مجلة المحاماة – العدد الثالث
السنة الثامنة عشرة 1938
بحث
آثار زيادة العشر في البيوع الجبرية
(في آثار زيادة العشر في البيوع الجبرية - وهل تعيد الملكية إلى المدين؟ أهمية ذلك بالنسبة لتطبيق القانون الخاص بإيقاف البيوع الجبرية عن بعض الأطيان الزراعية - صمت قانون المرافعات - اختلاف الآراء في فرنسا ومصر - رأي محكمة النقض المصرية - رأى معالي مكرم باشا عبيد - منشورات من وزارة الحقانية لأقلام الكتاب - نقدهما واقتراح الأخذ في التشريع المنتظر برأي محكمة النقض الفرنسية).
(1)
عرض على مجلس النواب في يوم 25 مارس 1937 تقرير لجنة الحقانية عن مشروع القانون الخاص بوقف البيوع الجبرية عن بعض الأطيان الزراعية وهو الذي قالت الحكومة في مذكرتها الإيضاحية عنه أنه مقدمة لما ستتخذه نحو تسوية مشكلة الديون العقارية الناشئة عن الأزمة الحالية تسوية نهائية - وقد نصت المادة الأولى من مشروع اللجنة - وقد اعتمدها المجلس - على ما يأتي:
(ابتداءً من تاريخ العمل بهذا القانون لغاية 31 ديسمبر 1937 تقف البيوع الجبرية لجميع الأراضي الزراعية أو المعدة للبناء وكذلك للعقارات المبنية المملوكة لمدين – إذا كانت أرضه الزراعية كلها أو بعضها قد ترتب عليها رهن أو حق اختصاص في تاريخ سابق على 31 ديسمبر 1932).
وقد استوضح حضرة النائب المحترم الأستاذ محمد توفيق دياب معالي وزير المالية عما إذا كان هذا القانون يسري على البيوع التي بدئ فيها فعلاً ولم تتم - كأن تكون المحكمة قضت بالبيع ورسا المزاد على الدائن ثم جاء من قرر بزيادة العشر وحددت جلسة لإعادة البيع فهل يقف البيع في هذه الحالة طبقًا لهذا القانون: فأجاب معالي وزير المالية (مكرم عبيد باشا) بما يأتي (أن المسألة التي أثارها حضرة النائب المحترم هي في الواقع مسألة فقهية بحتة قد يختلف فيها الرأي - ورأيي الشخصي هو أن كل بيع يقع بعد تاريخ العمل بهذا القانون يقف متى توافرت فيه الشروط المنصوص عليها في المشروع الحالي، على أنه لا يمكنّي أن أجزم بما سيكون عليه رأي المحكمة في مسألة قانونية كهذه - فمثلاً إذا بيعت أرض لشخص ثم تقرر فيها زيادة العشر وحدد يوم لإعادة البيع فرأيي كمحامٍ أن يقف البيع طبقًا لهذا القانون - وفوق ذلك فإن زيادة العشر ترجع القضية إلى حالتها الأولى كأن لم يكن قد بيع شيء لمن رسا عليه المزاد - هذا رأيي أبديه ارتجالاً ولكني لا أستطيع أن أجزم بما سيكون عليه رأي القضاء في حالة كهذه).
وقد عارض حضرة النائب المحترم الأستاذ كامل بك صدقي هذا الرأي قائلاً (إذا رسا مزاد على شخص ثم زاد آخر العشر - أعيدت إجراءات البيع ولا يمكن وقفها في هذه الحالة - مهما تم من اتفاق بين الدائن والمدين، لأن المسألة تصبح من حق من رسا عليه المزاد ومن زاد العشر، لذلك أرى أنه في مثل هذه الحالة يجب أن تسير الإجراءات ولا يمكن أن يطبق عليها نص المادة الأولى.
وقد انضم إلى الرأي الأخير حضرة النائب المحترم السيد محمد عبد الهادي الجندي بك ورأى وجوب تعديل النص كما رأى حضرة النائب المحترم الأستاذ السيد سليم تعديله ليسري القانون على الحالة التي تقرر فيها الزيادة بالعشر حماية للمدينين، وأخيرًا قال المقرر أن هذه مسألة تتعلق بتطبيق القانون وهي متروكة للسلطة القضائية ووافقه معالي وزير المالية.
(انظر مضبطة الجلسة التاسعة عشرة لمجلس النواب يوم الخميس 25 مارس 1937 الملحقة بالوقائع المصرية عدد (40) يوم 13 مايو 1937).
(2)
وقد رأينا أن نعالج هذا الموضوع الخطير ونتلكم عن طبيعة وآثار زيادة العشر وخاصة عما إذا كان من شأنها أن تعيد ملكية العقار المبيع إلى المدين فيجوز له أن يتفق مع دائنيه كأن يدفع الدين إلى نازع الملكية (والحاجز في القانون المختلط) ويتنازل الأخير عن إجراءات البيع.
وقد اختلفت آراء الشراح والمحاكم في فرنسا ومصر في هذا الأمر أيما اختلاف وتعددت النظريات وما ذلك إلا لصمت قانون المرافعات فهو لم يبين صراحة ما الذي تنتجه زيادة العشر.
1 - أهي تنقل ملكية العقار المبيع فورًا إلى الراسي عليه المزاد الأول؟ أم أن هذه الملكية لا تنتقل إليه إلا إذا مضت مواعيد زيادة العشر دون أن يحصل تقرير بها؟
2 - وإذا انتقلت الملكية فورًا فهل زيادة العشر تفسخ البيع وتعيد الملكية للمدين أم أن الذي يفسخه هو حكم مرسى المزاد الثاني؟ - وبالتالي هل يستطيع المدين - إن حصلت زيادة العشر أن يبيع العقار أو يرهنه؟ - وهل له أن يتصالح مع دائنه نازع الملكية ويدفع له دينه وينهي بذلك إجراءات البيع باعتبار أنه لا زال مالكًا؟ أم لا يجوز له ذلك حتى ولو رضي الراسي عليه المزاد ومقرر الزيادة بالعشر؟
3 - وهل إذا هلك العقار المبيع بحادث قهري كغرق أو حريق عقب زيادة العشر وقبل حكم مرسى المزاد الثاني فعلى من يهلك؟ - أعلى المدين؟ أم على الراسي عليه المزاد الثاني؟ - ثم ما الحكم إذا هلك العقار عقب البيع الأول وقبل زيادة العشر أيهلك على الراسي عليه المزاد الأول باعتباره مالكًا أم على المدين؟
4 - ولمن تكون ثمرات العقار المبيع عند زيادة العشر في الفترة ما بين حكم مرسى المزاد الأول وحكم مرسى المزاد الثاني؟ - أتكون للراسي عليه المزاد الأول باعتباره مالكًا؟ أم يحرم منها وتعطي للمدين باعتبار أنه ما زال مالكًا؟ - وهل في الحالة الأخيرة تعطي الراسي عليه المزاد الأول الذي دفع الثمن ثم فسخ بيعه فوائد عن هذا الثمن؟، ومن يلزم بها؟
5 - وهل يلزم تجديد تسجيلات الرهون لتحفظ مرتبتها بعد تسجيل حكم مرسى المزاد الأول؟ أم لا يلزم ذلك؟
6 - وهل ترد رسوم نقل الملكية إلى الراسي عليه المزاد الأول عند حصول زيادة العشر؟ أم لا ترد بحال بل وتحصل رسوم غيرها عند الحكم بمرسى المزاد الثاني؟
(3)
ولقد رأى البعض أن ملكية العقار المبيع لا تنتقل إلى الراسي عليه المزاد فورًا بل تبقى معلقة على شرط توقيفي هو أن لا تحصل زيادة العشر في الأجل المحدد لها، فإن حصلت فالملكية تستمر للمدين، على أن هذا الرأي يتعارض مع نصوص القانون التي تقضي بأن ملكية المبيع تنتقل إلى المشتري الراسي عليه المزاد فورًا - فالمادة (587) مرافعات أهلي تنص على أن حكم البيع يكون حجة للمشتري بملكية المبيع، والمادة (591) مرافعات أهلي تنص على أن البيع يقع للراسي عليه المزاد، ولهذا لم تأخذ المحاكم المصرية أهلية أو مختلطة بهذا الرأي، أما الرأي المعمول عليه فهو أن الملكية تنتقل إلى الراسي عليه المزاد تحت شرط فاسخ (La condition est resolutoire) فيعتبر الراسي عليه المزاد مالكًا من يوم الشراء إلى أن يتحقق الشرط الفاسخ فيزول الملك عنه وينفسخ البيع ويمتد أثر هذا الفسخ إلى الماضي بحيث يعتبر الراسي عليه المزاد كأنه لم يكن مالكًا أصلاً ولكنهم اختلفوا في تحديد الحادثة التي يتحقق بها هذا الشرط وينفسخ البيع - أهي زيادة العشر أم حكم مرسى المزاد الثاني - وهناك رأيان:
الرأي الأول: هو ما سارت عليه محكمة النقض الفرنسية من أن مجرد التقرير بزيادة العشر يفسخ البيع الأول بدون انتظار نتيجة مرسى المزاد الثاني – مستندة في ذلك إلى المادة (709) من قانون المرافعات الفرنسي التي تقول إن زيادة العشر لا يجوز الرجوع فيها، وإلى المادة (710) منه التي تقضي بأن مقرر الزيادة هو الذي يرسو عليه المزاد إذا لم يتقدم مزايد آخر في يوم إعادة البيع، فهذان النصان يجعلان المزايدة في رأيها عملاً نهائيًا يستدعي حتمًا إعادة بيع العقار – وإذًا فحصول المزايدة يكفي وحده في إنهاء حق الراسي عليه المزاد الأول الذي زيد عليه، وينتج من هذا أن العقار إذا هلك بحادث قهري كحريق أو غرق لا يلزم الراسي عليه المزاد الأول بدفع ثمنه إذ قد اعتبر كأنه لم يكن مالكًا أبدًا (انظر كتاب المرافعات:
Glasson, Tissier & Morel, Traité de Procedure Civile
(الطبعة الثالثة سنة 1932 الجزء الرابع بند (1382) ص (734) وأحكام محكمة النقض الفرنسية الصادرة في 7 ديسمبر سنة 1868 و 6 ديسمبر سنة 1873 و 15 يناير سنة 1873 و 26 إبريل سنة 1881 (الأسباب) و 22 يونيه سنة 1892 وهي الأحكام المشار إليها في هامش الصفحة).
وهذا هو الرأي الذي أخذ به معالي مكرم عبيد باشا.
وتطبيقًا لهذا الرأي إذا هلك العقار قبل التقرير بزيادة العشر فإن الراسي عليه المزاد يكون في ذلك الوقت مالكًا ويجب عليه دفع الثمن.
الرأي الثاني:
يرى أغلبية الشراح الفرنسيين - وأهمهم جارسونيه وجلاسون وسيزاربرو - غير رأي محكمة النقض الفرنسية، ويذهبون إلى أن تقرير الزيادة وحده لا يكفي للفسخ بل يجب لذلك أن يرسو المزاد فعلاً ويصدر به حكم جديد لصالح شخص آخر غير الراسي عليه المزاد الأول - ويقول إن زيادة العشر وإن كانت تعتبر عرضًا مقيدًا لمقررها إلا أنها لا تعتبر بيعها نهائيًا (غير قابل للفسخ) ملزمًا للمدين ولمقرر الزيادة ومبطلاً للبيع الأول للأسباب الآتية:
أولاً: من المحتمل عند إعادة البيع أن يرسو المزاد أيضًا على الراسي عليه المزاد الأول إذا كان هو أعلا مزايد وقالوا إنه في هذه الحالة تبقى الملكية للراسي عليه المزاد الأول - ولكن ردنا على ذلك أن الملكية تؤول إذ ذاك إليه بسبب جديد هو حكم مرسى المزاد الثاني وليس حكم مرسى المزاد الأول.
ثانيًا: قالوا أن الملكية قد تبقي للراسي عليه المزاد الأول رغم حصول الزيادة إذا كانت باطلة - ولكن ردنا على ذلك أن المفروض في زيادة العشر التي تفسخ البيع الأول هي الزيادة الصحيحة قانونًا.
ثالثًا: قالوا بأن الملكية قد تبقى للراسي عليه المزاد الأول رغم حصول الزيادة إذا كان مقرر الزيادة قد تنازل عن حقه فيها برضاء طالب البيع والدائنين - وردنا على ذلك أن الحال يختلف في القانون الأهلي عنه في القانون الفرنسي والمختلط ففي القانون الأهلي إذا لم يقم مقرر الزيادة بإجراءات البيع الثاني قام بها قلم الكتاب من تلقاء نفسه كما سيأتي.
هذه هي حجج الشراح الفرنسيين وقد خلصوا منها إلى القول بأن زيادة العشر ليست إلا تهديدًا بالفسخ une simple menace de resolution (انظر ملحق موسوعة داللوز جزء (17) تحت كلمة surenchere فقرة (283)) فإذا هلك المبيع بعد زيادة العشر وقبل مرسى المزاد الثاني فالذي يتحمل الخسارة في رأيهم هو الراسي عليه المزاد الأول باعتباره مالكًا لم يفسخ عقده – أما إذا صدر حكم مرسى مزاد ثانٍ بعد الزيادة بالعشر فقد تساءل الشراح عمن يكون مالكًا للعقار في الفترة بين الحكمين - وبالتالي من له الحق في الثمرات ومن يلزم بالخسارة - أيكون المدين مالكًا؟ استبعدوا هذا وزعموا أن من رسا عليه المزاد أخيرًا يعتبر كأنه كان مالكًا من وقت مرسى المزاد الأول وهم بهذا يتغاضون عن نظرية الشرط الفاسخ التي تقضي باعتبار المدين مالكًا إلى وقت رسو المزاد الثاني - ولكن جارسون يأبى هذه النتيجة ويصر على اعتبار الراسي عليه المزاد الثاني مالكًا من يوم مرسى المزاد الأول قائلاً أنه لا يقبل من نتائج نظرية الفسخ ما لا يتفق مع حكمة مشروعية زيادة العشر، وهو يرجع اعتبار المشتري الثاني مالكًا من يوم الحكم الأول إلى اعتبارات يقول إنها مستمدة من طبيعة زيادة العشر ومن إرادة الشارع ومن غرابة أو سقم المركز الذي يكون المدين فيه مالكًا للعين في الفترة بين حكمي مرسى المزاد (كذا) وإذن فهلاك العقار بقوة قاهرة يكون على الراسي عليه المزاد الأول إلى وقت صدور حكم مرسى المزاد الثاني وعليه رسم انتقال الملكية رغم التقرير بالزيادة.
(جارسونيه الطبعة الثالثة (5) بند (480 – 485).
أما سيزار برو - وهو منقح الطبعة الثالثة من كتاب جارسونيه سالف الذكر فإنه يقول إما الشرط الفاسخ بكل نتائجه - وإما عدول عنه إلى نظرية أخرى - ويريد أن يصل إلى نفس النتائج التي رآها جارسونيه بتعليل جديد فتارة يقول إن الراسي عليه المزاد الأول يعتبر كأنه كان وكيلاً ضمنًا عن الراسي عليه المزاد الثاني وطورًا يدعى أنه في الواقع لم يحصل بيعان بل حصل استمرار لبيع واحد ابتدأ من وقت مرسى المزاد الأول وانتهى في يوم مرسى المزاد الثاني.
(Les encheres ont lieu à deux reprises, dans deux audiences, elles sont séparées par un intervalle de temps, d’aillears assez court mais toutes les enchères sont relatives à une offre de vente unique)
ورأى سيزار برو هذا مع ما فيه من حذق ومهارة لا يخلو من عيب كما يقول جلاسون ومن معه (في كتابهم سالف الذكر صفحة (736)) فهم يرون أن هناك بيعين مستقلين لا بيعًا واحدًا وأن الأفضل تطبيق النتائج العادية للفسخ أي أنه بمجرد حصول المزايدة ينفسخ البيع الأول الحاصل للراسي عليه المزاد الأول وتعود الملكية للمدين ولا تنزع منه إلا بصدور حكم مرسى المزاد الثاني ويقولون – أن هذا الحل هو الذي سار عليه القضاء – وهذا نص ما ذكروه:
(Quelque ingenieux que soit ce systeme, on peut lui reprocher de faire trop bon marché de la premiere adjudication Celle - ci a bien transféré a l’adjudicataire la propriéte de l’immeuble saisi, encore que cette propriété fùt subordonnée à la condition résolutoire de la survenace d’une surenchère, elle n’en était pas moins pour le premiere adjudicatairc un titre d’acquisition. Il s’agit bien de deux adjudications independentes. Je est donc préferable d’appliquer ici les conséquences ordinaires de la resolution. On décidera dès lors que l’anéantissement retsoactif de la propriete de l’adjudicataire a poar conséquence de rétablir le saisi dans sa propriété sur l’immeuble, le saisi ne scra dépossédé que par l’adjudiction sur surenchère, et vis - à - vis des tiers, par la tranion de cette adjudication. C’est seulencnt à cette date que le second adjudicataire deviendra proprietaire. Telle est la solutim à laquelle se tient la Jurisprudence.
إلا أنهم بعد ذلك يضعون القاعدتين الآتيتين:
القاعدة الأولى: حق الراسي عليه المزاد الأول بفسخ بمرسى المزاد الثاني بناءً على زيادة العشر، فكأنهم يصرون رغم ما ذكروه آنفًا على أن زيادة العشر لا تكفي وحدها للفسخ.
القاعدة الثانية: بسبب هذا الفسخ يعتبر المدين المحجوز عليه مالكًا للعقار حتى حكم مرسى المزاد الثاني، ثم يرتبون على ذلك ما يأتي:
1 - لا يلزم الراسي عليه المزاد الأول بالثمن وله استرداده إن كان دفعه ولا يلزم برسم نقل الملكية ولكنه في الوقت نفسه يلزم برد ما يكون استولى عليه من الثمرات إذ يكون أخذه لها بلا سبب sans cause وتلغي عقود الإيجار التي يكون أبرمها مع الغير.
ويبرر جلاسون هذا بأنه ما كان يصح للغير أن يتعاقد معه فإن فعل فإنه يتحمل نتيجة طيشه
2 - تنتقل الملكية من المدين إلى الراسي عليه المزاد الثاني مباشرة فالمدين هو صاحب الحق في الاستيلاء على ثمرات العقار في الفترة بين حكمي المزاد مع ملاحظة حقوق الدائنين المسجلين (انظر المرجع السابق بند (1383) ص (737 – 739).
على أن المؤلفين مع هذا لا يودون التقيد بنظرية الشرط الفاسخ ويريدون أن يستبعدوا ما يكون لها من نتائج ضارة بحجة أن زيادة العشر إنما شرعت لفائدة المدين ودائنيه حتى يصل ثمن العقار إلى أقصى حد ممكن فيجب أن لا يترتب عليها ما فيه ضرر بالدائنين وانتقاص من ضمانهم ويشيرون إلى رأي - جوسران Gosserand (طرق التنفيذ بند (266)) كما يشيرون إلى أمرين أولهما: أن العمل جرى في فرنسا على أن لا يسجل حكم مرسى المزاد الأول (أما في القانون المصري فواجب تسجيله)
وثانيهما: أنه ما دام أن الرهن لا يحدث أثره القانوني إلا من يوم تسجيل حكم مرسى المزاد فإن التسجيلات العقارية يجب أن تجدد حتى تسجيل حكم مرسى المزاد الثاني الذي وحده يحدد حقوق الدائنين على الثمن.
(جلاسون ومن معه المرجع السابق ص (740)) – وسنرى أن الحال يختلف في القانون الأهلي
(4)
رأي المحاكم المختلطة
اتبعت هذه المحاكم أول الأمر رأي محكمة النقض الفرنسية وبينها محكمة الاستئناف ولكن الأخيرة عدلت عنه واتبعت رأي الشراح الفرنسيين منذ سنة 1913 على الأقل.
(انظر أحكامها الصادرة في 27 مايو 1912 و 14 إبريل 1914 و 26 إبريل 1916 و 11 ديسمبر سنة 1928 وهذا الحكم الأخير منشور في المحاماة السنة التاسعة رقم (541) وكذا رقم (499)) إلا أنه رغم عدول محكمة الاستئناف المختلطة عن الرأي الأول فقد ظلت محكمة مصر الابتدائية المختلطة متمسكة به فأصدرت بتاريخ 30 مارس 1915 حكمًا مملوءًا بالأبحاث المستفيضة في الموضوع قضت فيه بأن ملكية العقار تعود إلى المدين بمجرد الزيادة وبأن رسوم البيع لا تستحق على المشتري الراسي عليه المزاد الأول وله الحق في استردادها مع عشر الثمن الذي دفعه (الجازيت (5) ص (127) نمرة (33)) وقد دافع الأفوكاتو ينجالون عن الرأي الأول - رأي لمحكمة النقض الفرنسية في مقال له نشر في الجازيت (5) ص (119) - كما دافع المسيو إيمان النائب العمومي لدى المحاكم المختلطة سابقًا عن الرأي الثاني في مقال له (نشر في مصر العصرية نمرة (24) – 25 سنة 1916) وسنرى أن هناك اختلافًا جوهريًا بين قانوني المرافعات الأهلي والمختلط في بعض النصوص يدعو إلى الأخذ برأي محكمة النقض الفرنسية في القضاء الأهلي.
(5)
رأي المحاكم الأهلية
قبل أن نتكلم عن المحاكم الأهلية وآراء الشراح الوطنيين نريد أن نشير إلى فارقين عظيمين بين النصوص الفرنسية والمختلطة والأهلية:
الفارق الأول:
واجب كل من قانوني المرافعات الأهلي والمختلط على مقرر الزيادة بالعشر أن يعلن تقريره مع بيان اليوم الذي يحدد للبيع إلى كل من (1) الدائن الذي طلب البيع (2) والدائنين المسجلين (3) وللراسي عليه المزاد - أوجب عليه ذلك في ميعاد قدره ثمانية أيام في القانون الأهلي وثلاثة أيام في القانون المختلط - فإن مضى هذا الميعاد ولم يقم مقرر الزيادة بالإعلان فيه فإن القانون الأهلي يوجب على كاتب المحكمة أن يقوم هو بالإعلان في خلال الثمانية أيام التالية (580 و 583 مرافعات أهلي) أما القانون المختلط فإن الإعلان يحصل في خلال الثلاثة أيام التالية بناءً على طلب أي شخص من الأشخاص الثلاثة المتقدمة ذكرهم (وهم الدائن وطالب البيع والدائنون المسجلون والراسي عليه المزاد) فإن لم يتقدم أحد من هؤلاء بالإعلان فإن زيادة العشر تكون ملغاة وتعتبر باطلة لا أثر لها بدون لزوم للحكم بذلك ((662) مرافعات مختلط) فزيادة العشر في القانون في القانون المختلط إذن لا تقيد صاحبها في كل الأحوال ويمكنه أحيانًا التخلص منها - ونلاحظ - أولاً - أن كلا النصين الأهلي والمختلط لم يوجب على مقرر الزيادة أن يعلن المدين بها وباليوم الذي يحدد للبيع مع من أوجب عليه إعلانهم قانونًا في حين أن الأمر يهم المدين قبل غيره.
ونلاحظ ثانيًا أن النص المختلط وهو لم يوجب إعلان المدين بالزيادة وبيوم البيع الجديد - لم يخوله حق إعلان ذوي الشأن بهما عند قعود المزايد عنه مع أن القانون الفرنسي قد أعطاه هذا الحق (المادة (709) مرافعات فرنسي) ثم إن القانون المختلط في الوقت نفسه لم يلزم كاتب المحكمة بأن يباشر هو الإعلان إذا لم يقم به المزايد في حين أن القانون الأهلي ألزم الكاتب - وفي هذا وذاك كل الضرر بالمدين إذ قد يغفل دائنوه عن إعلانه أو قد يتواطأ الراسي عليه المزاد الأول مع المزايد بالعشر لمنع المزايدة - هذا الخلاف الجوهري بين القانونيين الأهلي والمختلط أشار إليه حضرة النائب المحترم السيد محمد عبد الهادي الجندي بك عند مناقشة مجلس النواب لقانون إيقاف البيوع السابق الإشارة إليه وحدا به إلى أن يطلب تعديله بحيث تقف البيوع التي تقرر فيها بزيادة العشر - كما أن هذا الخلاف الجوهري اعتمد عليه حضرتا قمحة بك وعبد الفتاح السيد بك في كتابهما وقالا بحق أنه طبقًا للقانون الأهلي يخلي طرف الراسي عليه المزاد الأول بمجرد التقرير بزيادة العشر - لأن مقرر الزيادة يصبح مرتبطًا بتقريره لا يملك العدول عنه - فحصول المزايدة تعيد للمدين الحرية التامة في البيع والرهن والوفاء إذ الملكية زالت من يد الراسي عليه المزاد الأول وهي لم تكتسب بعد لمجرد الزيادة - فوجب أن تعود إلى صاحبها الأصلي المدين لأنه غير معقول إن تبقى العين بلا مالك في المدة بين المزايدتين - أما بالنسبة للتشريع المختلط فإن المؤلفين يريان أن الراسي عليه المزاد الأول يفقد ملكيته بحكم مرسى المزاد الثاني نفسه وليس بتقرير الزيادة من مجددها لأن هذا التقرير لا يلزمه (كتاب التنفيذ علمًا وعملاً بند (714)).
الفارق الثاني:
في فرنسا وطبقًا لرأي جارسونيه ((5) بند (482)) لا ضرورة لتجديد تسجيل الرهون بعد تسجيل حكم المزاد الأول - لأنه ما دامت الملكية لا تعود إلي المدين وما دام محظورًا على المدين أن يتصرف في العقار لخروجه نهائيًا عن ملكه - فلا يمكن أن يتغير مركز أصحاب الرهون بعد تسجيل حكم مرسى المزاد الأول – إذ تسجيله يجعل الرهون تنتج نتيجتها النهائية
أما في مصر فإن المادة (570) مدني أهلي ((694) مدني مختلط) لا تعفى من تجديد تسجيل الرهون إلا بعد فوات مواعيد زيادة العشر - فلا بد من تجديد التسجيل إلى أن تنتهي العشرة الأيام المقررة للزيادة من غير حصولها فإن حصلت فلا بد من التجديد حتى مرسى المزاد والثاني ونرى من هذا أن القانون المصري بإيجابه تجديد التسجيلات مدة إجراءات زيادة العشر فلأنه يعتبر أن الملكية تعود إلى المدين بمجرد زيادة العشر.
رأى المرحوم أبي هيف بك - انتقد الشراح الفرنسيين أي انتقاد ورأى عدم التقيد بالنظريات وأن تكون آثار زيادة العشر وحكم رسو المزاد الثاني مستمدة من تطبيق قواعد القانون وروحه ولكنه عندما أورد حلولاً اعتبرها آثارًا صحيحة لزيادة العشر ذكر من بينها أن التقرير بالزيادة لا يعيد الملكية إلى المدين فلا يستطيع بدفع ديونه أن يمنع المزايدة الثانية من الحصول (طرق التنفيذ والتحفظ بند (951) و (954)) قال ذلك مع أنه سبق أن ذكر (في بند (926)) أن نظام زيادة العشر شرع لفائدة المدين والدائنين والثروة العقارية - مع أنه ليس أصلح لفائدة المدين ودائنيه والثروة العقارية من أن يسدد المدين دينه فيحصل دائنه رافع الدعوى على مطلوبه وتعود الملكية إلى المدين ويظل العقار كما كان ضامنًا لدائنيه الآخرين الذين لم يتخذوا إجراءات ضده.
أحكام المحاكم الأهلية:
استنادًا إلى الفارقين سالفي الذكر بين النصوص الفرنسية والمختلطة والأهلية أخذنا برأي محكمة النقض الفرنسية في حكم أصدرناه بتاريخ 21 مارس سنة 1933 من محكمة أبي حمص الأهلية (ونشر بمجلة المحاماة السنة السادسة عشرة العدد (4) رقم (188) ص (453)).
وقلنا فيه أن الملكية إنما تعود إلى المدين بمجرد التقرير بزيادة العشر - وقد سبق أن اتبع هذا الرأي بعض المحاكم الأهلية من ذلك حكم محكمة استئناف مصر الأهلية الصادر في 22 نوفمبر 1927 (ونشر بالمحاماة 8 رقم (239) ص (321)) وحكم محكمة الاستئناف الأهلية الصادر في 10 نوفمبر 1926 (ونشر بالمحاماة سنة 7 رقم (237) ص (344)) – أما البعض الآخر من المحاكم الأهلية فقد جارى الاتجاه الحديث لمحكمة الاستئناف المختلطة (انظر استئناف 30 إبريل 1930 محاماة سنة 10 رقم (433) ص (862)).
حكم محكمة النقض المصرية:
أصدرت هذه المحكمة حكمًا بتاريخ 2 يونيه سنة 1932 (ونشر بمجلة المحاماة السنة 13 عدد (2) رقم (60) ص (152)) قالت فيه:
1 - إن الاستناد إلى المادتين (580) و (583) من قانون المرافعات الأهلي (وقد استند إليهما قمحه بك وعبد الفتاح السيد بك كما سبق القول) غير مجد لأن المراد منهما استيفاء الإجراءات المتعلقة بزيادة العشر ليس إلا (وقد رأينا أن الاستناد إليهما مجد لما سبق ذكره وبالأخص لأن القانون الأهلي تعمد أن يخالف القانونين الفرنسي والمختلط بتحتيمه على كاتب المحكمة أن يتمم هو إجراءات زيادة العشر وما ذلك إلا لأنه يرى أن الملكية قد عادت إلى المدين بزيادة العشر).
2 - ثم قالت محكمة النقض أنه سواء كانت هذه الزيادة ملزمة لمن قررها أو غير ملزمة فإنها ترى رأي الشراح الفرنسيين لما ذكروه من أن التقرير بالزيادة لا يعتبر بيعًا نهائيًا ملزمًا للمدين ولمقرر الزيادة ومبطلاً للبيع الأول – ولا يؤدي حتمًا إلى إعادة البيع – وقد سبق لنا الرد على كل حجة من حجج الشراح الفرنسيين.
3 - ثم أضافت محكمة النقض اعتبارًا آخر وهو أن المادة (587) مرافعات تقضي بأن حكم البيع يكون حجة للمشتري بملكية المبيع وإذن يجب القول بألا تأثير لتقرير الزيادة في البيع الذي تم بصدور حكم مرسى المزاد الأول والذي يبقى قائمًا إلى أن يسقط بصدور حكم جديد - ولكن يلاحظ أن البيع إنما يقع معلقًا على شرط فاسخ ولم تبين المادة (587) مرافعات أو غيرها هذا الشرط الفاسخ فلم لا يكون التقرير بزيادة العشر؟
4 - على أن محكمة النقض ذكرت أخيرًا وبحق أنه مع عدم وجود نص صريح في القانون يقضي بأن مجرد تقرير الزيادة بالعشر يفسخ حكم مرسى المزاد الأول فلا محل للقول بأن محكمة الموضوع (وقد كانت أخذت برأي الشراح الفرنسيين) بترجيحها رأيًا على رأي في الموضوع قد أخطأت في تطبيق القانون.
ونحن نسجل على محكمة النقض هذا القول فلو أخذت محكمة الموضوع بالرأي الآخر وهو رأي محكمة النقض الفرنسية فلا سبيل إلى نقض حكمها مما مالت محكمة النقض نفسها إلى الرأي الأول إذ لا محل للقول بأن محكمة الموضوع أخطأت في تطبيق القانون - وهو قد صمت - في ترجيحها رأيًا على رأي - ونحن نرى منعًا لما قد ينشأ عن هذا من الفوضى أن ينص صراحة على آثار زيادة العشر في التشريع المنتظر وأن يؤخذ فيه برأي محكمة النقض الفرنسية صيانة للثروة العقارية ورحمة بالمدين.
(6)
منشوران لوزارة الحقانية بخصوص زيادة العشر ونقدهما
عرضت أخيرًا على محكمة الإسكندرية الابتدائية الأهلية بهيئة استئنافية قضية ظروفها كما يأتي: حكم بنزع ملكية مدين من عقار يملكه وبيع بالمزاد العلني - وأثناء البيع توفي المدين ثم توفي أحد ورثته - ثم رسا المزاد أخيرًا على الدائن طالب البيع وقد أودع في قلم كتاب المحكمة نحو عشرين جنيهًا باقي الثمن والمصاريف بعد خصم دينه - وبعد ذلك تقدم آخر وقرر بزيادة العشر في الميعاد القانوني وأودع بقلم كتاب المحكمة نحو اثنين وعشرين جنيهًا قيمة خمس الثمن والمصاريف وتحددت جلسة أخرى للبيع وفيها تنازل الدائن طالب البيع والذي رسا عليه المزاد الأول عن السير في إجراءات البيع وعن حكم مرسى المزاد الأول كما تنازل المزايد بالعشر عن زيادته وأثبت قاضي البيوع هذا التنازل بحضور ورثة المدين الذين أعلنهم طالب البيع ولكن لما أراد الراسي عليه المزاد الأول والمزايد بالعشر أن يستردا من قلم الكتاب ما أودعه كل منهما امتنع قلم الكتاب عن ذلك بحجة أن تنازلهما أمام المحكمة كانا ناقصًا لأنهما لم يقدما إعلامات شرعية بأسماء ورقة المدين وبأسماء ورثة من توفي منهم ولم يقدما شهادات عقارية بأسماء كل من هؤلاء الورثة ليمكن إعلانهم جميعًا وإعلان دائنيهم أرباب الحقوق المسجلة إن وجدوا إذ لا بد من تمثيل هؤلاء والحصول على رضاهم بالتنازل عن الإجراءات وبصرف المبلغين المودعين - وقلم الكتاب إذ يتشدد على هذا النحو فإنما ينفذ منشورًا أصدرته وزارة الحقانية إلى أقلام الكتاب بتاريخ 6 فبراير 1935 بناءً على فتوى من قلم القضايا - وقد فسرته بمنشور آخر أصدرته بتاريخ 31 أكتوبر سنة 1935 - وهذان المنشوران أساسهما الرأي القائل بأن الملكية لا تعود إلى المدين بتقرير الزيادة بل تبقى للراسي عليه المزاد الأول حتى حكم مرسى المزاد الثاني، على أن هذين المنشورين حتى مع التسليم بالرأي الذي استندا إليه فإنهما قد أسرفا في التشدد والاحتياط إسرافًا مجحفًا بالمدين إذ ملخصهما ما يأتي:
1 - إذا حضر للجلسة المحددة للمبيع بعد التقرير بزيادة العشر كافة أصحاب الشأن وقرروا جميعًا باتفاق فيما بينهم إعادة الأمور إلى حالتها الأولى - وذلك بتنازلهم عن دعوى البيع وعن حكم رسو المزاد وعن التقرير بالزيادة - وأثبت لهم قاضي البيوع ذلك - فإنه يترتب على هذا ضمنًا تنازل الراسي عليه المزاد عن ملكية العقار المنزوع إلى المدين - ويجب في هذه الحالة أن يؤشر قلم الكتاب بمضمون المحضر المذكور على هامش تسجيل حكم مرسى المزاد - وبعد ذلك يرد إلى كل من الراسي عليه المزاد الأول وإلى مقرر الزيادة أمانته المودعة بعد أن يخصم منها الرسوم المستحقة له وكذا رسم نقل الملكية من الراسي عليه المزاد الأول إلى المدين وهو ما يعادل رسم التسجيل المنصوص عنه في المادة الأولى من قانون التسجيل.
2 - وإذا لم يكن هناك إجماع من ذوي الشأن على الاتفاق ففي هذه الحالة يجب على المحكمة أن ترفض إثبات الاتفاق ولها أن تأمر بشطب الدعوى ولا يجوز لقلم الكتاب في هذه الحالة أن يرد المبالغ المودعة - ولكن يجوز بعد الشطب لكل ذي شأن أن يعيد القضية للمحكمة سواء للاستمرار في إجراءات البيع أو لإثبات اتفاق جميع ذوي الشأن.
3 - وقرر المنشوران أن أرباب الديون المسجلة للمدين المنزوع ملكيته هم من أولى الشأن.
4 - وأنه إذا أثبت المحكمة خطأ الاتفاق المقدم بدون إجماع أولي الشأن فلا يرد قلم الكتاب الودائع المذكورة إلا إذا أقر بذلك من لم يدخل منهم في الاتفاق أو استصدر من له مصلحة حكمًا في مواجهتهم ومواجهة قلم الكتاب.
ونلاحظ على المنشورين ما يأتي:
أولاً: غير مفهوم سبب التشدد في اعتبار أرباب الديون المسجلة للمدين من ذوي الشأن الذين يجب تمثيلهم ورضاهم بالاتفاق - فإن هذا التشدد يستدعي استصدار إعلامات شرعية لورثة المدين المتوفى وأخرى بورثة من توفي من ورثته ثم استخراج شهادات عقارية عن كل وارث من هؤلاء الورثة وكل هذا يستغرق وقتًا كبيرًا ويتطلب نفقات كثيرة سيلزم بها المدين المسكين آخر الأمر مع أن زيادة العشر إنما شرعت لمصلحته ومع أن الاتفاق الذي به ترجع الملكية إلى المدين هو في صالحه وصالح ورثته من بعده بل وفي صالح دائنيه المحفوظة ديونهما بالتسجيل على العقار والذين لم يطلبوا البيع وإنما طلبه دائن آخر أقر الاتفاق - ونرى أنه حتى مع الأخذ برأي الشراح الفرنسيين فإنه يكفي أن يقر الاتفاق بعض الورثة لأنه يعتبر ممثلاً لباقي الورثة ولجميع الدائنين في هذا الاتفاق المفيد للجميع ونلاحظ:
ثانيًا: أن الأخذ بالمنشورين قد ينفر الناس من التقدم للشراء في البيوع الجبرية فيضيع الغرض الذي قصده الشارع وسعى إليه بشتى الطرق وهو الوصول بالثمن إلى أقصى حد مستطاع، إذ نفرض أن الاتفاق الذي عرض على قاضي البيوع كان ناقصًا لأنه لم يمثل فيه أرباب الديون المسجلة مثلاً ونفرض أن المزايد بالعشر قام باستخراج أعلامات شرعية بأسماء الورثة ثم باستخراج شهادات عقارية لكل منهم حتى إذا ما عرف منها دائنيهم واتصل بهم فإنهم قد يرفضون الاتفاق، ولنفرض أنه رفع عليهم دعوى لإثبات الاتفاق فحضروا أمام المحكمة وطلبوا رفض إثباته فأجابتهم إلى ما طلبوا – نفرض هذا فلا يبقى أمام المزايد بالعشر إلا أن يعيد إجراءات البيع حتى يحصل على مبلغه المودع كما جاء في المنشورين ولكنه لا يستطيع السير في هذه الإجراءات لأنه ليس صاحب الحق القانوني فيه كما قضت بذلك محكمة النقض - فإن سار القاضي في إجراءات البيع وقع حكمه باطلاً لعدم استيفائه شرطًا أساسيًا إجرائيًا تفرضه المادتان (584) و (569) مرافعات وهو أن يكون البيع بناءً على طلب الدائن الذي طلب البيع أو غيره من أرباب الديون المسجلة عند الاقتضاء (حكم محكمة النقض المدنية الرقيم (6) يونيه سنة 1935 والمنشور بمجلة المحاماة سنة 16 عدد (2) رقم (104)).
وإنا نلاحظ على المنشورين أيضًا أنهما يتطلبان تحصيل رسوم جديدة عن نقل الملكية من الراسي عليه المزاد الأول إلى المدين – وهذه غير الرسوم السابق تحصيلها عن نقل الملكية من المدين إلى الراسي عليه المزاد الأول عن حكم مرسى المزاد الأول – والغريب أن المنشورين يطلبان من أقلام الكتاب أن تتقاضى الرسوم الجديدة من الأمانة المودعة من كل من الراسي عليه المزاد الأول والمزايد بالعشر معًا ومن غير توزيعها بينهما مع أن الملزم بها هو المدين.
وقد أخذت محكمة الإسكندرية الابتدائية الأهلية في القضية التي ذكرنا ظروفها (وهي نمرة (371) استئناف سنة 1937 دائرة حضرة رئيس المحكمة محمد صدقي خليل بك) برأي محكمة النقض الفرنسية وقالت أن ما حدا بها إلى الأخذ بهذا الرأي (هو الحالة المالية وتسهيل الطريق للمدين لسداد ما عليه من الديون محافظة على الثروة العقارية وكذا تسهيل للدائن والمدين لحصوله على دينه خلافًا للنظرية الأولى التي توجد عراقيل لا مبرر لها أمام الدائن والمدين - هذا فضلاً عن أن الحقوق العينية محفوظة برجوع العين إلى صاحبها - أما ما يطلبه المستأنفان من اتفاق جميع ذوي الشأن على فسخ حكم مرسى المزاد الأول - في حالة صدور حكم ثانٍ – فهذه إجراءات تستلزم مصاريف تربو على المبالغ المطلوب صرفها).
وأخيرًا فإنا نقترح بأن ينص صراحة في قانون المرافعات الجديد المنتظر على أن زيادة العشر تعيد الملكية إلى المدين ولكن في الوقت نفسه يحرم عليه أن يتصرف في العقار المنزوع ملكيته بالبيع أو الرهن أو غيره من الحقوق العينية حتى حكم على مرسى المزاد الثاني، وبأن ينص فيه على أن اتفاق المدين والدائن نازع الملكية والراسي عليه المزاد الأول والمزايد بالعشر يكفي وحده لمنع السير في إجراءات البيع الثاني وألا تحصل إذ ذاك رسوم نقل ملكية جديدة بل يكتفي بالتأشير على هامش حكم مرسى المزاد الأول بالتقرير بزيادة وبهذا الاتفاق يصبح المدين مالكًا للعقار حر التصرف فيه.
أحمد الجارم
القاضي بمحكمة إسكندرية الأهلية
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
قضايا نزع الملكية
كانت سنة 1923 سنة عسر، وإذا حل العسر في بلد زادت المنازعات والخصومات، ويعتبر جدول قضايا نزع الملكية مقياسًا لدرجة الأزمة التي تعانيها البلاد، وها إحصاء رسمي عن قضايا نزع الملكية في المحاكم المختلطة في الإسكندرية، وفي مصر، وفي المنصورة، ننشره نقلاً عن جريدة الأهرام الصادرة في يوم الأربعاء 27 فبراير سنة 1924 ففيه عظة وعبرة.
في الإسكندرية:
بلغ عدد ما أصدرته المحكمة المختلطة من أحكام البيع الإجباري في الشهور الأربعة الأولى من السنة القضائية - من 16 أكتوبر سنة 1923 إلى 15 فبراير الجاري - تسعين حكمًا قضى في 60 منها بتسليم الأراضي المبيعة لطالبي البيع لعدم وجود مزاحمين لهم، وفي 30 حكمًا لمشترين آخرين.
وقد كانت الأراضي المبيعة بمقتضى تلك الأحكام عبارة عن 4966 فدانًا منها 4012 فدانًا و12 قيراطًا و13 سهمًا رسا مزادها على الدائنين طالبي البيع و953 فدانًا وقيراطين و9 أسهم رسا مزادها على الغير.
وبلغ مجموع الثمن 156.273 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 31 جنيهًا ونصف الجنيه.
وبلغ ثمن الأملاك التي آلت بحكم المزاد إلى الدائنين 120.570 جنيهًا، وثمن الأملاك التي آلت إلى الغير 35.703 ج م، فكان متوسط ثمن الفدان في الحالة الأولى 30 جنيهًا ومتوسطه في الثانية 37.5 ج م، وبلغ ما طلبته تلك الأحكام من المصروفات 5792 جنيهًا فكان متوسط ما أصاب الحكم الواحد منها 64 جنيهًا ونصف الجنيه ما عدا الرسم النسبي ومعدله خمسة جنيهات لكل حكم لأوراق الدعوى.
وقد بلغ عدد الأحكام المختصة ببيع العقارات أي الأملاك المبنية في الإسكندرية 23 حكمًا، وبلغت الأثمان فيها 370.567 جنيهًا، وهذا المبلغ الكبير يدخل فيه مبلغ 326.000 جنيه (ثلاثمائة وستة وعشرين ألفًا) نتج من بيع عقارات لورثة الخواجة أشالي في قضية بيع اختياري لفائدة أحد الورثة والشركاء وهذا لا يدخل في البيوع الإجبارية في الحقيقة ويجب استثناؤه وحسبان الباقي وهو عبارة عن 44.567 جنيهًا، وكان هذا المبلغ ثمن أملاك مبنية بيعت بالمزاد العلني في قضايا نزع الملكية، وكان عدد الأحكام فيها 21 حكمًا وبلغت مصروفاتها 938 جنيهًا.
في مصر:
بلغ ما أصدرته المحكمة من أحكام البيع الإجباري في مصر 69 حكمًا منها 27 لطالبي البيع والباقي لغيرهم.
وكانت الأطيان المبيعة 891 فدانًا مجموع أثمانها 64588 جنيهًا.
فبلغ متوسط ثمن الفدان 72 جنيهًا.
وقد آل من الأطيان المبيعة 493 فدانًا وكسور الفدان لطالبي البيع بثمن قدره 28341 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 68 جنيهًا ونصف الجنيه وآل الباقي لغيرهم، وبلغت مصروفات هذه الأحكام (69) حكمًا 3727 جنيهًا بمعدل 54 جنيهًا لكل حكم.
أما قضايا المباني وأراضي البناء التي بيعت في مصر القاهرة بيعًا إجباريًا في المدة عينها فقد كانت الأحكام الصادرة فيها 33 حكمًا، وبلغ ثمن المباني المبيعة بموجبها 18436 جنيهًا، وكان 18 من تلك الأحكام لطالبي البيع بمبلغ 6596 جنيهًا، وبلغت نفقاتها 907 جنيهات فكان متوسط ما أصاب الحكم الواحد من النفقات 27 جنيهًا.
في المنصورة:
أصدرت محكمة المنصورة في المدة ذاتها 91 حكمًا ببيع الأطيان بالمزاد منها 21 حكمًا لطالبي البيع والباقي لغيرهم، وأصدرت 7 أحكام لإثبات بيع أملاك أخرى آل المبيع فيها لغير طالبي البيع.
وكانت الأطيان المبيعة عبارة عن617 فدانًا و3 قراريط وسهم وبلغت أثمانها 22773 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 34 جنيهًا.
والأطيان المبيعة لغير الدائنين طالبي البيع كانت 1362 فدانًا و13 قيراطًا و9 أسهم وأثمانها 60946 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 44 جنيهًا و750 مليمًا.
أما قضايا العقارات أو الأملاك المبنية فقد أصدرت محكمة المنصورة منها في المدة المذكورة بعض أحكام غير مهمة بلغت أثمان المبيع فيها 889 جنيهًا ومصاريف نزع الملكية 113 جنيهًا فكان متوسط ما أصاب الحكم 16 جنيهًا وكسورًا.
ولا يخفي أن المشتري الذي يرسو عليه المزاد يتحتم عليه أن يدفع غير الثمن مصاريف نزع الملكية ورسم البيع النسبي وهو 2 في المائة أو 5 في المائة حسب القانون ورسم إدارة القضية وقد بلغت مصاريف نزع الملكية في الأحكام الواحد والستين المتقدم ذكرها المختصة ببيع الأطيان 3397 جنيهًا، وكان متوسط ما أصاب الحكم 55 جنيهًا و700 مليم، أما رسم أوراق القضية فيبلغ 4 جنيهات في كل حكم.
وأهم ما يلفت النظر من أمر الأحكام المتقدمة أن الأراضي التي بيعت بالمزاد العلني في الثلث الأول من هذه السنة القضائية لتسديد الديون - وهي عبارة عن 7836 فدانًا - بيعت كلها إلا قليلاً منها للأجانب من دائنين وغير دائنين ممن رسا عليهم المزاد، وهذا معناه أن ترك الحبل على الغارب يؤدي بطبيعة الحال إلى حرمان البلاد من أكثر أراضيها الزراعية في المستقبل وإلى أيلولة تلك الأراضي إلى الأجانب.
ثم يلاحظ أن نفقات البيوع تبلغ مبالغ كبيرة في قضايا نزع الملكية ويرى القارئ أن نسبة هذه النفقات إلى الثمن في أحكام المنصورة تبلغ نحوًا من 13 في المائة، وهذا كثير جدًا لأن نسبة المصروف إلى الثمن في بيوع الأطيان تبلغ عادةً 4 في المائة، وفوق هذه النفقات يتحتم على البائع دفع رسوم أوراق القضية والرسم النسبي والتسجيل وكل هذه تضاف إلى الحساب وتسفر العملية عن خروج الفلاح من قضايا نزع الملكية خاوي الوفاض.
وقد ذكرنا في بعض الرسائل التي نشرناها منذ شهور قليلة في هذا الموضوع أن ما يذهب من الأملاك المرهونة بحكم البيع الإجباري إلى الدائنين الطالبي البيع لا تزيد قيمته على قيمة الدين وأن ما يؤول إلى غيرهم بالمزاد تزيد قيمته زيادة محسوسة، ويرى القارئ من البيان المتقدم أن الفرق بين هذا وذاك يبلغ عشرة جنيهات وأكثر للفدان الواحد.
إن أطيان الدقهلية لا يقل سعرها عادةً عن 70 أو 80 جنيهًا للفدان ولكن في قضايا نزع الملكية بيع الفدان منها بأقل من 45 جنيهًا فالفرق كان عبارة عن مجرد خسارة لا مبرر لها.
أننا نكرر لفت النظر إلى خطورة مسألة الديون الأهلية ونرجو أن يتيسر للباحثين فيها أن يحلوا عقدتها حلاً يحرر الأمة من نير الديون وحملها الثقيل.
في الإسكندرية:
بلغ عدد ما أصدرته المحكمة المختلطة من أحكام البيع الإجباري في الشهور الأربعة الأولى من السنة القضائية - من 16 أكتوبر سنة 1923 إلى 15 فبراير الجاري - تسعين حكمًا قضى في 60 منها بتسليم الأراضي المبيعة لطالبي البيع لعدم وجود مزاحمين لهم، وفي 30 حكمًا لمشترين آخرين.
وقد كانت الأراضي المبيعة بمقتضى تلك الأحكام عبارة عن 4966 فدانًا منها 4012 فدانًا و12 قيراطًا و13 سهمًا رسا مزادها على الدائنين طالبي البيع و953 فدانًا وقيراطين و9 أسهم رسا مزادها على الغير.
وبلغ مجموع الثمن 156.273 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 31 جنيهًا ونصف الجنيه.
وبلغ ثمن الأملاك التي آلت بحكم المزاد إلى الدائنين 120.570 جنيهًا، وثمن الأملاك التي آلت إلى الغير 35.703 ج م، فكان متوسط ثمن الفدان في الحالة الأولى 30 جنيهًا ومتوسطه في الثانية 37.5 ج م، وبلغ ما طلبته تلك الأحكام من المصروفات 5792 جنيهًا فكان متوسط ما أصاب الحكم الواحد منها 64 جنيهًا ونصف الجنيه ما عدا الرسم النسبي ومعدله خمسة جنيهات لكل حكم لأوراق الدعوى.
وقد بلغ عدد الأحكام المختصة ببيع العقارات أي الأملاك المبنية في الإسكندرية 23 حكمًا، وبلغت الأثمان فيها 370.567 جنيهًا، وهذا المبلغ الكبير يدخل فيه مبلغ 326.000 جنيه (ثلاثمائة وستة وعشرين ألفًا) نتج من بيع عقارات لورثة الخواجة أشالي في قضية بيع اختياري لفائدة أحد الورثة والشركاء وهذا لا يدخل في البيوع الإجبارية في الحقيقة ويجب استثناؤه وحسبان الباقي وهو عبارة عن 44.567 جنيهًا، وكان هذا المبلغ ثمن أملاك مبنية بيعت بالمزاد العلني في قضايا نزع الملكية، وكان عدد الأحكام فيها 21 حكمًا وبلغت مصروفاتها 938 جنيهًا.
في مصر:
بلغ ما أصدرته المحكمة من أحكام البيع الإجباري في مصر 69 حكمًا منها 27 لطالبي البيع والباقي لغيرهم.
وكانت الأطيان المبيعة 891 فدانًا مجموع أثمانها 64588 جنيهًا.
فبلغ متوسط ثمن الفدان 72 جنيهًا.
وقد آل من الأطيان المبيعة 493 فدانًا وكسور الفدان لطالبي البيع بثمن قدره 28341 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 68 جنيهًا ونصف الجنيه وآل الباقي لغيرهم، وبلغت مصروفات هذه الأحكام (69) حكمًا 3727 جنيهًا بمعدل 54 جنيهًا لكل حكم.
أما قضايا المباني وأراضي البناء التي بيعت في مصر القاهرة بيعًا إجباريًا في المدة عينها فقد كانت الأحكام الصادرة فيها 33 حكمًا، وبلغ ثمن المباني المبيعة بموجبها 18436 جنيهًا، وكان 18 من تلك الأحكام لطالبي البيع بمبلغ 6596 جنيهًا، وبلغت نفقاتها 907 جنيهات فكان متوسط ما أصاب الحكم الواحد من النفقات 27 جنيهًا.
في المنصورة:
أصدرت محكمة المنصورة في المدة ذاتها 91 حكمًا ببيع الأطيان بالمزاد منها 21 حكمًا لطالبي البيع والباقي لغيرهم، وأصدرت 7 أحكام لإثبات بيع أملاك أخرى آل المبيع فيها لغير طالبي البيع.
وكانت الأطيان المبيعة عبارة عن617 فدانًا و3 قراريط وسهم وبلغت أثمانها 22773 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 34 جنيهًا.
والأطيان المبيعة لغير الدائنين طالبي البيع كانت 1362 فدانًا و13 قيراطًا و9 أسهم وأثمانها 60946 جنيهًا فكان متوسط ثمن الفدان 44 جنيهًا و750 مليمًا.
أما قضايا العقارات أو الأملاك المبنية فقد أصدرت محكمة المنصورة منها في المدة المذكورة بعض أحكام غير مهمة بلغت أثمان المبيع فيها 889 جنيهًا ومصاريف نزع الملكية 113 جنيهًا فكان متوسط ما أصاب الحكم 16 جنيهًا وكسورًا.
ولا يخفي أن المشتري الذي يرسو عليه المزاد يتحتم عليه أن يدفع غير الثمن مصاريف نزع الملكية ورسم البيع النسبي وهو 2 في المائة أو 5 في المائة حسب القانون ورسم إدارة القضية وقد بلغت مصاريف نزع الملكية في الأحكام الواحد والستين المتقدم ذكرها المختصة ببيع الأطيان 3397 جنيهًا، وكان متوسط ما أصاب الحكم 55 جنيهًا و700 مليم، أما رسم أوراق القضية فيبلغ 4 جنيهات في كل حكم.
وأهم ما يلفت النظر من أمر الأحكام المتقدمة أن الأراضي التي بيعت بالمزاد العلني في الثلث الأول من هذه السنة القضائية لتسديد الديون - وهي عبارة عن 7836 فدانًا - بيعت كلها إلا قليلاً منها للأجانب من دائنين وغير دائنين ممن رسا عليهم المزاد، وهذا معناه أن ترك الحبل على الغارب يؤدي بطبيعة الحال إلى حرمان البلاد من أكثر أراضيها الزراعية في المستقبل وإلى أيلولة تلك الأراضي إلى الأجانب.
ثم يلاحظ أن نفقات البيوع تبلغ مبالغ كبيرة في قضايا نزع الملكية ويرى القارئ أن نسبة هذه النفقات إلى الثمن في أحكام المنصورة تبلغ نحوًا من 13 في المائة، وهذا كثير جدًا لأن نسبة المصروف إلى الثمن في بيوع الأطيان تبلغ عادةً 4 في المائة، وفوق هذه النفقات يتحتم على البائع دفع رسوم أوراق القضية والرسم النسبي والتسجيل وكل هذه تضاف إلى الحساب وتسفر العملية عن خروج الفلاح من قضايا نزع الملكية خاوي الوفاض.
وقد ذكرنا في بعض الرسائل التي نشرناها منذ شهور قليلة في هذا الموضوع أن ما يذهب من الأملاك المرهونة بحكم البيع الإجباري إلى الدائنين الطالبي البيع لا تزيد قيمته على قيمة الدين وأن ما يؤول إلى غيرهم بالمزاد تزيد قيمته زيادة محسوسة، ويرى القارئ من البيان المتقدم أن الفرق بين هذا وذاك يبلغ عشرة جنيهات وأكثر للفدان الواحد.
إن أطيان الدقهلية لا يقل سعرها عادةً عن 70 أو 80 جنيهًا للفدان ولكن في قضايا نزع الملكية بيع الفدان منها بأقل من 45 جنيهًا فالفرق كان عبارة عن مجرد خسارة لا مبرر لها.
أننا نكرر لفت النظر إلى خطورة مسألة الديون الأهلية ونرجو أن يتيسر للباحثين فيها أن يحلوا عقدتها حلاً يحرر الأمة من نير الديون وحملها الثقيل.
الأوامر الإدارية واختصاص المحاكم بإلغائها
مجلة المحاماة - العدد السابع والثامن
السنة التاسعة 1929
الأوامر الإدارية واختصاص المحاكم بإلغائها
(1)
هل الأمر الذي يصدره مدير قلم المطبوعات بمصادرة مجلة معدة للنشر في المطبعة
وبمصادرة بعض كليشيهاتها يعتبر أمرًا إداريًا تمتنع المحاكم الأهلية بمقتضى المادة (15) من لائحة ترتيبها من تأويله أو إيقافه ؟
نصت المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية على أنه ليس لهذه المحاكم أن تؤول معنى أمر يتعلق بالإدارة ولا أن توقف تنفيذه……..، وإنما تختص بالحكم في كافة الدعاوى التي ترفع على الحكومة بطلب تضمينات ناشئة عن إجراءات إدارية تقع مخالفة للقوانين أو الأوامر العالية:
وفي كل يوم تحتك جهات الحكومة والإدارة بالأفراد احتكاكًا من شأنه أن يولد كثيرًا من المشاكل، ويثير أنواعًا من الاعتداءات على ما يعتقد الأفراد أنه حق من حقوقهم، من موظف مخدوع في حدود سلطته أو في أساس الحق المخول له بمقتضى القوانين واللوائح أو متعمد الخروج على القوانين والاعتداء على الحقوق، فيضطر الفرد الذي كان ضحية لشيء من هذا أن يطلب حماية القضاء ويسارع إلى رفع الأمر إليه طالبًا إيقاف العمل الذي يعتقد أنه مخالف للقوانين أو إلغاءه، فهل تقف المادة (15) حائلاً دائمًا بين القضاء وبين تأويل الأمر الإداري وهل يجب عليه دائمًا أن يرضخ لعمل الموظف الإداري ويحيطه بنوع من العصمة والتقديس بحيث لا يتعرض الحكم بإيقافه أو إلغائه ؟
إن ظاهر النص قد يوهم بذلك ولكن في الأمر تفصيلاً وبيانًا، فللجهات الإدارية أن تباشر أعمالها في حدود السلطة المخولة لها بمقتضى القوانين واللوائح (بشرط أن لا تخرج هذه اللوائح عما يقضي به القانون ولا تخالفه) فإذا خرج الموظف عن الحد المرسوم له كان عمله اغتصابًا للسلطة usurpation de pouvoir من شأنه أن يجعله في نظر القانون غير موجود inéxistant .
ولكن ما هي الدائرة التي يجوز للموظف أن يعمل فيها تحت حماية المادة (15) وبالتالي ما هو القياس الذي بمقتضاه يتيسر للقاضي أن يتبين إن كان ما عمله الموظف اغتصابًا للسلطة يجعل العمل الإداري غير موجود أو تعسفًا في استعمالها وتجاوزًا لها، من شأنه أن يجعل الإدارة مسؤولة عن التعويض.
قد يكون من أدق الأمور إيجاد هذا القياس خصوصًا إذا لاحظنا أن للإدارة سلطة وضع اللوائح فليست كل سلطتها وحقوقها محدودة في القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية ولكن هنالك اللوائح ووضعها وتنفيذها، على أنه يجب أن لا يغفل من حسابنا أن سلطة وضع اللوائح المنفذة للقوانين لم تمنح جزافًا بل أنها مقيدة بقيود (سنتكلم عنها فيما بعد) وأهمها أن لا تصدر مخالفة لنص القانون الذي وضعت لتنفيذه واحترامه.
ويرى هوريو في كتابه عن القانون الإداري طبعة سنة 1927 صـ 30 (أن حياة الفرد هي الأصل وهي الحقيقة الأولية وأن الحياة العامة هي الاستثناء الذي يعرض لحياة الأفراد ويحد منها، ويرى في هذا المبدأ حجر الزاوية في نظام حرية الأفراد).
ويتلخص الرأي الذي يكاد ينعقد عليه الإجماع فيما يلي (أنه لا يمكن القول بوجود عمل إداري إلا إذا كان الموظف قد استعمل حقًا خولته القوانين واللوائح لجهة الإدارة وكان استعماله طبقًا للإجراءات المحددة في اللوائح).
فإذا اتخذت جهة الإدارة إجراء من الإجراءات لم يخول لها إجراؤه بنص صريح في القوانين أو اللوائح كان عملها اعتداءً أو عملاً من أعمال القوة أو اغتصابًا لسلطة Voiés de fait.
وكذلك يعد عملها اغتصابًا للسلطة واعتداءً، إذا استعملت حقًا أو اتخذت إجراءً يخولها القانون اتخاذه، ولكنها لم تراعِ احترام الإجراءات التي وضعها الشارع لاستعمال هذا الحق حماية لحقوق الأفراد وصيانة لهم.
ففي الحالتين اعتداء واغتصاب أساس الأول عدم وجود سند من القانون وأساس الثاني عدم احترام الإجراءات الشكلية التي ينص عليها القانون أو اللائحة.
وقد ضربوا لذلك مثلاً بالنسبة للحالة الأولى بأنه ليس للإدارة في غير حالتي نزع الملكية للمنفعة العامة والتعبئة العسكرية أن تستولي على شيء مملوك للأفراد وبخاصة ليس لها حق المصادرة، كذلك ليس لها حق تعبئة الناس بشكل سخرة في غير القرعة العسكرية وصيانة الطرق القروية، كما أنها ليس لها أن تستبقى وطنيًا في السجن بأمر البوليس بدون حكم (نقض 3 أغسطس سنة 1824 قضية هاس ضد فلنتين) ولا أن تطرد فرنسيًا من فرنسا بأمر إداري:
ومثلوا للحالة الثانية بهدم عمارة آيلة للسقوط دون مراعاة الإجراءات التي نص عليها القانون في ذلك فإنه ولو أن جهة الإدارة تستند في إجراءاتها إلى قانون ونصوص صريحة إلا أنها بمخالفتها الإجراءات الشكلية الموضوعة لتقييدها في مباشرة عملها تكون بمثالة من يعمل بدون سلطة أو تفويض شرعي sans pouvoir (راجع سيري 1904 باب 3 صـ 17)، ولكن يجب أن يلاحظ أنه لا يكفي أن يرتكب الموظف خطأ أو إهمالاً في الإجراءات التي اتبعت بل يجب أن تكون جهة الإدارة قد تجاهلت هذه الإجراءات تجاهلاً تامًا.
وعلى كل حال ففي الحالتين يعتبر عمل الموظف اعتداءً وعملاً من أعمال القوة ولا يصح مطلقًا اعتباره عملاً من أعمال الإدارة وعلى ذلك فمن حق جهة القضاء العادية أن تأمر بإعادة الحق لصاحبه أو تقضي بالتعويضات إن كان لها محل بل ولها أكثر من ذلك أن تأمر بمنع الإجراء أن يتم بقرار مستعجل ويكون للمجني عليه في هاتين الحالتين أن يطالب بالتعويضات (حتى في فرنسا أمام جهات القضاء العادية لا أمام مجلس الدولة) إما ضد الموظف شخصيًا أو ضد جهة الإدارة، وتصبح المحاكم العادية مختصة لأنها ليست بصدد عمل إداري بل بصدد عمل من الأعمال العادية التي ليست له الصفة الإدارية Un fait de droit commun et non pasd’une opération administrative. ولا محل للبس بين الاعتداء الذي تكلمنا عنه وبين عمل الموظف في المصلحة faute de service أي الخطأ الذي يرتكبه الموظف في عمله فإنه يسأل عنه أمام المحاكم الإدارية، أما اغتصاب السلطة فهو بطبيعته يخرج عمل الموظف بعيدًا بالمرة عن نطاق الإدارة وإجراءاتها وبالتالي عن عمل الوظيفة.
كذلك لا يصح اللبس بين الاعتداء الذي تكملنا عنه وبين تجاوز حدود السلطة (éxcés de pouvoir) فالعمل الذي حصل فيه تجاوز لحدود السلطة أو غلو هو بالرغم من ذلك عمل إداري…، ويلاحظ أن الاعتداء بسبب فقدان الحق أو السند القانوني يقرب من تجاوز حدود السلطة من جهة أنه في الحالتين يخرج الموظف عن اختصاصه ولكنه في الحالة الأولى عدم اختصاص يصل إلى اغتصاب السلطة بحيث لا يوجد أقل ظل للاختصاص (لافريير جزء (2) نمرة (493))، وكذلك الاعتداء بسبب فقدان الإجراءات أو مخالفتها يقرب من تجاوز السلطة بمخالفة الشكل ولكن مخالفة الشكل تصل إلى درجة فقدان احترام الشكل بالمرة في الحالة الأولى.
هذا ما يقرره الأستاذ (هوريو ويمكن تلخيصه في أنه ليس للسلطة الإدارية أن تتخذ قرارات إدارية في شؤون غير داخلة في اختصاصها بالمرة، ومن غير مراعاة الإجراءات التي تنص عليها اللوائح والقوانين فإن فعلت كانت إجراءاتها لا قيمة لها بالمرة ووجب على القضاء أن لا يعبأ بعملها وأن يتخطاه بل يلغيه.
فمتى ثبت أن الأمر الموصوف بكونه أمرًا إداريًا خارج عن اختصاص السلطة الإدارية فلا تمنع المحاكم من تأويله ولا من إيقاف تنفيذه لأن هذا يكون اعتداءً وللسلطة القضائية أن ترد الاعتداء وتعيد الحق إلى نصابه.
ونكرر هنا ما سبق إيضاحه من أن هذا قاصر على الحالتين اللتين حددناهما أما في حالة ما يتجاوز الموظف الحد بأن أجرى عملاً هو في الأصل من اختصاصه ولكن حصل تجاوزه، ففي هذه الحالة الأخيرة وحدها تكون المحكمة ممنوعة من إيقاف التنفيذ ومن التأويل والتفسير.
(راجع هوريو صـ 32 وما بعدها).
وإتمامًا للبحث نستعرض هنا آراء بعض الشراح في فرنسا، وقضاء المحاكم في مصر:
1 - آراء الشراح بفرنسا:
1/ رأي العلامة ديجوي في مؤلفه عن الدستور جزء ثالث طبعة ثانية صـ 30 نبذة 55.
1) ليس لرجال السلطة الإدارية أن يعملوا عملاً مما يدخل في اختصاص السلطة القضائية إلا إذا أعطاهم القانون هذا الاختصاص بنص صريح، فإذا أقدم موظف إداري على عمل مما يدخل بطبيعته في حدود اختصاص السلطة القضائية ارتكب ما يعتبر اغتصابًا للسلطة وأصبح عمله غير موجود وكان آثمًا لارتكابه عملاً من أعمال القوة يستوجب مسؤوليته.
2) وقال في صـ 48 بعد أن تكلم عن اختصاص مجلس شورى الدولة وتاريخ إنشائه ومصدر سلطته: (إن قاعدة أنه ليس للجهة القضائية أن تفسر الأمر الإداري أو أن تفصل في مشروعيته لها استثناءً هام فإن للمحكمة القضائية التي يحصل التمسك أمامها بلائحة إدارية كل الاختصاص في تفسيرها لمعرفة ما إذا كانت تلك اللائحة في الواقع عملاً إداريًا أم لا، على أننا لو دققنا في الأمر لا نجد أن في إعطاء القضاء سلطة تفسير اللوائح مساسًا بمبدأ انفصال السلطات، لأن اللائحة إن كانت عملاً إداريًا لأنها صادرة من سلطة إدارية فإنها من الجهة المادية قانون أي قاعدة عامة ملزمة للأفراد ومن ورائها السلطة القضائية تكفل احترامها ولهذا كان للسلطة القضائية بل عليها واجب تفسير القوانين التي تكلف بتطبيقها، والقول بغير ذلك من شأنه أن يعوق القضاء عن القيام بمهمته.
وقال في صـ 50 (على أنه ليس للجهة القضائية فقط أن تفسر اللوائح الإدارية التي يحصل التمسك بها أمامها، بل لها أيضًا أن تبحث في مشروعيتها وانطباقها على دستور البلاد، فإذا تمسك أحد بعدم قانونية اللائحة كان هذا الدفع مقبولاً ووجب الفصل فيه.
وإذا وجدت المحكمة المطروح أمامها النزاع أن اللائحة المتمسك بها هي في الواقع مخالفة للقانون فيجب أن تعلن ذلك، حقيقة أنه لا يصح أن تعلن إلغاء اللائحة بل يكفي أن تعلن عدم مشروعيتها وأنها لن تطبقها على النزاع المطروح أمامها وقضاؤها في ذلك يكون قاصرًا على النزاع المذكور، وتبقى اللائحة قائمة………
وهذه السلطة المعترف بها للقضاء في إعلان بطلان اللوائح الإدارية المتمسك بها أمامها هي في الواقع استثناءً لمبدأ انفصال السلطات، ولكن تعليل ذلك سهل، إذ يجب أن نذكر أن قانون العقوبات الصادر في سنة 1832 نص في المادة (471) منه على أن (يعاقب بغرامة)……. من يخالفون أحكام اللوائح العمومية أو المحلية الصادرة من جهات الإدارة العمومية أو البلدية أو المحلية..، وبأخذ هذه المادة على ظاهرها يتضح أن الغرض منها أن يسمح لمحاكم المخالفات بالفصل في مشروعية اللوائح التي على أساسها تقدم المخالفات إليها للفصل فيها: وهو أمر معقول إذ من البديهي أن لكل محكمة جنائية السلطة التامة والاختصاص الكامل بتقدير العناصر المكونة للجريمة التي هي موضوع المحاكمة أمامها، ومن أهم العناصر المكونة للمخالفة هو بلا شك مشروعية اللائحة.
فالمنطق السليم يقضي بضرورة الاعتراف لجهة القضاء بحق تقدير قانونية اللائحة.
…. وقد أصبح هذا أمرًا مسلمًا به، وما كان مبدأ خاصًا فقط بتطبيق لوائح البوليس أصبح الآن مبدءًا عامًا منطبقًا على كافة اللوائح وأصبح استثناءً هامًا واردًا على مبدأ انفصال سلطتي الإدارة والقضاء.
(محكمة النقض بفرنسا سيري سنة 1903 جزء أول 21 صـ 489).
(5 - ثم تكلم في نبذة 100 صـ 709 عن تعريف اغتصاب السلطة فقال (يوجد اغتصاب السلطة في كل عمل مادي أو إجراء تنفيذي على الأشخاص أو الأموال بحيث يخرج به الموظف الإداري من دائرته الإدارية، إذ بحسب التشريع الفرنساوي كل إجراء تنفيذ على الأشخاص أو الأموال يجب أن يقوم به موظف قضائي وبهذا يقضي مبدأ انفصال السلطات……
ثم فرق بين هذا العمل وبين تجاوز حدود السلطة éxcés ou abus du pouvoir فقال (إن تجاوز السلطة يكون عندما يعمل الموظف الإداري عملاً ماديًا في دائرته الإدارية أو عملاً تنفيذيًا على النفس أو المال يعطيه له القانون بنص صريح….، ولكنه يرتكب خطأ إما لأن الموظف الذي قام بالعمل شخص غير الذي أناطه القانون بعمله وإما لأنه وإن كان يرمي إلى غاية إدارية إلا أنه كان موجهًا عمله إلى غاية أخرى لم يقصدها القانون..
وقرر في صـ 712.. أن محكمة النقض والإبرام بفرنسا قررت في سنة 1913 أن وضع الأختام على معمل بسبب عدم ملاءمته للشروط الصحية عمل تنفيذي على الأموال من اختصاص السلطة القضائية دون غيرها، وقالت في حكمها (إنه إذا كان لمدير البوليس الحق في إنذار الشركة بأن توقف أعمالها الخاصة باستثمار حمض الكبريت الأسود حتى تحصل على رخصة فإنه يعتبر متجاوزًا السلطة إذا أمر بوضع أختام على المحلات التي تستثمر فيها تجارتها، لأن هذا العمل هو في الواقع إجراء تنفيذي ليس لأحد أن يأمر به إلا جهة القضاء (7 نوفمبر سنة 1913 مجموعة صـ 1055)، وقال في صـ 714 وما بعدها.
(يوجد اغتصاب للسلطة في عمل الموظف الإداري إذا خرج عن دائرته الإدارية ويكفي أن نقرر هنا زيادة على ما قررناه قبلاً أن الموظف الإداري في نظر المشرع الفرنساوي يخرج من دائرته الإدارية في كل مرة يتخذ فيها قرارًا يمس مباشرةً الحرية الشخصية أو ملكية الأفراد من غير أن يوجد نص صريح يخوله هذه السلطة، كأن يصدر موظف إداري في غير الأحوال المنصوص عليها في قانون تحقيق الجنايات أمرًا بالقبض على فرد، أو بمصادرة ملكيته أو يتخذ إجراءً تنفيذيًا على مال بطريق الإكراه.
وقرار كهذا ليس باطلاً فقط بل هو غير موجود وكأنه لم يكن، وما دام الموظف الإداري قد خرج من دائرة اختصاصه الإداري فأمره ليس إلا واقعة أو فعلاً من الأفعال Fait ليس له أية صفة ولصاحب الشأن أن يتصرف كما لو كان الأمر لم يصدر مطلقًا، وإذا قامت في سبيل ذلك عقبة من العقبات فإنها تكون من اختصاص القضاء العادي لأننا لسنا بصدد تفسير أمر إداري لأن الأمر غير موجود، بل أن نفس الموظف مسؤول شخصيًا أمام المحكمة العادية ولقد قلنا فيما سبق إن العلامة Laferrière قد قرر بطريقة قاطعة في جلائها ووضوحها أن الموظف الإداري عندما يتعدى اختصاصه الإداري بالفعل الذي يعمله ليس فقط باطلاً بل غير موجود ويعتبر اغتصابًا للسلطة وأنه يصح الالتجاء إلى المحاكم القضائية العادية كما يصح رفع مسؤولية الموظف شخصيًا إليها وهذه ترجمة حرفية:
(هناك حالة لا يكون للعمل الذي يعمله الموظف الإداري أية صفة إدارية من شأنها أن تبعده عن اختصاص القضاء العادي، تلك هي الحالة التي لا يخرج فيها الموظف عن دائرة اختصاصه فقط بل عن دائرة العمل المباح للسلطة الإدارية، فمثلاً إذا صادر موظف إداري ملكية فرد من الأفراد أو حرم وطنيًا من حريته الشخصية أو ألغى جريدة أو حرم عليه تجارة أو صناعة فإن مبدأ انفصال السلطات لا يمنع الشخص الذي ناله الضرر من أن يستعين بالقضاء العادي على درء هذا الاعتداء بل أنه يستوجب بالعكس أن اختصاص هذه المحاكم يجري بتمام الحرية كما لو كان القرار الإداري غير موجود، فإن هذا القرار لا يكون فقط محلاً للإبطال بل أنه يكون غير قائم قانونًا لأنه بموضوعه غريب عن اختصاص الموظف الإداري (جزء أول صـ 479 طبعة ثانية).
(وعلى هذا الرأي أيضًا هوريو فقد قرر أن السلطة الإدارية ترتكب عملاً من أعمال القوة أو اغتصاب السلطة قهرًا إذا استعملت حقًا لم ينص عليه قبل ذلك في تشريع خاص….، وفي أعمال القوة نكون دائمًا بصدد عمل شخصي للموظف، لا عمل إداري للسلطة التي يمثلها).
….. ولقد أوضحت في نبذة (72) من كتابي كيف أن الموظف يخرج نفسه بعيدًا عن نطاق السلطة الإدارية إذا كان موضوع الأمر الذي يصدره أو الغاية المقصودة منه لا تتفق في شيء مع طبيعة الولاية على السلطات الإدارية العامة ولا محل للعودة إلى هذه المسألة وإنما يكفي هنا أن ألاحظ أن مسؤولية الموظف شخصيًا لا تنفي وجود طرق الطعن الأخرى التي يكون لصاحب الشأن أن يلجأ إليها لمنع استمرار الحالة الغير الشرعية الناشئة من اغتصاب السلطة.
(ولا ضرورة مطلقًا إلى التمسك ببطلان العمل أمام المحكمة الإدارية لأنه ما دام العمل غير قائم فلصاحب الشأن الحق في الالتجاء إلى كافة الطرق القانونية ورفع الأمر أمام القضاء العادي فمثلاً إذا أمرت جهة الإدارة بمصادرة ملكية شخصية كان الشيء المصادر لا يزال في حيازتها فلصاحب الشأن أن يرفع ضدها دعوى باسترداد هذه الأشياء أمام المحاكم القضائية العادية) أهـ.
وينبني على هذا أنه لا يمكن أن يقال إن المادة (15) تلزم القضاء باحترام كل عمل يصدر عن الإدارة دون بحث فيه أو تفسير له أو تأويل لمعناه لمعرفة إن كان أمرًا إداريًا في حدود سلطة المصدر له وبالطريقة والإجراءات المنصوص عليها أم لا ؟
قد يقال إن المادة (15) تمنع المحاكم من أن تؤول معنى أمر يتعلق بالإدارة بصفة مطلقة وظاهر النص يوهم بأن الأمر متى كان صادرًا من الإدارة فيجب الامتناع عن تفسيره أو إيقاف تنفيذه، ولكن الواقع أن المشرع لم يرد شيئًا من هذا وما كان من المعقول أن يقصده، إذ أنه قبل أن يمنع القضاء من المساء بأمر إداري، يجب أولاً أن يثبت له أنه أمر إداري أو أمر متعلق بالإدارة، فمن حق القضاء بل من واجبه عندما تتمسك الحكومة أمامه بأمر إداري أصدرته أن يبحث في حقيقة الأمر ومعناه، لا في اسمه ومسماه فقد يكون ما تسميه الحكومة أمرًا إداريًا هو في الواقع حكم قضائي اعتدت حين أصدرته على سلطة القضاء فهل يرضخ القضاء لهذا الاغتصاب ويقره.
قال الأستاذ أحمد صفوت في كتابه شرح قانون العقوبات صـ 10 ما نصه (وعلى القاضي أن يتأكد من شرعية اللوائح والقرارات الإدارية بموافقتها للقانون من أوجه: 1 - أنها صدرت وفقًا لقانون يجيز إصدارها.
2 - من سلطة فوضها القانون بإصدارها.
3 - في موضوع خصها بإصدارها فيه.
ويقول القاضي مسينا Messina في كتابه عن الاختصاص الإداري صـ 7 (إذا كان أساس الدعوى هو الضرر الناشئ عن عمل إداري مخالف للقانون أي غير مطابق للقوانين واللوائح فإن القيود التي أوردتها المادة (11) مختلط المقابلة للمادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية) على اختصاص القضاء بالنسبة لمنعه من تأويل الأمر الإداري أو إيقاف تنفيذه لا يمكن لجهة الإدارة أن تتمسك بها ما دامت قد عملت خارج دائرة اختصاصها وما دامت هذه القيود لم توضع إلا لحماية الإجراءات التي تباشرها الإدارة في دائرة هذه الحدود، إذ المادة (11) قاصرة على حالة ما تمس حقوق الأفراد بحق ولأسباب متعلقة بالمصلحة العامة.
وقد زاد هذا إيضاحًا في كتابه صـ 32 (بقوله إن الأعمال الإدارية التي تحرم المحاكم المختلطة من الفصل فيها أو تأويلها أو إيقاف نفاذها هي الأعمال التي من حيث الشكل: صدرت من السلطة الإدارية في دائرة اختصاصها وبالشكل الذي يشترطه القانون: ومن حيث موضوعها ترمي إلى تحقيق مصلحة عمومية:
(S’il est vrait que les Tribunaux de la Réforme ne peuvent ni intérpréter, ni arréter l’exécution d’une mésure administrative, la défense ne s’applique q’au eas où cette mesure a été prise:
(a) dans le cercle des attributions qui appartiennent au Guvernment: (R. O. VII p. 145; Borrelli p. 10 No. 14: application au cas d’une saisie, pratiquée pour assurer le recouvrement d’un impôt don’t la légalité était contestée par les puissances)……..
(b) et plus précisement dans le cercle des attributions de l’autorité administrative compétente pour l’ordonner. Et
(c) conformément à la loi et dans le formes par elle réquises: démolition d’un mur qui avait été construit sans contrevenir aux réglements du Tanzim; fermeture d’un imprimerie (Borelli p. 62. No. 2); etablissement d’un canal sans l’observance des formalité; et (c) dans l’interêt general, dans un but d’utilité publique.
وجاء فيه في صفحتي 80 و81 عما إذا كان للجهة القضائية أن تفسر الأمر الإداري وتؤول معناه لمعرفة مبلغ انطباقه على القانون من عدمه ما نصه (أن نص المادة (11) قد تجاوز غرض المشرع بتحريمه على المحاكم في عبارة عامة مطلقة تفسير الأمر ولو روعي ظاهر النص تمامًا لاستحال العمل خصوصًا مع عدم وجود سلطة جعل من اختصاصها هذا التفسير - وحتى لو أمكن العمل مع ظاهر النص لكان الأمر من الغرابة بمكان في بلد كل قانونها الوضعي صدر لغاية اليوم بشكل قانون أو لائحة أو مرسوم في صورة عمل حكومي acte du gouvernment وكيف يتيسر للقضاء أن يفصل في مخالفة عمل إداري للقانون أو لحقوق الأفراد إذا لم يكن له أن يفسر هذا الأمر ويفهم معناه دع حالة ما يكون الأمر غامضًا ويحتاج الحال في تنفيذه إلى تفسيره فإن هذه حالة ممنوعة فيها المحاكم من التفسير).
ويقول الدكتور عبد السلام بك ذهني في كتابه عن مسؤولية الحكومة المصرية (إذن للقضاء أن يؤول - ولكنه في الواقع لا يؤول بل هو يسعى لمعرفة حقيقة الموضوع الذي أمامه: يقول Vaccelli من المسائل الهامة أن تمتنع السلطة القضائية من إصدار أحكام يكون من شأنها تعطيل الأعمال الإدارية، ولكن من طريق آخر لا تلزم بالأخذ بأي عمل إداري بمجرد صدوره من السلطة الإدارية وإلا أصبحت حماية القضاء للحقوق الشخصية كأنها لغو ولا أثر لها، ومن هنا تنشأ الحدود الفاصلة بين السلطتين وهي هذه: منع السلطة القضائية من إلغاء العمل الإداري، اختصاصها بمعرفة ما إذا كان العمل الإداري مطابقًا للقانون أم لا، التزامها باحترام الأعمال الإدارية والأخذ بها متى كانت متعلقة بمسائل داخلة في دائرة اختصاصها.
وجاء في صـ 412 منه عن ضرورة احترام الحكومة لشكل الإجراءات أيضًا ما نصه (كلما يطرح أمام القضاء عمل إداري مطعون وجب عليه أن يبحثه من الوجهة الشكلية لمعرفة ما إذا كان مطابقًا في شكله للشرائط القانونية وما إذا كان صادرًا من السلطة المختصة أم لا…، فإذا رآه صحيحًا نفذ المادة (11) فلا يؤوله ولا يوقف تنفيذه).
وجاء في صـ 327 ما نصه (بهذا قضى على المبدأ القائل بعدم مسؤولية الحكومة متى كانت أعمالها مطابقة شكلاً فقط للقوانين واللوائح.. لأنه لا بد أيضًا من الأخذ بروح القانون…، وأنه لا يجوز الوقوف في الأعمال الإدارية عند مراعاة الشكل فقط…. بل يجب أن يذهب بعيدًا أيضًا في صبر غور القانون ومعرفة غرض الشارع من إصداره حتى لا تلعب به أيدي اللاعبين فيستخدمونه في قضاء مآرب لهم ممقوتة بما يلبسون به أعمالهم الإدارية من موافقتها شكلاً للقانون واللوائح ومخالفتها لها موضوعًا…. وراجع أيضًا صـ 329 صـ 33.
ويقول المسيو دوهلتس في كتابه عن القانون المدني جزء أول صـ 354 وما بعدها نبذة 63.
(من مميزات الأعمال الإدارية:
1 - أن يقوم بها موظف إدارية.
2 - أن تنفذ طبقًا للسلطات التي تمنحها لهم هذه الصفة في دائرة اختصاصها.
فالأمر الذي يصدره موظف إداري حتى ولو كان معتمدًا في إصداره على هذه الصفة، ولكنه يخرج بالكلية عن اختصاصاته كالأمر الذي يصدره مأمور الجمارك في شؤون الري لا يعد أمرًا إداريًا ولكنه اغتصاب للاختصاص يستوجب مسؤولية فاعلة شخصيًا من غير أن يترتب عليه مسؤولية على الحكومة (؟)، وللمحاكم كذلك أن توقف تنفيذ مثل هذه الأوامر (نبذة (64) صـ 355)، ولكن الأمر يستبقي صفته كأمر إداري إذا كان الموظف وهو يعمل في حدود اختصاصاته لم يزد عن كونه تجاوز الحد في السلطات التي تخوله إياها صفته مبالغة منه في استعمال هذه السلطات).
2/ قضاء المحاكم الأهلية:
1) حكمت محكمة العطارين في 7 يناير سنة 1919 حكمًا منشورًا بمجلة الحقوق سنة خامسة وثلاثين صـ 45 جاء فيه (قضت المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية بمنعها من نظر أي قضية يكون في موضوعها تأويل معنى أمر يتعلق بالإدارة أو إيقاف تنفيذه فإذا اتخذت الإدارة إجراءات نزع ملكية أطيان بالطريقة الإدارية المنصوص عليها في قانون 15 مارس سنة 1880 وباعتها فعلاً ورغب مالك الأطيان الأصلي استرداد أطيانه بناءً على بطلان إجراءات الإدارة فقاضاها أمام المحاكم طالبًا رد الأطيان إليه وإلغاء البيع الحاصل عنها والمطعون فيه كانت المحاكم مختصة بسماع الدعوى لأن طلبات المدعي فيها لا يقصد منها تأويل أمر إداري ولا إيقاف تنفيذه بل إبطال إجراءات وقعت مخالفة لنصوص القانون ونتج منها مساس بحقوق المدعي.
2) محكمة طنطا الابتدائية يونيه سنة 915 مجلة الحقوق سنة ثلاثين صـ 285:
يشترط في الأمر المتعلق بالإدارة المنصوص عنه في المادة (15) من لائحة الترتيب شرطان:
الأول: أن يكون صادرًا من إحدى جهات الحكومة.
والثاني: أن يكون متعلقًا بوظيفتها بصفتها سلطة عمومية فإن فقد شرط من هذين الشرطين فلا منع، وعلى ذلك تكون الجهات الخارجة عن الحكومة مهما كانت رابطتها بها وكذلك جهات الحكومة عن أعمالها التي تؤديها بصفتها الشخصية خاضعة لأحكام المحاكم.
3) حكم محكمة المنصورة بتاريخ 2 يناير سنة 926 المنشور بمجلة الحقوق سنة سادسة صـ 243:
(إذا باشر المجلس البلدي بمعرفته نزع ملكية عقار للمنفعة للعامة قبل صدور الأمر العالي وقبل إعلانه لأصحاب الملك وبدون مراعاة القيود والشروط الواردة في قانون نزع الملكية وجب الحكم بإبطال إجراءاته، ويصح الحكم ببطلان الإجراءات التي يتخذها على وجه الاستعجال ما يصح شمول الحكم الصادر ببطلان الإجراءات بالنفاذ المعجل إذا كانت هناك ضرورة للاستعجال) [(1)].
(2)
2 - أحكام المحاكم المختلطة:
ذكر المسيو بوريللي في كتابه صـ 10 أحكامًا كثيرة تعليقًا على المادة (11) القديمة من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة نذكر منها ما نشره تحت نمرة (11) و(14) و(15) و(21).
( أ ) حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 27 يناير سنة 1881 وهو يقضي بأن نظام المطابع الذي كان العمل جاريًا عليه في مصر خاضع للمواد (167) إلى (172) من قانون العقوبات الجديد وبناءً عليه فلا يمكن إصدار أمر بإقفال مطبعة إقفالاً مؤقتًا أو نهائيًا إلا بواسطة المحاكم في الأحوال المنصوص عنها قانونًا وتبعًا للحكم في مخالفة اللوائح الخاصة بهذا الموضوع، ولا يمكن بأي حال أن يصدر هذا الأمر بمجرد أمر إداري.
(ب) وحكمت في 20 إبريل سنة 1882 بأن منع المحاكم المختلطة من تأويل معنى أمر إداري أو إيقاف تنفيذه لا ينطبق إلا على الحالة التي يكون فيها هذا الأمر صادرًا في حدود اختصاصات الحكومة بدون منازع فيها من جانب الدول الأجنبية وبناءً عليه فإن المحاكم المختلطة مختصة بالفصل في صحة الحجز المتوقع من الحكومة صد أحد الأجانب إذا كان الغرض من هذا الحجز تحصيل ضريبة تنازع هذه الدول في شرعيتها.
(ج) وحكمت في 25 مايو سنة 1882 بأن للمحاكم الحق في أن تبحث فيما إذا كان الأمر متعلقًا بالإدارة وصدر بشأن مصلحة عمومية وطبقًا للقوانين والأوامر العالية الجاري العمل بها.
(د) وحكمت في 16 ديسمبر سنة 1886 بأنه ولو أن المحاكم ممنوعة من تأويل معنى أمر إداري ومن إيقاف تنفيذه فإن ذلك تحت شرط أن يكون هذا الأمر قد اتخذ لغرض منفعة عمومية لأجل الصالح العام وطبقًا للقوانين والأوامر العالية الجاري العمل بها، وفي حدود اختصاصات العامل الذي أصدره، وبناءً عليه فإن الأمر الصادر من المهندس المكلف بتنظيم توزيع المياه بين أملاك المتجاورين بفتح أو إقفال بعض المساقي يعطي للمالك المضرور حق رفع دعوى منع التعرض.
(هـ) وجاء في مجلة التشريع والقضاء المصري المختلط سنة ثامنة وعشرون صـ 105 حكم صادر من محكمة الاستئناف المختلطة في 13 يناير سنة 1916 بأن إجراءات نزع الملكية التي تجريها الحكومة لتحصيل الضرائب لا تعد أصلاً أوامر متعلقة بالإدارة بالمعنى المقصود من المادة (11) فيجوز إذن للمحاكم المختلطة إلغاؤها لعدم استيفائها الشروط المطلوبة.
(و) أما الحكم الصادر في قضية المستر كارتر فلم يخرج عن هذا المبدأ مطلقًا وذلك أن حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 12 إبريل سنة 1924 في تلك القضية صدر في الظروف التالية.
كانت مصلحة الآثار التابعة لوزارة الأشغال منحت امتيازًا بالترخيص للورد كارنارفون ثم لأرملته من بعده بالبحث والتنقيب في وادي الملوك على شرط أن يقوم كارتر بالأعمال، وبشرط أن كل مخالفة للشروط المقررة يترتب عليها حتمًا وبدون إنذار أو غير ذلك من الإجراءات إلغاء الترخيص ثم تتخذ مصلحة الآثار الإجراءات اللازمة بالطرق الإدارية: خالف كارتر الشروط فأصدرت وزارة الأشغال في 20 فبراير سنة 1924 قرارًا بموجبه ألغت الامتياز الممنوح للأدى كارنارفون وكلفت مدير مصلحة الآثار باتخاذ التدابير اللازمة لصيانة الآثار، رفع كارتر الدعوى فقضت محكمة الاستئناف ضده وقالت في أسباب حكمها (تحديدًا للمعنى الذي أراده المشرع بالعمل الإداري).
(وحيث إنه يجب أن يكون المقصود بذلك الأمر كل تصريح بإرادة يصدر به قرار من الإدارة بصفة كونها سلطة عمومية وفي حال قيامها بوظائفها التي يسندها إليها القانون ويكون مستوفيًا للأوضاع المقررة قانونًا وفي سبيل مصلحة عامة وهذا على خلاف الأعمال التي تقوم بها الإدارة لا بصفة كونها سلطة عمومية بل بصفة كونها طرفًا متعاقدًا).
(وحيث إن القرار المشار إليه الذي أصدرته الإدارة المختصة في 20 فبراير سنة 1924 بصفة كونها سلطة عمومية وفي حدود الوظائف المسندة إليها التي تتناول على التخصيص حراسة وحفظ الآثار التي لا حاجة بنا لبيان كونها حائزها لصفة المصلحة العامة هذا القرار لا شك في أنه مستوفٍ لجميع الشرائط المطلوبة لتكوين الأمر الإداري….).
تبين من كل ما تقدم أن من حق القضاء العادي دائمًا أن يبحث في حقيقة الأمر الذي تتمسك به جهة الإدارة لمعرفة مبلغ مطابقته للقانون واحترامه للإجراءات التي وضعها لكفالة الحريات الخاصة والعامة وحقوق الأفراد فإذا ظهر له من بحثه أن الإدارة قد خرجت عن دائرة حقها بأن أصدرت أمرًا لا تجد لها من القانون سندًا لإصداره أو أصدرته متجاهلة ما ينص عليه القانون من إجراءات قضت بإلغائه لأنها ليست بصدد أمر إداري يكفل له القانون الحماية والاحترام، بل بصدد اعتداء واغتصاب.
الدستور المصري وقانون المطبوعات
وقد أخذت محكمة مصر الاستئنافية بحكمها الذي أصدرته (في قضية الست روز اليوسف [(2)] ضد وزارة الداخلية) بهذا المبدأ (يراجع الحكم في هذا العدد في باب الأحكام الكلية).
كانت نظرية محكمة الاستئناف في هذا الحكم أن الأوامر الإدارية التي منع الشارع المحاكم الأهلية من تأويلها أو إيقاف تنفيذها ونص على قصر حق تقاضي الأفراد بشأنها على المطالبة بالتعويض إنما هي الأوامر والإجراءات التي تدخل في الاختصاصات التي تخولها القوانين واللوائح للسلطة الإدارية فإذا تعدت اختصاصها لا يكون أمرها أمرًا إداريًا محترمًا وإنما يقع باطلاً ليس له أية صفة قانونية ثم رجعت المحكمة إلى قانون المطبوعات وقررت أن الدستور في المادة (15) نص على حرية الصحافة في حدود القانون كما نص على منع الرقابة على الصحف أو إنذارها أو وقفها بالطريق الإداري فألغى بذلك المادة (13) وما يرتبط بها من مواد الأمر العالي الصادر في نوفمبر سنة 1881.
وحيث إن الدستور لم يتعرض لباقي نصوص قانون المطبوعات فكل مواده التي لا تتعارض ولا تتناقض مع نصوص الدستور الصريحة تبقى نافذة.
وحيث إن المادة (10) من قانون المطبوعات نصت على أنه يجوز للحكومة ضبط ومصادرة جميع الرسومات والنقوشات……… متى تراءى لها أنها مغايرة للنظام العمومي أو الآداب أو الدين وهو نص عام يدخل تحته الجرائد والمجلات وأنه يستحيل عمليًا مصادرة النقوشات والرسومات التي تطبع في عدد من جريدة أو مجلة بغير مصادرة العدد نفسه.
وحيث إن نص المادة (10) لم يتعرض له الدستور بالإلغاء ولا يمكن القول بأن بينه وبين المادة (15) من الدستور أي تعارض أو تناقض لأن ضبط ومصادرة الرسومات والنقوشات ليس من قبيل الوقف أو الإلغاء لأن الإلغاء هو منع الصحيفة من الصدور نهائيًا والوقف هو منعها منعًا مؤقتًا لمدة معينة وبناءً على ذلك رأت أن الإجراء الذي اتخذه البوليس يستند إلى قانون نافذ فالمحكمة ممنوعة من تأويله، أما البحث في سداد هذا الأمر أو عدالته فإن محله دعوى التعويض.
يستدعي البحث مناقشة المسائل الآتية:
أولاً: أثر صدور الدستور المصري في قانون المطبوعات.
ثانيًا: إثبات أن المادة العاشرة من قانون المطبوعات لا تنطبق على الجرائد والمجلات.
ثالثًا: إثبات أن الحكومة في تصرفها قد خالفت القوانين المرعية وتعسفت.
عن المسألة الأولى:
صدر الدستور المصري كافلاً لحرية الرأي على اختلاف صورها ومظاهرها فنصت المادة (14) منه على أن (حرية الرأي مكفولة)، ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون.
ونصت المادة (15) على (أن الصحافة حرة في حدود القانون، والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو قفلها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك، إلا إذا كان ذلك ضروريًا لوقاية النظام الاجتماعي).
وهنا يعرض السؤال التالي وهو هل أراد واضع الدستور بعبارة في حدود القانون التي وردت في المادتين (14) و(15) من قانون المطبوعات وبفرض أنه أراده فهل أراد كل نصوصه أو أن بعضًا منها نسخ.
قبل أن نجيب على هذا السؤال نقدم بين يدي بحثنا طائفة من الوثائق الرسمية التي صدرت قبل الدستور أو معه وهي تلقي كثيرًا من النور على هذا الموضوع وتكشف عن وجه الحق فيه.
أولاً: مناقشات لجنة الدستور:
يكفينا هنا أن نلخص المناقشة التي دارت في لجنة الدستور فقد افتتح المناقشة المرحوم المكباتي بك طالبًا تغيير عبارة (بشرط أن تراعي حدود القانون) بعبارة ([شرط أن تراعي حدود القوانين العامة)، وقد أيده علي ماهر بك في رأيه حيث قال على أثره بعد أن قدم اقتراحًا خاصًا شرحه فيما يلي (أريد من إثبات هذا النص أنه لا يمكن ولا للبرلمان وخصوصًا في الأحوال العادية وضع الصحافة تحت أي رقابة ولا أن يكون للسلطة الإدارية الحق في منع أحد من إصدار صحيفة، أرى أن يكون هذا الحق ثابتًا مطلقًا من كل قيد فإذا أساء أحد استعماله بأي نوع من أنواع الإساءة ففي القانون العادي غنى وكفاية.
وقام على إثره (عبد العزيز فهمي بك) وقال إن رأيه (أن تطلق الحرية الصحافية إطلاقًا تامًا والحرية نفسها كفيلة بتنظيم نفسها وتطورها مع الزمن إلى الأصلح والأنفع... أني أميل الآن الرأي الثاني وهو إطلاق الحرية للصحافة.
تساءل بعد ذلك (محمد علي بك) قائلاً هل يعطي للبرلمان الحق في سن القوانين اللازمة للصحافة تأمينًا للنظام وصونًا للأعراض أم لا.
علي ماهر بك: هذا تكفل به قانون العقوبات، والذي أريد أن لا يكون للبرلمان قوانين تبيح للحكومة مراقبة الصحف أو عدم الترخيص بإصدارها وظاهر من هذا إذًا أن المناقشة كانت دائرة حول تقييد سلطة البرلمان في إصدار قوانين خاصة بالصحافة ففريق كان يرى أن لا محل لتقييد سلطة البرلمان في التشريع ما دام قد وضع الأساس الكافل لحرية الصحافة ومنع مراقبتها ورفع يد الإدارة عنها، وفريق كان يرى أن قانون العقوبات كفيل بمؤاخذة الصحفي الذي يرتكب إثمًا وفيه غنى وكفاية ولا محل لوضع قانون آخر ولكن لجنة الدستور رأت أن لا تأخذ بالرأي الأخير أي أنها تركت للبرلمان أن يشرع للصحافة ويجعل لها قانونًا ما دام تشريعه يكون متفقًا مع ما قرره من المبادئ الأساسية الكفيلة بحرية الصحافة وحرية الرأي وما دامت هذه الحرية أصبحت من المبادئ الأساسية التي لا يجوز لأية سلطة من سلطات الدولة اقتراح تعديلها (مادة (156) من الدستور).
فعبارة (في حدود القانون) التي جاءت في صدر المادة (15) وفي عجز المادة (14) ليس المقصود منها الإحالة على قانون المطبوعات مطلقًا وإنما أريد منها قانون العقوبات الحالي.
ثانيًا: مذكرة لجنة الدستور:
على أن كل شك في الأمر يزول بالاطلاع على مذكرة لجنة الدستور وهي تفسر المادة (15) حيث تقول (قد كان مما ينظم أمور الصحافة عندنا قانون المطبوعات وفيه إثبات حق الإدارة في إنذار الجرائد وتعطيلها ووقفها وإذ هي لم تكن من حيث ما يكتب فيها إلا صورة خاصة من إبداء الرأي رأت اللجنة للتسوية بينها وبين صورة الأخرى في الحكم ألا يكون حسابها على ما يقع منها إلا بطريق القضاء وعلى حسب ما يضعه القانون من الحدود، ولذلك حذرت إنذارها أو وقفها أو إلغاءها من أجل ما ينشر فيها بالطرق الإدارية.... إلخ) (راجع الجلسة التاسعة والثلاثين من محاضر لجنة الدستور).
فظاهر من هذا أن اللجنة ما فكرت لحظة واحدة أن قانون المطبوعات سيظل قائمًا بعد الدستور فعبرت عنه بالفعل الماضي، وقررت في صراحة أن حساب الصحف في المستقبل على ما يقع منها سيكون بطريق القضاء (لا بطريق الإدارة) وعلى حسب ما يضعه القانون من الحدود.
ثالثًا: مذكرة وزير الحقانية:
تأكد هذا المعنى مرة أخرى بمذكرة وزير الحقانية التي نشرها يوم صدور الدستور وجاء فيها (وقد ضمنت حرية الصحافة بالمادة (15) من الدستور وهذه الحرية لا تقيد فيما بعد مبدئيًا إلا بنصوص قانون العقوبات فلا يمكن إقامة الرقابة المنعية عليها ويمتنع إنذار الصحف أو تعطيلها أو إلغاؤها بواسطة الإدارة فكل نظام قانون المطبوعات الذي سن في 26 فبراير سنة 1881 يجب أن يجعل مطابقًا للمبادئ الجديدة، ولكن يبقى هنالك استثناء واحد لإنذار الصحف أو تعطيلها أو إلغائها بالطرق الإدارية فإن بعضًا من الحرية الدستورية لا يمكن تطبيقه على حملات تحمل على أساس الهيئة الاجتماعية كخطر الدعوى البلشفية الموجود الآن فإنه يضطر جميع الحكومات إلى اتخاذ تدابير قد تكون منافية للمبادئ المقررة بالدستور لأجل ضمان حرية أهل البلاد المساكين، فلكي يمكن إنشاء تشريع لمكافحة أمثال هذه الدعوى الضارة نص في المادة (15) على أن إنذار الصحف وتعطيلها وإلغائها بالطرق الإدارية قد يجوز في حالة ما تقضي الضرورة بالالتجاء إليه لحماية النظام الاجتماعي (يراجع كتاب التشريع السياسي لعبد اللطيف محمد بك جزء (2) صفحة 666).
رابعًا: مذكرة أخرى للحقانية في يوليه سنة 1925:
وفي يوليه سنة 1925 وقت تعطيل البرلمان لأول مرة أصدرت وزارة زيور باشا مرسومًا بقانون بتعديل المادة (162) عقوبات ونشرت مذكرة مذيلة بإمضاء (معالي عبد العزيز فهمي باشا وزير الحقانية إذ ذاك) جاء فيها (كانت الصحافة قبل إعلان الدستور تحت رحمة السلطة الإدارية التي كان لها الحق في تعطيل الجرائد والرسائل الدورية بل وفي إلغائها لكن الدستور قد قرر مبدئيًا حريتها ورفع عنها يد السلطة الإدارية على أنه كان من الطبيعي أن هذه الحرية يحدها حق المجتمع والأفراد في أن لا يساء استعمالها لذلك قرر الدستور بأن الصحافة حرة في حدود القانون.
ولما كان في بعض نصوص قانون العقوبات الحالي الخاصة بالجنح الصحفية شيء من الغموض يستلزم الإيضاح وقليل من النقص يستلزم التكميل.. فقد رئي إدخال شيء من التعديل على بعض أحكام قانون العقوبات الخاصة بالجنح الصحفية، وهذا مع عدم المساس أي مساس بمبدأ حرية الصحف ولا بمالها من الحقوق المشروعة
إلخ (راجع التشريع السياسي جزء ثالث لعبد اللطيف بك محمد صـ 952).
كل هذه الوثائق متضافرة في إثبات أن القانون الذي تشير إليه المادة (15) من الدستور هو قانون العقوبات وليس هناك ما يفهم منه أنها قانون المطبوعات بالذات على أن المادة (167) من الدستور أتت بنص حاسم حيث قالت (كل ما قررته القوانين والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات من الأحكام وكل ما سن أو اتخذ من قبل من الأعمال والإجراءات طبقًا للأصول والأوضاع المتبعة يبقى نافذًا بشرط أن يكون نفاذها متفقًا مع مبادئ الحرية والمساواة التي يكفلها هذا الدستور).
فقانون المطبوعات بالنسبة لما جاء به ماسًا بمبادئ الحرية التي كلفها الدستور يعتبر ملغيًا وغير قائم فنصوصه الخاصة بتعطيل الصحف أو مصادرتها أو إنذارها أو المراقبة عليها منسوخة حكمًا وبالنص الصريح وأما باقي النصوص الخاصة بالشروط الإدارية لإصدار الصحف وعنوان المطبعة وتاريخ الصدور إلى غير ذلك مما لا علاقة له بحرية الصحافة فهي قائمة.
وقد اتفق الحكم الذي صدر في الدعوى المستعجلة معنًا على أن المادة (13) من قانون المطبوعات المذكورة أصبحت ملغاة وبقي أن نناقش هل المادة العاشرة منه ألغيت أم لا.
على أنه قبل الإجابة على هذا السؤال يهمنا أن تعرف مدى ما نسخ من سلطة الإدارة بصدور الدستور وبالرجوع إلى ما أثبتناه هنا من المناقشات والمذكرات يتبين.
أولاً: أن لجنة الدستور كانت متفقة على منع جهات الإدارة من إرسال إنذارات إلى الصحف أو وقفها بغير حكم قضائي (وأقوال عبد العزيز بك فهمي في آخر محضر جلسة 39 في 16 أكتوبر سنة 1922)، وعلى أن المراد هو منع تسلط الإدارة على الصحف بأي طريقة من الطرق (علي ماهر بك في نفس الجلسة).
ثانيًا: أن اللجنة رأت (أن لا يكون حساب الصحف على ما يقع منها إلا بطريق القضاء وعلى حسب ما يضعه القانون من الحدود ولذلك حذرت إنذارها أو وقفها أو إلغاءها من أجل ما ينشر فيها بالطرق الإدارية) ومذكرة لجنة الدستور، كتاب عبد اللطيف بك محمد صـ 665 جزء ثانٍ).
ثالثًا: لا تقيد حرية الصحف إلا بنصوص قانون العقوبات فلا يمكن إقامة الرقابة المنعية عليها ويمتنع إنذار الصحف وتعطيلها أو إلغائها بواسطة الإدارة (مذكرة وزير الحقانية).
فإذا كان مجرد الإنذار وهو لا يمس الجريدة في صدورها ولا يتعرض لحرية النشر ولا لحرية الناشرين محرمًا بعد الدستور فهل يتصور متصور أن المصادرة تكون جائزة بعد الدستور، والمصادرة أبعد مدى من الإنذار فهي تعطيل مؤقت ومنع من الصدور يومًا أو أكثر، وهلا يكون واضع الدستور عابثًا بحرية الصحف وهازلاً حين يمنع الإدارة من إنذار الصحف أو مراقبتها سواء بعد أو قبل النشر وفي الوقت نفسه يبيح لها أن تمنع جريدة من الصدور أو تصادرها وتعدمها وأي خيال يبقى لحرية الصحافة بعد ذلك وماذا يلغي من قانون المطبوعات إذا كان مباحًا للإدارة في ظل الدستور أن تصادر أي عدد يطبع من جريدة لأسباب نراها يقول حكم محكمة مصر (أن نص المادة (10) لم يتعرض له الدستور بالإلغاء ولا يمكن القول بأن بينه وبين المادة (15) من الدستور أي تعارض أو تناقض لأن ضبط ومصادرة الرسومات والنقوشات ليس من قبيل الإلغاء أو الوقف لأن الإلغاء هو منع الصحيفة من الصدور نهائيًا والوقف هو منعها منعًا مؤقتًا لمدة معينة) مناقشة لفظية لا تستشعر شيئًا من روح الدستور ولا معناه وخطأ بين فبينما يرى حكم محكمة مصر المستأنف أن الدستور يحظر وقف الجريدة أي منعها منعًا مؤقتًا من الظهور نراه في الوقت نفسه يبيح منع الجريدة من الظهور يومًا أو أكثر بسبب مصادرة العدد بعد طبعه وأي فرق في النتيجة بين أمر يصدر للجريدة وقبل أن تطبع ينبه عليها بأنها موقوفة يومًا وبين انتظار تمام الطبع ومصادرة عدد اليوم المذكور ومنع الجريدة من الصدور وإذا دام تكرار هذه المصادرة بأن أوقفت الإدارة جنديًا على باب المطبعة يمنع صدور إعداد جريدة من الجرائد في كل يوم بحجة أن بها رسمًا لا يروق لوزير الداخلية (مثلاً) فهلا يكون من وراء ذلك أن الجريدة معطلة نهائيًا.
الدستور يمنع الرقابة على الصحف قبل نشرها أو بعده وبعبارة أخرى يحظر على وزير الداخلية أن يصدر أمرًا لجريدة من الجرائد بأن لا تنشر صورة معينة لأنه يرى في نشرها خطرًا على الأمن أو الآداب فهل إذا كان ممنوعًا من إصدار هذا الأمر قبل الطبع تزيد سلطته بعد الطبع فينقلب أمره إلي فعل وإلى مصادرة مادية تنتهي بإعدام العدد كله ؟ هل إذا كان مستحيلاً عليه أن يصدر أمرًا للصحيفة بعدم النشر يكون له في الوقت نفسه سلطة مصادرة الجريدة نفسها ؟ أظن أن هذا عبث لا يقدم عليه واضع الدستور ولا أي مشروع في الوجود.
يقول حكم محكمة مصر أن الدستور في المادة (15) لم يحرم المصادرة بالنص وفاتها أن النص الذي يحرم مجرد الإنذار والرقابة لا يمكن أن يبيح المصادرة وهي تعطيل مؤقت أو وقف.
مناقشة المادة (10):
أن المادة العاشرة من قانون المطبوعات إما أن تكون شاملة الصحف والمجلات وإما أن تكون مقتصرة على الصور المجردة والكليشيهات والنقوش فإن كانت الأولى فقد ألغاها الدستور بالنسبة لما يخص الصحف وإن كانت الثانية فقد انتهى الجدل بيننا وبين الحكومة.
على أننا نثبت الآن أمرين:
الأول: أنها لا يمكن أن تكون متعلقة بالصحف والمجلات.
والثاني: أن ما تنص عليه من المصادرة لا يمكن أن يتم إلا بحكم قضائي.
أما عن النقطة الأولى وهو أن المادة العاشرة ليست خاصة بالصحافة على الإطلاق فدليلنا عليه ما يلي:
أولاً: نص الفتوى التي كتبها المسيو ببولا كازيللي سنة 1924 عندما أستشير في أمر قانون المطبوعات فقد قسم فتواه إلى قسمين:
القسم الأول: خاصًا بنصوص القانون المتعلقة بالمطابع.
والقسم الثاني: من الفتوى وهو المتعلق بنصوص قانون المطبوعات الخاصة بالصحافة.
وظاهر من الرجوع إلى الفتوى المقدمة أن المسيو بيولا كازيللي قد ذكر المادة العاشرة ضمن النصوص الخاصة بالمطابع ولهذا ارتأى أنها باقية ويصح تطبيقها لأنها لا دخل لها بحرية الصحافة على الإطلاق ولا تبيح مصادرة جريدة أو مجلة، ولو أنه وجدها منطبقة على الصحف لقطع بعدم بقائها.
ثانيًا: على أنه بالرجوع إلى سنة 1909 وهي السنة التي أعادت الحكومة فيها العمل بقانون المطبوعات نجد أنها أعادت كل النصوص الخاصة بالجرائد التي تنشر بالقطر المصري (المادة الأولى من قرار مجلس النظار الصادر في 25 مارس سنة 1909)، ولما رأت الحكومة أن هذا لا يشمل العمل بالمادة العاشرة لأنها غير خاصة بالصحافة وضعت نصًا خاصًا هو أن المادة الثالثة من القرار وقالت فيه (ثالثًا يجوز في كل وقت للحكومة عند الاقتضاء استعمال السلطة المنصوص عنها في المادة العاشرة....).
فما دامت المادة العاشرة باعتراف الحكومة غير خاصة بالصحافة فتكون غير منطبقة على المجلات مطلقًا لأنها جريدة وليست نقشًا مستقلاً ولا رسمًا والقول بأنها تشمل الصحف أيضًا من باب القياس غير مقبول لأننا بصدد قانون جزاءات لا محل فيه للأخذ بالقياس ولا بد من نص صريح.
ولكن محكمة مصر في حكمها السابق زعمت أن المصادرة من أجل رسم ولكن الحكومة لم تقل ذلك، على أننا لو فرضنا صحة هذا السبب فإن المادة العاشرة لا تنطبق مطلقًا على مجلة مصورة لأن وضع صورة كاريكاتورية في مجلة أو صحيفة لا ينبني عليه أن الجريدة كلها تتلاشى ولا يبقى إلا نقش أو رسم ينطبق عليه المادة العاشرة، يقول الحكم إنه يستحيل عمليًا مصادرة رسم في صحيفة من غير مصادرة الصحيفة أو المجلة نفسها، ولكن هذه الاستحالة نفسها هي التي كانت توجب الحكم بأن المادة العاشرة لا تنطبق على مصادرة الصورة أو الرسم لأن هذا يمنع مصادرة المجلة كلها أي أن الفرع ينقلب أصلاً، بل لقد نص الحكم أن الصورة المرسومة في مجلة أو صحيفة ليست نقشًا ولا رسمًا ولكنها رأي أو فكرة والمادة العاشرة لا تسمح بمصادرة غير النقوش والرسوم المجردة عن الإعراب عن رأي والمادة الرابعة عشرة من الدستور تنص على أن حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان الإعراب عن فكرة بالقول أو بالتصوير في حدود القانون.
ولا شك أن الحد الذي تقف عنده حرية الإعراب عن الرأي بالتصوير هو النصوص الخاصة بذلك في قانون العقوبات كالمادة (148) عقوبات وما بعدها.
أما السماح بمصادرة الرأي مرسومًا في نقش مطبوع في مجلة فيحرمه الدستور في مادة من مواده الأساسية التي لا يمكن اقتراح تعديلها والتي نسخت المادة (167) من الدستور كل نص متعارض معها من أي قانون أو لائحة.
وهنا ملاحظة أساسية، وهي أنه بفرض أن المادة العاشرة تنطبق على الصحف والمجلات فسلطة المصادرة بمقتضى قرار مجلس النظار في مارس سنة 1909 وبمقتضى الدستور لا تكون إلا للقضاء لا للإدارة وإليك الدليل:
أولاً: في نفس اليوم الذي أصدر مجلس النظار قراره القاضي بإعادة العمل بقانون المطبوعات أصدر قرارًا.
ثانيًا: ذكر فيه (تكليف سعادة ناظر الداخلية بإقامة الدعوى أمام المحاكم عن المخالفات التي تقع من الجرائد ما لم يستصوب تنفيذ المادة الثالثة عشرة من القانون للوصول إلى الغاية المقصودة).
وظاهر من هذا أن إعادة العمل بقانون المطبوعات سنة 1909 لوحظ فيها أن يكون حساب الصحف على ما يصدر منها من مخالفات للقانون أمام المحاكم ومنع وزير الداخلية من استعمال سلطته المنصوص عليها في القانون ولكن بقي هناك سلطة احتياطية لمجلس النظار وهي استعمال السلطة التي تخوله إياها المادة الثالثة عشرة وهي الخاصة بتعطيل الجريدة نهائيًا بعد إنذارين أو من غير إنذارات وفيما عدا هذا الحق الذي احتفظ مجلس النظار بحق استعماله يكون وزير الداخلية مكلفًا برفع لدعوى أمام المحاكم.
ثانيًا: بالرجوع إلى ما قررناه فيما مضى يتضح أن لجنة الدستور رأت أن الصحافة بعد صدور الدستور لا تؤاخذ إلا بطريق القضاء على ما يصدر منها والمصادرة عقبة لا يصح توقيعها إلا بحكم قضائي مبني على نص صريح.
وعلى هذا فيكون ما اتخذه قلم المطبوعات من إجراءات المصادرة ضد المجلة المذكورة خروجًا على القوانين وعملاً من أعمال الاغتصاب ويكون من حق القضاء الحكم بإلغائه، وإلزام الحكومة بتعويض الضرر الناشئ عن هذا التصرف.
وقد أخذت محكمة مصر الابتدائية بهذه النظرية وقضت بإلزام الحكومة بالتعويض بحكمها الصادر في مايو سنة 1929.
وقد نشرناه في باب أحكام المحاكم الكلية.
محمد صبري أبو علم
[(1)] وتأييدًا لهذا الحكم الأخير ننقل ما يأتي عن كتاب (مرينياك - في الأوامر التي تصدرها العرائض والقضاء المستعجل جزء ثانٍ طبعة 1906 صـ 53 نبذة رقم 60).
(وأخيرًا إذا افترضنا أننا أمام حالة اعتداء ظاهر من السلطة وأعمال ترتكب خارجًا عن كل سلطة إدارية وبمحض الرغبة الشخصية فقاضي المواد المستعجلة لا يعتدي مطلقًا على مبدأ فصل السلطات إذا أمر بإجراء وقتي بإيقاف أعمال مخالفة للقانون، فالقاضي يقف في هذه الحالة لمساعدة المتقاضين المجني عليهم في الإجراءات الاستبدادية إلى أن يستطيعوا الوصول إلى حقهم الأصلي أمام الجهة المختصة، ويمكن أن يفترض أنها أعمال لم يصرح بها من الإدارة كالأعمال التي يقوم بها مأمور بغير قرار من الجهة المختصة).
[(2)] جرت مصادرة إعداد المجلة قبل صدور الأمر الملكي الصادر في 19 يوليه سنة 1928 بإيقاف العمل ببعض أحكام الدستور.
أضف الى مفضلتك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التصنيفات : الرد على الدفوع الجنائية, روائع مجلة المحاماة, مجلس الدولة, محاماة | السمات:مجلس الدولة, محاماة, الرد على الدفوع الجنائية, روائع مجلة المحاماة
لا تعليقات
أرسل الإدراج | دوّن الإدراج
لا تعليقات
السنة التاسعة 1929
الأوامر الإدارية واختصاص المحاكم بإلغائها
(1)
هل الأمر الذي يصدره مدير قلم المطبوعات بمصادرة مجلة معدة للنشر في المطبعة
وبمصادرة بعض كليشيهاتها يعتبر أمرًا إداريًا تمتنع المحاكم الأهلية بمقتضى المادة (15) من لائحة ترتيبها من تأويله أو إيقافه ؟
نصت المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية على أنه ليس لهذه المحاكم أن تؤول معنى أمر يتعلق بالإدارة ولا أن توقف تنفيذه……..، وإنما تختص بالحكم في كافة الدعاوى التي ترفع على الحكومة بطلب تضمينات ناشئة عن إجراءات إدارية تقع مخالفة للقوانين أو الأوامر العالية:
وفي كل يوم تحتك جهات الحكومة والإدارة بالأفراد احتكاكًا من شأنه أن يولد كثيرًا من المشاكل، ويثير أنواعًا من الاعتداءات على ما يعتقد الأفراد أنه حق من حقوقهم، من موظف مخدوع في حدود سلطته أو في أساس الحق المخول له بمقتضى القوانين واللوائح أو متعمد الخروج على القوانين والاعتداء على الحقوق، فيضطر الفرد الذي كان ضحية لشيء من هذا أن يطلب حماية القضاء ويسارع إلى رفع الأمر إليه طالبًا إيقاف العمل الذي يعتقد أنه مخالف للقوانين أو إلغاءه، فهل تقف المادة (15) حائلاً دائمًا بين القضاء وبين تأويل الأمر الإداري وهل يجب عليه دائمًا أن يرضخ لعمل الموظف الإداري ويحيطه بنوع من العصمة والتقديس بحيث لا يتعرض الحكم بإيقافه أو إلغائه ؟
إن ظاهر النص قد يوهم بذلك ولكن في الأمر تفصيلاً وبيانًا، فللجهات الإدارية أن تباشر أعمالها في حدود السلطة المخولة لها بمقتضى القوانين واللوائح (بشرط أن لا تخرج هذه اللوائح عما يقضي به القانون ولا تخالفه) فإذا خرج الموظف عن الحد المرسوم له كان عمله اغتصابًا للسلطة usurpation de pouvoir من شأنه أن يجعله في نظر القانون غير موجود inéxistant .
ولكن ما هي الدائرة التي يجوز للموظف أن يعمل فيها تحت حماية المادة (15) وبالتالي ما هو القياس الذي بمقتضاه يتيسر للقاضي أن يتبين إن كان ما عمله الموظف اغتصابًا للسلطة يجعل العمل الإداري غير موجود أو تعسفًا في استعمالها وتجاوزًا لها، من شأنه أن يجعل الإدارة مسؤولة عن التعويض.
قد يكون من أدق الأمور إيجاد هذا القياس خصوصًا إذا لاحظنا أن للإدارة سلطة وضع اللوائح فليست كل سلطتها وحقوقها محدودة في القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية ولكن هنالك اللوائح ووضعها وتنفيذها، على أنه يجب أن لا يغفل من حسابنا أن سلطة وضع اللوائح المنفذة للقوانين لم تمنح جزافًا بل أنها مقيدة بقيود (سنتكلم عنها فيما بعد) وأهمها أن لا تصدر مخالفة لنص القانون الذي وضعت لتنفيذه واحترامه.
ويرى هوريو في كتابه عن القانون الإداري طبعة سنة 1927 صـ 30 (أن حياة الفرد هي الأصل وهي الحقيقة الأولية وأن الحياة العامة هي الاستثناء الذي يعرض لحياة الأفراد ويحد منها، ويرى في هذا المبدأ حجر الزاوية في نظام حرية الأفراد).
ويتلخص الرأي الذي يكاد ينعقد عليه الإجماع فيما يلي (أنه لا يمكن القول بوجود عمل إداري إلا إذا كان الموظف قد استعمل حقًا خولته القوانين واللوائح لجهة الإدارة وكان استعماله طبقًا للإجراءات المحددة في اللوائح).
فإذا اتخذت جهة الإدارة إجراء من الإجراءات لم يخول لها إجراؤه بنص صريح في القوانين أو اللوائح كان عملها اعتداءً أو عملاً من أعمال القوة أو اغتصابًا لسلطة Voiés de fait.
وكذلك يعد عملها اغتصابًا للسلطة واعتداءً، إذا استعملت حقًا أو اتخذت إجراءً يخولها القانون اتخاذه، ولكنها لم تراعِ احترام الإجراءات التي وضعها الشارع لاستعمال هذا الحق حماية لحقوق الأفراد وصيانة لهم.
ففي الحالتين اعتداء واغتصاب أساس الأول عدم وجود سند من القانون وأساس الثاني عدم احترام الإجراءات الشكلية التي ينص عليها القانون أو اللائحة.
وقد ضربوا لذلك مثلاً بالنسبة للحالة الأولى بأنه ليس للإدارة في غير حالتي نزع الملكية للمنفعة العامة والتعبئة العسكرية أن تستولي على شيء مملوك للأفراد وبخاصة ليس لها حق المصادرة، كذلك ليس لها حق تعبئة الناس بشكل سخرة في غير القرعة العسكرية وصيانة الطرق القروية، كما أنها ليس لها أن تستبقى وطنيًا في السجن بأمر البوليس بدون حكم (نقض 3 أغسطس سنة 1824 قضية هاس ضد فلنتين) ولا أن تطرد فرنسيًا من فرنسا بأمر إداري:
ومثلوا للحالة الثانية بهدم عمارة آيلة للسقوط دون مراعاة الإجراءات التي نص عليها القانون في ذلك فإنه ولو أن جهة الإدارة تستند في إجراءاتها إلى قانون ونصوص صريحة إلا أنها بمخالفتها الإجراءات الشكلية الموضوعة لتقييدها في مباشرة عملها تكون بمثالة من يعمل بدون سلطة أو تفويض شرعي sans pouvoir (راجع سيري 1904 باب 3 صـ 17)، ولكن يجب أن يلاحظ أنه لا يكفي أن يرتكب الموظف خطأ أو إهمالاً في الإجراءات التي اتبعت بل يجب أن تكون جهة الإدارة قد تجاهلت هذه الإجراءات تجاهلاً تامًا.
وعلى كل حال ففي الحالتين يعتبر عمل الموظف اعتداءً وعملاً من أعمال القوة ولا يصح مطلقًا اعتباره عملاً من أعمال الإدارة وعلى ذلك فمن حق جهة القضاء العادية أن تأمر بإعادة الحق لصاحبه أو تقضي بالتعويضات إن كان لها محل بل ولها أكثر من ذلك أن تأمر بمنع الإجراء أن يتم بقرار مستعجل ويكون للمجني عليه في هاتين الحالتين أن يطالب بالتعويضات (حتى في فرنسا أمام جهات القضاء العادية لا أمام مجلس الدولة) إما ضد الموظف شخصيًا أو ضد جهة الإدارة، وتصبح المحاكم العادية مختصة لأنها ليست بصدد عمل إداري بل بصدد عمل من الأعمال العادية التي ليست له الصفة الإدارية Un fait de droit commun et non pasd’une opération administrative. ولا محل للبس بين الاعتداء الذي تكلمنا عنه وبين عمل الموظف في المصلحة faute de service أي الخطأ الذي يرتكبه الموظف في عمله فإنه يسأل عنه أمام المحاكم الإدارية، أما اغتصاب السلطة فهو بطبيعته يخرج عمل الموظف بعيدًا بالمرة عن نطاق الإدارة وإجراءاتها وبالتالي عن عمل الوظيفة.
كذلك لا يصح اللبس بين الاعتداء الذي تكملنا عنه وبين تجاوز حدود السلطة (éxcés de pouvoir) فالعمل الذي حصل فيه تجاوز لحدود السلطة أو غلو هو بالرغم من ذلك عمل إداري…، ويلاحظ أن الاعتداء بسبب فقدان الحق أو السند القانوني يقرب من تجاوز حدود السلطة من جهة أنه في الحالتين يخرج الموظف عن اختصاصه ولكنه في الحالة الأولى عدم اختصاص يصل إلى اغتصاب السلطة بحيث لا يوجد أقل ظل للاختصاص (لافريير جزء (2) نمرة (493))، وكذلك الاعتداء بسبب فقدان الإجراءات أو مخالفتها يقرب من تجاوز السلطة بمخالفة الشكل ولكن مخالفة الشكل تصل إلى درجة فقدان احترام الشكل بالمرة في الحالة الأولى.
هذا ما يقرره الأستاذ (هوريو ويمكن تلخيصه في أنه ليس للسلطة الإدارية أن تتخذ قرارات إدارية في شؤون غير داخلة في اختصاصها بالمرة، ومن غير مراعاة الإجراءات التي تنص عليها اللوائح والقوانين فإن فعلت كانت إجراءاتها لا قيمة لها بالمرة ووجب على القضاء أن لا يعبأ بعملها وأن يتخطاه بل يلغيه.
فمتى ثبت أن الأمر الموصوف بكونه أمرًا إداريًا خارج عن اختصاص السلطة الإدارية فلا تمنع المحاكم من تأويله ولا من إيقاف تنفيذه لأن هذا يكون اعتداءً وللسلطة القضائية أن ترد الاعتداء وتعيد الحق إلى نصابه.
ونكرر هنا ما سبق إيضاحه من أن هذا قاصر على الحالتين اللتين حددناهما أما في حالة ما يتجاوز الموظف الحد بأن أجرى عملاً هو في الأصل من اختصاصه ولكن حصل تجاوزه، ففي هذه الحالة الأخيرة وحدها تكون المحكمة ممنوعة من إيقاف التنفيذ ومن التأويل والتفسير.
(راجع هوريو صـ 32 وما بعدها).
وإتمامًا للبحث نستعرض هنا آراء بعض الشراح في فرنسا، وقضاء المحاكم في مصر:
1 - آراء الشراح بفرنسا:
1/ رأي العلامة ديجوي في مؤلفه عن الدستور جزء ثالث طبعة ثانية صـ 30 نبذة 55.
1) ليس لرجال السلطة الإدارية أن يعملوا عملاً مما يدخل في اختصاص السلطة القضائية إلا إذا أعطاهم القانون هذا الاختصاص بنص صريح، فإذا أقدم موظف إداري على عمل مما يدخل بطبيعته في حدود اختصاص السلطة القضائية ارتكب ما يعتبر اغتصابًا للسلطة وأصبح عمله غير موجود وكان آثمًا لارتكابه عملاً من أعمال القوة يستوجب مسؤوليته.
2) وقال في صـ 48 بعد أن تكلم عن اختصاص مجلس شورى الدولة وتاريخ إنشائه ومصدر سلطته: (إن قاعدة أنه ليس للجهة القضائية أن تفسر الأمر الإداري أو أن تفصل في مشروعيته لها استثناءً هام فإن للمحكمة القضائية التي يحصل التمسك أمامها بلائحة إدارية كل الاختصاص في تفسيرها لمعرفة ما إذا كانت تلك اللائحة في الواقع عملاً إداريًا أم لا، على أننا لو دققنا في الأمر لا نجد أن في إعطاء القضاء سلطة تفسير اللوائح مساسًا بمبدأ انفصال السلطات، لأن اللائحة إن كانت عملاً إداريًا لأنها صادرة من سلطة إدارية فإنها من الجهة المادية قانون أي قاعدة عامة ملزمة للأفراد ومن ورائها السلطة القضائية تكفل احترامها ولهذا كان للسلطة القضائية بل عليها واجب تفسير القوانين التي تكلف بتطبيقها، والقول بغير ذلك من شأنه أن يعوق القضاء عن القيام بمهمته.
وقال في صـ 50 (على أنه ليس للجهة القضائية فقط أن تفسر اللوائح الإدارية التي يحصل التمسك بها أمامها، بل لها أيضًا أن تبحث في مشروعيتها وانطباقها على دستور البلاد، فإذا تمسك أحد بعدم قانونية اللائحة كان هذا الدفع مقبولاً ووجب الفصل فيه.
وإذا وجدت المحكمة المطروح أمامها النزاع أن اللائحة المتمسك بها هي في الواقع مخالفة للقانون فيجب أن تعلن ذلك، حقيقة أنه لا يصح أن تعلن إلغاء اللائحة بل يكفي أن تعلن عدم مشروعيتها وأنها لن تطبقها على النزاع المطروح أمامها وقضاؤها في ذلك يكون قاصرًا على النزاع المذكور، وتبقى اللائحة قائمة………
وهذه السلطة المعترف بها للقضاء في إعلان بطلان اللوائح الإدارية المتمسك بها أمامها هي في الواقع استثناءً لمبدأ انفصال السلطات، ولكن تعليل ذلك سهل، إذ يجب أن نذكر أن قانون العقوبات الصادر في سنة 1832 نص في المادة (471) منه على أن (يعاقب بغرامة)……. من يخالفون أحكام اللوائح العمومية أو المحلية الصادرة من جهات الإدارة العمومية أو البلدية أو المحلية..، وبأخذ هذه المادة على ظاهرها يتضح أن الغرض منها أن يسمح لمحاكم المخالفات بالفصل في مشروعية اللوائح التي على أساسها تقدم المخالفات إليها للفصل فيها: وهو أمر معقول إذ من البديهي أن لكل محكمة جنائية السلطة التامة والاختصاص الكامل بتقدير العناصر المكونة للجريمة التي هي موضوع المحاكمة أمامها، ومن أهم العناصر المكونة للمخالفة هو بلا شك مشروعية اللائحة.
فالمنطق السليم يقضي بضرورة الاعتراف لجهة القضاء بحق تقدير قانونية اللائحة.
…. وقد أصبح هذا أمرًا مسلمًا به، وما كان مبدأ خاصًا فقط بتطبيق لوائح البوليس أصبح الآن مبدءًا عامًا منطبقًا على كافة اللوائح وأصبح استثناءً هامًا واردًا على مبدأ انفصال سلطتي الإدارة والقضاء.
(محكمة النقض بفرنسا سيري سنة 1903 جزء أول 21 صـ 489).
(5 - ثم تكلم في نبذة 100 صـ 709 عن تعريف اغتصاب السلطة فقال (يوجد اغتصاب السلطة في كل عمل مادي أو إجراء تنفيذي على الأشخاص أو الأموال بحيث يخرج به الموظف الإداري من دائرته الإدارية، إذ بحسب التشريع الفرنساوي كل إجراء تنفيذ على الأشخاص أو الأموال يجب أن يقوم به موظف قضائي وبهذا يقضي مبدأ انفصال السلطات……
ثم فرق بين هذا العمل وبين تجاوز حدود السلطة éxcés ou abus du pouvoir فقال (إن تجاوز السلطة يكون عندما يعمل الموظف الإداري عملاً ماديًا في دائرته الإدارية أو عملاً تنفيذيًا على النفس أو المال يعطيه له القانون بنص صريح….، ولكنه يرتكب خطأ إما لأن الموظف الذي قام بالعمل شخص غير الذي أناطه القانون بعمله وإما لأنه وإن كان يرمي إلى غاية إدارية إلا أنه كان موجهًا عمله إلى غاية أخرى لم يقصدها القانون..
وقرر في صـ 712.. أن محكمة النقض والإبرام بفرنسا قررت في سنة 1913 أن وضع الأختام على معمل بسبب عدم ملاءمته للشروط الصحية عمل تنفيذي على الأموال من اختصاص السلطة القضائية دون غيرها، وقالت في حكمها (إنه إذا كان لمدير البوليس الحق في إنذار الشركة بأن توقف أعمالها الخاصة باستثمار حمض الكبريت الأسود حتى تحصل على رخصة فإنه يعتبر متجاوزًا السلطة إذا أمر بوضع أختام على المحلات التي تستثمر فيها تجارتها، لأن هذا العمل هو في الواقع إجراء تنفيذي ليس لأحد أن يأمر به إلا جهة القضاء (7 نوفمبر سنة 1913 مجموعة صـ 1055)، وقال في صـ 714 وما بعدها.
(يوجد اغتصاب للسلطة في عمل الموظف الإداري إذا خرج عن دائرته الإدارية ويكفي أن نقرر هنا زيادة على ما قررناه قبلاً أن الموظف الإداري في نظر المشرع الفرنساوي يخرج من دائرته الإدارية في كل مرة يتخذ فيها قرارًا يمس مباشرةً الحرية الشخصية أو ملكية الأفراد من غير أن يوجد نص صريح يخوله هذه السلطة، كأن يصدر موظف إداري في غير الأحوال المنصوص عليها في قانون تحقيق الجنايات أمرًا بالقبض على فرد، أو بمصادرة ملكيته أو يتخذ إجراءً تنفيذيًا على مال بطريق الإكراه.
وقرار كهذا ليس باطلاً فقط بل هو غير موجود وكأنه لم يكن، وما دام الموظف الإداري قد خرج من دائرة اختصاصه الإداري فأمره ليس إلا واقعة أو فعلاً من الأفعال Fait ليس له أية صفة ولصاحب الشأن أن يتصرف كما لو كان الأمر لم يصدر مطلقًا، وإذا قامت في سبيل ذلك عقبة من العقبات فإنها تكون من اختصاص القضاء العادي لأننا لسنا بصدد تفسير أمر إداري لأن الأمر غير موجود، بل أن نفس الموظف مسؤول شخصيًا أمام المحكمة العادية ولقد قلنا فيما سبق إن العلامة Laferrière قد قرر بطريقة قاطعة في جلائها ووضوحها أن الموظف الإداري عندما يتعدى اختصاصه الإداري بالفعل الذي يعمله ليس فقط باطلاً بل غير موجود ويعتبر اغتصابًا للسلطة وأنه يصح الالتجاء إلى المحاكم القضائية العادية كما يصح رفع مسؤولية الموظف شخصيًا إليها وهذه ترجمة حرفية:
(هناك حالة لا يكون للعمل الذي يعمله الموظف الإداري أية صفة إدارية من شأنها أن تبعده عن اختصاص القضاء العادي، تلك هي الحالة التي لا يخرج فيها الموظف عن دائرة اختصاصه فقط بل عن دائرة العمل المباح للسلطة الإدارية، فمثلاً إذا صادر موظف إداري ملكية فرد من الأفراد أو حرم وطنيًا من حريته الشخصية أو ألغى جريدة أو حرم عليه تجارة أو صناعة فإن مبدأ انفصال السلطات لا يمنع الشخص الذي ناله الضرر من أن يستعين بالقضاء العادي على درء هذا الاعتداء بل أنه يستوجب بالعكس أن اختصاص هذه المحاكم يجري بتمام الحرية كما لو كان القرار الإداري غير موجود، فإن هذا القرار لا يكون فقط محلاً للإبطال بل أنه يكون غير قائم قانونًا لأنه بموضوعه غريب عن اختصاص الموظف الإداري (جزء أول صـ 479 طبعة ثانية).
(وعلى هذا الرأي أيضًا هوريو فقد قرر أن السلطة الإدارية ترتكب عملاً من أعمال القوة أو اغتصاب السلطة قهرًا إذا استعملت حقًا لم ينص عليه قبل ذلك في تشريع خاص….، وفي أعمال القوة نكون دائمًا بصدد عمل شخصي للموظف، لا عمل إداري للسلطة التي يمثلها).
….. ولقد أوضحت في نبذة (72) من كتابي كيف أن الموظف يخرج نفسه بعيدًا عن نطاق السلطة الإدارية إذا كان موضوع الأمر الذي يصدره أو الغاية المقصودة منه لا تتفق في شيء مع طبيعة الولاية على السلطات الإدارية العامة ولا محل للعودة إلى هذه المسألة وإنما يكفي هنا أن ألاحظ أن مسؤولية الموظف شخصيًا لا تنفي وجود طرق الطعن الأخرى التي يكون لصاحب الشأن أن يلجأ إليها لمنع استمرار الحالة الغير الشرعية الناشئة من اغتصاب السلطة.
(ولا ضرورة مطلقًا إلى التمسك ببطلان العمل أمام المحكمة الإدارية لأنه ما دام العمل غير قائم فلصاحب الشأن الحق في الالتجاء إلى كافة الطرق القانونية ورفع الأمر أمام القضاء العادي فمثلاً إذا أمرت جهة الإدارة بمصادرة ملكية شخصية كان الشيء المصادر لا يزال في حيازتها فلصاحب الشأن أن يرفع ضدها دعوى باسترداد هذه الأشياء أمام المحاكم القضائية العادية) أهـ.
وينبني على هذا أنه لا يمكن أن يقال إن المادة (15) تلزم القضاء باحترام كل عمل يصدر عن الإدارة دون بحث فيه أو تفسير له أو تأويل لمعناه لمعرفة إن كان أمرًا إداريًا في حدود سلطة المصدر له وبالطريقة والإجراءات المنصوص عليها أم لا ؟
قد يقال إن المادة (15) تمنع المحاكم من أن تؤول معنى أمر يتعلق بالإدارة بصفة مطلقة وظاهر النص يوهم بأن الأمر متى كان صادرًا من الإدارة فيجب الامتناع عن تفسيره أو إيقاف تنفيذه، ولكن الواقع أن المشرع لم يرد شيئًا من هذا وما كان من المعقول أن يقصده، إذ أنه قبل أن يمنع القضاء من المساء بأمر إداري، يجب أولاً أن يثبت له أنه أمر إداري أو أمر متعلق بالإدارة، فمن حق القضاء بل من واجبه عندما تتمسك الحكومة أمامه بأمر إداري أصدرته أن يبحث في حقيقة الأمر ومعناه، لا في اسمه ومسماه فقد يكون ما تسميه الحكومة أمرًا إداريًا هو في الواقع حكم قضائي اعتدت حين أصدرته على سلطة القضاء فهل يرضخ القضاء لهذا الاغتصاب ويقره.
قال الأستاذ أحمد صفوت في كتابه شرح قانون العقوبات صـ 10 ما نصه (وعلى القاضي أن يتأكد من شرعية اللوائح والقرارات الإدارية بموافقتها للقانون من أوجه: 1 - أنها صدرت وفقًا لقانون يجيز إصدارها.
2 - من سلطة فوضها القانون بإصدارها.
3 - في موضوع خصها بإصدارها فيه.
ويقول القاضي مسينا Messina في كتابه عن الاختصاص الإداري صـ 7 (إذا كان أساس الدعوى هو الضرر الناشئ عن عمل إداري مخالف للقانون أي غير مطابق للقوانين واللوائح فإن القيود التي أوردتها المادة (11) مختلط المقابلة للمادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية) على اختصاص القضاء بالنسبة لمنعه من تأويل الأمر الإداري أو إيقاف تنفيذه لا يمكن لجهة الإدارة أن تتمسك بها ما دامت قد عملت خارج دائرة اختصاصها وما دامت هذه القيود لم توضع إلا لحماية الإجراءات التي تباشرها الإدارة في دائرة هذه الحدود، إذ المادة (11) قاصرة على حالة ما تمس حقوق الأفراد بحق ولأسباب متعلقة بالمصلحة العامة.
وقد زاد هذا إيضاحًا في كتابه صـ 32 (بقوله إن الأعمال الإدارية التي تحرم المحاكم المختلطة من الفصل فيها أو تأويلها أو إيقاف نفاذها هي الأعمال التي من حيث الشكل: صدرت من السلطة الإدارية في دائرة اختصاصها وبالشكل الذي يشترطه القانون: ومن حيث موضوعها ترمي إلى تحقيق مصلحة عمومية:
(S’il est vrait que les Tribunaux de la Réforme ne peuvent ni intérpréter, ni arréter l’exécution d’une mésure administrative, la défense ne s’applique q’au eas où cette mesure a été prise:
(a) dans le cercle des attributions qui appartiennent au Guvernment: (R. O. VII p. 145; Borrelli p. 10 No. 14: application au cas d’une saisie, pratiquée pour assurer le recouvrement d’un impôt don’t la légalité était contestée par les puissances)……..
(b) et plus précisement dans le cercle des attributions de l’autorité administrative compétente pour l’ordonner. Et
(c) conformément à la loi et dans le formes par elle réquises: démolition d’un mur qui avait été construit sans contrevenir aux réglements du Tanzim; fermeture d’un imprimerie (Borelli p. 62. No. 2); etablissement d’un canal sans l’observance des formalité; et (c) dans l’interêt general, dans un but d’utilité publique.
وجاء فيه في صفحتي 80 و81 عما إذا كان للجهة القضائية أن تفسر الأمر الإداري وتؤول معناه لمعرفة مبلغ انطباقه على القانون من عدمه ما نصه (أن نص المادة (11) قد تجاوز غرض المشرع بتحريمه على المحاكم في عبارة عامة مطلقة تفسير الأمر ولو روعي ظاهر النص تمامًا لاستحال العمل خصوصًا مع عدم وجود سلطة جعل من اختصاصها هذا التفسير - وحتى لو أمكن العمل مع ظاهر النص لكان الأمر من الغرابة بمكان في بلد كل قانونها الوضعي صدر لغاية اليوم بشكل قانون أو لائحة أو مرسوم في صورة عمل حكومي acte du gouvernment وكيف يتيسر للقضاء أن يفصل في مخالفة عمل إداري للقانون أو لحقوق الأفراد إذا لم يكن له أن يفسر هذا الأمر ويفهم معناه دع حالة ما يكون الأمر غامضًا ويحتاج الحال في تنفيذه إلى تفسيره فإن هذه حالة ممنوعة فيها المحاكم من التفسير).
ويقول الدكتور عبد السلام بك ذهني في كتابه عن مسؤولية الحكومة المصرية (إذن للقضاء أن يؤول - ولكنه في الواقع لا يؤول بل هو يسعى لمعرفة حقيقة الموضوع الذي أمامه: يقول Vaccelli من المسائل الهامة أن تمتنع السلطة القضائية من إصدار أحكام يكون من شأنها تعطيل الأعمال الإدارية، ولكن من طريق آخر لا تلزم بالأخذ بأي عمل إداري بمجرد صدوره من السلطة الإدارية وإلا أصبحت حماية القضاء للحقوق الشخصية كأنها لغو ولا أثر لها، ومن هنا تنشأ الحدود الفاصلة بين السلطتين وهي هذه: منع السلطة القضائية من إلغاء العمل الإداري، اختصاصها بمعرفة ما إذا كان العمل الإداري مطابقًا للقانون أم لا، التزامها باحترام الأعمال الإدارية والأخذ بها متى كانت متعلقة بمسائل داخلة في دائرة اختصاصها.
وجاء في صـ 412 منه عن ضرورة احترام الحكومة لشكل الإجراءات أيضًا ما نصه (كلما يطرح أمام القضاء عمل إداري مطعون وجب عليه أن يبحثه من الوجهة الشكلية لمعرفة ما إذا كان مطابقًا في شكله للشرائط القانونية وما إذا كان صادرًا من السلطة المختصة أم لا…، فإذا رآه صحيحًا نفذ المادة (11) فلا يؤوله ولا يوقف تنفيذه).
وجاء في صـ 327 ما نصه (بهذا قضى على المبدأ القائل بعدم مسؤولية الحكومة متى كانت أعمالها مطابقة شكلاً فقط للقوانين واللوائح.. لأنه لا بد أيضًا من الأخذ بروح القانون…، وأنه لا يجوز الوقوف في الأعمال الإدارية عند مراعاة الشكل فقط…. بل يجب أن يذهب بعيدًا أيضًا في صبر غور القانون ومعرفة غرض الشارع من إصداره حتى لا تلعب به أيدي اللاعبين فيستخدمونه في قضاء مآرب لهم ممقوتة بما يلبسون به أعمالهم الإدارية من موافقتها شكلاً للقانون واللوائح ومخالفتها لها موضوعًا…. وراجع أيضًا صـ 329 صـ 33.
ويقول المسيو دوهلتس في كتابه عن القانون المدني جزء أول صـ 354 وما بعدها نبذة 63.
(من مميزات الأعمال الإدارية:
1 - أن يقوم بها موظف إدارية.
2 - أن تنفذ طبقًا للسلطات التي تمنحها لهم هذه الصفة في دائرة اختصاصها.
فالأمر الذي يصدره موظف إداري حتى ولو كان معتمدًا في إصداره على هذه الصفة، ولكنه يخرج بالكلية عن اختصاصاته كالأمر الذي يصدره مأمور الجمارك في شؤون الري لا يعد أمرًا إداريًا ولكنه اغتصاب للاختصاص يستوجب مسؤولية فاعلة شخصيًا من غير أن يترتب عليه مسؤولية على الحكومة (؟)، وللمحاكم كذلك أن توقف تنفيذ مثل هذه الأوامر (نبذة (64) صـ 355)، ولكن الأمر يستبقي صفته كأمر إداري إذا كان الموظف وهو يعمل في حدود اختصاصاته لم يزد عن كونه تجاوز الحد في السلطات التي تخوله إياها صفته مبالغة منه في استعمال هذه السلطات).
2/ قضاء المحاكم الأهلية:
1) حكمت محكمة العطارين في 7 يناير سنة 1919 حكمًا منشورًا بمجلة الحقوق سنة خامسة وثلاثين صـ 45 جاء فيه (قضت المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية بمنعها من نظر أي قضية يكون في موضوعها تأويل معنى أمر يتعلق بالإدارة أو إيقاف تنفيذه فإذا اتخذت الإدارة إجراءات نزع ملكية أطيان بالطريقة الإدارية المنصوص عليها في قانون 15 مارس سنة 1880 وباعتها فعلاً ورغب مالك الأطيان الأصلي استرداد أطيانه بناءً على بطلان إجراءات الإدارة فقاضاها أمام المحاكم طالبًا رد الأطيان إليه وإلغاء البيع الحاصل عنها والمطعون فيه كانت المحاكم مختصة بسماع الدعوى لأن طلبات المدعي فيها لا يقصد منها تأويل أمر إداري ولا إيقاف تنفيذه بل إبطال إجراءات وقعت مخالفة لنصوص القانون ونتج منها مساس بحقوق المدعي.
2) محكمة طنطا الابتدائية يونيه سنة 915 مجلة الحقوق سنة ثلاثين صـ 285:
يشترط في الأمر المتعلق بالإدارة المنصوص عنه في المادة (15) من لائحة الترتيب شرطان:
الأول: أن يكون صادرًا من إحدى جهات الحكومة.
والثاني: أن يكون متعلقًا بوظيفتها بصفتها سلطة عمومية فإن فقد شرط من هذين الشرطين فلا منع، وعلى ذلك تكون الجهات الخارجة عن الحكومة مهما كانت رابطتها بها وكذلك جهات الحكومة عن أعمالها التي تؤديها بصفتها الشخصية خاضعة لأحكام المحاكم.
3) حكم محكمة المنصورة بتاريخ 2 يناير سنة 926 المنشور بمجلة الحقوق سنة سادسة صـ 243:
(إذا باشر المجلس البلدي بمعرفته نزع ملكية عقار للمنفعة للعامة قبل صدور الأمر العالي وقبل إعلانه لأصحاب الملك وبدون مراعاة القيود والشروط الواردة في قانون نزع الملكية وجب الحكم بإبطال إجراءاته، ويصح الحكم ببطلان الإجراءات التي يتخذها على وجه الاستعجال ما يصح شمول الحكم الصادر ببطلان الإجراءات بالنفاذ المعجل إذا كانت هناك ضرورة للاستعجال) [(1)].
(2)
2 - أحكام المحاكم المختلطة:
ذكر المسيو بوريللي في كتابه صـ 10 أحكامًا كثيرة تعليقًا على المادة (11) القديمة من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة نذكر منها ما نشره تحت نمرة (11) و(14) و(15) و(21).
( أ ) حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 27 يناير سنة 1881 وهو يقضي بأن نظام المطابع الذي كان العمل جاريًا عليه في مصر خاضع للمواد (167) إلى (172) من قانون العقوبات الجديد وبناءً عليه فلا يمكن إصدار أمر بإقفال مطبعة إقفالاً مؤقتًا أو نهائيًا إلا بواسطة المحاكم في الأحوال المنصوص عنها قانونًا وتبعًا للحكم في مخالفة اللوائح الخاصة بهذا الموضوع، ولا يمكن بأي حال أن يصدر هذا الأمر بمجرد أمر إداري.
(ب) وحكمت في 20 إبريل سنة 1882 بأن منع المحاكم المختلطة من تأويل معنى أمر إداري أو إيقاف تنفيذه لا ينطبق إلا على الحالة التي يكون فيها هذا الأمر صادرًا في حدود اختصاصات الحكومة بدون منازع فيها من جانب الدول الأجنبية وبناءً عليه فإن المحاكم المختلطة مختصة بالفصل في صحة الحجز المتوقع من الحكومة صد أحد الأجانب إذا كان الغرض من هذا الحجز تحصيل ضريبة تنازع هذه الدول في شرعيتها.
(ج) وحكمت في 25 مايو سنة 1882 بأن للمحاكم الحق في أن تبحث فيما إذا كان الأمر متعلقًا بالإدارة وصدر بشأن مصلحة عمومية وطبقًا للقوانين والأوامر العالية الجاري العمل بها.
(د) وحكمت في 16 ديسمبر سنة 1886 بأنه ولو أن المحاكم ممنوعة من تأويل معنى أمر إداري ومن إيقاف تنفيذه فإن ذلك تحت شرط أن يكون هذا الأمر قد اتخذ لغرض منفعة عمومية لأجل الصالح العام وطبقًا للقوانين والأوامر العالية الجاري العمل بها، وفي حدود اختصاصات العامل الذي أصدره، وبناءً عليه فإن الأمر الصادر من المهندس المكلف بتنظيم توزيع المياه بين أملاك المتجاورين بفتح أو إقفال بعض المساقي يعطي للمالك المضرور حق رفع دعوى منع التعرض.
(هـ) وجاء في مجلة التشريع والقضاء المصري المختلط سنة ثامنة وعشرون صـ 105 حكم صادر من محكمة الاستئناف المختلطة في 13 يناير سنة 1916 بأن إجراءات نزع الملكية التي تجريها الحكومة لتحصيل الضرائب لا تعد أصلاً أوامر متعلقة بالإدارة بالمعنى المقصود من المادة (11) فيجوز إذن للمحاكم المختلطة إلغاؤها لعدم استيفائها الشروط المطلوبة.
(و) أما الحكم الصادر في قضية المستر كارتر فلم يخرج عن هذا المبدأ مطلقًا وذلك أن حكم محكمة الاستئناف المختلطة الصادر في 12 إبريل سنة 1924 في تلك القضية صدر في الظروف التالية.
كانت مصلحة الآثار التابعة لوزارة الأشغال منحت امتيازًا بالترخيص للورد كارنارفون ثم لأرملته من بعده بالبحث والتنقيب في وادي الملوك على شرط أن يقوم كارتر بالأعمال، وبشرط أن كل مخالفة للشروط المقررة يترتب عليها حتمًا وبدون إنذار أو غير ذلك من الإجراءات إلغاء الترخيص ثم تتخذ مصلحة الآثار الإجراءات اللازمة بالطرق الإدارية: خالف كارتر الشروط فأصدرت وزارة الأشغال في 20 فبراير سنة 1924 قرارًا بموجبه ألغت الامتياز الممنوح للأدى كارنارفون وكلفت مدير مصلحة الآثار باتخاذ التدابير اللازمة لصيانة الآثار، رفع كارتر الدعوى فقضت محكمة الاستئناف ضده وقالت في أسباب حكمها (تحديدًا للمعنى الذي أراده المشرع بالعمل الإداري).
(وحيث إنه يجب أن يكون المقصود بذلك الأمر كل تصريح بإرادة يصدر به قرار من الإدارة بصفة كونها سلطة عمومية وفي حال قيامها بوظائفها التي يسندها إليها القانون ويكون مستوفيًا للأوضاع المقررة قانونًا وفي سبيل مصلحة عامة وهذا على خلاف الأعمال التي تقوم بها الإدارة لا بصفة كونها سلطة عمومية بل بصفة كونها طرفًا متعاقدًا).
(وحيث إن القرار المشار إليه الذي أصدرته الإدارة المختصة في 20 فبراير سنة 1924 بصفة كونها سلطة عمومية وفي حدود الوظائف المسندة إليها التي تتناول على التخصيص حراسة وحفظ الآثار التي لا حاجة بنا لبيان كونها حائزها لصفة المصلحة العامة هذا القرار لا شك في أنه مستوفٍ لجميع الشرائط المطلوبة لتكوين الأمر الإداري….).
تبين من كل ما تقدم أن من حق القضاء العادي دائمًا أن يبحث في حقيقة الأمر الذي تتمسك به جهة الإدارة لمعرفة مبلغ مطابقته للقانون واحترامه للإجراءات التي وضعها لكفالة الحريات الخاصة والعامة وحقوق الأفراد فإذا ظهر له من بحثه أن الإدارة قد خرجت عن دائرة حقها بأن أصدرت أمرًا لا تجد لها من القانون سندًا لإصداره أو أصدرته متجاهلة ما ينص عليه القانون من إجراءات قضت بإلغائه لأنها ليست بصدد أمر إداري يكفل له القانون الحماية والاحترام، بل بصدد اعتداء واغتصاب.
الدستور المصري وقانون المطبوعات
وقد أخذت محكمة مصر الاستئنافية بحكمها الذي أصدرته (في قضية الست روز اليوسف [(2)] ضد وزارة الداخلية) بهذا المبدأ (يراجع الحكم في هذا العدد في باب الأحكام الكلية).
كانت نظرية محكمة الاستئناف في هذا الحكم أن الأوامر الإدارية التي منع الشارع المحاكم الأهلية من تأويلها أو إيقاف تنفيذها ونص على قصر حق تقاضي الأفراد بشأنها على المطالبة بالتعويض إنما هي الأوامر والإجراءات التي تدخل في الاختصاصات التي تخولها القوانين واللوائح للسلطة الإدارية فإذا تعدت اختصاصها لا يكون أمرها أمرًا إداريًا محترمًا وإنما يقع باطلاً ليس له أية صفة قانونية ثم رجعت المحكمة إلى قانون المطبوعات وقررت أن الدستور في المادة (15) نص على حرية الصحافة في حدود القانون كما نص على منع الرقابة على الصحف أو إنذارها أو وقفها بالطريق الإداري فألغى بذلك المادة (13) وما يرتبط بها من مواد الأمر العالي الصادر في نوفمبر سنة 1881.
وحيث إن الدستور لم يتعرض لباقي نصوص قانون المطبوعات فكل مواده التي لا تتعارض ولا تتناقض مع نصوص الدستور الصريحة تبقى نافذة.
وحيث إن المادة (10) من قانون المطبوعات نصت على أنه يجوز للحكومة ضبط ومصادرة جميع الرسومات والنقوشات……… متى تراءى لها أنها مغايرة للنظام العمومي أو الآداب أو الدين وهو نص عام يدخل تحته الجرائد والمجلات وأنه يستحيل عمليًا مصادرة النقوشات والرسومات التي تطبع في عدد من جريدة أو مجلة بغير مصادرة العدد نفسه.
وحيث إن نص المادة (10) لم يتعرض له الدستور بالإلغاء ولا يمكن القول بأن بينه وبين المادة (15) من الدستور أي تعارض أو تناقض لأن ضبط ومصادرة الرسومات والنقوشات ليس من قبيل الوقف أو الإلغاء لأن الإلغاء هو منع الصحيفة من الصدور نهائيًا والوقف هو منعها منعًا مؤقتًا لمدة معينة وبناءً على ذلك رأت أن الإجراء الذي اتخذه البوليس يستند إلى قانون نافذ فالمحكمة ممنوعة من تأويله، أما البحث في سداد هذا الأمر أو عدالته فإن محله دعوى التعويض.
يستدعي البحث مناقشة المسائل الآتية:
أولاً: أثر صدور الدستور المصري في قانون المطبوعات.
ثانيًا: إثبات أن المادة العاشرة من قانون المطبوعات لا تنطبق على الجرائد والمجلات.
ثالثًا: إثبات أن الحكومة في تصرفها قد خالفت القوانين المرعية وتعسفت.
عن المسألة الأولى:
صدر الدستور المصري كافلاً لحرية الرأي على اختلاف صورها ومظاهرها فنصت المادة (14) منه على أن (حرية الرأي مكفولة)، ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون.
ونصت المادة (15) على (أن الصحافة حرة في حدود القانون، والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو قفلها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك، إلا إذا كان ذلك ضروريًا لوقاية النظام الاجتماعي).
وهنا يعرض السؤال التالي وهو هل أراد واضع الدستور بعبارة في حدود القانون التي وردت في المادتين (14) و(15) من قانون المطبوعات وبفرض أنه أراده فهل أراد كل نصوصه أو أن بعضًا منها نسخ.
قبل أن نجيب على هذا السؤال نقدم بين يدي بحثنا طائفة من الوثائق الرسمية التي صدرت قبل الدستور أو معه وهي تلقي كثيرًا من النور على هذا الموضوع وتكشف عن وجه الحق فيه.
أولاً: مناقشات لجنة الدستور:
يكفينا هنا أن نلخص المناقشة التي دارت في لجنة الدستور فقد افتتح المناقشة المرحوم المكباتي بك طالبًا تغيير عبارة (بشرط أن تراعي حدود القانون) بعبارة ([شرط أن تراعي حدود القوانين العامة)، وقد أيده علي ماهر بك في رأيه حيث قال على أثره بعد أن قدم اقتراحًا خاصًا شرحه فيما يلي (أريد من إثبات هذا النص أنه لا يمكن ولا للبرلمان وخصوصًا في الأحوال العادية وضع الصحافة تحت أي رقابة ولا أن يكون للسلطة الإدارية الحق في منع أحد من إصدار صحيفة، أرى أن يكون هذا الحق ثابتًا مطلقًا من كل قيد فإذا أساء أحد استعماله بأي نوع من أنواع الإساءة ففي القانون العادي غنى وكفاية.
وقام على إثره (عبد العزيز فهمي بك) وقال إن رأيه (أن تطلق الحرية الصحافية إطلاقًا تامًا والحرية نفسها كفيلة بتنظيم نفسها وتطورها مع الزمن إلى الأصلح والأنفع... أني أميل الآن الرأي الثاني وهو إطلاق الحرية للصحافة.
تساءل بعد ذلك (محمد علي بك) قائلاً هل يعطي للبرلمان الحق في سن القوانين اللازمة للصحافة تأمينًا للنظام وصونًا للأعراض أم لا.
علي ماهر بك: هذا تكفل به قانون العقوبات، والذي أريد أن لا يكون للبرلمان قوانين تبيح للحكومة مراقبة الصحف أو عدم الترخيص بإصدارها وظاهر من هذا إذًا أن المناقشة كانت دائرة حول تقييد سلطة البرلمان في إصدار قوانين خاصة بالصحافة ففريق كان يرى أن لا محل لتقييد سلطة البرلمان في التشريع ما دام قد وضع الأساس الكافل لحرية الصحافة ومنع مراقبتها ورفع يد الإدارة عنها، وفريق كان يرى أن قانون العقوبات كفيل بمؤاخذة الصحفي الذي يرتكب إثمًا وفيه غنى وكفاية ولا محل لوضع قانون آخر ولكن لجنة الدستور رأت أن لا تأخذ بالرأي الأخير أي أنها تركت للبرلمان أن يشرع للصحافة ويجعل لها قانونًا ما دام تشريعه يكون متفقًا مع ما قرره من المبادئ الأساسية الكفيلة بحرية الصحافة وحرية الرأي وما دامت هذه الحرية أصبحت من المبادئ الأساسية التي لا يجوز لأية سلطة من سلطات الدولة اقتراح تعديلها (مادة (156) من الدستور).
فعبارة (في حدود القانون) التي جاءت في صدر المادة (15) وفي عجز المادة (14) ليس المقصود منها الإحالة على قانون المطبوعات مطلقًا وإنما أريد منها قانون العقوبات الحالي.
ثانيًا: مذكرة لجنة الدستور:
على أن كل شك في الأمر يزول بالاطلاع على مذكرة لجنة الدستور وهي تفسر المادة (15) حيث تقول (قد كان مما ينظم أمور الصحافة عندنا قانون المطبوعات وفيه إثبات حق الإدارة في إنذار الجرائد وتعطيلها ووقفها وإذ هي لم تكن من حيث ما يكتب فيها إلا صورة خاصة من إبداء الرأي رأت اللجنة للتسوية بينها وبين صورة الأخرى في الحكم ألا يكون حسابها على ما يقع منها إلا بطريق القضاء وعلى حسب ما يضعه القانون من الحدود، ولذلك حذرت إنذارها أو وقفها أو إلغاءها من أجل ما ينشر فيها بالطرق الإدارية.... إلخ) (راجع الجلسة التاسعة والثلاثين من محاضر لجنة الدستور).
فظاهر من هذا أن اللجنة ما فكرت لحظة واحدة أن قانون المطبوعات سيظل قائمًا بعد الدستور فعبرت عنه بالفعل الماضي، وقررت في صراحة أن حساب الصحف في المستقبل على ما يقع منها سيكون بطريق القضاء (لا بطريق الإدارة) وعلى حسب ما يضعه القانون من الحدود.
ثالثًا: مذكرة وزير الحقانية:
تأكد هذا المعنى مرة أخرى بمذكرة وزير الحقانية التي نشرها يوم صدور الدستور وجاء فيها (وقد ضمنت حرية الصحافة بالمادة (15) من الدستور وهذه الحرية لا تقيد فيما بعد مبدئيًا إلا بنصوص قانون العقوبات فلا يمكن إقامة الرقابة المنعية عليها ويمتنع إنذار الصحف أو تعطيلها أو إلغاؤها بواسطة الإدارة فكل نظام قانون المطبوعات الذي سن في 26 فبراير سنة 1881 يجب أن يجعل مطابقًا للمبادئ الجديدة، ولكن يبقى هنالك استثناء واحد لإنذار الصحف أو تعطيلها أو إلغائها بالطرق الإدارية فإن بعضًا من الحرية الدستورية لا يمكن تطبيقه على حملات تحمل على أساس الهيئة الاجتماعية كخطر الدعوى البلشفية الموجود الآن فإنه يضطر جميع الحكومات إلى اتخاذ تدابير قد تكون منافية للمبادئ المقررة بالدستور لأجل ضمان حرية أهل البلاد المساكين، فلكي يمكن إنشاء تشريع لمكافحة أمثال هذه الدعوى الضارة نص في المادة (15) على أن إنذار الصحف وتعطيلها وإلغائها بالطرق الإدارية قد يجوز في حالة ما تقضي الضرورة بالالتجاء إليه لحماية النظام الاجتماعي (يراجع كتاب التشريع السياسي لعبد اللطيف محمد بك جزء (2) صفحة 666).
رابعًا: مذكرة أخرى للحقانية في يوليه سنة 1925:
وفي يوليه سنة 1925 وقت تعطيل البرلمان لأول مرة أصدرت وزارة زيور باشا مرسومًا بقانون بتعديل المادة (162) عقوبات ونشرت مذكرة مذيلة بإمضاء (معالي عبد العزيز فهمي باشا وزير الحقانية إذ ذاك) جاء فيها (كانت الصحافة قبل إعلان الدستور تحت رحمة السلطة الإدارية التي كان لها الحق في تعطيل الجرائد والرسائل الدورية بل وفي إلغائها لكن الدستور قد قرر مبدئيًا حريتها ورفع عنها يد السلطة الإدارية على أنه كان من الطبيعي أن هذه الحرية يحدها حق المجتمع والأفراد في أن لا يساء استعمالها لذلك قرر الدستور بأن الصحافة حرة في حدود القانون.
ولما كان في بعض نصوص قانون العقوبات الحالي الخاصة بالجنح الصحفية شيء من الغموض يستلزم الإيضاح وقليل من النقص يستلزم التكميل.. فقد رئي إدخال شيء من التعديل على بعض أحكام قانون العقوبات الخاصة بالجنح الصحفية، وهذا مع عدم المساس أي مساس بمبدأ حرية الصحف ولا بمالها من الحقوق المشروعة
إلخ (راجع التشريع السياسي جزء ثالث لعبد اللطيف بك محمد صـ 952).
كل هذه الوثائق متضافرة في إثبات أن القانون الذي تشير إليه المادة (15) من الدستور هو قانون العقوبات وليس هناك ما يفهم منه أنها قانون المطبوعات بالذات على أن المادة (167) من الدستور أتت بنص حاسم حيث قالت (كل ما قررته القوانين والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات من الأحكام وكل ما سن أو اتخذ من قبل من الأعمال والإجراءات طبقًا للأصول والأوضاع المتبعة يبقى نافذًا بشرط أن يكون نفاذها متفقًا مع مبادئ الحرية والمساواة التي يكفلها هذا الدستور).
فقانون المطبوعات بالنسبة لما جاء به ماسًا بمبادئ الحرية التي كلفها الدستور يعتبر ملغيًا وغير قائم فنصوصه الخاصة بتعطيل الصحف أو مصادرتها أو إنذارها أو المراقبة عليها منسوخة حكمًا وبالنص الصريح وأما باقي النصوص الخاصة بالشروط الإدارية لإصدار الصحف وعنوان المطبعة وتاريخ الصدور إلى غير ذلك مما لا علاقة له بحرية الصحافة فهي قائمة.
وقد اتفق الحكم الذي صدر في الدعوى المستعجلة معنًا على أن المادة (13) من قانون المطبوعات المذكورة أصبحت ملغاة وبقي أن نناقش هل المادة العاشرة منه ألغيت أم لا.
على أنه قبل الإجابة على هذا السؤال يهمنا أن تعرف مدى ما نسخ من سلطة الإدارة بصدور الدستور وبالرجوع إلى ما أثبتناه هنا من المناقشات والمذكرات يتبين.
أولاً: أن لجنة الدستور كانت متفقة على منع جهات الإدارة من إرسال إنذارات إلى الصحف أو وقفها بغير حكم قضائي (وأقوال عبد العزيز بك فهمي في آخر محضر جلسة 39 في 16 أكتوبر سنة 1922)، وعلى أن المراد هو منع تسلط الإدارة على الصحف بأي طريقة من الطرق (علي ماهر بك في نفس الجلسة).
ثانيًا: أن اللجنة رأت (أن لا يكون حساب الصحف على ما يقع منها إلا بطريق القضاء وعلى حسب ما يضعه القانون من الحدود ولذلك حذرت إنذارها أو وقفها أو إلغاءها من أجل ما ينشر فيها بالطرق الإدارية) ومذكرة لجنة الدستور، كتاب عبد اللطيف بك محمد صـ 665 جزء ثانٍ).
ثالثًا: لا تقيد حرية الصحف إلا بنصوص قانون العقوبات فلا يمكن إقامة الرقابة المنعية عليها ويمتنع إنذار الصحف وتعطيلها أو إلغائها بواسطة الإدارة (مذكرة وزير الحقانية).
فإذا كان مجرد الإنذار وهو لا يمس الجريدة في صدورها ولا يتعرض لحرية النشر ولا لحرية الناشرين محرمًا بعد الدستور فهل يتصور متصور أن المصادرة تكون جائزة بعد الدستور، والمصادرة أبعد مدى من الإنذار فهي تعطيل مؤقت ومنع من الصدور يومًا أو أكثر، وهلا يكون واضع الدستور عابثًا بحرية الصحف وهازلاً حين يمنع الإدارة من إنذار الصحف أو مراقبتها سواء بعد أو قبل النشر وفي الوقت نفسه يبيح لها أن تمنع جريدة من الصدور أو تصادرها وتعدمها وأي خيال يبقى لحرية الصحافة بعد ذلك وماذا يلغي من قانون المطبوعات إذا كان مباحًا للإدارة في ظل الدستور أن تصادر أي عدد يطبع من جريدة لأسباب نراها يقول حكم محكمة مصر (أن نص المادة (10) لم يتعرض له الدستور بالإلغاء ولا يمكن القول بأن بينه وبين المادة (15) من الدستور أي تعارض أو تناقض لأن ضبط ومصادرة الرسومات والنقوشات ليس من قبيل الإلغاء أو الوقف لأن الإلغاء هو منع الصحيفة من الصدور نهائيًا والوقف هو منعها منعًا مؤقتًا لمدة معينة) مناقشة لفظية لا تستشعر شيئًا من روح الدستور ولا معناه وخطأ بين فبينما يرى حكم محكمة مصر المستأنف أن الدستور يحظر وقف الجريدة أي منعها منعًا مؤقتًا من الظهور نراه في الوقت نفسه يبيح منع الجريدة من الظهور يومًا أو أكثر بسبب مصادرة العدد بعد طبعه وأي فرق في النتيجة بين أمر يصدر للجريدة وقبل أن تطبع ينبه عليها بأنها موقوفة يومًا وبين انتظار تمام الطبع ومصادرة عدد اليوم المذكور ومنع الجريدة من الصدور وإذا دام تكرار هذه المصادرة بأن أوقفت الإدارة جنديًا على باب المطبعة يمنع صدور إعداد جريدة من الجرائد في كل يوم بحجة أن بها رسمًا لا يروق لوزير الداخلية (مثلاً) فهلا يكون من وراء ذلك أن الجريدة معطلة نهائيًا.
الدستور يمنع الرقابة على الصحف قبل نشرها أو بعده وبعبارة أخرى يحظر على وزير الداخلية أن يصدر أمرًا لجريدة من الجرائد بأن لا تنشر صورة معينة لأنه يرى في نشرها خطرًا على الأمن أو الآداب فهل إذا كان ممنوعًا من إصدار هذا الأمر قبل الطبع تزيد سلطته بعد الطبع فينقلب أمره إلي فعل وإلى مصادرة مادية تنتهي بإعدام العدد كله ؟ هل إذا كان مستحيلاً عليه أن يصدر أمرًا للصحيفة بعدم النشر يكون له في الوقت نفسه سلطة مصادرة الجريدة نفسها ؟ أظن أن هذا عبث لا يقدم عليه واضع الدستور ولا أي مشروع في الوجود.
يقول حكم محكمة مصر أن الدستور في المادة (15) لم يحرم المصادرة بالنص وفاتها أن النص الذي يحرم مجرد الإنذار والرقابة لا يمكن أن يبيح المصادرة وهي تعطيل مؤقت أو وقف.
مناقشة المادة (10):
أن المادة العاشرة من قانون المطبوعات إما أن تكون شاملة الصحف والمجلات وإما أن تكون مقتصرة على الصور المجردة والكليشيهات والنقوش فإن كانت الأولى فقد ألغاها الدستور بالنسبة لما يخص الصحف وإن كانت الثانية فقد انتهى الجدل بيننا وبين الحكومة.
على أننا نثبت الآن أمرين:
الأول: أنها لا يمكن أن تكون متعلقة بالصحف والمجلات.
والثاني: أن ما تنص عليه من المصادرة لا يمكن أن يتم إلا بحكم قضائي.
أما عن النقطة الأولى وهو أن المادة العاشرة ليست خاصة بالصحافة على الإطلاق فدليلنا عليه ما يلي:
أولاً: نص الفتوى التي كتبها المسيو ببولا كازيللي سنة 1924 عندما أستشير في أمر قانون المطبوعات فقد قسم فتواه إلى قسمين:
القسم الأول: خاصًا بنصوص القانون المتعلقة بالمطابع.
والقسم الثاني: من الفتوى وهو المتعلق بنصوص قانون المطبوعات الخاصة بالصحافة.
وظاهر من الرجوع إلى الفتوى المقدمة أن المسيو بيولا كازيللي قد ذكر المادة العاشرة ضمن النصوص الخاصة بالمطابع ولهذا ارتأى أنها باقية ويصح تطبيقها لأنها لا دخل لها بحرية الصحافة على الإطلاق ولا تبيح مصادرة جريدة أو مجلة، ولو أنه وجدها منطبقة على الصحف لقطع بعدم بقائها.
ثانيًا: على أنه بالرجوع إلى سنة 1909 وهي السنة التي أعادت الحكومة فيها العمل بقانون المطبوعات نجد أنها أعادت كل النصوص الخاصة بالجرائد التي تنشر بالقطر المصري (المادة الأولى من قرار مجلس النظار الصادر في 25 مارس سنة 1909)، ولما رأت الحكومة أن هذا لا يشمل العمل بالمادة العاشرة لأنها غير خاصة بالصحافة وضعت نصًا خاصًا هو أن المادة الثالثة من القرار وقالت فيه (ثالثًا يجوز في كل وقت للحكومة عند الاقتضاء استعمال السلطة المنصوص عنها في المادة العاشرة....).
فما دامت المادة العاشرة باعتراف الحكومة غير خاصة بالصحافة فتكون غير منطبقة على المجلات مطلقًا لأنها جريدة وليست نقشًا مستقلاً ولا رسمًا والقول بأنها تشمل الصحف أيضًا من باب القياس غير مقبول لأننا بصدد قانون جزاءات لا محل فيه للأخذ بالقياس ولا بد من نص صريح.
ولكن محكمة مصر في حكمها السابق زعمت أن المصادرة من أجل رسم ولكن الحكومة لم تقل ذلك، على أننا لو فرضنا صحة هذا السبب فإن المادة العاشرة لا تنطبق مطلقًا على مجلة مصورة لأن وضع صورة كاريكاتورية في مجلة أو صحيفة لا ينبني عليه أن الجريدة كلها تتلاشى ولا يبقى إلا نقش أو رسم ينطبق عليه المادة العاشرة، يقول الحكم إنه يستحيل عمليًا مصادرة رسم في صحيفة من غير مصادرة الصحيفة أو المجلة نفسها، ولكن هذه الاستحالة نفسها هي التي كانت توجب الحكم بأن المادة العاشرة لا تنطبق على مصادرة الصورة أو الرسم لأن هذا يمنع مصادرة المجلة كلها أي أن الفرع ينقلب أصلاً، بل لقد نص الحكم أن الصورة المرسومة في مجلة أو صحيفة ليست نقشًا ولا رسمًا ولكنها رأي أو فكرة والمادة العاشرة لا تسمح بمصادرة غير النقوش والرسوم المجردة عن الإعراب عن رأي والمادة الرابعة عشرة من الدستور تنص على أن حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان الإعراب عن فكرة بالقول أو بالتصوير في حدود القانون.
ولا شك أن الحد الذي تقف عنده حرية الإعراب عن الرأي بالتصوير هو النصوص الخاصة بذلك في قانون العقوبات كالمادة (148) عقوبات وما بعدها.
أما السماح بمصادرة الرأي مرسومًا في نقش مطبوع في مجلة فيحرمه الدستور في مادة من مواده الأساسية التي لا يمكن اقتراح تعديلها والتي نسخت المادة (167) من الدستور كل نص متعارض معها من أي قانون أو لائحة.
وهنا ملاحظة أساسية، وهي أنه بفرض أن المادة العاشرة تنطبق على الصحف والمجلات فسلطة المصادرة بمقتضى قرار مجلس النظار في مارس سنة 1909 وبمقتضى الدستور لا تكون إلا للقضاء لا للإدارة وإليك الدليل:
أولاً: في نفس اليوم الذي أصدر مجلس النظار قراره القاضي بإعادة العمل بقانون المطبوعات أصدر قرارًا.
ثانيًا: ذكر فيه (تكليف سعادة ناظر الداخلية بإقامة الدعوى أمام المحاكم عن المخالفات التي تقع من الجرائد ما لم يستصوب تنفيذ المادة الثالثة عشرة من القانون للوصول إلى الغاية المقصودة).
وظاهر من هذا أن إعادة العمل بقانون المطبوعات سنة 1909 لوحظ فيها أن يكون حساب الصحف على ما يصدر منها من مخالفات للقانون أمام المحاكم ومنع وزير الداخلية من استعمال سلطته المنصوص عليها في القانون ولكن بقي هناك سلطة احتياطية لمجلس النظار وهي استعمال السلطة التي تخوله إياها المادة الثالثة عشرة وهي الخاصة بتعطيل الجريدة نهائيًا بعد إنذارين أو من غير إنذارات وفيما عدا هذا الحق الذي احتفظ مجلس النظار بحق استعماله يكون وزير الداخلية مكلفًا برفع لدعوى أمام المحاكم.
ثانيًا: بالرجوع إلى ما قررناه فيما مضى يتضح أن لجنة الدستور رأت أن الصحافة بعد صدور الدستور لا تؤاخذ إلا بطريق القضاء على ما يصدر منها والمصادرة عقبة لا يصح توقيعها إلا بحكم قضائي مبني على نص صريح.
وعلى هذا فيكون ما اتخذه قلم المطبوعات من إجراءات المصادرة ضد المجلة المذكورة خروجًا على القوانين وعملاً من أعمال الاغتصاب ويكون من حق القضاء الحكم بإلغائه، وإلزام الحكومة بتعويض الضرر الناشئ عن هذا التصرف.
وقد أخذت محكمة مصر الابتدائية بهذه النظرية وقضت بإلزام الحكومة بالتعويض بحكمها الصادر في مايو سنة 1929.
وقد نشرناه في باب أحكام المحاكم الكلية.
محمد صبري أبو علم
[(1)] وتأييدًا لهذا الحكم الأخير ننقل ما يأتي عن كتاب (مرينياك - في الأوامر التي تصدرها العرائض والقضاء المستعجل جزء ثانٍ طبعة 1906 صـ 53 نبذة رقم 60).
(وأخيرًا إذا افترضنا أننا أمام حالة اعتداء ظاهر من السلطة وأعمال ترتكب خارجًا عن كل سلطة إدارية وبمحض الرغبة الشخصية فقاضي المواد المستعجلة لا يعتدي مطلقًا على مبدأ فصل السلطات إذا أمر بإجراء وقتي بإيقاف أعمال مخالفة للقانون، فالقاضي يقف في هذه الحالة لمساعدة المتقاضين المجني عليهم في الإجراءات الاستبدادية إلى أن يستطيعوا الوصول إلى حقهم الأصلي أمام الجهة المختصة، ويمكن أن يفترض أنها أعمال لم يصرح بها من الإدارة كالأعمال التي يقوم بها مأمور بغير قرار من الجهة المختصة).
[(2)] جرت مصادرة إعداد المجلة قبل صدور الأمر الملكي الصادر في 19 يوليه سنة 1928 بإيقاف العمل ببعض أحكام الدستور.
أضف الى مفضلتك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التصنيفات : الرد على الدفوع الجنائية, روائع مجلة المحاماة, مجلس الدولة, محاماة | السمات:مجلس الدولة, محاماة, الرد على الدفوع الجنائية, روائع مجلة المحاماة
لا تعليقات
أرسل الإدراج | دوّن الإدراج
لا تعليقات
تعارض الأحكام
مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الثالثة - عدد يوليه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
تعارض الأحكام
ولد في نفسي وضع هذا العنوان اطلاعي ذات يوم على مجلة المحاماة (السنة الثالثة - العدد السابع) إذ وقع نظري في صفحة 300 بين أحكام المحاكم الشرعية على ملخص خطير الشأن لتعلقه بالنظام فضلاً عن مصالح الأفراد.
ولكي يسهل على القارئ الإلمام بسبب دهشتي ولاحتمال أن يشاطرني وجهة النظر التي سأبديها بهذا الصدد أراني مضطرًا إلى نقل هذا الملخص بنصه وفصه وها هو:
(لا التحقيقات الجنائية التي تجريها النيابة العمومية ولا الأحكام الجنائية التي تصدرها
محاكم الجنايات بإدانة شخص والحكم عليه بالعقوبة تكفي في نظر المحاكم الشرعية لإثبات جريمة القتل على شخص إثباتًا يمنعه من الميراث بل يلزم لاعتبار الشخص قاتلاً ومحرومًا من الإرث أن يقدم مدعي القتل البينة الشرعية على دعواه أمام المحكمة الشرعية).
ولا أخفي أنني تعجبت لدى إمعان النظر في تلك القاعدة إلى درجة حدت بي إلى التوهم بأنه ربما كان فيها بعض الخروج عن حد الحكم المصدر هو بها ورأيت قطعًا لدابر الشك أن أرجع إلى الوقائع والأسباب التي أكون على بينة من الأمر فوضح لي حينئذٍ بعد أن مررت على شيء كثير (من مذكور ومذكروة)، وتعثرت في طائفة غير قليلة من (مرقوم ومرقومة) أن التلخيص صواب لأن الواقعة الصادر فيها هذا الحكم من المحكمة العليا الشرعية بتاريخ 25 ديسمبر سنة 1916 مؤداها أن إحدى السيدات رفعت دعوى مقتضاها أن المدعى عليه الثاني قام به مانع شرعي يمنعه من وراثته لأخيه المتوفى لأنه هو القاتل الوحيد له وقد اعتمدت في ذلك على حكم محكمة الجنايات المبني على التحقيقات التي عملت وثبت منها ومن شهادة الشهود أن هذا المدعى عليه هو المرتكب لجريمة القتل هذه حتى بإقراره وإن كان قد تعلل في اعترافه بأن القتل إنما وقع خطأ.
لم تقتنع المحكمة الشرعية بكل ما تقدم وقالت إن الأوراق المقدمة غير كافية رغمًا مما أوردناه من أن الخصم معترف بالقتل وغاية الأمر أنه أسنده إلى الخطأ، وليس في ذلك ما يؤثر في الاستدلال، إذ من المعلوم شرعًا أن القتل بجميع أنواعه مانع من الإرث لكنها أي المحكمة قررت أن اعترافه هذا لا يفيد أنه هو القاتل لأخيه قتلاً يؤدي إلى الحرمان من الميراث.
لم يبقَ طبعًا إلا تكليف المدعية بإثبات دعواها فأتت بشهود شهدوا،ولكن قضى سوء الطالع إن لم تأخذ المحكمة بشهادتهم، ولمَ يا ترى ؟ قيل لقصورها، وما وجه ذلك ؟ - قيل لأنهم شهدوا على إقرار المدعي بالضرب بالطبنجة وأن الإقرار به لا يكون إقرارًا بالقتل - وكيف ذلك ؟ قيل هذا ما صرح به الفقهاء.
وإذا لم تأخذ المحكمة بشهادة الشهود ولم تعول على ذلك الإقرار عدت المدعية عاجزة عن إثبات دعواها ولم يبقَ إلا توجيه اليمين للمدعى عليه وهي اليمين التي جرى العرف على تسميتها (بيمين العاجز).
وغني عن البيان أن اليوم الذي قررت المحكمة فيه هذا التحليف كان من أسعد الأيام في نظر الخصم حيث طاب نفسًا وقر عينًا، ذلك لأن تمتعه بالميراث أصبح معلقًا على إرادته فسارع طبعًا إلى تأدية اليمين ونال تلك الأمنية التي كانت تصبو إليها نفسه، ولا حاجة بنا إلى القول بأن ختام هذه المناضلة كان رفض دعوى المدعية والحكم عليها بما يترتب على ذلك من المستلزمات القانونية.
ونحن إذ أردنا تلخيص ما تقدم كله بعبارة وجيزة تسني لنا القول إن من قضت بإدانته محكمة الجنايات المتوج حكمها باسم ولي الأمر أصبح في حكم البريء في نظر المحكمة الشرعية حالة كونها تصدر الأحكام هي أيضًا نيابةً عن ولي الأمر نفسه.
ليت شعري كيف يمكن احتمال هذه النتيجة القاسية التي ربما لم يفكر فيها أولئك الذين أصدروا ذلك الحكم التفكير العميق الذي كانت تقضيه الحال: شخص عد جانيًا بقوة التحقيقات وأنزل القضاء العقاب به فيأتي قضاء آخر وهو فرع من السلطة القضائية العامة ويعامله كأنه بريء مظلوم لم يقتل ومن ثم يبقيه متمتعًا بحق الإرث في أموال القتيل.
لو أن هذه الواقعة فريدة في بابها لهان الأمر ولكن من نكد الدنيا في هذه البلاد أن كثيرًا ما يقع القتل بين الأقارب مما يؤدي إلى قيام مثل تلك الدعوى أمام المحاكم الشرعية ولا سيما إذا روعي أن القتل بجميع أنواعه يجر شرعًا إلى الحرمان من الميراث، ويكفي الإشارة هنا إلى أننا عثرنا بطريق المصادفة على مقالة لأحد رجال القضاء الشرعي منشورة في العدد العاشر من مجلة القضاء صـ 486، وما يليها يؤخذ منها أن القضايا من هذا النوع غير قليلة وأن منها ما نظم بمحكمة طنطا الشرعية ومحكمة مصر الشرعية.
ومن سوء الحظ أن أحكام المحاكم الشرعية بهذا الصدد صدرت كلها على المنهج المتقدم من حيث عدم الاعتداد بالأحكام الجنائية حسبما تبين من المقال المشار إليه.
من المعلوم أن السلطة القضائية موزعة في القطر المصري على جهات متعددة تفصل كل منها في طائفة معينة من الدعاوى، وقد خولت هذه السلطة بمقتضى الأنظمة الموضوعة من قبل ولي الأمر كما أنه من المعلوم شرعًا ونظامًا أن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والنوع والنصاب والرأي إلى غير ذلك مما لا حاجة بنا إلى التبسيط فيه، ولا يخفي أن قيام كل جهة بالحكم فيما انفردت به مما هو داخل في دائرة وظيفتها يقتضي وجوب أن تكون أحكامها محترمة معمولاً بها لدى الجهات الأخرى إذ بدون ذلك يختل النظام وتعم الفوضى وتصبح كل جهة تعيد النظر ثانية فيما فصلت فيه الجهة الأخرى وهو ما يجر لزومًا إلى عدم الاعتداد بالأحكام ولا الاكتراث بالتحقيقات التي كانت أساسًا لها.
أن بناء الأحكام على القرائن أمر معروف في كتب الفقه ومعهود بطبيعة الحال لدى رجال القضاء الشرعي بحيث يكون من الميسور أن تنظر المحاكم الشرعية إلى الحكم الانتهائي الصادر من محكمة الجنايات بمثابة قرينة قاطعة على ارتكاب الجاني للجريمة المسندة إليه، على أن هناك ما قد يغني عن الأخذ بمجرد القرينة إلا هو النص الوارد في لائحة المحاكم الشرعية م (138) فقد قضى بأن الأوراق الرسمية تكون كافية للحكم دون حاجة إلى إثبات آخر معها والمفروض في الحادثة أن الحكم الجنائي وهو من الأسانيد الرسمية بلا جدال وصادر في حق جهة المحكوم عليه تضمن الدليل القضائي على كونه هو القاتل الوحيد للمتوفى.
ألا يرى قضاة المحاكم الشرعية أنه بسبب ما تقدم من جهة وجوب اعتبار الحكم حجة بما فيه أن من بيده حكم من المحاكم الجنائية يقتصر في رفع الدعوى المدنية بشأن المطالبة بالتعويض على الاستدلال بهذا الحكم وحده وتقنع المحكمة حينئذٍ بهذا البرهان دون اقتضاء سواه وتكون مهمتها الوحيدة إنما هو النظر في تقدير التعويض ليس إلا.
إن ذلك المذهب الذي سارت عليه المحاكم الشرعية بالاطراد قد يؤدي إلى نتيجة غريبة من نوع آخر، فقد تحكم المحاكم الأهلية بالبراءة ثم يأتي ذو الشأن في الميراث رغمًا من ذلك ويرفع الأمر للقضاء الشرعي فإذا فرض واقترنت الدعوى بأدلة الثبوت التي تراها المحكمة الشرعية كافية وجب بالبداهة أن تقضي بالحرمان من الميراث اعتمادًا على استقلالها بالأمر وتكون بذلك قد ضربت بالحكم عرض الحائط.
من حق الجمهور أن يتأفف ويشمئز إذا ما رأى أحكام المحاكم في قطر واحد تتعارض إلى هذا الحد بحيث أن الحكم الصادر مثلاً بإدانة القاتل من محكمة باب الخلق لا يُقام له وزن إذا ما تباعدنا بضعة مئات من الأمتار عن هذا المكان وبلغنا جهة الحلمية حيث مقر المحكمة الشرعية.
إن الذوق السليم ينفر والحق يقال عند مشاهدته للقاتل يتنعم في أموال القتيل هازئًا بالحكم الأهلي من ناحية ما كان يقتضيه من جهة حرمانه من الميراث.
تلك حالة خطيرة الشأن لا يصح عدلاً السكوت عليها ولا شك أنها خليقة بالنظر وجديرة بالعلاج العادل وهو في يد أولياء الأمور فيما نعتقد، وخير الطرق لمنع هذا التضارب وأقربها منالاً على ما نرى أن تضاف مادة على لائحة المحاكم الشرعية مؤداها وجوب الأخذ بالأحكام الجنائية بالمعنى الأعم فيما تدون بها أو أن يضاف بين مستلزمات العقوبة المشار إليها في قانون العقوبات نص يؤدي من نفسه إلى حرمان القاتل من ميراث القتيل كعقوبة تبعية في جميع الحالات التي يقتضيها الحكم الشرعي.
السنة الثالثة - عدد يوليه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
تعارض الأحكام
ولد في نفسي وضع هذا العنوان اطلاعي ذات يوم على مجلة المحاماة (السنة الثالثة - العدد السابع) إذ وقع نظري في صفحة 300 بين أحكام المحاكم الشرعية على ملخص خطير الشأن لتعلقه بالنظام فضلاً عن مصالح الأفراد.
ولكي يسهل على القارئ الإلمام بسبب دهشتي ولاحتمال أن يشاطرني وجهة النظر التي سأبديها بهذا الصدد أراني مضطرًا إلى نقل هذا الملخص بنصه وفصه وها هو:
(لا التحقيقات الجنائية التي تجريها النيابة العمومية ولا الأحكام الجنائية التي تصدرها
محاكم الجنايات بإدانة شخص والحكم عليه بالعقوبة تكفي في نظر المحاكم الشرعية لإثبات جريمة القتل على شخص إثباتًا يمنعه من الميراث بل يلزم لاعتبار الشخص قاتلاً ومحرومًا من الإرث أن يقدم مدعي القتل البينة الشرعية على دعواه أمام المحكمة الشرعية).
ولا أخفي أنني تعجبت لدى إمعان النظر في تلك القاعدة إلى درجة حدت بي إلى التوهم بأنه ربما كان فيها بعض الخروج عن حد الحكم المصدر هو بها ورأيت قطعًا لدابر الشك أن أرجع إلى الوقائع والأسباب التي أكون على بينة من الأمر فوضح لي حينئذٍ بعد أن مررت على شيء كثير (من مذكور ومذكروة)، وتعثرت في طائفة غير قليلة من (مرقوم ومرقومة) أن التلخيص صواب لأن الواقعة الصادر فيها هذا الحكم من المحكمة العليا الشرعية بتاريخ 25 ديسمبر سنة 1916 مؤداها أن إحدى السيدات رفعت دعوى مقتضاها أن المدعى عليه الثاني قام به مانع شرعي يمنعه من وراثته لأخيه المتوفى لأنه هو القاتل الوحيد له وقد اعتمدت في ذلك على حكم محكمة الجنايات المبني على التحقيقات التي عملت وثبت منها ومن شهادة الشهود أن هذا المدعى عليه هو المرتكب لجريمة القتل هذه حتى بإقراره وإن كان قد تعلل في اعترافه بأن القتل إنما وقع خطأ.
لم تقتنع المحكمة الشرعية بكل ما تقدم وقالت إن الأوراق المقدمة غير كافية رغمًا مما أوردناه من أن الخصم معترف بالقتل وغاية الأمر أنه أسنده إلى الخطأ، وليس في ذلك ما يؤثر في الاستدلال، إذ من المعلوم شرعًا أن القتل بجميع أنواعه مانع من الإرث لكنها أي المحكمة قررت أن اعترافه هذا لا يفيد أنه هو القاتل لأخيه قتلاً يؤدي إلى الحرمان من الميراث.
لم يبقَ طبعًا إلا تكليف المدعية بإثبات دعواها فأتت بشهود شهدوا،ولكن قضى سوء الطالع إن لم تأخذ المحكمة بشهادتهم، ولمَ يا ترى ؟ قيل لقصورها، وما وجه ذلك ؟ - قيل لأنهم شهدوا على إقرار المدعي بالضرب بالطبنجة وأن الإقرار به لا يكون إقرارًا بالقتل - وكيف ذلك ؟ قيل هذا ما صرح به الفقهاء.
وإذا لم تأخذ المحكمة بشهادة الشهود ولم تعول على ذلك الإقرار عدت المدعية عاجزة عن إثبات دعواها ولم يبقَ إلا توجيه اليمين للمدعى عليه وهي اليمين التي جرى العرف على تسميتها (بيمين العاجز).
وغني عن البيان أن اليوم الذي قررت المحكمة فيه هذا التحليف كان من أسعد الأيام في نظر الخصم حيث طاب نفسًا وقر عينًا، ذلك لأن تمتعه بالميراث أصبح معلقًا على إرادته فسارع طبعًا إلى تأدية اليمين ونال تلك الأمنية التي كانت تصبو إليها نفسه، ولا حاجة بنا إلى القول بأن ختام هذه المناضلة كان رفض دعوى المدعية والحكم عليها بما يترتب على ذلك من المستلزمات القانونية.
ونحن إذ أردنا تلخيص ما تقدم كله بعبارة وجيزة تسني لنا القول إن من قضت بإدانته محكمة الجنايات المتوج حكمها باسم ولي الأمر أصبح في حكم البريء في نظر المحكمة الشرعية حالة كونها تصدر الأحكام هي أيضًا نيابةً عن ولي الأمر نفسه.
ليت شعري كيف يمكن احتمال هذه النتيجة القاسية التي ربما لم يفكر فيها أولئك الذين أصدروا ذلك الحكم التفكير العميق الذي كانت تقضيه الحال: شخص عد جانيًا بقوة التحقيقات وأنزل القضاء العقاب به فيأتي قضاء آخر وهو فرع من السلطة القضائية العامة ويعامله كأنه بريء مظلوم لم يقتل ومن ثم يبقيه متمتعًا بحق الإرث في أموال القتيل.
لو أن هذه الواقعة فريدة في بابها لهان الأمر ولكن من نكد الدنيا في هذه البلاد أن كثيرًا ما يقع القتل بين الأقارب مما يؤدي إلى قيام مثل تلك الدعوى أمام المحاكم الشرعية ولا سيما إذا روعي أن القتل بجميع أنواعه يجر شرعًا إلى الحرمان من الميراث، ويكفي الإشارة هنا إلى أننا عثرنا بطريق المصادفة على مقالة لأحد رجال القضاء الشرعي منشورة في العدد العاشر من مجلة القضاء صـ 486، وما يليها يؤخذ منها أن القضايا من هذا النوع غير قليلة وأن منها ما نظم بمحكمة طنطا الشرعية ومحكمة مصر الشرعية.
ومن سوء الحظ أن أحكام المحاكم الشرعية بهذا الصدد صدرت كلها على المنهج المتقدم من حيث عدم الاعتداد بالأحكام الجنائية حسبما تبين من المقال المشار إليه.
من المعلوم أن السلطة القضائية موزعة في القطر المصري على جهات متعددة تفصل كل منها في طائفة معينة من الدعاوى، وقد خولت هذه السلطة بمقتضى الأنظمة الموضوعة من قبل ولي الأمر كما أنه من المعلوم شرعًا ونظامًا أن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والنوع والنصاب والرأي إلى غير ذلك مما لا حاجة بنا إلى التبسيط فيه، ولا يخفي أن قيام كل جهة بالحكم فيما انفردت به مما هو داخل في دائرة وظيفتها يقتضي وجوب أن تكون أحكامها محترمة معمولاً بها لدى الجهات الأخرى إذ بدون ذلك يختل النظام وتعم الفوضى وتصبح كل جهة تعيد النظر ثانية فيما فصلت فيه الجهة الأخرى وهو ما يجر لزومًا إلى عدم الاعتداد بالأحكام ولا الاكتراث بالتحقيقات التي كانت أساسًا لها.
أن بناء الأحكام على القرائن أمر معروف في كتب الفقه ومعهود بطبيعة الحال لدى رجال القضاء الشرعي بحيث يكون من الميسور أن تنظر المحاكم الشرعية إلى الحكم الانتهائي الصادر من محكمة الجنايات بمثابة قرينة قاطعة على ارتكاب الجاني للجريمة المسندة إليه، على أن هناك ما قد يغني عن الأخذ بمجرد القرينة إلا هو النص الوارد في لائحة المحاكم الشرعية م (138) فقد قضى بأن الأوراق الرسمية تكون كافية للحكم دون حاجة إلى إثبات آخر معها والمفروض في الحادثة أن الحكم الجنائي وهو من الأسانيد الرسمية بلا جدال وصادر في حق جهة المحكوم عليه تضمن الدليل القضائي على كونه هو القاتل الوحيد للمتوفى.
ألا يرى قضاة المحاكم الشرعية أنه بسبب ما تقدم من جهة وجوب اعتبار الحكم حجة بما فيه أن من بيده حكم من المحاكم الجنائية يقتصر في رفع الدعوى المدنية بشأن المطالبة بالتعويض على الاستدلال بهذا الحكم وحده وتقنع المحكمة حينئذٍ بهذا البرهان دون اقتضاء سواه وتكون مهمتها الوحيدة إنما هو النظر في تقدير التعويض ليس إلا.
إن ذلك المذهب الذي سارت عليه المحاكم الشرعية بالاطراد قد يؤدي إلى نتيجة غريبة من نوع آخر، فقد تحكم المحاكم الأهلية بالبراءة ثم يأتي ذو الشأن في الميراث رغمًا من ذلك ويرفع الأمر للقضاء الشرعي فإذا فرض واقترنت الدعوى بأدلة الثبوت التي تراها المحكمة الشرعية كافية وجب بالبداهة أن تقضي بالحرمان من الميراث اعتمادًا على استقلالها بالأمر وتكون بذلك قد ضربت بالحكم عرض الحائط.
من حق الجمهور أن يتأفف ويشمئز إذا ما رأى أحكام المحاكم في قطر واحد تتعارض إلى هذا الحد بحيث أن الحكم الصادر مثلاً بإدانة القاتل من محكمة باب الخلق لا يُقام له وزن إذا ما تباعدنا بضعة مئات من الأمتار عن هذا المكان وبلغنا جهة الحلمية حيث مقر المحكمة الشرعية.
إن الذوق السليم ينفر والحق يقال عند مشاهدته للقاتل يتنعم في أموال القتيل هازئًا بالحكم الأهلي من ناحية ما كان يقتضيه من جهة حرمانه من الميراث.
تلك حالة خطيرة الشأن لا يصح عدلاً السكوت عليها ولا شك أنها خليقة بالنظر وجديرة بالعلاج العادل وهو في يد أولياء الأمور فيما نعتقد، وخير الطرق لمنع هذا التضارب وأقربها منالاً على ما نرى أن تضاف مادة على لائحة المحاكم الشرعية مؤداها وجوب الأخذ بالأحكام الجنائية بالمعنى الأعم فيما تدون بها أو أن يضاف بين مستلزمات العقوبة المشار إليها في قانون العقوبات نص يؤدي من نفسه إلى حرمان القاتل من ميراث القتيل كعقوبة تبعية في جميع الحالات التي يقتضيها الحكم الشرعي.
مرافعات الأستاذ أبو هيف بك
مجلة المحاماة
مرافعات الأستاذ أبو هيف بك
ظهر في أوائل عام 1915 كتاب (المرافعات المدنية والتجارية والنظام القضائي في مصر) لصديقنا المفضال الأستاذ عبد الحميد بك أبو هيف ولقد كان لي شرف تقدمة هذا السفر الجليل الذي جمع فيه مؤلفه من أبحاث قانون المرافعات ما يجعلها سهلة التناول على كل طالب وما يسد النقص الذي يشعر به كل مصري دعته الظروف لبحث المسائل القانونية أو تطبيقها فكان عمله خدمة وطنية قربت للناس مناهل العلم وسهلت لهم سبله وفتحت الطريق لنشر العرفان وقضت على العهد الذي كانت فيه إجراءات المحاكم وأعمالها سرًا من الأسرار كثيرًا ما يكون وسيلة لدى المشاغبين والمضللين لإضاعة الحقوق وتحويل القانون الذي وضع لخدمة العدل وحماية الحق وضمان المساواة إلى أداة ظلم وعسف واستبداد يسخرها القوي لخدمة أغراضه ضد الفقراء والجهلاء.
وفي هذه الأيام رأيت الطبعة الثانية لهذا الكتاب فخلتها لأول وهلة نفس الطبعة الأولى وظننت أن ما شغل به الأستاذ بمدرسة الحقوق من تدريس مواد أخرى ظهرت له فيها مؤلفات قيمة وما عرفته في الطبعة الأولى من أبحاث مستفيضة قد يحمله على إعادتها كما هي ولكني لم ألبث أن تجلت لي تلك الصفات العالية وهذه الروح النادرة المثال التي عرفتها فيه منذ كنا مدرس بمدرسة الحقوق فكان مثالاً يُقتدى به في المثابرة وحب الاطلاع والاجتهاد والبحث المستمر فلقد رأيت الأستاذ في كتابه يضم إليه كل بحث جديد وكل مبدأ حديث، فمن إشارة إلى ما نشرته المجلات القضائية من المناظرات بين رجال القانون ونقد الأحكام القضائية إلى البحث في نتائج الحرب وما ترتب عليها من تأثير في المرافعات أمام المحاكم المختلطة إلى استدراك بعض نقط هامة لم تكن جاءت في الكتاب الأول كإجراءات دعوى القسمة ونظام الأوامر على العرائض وطرق الطعن فيها، ومع كل ذلك لم يفته الالتفات إلى بعض الدقائق مثل استعاضة لفظ بآخر والعناية بفهرست الكتاب وإضافة فهرست فرنسي له.
وبالجملة فإن الطبعة الثانية جاءت دليلاً جيدًا على ما لصديقنا المفضال من الفضل العظيم في خدمة العلم وذويه وما له من الصفات العالية التي يجب على كل مصري أن يتخذها نموذجًا يقتدى به في حياته فإن هذه الصفات سر من أسرار النجاح للأمم والأفراد وهي سبيل الرقي والفلاح.
محمد بهي الدين بركات
علاقة المحامي الإنجليزي بموكله
(نقلاً عن كتاب النظام القضائي في إنجلترا صـ 278)
جرت العادة منذ قرون أن يتوسط بين المحامي وموكله وكيل دعوى وهذه العادة متبعة إلى اليوم ولا يخرج عنها المحامي أو يخل عنها بآداب المهنة فكل من له دعوى يوكل فيها وكيل دعاوى لمباشرتها وإذا احتاج هذا إلى استشارة محامٍ أو إلى تفويضه بالمرافعة فيها فإنه يستشيره أو يفوضه بذلك ويقال في سبب ذلك إن المحامي لا يمكنه أن يبدي رأيًا في الدعوى أو يسيرها حتى يتحرى عن كافة وقائعها ولما كان المحامي في مركز لا يليق به ولا يمكنه معه أن يتحرى بنفسه عن وقائعها لزم أن يقوم بذلك وكيل الدعوى.
ويجوز للمحامي في غير المنازعات القضائية أن يستشار مباشرةً من قبل أي شخص وبغير واسطة وكيل دعوى في أي أمر لا يتعلق بدعوى مرفوعة أو مزمع رفعها وفي حالة استثنائية يجوز للمحامي أن يقبل التوكيل مباشرةً من الخصم وهي حالة المتهم في القفص يوم المحاكمة فيجوز للمتهم أن يوكل أي محامٍ في الجلسة ويدفع له أتعابه جنيهًا سلفًا وفي كلتا الحالتين لا يرتبط المحامي بعقد موكله ولا يصح عقد بينهما فإن لم يستلم أتعابه منه سلفًا فلا يمكنه رفع دعوى بها وإن أهمل المحامي الدعوى أو تغيب عن الجلسة أو تصالح عليها فلا يسأل عن ذلك ولا يطالب برد الأجر أبدًا.
ولا يحصل عقد توكيل بين المحامي ووكيل الدعاوى بل الأخير يرفع الأوراق للمحامي للاستشارة أو للمرافعة فيها وتستحق الأتعاب كلها عند تسليم هذه الأوراق للمحامي وعادةً يكتب وكيل الدعوى قيمة الأتعاب على غلافها فإن قبلها المحامي يمضي تحتها ويؤرخ ويعتبر هذا وصلاً منه بالاستلام يعمل به عند تقدير أتعاب المحاماة على الخصم، ويحظر على المحامي أن يقيد أتعابه تبعًا لنتيجة الدعوى فيحصل بعضها معجلاً وبعضها مؤجلاً يحل بالحكم لمصلحة موكله أو أن يتفق مع وكيل دعاوى على قبول كل دعوى منه بأجر معين أو أن يقبل دعوى بأدنى من الأجر المعتاد فكل هذا مخالف للآداب المرعية في المهنة ويقال في سبب ذلك إن أتعاب المحامي يجب أن لا تدور مع نتيجة الدعوى سواء نجحت أو لم تنجح فعمله في الحالين واحد ولكي لا يكون له صالح مالي في كسب الدعوى بأي طريقة فيحمله ذلك على التحايل في القانون حيلاً غير لائقة.
ويجب على المحامي قبول الدعوى ما دام أجرها مناسبًا لا يقل عن الحد المتعارف في المهنة إلا إذا كانت لديه أعذار تبرر الرفض كأن اشتغل فيها للخصم من قبل.
ويجب عليه أن لا توكل لشخصين مصلحتهما متضادة أو أن يتوكل لشخص واحد إذا كان يرتبك في الدفاع عنه بسبب ما أسر إليه موكل آخر من قبل.
ويجب على المحامي حفظ أسرار موكله وأن لا يستفيد من علمه بها حتى بعد انتهاء عمله في الدعوى وللمحاكم أن تتداخل فتمنعه بأمر تحذير عن إفشاء سر موكله وتلغي أي عقد يعمله ويستفيد به من علمه بهذه الأسرار.
ولا يجوز إفشاء كل ما دار بين المحامي ووكيل الدعوى والموكل إلا إذا تعلق بإجراء تزوير أو ارتكاب جريمة والمنع في ذلك لصالح الموكل فإن تنازل عنه جاز الإفشاء ووجبت الشهادة عما حصل.
المحامي الإنجليزي والفرنسي
(نقلاً عن كتاب النظام القضائي في إنجلترا صـ 283)
ذكر الكونت فرنكفيل في كلامه عن المحاماة في الجزء الأول من كتابه عن نظام القضاء في إنجلترا رأيه في المحاماة والمحامين الإنجليز وقارن بينهم وبين زملائهم الفرنسيس واعتبر المحاماة في إنجلترا أدنى من المحاماة في فرنسا فذكر صعوبة البدء في هذه المهنة وما تستلزمه من المصاريف الباهظة في السنين الأولى وارتفاع أجور كبار المحامين وانتقد على الخصوص ترتيب درجات المحامين إلى مستشارين ومحامين وعابها وبين نقصًا في تدريس القانون وأشار إلى عدم توسع المحامي الإنجليزي في أصول الفقه ومبادئ القانون العامة واكتفائه باستقراء أحكام المحاكم والقياس عليها وإلى عدم بلاغته وفصاحته في المرافعة فيدافع عن المتهم بقتل باللغة التي يتكلم بها المحامي الفرنسي في الحائط المشترك ونسب ذلك إلى أسباب أربعة عدم تبحره في مبادئ القانون واعتماده في وقائع الدعوى على ما يذكره له وكيل الدعوى فلا يكاد يستنتج فيها شيئًا من عنده ورزانة المحلفين الإنجليز وعدم تأثرهم إلى بالحجج المسندة إلى وقائع ثابتة فلا يأخذهم توسل أو استعطاف ولا يسحرون بالبيان إذا تجرد عن حجج مدعمة إلى وقائع ثابتة ثم إلى القاضي الذي كان محاميًا من قبل فهو لا يسمح للمحامي أن يترافع أمامه إلا بما يؤثر في موضوع الدعوى وليس للبيان على مثل هذا تأثير ثم إلى رغبة المحامي الإنجليزي في الوصول إلى نتيجة قاطعة في الدعوى فإن أشبهت دعوى سابقة حكم فيها على وجه معين فذلك حكم للقانون فيها فإن كان في صالحه استند عليه بعد أن يبين تشابه الدعويين وإن كان ضده فلا حيلة له في الأمر إلا أن يبين اختلاف الدعويين أحدهما عن الأخرى.
وإذا نظرت دعوى لدى قاضٍ بغير محلفين فتأخذ المرافعة شكل المحاورة والمناقشة بين القاضي والمحامي.
وقد عاب القاضي على محامٍ مدعٍ في دعوى زنا مع بنت صغيرة توسله إلى المحلفين (ليحموا صغار البنات من أمثال المتهم) على اعتبار أن مثل هذا القول لا يليق صدروه ممن يقوم بوظيفة مدعٍ عمومي.
ورأى فرنكفيل يستحق الاعتبار لصدوره من عالم فرنسي كبير أقام في إنجلترا ثلاثين عامًا درس فيها نظام القضاء والدستور وعاشر في أثنائها رجال القضاء والمحامين والسياسة معاشرة الند القرين وتلقن من أفواههم ما ليس في كتبهم.
ومن خبرتي القليلة مما رأيت وقرأت وعما سمعت لا أرى أن مرور جيل من الزمن على كتابه يغير شيئًا من رأيه.
علاقة القضاء بالسلطة التنفيذية بمصر وإنجلترا وفرنسا
(نقلاً عن كتاب النظام القضائي في إنجلترا صـ 334)
أظهر عيب في نظام القضاء المصري إذا قورن بالنظام الإنجليزي هو سلطة الحكومة على القضاة في مصر وتظهر هذه السلطة في ترقية القضاة ونقلهم من بلد إلى أخرى وفي عجز القضاة عن إجبار السلطة التنفيذية على اتباع القانون في حالة ما إذا باشرت جهة الإدارة إجراء عمل مخالف للقانون فليس للقاضي أن يحكم على جهة الإدارة بالامتناع عن إجراء ما يخالف القانون وله فقط أن يحكم بتعويض الضرر الناشئ عن ذلك وقد لا يكون في ما تجريه جهة الإدارة من العمل أو الامتناع عن العمل ضرر مادي يقدر بمال، ويكون فيه ضرر أدبي جسيم على من أخل بحقه أو على مجموع الأمة مثال ذلك: مدير يمنع عضوًا بإحدى اللجان الإدارية عن حضور جلساتها أو لا يعقد مجلس المديرية بناءً على طلب عدد معين من أعضائه كما يقضي بذلك القانون أو مأمور يراقب شخصًا بلا حق ويمنعه بواسطة خفرائه من مبارحة منزله ليلاً فإذا حدث مثل ذلك في إنجلترا فللمعتدى عليه أن يطلب من المحكمة الكبرى أمر إجراء أوامر تحذير إلى الموظف ليجري العمل أو ليمتنع عنه فإن خالف أمر المحكمة تحبسه لجريمة عصيان أمر المحكمة.
قد يعذر الشارع لما أنشأ المحاكم الأهلية إذا جعلها تحت السلطة التنفيذية لأنه أنشأها ولم يكن في البلد قضاة ولا مدرسة لتعليم القانون ولكن هذا العذر سقط اليوم فيجب أن يقرر للقضاء حق رقابة السلطة التنفيذية.
ويجب أن يزول أو على الأقل يحدد ما للحكومة من السلطة على القضاء من حيث الترقية والنقل بتقرير قواعد معينة لذلك كالتي تتبع في القضاء المختلط.
وأختم هذه المقارنة بعبرة قالها فرنكفيل في عرض مقارنته بين نظام القضاء الإنجليزي والفرنسي يجب أن نتدبرها جيدًا لأني أرى أننا سائرون في الطريق الذي سلكه الفرنسيس من قبل، قال:
(إن علة نظامنا أن السياسية تسمم جذوره فتعيين القضاة وترقيتهم وعزلهم ورفع الدعوى الجنائية والإدانة والبراءة والعفو كل ذلك يجرى تحت تأثير ديوان مركزي يرأسه رجل سياسي توليه الظروف إدارة هذه الهيئة زمنًا قصيرًا وكل اهتمامه مد مدة وزارته ومراعاة مقتضيات السياسة حتى لا تسقط الوزارة، فالقضاء تهدده السلطة التي ينتظر منها أن تحميه ولا يعضده الرأي العام وليس له أن يستمع الدعوى الجنائية مباشرةً إلا أن ترفعها إليه الحكومة ويعاونه محلفون يساء اختيارهم لأن السياسة تتحكم في كيفية انتخابهم ويرى أنه إن حكم على أحد من حزب الحكومة يمحو العفو حكمه فلذلك وهن القضاء وعجز عن أداء واجبه نحو الأمة.
(أما القاضي الإنجليزي فمن ذا الذي يشفع عنده ومن يجرأ أن يوصيه إذا عين لمدة حياته فيبقى مستقلاً جريئًا مستندًا على قوة الرأي العام لا يؤثر عليه عضو في برلمان ولا عضو في وزارة ولا يحول بينه وبين إجراء العدل نيابة عمومية يقتص للضعيف من القوي وفوق ذك فإن أحكامه تحترم ولا يعفي عمن يحكم عليه بغير موافقته).
(يجب على المنتقد أن ينصف، نعم أني أمدح القضاة الإنجليز ولكن أفضل منهم النظام الذي يكونهم ويضمن استقلالهم فيسهل عليهم أداء واجبهم وإرضاء ضمائرهم وإذا انتقد قضائيًا فإنما انتقد النظام الذي يثير نزاعًا دائمًا بين ضمائرهم وبين مصلحتهم، والقاضي الإنجليزي الذي لا يؤدي واجبه يجب أن يكون رجلاً سافلاً والقاضي الفرنسي الذي يؤدي واجبه بحق يجب أن يكون ملكًا بطلاً، تلك هي ميزة القضاء الإنجليزي على القضاء الفرنسي).
مرافعات الأستاذ أبو هيف بك
ظهر في أوائل عام 1915 كتاب (المرافعات المدنية والتجارية والنظام القضائي في مصر) لصديقنا المفضال الأستاذ عبد الحميد بك أبو هيف ولقد كان لي شرف تقدمة هذا السفر الجليل الذي جمع فيه مؤلفه من أبحاث قانون المرافعات ما يجعلها سهلة التناول على كل طالب وما يسد النقص الذي يشعر به كل مصري دعته الظروف لبحث المسائل القانونية أو تطبيقها فكان عمله خدمة وطنية قربت للناس مناهل العلم وسهلت لهم سبله وفتحت الطريق لنشر العرفان وقضت على العهد الذي كانت فيه إجراءات المحاكم وأعمالها سرًا من الأسرار كثيرًا ما يكون وسيلة لدى المشاغبين والمضللين لإضاعة الحقوق وتحويل القانون الذي وضع لخدمة العدل وحماية الحق وضمان المساواة إلى أداة ظلم وعسف واستبداد يسخرها القوي لخدمة أغراضه ضد الفقراء والجهلاء.
وفي هذه الأيام رأيت الطبعة الثانية لهذا الكتاب فخلتها لأول وهلة نفس الطبعة الأولى وظننت أن ما شغل به الأستاذ بمدرسة الحقوق من تدريس مواد أخرى ظهرت له فيها مؤلفات قيمة وما عرفته في الطبعة الأولى من أبحاث مستفيضة قد يحمله على إعادتها كما هي ولكني لم ألبث أن تجلت لي تلك الصفات العالية وهذه الروح النادرة المثال التي عرفتها فيه منذ كنا مدرس بمدرسة الحقوق فكان مثالاً يُقتدى به في المثابرة وحب الاطلاع والاجتهاد والبحث المستمر فلقد رأيت الأستاذ في كتابه يضم إليه كل بحث جديد وكل مبدأ حديث، فمن إشارة إلى ما نشرته المجلات القضائية من المناظرات بين رجال القانون ونقد الأحكام القضائية إلى البحث في نتائج الحرب وما ترتب عليها من تأثير في المرافعات أمام المحاكم المختلطة إلى استدراك بعض نقط هامة لم تكن جاءت في الكتاب الأول كإجراءات دعوى القسمة ونظام الأوامر على العرائض وطرق الطعن فيها، ومع كل ذلك لم يفته الالتفات إلى بعض الدقائق مثل استعاضة لفظ بآخر والعناية بفهرست الكتاب وإضافة فهرست فرنسي له.
وبالجملة فإن الطبعة الثانية جاءت دليلاً جيدًا على ما لصديقنا المفضال من الفضل العظيم في خدمة العلم وذويه وما له من الصفات العالية التي يجب على كل مصري أن يتخذها نموذجًا يقتدى به في حياته فإن هذه الصفات سر من أسرار النجاح للأمم والأفراد وهي سبيل الرقي والفلاح.
محمد بهي الدين بركات
علاقة المحامي الإنجليزي بموكله
(نقلاً عن كتاب النظام القضائي في إنجلترا صـ 278)
جرت العادة منذ قرون أن يتوسط بين المحامي وموكله وكيل دعوى وهذه العادة متبعة إلى اليوم ولا يخرج عنها المحامي أو يخل عنها بآداب المهنة فكل من له دعوى يوكل فيها وكيل دعاوى لمباشرتها وإذا احتاج هذا إلى استشارة محامٍ أو إلى تفويضه بالمرافعة فيها فإنه يستشيره أو يفوضه بذلك ويقال في سبب ذلك إن المحامي لا يمكنه أن يبدي رأيًا في الدعوى أو يسيرها حتى يتحرى عن كافة وقائعها ولما كان المحامي في مركز لا يليق به ولا يمكنه معه أن يتحرى بنفسه عن وقائعها لزم أن يقوم بذلك وكيل الدعوى.
ويجوز للمحامي في غير المنازعات القضائية أن يستشار مباشرةً من قبل أي شخص وبغير واسطة وكيل دعوى في أي أمر لا يتعلق بدعوى مرفوعة أو مزمع رفعها وفي حالة استثنائية يجوز للمحامي أن يقبل التوكيل مباشرةً من الخصم وهي حالة المتهم في القفص يوم المحاكمة فيجوز للمتهم أن يوكل أي محامٍ في الجلسة ويدفع له أتعابه جنيهًا سلفًا وفي كلتا الحالتين لا يرتبط المحامي بعقد موكله ولا يصح عقد بينهما فإن لم يستلم أتعابه منه سلفًا فلا يمكنه رفع دعوى بها وإن أهمل المحامي الدعوى أو تغيب عن الجلسة أو تصالح عليها فلا يسأل عن ذلك ولا يطالب برد الأجر أبدًا.
ولا يحصل عقد توكيل بين المحامي ووكيل الدعاوى بل الأخير يرفع الأوراق للمحامي للاستشارة أو للمرافعة فيها وتستحق الأتعاب كلها عند تسليم هذه الأوراق للمحامي وعادةً يكتب وكيل الدعوى قيمة الأتعاب على غلافها فإن قبلها المحامي يمضي تحتها ويؤرخ ويعتبر هذا وصلاً منه بالاستلام يعمل به عند تقدير أتعاب المحاماة على الخصم، ويحظر على المحامي أن يقيد أتعابه تبعًا لنتيجة الدعوى فيحصل بعضها معجلاً وبعضها مؤجلاً يحل بالحكم لمصلحة موكله أو أن يتفق مع وكيل دعاوى على قبول كل دعوى منه بأجر معين أو أن يقبل دعوى بأدنى من الأجر المعتاد فكل هذا مخالف للآداب المرعية في المهنة ويقال في سبب ذلك إن أتعاب المحامي يجب أن لا تدور مع نتيجة الدعوى سواء نجحت أو لم تنجح فعمله في الحالين واحد ولكي لا يكون له صالح مالي في كسب الدعوى بأي طريقة فيحمله ذلك على التحايل في القانون حيلاً غير لائقة.
ويجب على المحامي قبول الدعوى ما دام أجرها مناسبًا لا يقل عن الحد المتعارف في المهنة إلا إذا كانت لديه أعذار تبرر الرفض كأن اشتغل فيها للخصم من قبل.
ويجب عليه أن لا توكل لشخصين مصلحتهما متضادة أو أن يتوكل لشخص واحد إذا كان يرتبك في الدفاع عنه بسبب ما أسر إليه موكل آخر من قبل.
ويجب على المحامي حفظ أسرار موكله وأن لا يستفيد من علمه بها حتى بعد انتهاء عمله في الدعوى وللمحاكم أن تتداخل فتمنعه بأمر تحذير عن إفشاء سر موكله وتلغي أي عقد يعمله ويستفيد به من علمه بهذه الأسرار.
ولا يجوز إفشاء كل ما دار بين المحامي ووكيل الدعوى والموكل إلا إذا تعلق بإجراء تزوير أو ارتكاب جريمة والمنع في ذلك لصالح الموكل فإن تنازل عنه جاز الإفشاء ووجبت الشهادة عما حصل.
المحامي الإنجليزي والفرنسي
(نقلاً عن كتاب النظام القضائي في إنجلترا صـ 283)
ذكر الكونت فرنكفيل في كلامه عن المحاماة في الجزء الأول من كتابه عن نظام القضاء في إنجلترا رأيه في المحاماة والمحامين الإنجليز وقارن بينهم وبين زملائهم الفرنسيس واعتبر المحاماة في إنجلترا أدنى من المحاماة في فرنسا فذكر صعوبة البدء في هذه المهنة وما تستلزمه من المصاريف الباهظة في السنين الأولى وارتفاع أجور كبار المحامين وانتقد على الخصوص ترتيب درجات المحامين إلى مستشارين ومحامين وعابها وبين نقصًا في تدريس القانون وأشار إلى عدم توسع المحامي الإنجليزي في أصول الفقه ومبادئ القانون العامة واكتفائه باستقراء أحكام المحاكم والقياس عليها وإلى عدم بلاغته وفصاحته في المرافعة فيدافع عن المتهم بقتل باللغة التي يتكلم بها المحامي الفرنسي في الحائط المشترك ونسب ذلك إلى أسباب أربعة عدم تبحره في مبادئ القانون واعتماده في وقائع الدعوى على ما يذكره له وكيل الدعوى فلا يكاد يستنتج فيها شيئًا من عنده ورزانة المحلفين الإنجليز وعدم تأثرهم إلى بالحجج المسندة إلى وقائع ثابتة فلا يأخذهم توسل أو استعطاف ولا يسحرون بالبيان إذا تجرد عن حجج مدعمة إلى وقائع ثابتة ثم إلى القاضي الذي كان محاميًا من قبل فهو لا يسمح للمحامي أن يترافع أمامه إلا بما يؤثر في موضوع الدعوى وليس للبيان على مثل هذا تأثير ثم إلى رغبة المحامي الإنجليزي في الوصول إلى نتيجة قاطعة في الدعوى فإن أشبهت دعوى سابقة حكم فيها على وجه معين فذلك حكم للقانون فيها فإن كان في صالحه استند عليه بعد أن يبين تشابه الدعويين وإن كان ضده فلا حيلة له في الأمر إلا أن يبين اختلاف الدعويين أحدهما عن الأخرى.
وإذا نظرت دعوى لدى قاضٍ بغير محلفين فتأخذ المرافعة شكل المحاورة والمناقشة بين القاضي والمحامي.
وقد عاب القاضي على محامٍ مدعٍ في دعوى زنا مع بنت صغيرة توسله إلى المحلفين (ليحموا صغار البنات من أمثال المتهم) على اعتبار أن مثل هذا القول لا يليق صدروه ممن يقوم بوظيفة مدعٍ عمومي.
ورأى فرنكفيل يستحق الاعتبار لصدوره من عالم فرنسي كبير أقام في إنجلترا ثلاثين عامًا درس فيها نظام القضاء والدستور وعاشر في أثنائها رجال القضاء والمحامين والسياسة معاشرة الند القرين وتلقن من أفواههم ما ليس في كتبهم.
ومن خبرتي القليلة مما رأيت وقرأت وعما سمعت لا أرى أن مرور جيل من الزمن على كتابه يغير شيئًا من رأيه.
علاقة القضاء بالسلطة التنفيذية بمصر وإنجلترا وفرنسا
(نقلاً عن كتاب النظام القضائي في إنجلترا صـ 334)
أظهر عيب في نظام القضاء المصري إذا قورن بالنظام الإنجليزي هو سلطة الحكومة على القضاة في مصر وتظهر هذه السلطة في ترقية القضاة ونقلهم من بلد إلى أخرى وفي عجز القضاة عن إجبار السلطة التنفيذية على اتباع القانون في حالة ما إذا باشرت جهة الإدارة إجراء عمل مخالف للقانون فليس للقاضي أن يحكم على جهة الإدارة بالامتناع عن إجراء ما يخالف القانون وله فقط أن يحكم بتعويض الضرر الناشئ عن ذلك وقد لا يكون في ما تجريه جهة الإدارة من العمل أو الامتناع عن العمل ضرر مادي يقدر بمال، ويكون فيه ضرر أدبي جسيم على من أخل بحقه أو على مجموع الأمة مثال ذلك: مدير يمنع عضوًا بإحدى اللجان الإدارية عن حضور جلساتها أو لا يعقد مجلس المديرية بناءً على طلب عدد معين من أعضائه كما يقضي بذلك القانون أو مأمور يراقب شخصًا بلا حق ويمنعه بواسطة خفرائه من مبارحة منزله ليلاً فإذا حدث مثل ذلك في إنجلترا فللمعتدى عليه أن يطلب من المحكمة الكبرى أمر إجراء أوامر تحذير إلى الموظف ليجري العمل أو ليمتنع عنه فإن خالف أمر المحكمة تحبسه لجريمة عصيان أمر المحكمة.
قد يعذر الشارع لما أنشأ المحاكم الأهلية إذا جعلها تحت السلطة التنفيذية لأنه أنشأها ولم يكن في البلد قضاة ولا مدرسة لتعليم القانون ولكن هذا العذر سقط اليوم فيجب أن يقرر للقضاء حق رقابة السلطة التنفيذية.
ويجب أن يزول أو على الأقل يحدد ما للحكومة من السلطة على القضاء من حيث الترقية والنقل بتقرير قواعد معينة لذلك كالتي تتبع في القضاء المختلط.
وأختم هذه المقارنة بعبرة قالها فرنكفيل في عرض مقارنته بين نظام القضاء الإنجليزي والفرنسي يجب أن نتدبرها جيدًا لأني أرى أننا سائرون في الطريق الذي سلكه الفرنسيس من قبل، قال:
(إن علة نظامنا أن السياسية تسمم جذوره فتعيين القضاة وترقيتهم وعزلهم ورفع الدعوى الجنائية والإدانة والبراءة والعفو كل ذلك يجرى تحت تأثير ديوان مركزي يرأسه رجل سياسي توليه الظروف إدارة هذه الهيئة زمنًا قصيرًا وكل اهتمامه مد مدة وزارته ومراعاة مقتضيات السياسة حتى لا تسقط الوزارة، فالقضاء تهدده السلطة التي ينتظر منها أن تحميه ولا يعضده الرأي العام وليس له أن يستمع الدعوى الجنائية مباشرةً إلا أن ترفعها إليه الحكومة ويعاونه محلفون يساء اختيارهم لأن السياسة تتحكم في كيفية انتخابهم ويرى أنه إن حكم على أحد من حزب الحكومة يمحو العفو حكمه فلذلك وهن القضاء وعجز عن أداء واجبه نحو الأمة.
(أما القاضي الإنجليزي فمن ذا الذي يشفع عنده ومن يجرأ أن يوصيه إذا عين لمدة حياته فيبقى مستقلاً جريئًا مستندًا على قوة الرأي العام لا يؤثر عليه عضو في برلمان ولا عضو في وزارة ولا يحول بينه وبين إجراء العدل نيابة عمومية يقتص للضعيف من القوي وفوق ذك فإن أحكامه تحترم ولا يعفي عمن يحكم عليه بغير موافقته).
(يجب على المنتقد أن ينصف، نعم أني أمدح القضاة الإنجليز ولكن أفضل منهم النظام الذي يكونهم ويضمن استقلالهم فيسهل عليهم أداء واجبهم وإرضاء ضمائرهم وإذا انتقد قضائيًا فإنما انتقد النظام الذي يثير نزاعًا دائمًا بين ضمائرهم وبين مصلحتهم، والقاضي الإنجليزي الذي لا يؤدي واجبه يجب أن يكون رجلاً سافلاً والقاضي الفرنسي الذي يؤدي واجبه بحق يجب أن يكون ملكًا بطلاً، تلك هي ميزة القضاء الإنجليزي على القضاء الفرنسي).
شذرات عن المحاماة
كتبهااحمد الجمل ، في 15 ديسمبر 2008 الساعة: 20:04 م
مجلة المحاماة - العددان الأول والثاني
السنة التاسعة والعشرون 1948
شذرات عن المحاماة
كانت الهيئات القضائية في فرنسا فيما مضى تعقد اجتماعات كل يوم أربعاء وكان يعرض النائب العام ملاحظاته عن سير العدالة وتلقى فيها خطابات سميت الخطابات الأربعائية.
وكان من ضمن النصائح بالنسبة للمحامين: يجدر بالمحامين أن يترافعوا بصدق وإيجاز وطلاوة وجاه في كتاب L’Avocat للأستاذ هنري روبير نقيب المحامين السابق في فرنسا أن مسيو كاموس المحامي أوصى:
(ينبغي على المحامي أن يحيط علمًا بكافة الشؤون العظيمة وبجميع الفنون مثل البيان - الأدب - التاريخ – الحقوق – السياسة وأن لا يغفل عن معرفة أسرار الاقتصاد الاجتماعي والسياسي).
أنطون ليمستر: بلغ إعجاب الناس به أنه حين كان يترافع كان رجال البلاط وحاشية الملك يهجرون الكنائس ويتخلون عن مشاهير الوعاظ ويفدون إلى المحكمة ليسمعوه.
قال ماكس بولو: المحامي ملك.
وللكلام النفوذ الكلي في الحكم الديمقراطي مع النظام البرلماني قال إيزوبEsope عيشة المحامي على السواء خير الأشياء وأسوأها فهي خيرها لأنه لا توجد مهنة أروع ولا أسبق منها.
وهي شرها لأنه لا يوجد استرقاق يدنو منها ولا توجد حياة أشق منها ولا استغراق لذهن من يكرس نفسه لها.
قال القاضي D’aguesseau عن نقابة المحامين:
نقابة المحامين قديمة كالقضاء نبيلة كالفضيلة ضرورية كالعدالة.
وقال عن مهنة المحاماة (يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب وفيها الجدارة والجاه لا ينفصلان).
قال مدعي عمومي لدى محكمة استئناف بروكسل:
(إنه بناءً على الاحترام الجديرة به المرأة يجب أن يحال بينها وبين المحكمة - أن لها مهمة خاصة ينبغي أن تتفرغ لها - الأمومة وتدبير المنزل هما كل اختصاصها).
وقضت محكمة استئناف بروكسل بما يأتي:
إن تدبير المنزل ومقتضيات الأمومة تضع المرأة في أحوال لا تتفق مع واجبات مهنة المحامي.
وقالت مدام كولييت إيفر في روايتها (يجب أن تفسح المحاماة مكانًا للأرملة والفتاة المحتاجتين للعمل لأجل أن تعيشا).
تقام في فرنسا محاضرات لتدريب المحامين على ضروب المناوشات البرلمانية تمثل فيها جميع الأحزاب ويتناقش الخطباء في الأعمال المدونة في الجدول بحماس ويقين كما إذا كانت حياة البلد موقوفة على تصويتهم.
قال الأستاذ المحامي روس: المحامي الآن هو أقل الناس كلامًا.
والمحامون هم وحدهم الذين يحسنون السكوت لأن إحسان السكوت ليس إلا نتيجة حتمية لإحسان الكلام.
رداء المحامي: في سنة 1540 أصدر الملك فرنسوا الأول مرسومًا جاء فيه (محظور على جميع المحامين أن يدخلوا مجلس القضاء إلا بملابس محتشمة ورداء طويل وكم واسع وبدون لحية ولا سترة طويلة ولا أزار فوق الأكتاف أو غير ذلك من الملابس الفاحشة).
وكان يحرم عليهم أن يكون لهم شواربًا.
وفي القرون الوسطى كان أكثر المحامين من رجال الاكليروس فكانوا يحضرون في مجلس القضاء بملابسهم الكهنوتية وكانت نظم المحامين تحظر عليهم أن يلبسوا ثيابًا غير سوداء ما عدا في الإجازات.
وفي الإمبراطورية الفرنسية الثانية كانت النظم تحرم على المحامين المرافعة إلا إذا كانوا مرتدين بنطلونًا أسودًا وربطة رقبة بيضاء.
وروي أن محاميًا قصد إلى السخرية فلبس بنطلونًا أبيض وربطة سوداء فقال له رئيس المحكمة يا أستاذ المحكمة تأمرك أن تلبس البنطلون في عنقك والربطة في رجليك.
والغاية من الرداء أن يحوي تحته تفاوت درجات الثروة بين الزملاء وإنه رمز المساواة يلبسه الكبير والصغير على السواء وهو الذي يتميز به المحامي من بين الجمهور.
هل آن لنا تغييره ؟
قال الملك هنري الرابع بعد استماعه إلى مناجزة خطابيه بين محاميين (كلاهما على حق)،
وكان قدماء المصريين يعدون الخطابة آلهة مشؤومة واستبعدوها من محاكمهم وحتموا أن تكون كل إجراءات المحاكمة تحريرية.
وروي أن أحد المحامين في مرافعته سرد سيرة حياة موكله فإذا بموكله يبكي ويقول (ما كنت أدري أني تعيس إلى هذا الحد).
تشكي لوازيل من القضاة (الذين يقاطعوننا ويزجروننا في كل حين)، وقال (كل قاضٍ لا يحسن الإصغاء يستحيل أن يحسن القضاء).
نقابة المحامين Le Barreau
ليس المحامي هو النقابة كما أن المواطن ليس هو الوطن.
توجد المحاماة كلما كانت المنازعات بين الناس لا تحسم بالقوة.
والقانون طال أو قصر فهو دائمًا غامض وهو دائمًا ناقص ولا يمكن علاج جميع المشاكل المتعددة التي تنشأ بين الناس بمواد القانون.
وكلما وجد القانون وجد القاضي لتفسيره وتطبيقه على الواقع.
وكلما وجد القاضي كان لا بد من اثنين من المحامين.
مثل لمحاماة
في إحدى معرض إيطاليا صورة في وسطها تجلس العدالة والسيف والميزان.
وفي ثنايا لباس العدالة لعب صغيرة (مصير القضايا وكيس من المال وقطيع ومنزل وقلب وعلى الجانبين يقف المتقاضون عمى – أعمتهم المصلحة تطبق أيديهم بغير نظام على عقود وخطابات وصحائف من مجموعة القوانين وشهادات شهود وتقريرات ونشرات).
مساكين هؤلاء الناس، هل يعرف العاقل منهم قيمة ما يمسكه وما يمده بكل شوق إلى العدالة الصامتة ولكن بين العدالة وبين المتقاضي يقف رجل آخر هادئ غير متحزب وهو الأول الذي يفحص الأوراق ويزن الأمور ويقدر كل هذه الأوراق ويلقى جانبًا ما فيه شك ويضع في كفة الميزان ما له قيمة ومن يدري فربما يجد تحت قدمي موكله ورقة هي القاطعة في دعواه رماها موكله في حين يتوقف عليها مستقبله وشرفه أو حياته هذا هو المحامي.
قال النائب العمومي Bellart: نقابة المحامين هي جمعية الرجال الممتازين وأفضل الرجال وأحق الناس بالاحترام….، وليست الاستقامة العادية بكافية في وضعهم بل يضعون احترامهم فوق كل الشبهات وتجد الفضيلة آخر ملجأ لها عندهم إذا ضاق بها الناس.
إن شدة قانون المحاماة ناتج من قوة احترام المهنة.
المحامي خالق القانون: هو الذي يوحي إلى القاضي بتفسيراته وتعليقاته واعتباراته الاجتماعية لتبني عليها حكمه والحلول التي يصل إليها القاضي تكون بمشورة المحامي وإرشاده.
في آداب المحامي مع المحامي
الأخوة والتضامن،
احترام الحديث لمن هو أقدم منه وعطف الكبير على من هو أصغر منه، ولكن الاحترام وحده ليس بكافٍ بطريق الامتناع بل يجب أن يكون إيجابيًا، فلا يجب أن يطلب المحامي تأجيلاً قبل أن يخطر به زميله بوقت كافٍ.
والمحامي الذي يترافع في مدينة غير التي يباشر فيها عمله يجب عليه زيارة نقيب تلك الجهة وزميله الذي يكون خصمه.
والمحامي الذي يتوكل في دعوى يكون زميل له شخصيًا هو الخصم يجب عليه زيارته من باب الأدب والاحترام واللياقة.
المحامي الذي يطلب منه المرافعة في غياب زميله يجب عليه أن يعتذر للمحكمة ويعلل إذا أمكنه عذر زميله ويصمم على التأجيل أو على الأقل على أساس أنه إذا ترافع تسمع المحكمة مرافعة زميله في جلسة أخرى.
وفي حالة مرض أحد الزملاء يجد دائمًا من يقوم مقامه ويحل محله ويدافع نيابةً عنه إذا تعذر التأجيل وإذا توفي المحامي تنتدب جماعة من المحامين ليقدموا له آخر زيارة.
وأن يكون أول سؤال للموكل إن كان سبق أن وكل عنه زميلاً ولماذا تركه فإن كان فلا يجب عليه أن يقبل الدعوى إلا بعد إخطار زميله وأن زميله وصله أتعابه.
التقليد القديم: النقيب يترافع عند ما يمكنه المرافعة.
قال نقيب المحامين لا بوري: لن يوجد قضاة أكفاء قادرون إلا إذا وجد محامون أكفاء قادرون وبالعكس.
عبد الفتاح الشلقاني
شذرات عن المحاماة
(2)
Avocat أصلها أنه في أيام الرومان كان المدافع يُسمى Patrone، وكانت عادة المتهمين أن يطلبوا Dappeler a eux ad - vocare أن يحيط بهم أهلوهم أو أصدقاؤهم لمساعدتهم يدافعون عنهم ولكن المترافع أو المدافع يسمى Patronus أو orator، ومن كلمة ad - vocare انتهت إلى avocot.
النقابة اسمها ordre هذا اسم أعطي في عهد الرومان من الإمبراطور جستان ordo.
والجدول أنشئ لأول مرة في سنة 1340 في فرنسا.
ومنع أن يقيد فيه للعمل في المحاماة، الأصم والأعمى، القاصر، النساء، الكتبة والموثقين والقضاة ورجال الدين.
وظيفة المحامي:
الرأي الأول: وكيل.
الثاني: إيجار أشخاص.
الثالث: عدم وجود أي عقد.
الرابع: عقد غير مسمى.
الرأي الأخير: يؤدي خدمة عامة.
كانت حظيرة مقام المحامين في اليونان ودائرة المحكمة كلها معدودة من الأماكن المقدسة فإذا حان وقت الاشتغال رش المكان بالماء المطهر إشارة إلى أنه يجب أن لا يجرى فيه من الأعمال ولا يتكلم فيه من الأقوال إلا ما كان طاهرًا نقيًا.
كان أيديد المحامي اليوناني المشهور يدافع عن امرأة حسناء متهمة بالتعدي على الآلهة ورأى من القضاة تحفزًا للحكم عليها فدفعها أمامهم وأماط القناع عن وجهها وجعل يناجيهم بجمل الحنان وعبارات الاسترحام فبهرهم جمالها فبرؤها.
لذلك صدر بعد هذه الحادثة قانون قضى على المحامين أن لا يتخذوا مقدمات في دفاعهم وأن يمتنعوا عن كل قول من شأنه استجلاب الرفق أو إثارة الغضب كما قضى على القضاة أن لا ينظروا إلى المتهم إذا حاول استعطافهم وجرت العادة أن يصيح صائح وقت افتتاح الجلسة على المحامين يذكرهم بهذه النصوص وكانت المحاماة في زمان الجمهورية الرومانية السلم الذي يرقى الرجل منه إلى أرفع المناصب فما كان مجلس الأعيان والأمة ذاتها ينتخبان أحدًا لتلك المناصب إلا من المحامين ومن المدهشات أن أولئك العظماء لم يلهوا بقوة جاههم وعظمة صولتهم التي كانت تندك لها الممالك والبلدان عن المحاماة بل كانوا يأتون إلى حظيرتها ويروحون نفوسهم باستعمال حرفتهم الأولى حتى لقد يتعذر الوصول إلى معرفة أسمى الشرفين شرف أولئك العظمات باستمرارهم على حضور جلسات المحاماة أم شرف المحاماة باستمرار وجود أولئك العظماء فيها.
كان الإمبراطور إسكندر سفير يطلب إعادة بعض المرافعات الشهيرة الماضية ليتلذذ بسماعها من جديد.
وأصدر الإمبراطور كونستانس أن لا تنتخب للولايات إلا من المحامين.
وأصدر فالنيتيان قانونًا صرح فيه بأن من ارتقى أرفع المناصب في الدولة لا تنحط درجته بالاشتغال بالمحاماة لأن الذي يقف للدفاع عن الخصوم لا يقل شرفًا عن الذي يجلس للفصل بينهم.
وسوى الملك إيطيموس بين المحامين ورجال الجيش لأنه لا فرق بين الذين يحمون ذمار الدولة بحد المرهفات وبين الذين يزودون عن حقوقها بألسنتهم وأقلامهم.
وأمر الملك انسطاس أن ينعم على كل محامٍ يعتزل الصناعة طلبًا للراحة بلقب من ألقاب الشرف (كلاريسيم) مكافأة له على سابق خدمته.
قال كارو: ليس من وظيفة عدا وظيفة القضاء أشرف من المحاماة.
وقال باسكبه: أنه بعد البحث الطويل في أصول فرنسا لم يعثر على عائلة عظيمة الشأن في تاريخ سياسة الأمة إلا كان لها منشأ بين المحاماة.
وقد كانت العادة في فرنسا أن يترافع المحامي قائمًا مغطى الرس ولكنه يكشف رأسه عند إبداء الطلبات وعند تلاوة أي ورقة من أرواق الدعوى وقد سعى بعض المحاكم في إلزامهم بالمرافعة مكشوفي الرؤوس فلم تنفذ كلمتهم، وأصل تغطية الرأس في المرافعة ناشئ من عادة قديمة اعتادها رؤساء الجلسات وهي قولهم للمحامي عند أول خطابته (غطِ رأسك أيها المحامي)، وقد فسرها ميسو دويان (ليس المراد بهذه الجملة إظهار الحفاوة بالمحامي وجعله في سعة بكشف رأسه ولكن معناها كن حرًا في الدفاع أيها المحامي).
ليست المحاماة مهنة وإنما هي رسالة اجتماعية، خدمة عامة حقيقية:
Veritable Service Publique missiom Sociale.
فالمحامي يشترك في إقامة العدل:
Participé à l’administration de la justice.
وهو الرجل المثالي المستقل الخالي من الغرض.
كما أنه أحد أفراد العائلة القضائية.
تحمي القوانين صناعة المحاماة بعقوبة من يدعيها.
وبعقوبة من يلبس لباسها (الروب).
وتترك للنقابة حق إعطاء شهادة إثبات الشخصية.
أما في مصر فلا حتى شهادة إثبات الشخصية تنازع الجهات الإدارية النقابة في إصدارها بعدم اعتمادها.
من تقاليد الصناعة في فرنسا عند ما يتم المحامي خمسين سنة في المهنة يذهب النقيب ومجلس النقابة إلى منزلة ويحيون هذا العهد كما يحيون العيد والزواج ويلقي النقيب خطابًا يذكر مما يذكر فيه تاريخ الزميل في حياته العملية ويحييه تحية طيبة ثم يقدم له ميدالية تذكارية أو قطعة فنية مهداة من النقابة إليه.
أما في الشرق فكانت في الماضي حرفة حقيرة لا يعتقد الناس فيها ما نعتقده اليوم من النفع قال علاء الدين الكندي:
ما وكلاء الحكم إن خاصموا
إلا شياطين أولو بأس
قوم عدا شرهم فاضلاً
عنهم فباعوه على الناس
كتبهااحمد الجمل ، في 15 ديسمبر 2008 الساعة: 20:04 م
مجلة المحاماة - العددان الأول والثاني
السنة التاسعة والعشرون 1948
شذرات عن المحاماة
كانت الهيئات القضائية في فرنسا فيما مضى تعقد اجتماعات كل يوم أربعاء وكان يعرض النائب العام ملاحظاته عن سير العدالة وتلقى فيها خطابات سميت الخطابات الأربعائية.
وكان من ضمن النصائح بالنسبة للمحامين: يجدر بالمحامين أن يترافعوا بصدق وإيجاز وطلاوة وجاه في كتاب L’Avocat للأستاذ هنري روبير نقيب المحامين السابق في فرنسا أن مسيو كاموس المحامي أوصى:
(ينبغي على المحامي أن يحيط علمًا بكافة الشؤون العظيمة وبجميع الفنون مثل البيان - الأدب - التاريخ – الحقوق – السياسة وأن لا يغفل عن معرفة أسرار الاقتصاد الاجتماعي والسياسي).
أنطون ليمستر: بلغ إعجاب الناس به أنه حين كان يترافع كان رجال البلاط وحاشية الملك يهجرون الكنائس ويتخلون عن مشاهير الوعاظ ويفدون إلى المحكمة ليسمعوه.
قال ماكس بولو: المحامي ملك.
وللكلام النفوذ الكلي في الحكم الديمقراطي مع النظام البرلماني قال إيزوبEsope عيشة المحامي على السواء خير الأشياء وأسوأها فهي خيرها لأنه لا توجد مهنة أروع ولا أسبق منها.
وهي شرها لأنه لا يوجد استرقاق يدنو منها ولا توجد حياة أشق منها ولا استغراق لذهن من يكرس نفسه لها.
قال القاضي D’aguesseau عن نقابة المحامين:
نقابة المحامين قديمة كالقضاء نبيلة كالفضيلة ضرورية كالعدالة.
وقال عن مهنة المحاماة (يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب وفيها الجدارة والجاه لا ينفصلان).
قال مدعي عمومي لدى محكمة استئناف بروكسل:
(إنه بناءً على الاحترام الجديرة به المرأة يجب أن يحال بينها وبين المحكمة - أن لها مهمة خاصة ينبغي أن تتفرغ لها - الأمومة وتدبير المنزل هما كل اختصاصها).
وقضت محكمة استئناف بروكسل بما يأتي:
إن تدبير المنزل ومقتضيات الأمومة تضع المرأة في أحوال لا تتفق مع واجبات مهنة المحامي.
وقالت مدام كولييت إيفر في روايتها (يجب أن تفسح المحاماة مكانًا للأرملة والفتاة المحتاجتين للعمل لأجل أن تعيشا).
تقام في فرنسا محاضرات لتدريب المحامين على ضروب المناوشات البرلمانية تمثل فيها جميع الأحزاب ويتناقش الخطباء في الأعمال المدونة في الجدول بحماس ويقين كما إذا كانت حياة البلد موقوفة على تصويتهم.
قال الأستاذ المحامي روس: المحامي الآن هو أقل الناس كلامًا.
والمحامون هم وحدهم الذين يحسنون السكوت لأن إحسان السكوت ليس إلا نتيجة حتمية لإحسان الكلام.
رداء المحامي: في سنة 1540 أصدر الملك فرنسوا الأول مرسومًا جاء فيه (محظور على جميع المحامين أن يدخلوا مجلس القضاء إلا بملابس محتشمة ورداء طويل وكم واسع وبدون لحية ولا سترة طويلة ولا أزار فوق الأكتاف أو غير ذلك من الملابس الفاحشة).
وكان يحرم عليهم أن يكون لهم شواربًا.
وفي القرون الوسطى كان أكثر المحامين من رجال الاكليروس فكانوا يحضرون في مجلس القضاء بملابسهم الكهنوتية وكانت نظم المحامين تحظر عليهم أن يلبسوا ثيابًا غير سوداء ما عدا في الإجازات.
وفي الإمبراطورية الفرنسية الثانية كانت النظم تحرم على المحامين المرافعة إلا إذا كانوا مرتدين بنطلونًا أسودًا وربطة رقبة بيضاء.
وروي أن محاميًا قصد إلى السخرية فلبس بنطلونًا أبيض وربطة سوداء فقال له رئيس المحكمة يا أستاذ المحكمة تأمرك أن تلبس البنطلون في عنقك والربطة في رجليك.
والغاية من الرداء أن يحوي تحته تفاوت درجات الثروة بين الزملاء وإنه رمز المساواة يلبسه الكبير والصغير على السواء وهو الذي يتميز به المحامي من بين الجمهور.
هل آن لنا تغييره ؟
قال الملك هنري الرابع بعد استماعه إلى مناجزة خطابيه بين محاميين (كلاهما على حق)،
وكان قدماء المصريين يعدون الخطابة آلهة مشؤومة واستبعدوها من محاكمهم وحتموا أن تكون كل إجراءات المحاكمة تحريرية.
وروي أن أحد المحامين في مرافعته سرد سيرة حياة موكله فإذا بموكله يبكي ويقول (ما كنت أدري أني تعيس إلى هذا الحد).
تشكي لوازيل من القضاة (الذين يقاطعوننا ويزجروننا في كل حين)، وقال (كل قاضٍ لا يحسن الإصغاء يستحيل أن يحسن القضاء).
نقابة المحامين Le Barreau
ليس المحامي هو النقابة كما أن المواطن ليس هو الوطن.
توجد المحاماة كلما كانت المنازعات بين الناس لا تحسم بالقوة.
والقانون طال أو قصر فهو دائمًا غامض وهو دائمًا ناقص ولا يمكن علاج جميع المشاكل المتعددة التي تنشأ بين الناس بمواد القانون.
وكلما وجد القانون وجد القاضي لتفسيره وتطبيقه على الواقع.
وكلما وجد القاضي كان لا بد من اثنين من المحامين.
مثل لمحاماة
في إحدى معرض إيطاليا صورة في وسطها تجلس العدالة والسيف والميزان.
وفي ثنايا لباس العدالة لعب صغيرة (مصير القضايا وكيس من المال وقطيع ومنزل وقلب وعلى الجانبين يقف المتقاضون عمى – أعمتهم المصلحة تطبق أيديهم بغير نظام على عقود وخطابات وصحائف من مجموعة القوانين وشهادات شهود وتقريرات ونشرات).
مساكين هؤلاء الناس، هل يعرف العاقل منهم قيمة ما يمسكه وما يمده بكل شوق إلى العدالة الصامتة ولكن بين العدالة وبين المتقاضي يقف رجل آخر هادئ غير متحزب وهو الأول الذي يفحص الأوراق ويزن الأمور ويقدر كل هذه الأوراق ويلقى جانبًا ما فيه شك ويضع في كفة الميزان ما له قيمة ومن يدري فربما يجد تحت قدمي موكله ورقة هي القاطعة في دعواه رماها موكله في حين يتوقف عليها مستقبله وشرفه أو حياته هذا هو المحامي.
قال النائب العمومي Bellart: نقابة المحامين هي جمعية الرجال الممتازين وأفضل الرجال وأحق الناس بالاحترام….، وليست الاستقامة العادية بكافية في وضعهم بل يضعون احترامهم فوق كل الشبهات وتجد الفضيلة آخر ملجأ لها عندهم إذا ضاق بها الناس.
إن شدة قانون المحاماة ناتج من قوة احترام المهنة.
المحامي خالق القانون: هو الذي يوحي إلى القاضي بتفسيراته وتعليقاته واعتباراته الاجتماعية لتبني عليها حكمه والحلول التي يصل إليها القاضي تكون بمشورة المحامي وإرشاده.
في آداب المحامي مع المحامي
الأخوة والتضامن،
احترام الحديث لمن هو أقدم منه وعطف الكبير على من هو أصغر منه، ولكن الاحترام وحده ليس بكافٍ بطريق الامتناع بل يجب أن يكون إيجابيًا، فلا يجب أن يطلب المحامي تأجيلاً قبل أن يخطر به زميله بوقت كافٍ.
والمحامي الذي يترافع في مدينة غير التي يباشر فيها عمله يجب عليه زيارة نقيب تلك الجهة وزميله الذي يكون خصمه.
والمحامي الذي يتوكل في دعوى يكون زميل له شخصيًا هو الخصم يجب عليه زيارته من باب الأدب والاحترام واللياقة.
المحامي الذي يطلب منه المرافعة في غياب زميله يجب عليه أن يعتذر للمحكمة ويعلل إذا أمكنه عذر زميله ويصمم على التأجيل أو على الأقل على أساس أنه إذا ترافع تسمع المحكمة مرافعة زميله في جلسة أخرى.
وفي حالة مرض أحد الزملاء يجد دائمًا من يقوم مقامه ويحل محله ويدافع نيابةً عنه إذا تعذر التأجيل وإذا توفي المحامي تنتدب جماعة من المحامين ليقدموا له آخر زيارة.
وأن يكون أول سؤال للموكل إن كان سبق أن وكل عنه زميلاً ولماذا تركه فإن كان فلا يجب عليه أن يقبل الدعوى إلا بعد إخطار زميله وأن زميله وصله أتعابه.
التقليد القديم: النقيب يترافع عند ما يمكنه المرافعة.
قال نقيب المحامين لا بوري: لن يوجد قضاة أكفاء قادرون إلا إذا وجد محامون أكفاء قادرون وبالعكس.
عبد الفتاح الشلقاني
شذرات عن المحاماة
(2)
Avocat أصلها أنه في أيام الرومان كان المدافع يُسمى Patrone، وكانت عادة المتهمين أن يطلبوا Dappeler a eux ad - vocare أن يحيط بهم أهلوهم أو أصدقاؤهم لمساعدتهم يدافعون عنهم ولكن المترافع أو المدافع يسمى Patronus أو orator، ومن كلمة ad - vocare انتهت إلى avocot.
النقابة اسمها ordre هذا اسم أعطي في عهد الرومان من الإمبراطور جستان ordo.
والجدول أنشئ لأول مرة في سنة 1340 في فرنسا.
ومنع أن يقيد فيه للعمل في المحاماة، الأصم والأعمى، القاصر، النساء، الكتبة والموثقين والقضاة ورجال الدين.
وظيفة المحامي:
الرأي الأول: وكيل.
الثاني: إيجار أشخاص.
الثالث: عدم وجود أي عقد.
الرابع: عقد غير مسمى.
الرأي الأخير: يؤدي خدمة عامة.
كانت حظيرة مقام المحامين في اليونان ودائرة المحكمة كلها معدودة من الأماكن المقدسة فإذا حان وقت الاشتغال رش المكان بالماء المطهر إشارة إلى أنه يجب أن لا يجرى فيه من الأعمال ولا يتكلم فيه من الأقوال إلا ما كان طاهرًا نقيًا.
كان أيديد المحامي اليوناني المشهور يدافع عن امرأة حسناء متهمة بالتعدي على الآلهة ورأى من القضاة تحفزًا للحكم عليها فدفعها أمامهم وأماط القناع عن وجهها وجعل يناجيهم بجمل الحنان وعبارات الاسترحام فبهرهم جمالها فبرؤها.
لذلك صدر بعد هذه الحادثة قانون قضى على المحامين أن لا يتخذوا مقدمات في دفاعهم وأن يمتنعوا عن كل قول من شأنه استجلاب الرفق أو إثارة الغضب كما قضى على القضاة أن لا ينظروا إلى المتهم إذا حاول استعطافهم وجرت العادة أن يصيح صائح وقت افتتاح الجلسة على المحامين يذكرهم بهذه النصوص وكانت المحاماة في زمان الجمهورية الرومانية السلم الذي يرقى الرجل منه إلى أرفع المناصب فما كان مجلس الأعيان والأمة ذاتها ينتخبان أحدًا لتلك المناصب إلا من المحامين ومن المدهشات أن أولئك العظماء لم يلهوا بقوة جاههم وعظمة صولتهم التي كانت تندك لها الممالك والبلدان عن المحاماة بل كانوا يأتون إلى حظيرتها ويروحون نفوسهم باستعمال حرفتهم الأولى حتى لقد يتعذر الوصول إلى معرفة أسمى الشرفين شرف أولئك العظمات باستمرارهم على حضور جلسات المحاماة أم شرف المحاماة باستمرار وجود أولئك العظماء فيها.
كان الإمبراطور إسكندر سفير يطلب إعادة بعض المرافعات الشهيرة الماضية ليتلذذ بسماعها من جديد.
وأصدر الإمبراطور كونستانس أن لا تنتخب للولايات إلا من المحامين.
وأصدر فالنيتيان قانونًا صرح فيه بأن من ارتقى أرفع المناصب في الدولة لا تنحط درجته بالاشتغال بالمحاماة لأن الذي يقف للدفاع عن الخصوم لا يقل شرفًا عن الذي يجلس للفصل بينهم.
وسوى الملك إيطيموس بين المحامين ورجال الجيش لأنه لا فرق بين الذين يحمون ذمار الدولة بحد المرهفات وبين الذين يزودون عن حقوقها بألسنتهم وأقلامهم.
وأمر الملك انسطاس أن ينعم على كل محامٍ يعتزل الصناعة طلبًا للراحة بلقب من ألقاب الشرف (كلاريسيم) مكافأة له على سابق خدمته.
قال كارو: ليس من وظيفة عدا وظيفة القضاء أشرف من المحاماة.
وقال باسكبه: أنه بعد البحث الطويل في أصول فرنسا لم يعثر على عائلة عظيمة الشأن في تاريخ سياسة الأمة إلا كان لها منشأ بين المحاماة.
وقد كانت العادة في فرنسا أن يترافع المحامي قائمًا مغطى الرس ولكنه يكشف رأسه عند إبداء الطلبات وعند تلاوة أي ورقة من أرواق الدعوى وقد سعى بعض المحاكم في إلزامهم بالمرافعة مكشوفي الرؤوس فلم تنفذ كلمتهم، وأصل تغطية الرأس في المرافعة ناشئ من عادة قديمة اعتادها رؤساء الجلسات وهي قولهم للمحامي عند أول خطابته (غطِ رأسك أيها المحامي)، وقد فسرها ميسو دويان (ليس المراد بهذه الجملة إظهار الحفاوة بالمحامي وجعله في سعة بكشف رأسه ولكن معناها كن حرًا في الدفاع أيها المحامي).
ليست المحاماة مهنة وإنما هي رسالة اجتماعية، خدمة عامة حقيقية:
Veritable Service Publique missiom Sociale.
فالمحامي يشترك في إقامة العدل:
Participé à l’administration de la justice.
وهو الرجل المثالي المستقل الخالي من الغرض.
كما أنه أحد أفراد العائلة القضائية.
تحمي القوانين صناعة المحاماة بعقوبة من يدعيها.
وبعقوبة من يلبس لباسها (الروب).
وتترك للنقابة حق إعطاء شهادة إثبات الشخصية.
أما في مصر فلا حتى شهادة إثبات الشخصية تنازع الجهات الإدارية النقابة في إصدارها بعدم اعتمادها.
من تقاليد الصناعة في فرنسا عند ما يتم المحامي خمسين سنة في المهنة يذهب النقيب ومجلس النقابة إلى منزلة ويحيون هذا العهد كما يحيون العيد والزواج ويلقي النقيب خطابًا يذكر مما يذكر فيه تاريخ الزميل في حياته العملية ويحييه تحية طيبة ثم يقدم له ميدالية تذكارية أو قطعة فنية مهداة من النقابة إليه.
أما في الشرق فكانت في الماضي حرفة حقيرة لا يعتقد الناس فيها ما نعتقده اليوم من النفع قال علاء الدين الكندي:
ما وكلاء الحكم إن خاصموا
إلا شياطين أولو بأس
قوم عدا شرهم فاضلاً
عنهم فباعوه على الناس
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)