه السريع بالإيقاف أو الاستمرار في التنفيذ.

[(3)] راجع حكمي قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة مصر (القاضي محمد علي راتب) في 7 مارس سنة 1935 و13 يناير سنة 1936 المنشورين الأول بمجلة المحاماة س 15 صـ 521 والثاني بمجلة المحاماة س 16 صـ 427).

جريمة إهمال أمر العائلة

مجلة المحاماة
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
جريمة إهمال أمر العائلة
(Délit d’abandon de famille)
وضع الشارع المصري القوانين المصرية من مختلطة وأهلية ولم يكن أمامه وقتئذٍ سوى القوانين الفرنسية فتقيد بها كثيرًا وكان لها أثر فعال في كل ما سن من قوانين مختلفة ولم يلتفت إلى شرائع البلدان الأخرى ليقتبس منها أكثرها موافقةً لمصالح المصريين وعاداتهم.
ولقد كان مقدار أخذنا بالقوانين النابوليونية وما سنته من القواعد العامة كبيرًا وأكثر مما يلزم حتى أننا أغفلنا بعض مبادئ سديدة واردة في أحكامنا الشرعية.
أقول ذلك بمناسبة ما اطلعت عليه اليوم في جريدة (الماتان) الفرنسية الصادرة في 24 مايو سنة 1924 متعلقًا بسن قانون (إهمال العائلة) فقد صدر في فرنسا بتاريخ 7 فبراير سنة 1924 قانون يعاقب بالحبس من ثلاثة شهور إلى سنة أو بالغرامة من 100 إلى 2000 فرنك كل من يمتنع متعمدًا أكثر من ثلاثة شهور من تنفيذ حكم صادر عليه بالنفقة لزوجه أو أصوله أو فروعه.
وقد أشار الكاتب بإيجاز إلى الإجراءات التي تتبع أمام قاضي المصالحات والتي يعقبها رفع الدعوى العمومية على الجاني بناءً على طلب النيابة أو بطريق تحريكها بواسطة المجني عليه.
ونوه بأن أكثر الممالك قررت اعتبار الأمر المتقدم جرمًا معاقبًا عليه جنائيًا وذكر أن الولايات المتحدة من سنة 1888 وسويسرا من سنة 1891 وألمانيا من سنة 1894 والنرويج من سنة 1902 ونيوزلندة وأستراليا من سنة 1910 وبلجيكا من سنة 1912 سنت كل منها عقوبة لجريمة إهمال العائلة.
وقد أظهر الكاتب ما يجيش بنفسه من الألم لهذا التأخير في التشريع ولم يتمالك إخفاء أسفه لإحراز ألمانيا قصب السبق على بلاده في إدخال هذا الإصلاح في قوانينها إذ جاهر بأنه من المحزن أن يكون قد مضى نحو ثلاثين سنة على المادة (361) من قانون العقوبات الألماني التي تعاقب بالحبس أو التشغيل في محل خاص كل من يؤدى سوء سلوكه وفساد أخلاقه وإدمانه على الخمر بعائلة إلى السقوط في مهاوي الفاقة.
وأني أيضًا كمصري آسف كل الأسف لأننا لم نقرر مبدأ حبس الممتنع من أداء النفقة متعمدًا مع أنه مباح شرعًا إلا في سنة 1910 (م 343 من لائحة الإجراءات الشرعية) بعد تردد كثير وتلكؤ في التشريع وتخلص من أنات المتألمين وشكوى المظلومين كأن ما بدا من مثل هذا الشخص الجاني على الإنسانية والمتسبب في قتل النفوس البريئة لا يدخل إلا في دائرة المعاملات، وقد كنا نخشى أن نتهم بالرجوع بالتشريع إلى الوراء وقد تبين لنا في وضح هذا العصر الزاهر خطأ مثل هذا الظن بدليل أن العدد الغفير من الأمم الراقية يستنكر مثل هذه الجريمة الشنعاء وقد سن لها عقوبات رادعة.
ثم أليس مما يؤسف له أن تكون مدة الحبس عندنا مقصورة على شهر واحد حبسًا بسيطًا ليس فيه ما يكفي لإلزام جميع المحكوم عليهم بالنفقة بوفائها على أنه ليس في كتب الفقه ما يحتم التقيد بمدة بل يجوز أن يتجاوز الحبس أضعاف المدة المتقدمة.
وليس يوجد من جهة أخرى ما يعوق عن إلحاق مثل هذه الجريمة ضمن الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العام لتكون المعاقبة عليها أكثر أثرًا في النفوس وأشد فعلاً بما يسن لها من عقوبات خاصة تتناسب مع الجرم المرتكب وتسري عليها أحكام العودة أسوةً بسائر الجنح.
فيا حبذا لو وجه نوابنا الكرام (وعدد المتشرعين منهم ولله الحمد وفير) أنظارهم إلى هذا الأمر الهام وفكروا في تعديل النصوص الواردة بهذا الصدد في اللائحة الشرعية وفى إضافة نصوص جديدة إلى قانون العقوبات بطريقة ملائمة للحالة الاجتماعية مما يكون من شأنه أن يخفف كثيرًا من الويلات التي يجرها جهل كثير من الأفراد فيهملون أقدس الواجبات عليهم نحو أهلهم وذويهم لعدم توفر الوازع التشريعي الكفيل بردعهم وزجرهم عما تقترفه قلوبهم القاسية.
وأختم كلمتي هذه بأن كاتب مقال (الماتان) لو كان ملمًا بقواعد الشريعة الإسلامية واقفًا على تطورات التشريع عندنا لأشار إلى مصر بوجه خاص لاشتمال الشريعة الإسلامية على العناية بأمر النفقة منذ القدم.
وعلى كل حال فإن الذي يعزينا أننا كنا أسبق من بعض الأمم الغربية في العمل بقاعدة شرعية كان يظن الكثيرون أنها غريبة في بابها وأنها من بقايا العصور الحالية فإذا هي معمول بها في صميم القرن العشرين بين أرقى الأمم مدنية وتهذيبًا بأقسى مما هو مقرر في الشريعة الإسلامية.
عبد الفتاح السيد
المدرس بالحقوق الملكية

وجوه النقض المتصلة بالموضوع

(1)

دائرة البحث

كثير من وجوه النقض - يتردد الباحثون في قبولها - وترفضها بعض الأحكام - على اعتبار أنها إلى البحث في الموضوع أقرب منها إلى الاعتبارات النظرية الصرفة.

نقول بعض الأحكام لا تقبلها - ولا يهمنا أن نتحرى - هل هي الكثرة الغالبة كما يظن أو هي القلة - فليس من رأينا أن الصواب في المسائل الخلافية يكون دائمًا مع الكثرة.

بل إن الكثرة هنا، وفي هذا المقام بذاته، لا تترجم عن رأي كثيرين قد بحثوا مستقلين - ومن نواحي متفرقة - فوصلوا إلى نتيجة واحدة، فيكون لهذا الإجماع قوة تلفت النظر، بل هي مظهر رأي هيئة واحدة، وهي إذا بحثت مرة واطمأن رأيها إلى نتيجة معينة تراها تحرص عليها - فإذا تجدد أمامها البحث فإنما يعرض شكلاً، أما في الواقع فإن الرأي مقرر لا يقبل تعديلاً - فلا الهيئة مستعدة للعدول ولا صاحب البحث مستعد جديًا لأن يحاول تغيير مجرى ما سمي فقهًا لمحكمة النقض.

من أجل هذا كانت وجوه النقض التي ترتبط بالموضوع من قريب أو من بعيد مسألة خلافية بين هيئة للنقض سابقة - وبين هيئة لاحقة، وقد أخذت الآراء فيها تتناقض بين حقبة وأخرى.

وإنك لتجد هذا التردد في آراء تتجلى إذا استعرضت الأحكام استعراضًا مرتبًا - فإنك ترى الرأي قد تغير مع الزمن فكان له ثلاثة مواقف مختلفة في ثلاث حقبات معينة.

أما الحقبة الأولى: ولا نعني بها العهد القديم عند افتتاح المحاكم، فإن المجموعات لذلك العهد تنقصنا وكل جديد في الأنظمة ليس مما يصلح للأخذ عنه - بل نعني تلك المدة التي بدأت فيها المباحث المستنيرة - فأخذت الآراء القانونية في طور التكوين والاستقرار - يساعدها التدوين في المجموعات ولعلها بدأت في سنة 1910 وختمت في سنة 1916.

في تلك الحقبة كان الرأي لا يزال مضطربًا، فمرة تجد قسوة لا حد لها في رفض كل وجه له صلة بالموضوع أو يظن أن له صلة به كيفما كانت واهية - ومرة تجد بالعكس ميلاً لبعض الوجوه. وقد تكون أكثر اتصالاً بالموضوع من تلك التي رفضت.

خذ مثالاً لذلك: سن المحكوم عليه - فإن تحقيق سن المتهم، نقطة موضوعية صرفة - ومع هذا فقد تغير الرأي في شأنه، فحُكم مرات أنها لا تصلح وجهًا للنقض، وحُكم مرات بأنها وجه صحيح للنقض.

كذلك كان الأمر عند البحث في أسباب الحكم الواقعية، وفي سلامة الاستنتاج من تلك الأسباب بعد أن تحددت وقائعها، فحُكم مرات بأن هذا لا تبحث فيه محكمة النقض بأي سبيل لأنه موضوع، وحُكم مرات بل يجوز للمحكمة أن تبحث فيه، لأنه ليس بحثًا في وقائع الموضوع بذاتها من حيث إثباتها ونفيها، بل هو مراقبة على سلامة الاستنتاج من تلك الوقائع كما أثبتها الحكم، بدون تعرض لمأمورية محكمة الموضوع - وهذه المراقبة واجبة لمحكمة النقض للتمكن من تطبيق القانون تطبيقًا صحيحًا.

أما الحقبة الثانية: ولعلها عشر سنوات تبتدئ من سنة 1919 إلى سنة 1928، فإن محكمة النقض بعد تردد قليل، اطمأنت إلى التطبيق الأوسع، استنادًا إلى مبدأ أن محكمة النقض إنما وجدت للرقابة على تحقيق مظاهر العدالة بقدر المستطاع، فكلما كان من الميسور لها أن تؤدي هذه المراقبة بدون أن ترجع إلى البحث في الوقائع من حيث إثباتها ونفيها، تعين عليها أن تؤدي مأموريتها وإلا فقد وقفت دون البلوغ إلى الغاية المقصودة من نظامها.

ولقد سارت أحكام محكمة النقض، في هذا التطبيق إلى آخر حدوده من تحري العدالة، ولعلها في بعض الأحكام قد تجاوزت الحدود القانونية لمن يشدد فيها.

ومما أكدته تلك الأحكام وجرت عليه بدون اضطراب، أنه يجوز البحث في ذات الوقائع إثباتًا، ونفيًا، إذا كان الحكم قد أسند إلى وقائع تتناقض، مع الثابت في تدوينات الدوسيه، سواء في محضر الجلسة، أو في محاضر التحقيق، أو في عقد رسمي، وكانت هذه الأوراق قد عرضت على محكمة الموضوع فلم تحفل بما ثبت فيها أو حكمت على نقيضها.

قلنا، ولعلها في بعض الأحكام قد تجاوزت حدود التدقيق القانوني في سبيل تحقيق العدالة، ولمن يتمسك بالتدقيقات الفقهية على أنها هي كل شيء، أن يبدئ ما شاء من النقد.

لكن الذي يعطي للقضاء الجنائي أهميته، ويستعرض فائدة النقض إذا قبل، وما يترتب عليه من إلغاء كثير من أحكام العقوبة، ثم استبدالها إلى براءة مطلقة، فينتقل المتهم من حكم الإعدام أو الأشغال الشاقة إلى البراءة، لا يسعه إلا أن يمجد ذلك الشعور الذي يدقق في قواعد الفقه أيضًا، ولكن لا لتضييع الأغراض التي وضعت لأجلها، وهي تحري العدالة بأوسع معانيها في المسائل الجنائية، والمراقبة على صحة الأحكام، واطمئنان الناس لعدالة القضاء.

من أمثلة هذا التجاوز، ونريد أن نختار أشدها. أنه اعتبار إذا أسند حكم العقوبة إلى تقرير طبيب عينته المحكمة في الجلسة، وكان رأيه يخالف رأي الطبيب القديم الذي يتمسك به المتهم في دفاعه، لكن الحكم لم يفصل في هذا الدفاع صراحةً. ولم يبين سبب تغليبه لرأي الطبيب الذي نُدب في الجلسة على رأي الطبيب الأول كان ذلك مبطلاً للحكم (نقض 13 مايو سنة 1924).

كذلك قررت، ولعل هذا أكثر تجاوزًا، أن عدم البحث صراحةً في قيمة تقرير استشاري قدمه الدفاع، يقتضي نقض الحكم، (أول فبراير سنة 1926).

ومن أمثلة هذا، التقرير بإلغاء الحكم، لأنه لم يبحث صراحةً في دفاع المتهم، إن الشيء المسروق قد أعطى له اختيارًا، (27 يوليو سنة 1918).

وقد يشبه هذا التقرير بأن عدم البحث صراحةً في أن المبلغ المدعى باختلاسه قد سُرق من المتهم مبطل للحكم، (5 نوفمبر سنة 1923 و5 أكتوبر سنة 1925).

كان هذا التوسع سببًا للنقد، وكل نقد إذا قويت حركته يصل بالوسط إلى حركة رد الفعل، وهي حركة تقتضي شيئًا من المبالغة، فلا بد أن تصل إلى أقصى حدود التناقض لذلك الرأي القديم.

ويخيل للباحث أننا الآن في دور رد الفعل هذا، فتوالت الأحكام برفض الطعون كلما فهم من الوجوه المقدمة أنها تتصل بالموضوع مهما كان الاتصال بعيدًا.

ولأن الفكر كان ممتلئًا بذلك التجاوز القديم الذي وضعنا، أمثلة منه، رأينا أحكام هذا الانتقال تعلن أن الحكم بالعقوبة على خلاف أي دفاع موضوعي من المتهم، يعتبر صحيحًا بدون أي بحث صريح في ذلك الدفاع، وذهبت بعض الأحكام إلى أن محكمة الجنايات ليست مكلفة بالبحث ولا في شهود النفي بكلمة تقولها، ويكفي أن تسند حكمها إلى أقوال شهود الإثبات، وفي هذا الإسناد بذاته تدليل ضمني على أن المحكمة لم تقتنع بشهادة النفي !!

غير أن محكمة النقض لم تثبت على هذا الرأي دائمًا، وفي رأينا أنه لم يكن في الإمكان أن تثبت عليه، بل نراها في كثير من الأحكام تقرر بقبول النقض المتصل بالموضوع اتصالاً وثيقًا، فهي تحكم على الدوام، على ما نعتقد، بقبول النقض إذا كان الحكم قد أسند إلى وقائع تنقضها محاضر الجلسات أو التحقيق، نقضًا صريحًا !!

على هذا نستطيع أن نقول إن المسألة لا يزال الرأي فيها معلقًا لم يستقر على قاعدة محددة، فلا يعرف ما هو النقض الموضوعي الذي لا يجوز قبوله، ولا ما هو الذي يجوز قبوله، إذ الحد الفاصل بين النوعين لا يزال غامضًا.

بل إن نفس هذا الغموض كان سائدًا في تاريخ أحكام محكمة النقض فيما تقدم من الزمن إذ لا يوجد حكم بحث هذا الموضوع بما تقتضيه من الاهتمام لحل المسألة حلاً علميًا، يحدد القاعدة، التي يجب أن تكون أساسًا للفصل في هذا النوع من وجوه النقض.

لذلك كان لا بد من أن يتناول أحد المشتغلين بالقضاء هذا البحث، وإن لم يكن بحثه أهلاً لحل المسألة، فإنه مجهود يبذل في سبيل الواجب وهذا كل ما أردنا.

(2)

المذهبان في القانون الفرنسوي

نقول مذهبان جريًا مع الإجماع، ولعل في المسألة ثلاثة آراء، غير أن الرأي الثالث فيه بعض الغموض جعل الباحثين لا يعتبرونه رأيًا مستقلاً كما سترى.

لسنا نجد لبيان المذهبين أحسن من أن ننقل هنا أسانيدهما، ترجمة حرفية.

ورد في داللوز، جزء 7، صفحة 306 ما يأتي فقرة 1224.

(إن مبدأ التفرقة بين الواقع والقانون مقرر فيما يتعلق بالجنايات، ففي مسائل المخالفات، والجنح، يحكم القضاة وحدهم فيما يتعلق بالواقع والتطبيق القانوني).

أما في الجنايات الكبرى فالوقائع من اختصاص المحلفين، والقانون من اختصاص المحكمة، ولقد تُعرض على محكمة النقض في هذا الموضوع مسائل عسيرة الحل قام في شأنها مذهبان متناقضان تناقضًا واضحًا، في المبدأ، وفي الاستدلال، وقد جرى على كل منهما فقه محكمة النقض على التعاقب. ولكل منهما أسباب قوية، وأنصار من أولي الرأي الناقد من الجانبين.

أما المذهب الأول: ويظهر أن محكمة النقض قد عدلت عنه الآن، فهو مسند إلى نظرية واضحة تتلخص في التفرقة بين أنواع الجنايات التي صدر فيها الحكم.

فإذا كانت الجناية التي صدر فيها الحكم قد حدد القانون أركانها، وبين طبيعتها وكيف تتكون، وبالجملة إذا كانت الرابطة بين الواقعة وبين تعريفها القانوني قد حددها القانون، فالقانون هنا موضوع الواقعة كلها فلمحكمة النقض أن تراقب.

أما إذا كان البحث في أركان الجريمة، والظروف التي تكونها قد تركه القانون لتقدير القاضي وشعوره، فهو يقدر بصفة نهائية، ولا شأن في تقديره للقانون، فلا سلطة حينئذٍ لمحكمة النقض.

يقول أنصار هذا المذهب أنه يتفق مع الغرض من تنظيم محكمة النقض، لأن أحكام القانون لم تمس إذا أخطأ القاضي في تقدير الوقائع ما دام أن القانون قد ترك تقديرها له، أو إذا أخطأ في أركان تكوين الجناية ما دام أن القانون لم يعين تلك الأركان..

يقولون أيضًا قد يجوز أن يكون حكم القاضي، على خلاف الحقيقة، وقد يتناقض ظاهرًا مع الفعل، أو مع العدالة، ولكن جلال القانون باقٍ على كماله.

وقد استمد هذا المذهب قوته، لأن علمين من أعلام القانون في محكمة النقض قد أيده، وهما النائب العام (مرلين) والرئيس (باريس) وقد شرحه الرئيس (باريس) في مذكرة، قرأها على محكمة النقض في سنة 1822 وهي جديرة بأن تنقل بنصها هنا، وقد كان الموضوع جنحة. سب وتعدٍ، وقذف.

جاء في المذكرة:

لم يوضع نظام النقض إلا لمنع المخالفات القانونية، ولا اختصاص للنقض في أن الحكم صواب أو غير صواب، بل تخرج محكمة النقض عن حدود اختصاصها، إذا تعلق بحثها بمسائل لم يحدد القانون كيف تقع، وتركها لتقدير القاضي ووجدانه.

والواضح أن الأقوال، والتقريرات، التي تكون جنحة السب أو القذف، هي من الأمور التي لم يحددها القانون ولم يكن في الاستطاعة تحديدها، بل يرتبط تقديرها المعنوي بظروف القصد، والزمان، والمكان، وبمركز من صدرت منه، ومن وجهت إليه.

ولما كان تعيين هذه الظروف خارجًا عن مقدور الشارع فقد تركها للقضاة، فلهم وحدهم حق تقديرها وتحديد وصفها.

إنهم في هذا التحديد أحرار لا ينفذون قانونًا، فإذا أخطأوا فهم لا يخالفون قانونًا، فلا طريق لسلطة النقض على حكمهم.

يجوز بلا شك أن يخطئوا، لكن الحكم الغير مسند تصححه محكمة الاستئناف، أما محكمة النقض فلا.

ولقد اعترض على هذا، أنه إذا طبق القاضي القانون تطبيقًا صحيحًا على الواقعة كما وصفها في حكمه، فإن الخطأ الذي وقع في وصف الوقائع هو بذاته الذي كان أساسًا لتطبيق القانون. فالتطبيق أصبح باطلاً بذاته، وحينئذٍ يكون لوظيفة محكمة النقض أن تؤدي ولا تزال سلطتها باقية.

لا ننكر أن هذا الاستدلال بما فيه من الاستنتاج يسند إلى بعض أحكام قديمة، ولكنا نرى أن تلك الأحكام شذت عن أصول نظام النقض.

على أن هذا الفقه إذا عمل به فإنه ليتجاوز في نتائجه كل حدود سلطة النقض ويضيف إلى مأموريته التي تنحصر في بطلان الأحكام، مأمورية أخرى هي تعديلها، فتصبح محكمة النقض محكمة أعلى تحكم استئنافيًا في الموضوع.

ذلك لأنه إذا ثبت لمحكمة النقض حق البحث في معنى الوقائع ووصفها، إذا لم يكن القانون قد حدد لها أركان خاصة، فإن هذه السلطة تمتد إلى تقدير جميع الوقائع الجنائية، فيجوز أن يقال إن التحقيق الذي أسند إليه الحكم قد قدره الحكم خطأ، وإن الوقائع التي وصفها الحكم بأنها احتيالية قد وصفت خطأ، وأنه بناءً على هذا الخطأ كان تطبيق القانون خطأ.

وقد يستلزم هذا الرجوع إلى بحث القضية بجميع أركانها، فيكون لمحكمة النقض أن تنظر في الموضوع بحجة أن الغرض من بحثها إنما هو تطبيق القانون.

إن القضاة هم في الحقيقة محلفون فيما يختص بجميع الجنايات التي لم يحدد القانون أركانها، فهم مثلهم لا يتقيدون إلا باعتقادهم، ولا ينظر في صحة هذه العقائد إلا محكمة الاستئناف، ويجب أن نسأل إلى أية نتيجة يصل بحث الوصف الذي قررته الأحكام أمام النقض.

قد تسمع في هذا البحث شيئًا هو أقرب إلى الخطابة.. وقوة البلاغة. لكنك لا تسمع فيه أن مخالفة ظاهرة للقانون، قد وقعت من طريق صريح مباشر، لأنه مفروض هنا أن القانون قد طبق تطبيقًا صحيحًا على الوصف الوارد في الحكم، فإذا جاز إثبات أن الوصف خطأ، فنتيجته أن القانون قد خولف في تطبيقه ولكن بواسطة، ومن طريق غير مباشر.

نقول غير مباشر، لأنه يجب على محكمة النقض لتصل إلى إثبات هذا البطلان القانوني، أن تستبعد أولاً وصف قضاة الموضوع للوقائع، ثم تصفها بوصف جديد.

وعلى هذا يكون سبب النقض واقعًا مباشرةً على الوصف الذي ثبت في الحكم، ثم لا يصل إلى تطبيق القانون إلا بواسطة هذا الوصف الجديد.

على أن المادة (7) من قانون 20 إبريل سنة 1810 تمنع محكمة النقض أن تلغي الأحكام في غير حالة مخالفة القانون مخالفة صريحة ومن طريق مباشر !!.

ويجب أن نلاحظ أن الوصف الجديد الذي تستبدل به محكمة النقض ذلك الوصف الذي ورد في الحكم، لا يمكن أن يسند هو أيضًا إلى نص في القانون، وهو لا يمتاز في قيمته المعنوية عن وصف قضاة الموضوع، لأنه إنما يسند إلى شعور القضاة الداخلي وهو في الحالتين واحد من جهة النوع، لم يتغير فيه سوى الأشخاص دون القانون.

ولنا أن نضيف أن هذا الاعتقاد الداخلي قد يكون عند قضاة الموضوع، وهم لأنهم أكثر اتصالاً بالخصوم ووسطهم وعاداتهم ومقاصدهم، أقرب إلى الحقيقة من وصف قضاة النقض.

وفي رأينا أن محكمة النقض لا يمكنها في هذه المأمورية إلا أن تسند حكمها إلى اعتبارات ترجع في الراجح إلى الشهوة لا إلى الحق.

ذلك هو الرأي الذي نعارضه نقلناه بحروفه، وبجميع وجوه الاستدلال التي أسند إليها، إخلاصًا للبحث، ونضع بجانبه نص الرأي الذي يعارضه هناك، وبحروفه أيضًا.

تقرأ في دالوز نفس الجزء (7) ابتداءً من صفحة 408، فقرة (1762) ما يأتي:

أما الرأي المخالف وهو الذي نؤيده، لأنه هو وحده الذي يهيء لمحكمة النقض تأدية المهمة التي نُدبت لأجلها، إذ هو يترك لمحكمة الموضوع أن تبحث في إثبات الوقائع المادية وجودًا وعدمًا، مع ظروفها التي تحيط بها.

أما بعد هذا الإثبات، فإن وصف الوقائع، مسألة قانونية هي من اختصاص محكمة النقض، وذلك متى ثبت لها أن الوصف الذي وصفت به محكمة الموضوع الوقائع كان معيبًا، أو خرجت به عن الرابطة القانونية.

في هذا المقام يقول (كارنو) (جزء 1، صفحة 577).

ولقد سمعنا، أن هناك مبدأ يفرق بين حالة تحديد أركان الجناية بنص القانون، وحالة عدم تحديدها، ولا نستطيع أن نقبل هذا المبدأ لأنه يتعارض مع كل مبادئ العقل والعدالة، إذ هو يؤدي حتمًا إلى تخويل المحاكم سلطة استبدادية تتصرف بها في شرف الناس وأموالهم.

ونظرًا لبساطة المذهب الأول بإسناده إلى فكرة سهلة القبول فقد اتبعته محكمة النقض أولاً، من سنة 1822، إلى سنة 1831، وكان العمل به راجعًا إلى رأي النائب العمومي (دوين) والرئيس (باريس).

لكن البحث قد أدى إلى ظهور بطلان هذا الرأي في نتائجه لأنه في الواقع يعطل مأمورية محكمة النقض، إذ يصبح للقاضي حق لا حدود له في تأثيم المتهمين، لأن القانون لم يعين أركان وقائع الإجرام إلا قليلاً، سواء في الجنايات أو في الجنح.

1764، ولقد حكم عملاً، بذلك المبدأ الأول أنه ليس لمحكمة النقض أن تراجع الوصف في جنايات الصحف.

1/ 5 - فيما يتعلق بالتعدي على الآداب العامة.

2/ - أو التعدي على شخص الملك.

3/ - أو التعدي على الأديان.

4/ - أو اعتبار النشر قذفًا.

5/ - أو باعتبار رسالة منشورة سبًا.

6/ - أو هل القذف يشير إلى هيئة خاصة أو لا يشير.

ولقد تكلم (كارنو) عن تهمة القذف:

(فقال إن بعض أحكام النقض رأت أن محكمة الموضوع من سلطتها وحدها، حق تقدير، هل الواقعة، التي أسندها المتهم للمجني عليه من شأنها تحقيره أو تعريضه إلى بغض مواطنيه).

لكن هذه الأحكام يجب التمييز فيها بين حالتين، فإن محكمة الاستئناف لها حق تدوين الوقائع بمعنى أنه ليس لمحكمة النقض، أن تقرر أن الواقعة الثابتة في الحكم ليست صحيحة، أما تقدير هذه الوقائع بذاتها فإنه رأي يبدى، وهذا الرأي يجوز أن يكون مخالفًا للقانون، وما نقوله بشأن القذف يجب تطبيقه على جميع أنواع الجنح.

1765، وقد حكم بناءً على ذلك الرأي القديم أيضًا، أنه ليس لمحكمة النقض أن تراقب في المسائل الآتية:

1 - هل أقوال المتهم ضد الموظف تعتبر إهانة.

2 - وهل الأعمال التي صدرت من المتهم في معبد تعتبر تشويشًا على من فيه أو لا تعتبر.

3 - وهل الوقائع تعتبر تحريضًا على الفسق أو لا تعتبر.

4 - وهل أعمال المتهم تعتبر تأدية لوظيفة الطبيب.

1766، غير أن هذا الفقه الذي ينتج أخطارًا واضحة ترتبط بتطبيق القانون، وبتأمين (الناس على أنفسهم قد عدل عنه بحق، وصدرت أحكام النقض على التوالي طبقًا للمذهب الثاني).

1767، فيجب أن يتقرر بصفة أصلية أن تقريرات محكمة الموضوع فيما يختص بإثبات الوقائع لا مراقبة عليها، أما وصف هذه الوقائع، والنتائج التي تقتضيها فسلطة محكمة الموضوع ليست نهائية.

وإن بحث هذا الوصف، وبحث نتائج الوقائع، للتوصل إلى تقرير العقوبة هو من اختصاص محكمة النقض، فيجوز لمحكمة النقض أن تقرر أن الألفاظ المدونة في الحكم تكون جنحة التعدي على الموظف حيث لم يرَ فيها الحكم الموضوعي إلا جنحة سب عادي.

وكذلك لمحكمة النقض، وهذا أيضًا رأي محكمة النقض في بلجيكا، أن تراقب الوصف الذي وصفت به الوقائع الثابتة في الحكم، إذا كان هذا الوصف يترتب عليه النظر في تطبيق القانون.

1768، ولمحكمة النقض أن تراجع، وتقدر، الوقائع الثابتة في الحكم، لتستنتج هل هذه الوقائع تؤدي إلى إثبات واقعة قتل أو لا تؤدي.

ويجب على محكمة النقض أن تصحح النتائج غير الصحيحة والاستنتاجات التي لا تتفق مع الوقائع الثابتة في الحكم.

1775، ويجوز لمحكمة النقض، أن ترى في الرسالة المنشورة، تحريضًا على كراهة الحكومة واحتقارها ولو أن محكمة الموضوع لم ترَ فيها هذه الجنحة.

وكذلك لها أن ترى في النشر جنحة على خلاف رأي النيابة.

1776، ولمحكمة النقض أن ترى في الرسالة المنشورة أنها تتعلق بشخص الملك، ولو أن محكمة الموضوع رأت أنها لا تتعلق بشخصه.

1777، ولها أن تقرر أن نشرة أسبوعية يجب أن توصف بأنها نشرة سياسية، رغمًا عن أن محكمة الموضوع رأت أنها ليست سياسية.

1778، كذلك لا يخرج عن اختصاص محكمة النقض، تقرير محكمة الموضوع باعتبار أن شركة قد تكونت وهي في الواقع استمرار لشركة قديمة.

1780، ولمحكمة النقض هذه السلطة في جميع الأحوال التي يمكنها أن تجد فيها من الوقائع الثابتة في الحكم جسمًا لمخالفة، فلها حق تقدير الوقائع مستقلة أو مجموعة، للتقرير بأن محكمة الموضوع وصفتها وصفًا حقيقيًا، وبناءً على هذا فلمحكمة النقض أن تقدر وتستنتج، من حالة المنشورات أو الإعلانات، المادية، والمبينة في الحكم، وصفها القانوني، ولهذا فقد اعتبرت أن الجريدتين المنشورتين، على ورقة واحدة وقد اعتبرتهما محكمة الموضوع جريدة واحدة، هما في الواقع جريدتان مستقلتان فيجب تقديم ضمان عن كل منهما.

1793، ولقد ذهبت محكمة النقض إلى أبعد من هذا، فقررت أن لها الحق أن تبحث وتقدر الوقائع والظروف المادية الثابتة في محضر توافرت فيه شروط الصحة، لتستنتج منها حلاً يخالف الحل الذي ذهبت إليه محكمة الموضوع.

وقد قررت هذا في حالة البحث في هل تعتبر العزبة موقوفة أو غير موقوفة.

1795، هل تترك وقائع الإكراه التي تكون جناية الفسق بإكراه، إلى تقدير محكمة الموضوع.

نعم، ولكن فيما يختص بإثبات تلك الوقائع، أما فيما يختص بوصفها فلا.

وقد قلنا فيما تقدم إن هذا هو الرأي فيما يختص بالإكراه المدني.

ذلك مظهر المذهب الثاني، أما الرأي الذي قلنا إنه يجوز أن يكون مذهبًا ثالثًا، فهو رأي النائب العمومي (دوين) الذي اعتبر خطأ على ما نظن. موافقًا لرأي الرئيس باريس، وهو رأي وسط بين المذهبين.

يقول النائب العمومي (داللوز جزء 7) فقرة (1227) ما يأتي:

ليس من رأيي أن محكمة النقض لا يجوز لها في ظروف خاصة أن تقدر الوقائع لتصل من هذا الطريق إلى تقدير القانون.

وليس من رأيي كذلك أن لها حق التقدير دائمًا وفي جميع الأحوال.

إن قاضي الموضوع إذا أثبت الوقائع في الحكم، ثم أخطأ بعد ذلك في وصفها القانوني، أو إذا أصاب في وصفها القانوني، لكنه طبق عليها نصًا غير الذي يجب تطبيقه، أو إذا تناقض في تدليله المنطقي، فإن النقض يُفهم في هذه الأحوال الثلاث لأن القانون هنا أحد أطراف القضية المنطقية.

أما إذا كان لا بد لإلغاء الحكم من معارضة في الوقائع التي دونها، وكان تصحيح القانون يستلزم البحث في الوقائع من جديد لاستبدالها بوقائع تؤسس على تقديرات جديدة، فليس هذا من سلطة النقض بل هو ليس عمل الفقيه المنزه عن الغرض، ولعله عمل عقيدة خاصة أو مظهر شهوة وتحيز).

أما وجه أننا نعتبر هذا القول مذهبًا وسطًا فذلك لأنه قد خالف نظرية الرئيس باريس في أصلها ونتائجها.

خالفها في أصلها لأنه لم يصدر في مذهبه عن ذلك الأصل الذي وضعه وهذا ما أجمعت عليه الأحكام في فرنسا، وعندنا، فلا نزاع في أن تدوينات الحكم التي تخالف محضر الجلسة، في سلطة محكمة النقض تصحيحها، وهي إذا قبلت ذلك لا ترجع إلى وقائع الدعوى، ولا تقدرها، ولا ترجح إحداها على الأخرى بل هي تقف عند الثابت أمامها، وتمنع القاضي عن أن يستبد بالناس فيلصق بهم ما ليس له أثر في الأوراق، فهي في دائرة القانون الصرف، وفي دائرة الحماية العامة، وفي دائرة رد القاضي إلى سلطته المشروعة.

بناءً على هذا فمن الخط أن يقال إن النائب العمومي دوين من رأي الرئيس باريس، ونعتقد أن الرئيس باريس انفرد برأي خاص له، وأنه غير مسند كما سترى.

قلنا وإنه يخالفه أيضًا في النتائج لأنه يعطي لمحكمة النقض أن تراقب الوصف الموضوعي، وهو ما لا يرضاه الرئيس باريس، ويعطي لمحكمة النقض أن تراقب قيمة التدليل المنطقي، أي تقدير أسباب الحكم والنتائج التي يصح أن تؤدى إليها، إثباتًا ونفيًا، فانضم بذلك إلى الرأي الذي يقول به إلى أكثر من نصف الطريق.
(3)
نظرة في المذهبين
المذهبان يتناقضان تمام التناقض كما ترى، ولا يكفي للفصل بين المذهبين التمسك بما وقف عنده داللوز بقوله إن محكمة النقض قد عدلت عن ذلك الرأي القديم واستقر رأيها على الرأي الذي يعارضه.
بل لا بد لنا من تقدير حجة كل منهما، وقيمة إسناده.
أما الرأي الأول: رأي الرئيس بارنس، فإن الذي يلقي عليه نظرة عامة يجمع فيها بين مختلف أسانيده، ليعطيها طابعها المشترك، وليتبين المصدر الذي صدرت عنه، لا يمكنه إلا أن يلاحظ أنها أسانيد شكلية ترجع كلها إلى فكرة جافة، قاسية، عمادها حروف القانون، صامتة، وذلك بدون أي بحث عميق جوهري، لا من جهة ما ترضاه الناس لأن يكون مأمورية القاضي، ولا من جهة المصلحة العامة، ولا من جهة تأمين الناس على العدالة في القضايا الجنائية، ولا من جهة نفس الروح التي أملت على الشارع ضرورة تشكيل محكمة النقض، فظهرت في الوجوه التي قررها سببًا لبطلان الأحكام.
أسانيد المذكرة ستة، وإذا تأملت إليها رأيتها كلها ترجع إلى سند واحد، هو القول بأن محكمة النقض إنما تنحصر مأموريتها في مراقبة المحاكم إذا خالفت نص قانون موضوع، فوضع هذا أول الأسانيد ثم تسلسلت النتائج، فوضعت كل نتيجة لهذا الأصل سندًا جديدًا وهي ليست كذلك. إذ متى تقرر هذا المبدأ أساسًا بحروفه، فيكون من الطبيعي أن محكمة النقض تنحصر مأموريتها في بطلان الأحكام فلا يجوز لها تعديلها.
وهذا هو الدليل الثاني، ومن الطبيعي ثالثًا، أنه لا يجوز لمحكمة النقض أن تبحث في تقدير جميع الوقائع الجنائية، ومن غير المهم أن تبحث في هل القضاة في المسائل الجنائية يعملون عمل المحلفين فيحكمون بعقيدتهم أو أن هذا نظر خاطئ، وهذا هو السند الرابع، ويكون من الطبيعي خامسًا، أن محكمة النقض إذا أرادت إصلاح التطبيق القانوني من طريق تغيير الوصف الواقعي، أو تغيير مجرى الاستنتاج من الوقائع فإنها تكون قد تعدت رقابتها القانونية، ولكن من طريق بحث الموضوع أو من طريق غير مباشر.
ومما لا جدال فيه أخيرًا، وهو آخر الأسانيد، أن قرار محكمة النقض تعديلاً في الموضوع إنما يكون المرجع فيه إلى شعور المحكمة لا إلى شيء آخر !!! ولكنا لا ندري كيف يكون هذا دليلاً في النقطة التي نبحث فيها !، أترى كيف أن الاستدلال قد تضاءل رغم مكانة الرئيس العظيم، وذلك بمجرد وضعه موضع التحليل الدقيق !!.
ثم إذا تأملت إلى كل سند مستقلاً لا تجده في الواقع بذلك الجلال الذي فُهم به، وما كان هذا الرأي ليؤثر على الناس لولا مركز صاحبه من المكانة والاحترام.
بل إنك لو تأملت حقيقة لأخذت كل سند لهذا الرأي بذاته سندًا لنقيضه. وإليك البيان:
السبب الأول: إن محكمة النقض، وجدت لمنع المخالفات القانونية. هذا صحيح لا يجادل فيه أحد. ولكن المسألة المراد حلها هي هل إذا صدر حكم بالعقوبة، وقرأت الحكم، وما أثبته من الوقائع، وما دونه من الأسباب، فكانت أمام الأنظار وكما عرضت، وبحكم العقل الإنساني إجماعًا، لا تكون جناية، وذلك من جهة الاستنتاج الواقعي، الواضح، ألا يكون توقيع العقوبة هنا مخالفًا للقانون. بل للذمة، والعقل، ولكل نزعة من نزعات بني الإنسان ؟!!
وهل لا تكون هذه المخالفة للقانون، بل هل لا يكون هذا الظلم الصارخ، سببًا مباشرًا، لبطلان الحكم، بدون لف، ولا بحث، ولا تدليل جديد، ولا تغلب شعور قضاة النقض على شعور قضاة الموضوع.
هب أن حكمًا صدر على خلاف كل ما جاء في التحقيقات، وعلى خلاف شهادة الشهود المقررة في محضر الجلسة، فهمها القاضي على عكس ما وردت، فأرسل بالمتهم إلى الجحيم، وكتب في حكمه أنه قد ثبتت لديه الجناية بشهادة نفس أولئك الشهود الذين نفوها، فهل القاضي هنا لم يخالف القانون، مخالفة صريحة، ظاهرة، تجدها محكمة النقض مباشرةً، وبدون بحث ولا تنقيب، فيقال إن وجه النقض غير متوفر، لأن القاضي كالمحلف لا يُسأل عن عقائده، وقد اعتقد أن هناك جناية، أثبتها اسمًا في حكمه، ثم طبق عليها القانون، والاسم في الجناية هو كل شيء، فإذا كان التطبيق صحيحًا فلا مخالفة للقانون، ولا وجه للنقض ؟!!
أما الدليل الثالث: وهو قوله إن هذه السلطة تصل بمحكمة النقض إلى بحث جميع الوقائع الجنائية من جديد، فلا يدل إلا على شيء واحد في طبائع الإنسان، مهما كان ساميًا، هو ضعف التقدير عند أية مصلحة، والمبالغة في الاستدلال إلى انتحال عيب للرأي الذي يعارضه لا وجود له، فليس من مرامي المذهب الثاني أن يكون لمحكمة النقض سلطة البحث في جميع الوقائع، إثباتًا ونفيًا، ولا يمكن أن يقول بهذا أحد، بل هو يسلم بالقاعدة لأنها أصل كلي للنظام الجنائي، لكنه يبين حدودها، ويوفق بينها، وبين الأصل الأعم الذي تقوم عليه بناء الحياة الاجتماعية، ويقوم عليه بناء القضاء بما تتبعه من الأنظمة المخالفة، وهو تأمين الناس على أن مظاهر العدالة قائمة في كل حكم، ولو ظاهرًا فقط، وبصرف النظر عن خطأ القضاة موضوعًا، فإن هذا هو أول ركن يقوم عليه كل نظام للجماعات !!
أما الدليل الرابع: وهو أن القضاة كالمحلفين يحكمون بوجدانهم وليس لأحد أن يسألهم لماذا حكموا، فينقضه القانون بنصه الصريح، لأنه يلزم القاضي أن يسند حكمه الجنائي إلى أسباب معينة، يقرؤها الناس، ولم يكن الشارع لاعبًا في تقرير هذا الإلزام، ولو أنه أراد أن لا يسأل القاضي عن كيفية تكوين عقيدته، لكان من الهزل الذي لا يُفهم إلزام القاضي بوضع الأسباب، والتصريح ببطلان حكمه إذا هو خالف هذا الإلزام !!
أتظن مع هذا النص أنه يريد من القاضي أن يكتب لهوًا، كلامًا مرصعًا لا وزن، ولا نتيجة له، ؟!! بحيث إنه لا توجد سلطة تقضي ببطلان حكمه مهما كانت الأسباب عقيمة لا تؤدي إلى إثبات الجناية التي وردت في الحكم !؟
إذا كان هذا ممكنًا، فما معنى نص القانون ببطلان الحكم إذا لم تكن أسبابه معينة فيه !!
قد نقول هذا إذا لم يكن في الحكم أسباب أصلاً، أما إذا وضعت فيه أسباب، فالبطلان غير ميسور.
وإنك لا تصل إلى هذا الرأي إلا إذا خطوت خطوة أخرى وقلت إنه لا يجوز لأحد أن يقرأ تلك الأسباب بل يجب أن يقف عند النظر في أن الحكم تسبقه سطور مكتوبة، ثم التقرير، بناءً على اعتبار أن كل حكم لا بد قد استكمل شروط صحته، بأن هذه هي الأسباب وانتهى الأمر.
وإذا قلت كلا بل لا بد أن تقرأ الأسباب فما هو الرأي إذا قرأتها فوجدتها أما كلامًا لا نتيجة له أصلاً، وما لا نتيجة له فخاتمته البراءة ؟، وأما كلامًا نتيجته العقلية في نظر إدراك الناس جميعًا، أنه لا يثبت جناية، يعني أنك وجدت الحكم لا شاملاً على (أسباب العقوبة)، بل معلنًا لأسباب البراءة، فماذا تفعل !!
أما الدليل الخامس: وهو أن بحث محكمة النقض في الموضوع لإصلاح الخطأ القانوني، إنما هو إصلاح غير مباشر، فلا يصلح دليلاً، لأننا إذا سلمنا حقيقة، وهو ما لا نراه، إن هذا الإصلاح غير مباشر، ففي أي نص جعل القانون شرط إصلاح الأحكام أن يكون الخطأ واقعًا مباشرةً، وبدون تعاريج ؟!!
هل تظن أن مخالفة القانون، تكون مقدسة، إذا وضع لها من التمهيدات، والطرق الملتوية، ما يخرجها من سلطة النقض، لكنها لا تكون، كذلك إذا لم يكن الحكم قد عنى بإخفاء طريقها عن الناس ليخرج بها عن مراقبة السلطة العليا.
على هذا يكون الظلم المقصود، الفني، أولى بالاحترام من الظلم العرضي إذا وقع بسلامة نية على أنه رمية من غير رامٍ !!!
هذه هي كل أسانيد الرأي الذي يعارضه، فلسنا مبالغين إذا قلنا إنها في الواقع أسانيد للرأي الذي يخالفه.
غير أنه يجب من باب الإنصاف أن نذكر أن المسائل الخلافية قد يخفى الحل فيها على أقدر الناس علمًا وإدراكًا، فإن للظروف أثرًا لا يذكر في توجيه البحث إلى ناحية من النواحي، والقضية التي أُبدي فيها ذلك الرأي كان موضوعها قذفًا، وهو أبعد الأشياء عن القانون، فكان رفض النقض أقرب احتمالاً من قبوله.
وقد تسلطت هذه الروح في جميع الأسانيد التي أبديت، وإنما جاء الخطأ من رغبة التعميم ووضع الأسانيد مطلقة فكانت المبالغة على أنها هي المبدأ الدائم، وهي لا تصلح مبدأ بحال من الأحوال.
وليس أدل على أن الظروف هي التي كانت تملي الرأي على وجدان الرئيس العظيم، من قوله في خاتمة الأسانيد، والخاتمة عند الكثيرين هي الحجة الكبرى، إن تقدير وشعور محكمة النقض سيكونان أبعد عن الحقيقة من شعور وتقدير محكمة الموضوع !!!
من أجل هذا، فقد عَدلْت محكمة النقض هناك عن هذا الرأي.
ويقول أصحاب البنديكت (جزء 15، صفحة 70 من البند فقرة 1138 إلى ما بعدها) كما قال داللوز أيضًا في ذلك الجزء، ولكنا أردنا الإشارة هنا إلى البندكت، لأنها أحدث عهدًا، يقولون إن محكمة النقض في باريس بعد أن ترددت كثيرًا في أحكامها، أخذًا برأي الرئيس بارنس، وبعد أن أنقصت من حدود اختصاصها، رجعت إلى ذلك الاختصاص على أصله وقررت أن لمحكمة النقض سلطة أوسع من هذا هي بذاتها تلك السلطة التي نقلناها عن داللوز ولا نعود إليها.
وإذا رجعنا بعد هذا كله إلى القاعدة التي تعتبر أصلاً لهذا النزاع وجدناها في داللوز جزء 7، صفحة 306، منقولة عن حكم من أحكام النقض بالنص الآتي:
فقرة (1214): وقد حكمت محكمة النقض عملاً بهذا الرأي (20 ديسمبر سنة 1828)،
(إن سلطة محكمة الموضوع لا يجوز أن يكون من شأنها أن تضع في حكمها وقائع وتقريرات تخالف صراحةً ما ثبت في وثيقة رسمية.
ويظهر لنا أنه إذا جاز لمحكمة الموضوع أن تفعل هذا بدون مراقبة محكمة النقض فإنما يصبح نظام محكمة النقض عبثًا وتكون وظيفتها حلمًا لا يتحقق، إذ تكون سلطة محكمة الموضوع لا حد لها في تقرير الوقائع، فلا شيء يمنع من وضع وقائع كاذبة، ومن تقرير عقوبة غير مشروعة، بدون مراقبة من محكمة النقض فيمنعها بذلك منعًا ماديًا من تأدية وظيفتها وهي تطبيق القانون على الوقائع الصحيحة.
ثم زاد القاعدة بيانًا في صفحة 340 فقرة (1438)، بقوله:
غير أن سلطة محكمة النقض أيضًا ليست مطلقة وبلا حدود، بل حدها التمييز بين الوقائع الثابتة وفي وثيقة رسمية والوقائع الأخرى التي يجب تصحيحها من بحث وتقدير، فإذا كان الخطأ في وضع الواقعة دليله مستند رسمي، وبشرط أن يكون هذا المستند عُرض على محكمة الموضوع فخالفته، جاز لمحكمة النقض أن تصحح الواقعة، وكذلك إذا كان المستند عرفيًا،
(1439): وشرط القبول دائمًا هو أن يكون المستند قد عُرض على محكمة الموضوع فأهملته.
(1459): وقد ذكرنا عند البحث في النقض في المسائل المدنية أن من وجوه النقض أن يكون مسندًا إلى وقائع غير صحيحة، وهذا الوجه في المسائل الجنائية أوضح، (راجع كذلك فقرات 1460، 1461، 1462).
(4)
القانون المصري
قد يكون في وضع هذا العنوان ما يستوجب الدهشة إذ المفهوم عادةً أن وجوه النقض والإبرام في التشريعين، المصري والفرنسوي، واحدة لا فارق بين القانونين، على أن الذي يتأمل للنصوص، لا يمكنه إلا أن يجد فرقًا يساعد كثيرًا في حل هذا الإشكال.
ذلك لأن المادة (408)، من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي، وضعت من وجوه النقض، بطلان الإجراءات والحكم، وحصرتها في مخالفة نص في القانون أو ترك لإجراء من الإجراءات المقررة بشرط البطلان إذا لم تكن قد روعيت تلك الإجراءات.
وجه النقض هنا خاص بالقانون وحده، أما في أحكامه الموضوعية، وأما في إجراءاته المحددة تحديدًا صريحًا وبشرط البطلان، فكان البحث عندهم في النقطة التي نعالجها يحتمل الجدل واختلاف المذاهب على الطريقة التي رأيناها.
أما القانون المصري، فقد اتخذ طريقة تحرير تخالف تلك، وقد اطلع واضعه بطبيعة الحال على هذه المناقشات وما تفرع عنها من المذاهب، فأراد أن يختار أحدهما، وفي رأينا أنه قد ترك مذهب الرئيس بارنس واختار المذهب الذي نقول به.
ذلك لأن الفقرة (3) من المادة (229)، عوضًا عن التعبير بكلمات (إذا حصلت مخالفة للقانون) أو حصل (ترك للإجراءات المقررة بشرط البطلان) وضعت بالنص الآتي:
(إذا وجد وجه من الأوجه المهمة لبطلان الإجراءات أو الحكم).
والفرق بين هذه الصيغة وصيغة القانون الفرنسوي واضح، فإن السبب هناك محدود ينحصر في ترك إجراءات مقررة بشرط البطلان أو عمل نقيضها، أما هنا فليس من تحديد لوجه النقض نوعًا وتخصيصًا، بل يقول النص إذا وجد (وجه مهم).
وإذا تيسر لنا أن نفهم ما هو الوجه المهم لبطلان الإجراءات، فلا يمكنا أن نفهم ما هو (الوجه المهم) لبطلان الحكم، والقانون لم يحدده، إلا إذا قلنا إن الشارع عندنا أراد أن يعطي لمحكمة النقض في هذا الموضوع سلطة أوسع من تلك التي أعطيت لمحكمة النقض في فرنسا.
هو يريد ذلك حتمًا، لأنه لم يقيد وجه بطلان الإجراءات بشرط أن يكون البطلان منصوصًا عنه صراحةً في القانون، كما فعل القانون الفرنسوي، وهو يريد ذلك أيضًا، ولا شك لأنه ترك للمحكمة تقدير (أهمية الوجه) المبطل للمحاكمة، ولا معنى لهذا سوى أنه أراد أن يعطي للمحكمة باعتبارها الرقيبة على توزيع العدالة، سلطة لا حد لها، في المحافظة على مظاهر تلك العدالة، وتأكيدها للناس.
إن كل نص مطلق عام، إنما حده العدالة، ولا حد له غيرها، فالذي يريد عندنا أن يتقيد بما ذهب إليه بعض أهل العلم في باريس، إنما يترك نصًا صريحًا في تشريعنا ويجري إلى تعليقات على نص يخالفه حكمًا وغرضًا.
وإذا جئنا إلى هذه النقطة من البحث، فعلى ضوء نصنا الصريح يمكنا أن نرجح ترجيحًا يصل إلى اليقين الثابت أن المذهب الذي يجيز لمحكمة النقض أن تراقب على عدالة الأحكام في مظاهرها، فتصحح الوقائع الثابتة رسميًا، وتعلن بطلان الحكم إذا كان الخطأ فيه ظاهرًا سواء من جهة القانون المجرد، أو من جهة الاستنتاج المنطقي الذي يقضي به العقل الإنساني عامة، هو المذهب الصحيح.
إننا لا نحول محكمة النقض إلى محكمة موضوع بحال من الأحوال، فلا نطمع في أن تراجع أوراق الدعوى، ولا في أن تحقق وقائعها، بل ولا أن تبحث هل من الوقائع ما كان يصح أن يعادل الوقائع التي تبينت في الحكم فترجحها، أو لتقيم الشك فيها، والشك يصل إلى البراءة، بل نريد أن تعتبر كل الوقائع الثابتة في الأوراق الرسمية، وإذا كان الحكم ورقة رسمية، فإنما رسميته مستمدة من محضر الجلسة، فهما ورقة واحدة، والرسمية في الاثنتين واحدة، بل محضر الجلسة هو المعد لتدوين الوقائع دون الحكم، فإذا تناقض حكم القاضي مع ما ثبت في محضر الجلسة، فقد تجاوز القاضي حدود سلطته، وقد خالف القانون في أبسط الواجبات التي قررها، وقد حمل ضميره ما لم يحمله به القانون وجعل من نفسه مدعيًا، وشاهدًا، وقاضيًا، وهذا كله بطلان، فوق بطلان، من جهة القانون والواجبات المفروضة، ومن المدهش حقًا، أن ينكرها باحث في القانون، لأنه يريد أن يقف عند الظاهر من تدوينها ويفهم ويقول بل هي وقائع لا قانون فيها !!!
وأين هي، في أي عمل قضائي، الوقائع المجردة عن القانون وكيف توجد ؟!
أنه ليس في عمل القاضي ما يصح أن تكون وقائع بلا قانون أو قانون بلا وقائع ؟! بل عمله دائمًا مزيج من الوقائع والقانون فالرقابة على هذا العمل المركب، تكون لهوًا إذا أردت أن تشرحه إلى نصفين مستقلين، لا اتصال بينهما. فتجعل للقانون حكمًا، وللواقعة حكمًا، وتجرى هكذا حتى في الظروف التي تختلط الواقعة بالقانون والتي انتهك فيها القانون على حساب مخالفة الواقع واختراع ما لا أثر له.
إذا تقرر هذا، وكان إسناد الحكم إلى وقائع غير حقيقية يقتضي بطلانه، أفلا يكون باطلاً من باب أولى إذا أُسند إلى أسباب لا تؤدي مطلقًا، ومع اعتبارها صحيحة في جميع وقائعها، إلى إثبات أن المتهم قد ارتكب الواقعة الجنائية التي عوقب من أجلها !!
نقول من باب أولى، لأن الوقائع المخترعة وردت في الحكم على أنها حقيقية، فلا سبيل لغير المطلع على دوسيه الدعوى أن يدرك أن هذا الحكم صدر ظلمًا، أما الجمهور الذي يقرأه فأمامه حكم اشتمل على أسبابه، وهي تؤدي في ظاهرها إلى إثبات الجناية، فالحكم في ظاهره عادل لا طعن عليه وليس من نشره على الناس ضرر اجتماعي أو زعزعة لثقة الناس في قضاتهم.
أما إذا كانت أسباب الحكم في ذاتها ومع التسليم بصحة الوقائع الواردة فيها، لا يؤدي بحال من الأحوال إلى إدانة المتهم، بل هي تنطق لمن يستطيع أن يقرأ أن هذا ظلم واقع، فلسنا نبالغ إذا قلنا إن البطلان هنا أوجب وأحق.
لا يسبق إلى الذهن أن البطلان مُسند هنا إلى العدالة فقط، بل هو يُسند إلى نص القانون الصريح القاضي بأن تكون الأحكام باطلة إذا لم تدون فيها الأسباب التي بنيت عليها، ولا يمكن فهم النص وتطبيقه على اعتبار أن الشارع إنما يقف حرصه على مجرد تحبير الأوراق ووضع ألفاظ كيفما كان معناها بدون نظر في هل هي تصلح أسبابًا أو لا تصلح !!
نرى دائمًا أن الرأي الذي نخالفه إنما يستظهر بالكلمات الخالية من كل معنى، وإنما يقف عند الإشكال خالية من كل جوهر، وفارغة من كل غرض، وإنما يفرض أن الشارع يحرص على إجراءات ظاهرة فقط، فإذا كتب القاضي ما سماه أسبابًا خطأ فقد تم الواجب ولا مراقبة عليه !!.
غير أننا نؤكد أنه ليس في نظام من الأنظمة القضائية ما يصح أن يكون هذا شأنه !!
وإذا تأملنا إلى وجوه النقض، وأردنا أن نفهم الجامع بينها كلها وإن تنوعت، وأن تحدد الروح التي أملتها، وجدناها جميعها ترجع إلى فكرة واحدة هي المحافظة على مظهر العدالة في الحكم.
نقول (مظهر العدالة) لا العدالة الواقعية فقد يخطئ القاضي، لكن إذا كان هذا الخطأ مستورًا لا يظهر من حكمه بنفسه، فلا وجه للنقض، أما إذا ظهر كان النقض لا بد منه.
لهذا يجب على القاضي، أن يعين الواقعة، وأن يعين نص القانون، ويجب عليه أن يستوفي الإجراءات، ويجب عليه أن يكتب أسبابًا لحكمه، والأسباب في نظرنا أهم الأمور لأنها ترجمان ضمير القاضي وعقيدته، ولأنه يتقدم بها للناس، ويؤسس عدالته عليها، وكل هذه الأمور لازمة لأمر واحد، هو الثابت في الأذهان، وهو أن القاضي يؤدي واجبًا مقدسًا، يتحرى فيه العدالة بقدر ما يستطيع الإنسان، فإذا كان حكمه في ظاهره وبمقتضى تدويناته نفسها، دليلاً على أن ذلك الواجب لم يؤدَ، فيجب عرض الدعوى على القضاء من جديد !!
بناءً على هذا لا نتردد في القول، إن مذهب رفض النقض لاتصال الوجوه المقدمة بالموضوع هو مذهب بعيد عن الفقه القانوني، لا يحقق شيئًا من الأغراض التي وضع نظام النقض من أجلها.
(5)
الأصل في احترام الأحكام وقوة الشيء المحكوم فيه
إن الأحكام تكتسب احترامها بناءً على قاعدة مشهورة، هي اعتبارها عنوان الحقيقة، مع التسليم بأن العصمة ليست من مقدور القضاة، ففرض على الناس لاطمئنان نفوسهم والمحافظة على جلال القضاء.
واجب الإيمان بما قرر القاضي لأن العدالة مفروضة في عمله، فيجب أن تتوافر في حكمه كل الظواهر التي تحفظ له، هذا الاعتبار النظري.
أما إذا تكفل الحكم نفسه بإعلان أن هذا الاعتبار النظري ينقضه الواقع الثابت في نصوصه فهو لا شك باطل لأنه قد هدم القاعدة التي حاز من أجلها وحدها تلك القوة المقررة، وخرج عن الحدود القانونية، المفروضة لاحترام الأحكام على وجه العموم، وقد رفع عن الناس ذلك الواجب المفروض، والإيمان به، وقد أساء إلى جلال القضاء، إساءة واضحة. فأسباب بطلان حكمه هنا، راجعة لا إلى الموضوع كما يعترض بل إلى الأصول الكلية التي قام عليها النظام القضائي في أصوله إلى نتائجه.
أنه من الخطأ الواضح، أن يقال إن هذا كله موضوع لا يهم محكمة النقض، اللهم إلا إذا كان صحيحًا، إن محكمة النقض التي تبحث في القوانين وأصولها، لا يهمها أصول القواعد المقررة لاحترام الأحكام، ولا يهمها البحث في أصل ما سمي بقوة الشيء المحكوم فيه وسببه، ولا يهمها جلال القضاء، ولا يهمها أن يكون الحكم بنصوصه بحث لا يترك مجالاً للافتراض، نقول للافتراض فقط، افتراضًا ظاهرًا، بأنه غير ظالم !!
بناءً على هذا قلنا أن نلخص إن الرأي بجواز النقض الذي يتصل بالموضوع مُسند إلى:
1 - فقه محكمة النقض في باريس من سنة 1836 إلى الآن.
2 - فقه محكمة النقض في بلجيكا.
3 - فقه محكمة النقض عندنا في كثير من أحكامها حتى في عهدنا الأخير.
4 - داللوز وأصحابه.
5 - أصحاب البنديكت.
6 - كارنو.
7 - رأي النائب العمومي الذي فهم خطأ على ما أثبتنا أنه من رأي الرئيس (بارنس) المعارض.
8 - نص القانون المصري، بنوع خاص لاختلافه عن نص القانون الفرنسوي.
9 - المصلحة العامة من جميع النواحي، محافظة على ظواهر العدالة، ومحافظة على جلال القضاء ومحافظة على اطمئنان الناس للقضاء.
10 - الأصل الكلي الذي تقررت من أجله وبناءً عليه فقط قوة الشيء المحكوم فيه.