بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
09 أغسطس 2011
قضية رقم 84 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 15 مارس سنة 1997 الموافق 6 ذو القعدة سنة 1417 ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 84 لسنة 17 قضائية "دستورية"•
المقامة من
السيدة/ حليمة عبدالعال أحمد
ضد
السيد/ رئيس الجمهورية
السيد الاستاذ/ النائب العام
السيد الاستاذ/ رئيس مجلس الوزراء
السيد الاستاذ/ رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب
السيدة/ ميرفت رمضان رفاعى
الإجراءات
فى الثامن عشر من شهر ديسمبر سنة 1995، أودعت المدعية قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة، طالبة الحكم بعدم دستورية المادتين 26 و77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وكذلك المادتين 6 و23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها أصلياً عدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها•
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها•
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم•
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة•
حيث إن الوقائع -على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل فى أن السيدة ميرفت رمضان رفاعى -المدعى عليها الأخيرة- كانت قد استأجرت من المدعية شقة بالعقار رقم 39 شارع مكة قسم الهرم، ثم نسبت إلى المدعية تقاضيها منها مبلغ 14000 جنيه خارج نطاق عقد الإيجار [خلو رجل]، فأقيمت الدعوى رقم 6575 لسنة 1994 جنح الهرم التى قضى فيها ابتدائياً بحبس المدعية ستة أشهر وكفالة خمسين جنيهاً لوقف التنفيذ، وتغريمها مبلغ 32640 جنيه، ومثلها لصالح صندوق الإسكان الاقتصادى بمحافظة الجيزة، ورد مبلغ 61023 جنيه للمجنى عليها، فطعنت المحكوم عليها فى هذا الحكم استئنافياً تحت رقم 5585 لسنة 1995 مستأنف الهرم حيث قضى غيابياً بتأييد الحكم المطعون فيه• وقد عارضت المحكوم ضدها فى هذا الحكم، ثم دفعت أثناء نظر معارضتها بعدم دستورية نص المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر• وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وخولتها اللجوء إلى طريق الطعن بعدم الدستورية، فقد أقامت دعواها الماثلة•
وحيث إن المدعية تطلب الحكم بعدم دستورية نصوص المواد الآتية: أولاً: القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
مادة 26: لايجوز للمؤجر، مالكا كان أو مستأجرا بالذات أو بالوساطة، اقتضاء أى مقابل أو أتعاب بسبب تحرير العقد أو أى مبلغ إضافى خارج نطاق عقد الإيجار زيادة على التأمين والأجرة المنصوص عليها فى العقد •
كما لايجوز بأية صورة من الصور للمؤجر أن يتقاضى أى مقدم إيجار • مادة 77: يعاقب كل من يخالف حكم المادة 26 من هذا القانون، سواء كان مؤجراً أو مستأجراً أو وسيطا بالحبس مدة لاتقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة تعادل مثلى المبلغ الذى تقاضاه بالمخالفة لأحكام هذه المادة • ويعفى من العقوبة كل من المستأجر والوسيط إذا أبلغ أو بادر بالاعتراف بالجريمة •
وفى جميع الأحوال يجب الحكم على المخالف بأن يرد إلى صاحب الشأن ماتقاضاه على خلاف أحكام المادة المشار إليها • ثانياً: القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
مادة 6: يجوز لمالك المبنى المنشأ اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون، أن يتقاضى من المستأجر مقدم إيجار لايجاوزأجرة سنتين، وذلك بالشروط الآتية: 1 - أن تكون الأعمال الأساسية للبناء قد تمت ولم يتبق إلا مرحلة التشطيب • 2 - أن يتم الاتفاق كتابة على مقدار مقدم الإيجار وكيفية خصمه من الأجرة المستحقة فى مدة لاتجاوز ضعف المدة المدفوع عنها المقدم وموعد إتمام البناء وتسليم الوحدة صالحة للاستعمال •
ويصدر قرار من الوزير المختص بالإسكان بتنظيم تقاضى مقدم الإيجار، والحد الأقصى لمقدار المقدم بالنسبة لكل مستوى من مستويات البناء •
ولايسرى حكم الفقرة الأخيرة من المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 على مقدم الإيجار الذى يتقاضاه المالك وفقا لأحكام هذه المادة •
مادة 23: يعاقب بعقوبة جريمة النصب المنصوص عليها فى قانون العقوبات، المالك الذى يتقاضى بأية صورة من الصور، بذاته أو بالوساطة أكثر من مقدم عن ذات الوحدة أو يؤجرها لأكثر من مستأجر، أو يبيعها لغير من تعاقد معه على شرائها، ويبطل كل تصرف بالبيع لاحق لهذا التاريخ، ولوكان مسجلاً •
ويعاقب بذات العقوبة المالك الذى يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة فى الموعد المحدد، فضلاً عن إلزامه بأن يؤدى إلى الطرف الآخر مثلى مقدار المقدم، وذلك دون إخلال بالتعاقد، وبحق المستأجر فى استكمال الأعمال الناقصة وفقا لحكم الفقرة الأخيرة من المادة 13 من القانون رقم 49 لسنة 1977• ويكون ممثل الشخص الاعتبارى مسئولا عما يقع منه من مخالفات لأحكام هذه المادة •
وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية • وهو كذلك يقيد تدخلها فى هذه الخصومة، فلاتفصل فى غير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى• ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين: أولهما: أن يقيم المدعى -وفى حدود الصفة التى اختصم بها النص المطعون فيه- الدليل على أن ضررا واقعيا -اقتصاديا أو غيره- قد لحق به، سواء أكان مهدداً بهذا الضرر، أم كان قد وقع فعلا• ويتعين دوما أن يكون الضررالمدعى به مباشرا، منفصلا عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلا بالعناصر التى يقوم عليها، ممكنا تصوره ومواجهته بالترضية القضائية، تسوية لآثاره• ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائدا إلى النص المطعون فيه، وليس ضررا متوهما أو منتحلا أو مجهلا، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلا على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لايعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها•
وحيث إن نطاق الدعوى الدستورية -وعلى ماجرى به قضاء هذه المحكمة- وإن تحدد أصلا بالنصوص القانونية التى تعلق بها الدفع بعدم الدستورية المثار أمام محكمة الموضوع، إلا أن هذا النطاق يتسع كذلك لتلك النصوص التى أضير المدعى من جراء تطبيقها عليه - ولولم يتضمنها هذا الدفع - إذا كان فصلها عن النصوص التى اشتمل الدفع عليها متعذرا، وكان ضمها إليها كافلا الأغراض التى توخاها المدعى بدعواه الدستورية، فلا تحمل إلا على مقاصده، ولاتتحقق مصلحته الشخصية والمباشرة بعيدا عنها •
وحيث إن المدعية كانت متهمة جنائياً فى جريمة تقاضى مبالغ خارج نطاق عقد الايجار [خلو رجل]؛ وكانت المادتان 26 و 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، قد نظمتا هذه الجريمة ذاتها: أولاهما بحظرها تقاضى هذا الخلو، وثانيتهما بتقريرها لجزاء جنائى على مخالفة هذا الحظر، فإن التنظيم التشريعي لهذه الجريمة -وباعتبارها تمثل مبالغ تقاضاها المؤجر خارج نطاق عقد الإيجار- يشتمل على هذين الأمرين معا• لاينال من ذلك أن يكون الدفع المثار من المدعية أمام محكمة الموضوع، قد اقتصر على نص المادة 26 من هذا القانون، ذلك أن الاتهام تعلق باقتضائها لخلو الرجل، وغايتها من الطعن بعدم دستورية مواده، ألا تلاحقها سلطة الاتهام بعقوبة هذه الجريمة المنصوص عليها في المادة 77 من هذا القانون، ومن ثم تعتبر مادتاه 26 و77، محددتين لنطاق دعواها الدستورية، ومرتبطتين بالنزاع الموضوعى •
ولاشأن لدعواها هذه -وبالتالى- بجريمة تقاضى المؤجر مقدم إيجار لأكثر من سنتين المنصوص عليها فى المادتين 6 و 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
وحيث إن المدعية تنعى على النصوص المطعون عليها، مخالفتها لمبدأ أن العقد شريعة المتعاقدين، وخروجها على الأحكام المنصوص عليها فى المواد 34 و35 و36 من الدستور التى كفل بها صون الملكية الخاصة•
وحيث إن اقتضاء المؤجر لخلو رجل، ظل معاقبا عليه بمقتضى المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 والمادة 24 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليهما، أولاهما بالعقوبة التي فرضتها على اقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار زيادة على التأمين والأجرة المنصوص عليها فى العقد، وثانيتهما بما نصت عليه من أنه "فيما عدا العقوبة المقررة لجريمة خلو الرجل، تلغى جميع العقوبات المقيدة للحرية المنصوص عليها فى القوانين المنظمة لتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجروالمستأجر،وذلك دون إخلال بأحكام المادة السابقة"•
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القيود الاستثنائية التى نظم بها المشرع العلائق الإيجارية، لايجوز اعتبارها حلاً دائماً ونهائياً لمشكلاتها، فلا يتحول المشرع عنها، بل عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغى أن يقوم فى شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر، فلا يختل التضامن بينهما اجتماعيا، ولايكون صراعهما بديلا عن التعاون بينهما، بل تتوافق مصالحهما اقتصاديا، وعلى تقدير أن الأصل فى عقود القانون الخاص هو انبناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلايميل ميزانها فى اتجاه مناقض لطبيعتها، إلا بقدر الضرورة التى يتعين أن تخلى مكانها -عند فواتها- لحرية التعاقد•
وحيث إنه استصحابا لحرية التعاقد التى تعتبر أصلاً يهيمن على عقود القانون الخاص، وضماناً لئلا يظل شاغل العين المؤجرة باقيا فيها بعد انتهاء مدة إجارتها، وإلا كان غاصباً لها، أصدر المشرع القانون رقم 4 لسنة 1996 ليعيد العلائق الإيجارية -فى الأماكن التى يشملها- إلى الأصل فيها، وذلك بما نصت عليه مادته الأولى من عدم سريان أحكام القانونين رقمى 49 لسنة 1977، 136 لسنة 1981 المشار إليهما، وكذلك القوانين الخاصة بإيجار الأماكن الصادرة قبلهما، فى شأن الأماكن التى لم يسبق تأجيرها، ولا الأماكن التى انتهت عقود إيجارها قبل العمل بهذا القانون، أو انتهت بعده دون أن يكون لأحد حق البقاء فيها قانوناً؛ وكان هذا القانون قد ألغى كذلك بمادته الثانية كل النصوص القانونية المعمول بها قبل نفاذه، بقدر تعارضها مع أحكامه؛ فإنه بذلك يكون ناسخاً لجريمة خلو الرجل التى قررتها القوانين السابقة عليه، وهى جريمة ظل وجودها مرتبطاً بالقوانين الاستثنائية التى أحاط بها المشرع العلائق الايجارية، مخالفا فى ذلك قواعد القانون المدنى التى لامكان فيها لجريمة اقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار•
وحيث إن استقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات فى مفاهيم الدول المتحضرة، دعا إلى توكيده بينها• ومن ثم وجد صداه فى عديد من المواثيق الدولية، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان• وتردد هذا المبدأ كذلك فى دساتير عديدة، يندرج تحتها ماتنص عليه المادة 66 من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لاعقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذى ينص عليها، وماتقرره كذلك المادة 187 من هذا الدستور التى تقضى بأن الأصل فى أحكام القوانين هو سريانها اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية فى مجموعهم•
وحيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وإن اتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنيانا لإقراره وتوكيده، إلا أن هذه الحرية ذاتها هى التى تقيد من محتواه، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازما إلا بالقدر وفى الحدود التى تكفل صونها In Favorem • ولايجوز بالتالى إعمال نصوص عقابية يسئ تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم، ولاتفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها، ولامد نطاق التجريم -وبطريق القياس- إلى أفعال لم يؤثمها المشرع، بل يتعين دوما -وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير- أن يرجح القاضى من بينها ما يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية فى إطار علاقة منطقية La ratio Legis يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع، سواء فى ذلك تلك التى أعلنها، أو التى يمكن افتراضها عقلا•
وحيث إن النطاق الحقيقى لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التى توخاها: أولاهما: أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لاخفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها • وهى بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلايكون سلوكهم مجافيا لها، بل اتساقا معها ونزولا عليها • ثانيتهما: ومفترضها أن المرحلة الزمنية التى تقع بين دخول القانون الجنائى حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون، إنما تمثل الفترة التى كان يحيا خلالها، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها La loi préalable • فلا يكون رجعيا، على أن يكون مفهوما أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يُفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائى الأسوأ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائى سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التى تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسا، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم فى مجال تطبيقها بالنسبة إليه•
وحيث إن ماتقدم مؤداه، أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية، يفترض أن يكون تطبيقها فى شأن المتهم مسيئا إليه، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانونى فى مواجهة سلطة الاتهام، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوما• ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معا وتتكاملان: أولاهما: أن مجال سريان القانون الجنائى ينحصر أصلاً فى الأفعال اللاحقة لنفاذه، فلا يكون رجعيا كلما كان أشد وقعا على المتهم• وثانيتهما: سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً• وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه، أن ثانيتهما لاتعتبر استثناء من أولاهما، ولا هى قيد عليها، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها • وكلتاهما معا تعتبران امتدادا لازما لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات Le prolongement nécessaire، ولهما معا القيمة الدستورية ذاتها •
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القانون الجنائى، وإن اتفق مع غيره من القوانين فى تنظيم علائق الأفراد بمجتمعهم وفيما بين بعضهم البعض، إلا أن هذا القانون يفارقها فى اتخاذه العقوبة أداة لتقويم الأفعال التى يأتونها أو يدعونها بما يناقض أوامره أو نواهيه • وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعى - مالايجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لايكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا تلك الحدود التى لايكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور•
وحيث إن هذا القضاء -وباعتباره معيارا للشرعية الدستورية للنصوص العقابية- مردد كذلك فيما بين الأمم المتحضرة، ومن بينها فرنسا التى أقر مجلسها الدستورى مبدأين فى هذا الشأن•
أولهما: أنه كلما نص القانون الجديد على عقوبة أقل قسوة من تلك التى قررها القديم، تعين أن تعامل النصوص القانونية التى تتغيا الحد من آثار تطبيق القانون الجديد فى شأن الجرائم التى تم ارتكابها قبل نفاذه، والتى لم يصدر فيها بعد حكم حائز لقوة الأمر المقضى، باعتبارها متضمنة إخلالا بالقاعدة التى صاغتها المادة 8 من إعلان 1789 فى شأن حقوق الإنسان والمواطن، والتى لايجوز للمشرع على ضوئها أن يقرر للأفعال التى يؤثمها، غير عقوباتها التى تضبطها الضرورة بوضوح، فلا تجاوز متطلباتها La loi ne doit établir que des peines strictement et évidemment nécessaires ذلك أن عدم تطبيق القانون الجديد على الجرائم التى ارتكبها جناتها في ظل القانون القديم، مؤداه أن ينطق القاضى بالعقوبات التي قررها هذا القانون، والتى لم يعد لها - فى تقدير السلطة التشريعية التى أنشأتها - من ضرورة • (DC, 19 et 20 janvier 1981, cons. 75, Rec . p 15 80 - 127) ثانيهما : أن تأثيم المشرع لأفعال بذواتها، لاينفصل عن عقوباتها التى يجب أن يكون فرضها مرتبطا بمشروعيتها، وبضرورتها، وبامتناع رجعية النصوص العقابية التى قررتها كلما كان مضمونها أكثر قسوة، ودون ماإخلال بحقوق الدفاع التى تقارنها • ولاتتعلق هذه الضوابط جميعها بالعقوبات التى توقعها السلطة القضائية فقط، ولكنها تمتد لكل جزاء يتمحض عقابا، ولوكان المشرع قد عهد بالنطق به إلى جهة غير قضائية • ْUne peine ne peut etre infligée qu" a la condition que soient respectés le principe de légalité des délits et des peines, le principe de nécessité des peines, le princpe de non -rétroactivité de la loi pénale d"incrimination plus sévere ainsi que le respect du principe des droits de la défense . Ces exigences concernent non seulement les peines prononcées par les juridictions répressives mais aussi toute sanction ayant le caractére d"une punition meme si le législateur a Laissé Le soin de La prononcer a une autorité de nature non judiciaire . (DC , 17 Janvier 1989, cons. 53 a 42 , p . 18 248- 88)
وحيث إن قضاء هذه المحكمة فى شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع الفعل -وقبل الفصل فيه نهائيا- مؤداه أن سريان القانون اللاحق فى شأن الأفعال التى أثمها قانون سابق، وإن اتخذ من نص المادة 5 من قانون العقوبات موطئا وسندا، إلا أن صون الحرية الشخصية التى كفلها الدستور بنص المادة 41 منه، هى التى تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها• ذلك أن مايعتبر قانونا أصلح للمتهم، وإن كان لايندرج تحت القوانين التفسيرية التى تندمج أحكامها فى القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه باعتبارها جزءا منه يبلور إرادة المشرع التى قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التى أثمها القانون القديم، إنما ينشئ للمتهم مركزا قانونيا جديدا، ويقوض -من خلال رد هذه الأفعال إلى دائرة المشروعية - مركزا سابقا • ومن ثم يحل القانون الجديد - وقد صار أكثر رفقا بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التى اعتبرها الدستور حقا طبيعيا لايمس - محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل ينحى ألحقهما أسبقهما•
وغدا لازما بالتالى -وفى مجال إعمال القوانين الجنائية الموضوعية Les lois pénales de fond الأكثر رفقا بالمتهم- توكيد أن صون الحرية الشخصية من جهه، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى، مصلحتان متوازيتان، فلاتتهادمان• وصار أمراً مقضيا - وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم - أن ترد لأصحابها تلك الحرية التى كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه، إعلاء للقيم التى انحاز إليها القانون الجديد، وعلى تقدير أن صونها لايخل بالنظام العام باعتباره مفهوما مرنا متطورا على ضوء مقاييس العقل الجمعى التى لاينفصل القانون الأصلح عنها، بل يوافقها ويعمل على ضوئها، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره إلا تثبيتا للنظام العام بما يحول دون انفراط عقده، بعد أن صار هذا القانون أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم•
وحيث إن القوانين الجزائية التى نقارنها ببعض تحديدا لأصلحها للمتهم، تفترض اتفاقها جميعا مع الدستور، وتزاحمها على محل واحد، وتفاوتها فيما بينها فى عقوباتها، فلانغلب من صور الجزاء التى تتعامد على المحل الواحد، إلا تلك التي تكون فى محتواها أو شرائطها أو مبلغها Le contenu, Les modalités et Le quantum des peines أقل بأسا من غيرها، وأهون أثراً•
وحيث إن البين من النصوص التى أثم بها المشرع جريمة خلو الرجل فى نطاق العلائق الإيجارية -وبقدر اتصالها بالنزاع الراهن- أن إتيان الأفعال التى تقوم بها هذه الجريمة، ظل مشمولا بالجزاء الجنائى حتى بعد العمل بالقانون رفم 136 لسنة 1981 الذى صدر منظما بعض الأحكام الخاصة بالعلائق الإيجارية، ذلك أن هذا القانون، وإن نص على إلغاء العقوبات المقيدة للحرية التي فرضتها قوانين إيجار الأماكن السابقة على العمل بأحكامه، اتساقا مع اتجاهه إلى الحد من القيود التى أرهق بها المشرع مصالح المؤجر، إلا أنه استثنى من ذلك جريمة خلو الرجل، والجرائم المنصوص عليها فى المادة 23 منه، مبقيا بذلك على عقوباتها•
وحيث إن القانون اللاحق -وهو القانون رقم 4 لسنة 1996- أعاد من جديد تنظيم جريمة خلو الرجل فى شأن الأماكن التى حددتها مادته الأولى، مقررا سريان قواعد القانون المدنى -دون غيرها- عند تأجيرها واستغلالها، وملغيا كل قاعدة على خلافها، مؤكدا بذلك استئثار أصحابها بها، لتخرج هذه الأماكن بذلك من نطاق التدابير الاستثنائية التى درج المشرع على فرضها فى مجال العلائق الإيجارية، فلايكون تأجيرها إلا وفق الشروط التى تتطابق بشأنها إرادة مؤجريها مع من يتقدمون لطلبها، ولو كان من بينها تقاضى المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، أيا كان وصفها أو مقدارها أو سببها • وهو مايعني أن الضرورة الاجتماعية التى انطلق منها الجزاء المقرر بالقوانين السابقة فى شأن هذه الجريمة، قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة فى واحد من أطوار تقدمها، قوامها حرية التعاقد، فلا يكون الجزاء الجنائى -وقد لابس القيود التى فرضتها هذه القوانين على تلك الحرية- إلا منهدما بعد العمل بالقانون الجديد•
وحيث إن القول بأن لكل من قوانين إيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم 4 لسنة 1996، مجالا ينحصر فيه تطبيقها، وأنها جميعا تعتبر من قبيل التنظيم الخاص لموضوعها، فلايقيدها هذا القانون باعتباره تشريعا عاما مردود أولا: بأن القانون اللاحق تغيا أن يعيد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها، فلا تحكمها إلا حرية التعاقد التى يلازمها بالضرورة أن يكون المتعاقدان على شروطهما التى يناقضها أن يكون الاتفاق على مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار -وهو جائز قانونا فى شأن الأماكن التى ينظمها القانون الجديد- سببا لتجريم اقتضائها• والأفعال التى أثمها القانون السابق بالشروط التى فرضها، هى ذاتها التي أطلق القانون الجديد الحق فيها، فلايكون امتداده إليها إلا ضمانا لصون الحرية الشخصية التى منحها الدستور الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها • بل إن هذا القانون -وباعتباره أصلح للمتهم- يعتبر متمتعا بالقوة ذاتها التى كفلها الدستور لهذه الحرية، فلا يكون القانون السابق حائلا دون جريانها، بل منجرفا بها• ومردود ثانيا: بأن التجريم المقرر بالقانون السابق، ارتبط بتدابير استثنائية قدر المشرع ضرورة اتخاذها خلال الفترة التى ظل فيها هذا القانون نافذا • فإذا دل القانون اللاحق على انتفاء الضرورة الاجتماعية التى لايكون الجزاء الجنائى مبررا مع فواتها، فإن هذا القانون يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية التى كفل الدستور صونها• ومردود ثالثا : بأن تأثيم المشرع لأفعال بعينها، قد يكون مشروطا بوقوعها فى مكان معين، كتجريم الأفعال التي يأتيها شخص داخل النطاق المكانى لمحمية طبيعية إضرارا بخصائصها أو بمواردها• وقد يؤثم المشرع أفعالا بذواتها، جاعلا من ارتكابها فى مكان محدد، ظرفا مشددا لعقوبتها، كالسرقة فى مكان مسكون أو معد للسكنى أو ملحقاتهما أو فى محل للعبادة عدوانا على حرمتها• ولاكذلك جريمة تقاضى المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، ذلك أن وقوعها فى الأماكن التى أخضعها هذا القانون لحكمه، ليس شرطا لاكتمال أركانها، ولاظرفا لازما لتغليظ عقوبتها، ولكنها تتحقق اتصالا بواقعة تأجيرها وبمناسبتها، ولمجرد أن المكان المؤجر لم يكن -عند العمل بالقانون الجديد- خاليا• ومردود رابعا: بأن من غير المتصور أن يظل قائما، التجريم المقرر بالقانون السابق فى شأن تقاضى مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، إذا كانت الأماكن التى يشملها هذا القانون مؤجرة قبل نفاذ القانون الجديد، فإذا خلا مكان منها وقت سريان هذا القانون، تحرر المؤجر جنائيا من كل قيد يتعلق باقتضاء المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار• وليس مفهوما أن يكون للفعل الواحد معنيان مختلفان، ولا أن تحتفظ الجريمة التى أنشاها القانون القديم بذاتيتها، وبوطأة عقوبتها، بعد أن جرد القانون الجديد الفعل الذى يكونها من الآثام التى احتضنها • ومردود خامسا: بأن القانون الجديد صرح بإلغاء كل قانون يتضمن أحكاما تناقض تلك التى أتى بها، بما مؤداه اطراح النصوص المخالفة للقانون الجديد - فى شأن يتعلق بالتجريم - سواء تضمنها تنظيم عام أو خاص• ذلك أن القوانين لاتتنازع إلا بقدر تعارضها، ولكنها تتوافق من خلال وسائل متعددة يتصدرها - فى المجال الجنائى - القانون الأصلح للمتهم، فلا يكون نسيجها إلا واحدا• والجريمة التى أنشأها القانون السابق هى ذاتها التى هدمها القانون الجديد • ووجودها وانعدامها متصادمان، فلا يستقيم اجتماعهما • ومردود سادسا: بأن إعمال الأثر الرجعى للقانون الأصلح للمتهم يعتبر انحيازا من القاضى لضمانة جوهرية للحرية الشخصية، تبلورها السياسة العقابية الجديدة للسلطة التشريعية التى تتحدد على ضوء فهمها للحقائق المتغيرة للضرورة الاجتماعية• وهى بعد ضرورة ينبغى أن يحمل عليها كل جزاء جنائى، وإلا فقد علة وجوده•
وحيث إنه متى كان ماتقدم، وكانت الواقعة محل الاتهام الجنائى لم تعد معاقباً عليها، فقد تعين الحكم بانتفاء مصلحة المدعى فى الدعوى الماثلة، بعد أن غض المشرع بصره عن بعض التدابير الاستثنائية للعلائق الإيجارية التى انبنى التجريم عليها، وخرج من صلبها•
وحيث إن قضاء هذه المحكمة باعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 أصلح للمتهم -وقد انبنى على التطبيق المباشر للقواعد الدستورية التى تناولتها على النحو المتقدم - فإن حكمها باعتبار هذا القانون كذلك، يكون متمتعاً بالحجية المطلقة التى أسبغها المشرع على أحكامها الصادرة فى المسائل الدستورية، وملزماً بالتالى الناس كافة وكل سلطة فى الدولة، بما فى ذلك جهات القضاء على اختلافها •
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعىة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة•
29 - 10 - 2008 11:46 PM
قضية رقم 84 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 15 مارس سنة 1997 الموافق 6 ذو القعدة سنة 1417 ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 84 لسنة 17 قضائية "دستورية"•
المقامة من
السيدة/ حليمة عبدالعال أحمد
ضد
السيد/ رئيس الجمهورية
السيد الاستاذ/ النائب العام
السيد الاستاذ/ رئيس مجلس الوزراء
السيد الاستاذ/ رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب
السيدة/ ميرفت رمضان رفاعى
الإجراءات
فى الثامن عشر من شهر ديسمبر سنة 1995، أودعت المدعية قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة، طالبة الحكم بعدم دستورية المادتين 26 و77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وكذلك المادتين 6 و23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها أصلياً عدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها•
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها•
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم•
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة•
حيث إن الوقائع -على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل فى أن السيدة ميرفت رمضان رفاعى -المدعى عليها الأخيرة- كانت قد استأجرت من المدعية شقة بالعقار رقم 39 شارع مكة قسم الهرم، ثم نسبت إلى المدعية تقاضيها منها مبلغ 14000 جنيه خارج نطاق عقد الإيجار [خلو رجل]، فأقيمت الدعوى رقم 6575 لسنة 1994 جنح الهرم التى قضى فيها ابتدائياً بحبس المدعية ستة أشهر وكفالة خمسين جنيهاً لوقف التنفيذ، وتغريمها مبلغ 32640 جنيه، ومثلها لصالح صندوق الإسكان الاقتصادى بمحافظة الجيزة، ورد مبلغ 61023 جنيه للمجنى عليها، فطعنت المحكوم عليها فى هذا الحكم استئنافياً تحت رقم 5585 لسنة 1995 مستأنف الهرم حيث قضى غيابياً بتأييد الحكم المطعون فيه• وقد عارضت المحكوم ضدها فى هذا الحكم، ثم دفعت أثناء نظر معارضتها بعدم دستورية نص المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر• وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وخولتها اللجوء إلى طريق الطعن بعدم الدستورية، فقد أقامت دعواها الماثلة•
وحيث إن المدعية تطلب الحكم بعدم دستورية نصوص المواد الآتية: أولاً: القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
مادة 26: لايجوز للمؤجر، مالكا كان أو مستأجرا بالذات أو بالوساطة، اقتضاء أى مقابل أو أتعاب بسبب تحرير العقد أو أى مبلغ إضافى خارج نطاق عقد الإيجار زيادة على التأمين والأجرة المنصوص عليها فى العقد •
كما لايجوز بأية صورة من الصور للمؤجر أن يتقاضى أى مقدم إيجار • مادة 77: يعاقب كل من يخالف حكم المادة 26 من هذا القانون، سواء كان مؤجراً أو مستأجراً أو وسيطا بالحبس مدة لاتقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة تعادل مثلى المبلغ الذى تقاضاه بالمخالفة لأحكام هذه المادة • ويعفى من العقوبة كل من المستأجر والوسيط إذا أبلغ أو بادر بالاعتراف بالجريمة •
وفى جميع الأحوال يجب الحكم على المخالف بأن يرد إلى صاحب الشأن ماتقاضاه على خلاف أحكام المادة المشار إليها • ثانياً: القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
مادة 6: يجوز لمالك المبنى المنشأ اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون، أن يتقاضى من المستأجر مقدم إيجار لايجاوزأجرة سنتين، وذلك بالشروط الآتية: 1 - أن تكون الأعمال الأساسية للبناء قد تمت ولم يتبق إلا مرحلة التشطيب • 2 - أن يتم الاتفاق كتابة على مقدار مقدم الإيجار وكيفية خصمه من الأجرة المستحقة فى مدة لاتجاوز ضعف المدة المدفوع عنها المقدم وموعد إتمام البناء وتسليم الوحدة صالحة للاستعمال •
ويصدر قرار من الوزير المختص بالإسكان بتنظيم تقاضى مقدم الإيجار، والحد الأقصى لمقدار المقدم بالنسبة لكل مستوى من مستويات البناء •
ولايسرى حكم الفقرة الأخيرة من المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 على مقدم الإيجار الذى يتقاضاه المالك وفقا لأحكام هذه المادة •
مادة 23: يعاقب بعقوبة جريمة النصب المنصوص عليها فى قانون العقوبات، المالك الذى يتقاضى بأية صورة من الصور، بذاته أو بالوساطة أكثر من مقدم عن ذات الوحدة أو يؤجرها لأكثر من مستأجر، أو يبيعها لغير من تعاقد معه على شرائها، ويبطل كل تصرف بالبيع لاحق لهذا التاريخ، ولوكان مسجلاً •
ويعاقب بذات العقوبة المالك الذى يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة فى الموعد المحدد، فضلاً عن إلزامه بأن يؤدى إلى الطرف الآخر مثلى مقدار المقدم، وذلك دون إخلال بالتعاقد، وبحق المستأجر فى استكمال الأعمال الناقصة وفقا لحكم الفقرة الأخيرة من المادة 13 من القانون رقم 49 لسنة 1977• ويكون ممثل الشخص الاعتبارى مسئولا عما يقع منه من مخالفات لأحكام هذه المادة •
وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا فى الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية • وهو كذلك يقيد تدخلها فى هذه الخصومة، فلاتفصل فى غير المسائل الدستورية التى يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعى• ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين: أولهما: أن يقيم المدعى -وفى حدود الصفة التى اختصم بها النص المطعون فيه- الدليل على أن ضررا واقعيا -اقتصاديا أو غيره- قد لحق به، سواء أكان مهدداً بهذا الضرر، أم كان قد وقع فعلا• ويتعين دوما أن يكون الضررالمدعى به مباشرا، منفصلا عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلا بالعناصر التى يقوم عليها، ممكنا تصوره ومواجهته بالترضية القضائية، تسوية لآثاره• ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائدا إلى النص المطعون فيه، وليس ضررا متوهما أو منتحلا أو مجهلا، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلا على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التى يدعيها لايعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها•
وحيث إن نطاق الدعوى الدستورية -وعلى ماجرى به قضاء هذه المحكمة- وإن تحدد أصلا بالنصوص القانونية التى تعلق بها الدفع بعدم الدستورية المثار أمام محكمة الموضوع، إلا أن هذا النطاق يتسع كذلك لتلك النصوص التى أضير المدعى من جراء تطبيقها عليه - ولولم يتضمنها هذا الدفع - إذا كان فصلها عن النصوص التى اشتمل الدفع عليها متعذرا، وكان ضمها إليها كافلا الأغراض التى توخاها المدعى بدعواه الدستورية، فلا تحمل إلا على مقاصده، ولاتتحقق مصلحته الشخصية والمباشرة بعيدا عنها •
وحيث إن المدعية كانت متهمة جنائياً فى جريمة تقاضى مبالغ خارج نطاق عقد الايجار [خلو رجل]؛ وكانت المادتان 26 و 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، قد نظمتا هذه الجريمة ذاتها: أولاهما بحظرها تقاضى هذا الخلو، وثانيتهما بتقريرها لجزاء جنائى على مخالفة هذا الحظر، فإن التنظيم التشريعي لهذه الجريمة -وباعتبارها تمثل مبالغ تقاضاها المؤجر خارج نطاق عقد الإيجار- يشتمل على هذين الأمرين معا• لاينال من ذلك أن يكون الدفع المثار من المدعية أمام محكمة الموضوع، قد اقتصر على نص المادة 26 من هذا القانون، ذلك أن الاتهام تعلق باقتضائها لخلو الرجل، وغايتها من الطعن بعدم دستورية مواده، ألا تلاحقها سلطة الاتهام بعقوبة هذه الجريمة المنصوص عليها في المادة 77 من هذا القانون، ومن ثم تعتبر مادتاه 26 و77، محددتين لنطاق دعواها الدستورية، ومرتبطتين بالنزاع الموضوعى •
ولاشأن لدعواها هذه -وبالتالى- بجريمة تقاضى المؤجر مقدم إيجار لأكثر من سنتين المنصوص عليها فى المادتين 6 و 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر•
وحيث إن المدعية تنعى على النصوص المطعون عليها، مخالفتها لمبدأ أن العقد شريعة المتعاقدين، وخروجها على الأحكام المنصوص عليها فى المواد 34 و35 و36 من الدستور التى كفل بها صون الملكية الخاصة•
وحيث إن اقتضاء المؤجر لخلو رجل، ظل معاقبا عليه بمقتضى المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 والمادة 24 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليهما، أولاهما بالعقوبة التي فرضتها على اقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار زيادة على التأمين والأجرة المنصوص عليها فى العقد، وثانيتهما بما نصت عليه من أنه "فيما عدا العقوبة المقررة لجريمة خلو الرجل، تلغى جميع العقوبات المقيدة للحرية المنصوص عليها فى القوانين المنظمة لتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجروالمستأجر،وذلك دون إخلال بأحكام المادة السابقة"•
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القيود الاستثنائية التى نظم بها المشرع العلائق الإيجارية، لايجوز اعتبارها حلاً دائماً ونهائياً لمشكلاتها، فلا يتحول المشرع عنها، بل عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغى أن يقوم فى شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر، فلا يختل التضامن بينهما اجتماعيا، ولايكون صراعهما بديلا عن التعاون بينهما، بل تتوافق مصالحهما اقتصاديا، وعلى تقدير أن الأصل فى عقود القانون الخاص هو انبناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلايميل ميزانها فى اتجاه مناقض لطبيعتها، إلا بقدر الضرورة التى يتعين أن تخلى مكانها -عند فواتها- لحرية التعاقد•
وحيث إنه استصحابا لحرية التعاقد التى تعتبر أصلاً يهيمن على عقود القانون الخاص، وضماناً لئلا يظل شاغل العين المؤجرة باقيا فيها بعد انتهاء مدة إجارتها، وإلا كان غاصباً لها، أصدر المشرع القانون رقم 4 لسنة 1996 ليعيد العلائق الإيجارية -فى الأماكن التى يشملها- إلى الأصل فيها، وذلك بما نصت عليه مادته الأولى من عدم سريان أحكام القانونين رقمى 49 لسنة 1977، 136 لسنة 1981 المشار إليهما، وكذلك القوانين الخاصة بإيجار الأماكن الصادرة قبلهما، فى شأن الأماكن التى لم يسبق تأجيرها، ولا الأماكن التى انتهت عقود إيجارها قبل العمل بهذا القانون، أو انتهت بعده دون أن يكون لأحد حق البقاء فيها قانوناً؛ وكان هذا القانون قد ألغى كذلك بمادته الثانية كل النصوص القانونية المعمول بها قبل نفاذه، بقدر تعارضها مع أحكامه؛ فإنه بذلك يكون ناسخاً لجريمة خلو الرجل التى قررتها القوانين السابقة عليه، وهى جريمة ظل وجودها مرتبطاً بالقوانين الاستثنائية التى أحاط بها المشرع العلائق الايجارية، مخالفا فى ذلك قواعد القانون المدنى التى لامكان فيها لجريمة اقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار•
وحيث إن استقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات فى مفاهيم الدول المتحضرة، دعا إلى توكيده بينها• ومن ثم وجد صداه فى عديد من المواثيق الدولية، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان• وتردد هذا المبدأ كذلك فى دساتير عديدة، يندرج تحتها ماتنص عليه المادة 66 من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لاعقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذى ينص عليها، وماتقرره كذلك المادة 187 من هذا الدستور التى تقضى بأن الأصل فى أحكام القوانين هو سريانها اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية فى مجموعهم•
وحيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وإن اتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنيانا لإقراره وتوكيده، إلا أن هذه الحرية ذاتها هى التى تقيد من محتواه، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازما إلا بالقدر وفى الحدود التى تكفل صونها In Favorem • ولايجوز بالتالى إعمال نصوص عقابية يسئ تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم، ولاتفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها، ولامد نطاق التجريم -وبطريق القياس- إلى أفعال لم يؤثمها المشرع، بل يتعين دوما -وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير- أن يرجح القاضى من بينها ما يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية فى إطار علاقة منطقية La ratio Legis يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع، سواء فى ذلك تلك التى أعلنها، أو التى يمكن افتراضها عقلا•
وحيث إن النطاق الحقيقى لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التى توخاها: أولاهما: أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لاخفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها • وهى بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلايكون سلوكهم مجافيا لها، بل اتساقا معها ونزولا عليها • ثانيتهما: ومفترضها أن المرحلة الزمنية التى تقع بين دخول القانون الجنائى حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون، إنما تمثل الفترة التى كان يحيا خلالها، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها La loi préalable • فلا يكون رجعيا، على أن يكون مفهوما أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يُفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائى الأسوأ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائى سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التى تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسا، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم فى مجال تطبيقها بالنسبة إليه•
وحيث إن ماتقدم مؤداه، أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية، يفترض أن يكون تطبيقها فى شأن المتهم مسيئا إليه، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانونى فى مواجهة سلطة الاتهام، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوما• ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معا وتتكاملان: أولاهما: أن مجال سريان القانون الجنائى ينحصر أصلاً فى الأفعال اللاحقة لنفاذه، فلا يكون رجعيا كلما كان أشد وقعا على المتهم• وثانيتهما: سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً• وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه، أن ثانيتهما لاتعتبر استثناء من أولاهما، ولا هى قيد عليها، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها • وكلتاهما معا تعتبران امتدادا لازما لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات Le prolongement nécessaire، ولهما معا القيمة الدستورية ذاتها •
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القانون الجنائى، وإن اتفق مع غيره من القوانين فى تنظيم علائق الأفراد بمجتمعهم وفيما بين بعضهم البعض، إلا أن هذا القانون يفارقها فى اتخاذه العقوبة أداة لتقويم الأفعال التى يأتونها أو يدعونها بما يناقض أوامره أو نواهيه • وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعى - مالايجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لايكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا تلك الحدود التى لايكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور•
وحيث إن هذا القضاء -وباعتباره معيارا للشرعية الدستورية للنصوص العقابية- مردد كذلك فيما بين الأمم المتحضرة، ومن بينها فرنسا التى أقر مجلسها الدستورى مبدأين فى هذا الشأن•
أولهما: أنه كلما نص القانون الجديد على عقوبة أقل قسوة من تلك التى قررها القديم، تعين أن تعامل النصوص القانونية التى تتغيا الحد من آثار تطبيق القانون الجديد فى شأن الجرائم التى تم ارتكابها قبل نفاذه، والتى لم يصدر فيها بعد حكم حائز لقوة الأمر المقضى، باعتبارها متضمنة إخلالا بالقاعدة التى صاغتها المادة 8 من إعلان 1789 فى شأن حقوق الإنسان والمواطن، والتى لايجوز للمشرع على ضوئها أن يقرر للأفعال التى يؤثمها، غير عقوباتها التى تضبطها الضرورة بوضوح، فلا تجاوز متطلباتها La loi ne doit établir que des peines strictement et évidemment nécessaires ذلك أن عدم تطبيق القانون الجديد على الجرائم التى ارتكبها جناتها في ظل القانون القديم، مؤداه أن ينطق القاضى بالعقوبات التي قررها هذا القانون، والتى لم يعد لها - فى تقدير السلطة التشريعية التى أنشأتها - من ضرورة • (DC, 19 et 20 janvier 1981, cons. 75, Rec . p 15 80 - 127) ثانيهما : أن تأثيم المشرع لأفعال بذواتها، لاينفصل عن عقوباتها التى يجب أن يكون فرضها مرتبطا بمشروعيتها، وبضرورتها، وبامتناع رجعية النصوص العقابية التى قررتها كلما كان مضمونها أكثر قسوة، ودون ماإخلال بحقوق الدفاع التى تقارنها • ولاتتعلق هذه الضوابط جميعها بالعقوبات التى توقعها السلطة القضائية فقط، ولكنها تمتد لكل جزاء يتمحض عقابا، ولوكان المشرع قد عهد بالنطق به إلى جهة غير قضائية • ْUne peine ne peut etre infligée qu" a la condition que soient respectés le principe de légalité des délits et des peines, le principe de nécessité des peines, le princpe de non -rétroactivité de la loi pénale d"incrimination plus sévere ainsi que le respect du principe des droits de la défense . Ces exigences concernent non seulement les peines prononcées par les juridictions répressives mais aussi toute sanction ayant le caractére d"une punition meme si le législateur a Laissé Le soin de La prononcer a une autorité de nature non judiciaire . (DC , 17 Janvier 1989, cons. 53 a 42 , p . 18 248- 88)
وحيث إن قضاء هذه المحكمة فى شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع الفعل -وقبل الفصل فيه نهائيا- مؤداه أن سريان القانون اللاحق فى شأن الأفعال التى أثمها قانون سابق، وإن اتخذ من نص المادة 5 من قانون العقوبات موطئا وسندا، إلا أن صون الحرية الشخصية التى كفلها الدستور بنص المادة 41 منه، هى التى تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها• ذلك أن مايعتبر قانونا أصلح للمتهم، وإن كان لايندرج تحت القوانين التفسيرية التى تندمج أحكامها فى القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه باعتبارها جزءا منه يبلور إرادة المشرع التى قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التى أثمها القانون القديم، إنما ينشئ للمتهم مركزا قانونيا جديدا، ويقوض -من خلال رد هذه الأفعال إلى دائرة المشروعية - مركزا سابقا • ومن ثم يحل القانون الجديد - وقد صار أكثر رفقا بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التى اعتبرها الدستور حقا طبيعيا لايمس - محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل ينحى ألحقهما أسبقهما•
وغدا لازما بالتالى -وفى مجال إعمال القوانين الجنائية الموضوعية Les lois pénales de fond الأكثر رفقا بالمتهم- توكيد أن صون الحرية الشخصية من جهه، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى، مصلحتان متوازيتان، فلاتتهادمان• وصار أمراً مقضيا - وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم - أن ترد لأصحابها تلك الحرية التى كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه، إعلاء للقيم التى انحاز إليها القانون الجديد، وعلى تقدير أن صونها لايخل بالنظام العام باعتباره مفهوما مرنا متطورا على ضوء مقاييس العقل الجمعى التى لاينفصل القانون الأصلح عنها، بل يوافقها ويعمل على ضوئها، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره إلا تثبيتا للنظام العام بما يحول دون انفراط عقده، بعد أن صار هذا القانون أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم•
وحيث إن القوانين الجزائية التى نقارنها ببعض تحديدا لأصلحها للمتهم، تفترض اتفاقها جميعا مع الدستور، وتزاحمها على محل واحد، وتفاوتها فيما بينها فى عقوباتها، فلانغلب من صور الجزاء التى تتعامد على المحل الواحد، إلا تلك التي تكون فى محتواها أو شرائطها أو مبلغها Le contenu, Les modalités et Le quantum des peines أقل بأسا من غيرها، وأهون أثراً•
وحيث إن البين من النصوص التى أثم بها المشرع جريمة خلو الرجل فى نطاق العلائق الإيجارية -وبقدر اتصالها بالنزاع الراهن- أن إتيان الأفعال التى تقوم بها هذه الجريمة، ظل مشمولا بالجزاء الجنائى حتى بعد العمل بالقانون رفم 136 لسنة 1981 الذى صدر منظما بعض الأحكام الخاصة بالعلائق الإيجارية، ذلك أن هذا القانون، وإن نص على إلغاء العقوبات المقيدة للحرية التي فرضتها قوانين إيجار الأماكن السابقة على العمل بأحكامه، اتساقا مع اتجاهه إلى الحد من القيود التى أرهق بها المشرع مصالح المؤجر، إلا أنه استثنى من ذلك جريمة خلو الرجل، والجرائم المنصوص عليها فى المادة 23 منه، مبقيا بذلك على عقوباتها•
وحيث إن القانون اللاحق -وهو القانون رقم 4 لسنة 1996- أعاد من جديد تنظيم جريمة خلو الرجل فى شأن الأماكن التى حددتها مادته الأولى، مقررا سريان قواعد القانون المدنى -دون غيرها- عند تأجيرها واستغلالها، وملغيا كل قاعدة على خلافها، مؤكدا بذلك استئثار أصحابها بها، لتخرج هذه الأماكن بذلك من نطاق التدابير الاستثنائية التى درج المشرع على فرضها فى مجال العلائق الإيجارية، فلايكون تأجيرها إلا وفق الشروط التى تتطابق بشأنها إرادة مؤجريها مع من يتقدمون لطلبها، ولو كان من بينها تقاضى المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، أيا كان وصفها أو مقدارها أو سببها • وهو مايعني أن الضرورة الاجتماعية التى انطلق منها الجزاء المقرر بالقوانين السابقة فى شأن هذه الجريمة، قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة فى واحد من أطوار تقدمها، قوامها حرية التعاقد، فلا يكون الجزاء الجنائى -وقد لابس القيود التى فرضتها هذه القوانين على تلك الحرية- إلا منهدما بعد العمل بالقانون الجديد•
وحيث إن القول بأن لكل من قوانين إيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم 4 لسنة 1996، مجالا ينحصر فيه تطبيقها، وأنها جميعا تعتبر من قبيل التنظيم الخاص لموضوعها، فلايقيدها هذا القانون باعتباره تشريعا عاما مردود أولا: بأن القانون اللاحق تغيا أن يعيد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها، فلا تحكمها إلا حرية التعاقد التى يلازمها بالضرورة أن يكون المتعاقدان على شروطهما التى يناقضها أن يكون الاتفاق على مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار -وهو جائز قانونا فى شأن الأماكن التى ينظمها القانون الجديد- سببا لتجريم اقتضائها• والأفعال التى أثمها القانون السابق بالشروط التى فرضها، هى ذاتها التي أطلق القانون الجديد الحق فيها، فلايكون امتداده إليها إلا ضمانا لصون الحرية الشخصية التى منحها الدستور الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها • بل إن هذا القانون -وباعتباره أصلح للمتهم- يعتبر متمتعا بالقوة ذاتها التى كفلها الدستور لهذه الحرية، فلا يكون القانون السابق حائلا دون جريانها، بل منجرفا بها• ومردود ثانيا: بأن التجريم المقرر بالقانون السابق، ارتبط بتدابير استثنائية قدر المشرع ضرورة اتخاذها خلال الفترة التى ظل فيها هذا القانون نافذا • فإذا دل القانون اللاحق على انتفاء الضرورة الاجتماعية التى لايكون الجزاء الجنائى مبررا مع فواتها، فإن هذا القانون يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية التى كفل الدستور صونها• ومردود ثالثا : بأن تأثيم المشرع لأفعال بعينها، قد يكون مشروطا بوقوعها فى مكان معين، كتجريم الأفعال التي يأتيها شخص داخل النطاق المكانى لمحمية طبيعية إضرارا بخصائصها أو بمواردها• وقد يؤثم المشرع أفعالا بذواتها، جاعلا من ارتكابها فى مكان محدد، ظرفا مشددا لعقوبتها، كالسرقة فى مكان مسكون أو معد للسكنى أو ملحقاتهما أو فى محل للعبادة عدوانا على حرمتها• ولاكذلك جريمة تقاضى المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، ذلك أن وقوعها فى الأماكن التى أخضعها هذا القانون لحكمه، ليس شرطا لاكتمال أركانها، ولاظرفا لازما لتغليظ عقوبتها، ولكنها تتحقق اتصالا بواقعة تأجيرها وبمناسبتها، ولمجرد أن المكان المؤجر لم يكن -عند العمل بالقانون الجديد- خاليا• ومردود رابعا: بأن من غير المتصور أن يظل قائما، التجريم المقرر بالقانون السابق فى شأن تقاضى مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، إذا كانت الأماكن التى يشملها هذا القانون مؤجرة قبل نفاذ القانون الجديد، فإذا خلا مكان منها وقت سريان هذا القانون، تحرر المؤجر جنائيا من كل قيد يتعلق باقتضاء المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار• وليس مفهوما أن يكون للفعل الواحد معنيان مختلفان، ولا أن تحتفظ الجريمة التى أنشاها القانون القديم بذاتيتها، وبوطأة عقوبتها، بعد أن جرد القانون الجديد الفعل الذى يكونها من الآثام التى احتضنها • ومردود خامسا: بأن القانون الجديد صرح بإلغاء كل قانون يتضمن أحكاما تناقض تلك التى أتى بها، بما مؤداه اطراح النصوص المخالفة للقانون الجديد - فى شأن يتعلق بالتجريم - سواء تضمنها تنظيم عام أو خاص• ذلك أن القوانين لاتتنازع إلا بقدر تعارضها، ولكنها تتوافق من خلال وسائل متعددة يتصدرها - فى المجال الجنائى - القانون الأصلح للمتهم، فلا يكون نسيجها إلا واحدا• والجريمة التى أنشأها القانون السابق هى ذاتها التى هدمها القانون الجديد • ووجودها وانعدامها متصادمان، فلا يستقيم اجتماعهما • ومردود سادسا: بأن إعمال الأثر الرجعى للقانون الأصلح للمتهم يعتبر انحيازا من القاضى لضمانة جوهرية للحرية الشخصية، تبلورها السياسة العقابية الجديدة للسلطة التشريعية التى تتحدد على ضوء فهمها للحقائق المتغيرة للضرورة الاجتماعية• وهى بعد ضرورة ينبغى أن يحمل عليها كل جزاء جنائى، وإلا فقد علة وجوده•
وحيث إنه متى كان ماتقدم، وكانت الواقعة محل الاتهام الجنائى لم تعد معاقباً عليها، فقد تعين الحكم بانتفاء مصلحة المدعى فى الدعوى الماثلة، بعد أن غض المشرع بصره عن بعض التدابير الاستثنائية للعلائق الإيجارية التى انبنى التجريم عليها، وخرج من صلبها•
وحيث إن قضاء هذه المحكمة باعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 أصلح للمتهم -وقد انبنى على التطبيق المباشر للقواعد الدستورية التى تناولتها على النحو المتقدم - فإن حكمها باعتبار هذا القانون كذلك، يكون متمتعاً بالحجية المطلقة التى أسبغها المشرع على أحكامها الصادرة فى المسائل الدستورية، وملزماً بالتالى الناس كافة وكل سلطة فى الدولة، بما فى ذلك جهات القضاء على اختلافها •
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعىة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة•
29 - 10 - 2008 11:46 PM
قضية رقم 78 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت أول فبراير سنة 1997 الموافق 23 رمضان سنة 1417 هـ·
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف ·
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 78 لسنة 17 قضائية "دستورية".
المقامة من
السيد / أيمن زكريا حسن المحامى
ضد
1 - السيد / رئيس الوزراء
2 - السيد المستشار/ وزير العدل
3 - السيد / مخلص على فكرى
الإجراءات
بتاريخ 3 دسمبر 1995، أودع المدعى هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة الأولى من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر·
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى·
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها·
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم·
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة·
حيث إن الوقائع -على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل فى أن المدعى كان قد استأجر من المدعى عليه الثالث عينا لاستعمالها مكتبا للمحاماة بأجرة شهرية قدرها مائة جنيه وعشرة تؤدى مقدما أول كل شهر· وإزاء تأخره فى إيفائها، فقد أنذره المؤجر بدفعها، ثم أقام ضده الدعوى رقم 10608 لسنة 1993 أمام محكمة جنوب القاهرة الابتدائية بطلب الحكم بإخلائه من العين· وأثناء نظر هذه الدعوى، أقام المستأجر دعواه الفرعية رقم 49 لسنة 1994 أمام المحكمة ذاتها طالبا الحكم بخفض الأجرة المقدرة عن المكان المؤجر إلى عشرين جنيها إلى أن تحدد لجان التقدير أجرتها، مستندا فى ذلك إلى أن العقار منشأ قبل عام 1954 ويعامل بالتالى -فى مجال تحديد الأجرة- وفقا لأحكام القانون 49 لسنة 1977 دون أحكام القانون رقم 136 لسنة 1981 الصادرين كليهما فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، إذ يعمل بهذا القانون الأخير في شأن الأماكن المرخص فى إقامتها اعتبارا من تاريخ نفاذه فى 31/7/1981·
وبجلستها المقعودة فى 16/2/1994، قررت محكمة جنوب القاهرة الابتدائية ضم الدعوى الثانية إلى الأولى للارتباط وليصدر فيهما حكم واحد، ثم قضت بجلستها المعقودة فى 30/3/1994 -وقبل الفصل فى الدعوى الفرعية- بندب خبير لتحديد الأجرة القانونية للعين والقانون الواجب التطبيق فى شأنها · وإذ أودع الخبير تقريره منتهيا فيه إلى أن المكان المؤجر أقيم فى ظل العمل بالقانون رقم 136 لسنة 1981المشار إليه، فقد دفع المدعى فى الدعوى الفرعية - المستأجر - بعدم دستورية هذا القانون، فأرجأت محكمة الموضوع الفصل فى النزاع الموضوعى إلى أن يقدم مايدل على رفع دعواه الدستورية، فأقامها·
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت الدعوى الدستورية بعدم قبولها، مستندة فى ذلك إلى وجهين، أولهما: أن تأجيل الفصل فى النزاع الموضوعى إلى أن يقدم المدعى مايفيد الطعن بعدم الدستورية، لايعتبر تصريحا منها برفعها · ثانيهما : أن المدعى لم يبين ما إذا كانت الوحدة المؤجرة إليه من الإسكان الفاخر أو من غيره، ولم يحدد كذلك موضوع الدعويين الأصلية والفرعية والطلبات فيهما، بل جاء مجهلا بكل ذلك، وبالتالى بنطاق المسألة الدستورية التى تُدعى هذه المحكمة للفصل فيها·
وحيث إن هذا الدفع بوجهيه مردود، أولاً: بأنه ليس لازما -فى مجال تقدير جدية الدفع المثار أمام محكمة الموضوع- أن تتخذ فيه قرارا صريحا يكون قاطعا بما اتجهت إليه عقيدتها، بل يكفيها أن يكون قرارها فى هذا الشأن ضمنيا مستفادا من عيون الأوراق، ومن ذلك تعليقها الفصل فى النزاع الموضوعى على مايفيد رفع الدعوى الدستورية فى شأن النصوص القانونية المدفوع أمامها بعدم دستوريتها، إذ لو كان ماطرح عليها فى شأن مناعيها لايستقيم عندها عقلا، لكان قرارها إرجاء النزاع الموضوعى حتى الفصل فيها من المحكمة الدستورية العليا، لغوا·
ومردود ثانيا: بأن المدعي أبان في صحيفة دعواه الدستورية - وبما لاتجهيل فيه - عن أن القانون رقم 136 لسنة 1981 قد مايز -فى مجال تحديد الأجرة- بين الأماكن المهيأه للسكني من غير الإسكان الفاخر، وغيرها من الأماكن المؤجرة التى يشملها هذا القانون، مخالفا فى ذلك نص المادتين 40 و 68 من الدستور· والدعويان - الأصلية والفرعية - محددتان كذلك نطاقا، باعتبار أن أولاهما تتعلق بطلب إخلاء المدعى من العين التى يشغلها بعد أن تراخى فى أجرتها، وثانيتهما: بطلب رد مازاد من الأجرة التى دفعها عن حدودها المقررة قانونا · وهما معا مرتبطتان، والحكم فى المسائل الدستورية التى دعيت هذه المحكمة للفصل فيها، يؤثر عليهما معا·
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة -وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية- مناطها أن يتوافر ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة التى يقوم بها النزاع الموضوعى، وذلك بأن يكون الحكم فى المسائل الدستورية لازما للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه، قد مايز -فى مجال تحديد الأجرة- بين الأماكن المؤجرة لأغراض السكنى، وغيرها من الأماكن التى ألحق المشرع الإسكان الفاخر بها؛ وكانت المصلحة الشخصية والمباشرة للمدعى تنحصر فى إبطال هذا التمييز، لإخضاع الأماكن المؤجرة جميعها -التى يتعلق بها مجال تطبيق هذا القانون- لقواعد موحدة تطبقها لجان تحديد الأجرة، وتقرر على ضوئها أجرة أقل للعين التى يشغلها، فإن دعواه الدستورية تتقيد بهذا النطاق، وبه يتحدد موضوعها·
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر تنص على أنه "فيما عدا الإسكان الفاخر، لايجوز أن تزيد الأجرة السنوية للأماكن المرخص فى إقامتها لأغراض السكنى اعتبارا من تاريخ العمل بهذا القانون على 7% من قيمة الأرض والمبانى وعلى ألاتقل المساحة المؤجرة لهذه الأغراض عن ثلثى مساحة العقار ····"
وحيث إن المدعى فى الدعوى الدستورية، نعى على هذه الفقرة مخالفتها للدستور، وذلك تأسيسا على أن المشرع مايز بمقتضاها بين الأماكن تبعا لنوع استخداماتها، فبينما جعل الإسكان الفاخر والأماكن المؤجرة لغير أغراض السكنى بمنأى عن الخصوع لقواعد تحديد الأجرة من خلال اللجان التى نص عليها، أخضع ماعداها لهذا التحديد، كافلا بذلك أن يكون عمل هذه اللجان مقصورا على الأماكن المهيأه للسكنى من غير الإسكان الفاخر، فلا تمتد قواعد تحديد الأجرة لسواها، مما يخل بمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، وكذلك بحق التقاضى المنصوص عليهما فى المادتين 40 و 68 من الدستور·
وحيث إن القيود التى يفرضها المشرع على حق الملكية، كثيرا ماتتناول الانتفاع بالأعيان المؤجرة التى قدر أن تزايد الطلب عليها مع قلة المعروض منها يقتضى إحاطتها بتدابير استثنائية خرج فيها على القواعد العامة فى عقد الإجارة، مستهدفا بها علي الأخص الحد من حرية المؤجر فى تقدير الأجرة، واعتبار العقد ممتدا بقوة القانون بذات شروطه الأصلية عدا المدة والأجرة · ولئن جاز القول بأن هذه التدابير الاستثنائية التى فرضها المشرع لمواجهة أزمة الإسكان والحد من غلوائها، قد آل أمرها إلى اعتبار أحكامها من قبيل التنظيم الخاص لموضوعها، مع تعلقها بالنظام العام لإبطال كل اتفاق على خلافها، ولضمان سريانها بأثر مباشر على عقود الإجارة القائمة عند العمل بها ولوكانت مبرمة قبلها، إلا أن تطبيقها ظل مرتبطا بالضرورة التي أملتها بوصفها باعثها وإطارها · وما كان لسريانها بالتالى أن ينفصل عن مبرراتها، ولاأن يجاوز مداها قدر هذه الضرورة، وإلا اعتبر إقرارها فيما وراءها منافيا لنص المادتين 32 و34 من الدستور اللتين تكفلان صون الملكية الخاصة - لاتدمير أصلها أو بعض عناصرها -ولاتتسامحان فيما يفرض عليها من القيود عدا تلك التى تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، وبافتراض نأيها عن الاستغلال·
وحيث إن ما تقدم مؤداه -وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة- أن الأصل فى النصوص القانونية التى اقتضتها الضررة أن يكون إعمالها مشروطا بتوافر موجباتها، وبقدرها· ولايجوز بالتالى أن تعتبر التدابير الاستثنائية التى تدخل بها المشرع فى مجال العلائق الإيجارية -من أجل ضبطها- حلا نهائيا ودائما لمشكلاتها، فلايتحول المشرع عنها، بل عليه أن يعيد النظر فيها، وأن يَعْدِل عنها عند زوال مبرراتها، وأن تُخْلى هذه التدابير عندئذ مكانها لحرية التعاقد بوصفها الحرية الأصل فى العقود جميعها ·وكلما قدر المشرع إنهاء التدابير الاستثنائية التى كان قد فرضها فى شأن الأعيان المؤجرة، دل ذلك على أن شروط التعاقد لتأجيرها أضحت عملا اتفاقيا يكفى لانعقاده أن يتبادل طرفاه التعبير عن إرادتيهما مع تطابقهما·
وحيث إن القوانين الاستثنائية التى درج المشرع على التدخل بها لتقدير أجرة الأماكن التى حددتها، غايتها أن يكون هذا التقدير محددا وفق ضوابط ومعايير لاتجوز مخالفتها، بل يكون تطبيقها لازما فى مجال سريان القانون الذى أوجبها ؛ وكان الأصل المقرر بمقتضى المادة الأولى من القانون رقم 136 لسنة 1981 السابق الإشارة إليه، هو ألا تزيد الأجرة السنوية للأماكن المرخص فى إقامتها لأغراض السكنى -واعتبارا من تاريخ العمل بأحكامه- على 7% من قيمة الأرض والبناء؛ وكان ذلك مؤداه أن تتولى لجان تقدير الأجرة المنصوص عليها فى المادة الثالثة من هذا القانون، اختصاصها فى مجال تحديد مبلغها، وفقا للأسس والمعايير التى ضبطها المشرع بها ؛ وكان لااختصاص لهذه اللجان بتقدير أجرة أماكن أعدها أصحابها لغير أغراض السكنى، ولا أجرة مساكن يعتبر مستواها فاخراً بالنظر إلى موقعها ومكوناتها وأعمال تشطيبها، وغير ذلك من مواصفاتها التى حددتها اللائحة التنفيذية لهذا القانون الصادر بها قرار وزير التعمير رقم 766 لسنة 1981، وإلا وقع قرارها بتقدير الأجرة باطلا بطلانا مطلقا لخروجها عن حدود ولايتها ؛ وكان المدعى قد توخى بدعواه، إرجاع قيود استثنائية قدر المشرع فى نطاق تطبيق هذا القانون، إنهاءها لمجاوزتها قدر الضرورة الاجتماعية التى تطلبتها ؛ وكان لايتصور أن يكون استلاب الناس أموالهم حقا لأحد، ولا أن تقدر الضرورة بعيدا عن حقائقها ؛ وكان النص المطعون فيه يعيد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها بعد أن اختل التوازن بين أطرافها اختلالا جسيما، وغدا تنظيمها منافيا لطبيعتها، متغولا حدود التضامن الاجتماعى التى كفلتها المادة 7 من الدستور، وقوامها وحدة الجماعة فى بنيانها، وتداخل مصالحها لاتصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال روابط أفرادها ليكون بعضهم لبعض ظهيرا، فلايتفرقون بددا ؛ وكان النص المطعون فيه - وفيما يتعلق بالأماكن التى أخرجها من نطاق تطبيق القواعد الآمرة لتحديد الأجرة وجواز الطعن فى الأحكام الصادرة بشأنها - إنما يَرُد الحقوق لأصحابها، ويقيم ميزانها عدلا وإنصافا، فإن ادعاء مخالفته للدستور - وقد تغيا هذه الأغراض، وانتظم المخاطبين بأحكامه بقواعد موحدة لاتمييز فيها بين فئاتهم - يكون لغوا ·
وحيث إن ماينعاه المدعى من أن القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه، قد أخل بحق التقاضى المنصوص عليه فى المادة 68 من الدستور، بعد أن قصر عمل لجان تحديد الأجرة على الأماكن المهيأه للسكنى من غير الإسكان الفاخر دون غيرها، ولم يجز الطعن فى مقدار الأجرة بعد تحديدها، مردود بأنه اعتبارا من تاريخ العمل بهذا القانون - وفى مجال تطبيق أحكامه - لم يعد الحق فى تقدير أجرة الأماكن التى خصصها أصحابها لغير أغراض السكنى، مقيدا بقواعد آمرة لاتجوز مخالفتها، بل صار أمر تحديد مبلغها عائدا إلى طرفى العلاقة الإيجارية يدخلان فيها بإرادتيهما، ويقرران معا شروطها ومن بينها مقدار الأجرة · ويعتبر هذا الاتفاق بالتالى شريعتهما التى لايجوز أصلا نقضها أو تعديلها - وعملا بنص المادة 147 من القانون المدنى - إلا بتراضيهما · ويظل هذا الاتفاق منتجا لآثاره إلى أن يزول وجوده قانونا سواء بالانقضاء أو الانحلال أو الإبطال · ولكل ذى شأن فيه حق التداعى فيما نشأ عنه من الحقوق، دون قيود ماليه أو عوائق إجرائية تنال من محتواه ·
وحيث إنه متى كان ماتقدم، وكان النص المطعون فيه لايتعارض مع أى حكم فى الدستور من أوجه أخرى ·
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة ·
قضية رقم 22 لسنة 12 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعـب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت أول يناير1994 الموافق 19رجب سنة 1414هـ ·
برئاسة السيد المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر رئيس المحكمـة
وعضوية السادة المستشارين : الدكتور محمد ابراهيم ابو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف والدكتورعبد المجيد فياض ومحمد عبد القادر عبدالله
وحضور السيد المستشار نجيب جمال الدين علما المفوض
وحضور السيد /رأفت محمد عبد الواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتــــــــى :
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 22 لسنة 12 قضائية "دستورية"
المقامة من
رفعت زغلول مصطفى
ضــــــد
1- السيد/ رئيس الجمهورية
- السيد/ رئيس مجلس الوزراء
3- السيد/ وزير المالية
4- السيد/ وزير العـدل
5- السيدة/ كريمة سيد أحمد
6- ورثة المرحومة/تحية بيومى حسانين وهم:
بدر وسيد وإبتسام وفتحية وعلية عبدالسيد عبدالله
وابراهيم محمد حمدى
الإجراءات
بتاريخ 14 أبريل 1990 أودع المدعى قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة ، طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة 23/1 من القانون رقم 136 لسنة 1981 ، فيما تضمنه من اعتبار التصرفات التالية للتصرف الأول بالبيع ، باطلة ولو كانت مسجلة ، مع إلزام المدعى عليهما الخامس والسادس بالمصروفات ومقابل الأتعاب ·
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فى ختامها الحكم : أصليا بعدم قبول الدعوى ، واحتياطيا برفضها ·
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها ، ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدارالحكم فيها بجلسة اليوم ·
المحكمــة
بعد الإطلاع على الأوراق ، والمداولة
وحيث إن الوقائع -على مايبين من صحيفة الدعـوى وسائر الأوراق - تتحصل فى أن المدعى عليها الخامسة كانت قد اشترت من مورثة المدعى عليهم فى الدعوى الماثلة ، العقار المبين الحدود والمعالم بالأوراق ، بموجب عقد البيع الابتدائى المؤرخ 20/7/1978 ، كما قام الورثة أنفسهم - بعد وفاة مورثتهم المذكورة وبوصفهم خلفا عاما لها - ببيع العقار ذاته مرة ثانية ، الى المدعى فى الدعوى الماثلة بموجب عقد البيع المشهر برقم 620 لسنة 1988توثيق شمال القاهرة بتاريخ 28/2/1988 ، مما حمل المشترى الأول على أن يقيم أمام محكمة الزيتون الجزئية الدعوى المقيدة برقم 193 لسنة 1989 التى قضى فيها ببطلان عقد البيع المشهر المشار إليه آنفا ، ومحو التسجيلات الخاصة به وبصحة ونفاذ عقد البيع المؤرخ 20/7/1978 وبرفض طلب فسخه ، وإذ طعن على هذا الحكم استئنافيا أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية (مدنى مستأنف شمال القاهرة ) ، وكان الحاضر عن المدعى فى الدعوى الماثلة ، قد دفع بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من الماده 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981، فى شأن بعض الاحكام الخاصة بتأجير وبيع الاماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وكانت محكمة الموضوع قد قدرت جدية دفعه ، فقد أقام الدعوى الراهنة ، وحصر فى صحيفتها المسألة الدستورية فى الجملة الأخيرة الواردة فى الفقرة الاولى من المادة 23 المشار اليها ونصها " ويبطل كل تصرف بالبيع لاحق لهذا التاريخ ولوكان مسجلا " ·
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة 23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر ، تنص على أن يعاقب بعقوبة جريمة النصب المنصوص عليها فى قانون العقوبات ، المالك الذى يتقاضى بأية صورة من الصور ، بذاته أو بالوساطة ، أكثر من مقدم عن ذات الوحدة أو يؤجرها لأكثر من مستأجر أو يبيعها لغير من تعاقد معه على شرائها ، ويبطل كل تصرف بالبيع لاحق لهذا التاريخ ولو كان مسجلا " ·
وحيث إن المدعى ينعى على الفقرة المشار اليها أن ماتضمنته من بطلان البيع اللاحق ولو كان مسجلا ، ينطوى على إهدار لأحكام القانون المدنى وقانون التسجيل خاصة بعد أن صار الشهر العقارى الدعامة الاساسية التى يقوم عليها الائتمان · وإهدار اجراءاته التى توخى بها المشرع حماية الملكية الخاصة ، يعتبراخلالا بها بالمخالفة للدستور الذى كفل صونها من العدوان بنص المادة 4 3 منه ·
وحيث إن الدستور حرص على صون الملكية الخاصة ، وكفل عدم المساس بها إلا على سبيل الاستثناء ، وفى الحدود وبالقيود التى أوردها باعتبارها مترتبة - فى الأصل - على الجهد الخاص الذى بذله الفرد بكده وعرقه ، وبوصفها حافزه إلى الانطلاق والتقدم ، إذ يختص دون غيره بالأموال التى يملكها وتهيئة الإنتفاع المفيد بها لتعود إليه ثمارها ومنتجاتها وملحقاتها ، وكانت الأموال التى يرد عليها حق الملكية ، تعد كذلك من مصادر الثروة القومية التى لايجوز التفريط فيها أو استخدامها على وجه يعوق التنمية أو يعطل مصالح الجماعة ، وكانت الملكية فى إطار النظم الوضعية التى تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة ، لم تعد حقا مطلقا ، ولاهى عصية على التنظيم التشريعى ، وإنما يجوز تحميلها بالقيود التى تقتضيها وظيفتها الاجتماعية ، وهى وظيفة يتحدد نطاقها ومرماها على ضوء طبيعة الأموال محل الملكية ، والأغراض التى ينبغى توجيهها إليها ، وبمراعاة الموازنة التى يجريها المشرع ويرجح من خلالها مايراه من المصالح أولى بالرعاية وأجدر بالحماية على ضوء أحكام الدستور، متى كان ذلك ، تعين أن ينظم القانون أداء هذه الوظيفة مهتدياً بوجه خاص بالقيم التى تنحاز إليها الجماعة فى مرحلة معينة من مراحل تطورها ، وبمراعاة أن القيود التى تفرضها الوظيفة الاجتماعية على حق الملكية للحد من إطلاقها ، لاتعتبر مقصودة لذاتها ، بل غايتها خير الفرد والجماعة ·
وحيث إنه متى كان ماتقدم ، وكان الدستور قد كفل فى مادته الثانية والثلاثين حماية الملكية الخاصة التى لاتقوم فى جوهرها على الاستغلال ، وهو يرد انحرافها كلما كان إستخدامها متعارضا مع الخير العام للجماعة ، مؤكدا دعمها بشرط قيامها على الوظيفة الاجتماعية التى يبين المشرع حدودها ، مراعيا فى ذلك أن تعمل فى خدمة الاقتصاد القومى وفى إطار خطة التنمية ، وكان البين من الأحكام التى اختص بها الدستور الملكية الخاصة أن صونها من العدوان رهن بتوافر الشرائط التى تطلبها فيها ويندرج تحتها نأيها عن الإستغلال، والتزامها مصالح الجماعة والعمل على تحقيقها ودون مناهضتها بالاتفاق على خلافها ، وكان المشرع فى نطاق سلطته التقديرية فى مجال تنظيم الحقوق ، قد سن النص المطعون فيه ، مقررا العمل به من تاريخ نشره ، ودالا بمقتضاه على أن الأسبق إلى شراء وحدة من مالكها -ولو كان ذلك قبل تسجيل عقده وبقاؤها بالتالى من الناحية القانونية على ذمة من ابتاعها منه – هو الأجدر بالحماية ضمانا للثقة المشروعة فى التعامل ، فإذا باع مالكها الوحدة ذاتها لغير من تعاقد معه على شرائها أولا ، كان ذلك نوع من التعامل فيها يقوم على التحايل والانتهاز ، وهو مادعا المشرع إلى أن يبطل البيوع اللاحقة لتصرفه الأول فيها باعتبار أن محلها قد غدا من الأموال التى لايجوزالتعامل فيها - لابناء على طبيعتها ، ولا لأن بيعها يعتبر منافيا للغرض الذى خصص لها ورصدت عليه - وإنما لأن هذا التعامل يعتبر منهيا عنه بنص فى القانون ، وغير مشروع بالتالى ·
وحيث إن النص المطعون فيه - فيما تضمنه من قاعدة آمرة ناهية - قد تقررعلى ضوء أسس موضوعية بعد أن شاع التعامل فى الوحدة الواحدة أكثر من مرة ، انحرافا عن الحق وتماديا فى الباطل ، واستمراء للزور والبهتان ، وجلبا للمال الحرام إيثارا واثراءً ، وضمانا لموارد متجدده اهتبالا وانتهابا ، وإفتئاتا على الحقوق الثابتة إنكارا ، وسعيا من مالكها لنقض ماتم من جهته عدوانا ، فقد كان أمراً محتوما ان يرده المشرع على اعقابه باهدار سوء قصده جزاءً وفاقا ، وان يقرر بالتالى - وزجرا لتلاعبه -بطلان البيوع اللاحقة جميعها - وقوامها الانتهاز والتحايل على ماسلف البيان - بطلانا مطلقا لضمان انعدامها ، باعتبار أن العدم لايصير وجوداً ولو أجيز ، ولأن بطلان هذه البيوع مؤداه أن لكل ذى مصلحة أن يتمسك ببطلانها ، وللمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها · ولايعدو بطلان العقد أن يكون جزاءً على عدم استجماعه لأركانه كاملة مستوفية لشروطها ، وهو مانحاه النص المطعون عليه بناء على اعتبارات موضوعية ، ولحماية مصلحة عامة لايجوز أن تختل ، ضمانا لتعامل يتوخى رعاية الحقوق لا إهدارها أو الانتقاص منها ، وبثًا للثقة المشروعة التى ينبغى أن يكون محاطا بها ، ملتزما إطارها ، وقمعا لكل صور الانحراف التى تفسده المعاملات وتنال منها ، ولو كان محل الالتزام قد أضحى غير مشروع حكما - لاطبيعة - بناء على نص ناه فى القانون ولا مخالفة فى ذلك كله للدستور ذلك ان النص المطعون فيه قد سرى بأثر مباشر اعتباراَ من تاريخ العمل به ، وتحدد مجال البطلان - وفقا لاحكامه - بالعقود اللاحقه التي تم بها بيع الوحده ذاتها لغير من تعاقد مالكها علي شرائها منه أولا ، وارتد هذا البطلان إلي قاعدة آمره لا يجوز التحلل منها أو اهدارها باعتبارها أصون للمصالح الاجتماعية والاقتصادية المرتبطه بها وادعى إلى تنحية المصلحة الفردية التي تناقضها ، وبوصفها واقعه في المجال الطبيعى للنظام العام ، وهو يتحدد دائرة ومفهوماَ ، تخوما ونطاقاً ، علي ضوء العوامل الاجتماعية والإقتصادية الغالبة في بيئهة بذاتها خلال زمن معين - متى كان ذلك وكان القانون المدنى قد نص في المادة 135 منه علي انه إذا كان محل الالتزام مخالفا للنظام العام ، كان العقد باطلاَ ، وكان النص المطعون فيه دامغا لمشروعية المحل في عقود البيع اللاحقه ، مقرراَ بطلانها ، مجرداَ إياها من الأثار المترتبه عليها كأعمال قانونية ، فإن تسجيلها يكون معدوم الأثر لوروده علي غير محل ، ذلك أن العقد الباطل منعدم وجوداَ من الناحية القانونية ، وهو انعدام لاتتعدد مراتبه أو يتدرج ، بل هو درجة واحدة لاتفاوت فيها ، وبه يعود المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها عندالتعاقد ما لم يكن ذلك مستحيلا ، فيجوز عندئذ الحكم بتعويض عادل 0
وحيث إن المدعى دلل على مخالفة النص المطعون عليه للدستور قائلا بأن الفرض فى العقد الأسبق أنه غير مسجل ومن ثم تظل الوحده محل النزاع بيد مالكها وجواز تصرفه فيها وذلك خلافا للعقد اللاحق المسجل ذلك أن الأسبق إلى تسجيل العقد هو الأحق والأجدر بان يعتبر مالكا بإعتباران التسجيل يفيد لزوما جواز الاحتجاج بأثره الناقل للملك ، سواء فيما بين المتعاقدين أو فى مواجهة الأغيار، وكان ماقرره المدعى على النحو المتقدم مردودا أولا بأن المفاضلة بين عقدين تغليبا لأحدهما وترجيحاً لأحد المركزين القانونيين على الآخر ، يفترض أن هذين العقدين مستوفيان لأركانهما ولشروط صحتهما ، وهوماتخلف فى تطبيق أحكام النص التشريعى المطعون عليه، ذلك أن عقد البيع اللاحق - وقد اعتبر باطلا بطلانا مطلقا بناء على نص ناه فى القانون - قد أضحى منعدما لامجال لانفاذه ، بما مؤداه زوال كافة الآثار التى رتبها وعودة الأوضاع إلى حالها قبل إبرامه كلما كان ذلك ممكنا ، وذلك خلافا للعقد الأول إذ لاشبهة فى صحته ونفاذه وترتيبه التزاما شخصياً على البائع بالعمل على اتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل ملكية المبيع · ومردودا ثانيا بأن تسجيل عقد ما ، لايدل بالضرورة على صحته ونفاذه ، ذلك أن العقد المسجل قد يكون صوريا أوباطلا أو مستحيل التنفيذ أو منفسخا ·
وحيث إنه لامحل كذلك للقول بأن تدخل المحكمة الجنائية يعتبر لازماً لتقرير بطلان عقد البيع اللاحق فى شأن الوحدة ذاتها إعمالا للنص المطعون فيه الذى اعتبر مالكها متصرفا فيها بهذا العقد مخاتلة أو تواطؤاً ، ومرتكباً بالتالى لجريمة محدد عقوبتها لامحل لذلك ، ذلك أن البيع اللاحق أبرم بالمخالفة لقاعدة آمرة تعد بذاتها مصدراً مباشراً لبطلانه ، ومجرد إعمالها يعتبر كافيا لإيقاع الجزاء المقترن بها ·
وحيث إن ماينعاه المدعى من تعارض بين النص المطعون فيه وبين كل من القانون المدنى وقانون تنظيم الشهر العقارى ، مردود ا - وبفرض صحة هذا الإدعاء - بما جرى عليه قضاء هذه المحكمة من أن اختصاصها بالفصل فى المسائل الدستورية مبناه مخالفة نص فى قانون أو لائحة لقاعدة فى الدستور ، فلا يمتد لحالات التعارض بين القوانين واللوائح أوبين التشريعات ذات المرتبة الواحدة 0
وحيث إنه لما كان ماتقدم ، فإن قالة مخالفة النص المطعون فيه للحماية التى كفلها الدستور لحق الملكية ، تكون مفتقرة إلى دعامتها مجردة منها ، حرية بالإعراض عنها · متى كان ذلك ، وكان النص المطعون فيه لايتعارض مع أى حكم آخر فى الدستور من أوجه أخرى ·
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماه ·
قضية رقم 36لسنة 9 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة 14 مارس سنة 1992 .
برئاسة السيد المستشار الدكتور /عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين : الدكتور محمد ابراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبدالرحيم غنيم وعبدالرحمن نصير ومحمد على عبدالواحد وماهر البحيرى
وحضور السيد المستشار / السيد عبدالحميد عمارة المفوض
وحضور السيد / رأفت محمد عبدالواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 36 لسنة 9 قضائية " دستورية " .
الإجراءات
بتاريخ 22 ديسمبر سنة 1987 أودعت المدعية صحيفة الدعوى الماثلة قلم كتاب المحكمة بطلب الحكم بعدم دستورية نص القفرة الثانية من المادة 22 من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة ، طلبت فيها رفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها .
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق ، والمداولة .
وحيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى عليهم من الثانية إلى الرابع كانوا قد أقاموا الدعوى رقم 3357 لسنة 1986 مدنى كلى المحلة ضد المدعية والمدعى عليه الخامس طالبين الحكم بإنهاء عقد الإيجار المؤرخ أول يوليه سنة 1963 عن الوحدة السكنية المبينة بالعقد وصحيفة الدعوى والتى قام مورثهم بتأجيرها إلى مورث المدعية والمدعى عليه الخامس ، تأسيساً على إقامة الأخيرين – وهما خلف المستأجر – فى عامى 1984 و 1985 مبنى مملوكاً لهما يتكون من أكثر من ثلاث وحدات ودون أن يوفرا لهم وحدة ملائمة بالمبنى الذى أقاماه .
وحيث إن القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر ، ينص فى الفقرة الثانية من مادته الثانية والعشرين على انه " إذا أقام المستأجر مبنى مملوكاً له يتكون من أكثر من ثلاث وحدات فى تاريخ لاحق لاستئجاره ، يكون بالخيار بين الاحتفاظ بسكنه الذى يستأجره ، أو توفير مكان ملائم لمالكه أو أحد أقاربه حتى الدرجة الثانية بالمبنى الذى إقامة ، بما لا يجاوز مثلى الأجرة المستحقة له عن الوحدة التى يستأجرها منه " .
وحيث إن المدعية تنعى على الفقرة الثانية من المادة الثانية والعشرين المشار إليها مخالفتها للمادة الثانية من الدستور باعتبار أن الملكية وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية هى اختصاص حاجز يجوز للمالك بمقتضاه أن يباشر سلطته على الشئ الذى يملكه ليمنع غيره من استعماله ، هذا بالإضافة على مخالفة الفقرة الثانية المشار إليها لنص المادة الرابعة والثلاثين من الدستور لإخلالها بالحماية التى كفلها للملكية الخاصة ، وذلك بإلزامها المالك بتأجير إحدى وحدات العقار الذى يشيده – ولو كان هو وأسرته فى حاجة إليها – إلى أشخاص بعينهم – ولو كانوا غير أهل للجوار أو فى غير حاجة إلى الوحدة السكنية .
وحيث إن هذا النعى مردود ، ذلك أن الدستور حرص على النص على صون الملكية الخاصة وكفل عدم المساس بها إلا على سبيل الاستثناء ، وفى الحدود وبالقيود التى أوردها ، باعتبار أنها فى الأصل ثمرة مترتبة على الجهد الخاص الذى بذله الفرد بكده وعرقه وبوصفها حافز كل شخص إلا الانطلاق والتقدم ، إذ يختص دون غيره بالأموال التى يملكها وتهيئة الانتفاع المفيد بها لتعود إليه ثمارها . وكانت الأموال التى يرد عليها حق الملكية تعد كذلك من مصادر الثروة القومية التى لا يجوز التفريط فيها أو استخدامها على وجه يعوق التنمية أو يعطل مصالح الجماعة ، وكانت الملكية فى إطار النظم الوضعية التى تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة ، لم تعد حقاً مطلقاً ولا هى عصية على التنظيم التشريعى ، وإنما يجوز تحميلها بالقيود التى تقتضيها وظيفتها الاجتماعية ، وهى وظيفة يتحدد نطاقها ومرماها على ضوء طبيعة الأموال محل الملكية ، والأغراض التى ينبغى توجيهها إليها ، وبمراعاة الموازنة التى يجريها المشرع ويرجح من خلالها ما يراه من المصالح أولى بالرعاية وأجدر بالحماية . متى كان ذلك ، تعين أن ينظم القانون أداء هذه الوظيفة مستهدياً بوجه خاص بالقيم التى تنحاز إليها الجماعة فى مرحلة من مراحل تطورها ، وبمراعاة أن القيود التى تفرضها الوظيفة الاجتماعية على حق الملكية للحد من إطلاقها ، لا تعتبر مقصودة لذاتها بل غايتها خير الفرد والجماعة . ولقد كفل الدستور فى مادته الثانية والثلاثين حماية الملكية الخاصة التى لا تقوم فى جوهرها على الاستغلال ، وهو يرد انحرافها كلما كان استخدامها متعارضاً مع الخير العام للشعب ، ويؤكد دعمها بشرط قيامها على أداء الوظيفة الاجتماعية التى يبين المشرع حدودها مراعياً أن تعمل فى خدمة الاقتصاد القومى وفى إطار خطة التنمية . ولا مخالفة فى ذلك كله لمبادئ الشريعة الإسلامية أو الأسس التى تقوم عليها ، إذ الأصل أن الأموال جميعها مضافة إلى الله تعالى ، فهو الذى خلقها وإليه تعود ، وقد عهد إلى عباده عمارة الأرض وهم مسئولون عما فى أيديهم من الأموال باعتبارهم مستخلفين فيها لقوله سبحانه وتعالى " وأنفقوا مما جعلناكم مستخلفين فيه " ، ولم تعد الملكية بالتالى مجرد حق خالص لصاحبها ولا هى مزية فى ذاتها تتحرر بموجبها من القيود ، وإنما تتقيد بما لولى الأمر من سلطة فى مجال تنظيمها بما يحقق المقاصد الشرعية فى نطاقها ، وهى مقاصد ينافيها أن يكون إنفاق الأموال او إدارتها متخذاً وجهة تناقض مصلحة الجماعة أو تخل بمصلحة الغير أولى بالاعتبار ، ومن ثم جاز لولى الأمر رد الضرر البين الفاحش واختيار أهون الشرين – إذا تزاحما فى مجال مباشرة المالك لسلطاته – لدفع أعظمهما . كذلك فإن العمل على دفع الضرر قدر الإمكان هو مما ينعقد لولى الأمر بشرط ألا يزال الضرر بمثله ، ولا يسوغ بالتالى لمن اختص بمال معين بسبب سبق يده إليه أن يقوم على استخدامه متشحاً بنزعة أنانية قوامها الغلو فى الفردية ، وإنما ينبغى أن يكون لحق الملكية إطار محدد تتوازن فيه المصالح ولا تتناقض ، ذلك أن الملكية خلافة ، وهى باعتبارها كذلك ، تؤول إلى وظيفة اجتماعية تعكس بالقيود التى تفرضها على الملكية ، الحدود المشروعة لممارسة سلطاتها ، وهى حدود لا يجوز تجاوزها لأن المروق منها يخرج الملكية عن وضعها ، ويحسر الحماية المقررة لها .
وحيث إن الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية تبرز بوجه خاص فى مجال الإسكان ، ذلك أن كثرة من القيود تتزاحم فى نطاق مباشرة المالك لسلطته فى مجال استغلال ملكه ، وهى قيود قصد بها فى الأصل مواجهة الأزمة المتفاقمة الناشئة عن قلة المعروض من الأماكن المهيأة للسكنى لمقابلة الزيادة فى الطلب عليها ، ولازم ذلك أن تدور هذه القيود – وأهمها الامتداد القانونى لعقد الإيجار – وجوداً وعدماً مع علة تقريرها . لما كان ذلك ، وكانت الضرورة تقدر بقدرها وكان توافرها يعتبر مناطاً للحماية التى يقرر المشرع بموجبها امتداد عقد الإيجار بحكم القانون ، وكان النص التشريعى المطعون عليه قد تناول بالتنظيم العلاقة الإيجارية فى بعض جوانبها ، موازناً بين المصالح المتنازعة لأطرافها ، كاشفاً بمضمونه عن أن تقرير الأحكام الاستثنائية لعقد الإيجار رهن بقيام مبرراتها ، وكان هذا النص قد صدر لتحقيق غاية بعينها هى تحقيق التوازن فى العلاقة الإيجارية ، ودل بعبارته وفحواه على انه إذا أقام مستأجر العين المؤجرة – فى تاريخ لاحق لإبرامه عقد الإيجار المتعلق بها – عقاراً مملوكاً له تزيد وحداته السكنية على ثلاث ، اقتضاه ذلك أن يشغل إحداها بدلاً من العين التى استأجرها ، فإذا آثر البقاء فيها كان ذلك تحكماً وانتهازاً من جهته لا سبيل لدفعه عنه إلا إذا وفر لمؤجر العين أو لأحد أقربائه حتى الدرجة الثانية مكاناً بديلاً عنها فى العقار الذى أقامه ، على أن يكون هذا المكان ملائماً ، وألا تجاوز الأجرة التى يقتضيها مقابل منفعته مثلى الأجرة المستحقة عن العين التى استأجرها . تلك هى الأحكام التى تضمنها النص التشريعى المطعون عليه ، ولا ينطوى إعمال المؤجر لها على عدوان من جانبه على ملكية المدعية للعقار الذى أقامته بعد استئجارها لعين فى عقاره ، ذلك أن بقاءها فى العين المؤجرة إليها بعد انتهاء المدة الاتفاقية لعقدها ، يفترض فيه استمرار حاجتها إليها بوصفها مكاناً يأويها هى وأسرتها . وعلى خلاف ذلك يأتى العدوان من جهتها هى باقتران احتفاظها بالعين التى استأجرتها بامتناعها عن أن توفر فى عقارها مكاناً ملائماً بديلاً عنها لمؤجر العين أو لأحد أقربائه حتى الدرجة الثانية . ولو أنها كانت قد تخلت عن العين المؤجرة بعد انتفاء حاجتها إليها ، لعاد إليها الحق كاملاً فى استعمال عقارها واستغلاله بالطريقة التى تراها . وبذلك يكون النص التشريعى المطعون عليه قد وازن بين مصلحتين مرجحاً ما ارتآه منهما أحق بالحماية بما لا مخالفة فيه لأحكام الدستور ومن بينها المادة الثانية منه التى يتعين بموجبها رد النصوص التشريعية إلى مبادئ الشريعة الإسلامية لضمان توافقها معها ، ذلك أن النص التشريعى المطعون عليه ، وعلى ما سلف البيان ، لا يعمد إلى التضيحة الكاملة بحقوق المؤجر ولا يسقطها كلية من اعتباره متجاوزاً عن مصالحه المرتبطة بها ، وإنما اعتد بها فى الحدود التى قدرها مؤكداً بالنص التشريعى المطعون عليه أن المضرة المدفوعة مقدمة على المنفعة المجلوبة ، وأنه فى إطار هذا الأصل لا يجوز للمستأجر بعد أن صار مالكاً لعقار تتعدد وحداته السكنية أن يظل محتفظاً بالعين التى استأجرها متسلطاً عليها رغم زوال الحاجة إليها دون أن يوفر فى عقاره بديلاً عنها للأشخاص الذى عينهم المشرع وحددهم بأوصافهم ، وذلك نوع من التوازن ارتآه المشرع محققاً للمصلحة العامة .
وحيث إن المدعية تنعى كذلك على النص التشريعى المطعون فيه إخلاله بحرية التعاقد إذ فرض عليها مستأجرين لعقارها وحملها على التعاقد معهم ، كما حدد الأجرة التى يدفعونها دون مراعاة لتكلفة المساكن الجديدة إذ جعلها مثلى الأجرة المستحقة عن المساكن المتهدمة بإيجارتها الضئيلة .
وحيث إن المآخذ التى نسبتها المدعية على هذا النحو إلى النص التشريعى المطعون فيه ، مردها – وبفرض صحتها – إلى اختيارها البقاء فى العين المؤجرة إضراراً بمالكها ولضآلة أجرتها رغم حاجتها إليها . وكان الأصل هو أن يعتبر عقد إيجارها منتهياً بحكم القانون بمجرد إقامتها عقاراً مملوكاً لها . غير أن المشرع انتهاجاً من جانبه لسنة التدرج ، خيرها بين التخلى نهائياً عن العين التى استأجرتها لصاحبها لتعود إلى سلطاته الكاملة المتفرعة عن حق الملكية ، وبين مزاحمته فى ملكه بإيثارها البقاء فى هذه العين ، لتتحمل بعدئذ القيود التى فرضها المشرع عليها بأن تمكن المؤجر أو بعض ذويه من اتخاذ مكان ملائم فى عقارها سكناً ، وليس ذلك إلا تنظيماً للحق فى الملكية بما يكفل أداءها لوظيفتها الاجتماعية وبما لا مخالفة فيه للدستور . وما تنعاه المدعية على مقدار الأجرة التى تستحقها مردود كذلك بأن الحكم التشريعى المتعلق بها – والمطعون عليه – ما كان ليسرى عليها لو أنها قنعت بالسكنى فى عقارها منهية بذلك علاقاتها الإيجارية السابقة . هذا بالإضافة إلى ان تدخل المشرع – فى الأوضاع الاستثنائية – لتقرير ضوابط للأجرة بما لا ينزل بها عن الحدود التى تعتبر معها مقابلاً معقولاً لمنفعة العين المؤجرة هو مما يدخل فى نطاق سلطته التقديرية فى مجال تنظيم الحقوق بما لا يناقض الصالح العام .
وحيث إن المدعية تنعى على النص التشريعى المطعون فيه إخلاله بمبدأ المساواة أمام القانون وذلك بأن وضع شروطاً غير عامة ولا مجردة حدد بها المراكز القانونية فى واقعة النزاع الماثل .
وحيث إن هذا النعى مردود بأن عمود القاعدة لا يعنى انصرافها إلى جميع الموجودين على إقليم الدولة أو انبساطها على كل ما يصدر عنهم من أعمال ، وإنما تتوافر للقاعدة القانونية مقوماتها بانتفاء التخصيص ، ويتحقق ذلك إذا سنها المشرع مجردة عن الاعتداد بشخص معين أو بواقعة بذاتها معينه تحديداً . وكان النص المطعون فيه – بالشروط التى حدد بها نطاق ومجال تطبيقه – يتمحض عن قاعدة عامة مجردة لانسحابه إلى أشخاص بأوصافهم وتعلقه بوقائع غير محددة بذواتها ، وكان مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون لا يعنى أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت فى مراكزهم القانونية معاملة قانونية متكافئة ، كذلك لا يقوم هذا المبدأ على معارضة صور التمييز جميعها ، ذلك أن من بينها ما يستند إلى أسس موضوعية ولا ينطوى بالتالى على مخالفة لنص المادة 40 من الدستور بما مؤداه أن التمييز المنهى عنه بموجبها هو ذلك الذى يكون تحكمياً ، ذلك أن كل تنظيم تشريعى لا يعتبر مقصوداً لذاته ، بل لتحقيق أغراض بعينها يعتبر هذا التنظيم ملبياً لها . وتعكس مشروعية هذه الأغراض إطاراً للمصلحة العامة التى يسعى المشرع لبلوغها متخذاً من القواعد القانونية التى يقوم عليها هذا التنظيم سبيلاً إليها ، فإذا كان النص التشريعى المطعون عليه – بما انطوى عليه من التمييز – مصادماً لهذه الأغراض مجافياً لها بما يحول دون ربطه منطقياً بها أو اعتباره مدخلاً إليها ، فإن ذلك النص يكون مستنداً إلى أسس غير موضوعية ، ومتبنياً تمييزاً تحكمياً بالمخالفة لنص المادة 40 من الدستور . متى كان ذلك ، وكان المشرع قد أفرد العلاقة الإيجارية محل النزاع الماثل بتنظيم خاص محدداً قواعده وفق أسس موضوعية لا تقيم فى مجال تطبيقها تمييزاً من أى نوع بين المخاطبين بها المتكافئة مراكزهم القانونية بالنسبة إليها ، وكان قصر هذا التنظيم عليهم قد تقرر لأغراض بعينها تقتضيها المصلحة العامة باعتبار أن التوازن فى العلاقة الإيجارية هو الغاية النهائية التى استهدفها التنظيم التشريعى المطعون عليه ، وكانت القواعد التى يقوم عليها هذا التنظيم – وعلى ضوء دلالتها القاطعة – تعتبر مرتبطة بأغراضه النهائية ومؤدية إليها ، فإن قالة الإخلال بمبدأ المساواة المنصوص عليه فى المادة الأربعين من الدستور تكون فاقدة لأساسها .
وحيث إن المدعية تنعى كذلك على النص المطعون عليه مخالفته للدستور فى مادته الخمسين التى حظر بها منع المواطن من الإقامة فى جهة معينة أو إلزامه بالإقامة فى مكان معين ، إلا فى الأحوال المبينة فى القانون قولاً منها بأن النص المطعون فيه يقيد حريتها فى الإقامة فى الجهة التى تختارها ، ويحملها على عدم الإقامة فى مسكنها الأصلى والسكنى فى العقار الذى أقامته .
وحيث إن هذا النعى مردود بأن الإقامة التى يعنيها الدستور فى مادته الخمسين هى التى ينال تقييدها أو منعها من الحق فى التنقل سواء بالانتقاص منه أو أهداره ، وهو حق كفل الله عز وجل أصله بقوله " هو الذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى مناكبها " وهو كذلك من الحقوق التى تتكامل بها الشخصية الإنسانية التى تعكس حمايتها التطور الذى قطعته البشرية نحو مثلها العليا على ما قررته ديباجة الدستور ، ويعتبر من جهة أخرى متصلاً بالحرية الشخصية معززاً لصونها من العدوان ، ومن ثم نص الدستور على مادته الحادية والأربعين على انه فيما عدا حالة التلبس ، لا يجوز القبض على أحد .... أو منعه من التنقل ، إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع . وتوكيداً لمضمون الحق فى التنقل وتحديداً لأبعاده اعتبره الدستور من الحقوق العامة التى يتعين ضمانها لكل مواطن . وفى إطار هذا الحق نص الدستور فى مادته الحادية والخمسين على انه لا يجوز إبعاد أى مواطن عن البلاد أو منعه من العودة إليها ولو كان ذلك تدبيراً احترازياً لمواجهة خطورة إجرامية ولقد عنى الدستور كذلك فى مادته الثانية والخمسين بأن ينظم بعض صوره حين كفل للمواطنين حق الهجرة الدائمة أو الموقوتة إلى الخارج وفقاً للقواعد التى يضعها المشرع فى شأن شروط الهجرة وإجراءاتها . لما كان ذلك ، وكان النص التشريعى المطعون فيه لا يتوخى تنظيم الإقامة بالمعنى المتقدم ولا شأن له بها ، ولم يقصد إلى فرض قيود عليها ، بل تغيا بأحكامه إقامة توازن كان مفقوداً فى العلاقة الإيجارية قبل صدوره . وكان جوهر السلطة التقديرية التى يملكها المشرع إنما يتمثل فى المفاضلة التى يجريها بين البدائل المختلفة المتصلة بالموضوع الذى تناوله بالتنظيم ، وكان ما تثيره المدعية فى هذا الوجه من مناعيها لا يعدو أن يكون تعقيباً من جانبها على ما ارتآه المشرع ملبياً للمصلحة العامة ومحققاً لمصلحة الغير الأولى بالاعتبار ، فإن نعيها يكون حرياً بالرفض .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى ، ومصادرة الكفالة ، وألزمت المدعية المصروفات ، ومبلغ مائة جنيه أتعاباً للمحاماة
قضية رقم 5 لسنة 5 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم 17 مايو سنة 1986م.
برئاسة السيد المستشار / محمد على بليغ رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين / ممـدوح مصطفـى حسـن ومنيـر أميـن عبـد المجيد ورابح لطفى جمعة وفوزى أسعد مرقس ومحمد كمال محفوظ وواصل علاء الدين.
أعضاء
وحضور السيد المستشار/ أحمد محمد الحفنى المفوض
وحضور السيد / أحمد على فضل الله أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم5 لسنة 5 قضائية " دستورية".
" الإجراءات"
بتاريخ 11 يناير سنة 1983، ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 263 لسنة 1982 مدنى مستأنف المنيا، بعد أن قررت محكمة المنيا الابتدائية بجلسة 31 أكتوبر سنة 1982 وقف الدعوى وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية كل من قرار رئيس الجمهورية رقم 272 لسنة 1982 فى شأن نقل بعض الاختصاصات إلى الحكم المحلى، وقرار محافظ المنيا رقم 153 لسنة 1982 بمد نطاق سريان بعض أحكام القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، إلى جميع قرى محافظة المنيا.
وقدمت إدارة قضايا الحكومة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة 5 أبريل سنة 1986 ثم قررت المحكمة مد أجل النطق بالحكم إلى جلسة اليوم.
" المحكمة "
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الدعوى استوفت أوضاعها القانونية.
وحيث إن الوقائع - على ما يبين من قرار الإحالة وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المستأنف عليه كان قد أقام الدعوى رقم 459 لسنة 1981 مدنى دير مواس الجزئية طالباً إخلاء المستأنف من الشقة المؤجرة إليه الكائنة بقرية الحسابية لانتهاء عقد الإيجار المبرم بينهما، وإذ قضى له بطلباته بتاريخ 29 مارس سنة 1982، فقد طعن المستأنف على هذا الحكم بالاستئناف رقم 263 لسنة 1982 مدنى مستأنف المنيا، تأسيساً على امتداد نطاق سريان أحكام القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر إلى القرية الكائنة بها الشقة محل النزاع بمقتضى قرار محافظ المنيا رقم 153 لسنة 1982 الصادر استناداً إلى قرار رئيس الجمهورية رقم 272 لسنة 1982 فى شأن نقل بعض الاختصاصات إلى الحكم المحلى، وإذ تراءى لمحكمة المنيا الابتدائية عدم دستورية هذين القرارين، فقد قررت بجلسة 31 أكتوبر سنة 1982 وقف الدعوى وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى دستوريتهما، تأسيساً على ما أوردته فى أسباب قرارها من أن الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 49 لسنة 1977 تجيز لوزير الإسكان والتعمير مد نطاق سريان أحكام الباب الأول من هذا القانون كلها أو بعضها على القرى، وإذ كان قرار رئيس الجمهورية رقم 272 لسنة 1982 قد نقل هذا الاختصاص إلى المحافظين، بما نص عليه فى الفقرة الثانية من مادته الأولى من استبدال عبارة "المحافظ المختص" بعبارة " وزير الإسكان" أينما وردت فى القوانين واللوائح المعمول بها فى المجالات الموضحة بهذا القرار ومن بينها تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، فإن قرار رئيس الجمهورية المشار إليه وقرار محافظ المنيا رقم 153 لسنة 1982 الصادر استناداً إليه يكونان قد عدلا من حكم القانون رقم 49 لسنة 1977 حال أنهما لم يصدرا عن السلطة التشريعية مما يتضمن مخالفة لنص المادة 86 من الدستور التى تقضى بأن يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع.
وحيث إن الأصل ان السلطة التنفيذية لا تتولى التشريع، وإنما يقوم اختصاصها أساساً على اعمال القوانين وأحكام تنفيذها، غير أنه استثناء من هذا الأصل وتحقيقاً لتعاون السلطات وتساندها، فقد عهد الدستور إليها فى حالات محددة إعمالاً تدخل فى نطاق الأعمال التشريعية، ومن ذلك إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين، فنصت المادة 144 من الدستور على " أن يصدر رئيس الجمهورية اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين، بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها، وله أن يفوض غيره فى إصدارها، ويجوز أن يعين القانون من يصدر القرارات اللازمة لتنفيذه" ومؤدى هذا النص، أن الدستور حدد على سبيل الحصر الجهات التى تختص بإصدار اللوائح التنفيذية فقصرها على رئيس الجمهورية أو من يفوضه فى ذلك أو من يعينه القانون لإصدارها، بحيث يمتنع على من عداهم ممارسة هذا الاختصاص الدستورى، وإلا وقع عمله اللائحى مخالفاً لنص المادة 144 المشار إليها، كما أنه متى عهد القانون إلى جهة معينة بإصدار القرارات اللازمة لتنفيذه استقل من عينة القانون دون غيره بإصدارها.
وحيث إن القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر المعدل بالقانون رقم 136 لسنة 1981 حدد فى بعض نصوصه الأحكام التى يتوقف تنفيذها على صدور قرار وزير الإسكان والتعمير، ومن بينها ما نصت عليه الفقرة الثانية من مادته الأولى من أنه "يجوز بقرار من وزير الإسكان والتعمير مد نطاق سريان أحكام (الباب الأول منه) كلها أو بعضها على القرى بناء على اقتراح المجلس المحلى للمحافظة، وكذلك على المناطق السكنية التى لا ينطبق عليها قانون نظام الحكم المحلى..." وطبقاً لهذا النص، وإعمالاً لحكم المادة 144 من الدستور – على ما تقدم بيانه – يكون وزير الإسكان والتعمير هو المختص دون غيره بإصدار القرارات المنفذة للفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، ويكون قرار محافظ المنيا رقم 135 لسنة 1982 بوصفه لائحة تنفيذية لهذا القانون إذ نص على مد نطاق أحكام بعض مواد القانون رقم 136 لسنة 1981 المعدل للقانون رقم 49 لسنة 1977 على جميع القرى الواقعة فى دائرة محافظة المنيا، قد صدر مشوباً بعيب دستورى لصدوره من سلطة غير مختصة بإصداره بالمخالفة لحكم المادة 144 من الدستور، الأمر الذى يتعين معه الحكم بعدم دستوريته.
وحيث إن قرار رئيس الجمهورية رقم 272 لسنة 1982 فى شأن نقل بعض الاختصاصات إلى الحكم المحلى بعد أن نص فى الفقرة الأولى من مادته الأولى على أن "تنقل إلى الوحدات المحلية كل فى دائرة اختصاصها، الاختصاصات التى تباشرها وزارة الإسكان وفقاً للقوانين واللوائح والقرارات المعمول بها المجالات الآتية – تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر - ..." نص فى الفقرة الثانية منها – المطعون عليها – على أن "ويستبدل بعبارتى وزارة الإسكان، ووزير الإسكان عبارتا المحافظة المختصة والمحافظ المختص أينما وردتا فى القوانين واللوائح والقرارات المعمول بها فى المجالات السابقة"، ومؤدى هذا الاستبدال – وفى نطاق الدعوى المطروحة – نقل اختصاص وزير الإسكان اللائحى المنصوص عليه فى الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر المعدل بالقانون رقم 136 لسنة 1981 إلى محافظ المنيا، لما كان ذلك وكان اختصاص وزير الإسكان فى إصدار اللوائح والقرارات اللازمة لتنفيذ القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه ومن بينها القرارات المنصوص عليها فى الفقرة الثانية من المادة الأولى منه يستند إلى المادة 144 من الدستور على نحو ما سلف بيانه، ومن ثم، فإن قرار رئيس الجمهورية 272 لسنة 1982 إذ جاء معدلاً لهذا الاختصاص الدستورى الذى سبق وأن عين القانون من له الحق فى ممارسته يكون قد خالف المادة 144 من الدستور، الأمر الذى يتعين معه الحكم بعدم دستوريته، فيما تضمنته الفقرة الثانية من المادة الأولى منه من استبدال عبارة "المحافظ المختص" بعبارة " وزير الإسكان" الواردة بالفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن، وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر المعدل بالقانون رقم 136 لسنة 1981.
وحيث إنه لاينال مما تقدم، مانصت عليه الفقرة الأولى من المادة 27 من قانون نظام الحكم المحلى الصادر بالقرار بقانون رقم 43 لسنة 1979 المعدل بالقانون رقم 50 لسنة 1981 من أن "يتولى المحافظ – بالنسبة إلى جميع المرافق العامة التى تدخل فى اختصاص وحدات الحكم المحلى وفقاً لأحكام هذا القانون – جميع السلطات والاختصاصات التنفيذية المقررة للوزراء بمقتضى القوانين واللوائح، ويكون المحافظ فى دائرة اختصاصه رئيساً لجميع الأجهزة والمرافق المحلية" ذلك أن القانون المشار إليه استهدف تنظيم الأمور المتعلقة بنظام الحكم المحلى بإنشاء وحدات إدارية تتولى ممارسة السلطات والاختصاصات التنفيذية ذات الطبيعة الإدارية اللازمة لإدارة الأعمال المنوطة بالمرافق العامة الواقعة فى دائراتها نقلاً إليها من الحكومة المركزية بوزارتها المختلفة، وقصد المشرع بنص المادة 27/1 المشار إليها أن يباشر المحافظون – بوصفهم رؤساء الأجهزة والمرافق العامة التابعة لهم – السلطات والاختصاصات المقررة للوزراء فى هذا الصدد، دون أن يتعدى ذلك إلى الاختصاص بإصدار اللوائح التنفيذية، والتى تكون القوانين قد عهدت بها إلى الوزراء، والتى يتسع لها مدلول عبارة السلطات والاختصاصات التنفيذية الواردة بنص المادة (27) المشار إليها.
"لهذه الأسباب"
حكمت المحكمة:
أولاً : بعدم دستورية قرار محافظ المنيا رقم 153 لسنة 1982.
ثانياً : بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة الأولى من قرار رئيس الجمهورية رقم 272 لسنة 1982 فى شأن نقل بعض الاختصاصات إلى الحكم المحلى فيما تضمنته من استبدال عبارة "المحافظ المختص" بعبارة "وزير الإسكان" الواردة بالفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 49 لسنة 1977 فى فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر المعدل بالقانون رقم 136 لسنة 1981.
عدم جواز الاستيلاء على عقارات المواطنين طبقا لحكم المحكمة الدستورية العليا
نتشرف بعرض النص الكامل لحكم المحكمة الدستورية العليا والصادر بعدم دستورية نص المادة الأولى من القانون رقم 76 لسنة 1947
والصادر فى القضية رقم 241 لسنة 24 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد الموافق الثالث من فبراير سنة 2008، الموافق السادس والعشرين من المحرم سنة 1429ه .
برئاسة السيد المستشار / ماهر عبد الواحد ..................... رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : ماهر البحيرى ومحمد عبد القادر عبد الله وأنور رشاد العاصى وماهر سامى يوسف ومحمد خيرى طه والدكتور عادل عمر شريف.
وحضور السيد المستشار / رجب عبد الحكيم سليم ................ رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / ناصر إمام محمد حسن ........................... أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 241 لسنة 24 قضائية "دستورية"..
المحالة من المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الأولى) بحكمها الصادر بجلسة 13/4/2002 فى الطعن رقم 6023 لسنة 42 قضائية عليا.
المقامة من
السيد/ أنيس أمين خليل المشالى
ضد
1- السيد وزير التربية والتعليم
2- السيد وكيل وزارة التربية والتعليم بشبين الكوم
3- السيد مدير مدرسة عبد العزيز فهمى الاعدادية بشبين الكوم
الإجراءات
بتاريخ السابع والعشرين من يوليو سنة 2002 ورد إلى المحكمة الدستورية العليا ملف الطعن رقم 6023 لسنة 42 قضائية عليا تنفيذاً للحكم الصادر من المحكمة الادارية العليا الصادر بتاريخ 13/4/2002 بوقف الطعن وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية المادة الأولى من القانون رقم 76 لسنة1947 فيما تضمنته من جواز الاستيلاء على عقارات المواطنين المملوكه لهم ملكية خاصة لمدد غير محدده.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
وحيث إن الوقائع -حسبما يتبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق- تتحصل فى أن بتاريخ 10/9/1952 كان قد صدر قرار وزير المعارف العمومية رقم 10859 بالاستيلاء على أرض مملوكه للسيد/ أنيس أمين خليل المشالى وآخر للانتفاع بها فى أغراض التعليم. وامتد هذا الاستيلاء دون أن تتخذ بشأنه إجراءات نزع الملكية، مما حدا بذوى الشأن إلى رفع الدعوى رقم 5784 لسنة 1992 مدنى شبين الكوم طلباً للحكم بطرد المدعى عليهم وإلزامهم متضامنين بأداء مبلغ أربعين الف جنيه تعويض. والمحكمة بعد أن ندبت خبيراً وأودع تقريره حكمت بعدم أختصاصها ولائياً بنظر الدعوى وإحالتها إلى محكمة القضاء الإدارى بالقاهرة التى أحالتها بدورها إلى محكمة القضاء الإدارى بطنطا وقيدت برقم 9365 لسنة واحد قضائية وحكمت المحكمة بعدم قبول طلب إلغاء قرار وزير المعارف العمومية شكلاً ورفضت ما عدا ذلك من الطلبات. طعن المدعى على هذا الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا بالطعن رقم 6023 لسنة 42 قضائية عليا، وبجلسة 13/4/2002 قضت تلك المحكمة بوقف الطعن وإحالته إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية المادة الأولى من القانون رقم 76 لسنة 1947 بتخويل وزير المعارف العمومية سلطة الاستيلاء على العقارات اللازمه للوزارة ومعاهد التعليم.
وحيث إن حكم الإحالة قد أورد فى مدوناته سنداً لقضائه، أن المحكمة الدستورية العليا سبق أن استقر قضاؤها فى الدعويين رقمى 5 لسنة 18 قضائية "دستورية" و108 لسنة 18 قضائية "دستورية" بأنه لا يجوز الاستيلاء على عقار لمدة غير محددة. "واستندت إلى ذلك فى قضائها بعدم دستورية نص المادة الأولى من القانون رقم 521 لسنة 1955 ونص البند (5) من المادة الأولى من القانون رقم 95 لسنة 45 الخاص بشئون التموين. وقد جاء النص المطعون عليه مماثلاً لتلك النصوص إذ أجاز الاستيلاء الدائم للعقارات، وهو الأمر الذى يعد مخالفة لحكم المادة 34 من الدستور.
وحيث إن الدولة القانونية – على ضوء أحكام المواد 1 و 3 و 4 و 65 من الدستور- هى التى تتقيد فى كل تصرفاتها وأعمالها بقواعد قانونية تعلو عليها، فلا يستقيم نشاطها بمجاوزتها، وكان خضوعها للقانون على هذا النحو، يقتضيها ألا يكون الاستيلاء على أموال بذواتها منتهياً إلى رصدها نهائياً على أغراض محددة ربطها المشرع بها ولا تزايلها، فلا تعود لأصحابها أبداً ، ولا يكون اختيارهم لغرض استغلالها ممكناً مما يقوض دعائمها. فالأصل فى سلطة الاستيلاء على العقار أنها استثنائية ينبغى أن تتم فى أضيق الحدود، ولمواجهة ظروف ملحة لا تحتمل التأخير ، وأن يكون مداها موقوتاً بمدة محددة، فإذا استطال زمن الاستيلاء، وصار ممتداً دون قيد، انقلب عدواناً على الملكية الخاصة التى كفل الدستور صونها بعناصرها جميعاً، ويندرج تحتها استعمال واستغلال المالك للشئ فى كل الأغراض التى أعد لها، جنياً لثماره، بل إن أثر هذا النوع من الاستيلاء لا يقتصر على تعطيل هذين العنصرين اللذين لا يتصور بقاء حق الملكية كاملاً بدونهما، بل يتعداه إلى إنهاء فرص التعامل فى الأموال المستولى عليها بعد انحدار قيمتها، وهو ما يعتبر عدواناً عليها، وإخلالاً بحرية التعاقد التى يندرج مفهومها تحت الحرية الشخصية التى صانها الدستور، مرتقياً بها إلى مدارج الحقوق الطبيعية، ونكولاً- فوق هذا- عن ضوابط الشرعية الدستورية التى يجب أن تلتزمها الدولة القانونية فى اعمالها وتصرفاتها.
وحيث إن التنظيم العام لسلطة الاستيلاء المؤقت على العقار. تقرر من خلال قانونين هما القانون رقم 577 سنة 1954، والقانون رقم 10 لسنة 1990 بشأن نزع الملكية وقد حدد أولهما مده الاستيلاء بما لا يجاوز سنين ثلاثاً، يبدأ سريانها من تاريخ الاستيلاء الفعلى على العقار، على أن يعود بعد انتهائها إلى أصحابه بالحالة التى كان عليها عند الاستيلاء، ولا يجوز مد هذه المدة إلا عند الضرورة، وباتفاق ذوى الشأن على المدة الزائدة، فإذا صار هذا الاتفاق متعذراً، تعين قبل انقضاء المدة الأصلية بوقت ملائم، أن تتخذ الجهة الادارية الاجراءات التى يقتضيها نزع ملكية العقار، وقد اعتنق القانون الثانى هذه القواعد ذاتها باستثناء أن مدة الاستيلاء تعتبر منتهية بانتهاء الأغراض التى توخاها أو بمضى ثلاث سنين من تاريخ الاستيلاء الفعلى أيهما أقرب. ومؤدى ذلك أن هذا التنظيم العام لسلطة الاستيلاء على العقار- حتى مع قيام حالة الضرورة الملجئة التى تسوغ مباشرتها- يعارض استمرار اثارها إلى غير حد. ويجعل توقيتها شرطاً جوهرياً لازماً لممارستها، فلا يكون تراميها فى الزمان ملتئماً مع طبيعتها بل منافياً للأصل فيها، كافلاً عملاً نزع ملكية الأموال محلها بغير الوسائل التى رسمها القانون لهذا الغرض.
وحيث إن النص المطعون فيه قد نقض هذا الأصل المشار إليه سلفاً فى شأن العقارات التى تحتاجها وزارة المعارف العمومية- فى حينه- حيث خول وزير المعارف العمومية سلطة الاستيلاء عليها دون تقيد بزمن معين، ذلك أن البين من ذلك النص ، أن الاستيلاء وفقاً لأحكامه، ليس موقوتاً، بل متراخياً إلى غير حد، وموكولاً انتهاؤه إلى السلطة التقديرية للوزير ، فتخرج الأموال التى يرد عليها الاستيلاء بتمامها من السلطة الفعلية لأصحابها مع حرمانهم من كل فائدة اقتصادية يمكن أن تعود عليهم منها وبما يعطل وظائفها عملاً، وهو ما يعدل- فى الآثار التى يرتبها- نزع الملكية من أصحابها دون تعويض ، وفى غير الأحوال التى نص عليها القانون. وبعيداً عن القواعد الإجرائية التى رسمها، بل يعتبر غصباً لها يحيل أصلها عدماً. بل إن اغتيالها على هذا النحو يمثل أسوأ صور العدوان عليها، لاتخاذه الشرعية ثوباً وإطاراً، وانحرافه عنها قصداً ومعنى، فلا تكون الملكية التى كفل الدستور صونها إلا سراباً أو وهماً.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم يكون نص المادة الأولى من القانون رقم 76 لسنة 1947 مخالفاً لأحكام المواد 32 و 34 و 64 و 65 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة الأولى من القانون رقم 76 لسنة 1947، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماه.
حكم المحكمة الدستورية العليا فى نقاب الطالبات
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 18 مايو 1996 الموافق 30 ذو الحجة 1416 ه•
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين•
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الأتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 8 لسنة 17 قضائية "دستورية". المحالة من محكمة القضاء الإدارى بالحكم الصادرعنها فى الدعوى رقم 21 لسنة 49 قضائية
المقامة من
السيد / محمود سامى محمد على واصل
بصفته وليا طبيعيا على ابنتيه مريم وهاجر
ضد
1- السيد/ وزير التعليم
2- السيد/ مدير مديرية التعليم بالإسكندرية
3- السيد ة/ مديرة مدرسة إيزيس الثانوية بنات بالسيوف
الإجراءات
ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 21 لسنة 49 قضائية، بعد أن قضت محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية، بإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى دستورية قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 المفسر بالقرار رقم 208 لسنة 1994•
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة بدفاعها، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى •
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها •
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم •
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة •
حيث إن الوقائع -حسبما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل فى أن السيد/ محمود سامى على واصل كان قد أقام أمام محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية -وبصفته وليا طبيعيا على إبنتيه مريم وهاجر - الدعوى رقم 21 لسنة 49 قضائية ضد وزير التعليم، طالبا فيها الحكم بوقف تنفيذ وإلغاء القرار السلبى الصادر بالامتناع عن قبول ابنتيه هاتين بإحدى المدارس الثانوية • وقال شرحا لدعواه، إنه كان قد توجه بهما إلى مدرسة إيزيس الثانوية للبنات بالسيوف، إلا أنه فوجئ بطردهما منها تأسيسا على صدور قرار من وزير التعليم يمنع الطالبة المنتقبة من دخولها بالمخالفة لحكم المادتين 2، 41 من الدستور التى تنص أولاهما: على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى لكل تشريعاتها، وتكفل ثانيتهما: صون الحرية الشخصية وتحول دون المساس بها• وقد قضت محكمة القضاء الإدارى -وأثناء نظرها الشق العاجل من الدعوى- أولا: بقبول الدعوى شكلا، وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه فيما تضمنه من منع ابنتى المدعى من دخول مدرستهما منتقبتين، وألزمت الإدارة المصروفات وأمرت بتنفيذ الحكم بموجب مسودته بغير إعلان• ثانيا: إحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى دستورية قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 والمفسر بالقرار رقم 208 لسنة 1994 • وأقامت محكمة القضاء الإدارى قضاءها على أن القرار المطعون فيه، قد صدر استنادا إلى قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 الصادر فى 17/8/1994 متضمنا تحديد هيئة الزى المدرسي من حيث لونه وشكله ومكوناته، ومفسرا بمقتضى قراره رقم 208 لسنة 1994، وإن الفصل فيما إذا كان هذان القراران -وقد انطويا على قواعد عامه مجردة- يخلان بحرية العقيدة التى كفل الدستور أصلها بنص المادة 46، مما يدخل فى ولاية المحكمة الدستورية العليا دون غيرها، لتكون كلمتها فى شأن اتفاقهما أو تعارضهما مع الدستور، قولا فصلاً، مما يقتضى إحالة الأوراق إليها- وعملا بالبند أ من المادة 29 من قانونها - وذلك للفصل فى دستورية هذين القرارين • وحيث إن البين من قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 المشار إليه، أنه نص فى مادته الأولى على أن يلتزم تلاميذ وتلميذات المدارس الرسمية والخاصة، بارتداء زى موحد وفقا للمواصفات الأتية : أولا : الحلقة الابتدائية "بنين وبنات"•مريلة تيل لجميع التلاميذ باللون الذى تختاره المديرية التعليمية - يمكن ارتداء بنطلون فى فصل الشتاء يكون موحدا ومناسبا طبقا لما تحدده المديرية التعليمية • ويجوز استبدال المريلة بقميص وجونلة بطول مناسب بالنسبة للبنات،وقميص وبنطلون بالنسبة للبنين مع ارتداء بلوفر أو جاكت فى فصل الشتاء وفق ما تقرره المديرية التعليمية • - حذاء مدرسى وجورب مناسب بلون الزى المختار• ثانيا : الحلقة الإعدادية : 1 - التلاميذ : بنطلون طويل - قميص بلون مناسب - فى فصل الشتاء يمكن ارتداء بلوفر أو جاكت وفق ماتقرره المديرية التعليمية • 2 - التلميذات : بلوزة بيضاء - مريلة من قماش تيل ( دريل ) بحمالات باللون الذى تختاره المديرية التعليمية - فى فصل الشتاء يمكن أن يكون قماش المريلة صوفا، ويمكن كذلك أن ترتدى التلميذة بلوفر أو جاكت بلون المريلة • ويجوز استبدال المريلة بقميص طويل بطول مناسب - حذاء مدرسى وجورب بلون مناسب للزى المختار • يمكن بناء على طلب مكتوب من ولى الأمر أن ترتدى التلميذة غطاء للشعر لا يحجب الوجه باللون الذى تختاره المديرية التعليمية • ثالثا : المرحلة الثانوية وما فى مستواها : 1 - التلاميذ : بنطلون طويل - قيمص بلون مناسب - فى فصل الشتاء يمكن ارتداء بلوفر أو جاكت وفق ماتقرره المديرية التعليمية • 2 - التلميذات : بلوزة بيضاء - جونلة تيل بطول مناسب بلون تحدده المديرية التعليمية - فى فصل الشتاء يمكن أن تكون المريلة صوفا، كما يمكن أن ترتدى التلميذه بلوفرا أو جاكيتا بلون المريلة - يمكن بناء على طلب مكتوب من ولى الأمر، أن ترتدى التلميذة غطاء للشعر لايحجب الوجه باللون الذى تختاره المديرية التعليمية - حذاء مدرسى وجورب بلون مناسب للزى المختار •
وتكفل المادتان الثانية والثالثة من هذا القرار، إعلان الزى المدرسى المقرر على تلاميذ كل مدرسة وتلميذاتها فى مكان ظاهر قبل بدء العام الدراسى بشهرين على الأقل، ولايجوز لمن يخالف حكم المادة الأولى من هذا القرار من تلاميذها أو تلميذاتها دخول مدرستهم أو الانتظام فيها وبمراعاة أن يكون زيهم مناسبا فى كل الأحوال سواء فى مظهره أو أسلوب ارتدائه •
وحيث إن وزير التعليم أصدر بعد القرار الأول - وإزاء ما التبس بمعناه من غموض - قرارا ثانيا مفسرا للقرار السابق ومحددا فحواه ، ومن ثم نص القرار اللاحق - وهو القرار رقم 208 لسنة 1994- على أن يقصد بالعبارات التالية - فى تطبيق أحكام القرار رقم 113 لسنة 1994 - المعانى المبينة قرين كل منها • أولا : بالنسبة إلى تلميذات المرحلتين الإعدادية والثانوية : 1 - بناء على طلب مكتوب من ولى الأمر : أن يكون ولى الأمر على علم باختيار التلميذه لارتداء غطاء الشعر، وإن اختيارها لذلك وليد رغبتها دون ضغط أو إجبار من شخص أو جهة غير ولى الأمر، وعلى ذلك لاتمنع التلميذة من دخول مدرستها إذا كانت ترتدى غطاء للشعر، وإنما يحل لها الدخول، على أن يتم التحقق من علم ولى الأمر • 2 - غطاء الشعر : الغطاء الذى تختاره التلميذة برغبتها بما لايحجب وجهها • ولايعتد بأية نماذج أو رسوم توضيحية تعبر عن غطاء الشعر بما يناقض ذلك • ثانيا : بالنسبة للتلميذات فى جميع مراحل التعليم الثلاث : أن يكون الزى مناسبا فى مظهره وأسلوب ارتدائه : المحافظة فى الزى بما يرعى الاحتشام، وبما يتفق مع تعاليم وأخلاق مجتمعهن •وكل زى يخرج على هذا الاحتشام، يكون مخالفا للزى المدرسى ، ولايسمح للتلميذه التى ترتديه بدخول مدرستها •
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا مطرد على أن مانص عليه الدستور فى مادته الثانية - بعد تعديلها فى سنة 1980 - من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، إنما يتمحض عن قيد يجب على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تتحراه وتنزل عليه فى تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل - ومن بينها أحكام القرار رقم 113 لسنة 1994، المفسر بالقرار رقم 208 لسنة 1994 المطعون عليهما – فلا يجوز لنص تشريعى، أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعا، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادؤها الكلية، وأصولها الثابتة التى لاتحتمل تأويلاً أو تبديلاً •
ومن غير المتصور بالتالى أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان، إذ هى عصية على التعديل، ولايجوز الخروج عليها، أوالالتواء بها عن معناها • وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا فى شأنها، على مراقبة التقيد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها • ذلك أن المادة الثانية من الدستور، تقدم على هذه القواعد، أحكام الشريعة الإسلامية فى أصولها ومبادئها الكلية، إذ هى إطارها العام، وركائزها الأصيلة التى تفرض متطلباتها دوماً بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها؛ وإلا اعتبر ذلك تشهيا وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة • ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معا، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها، ولاتمتد لسواها، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيما لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً، ولايعطل بالتالى حركتهم فى الحياة، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعا فى إطار الأصول الكلية للشريعة بما لايجاوزها؛ ملتزما ضوابطها الثابتة، متحريا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلا صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال •
وحيث إن إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، تطويرا لقواعد عملية تكون فى مضمونها أرفق بالعباد وأحفل بشئونهم، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التى تشرع الأحكام لتحقيقها، وبما يلائمها، مرده أن شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض، وانغلاقها على نفسها ليس مقبولا ولامطلوبا، ذلك أنها لاتمنح أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها، قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها • فالآراء الاجتهادية فى المسائل المختلف عليها ليس لها فى ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولايجوز بالتالى اعتبارها شرعا ثابتا متقرراً لايجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهيا عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى، وإنكارا لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد• بل إن من الصحابة من تردد فى الفتيا تهيبا • ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سندا، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفا لآراء استقر عليها العمل زمنا • وتلك هى الشريعة الإسلامية فى أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة، نابذة الجمود، لايتقيد الاجتهاد فيها - وفيما لا نص عليه - بغير ضوابطها الكلية، وبما لايعطل مقاصدها التى ينافيها أن يتقيد ولى الأمر فى شأن الأحكام الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، لآراء بذاتها لايريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعا قد جاوزتها •
وحيث إن من المقرر -على ضوء ماتقدم- أن لولى الأمر أن يُشَرع بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله، مستلهما فى ذلك أن المصالح المعتبرة، هى تلك التى تكون مناسبة لمقاصد الشريعة، متلاقية معها، وهى بعد مصالح لاتتناهى جزئياتها، أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتحدد - مضمونا ونطاقا - على ضوء أوضاعها المتغيرة • يؤيد ذلك أن الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، كثيراً ماقرروا أحكاما متوخين بها مطلق مصالح العباد، طلبا لنفعهم أو دفعا لضرر عنهم أو رفعا لحرجهم، باعتبار أن مصالحهم هذه، تتطور على ضوء أوضاع مجتمعاتهم، وليس ثمة دليل شرعى على اعتبارها أو إلغائها • وحيث إن الأصل فى سلطة المشرع فى مجال تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية مالم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوما لها لايجوز اقتحام آفاقها أو تخطيها سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها، ذلك أن إهدار الحقوق التى كفلها الدستور أو تهميشها، عدوان على مجالاتها الحيوية التى لاتتنفس إلا من خلالها • ولايجوز بالتالى أن يكون تنظيم هذه الحقوق، مناقضا لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفا ومبرراً•
وحيث إن البين من المطاعن التى نسبتها محكمة الموضوع إلى القرار المطعون فيه، وكذلك تلك التى طرحها الطاعن عليها باعتباره والد الطالبتين اللتين طردتا من مدرستهما لتنقبهما، أنها لاتتعلق بأزياء البنين من طلبة المراحل الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية وما فى مستواها من ناحية هيئتها ومكوناتها، ولكنها تتناول أصلا ماتقرر لطالباتها من أزياء سواء فى مظهرها أو مواصفاتها أو أسلوبهن فى ارتدائها، وكذلك ملامح وخصائص خُمِْرهن، لتنحصر المناعى الدستورية فى هذا النطاق لاتتعداه • وحيث إن القرار المطعون فيه، قد قرر لكل فتاة تلتحق بإحدى المراحل التعليمية التى نص عليها، هيئة محددة لزيها تكفل فى أوصافها الكلية، مناسبتها لها، ولايكون موضعها من بدنها كاشفا عما ينبغى ستره منها، بل يكون أسلوبها فى ارتدائها كافلا احتشامها، ملتزما تقاليد وأخلاق مجتمعها •
وحيث إن الشريعة الإسلامية - فى تهذيبها للنفس البشرية وتقويمها للشخصية الفردية - لاتقرر إلا جوهر الأحكام التى تكفل بها للعقيدة إطارا يحميها، ولأفعال المكلفين مايكون ملتئما مع مصالحهم المعتبرة، فلا يبغونها عوجا، ولايحيدون أبدا عن الطريق إلى ربهم تعالى، بل يكون سلوكهم أطهر لقلوبهم، وأدعى لتقواهم • وفى هذا الإطار، أعلى الإسلام قدر المرأة، وحضها على صون عفافها، وأمرها بستر بدنها عن المهانة والابتذال، لتسمو المرأة بنفسها عن كل مايشينها أو ينال من حيائها، وعلى الأخص من خلال تبرجها، أو لينها فى القول، أو تكسر مشيتها؛ أو من خلال إظهارها محاسنها إغواءً لغيرها، أو بإبدائها مايكون خافيا من زينتها • وليس لها شرعا أن تطلق إرادتها فى اختيارها لزيها، ولا أن تقيم اختيارها هذا بهواها، ولا أن تدعى تعلق زيها بدخائلها، بل يتعين أن يستقيم كيانها، وأن يكون لباسها عونا لها على القيام بمسئوليتها فى مجال عمارة الأرض، وبمراعاة أن هيئة ثيابها ورسمها، لاتضبطهما نصوص مقطوع بها سواء فى ثبوتها أو دلالتها، لتكون من المسائل الاختلافية التى لا ينغلق الاجتهاد فيها، بل يظل مفتوحا فى إطار ضابط عام حددته النصوص القرآنية ذاتها إذ يقول تعالى "وليضرين بخمرهن على جيوبهن" "ولايبدين زينتهن إلا ماظهر منها" "يدنين عليهن من جلابيبهن" "ولايضربن بأرجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن" ليخرج لباس المرأة بذلك عن أن يكون من الأمور التعبدية التى لاتبديل فيها، بل يكون لولى الأمر السلطة الكاملة التى يشرع بها الأحكام العملية فى نطاقها، تحديدا لهيئة ردائها أو ثيابها على ضوء مايكون سائدا فى مجتمعها بين الناس مما يعتبر صحيحا من عاداتهم وأعرافهم التى لايصادم مفهومها نصا قطعيا، بل يكون مضمونها متغيرا بتغير الزمان والمكان، وإن كان ضابطها أن تحقق الستربمفهومه الشرعى، ليكون لباس المرأة تعبيراً عن عقيدتها •
وحيث إن تنازع الفقهاء فيما بينهم فى مجال تأويل النصوص القرآنية، وما نقل عن الرسول من أحاديثه صحيحها وضعيفها، وإن آل إلى تباين الآراء فى شأن لباس المرأة، وماينبغى ستره من بدنها، إلا أن الشريعة الإسلامية -فى جوهر أحكامها وبمراعاة مقاصدها- تتوخى من ضبطها لثيابها، أن تعلى قدرها، ولاتجعل للحيوانية مدخلا إليها، ليكون سلوكها رفيعا لا ابتذال فيه ولا اختيال، وبما لا يوقعها في الحرج إذا اعتبر بدنها كله عورة مع حاجتها إلى تلقى العلوم على اختلافها، وإلى الخروج لمباشرة ما يلزمها من الأعمال التىتختلط فيها بالآخرين، وليس متصورا بالتالى أن تموج الحياة بكل مظاهرها من حولها، وأن يطلب منهاعلى وجه الإقتضاء، أن تكون شبحا مكسوا بالسواد أو بغيره، بل يتعين أن يكون لباسها شرعا قرين تقواها، وبما لايعطل حركتها فى الحياة، فلا يكون محدداً لجمال صورتها، ولا حائلا دون يقظتها، ومباشرتها لصور النشاط التى تفرضها حاجتها ويقتضيها خير مجتمعها، بل موازنا بين الأمرين، ومُحَدَّدا على ضوء الضرورة، وبمراعاة ما يعتبر عادة وعرفا صحيحين • ولايجوز بالتالى أن يكون لباسها ، مجاوزا حد الاعتدال، ولا احتجابا لكل بدنها ليضيق عليها اعتسافا، ولا إسدالا لخمارها من وراء ظهرها، بل اتصالا بصدرها ونحرها فلا ينكشفان، مصداقا لقوله تعالى "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" واقترانا بقوله جل شأنه بأن "يدنين عليهن من جلابيبهن" فلا يبدو من ظاهر زينتها إلا مالايعد عورة، وهما وجهها وكفاها، بل وقدماها عند بعض الفقهاء "ابتلاء بإبدائهما" على حد قول الحنفية،ودون أن يضربن بأرجلهن "ليعلم مايخفين من زينتهن" • وقد دعا الله تعالى الناس جميعا أن يأخذوا زينتهم ولايسرفوا، وهو مايعنى أن التزامها حد الاعتدال، يقتضى ألا تصفها ثيابها ولاتشى بما تحتها من ملامح أنوثتها، فلا يكون تنقبها مطلوبا منها شرعا طلبا جازما، ولا سترها لزينتها شكلا مجردا من المضمون، بل يتعين أن يكون مظهرها منبئا عن عفافها، ميسرا لإسهامها المشروع فيما يعينها على شئون حياتها، ويكون نائيا بها عن الابتذال، فلا يقتحمها رجال استمالتهم إليها بمظاهر جسدها، مما يقودها إلى الإثم انحرافا، وينال من قدرها ومكانتها •
وحيث إنه متى كان ماتقدم، وكان تحريم أمر أو شأن من الشئون، لايتعلق بما هو محتمل، بل بما يكون معلوما بنص قطعى، وإلا ظل محمولا على أصل الحل؛ وكان لادليل من النصوص القرآنية، ولا من سنتنا الحميدة على أن لباس المرأة يتعين شرعا أن يكون احتجابا كاملا، متخذا نقابا محيطا بها منسدلا عليها لاُيظِْهر منها إلا عينيها ومحجريهما، فإن إلزامها إخفاء وجهها وكفيها، وقدميها عند البعض، لايكون تأويلا مقبولا، ولامعلوما من الدين بالضرورة، ذلك أن معنى العورة المتفق عليها لايتصل بهذه الأجزاء من بدنها، بل إن كشفها لوجهها أعون على اتصالها بأخلاط من الناس يعرفونها، ويفرضون نوعا من الرقابة على سلوكها، وهو كذلك أكفل لحيائها وغضها من بصرها وأصون لنفسيتها، وأدعى لرفع الحرج عنها • وما ارتآه البعض من أن كل شئ من المرأة عورة حتى ظفرها، مردود بأن مالكا وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل فى رواية عنه، والمشهور عند الشافعية، لايرون ذلك • والرسول عليه السلام يصرح بأن بلوغ المرأة المحيض، يقتضيها أن يكون ثوبها ساترا لبدنها عدا وجهها وكفيها •
وحيث إن استقراء الأحكام التى جرى بها القرار المطعون فيه، يدل على أن لكل طالبة أن تتخذ خماراً تختاره برغبتها، ولايكون ساترا لوجهها، على أن يشهد ولى أمرها بأن اتخاذها الخمار غطاء لرأسها، ليس ناجما عن تدخل آخرين فى شئونها بل وليد إراداتها الحرة، وهى شهادة يمكن أن يقدمها بعد انتظامها فى دراستها • كذلك دل هذا القرار، على أن زيها ينبغى أن يكون مناسبا مظهرا وطرازا - لا بمقاييسها الشخصية - ولكن بما يرعى احتشامها، ويكون موافقا لتقاليد وأخلاق مجتمعها• ولايجوز أن يكون أسلوبها - فى مجال ارتدائها لزيها - دالا على فحشها • ولايناقض القرار المطعون فيه - فى كل ماتقدم - نص المادة الثانية من الدستور، ذلك أن لولى الأمر - فى المسائل الخلافية - حق الاجتهاد بما ييسر على الناس شئونهم، ويعكس مايكون صحيحاً من عاداتهم وأعرافهم، وبما لايعطل المقاصد الكلية لشريعتهم التى لاينافيها أن ينظم ولى الأمر - فى دائرة بذاتها - لباس الفتاة، فلا يكون كاشفاً عن عورتها أو ساقيها، ولا واشياً ببدنها، أو منبئاً عما لايجوز إظهاره من ملامحها، أو نافياً لحيائها، وهو ماتوخاه هذا القرار، حين ألزم كل تلميذة تلتحق بإحدى المراحل التعليمية التى نص عليها، بأن يكون زيها مناسباً حائلاً دون تبذلها، ناهياً عن عريها أو إظهار مفاتنها، بل إن أسلوبها فى ارتداء زيها يتعين فوق هذا، أن يكون ملائماً لقيمها الدينية التى تندمج بالضرورة فى أخلاق مجتمعها وتقاليده •كذلك فإن خمارها وفقاً لهذا القرار، ليس إلا غطاء لرأسها لايحجب وجهها وكفيها، وإن كان مترامياً إلى صدرها ونحرها، فلا يكفى أن تلقيه من وراء ظهرها •
وحيث إن النعى على القرار المطعون فيه، مخالفته لحرية العقيدة التى نص عليها الدستور فى المادة 46، مردود بأن هذه الحرية - فى أصلها - تعنى ألايحمل الشخص على القبول بعقيدة لايؤمن بها، أو التنصل من عقيدة دخل فيها أو الإعلان عنها، أو ممالأة إحداها تحاملاً على غيرها سواء بإنكارها أو التهوين منها أو ازدرائها، بل تتسامح الأديان فيما بينها، ويكون احترامها متبادلاً • ولايجوز كذلك فى المفهوم الحق لحرية العقيدة، أن يكون صونها لمن يمارسونها إضراراً بغيرها، ولا أن تيسر الدولة -سرا أو علانية- الانضمام إلى عقيدة ترعاها، إرهاقا لآخرين من الدخول فى سواها، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقابا لمن يلوذون بعقيدة لاتصطفيها• وليس لها بوجه خاص إذكاء صراع بين الأديان تمييزاً لبعضها على البعض • كذلك فإن حرية العقيدة لايجوز فصلها عن حرية ممارسة شعائرها، وهو ماحمل الدستور على أن يضم هاتين الحريتين فى جملة واحدة جرت بها مادته السادسة والأربعون بما نصت عليه من أن حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية، مكفولتان• وهو ما يعنى تكاملهما، وأنهما قسيمان لاينفصلان، وأن ثانيتهما تمثل مظاهر أولاهما باعتبارها انتقالاً بالعقيدة من مجرد الإيمان بها واختلاجها فى الوجدان، إلى التعبير عن محتواها عملاً ليكون تطبيقها حياً، فلا تكمن فى الصدور، ومن ثم ساغ القول بأن أولاهما لاقيد عليها، وأن ثانيتهما يجوز تقييدها من خلال تنظيمها، توكيدا لبعض المصالح العليا التى ترتبط بها، وبوجه خاص مايتصل منها بصون النظام العام والقيم الادبية، وحماية حقوق الآخرين وحرياتهم •
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان القرار المطعون فيه لاينال من حرية العقيدة، ولايقوض أسسها أو يعطل شعائر ممارستها و لايناهض جوهر الدين فى الأصول الكلية التى يقوم عليها، بل يعتبر اجتهادا مقبولا شرعا لايتوخى غير تنظيم رداء للفتاة - فى دائرة المعاهد التعليمية عبر المراحل الدراسية التى حددها - بما لاينتقص من حيائها أو يمس عفافها، أو يشى بعوراتها، فإن هذا القرار يدخل فى دائرة تنظيم المباح، ولايعد افتتائا على حرية العقيدة•
وحيث إن ماينعاه المدعى من إخلال القرار المطعون فيه بالحرية الشخصية بمقولة أن قوامها الاستقلال الذاتى لكل فرد بالمسائل التى تكون أكثر إتصالاً بمصيره وتأثيراً فى أوضاع الحياه التى إختار أنماطها، لتكتمل لشخصيته ملامحها، مردود بأنه حتى وإن جاز القول بأن مظهر الشخص من خلال الأزياء التى يرتديها، يبلور إرادة الإختيار التى تمثل نطاقاً للحرية الفردية يرعى مقوماتها ويكفل جوهر خصائصها، إلا أن إرادة الإختيار هذه، ينبغى قصر مجال عملها على مايكون لصيقاً بالشخصية، مرتبطاً بذاتية الانسان فى دائرة تبرز معها ملامح حياته وقراراته الشخصية فى أدق توجهاتها، وأنبل مقاصدها، كالحق فى اختيار الزوج وتكوين الأسرة، وأن يتخذ الشخص ولداً، ولايجوز بالتالى بسطها إلى تنظيم محدد، ينحصر فى دائرة بذاتها، يكون الصالح العام ماثلاً فيها، ضبطا لشئون هؤلاء الذين يقعون فى محيطها، ويندرج تحتهم طلبة المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية وطالباتها، وهو مايعنى أن الحرية الشخصية لاينافيها أن يفرض المشرع "فى دائرة بذاتها" قيودا على الأزياء التى يرتديها بعض الأشخاص "فى موقعهم من هذه الدائرة" لتكون لها ذاتيتها، فلا تختلط أرديتهم بغيرها، بل ينسلخون فى مظهرهم عمن سواهم، ليكون زيهم موحدا، متجانسا ولائقا، دالا عليهم ومُعَرفا بهم، وميسرا صوراً من التعامل معهم، فلاتكون دائرتهم هذه نهبا لآخرين يقتحمونها غيلة وعداونا، ليلتبس الأمر فى شأن من ينتمون إليها حقا وصدقا •
وحيث إن التعليم وإن كان حقا مكفولاً من الدولة، إلا أن التعليم كله -وعلى ماتنص عليه المادة 18 من الدستور- خاضع لإشرافها، وعليها بالتالى أن ترعى العملية التعليمية بكل مقوماتها، وبما يكفل الربط بين التعليم ومتطلبات مجتمعها، وأن يكون تنظيمها لشئون طلبة بعض المعاهد وطالباتها مبررا من خلال علاقة منطقية بين مضمون هذا التنظيم، والأغراض التى توخاها وارتبط بها، وهو ماتحقق فى واقعة النزاع الراهن على ضوء الشروط التى حددها القرار المطعون فيه لأزياء المراحل التعليمية الثلاث التى نص عليها، ذلك أن هذا القرار لم يطلق أزياء طلبتها وطالباتها من القيود، بل جعل رداءهم محتشماً موحداً وملائماً، فلا يندمجون فى غيرهم، أويختلطون بمن سواهم ، بل يكون زيهم فى معاهد هذه المراحل، معرفا بهم دالاً عليهم، كافلا صحتهم النفسية والعقلية، وبما لايخل بقيمهم الدينية، فلا يتفرقون بدداً •
وحيث إن القرار المطعون فيه لايناقض أحكام الدستور من أوجه أخرى •
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوةِ
صدر هذا الحكم من الهيئة المبينة بصدره، أما المستشار عبد الرحمن نصير الذى سمع المرافعة وحضر المداولة ووقع مسودة الحكم، فقد جلس بدله عند تلاوته السيد المستشار محمد عبد القادر عبد الله •
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)