بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

ما يطلبه المحامون

مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة الثالثة والثلاثون 1953

ما يطلبه المحامون
بحث لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي


(1)
تعديل قانون الضرائب للمهن غير التجارية

إن أول ما يطلبه المحامون هو تعديل قانون الضرائب للمهن غير التجارية، بحث يؤدي أصحاب المهن الحرة الضريبة على أساس حكمي، فلا يضطرون إلى مسك دفاتر، ولا يتعرضون لإفشاء أسرار موكليهم بالاطلاع على ملفاتهم، ويجنبون الأخذ والرد بشأن تقدير أتعابهم أمام لجان التقدير والمحاكم على اختلاف درجاتها، وما يستتبعه ذلك من ضياع أوقاتهم والمساس بكرامتهم، ولا يقدمون للمحاكمة إذا سهى أحدهم عن إعطاء إيصال بمبلغ دفع إليه في المنزل أو في المحكمة أو اضطر إلى إعطائه من غير الدفتر ذي الأرقام المسلسلة، إلخ إلخ.
على أن أداء الضريبة على أي أساس حكمي له مزية أخرى هي توفير عدد كبير من موظفي الضرائب المخصصين لمحاسبة أصحاب المهن الحرة، وبالتالي توفير مرتباتهم بما يحقق للخزانة نفعًا يجب أن يدخل في الحساب.
يطلب المحامون ذلك - في إلحاح وإجماع - لا للهروب من أداء الضرائب كغيرهم من المواطنين - إذ هم أول من يحرصون على أداء نصيبهم من الضرائب للدولة كاملاً - بل هم يطلبونه لتجنيبهم المكاره التي أشرنا إلى بعضها - مع استعدادهم لأداء الضرائب عن كسبهم على أي أساس حكمي ولو زادت أعباؤهم نتيجة لذلك عنها في ظل القانون الحالي.
حقًا إن الأساس الحكمي القديم، وهو احتساب الضريبة على أساس المظاهر الخارجية أي ما يوازي إيجار مكتب المحامي ومسكنه هو أساس غير صالح وفيه غبن كبير على الخزانة، ولذلك فنحن نعرض أساسين آخرين للتقدير الحكمي لتختار الحكومة منهما ما تراه أكثر تحقيقًا لمصلحة الخزانة.
الأساس الأول:
إن تضاعف الضريبة التي كانت تحصل – قبل العمل بالقانون الحالي – على أساس المظاهر الخارجية، بحيث يدفع المحامي أمام المحاكم الابتدائية في السنة ما يوازي ضعف إيجار مكتبه ومسكنه في الشهر، ويدفع المحامي أمام محاكم الاستئناف ما يوازي ثلاثة أمثال إيجار مكتبه ومسكنه، ويدفع المحامي أمام محكمة النقض ما يوازي أربعة أمثال إيجار مكتبه ومسكنه.
الأساس الثاني:
أن يدفع كل محامٍ عن كل قضية يرفعها أو يحضر فيها رسم تمغة للحكومة يوازي ما يدفعه من رسوم التمغة لنقابة المحامين، أي عشرة قروش عن كل قضية جزئية وعشرين قرشًا عن كل قضية كلية وثلاثين قرشًا عن كل قضية أمام محاكم الاستئناف وأربعين قرشًا عن كل قضية أمام محكمة النقض أو محكمة القضاء الإداري.
ونحن على يقين من أن حصيلة الضريبة على أحد هذين الأساسين تربو كثيرًا على حصيلتها وفقًا للأساس الحالي، وبذلك تتحقق مصلحة الخزانة ويجنب المحامون كثيرًا من المتاعب والمكاره.
هذا ما يطلبه المحامون، وكان أهم ما عنى مجلس النقابة بنظره في أول جلسة عقدها بعد الانتخابات الأخيرة، وهو ما يأملون من الحكومة العمل على تحقيقه سريعًا بما يرفع الحرج عن المحامين ويحقق مصلحة الخزانة في وقت معًا.

(2)
تعديل قانون الضرائب للمهن غير التجارية

لقد بح صوت المحامين ونقيبهم ومجلس نقابتهم في المطالبة بتعديل قانون الضرائب للمهن غير التجارية - أي المهن الحرة ذات السر - منذ صدر القانون رقم (146) لسنة 1950 بفرض الضريبة على إيرادهم الفعلي بعد أن كانت مفروضة بالقانون رقم (14) لسنة 1939 على أساس المظاهر الخارجية.
وفي العدد السابق من المجلة قلنا إن أول ما يطلبه المحامون هو تعديل هذا القانون تعديلاً يوفق بين مصلحة الخزانة وبين سرية المهنة، وقلنا إن المحامين يطلبون ذلك في إلحاح وإجماع لا للهروب من أداء الضرائب كغيرهم من المواطنين إذ هم أول من يحرصون على أداء نصيبهم من الضرائب للدولة كاملاً بل هم يطلبون فرض الضريبة على أي أساس حكمي ولو زادت به أعباؤهم في ظل القانون الحالي، محافظة على سر المهنة ولتجنبهم المكاره والمتاعب التي يلاقونها باضطرارهم إلى مسك دفاتر وتعريض أسرار موكليهم للإفشاء، وهي أسرار لا يتعلق بالمال فحسب - بل تتصل بشرف الأفراد وأعراضهم - وما يستتبعه ذلك من ضياع أوقاتهم والمساس بكرامتهم….
ونأسف إذ نقرر أن هذا الطلب العادي ذهب صرخة في وادٍ ولم يلقَ من جميع الحكومات ما هو جدير به من عناية، وليس ذلك فقط بل ما هو أدهى وأمر كان مضاعفة الضريبة على أرباح المهن الحرة قبل أن يحل ميعاد العمل بالقانون رقم (146) لسنة 1950 الذي قرر فرض الضريبة على أساس الإيراد الفعلي !
ذلك أن القانون رقم (146) لسنة 1950 الذي صدر في 28 أغسطس سنة 1950 ليعمل به ابتداءً من أول يناير سنة 1951 كان يحد الضريبة على الوجه الآتي:
2 % عن الـ 120 جنيهًا الأولى.
3 % عن الـ 180 جنيهًا التالية.
4 % عن الـ 200 جنيه التالية.
5 % عن الـ 300 جنيه التالية.
6 % عن الـ 400 جنيه التالية.
7 % عما زاد على ذلك.
وبتاريخ 15 أكتوبر سنة 1951 صدر القانون رقم (174) بتعديل سعر الضريبة إلى 10 % وعلى أن يسري هذا السعر ابتداءً من أول يناير سنة 1951 !! وهي طفرة كبيرة جدًا لا مبرر لها، لا سيما إذا لوحظ أن مضاعفة الضريبة وإلغاء التدرج الذي كان منصوصًا عليه بالقانون رقم (146) لسنة 1950 تم قبل أن تؤدي الضريبة عن السنة الأولى التي فرضت فيها الضريبة على أساس الإيراد الفعلي وهي سنة 1951 !!!
ولم يمضِ على هذه الزيادة الفاحشة غير سنة واحدة حتى صدر المرسوم بقانون رقم (147) لسنة 1952 بزيادة سعر الضريبة إلى 11 % ابتداءً من أول يناير سنة 1952 ولا حول ولا قوة إلا بالله…
أرأيت كيف يعامل المحامون والأطباء وغيرهم من أصحاب المهن الحرة معاملة قريبة من معاملة التجار !! مع أن رأس مال الأولين هو عقولهم وأذهانهم وأعصابهم وهي تحترق وتفنى بمرور الزمن بينما رأس مال التجار يزيد ويتضاعف !!
وبعد، فالمحامون خاصة وأصحاب المهن الحرة عامة يأملون من الحكومة تقدير الاعتبارات الهامة التي أشرنا إليها والعمل على تعديل القانون بفرض الضريبة على أرباح المهن الحرة على أي أساس حكمي من الأسس التي أشرنا إليها في العدد السابق من المجلة بما يرفع الحرج والضيق الذي يلاقونه من تطبيق القانون المالي ويحقق مصلحة الخزانة في وقت معًا.
وقبل أن نختتم هذه الكلمة نشير إلى اهتمام المحامين جميعًا أشد اهتمام بهذه المسألة وإلحاحهم في ضرورة الإسراع بحسمها بتعديل القانون، وقد بدا هذا الاهتمام جليًا في اجتماع الجمعية العمومية غير العادية للمحامين الذي عقد في 13 من فبراير سنة 1953 وطالبوا فيه مجلس النقابة في إلحاح بمواصلة السعي لدى الحكومة لتعديل القانون في أقرب وقت ممكن.
وفيما يلي نص المذكرة التي وضعها مجلس نقابة المحامين وقدمها حضرة الأستاذ النقيب إلى الحكومة في هذا الصدد.

(3)
تعديل قانون الضرائب للمهن غير التجارية

استصرخنا الحكومة - بمقالينا المنشورين بالعددين الخامس والسادس من المحاماة (السنة الثالثة والثلاثين) - رجاء المبادرة بتعديل قانون الضرائب على المهن الحرة، بحيث يؤدي أصحاب هذه المهن الضريبة على أساس حكمي، فلا يضطرون إلى مسك دفاتر، ولا يعرضون أسرار موكليهم للإفشاء، وهي أسرار لا تتعلق بالمال فحسب بل تتصل بشرف الأفراد وأعراضهم، ويجنبون الأخذ والرد بشأن تقدير أتعابهم أمام لجان التقدير والطعن والمحاكم على اختلاف درجاتها، وما يستتبعه ذلك من المساس بكرامتهم وضياع أوقاتهم وأوقات مأموري الضرائب واللجان والمحاكم…
ونشرنا بالعدد السادس نص المذكرة التي وضعها مجلس النقابة وقدمها حضرة نقيب المحامين لحضرة وزير المالية في هذا الشأن في فبراير الماضي.
وقد رأى مجلس النقابة - نزولاً على قرار الجمعية العمومية للمحامين - أن يعد مشروع قانون بتعديل قانون الضرائب للمهن الحرة ليكون محل بحث أولي الأمر، ومن ثم كلف المجلس كاتب هذه السطور بوضع مشروع قانون على الأسس المبينة بمذكرة المجلس التي قدمها حضرة النقيب لحضرة وزير المالية، وقد قمت بوضع مشروع القانون المنشور بعد، محددًا الأساس الحكمي لصافي إيراد صاحب المهنة الحرة بثلاثة أمثال القيمة الإيجارية للمكان الذي تشغله المهنة والمسكن الخاص بصاحب المهنة لمن تزيد مدة ممارستهم للمهنة عن خمس سنوات، وأربعة أمثال القيمة الإيجارية للمكانين لمن تزيد مدة ممارستهم للمهنة عن عشر سنوات، وخمسة أمثال القيمة الإيجارية للمكانين لمن تزيد مدة ممارستهم للمهنة عن خمس عشرة سنة، ويكون سعر الضريبة 7.5 % من هذا المجموع، وإذا كان صاحب المهنة يشغل مكانًا واحدًا لمهنته وسكناه احتسبت الضريبة بواقع 10 % بدلاً من 7.5 %.
ولما كان من الجائز أن يتضرر بعض أصحاب المهن الحرة من فرض الضريبة على هذا الأساس الحكمي - لظروف خاصة تحيط بهم كارتفاع أجور الأمكنة التي تشغلها المهنة أو المسكن، أو لتقديرهم أن دخلهم السنوي لا يصل إلى الأساس الحكمي المقترح - فقد ضمنا المشروع نصوصًا تبيح لهؤلاء الخيار بين الخضوع لنظام فرض الضريبة على أساس الإيراد الفعلي أو قبول التقدير الحكمي على الأساس الذي يحدده القانون.
وفي حالة اختيار صاحب المهنة الحرة الخضوع لنظام فرض الضريبة على أساس الإيراد الفعلي اقترحنا أن يكون سعر الضريبة 10 %، وهو السعر الذي حدده القانون رقم (174) لسنة 1951 - بدلاً من 11 % طبقًا للتعديل الذي صدر به القانون رقم (147) لسنة 1952 - إذ أن الأساس المقترح هو أعلى سعر يجوز محاسبة أصحاب المهن الحرة على أساسه نظرًا لأن رأس مالهم هو عقولهم وأذهانهم وأعصابهم وهي تحترق وتفنى على مر الزمن، خلافًا لرؤوس أموال التجار التي تزيد وتتضاعف، على أن تحتسب المصروفات في حالة عدم وجود دفاتر منتظمة بواقع 30 % من الإيرادات بدلاً من 20 %.
وفي حالة هذا الاختيار أيضًا اقترحنا النص على عدم إلزام صاحب المهنة الحرة بأن يقدم إلى موظف مصلحة الضرائب إلا الدفترين الذين أوجب القانون إمساكهما - وذلك محافظة على سر المهنة واستثناءً من أحكام المواد (81) و(83) من القانون، كما اقترحنا أن يكون الجزاء على عدم إمساك دفتر اليومية أو إغفال قيد أي مبلغ به، هو ربط الضريبة على أساس التحديد الحكمي سالف الذكر، بدلاً من العقوبات المنصوص عليها في المواد (74) و(83).
ويقيننا أن هذا المشروع يوفق بين مصلحة المحامين وأصحاب المهن الحرة عمومًا وبين مصلحة الخزانة العامة في وقت معًا، وأملنا وطيد أن يصدر التشريع المطلوب وفقًا للأسس المقترحة في أقرب وقت.
والله ولي التوفيق،

(4)
نصوص يجب تعديلها صونًا لكرامة المحاماة ومصلحة المتقاضين

كتبنا في الأعداد الثلاثة السابقة من المجلة عن موضوع هو أهم ما يشغل المحامين ويقضي مضاجعهم، وهو المطالبة بتعديل قانون الضرائب على المهن الحرة، باستبدال أي أساس حكمي بالنظام الحالي، حماية للأسرار، وضنًا بكرامة المحامين من الابتذال، وتوفيرًا لأوقاتهم وأوقات موظفي الضرائب ولجان الطعن والمحاكم، واقترحنا من الأسس ما يضمن للخزانة العامة من الضريبة أضعاف حصيلتها الحالية، ولكن المختصين بوزارة المالية لا زالوا يصمون آذانهم عن الاستجابة لهذا المطلب العادل رغم ما فيه من توفيق بين مصلحة الخزانة العامة ومصلحة المحامين وأرباب المهن الحرة في وقت معًا، ولا زال مجلس النقابة، وعلى رأسه حضرة الأستاذ النقيب، يوالي جهوده في سبيل إقناع المسؤولين بوجهة نظره، آملاً أن تتغلب في النهاية حكمة أولي الأمر فيقدرون ما يلاقيه المحامون خاصة وأرباب المهن الحرة عامة من جراء النظام الحالي من ضيق وحرج، وما يفرضه النظام المقترح عليهم من تضحيات في سبيل تجنب عيوب النظام الحالي وتحقيق مصلحة الخزانة في آنٍ واحد…
والآن ننتقل إلى مطلب عادل وعاجل آخر، هو المطالبة بتعديل نصوص وردت في بعض القوانين، ماسة بكرامة المحامين ومعطلة لنشاطهم وضارة بمصلحة المتقاضين، وهذا بيانها:
1 - قانون الأحكام العسكرية:
جاء بالمادة (86) من قانون الأحكام العسكرية ما نصه (ينتج الارتباك في الدعوى عند ما يعين المتهم محاميًا عنه…).
هذا نص عجيب بل سخيف، لم يقصد به ما يتبادر للذهن من حرفيته، ويبدو أنه ترجمة غير دقيقة للأصل الإنجليزي الذي هدف به صاحبه إلى وضع إجراءات خاصة تتبعها المحاكم العسكرية في حالة وجود محامٍ في القضية، وهي غير الإجراءات التي تتبع في القضايا البسيطة التي لا يعين المتهم له فيها محاميًا…
حقًا إن قانون الأحكام العسكرية كله أصبح عتيقًا، حقيقًا بالإلغاء من أساسه وإبداله بقانون أكثر تمشيًا مع روح العصر يمتاز بتبسيط في الإجراءات وزيادة في الضمانات لحقوق الدفاع، ولكن تعديل ذلك النص السخيف أصبح ضرورة عاجلة لأن في بقائه سبه للمحامين لا يجوز السكوت عليها ووصمة في جبين التشريع المصري يحسن القضاء عليها سريعًا.
2 - قانون اللجان القضائية:
ولئن جاز التماس العذر لمترجم قانون الأحكام العسكرية - وهو قانون بالٍ وضعه الإنجليز في القرن التاسع عشر - فما عذر حكومتنا ومجلس دولتنا في النص في المادة الرابعة من المرسوم بقانون رقم (160) لسنة 1952 الصادر في النصف الأخير من القرن العشرين بإنشاء لجان قضائية للنظر في المنازعات الخاصة بموظفي الدولة على أن يكون تقديم التظلمات للجان القضائية (دون وساطة محامٍ) !!!
يبدو أن واضع النص المذكور هدف إلى تيسير الأمر على الموظفين بالنص على عدم اشتراط شكل خاص للتظلم مع إعفاء المتظلمين من دفع رسوم أو توكيل محامين خلافًا لما نص عليه قانون مجلس الدولة رقم (112) لسنة 1946 المعدل بالقانون رقم (9) لسنة 1949 من عدم قبول الدعوى ما لم يكن موقعًا على صحيفتها من محامٍ مقبول للمرافعة أمام محكمة النقض أو محكمة الاستئناف مادة (13)، ومن عدم قبول ملاحظات شفوية إلا من محامي الخصوم مادة (23)، ولكن واضع النص التوى عليه القصد بوضع عبارة (دون وساطة محامٍ) إذ فسر هذا النص - مع الأسف الشديد - بتحريم تقديم التظلم من مكتب محامٍ وتحريم حضور المحامين إطلاقًا أمام اللجان القضائية !!!
ونحن نعتقد أن ذلك ما لم يدر بخلد واضع التشريع، إذ أن كل ما قصده هو التيسير على الموظفين لا أكثر ولا أقل، بحيث يستطيع من تمكنه ظروفه من شرح تظلمه والدفاع عنه أن يقدم التظلم ويحضر فيه بنفسه أمام اللجنة القضائية، ومن لا تمكنه ظروفه من شرح تظلمه وتدعيمه بالأسانيد القانونية يمكنه - إذا أراد - أن يستعين بمحامٍ في تقديم التظلم والدفاع عنه أمام اللجنة القضائية.
ذلك هو المفهوم بداهةً حيث لا يتصور أن يكون توقيع محامٍ على التظلم سببًا لبطلانه شكلاً !! كما لا يتصور أن يكون حضور محامٍ عن المتظلم أمرًا غير جائز أمام لجنة قضائية يرأسها أحد كبار رجال القانون، ولها اختصاص قضائي، ومهمتها تطبيق القوانين واللوائح الخاصة بالموظفين، وتبدي أمامها الحكومة دفوعًا قانونية بعدم الاختصاص وعدم القبول ودفاعًا موضوعيًا مبناه تفسير القوانين واللوائح والمنشورات والكتب الدورية، والواقع أن اللجنة القضائية هي بمثابة محكمة أول درجة لمحكمة القضاء الإداري فيما خصها القانون بالفصل فيه من منازعات، فلا يعقل أن يحرم على المحامين العمل أمامها….
ولا نغالي إذا قلنا إن تحريم تقديم التظلمات على المحامين وتحريم قبولهم للمرافعة أمام اللجان القضائية، مما يجعل مهمة اللجان عسيرة في تفهم تظلمات الموظفين وفي بحث أسانيدها فضلاً عما فيه من إخلال صارخ بحق الدفاع، وهو حق مقرر بالدستور وبمختلف القوانين لكل صاحب مظلمة بل لكل متهم من الأفراد والموظفين أمام جميع المحاكم والمجالس العسكرية والمجالس التأديبية.
ويقيننا أن المشرع لم يستهدف هذه النتيجة ولم يتعلق بها مراده، بل كان هذا اللبس نتيجة سوء صياغة المادة المذكورة، ومن ثم يجب المبادرة بحذف هذه العبارة من المادة تحقيقًا للعدالة ولمصلحة الموظفين والمحامين على السواء…
3 - قانون التنظيم:
ينص القانون رقم (93) لسنة 1948 الخاص بتنظيم المباني في المادة (14) (المعدلة بالمرسوم بقانون رقم (310) لسنة 1952) على جواز التظلم من القرارات التي تصدرها السلطة القائمة على أعمال التنظيم إلى لجنة يكون قرارها نهائيًا، وتؤلف هذه اللجنة من وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية ومدير عام مصلحة المباني ونائب من إدارة الرأي واثنين من المهندسين تختارهما نقابة المهن الهندسية، ويستدعي أمام اللجنة مدير عام مصلحة التنظيم أو مدير عام مصلحة البلديات أو من ينوب عنهما كما يستدعي صاحب الشكوى المقدمة أو من ينوب عنه من المهندسين لإبداء وجهة النظر أمام اللجنة).
حدث أن حضر أحد حضرات المحامين أمام اللجنة موكلاً عن صاحب الشكوى فرفضت اللجنة قبوله بحجة أن النص لا يجيز لأصحاب الشأن أن ينيبوا عنهم إلا المهندسين !! وقد اتصل حضرة الزميل بالنقابة تليفونيًا فاتصل وكيل النقابة بدوره بحضرة الوزير مبينًا له أن حق صاحب الشأن في توكيل أحد المحامين هو الأصل المقرر الذي لم يرَ المشرع حاجة للنص عليه، أما حق إنابة أحد المهندسين فهو استثناءً من القاعدة العامة ولذلك رُئي النص عليه، ولا سيما أن للجنة اختصاصًا قضائيًا وبين أعضائها أحد رجال القانون، فأبدى حضرة الوزير اقتناعه بوجاهة هذا النظر ولكنه - إزاء جمود النص - رأى الرجوع إلى قسم الرأي بمجلس الدولة…
أليس من المستحسن، لحسم مثل هذه الخلافات، أن يعدل النص بحيث يجيز صراحةً لصاحب الشأن أن ينيب عنه أحد المحامين أو أحد المهندسين…
هذه نصوص يجب العمل سريعًا على تعديلها بما يرفع اللبس الذي يسببه غموضها، وبما يتفق وكرامة المحاماة والمحامين ويحقق مصلحة الأفراد والمتقاضين.

(5) الضرائب أيضًا:
نأسف إذ نذكر أن أولي الأمر في وزارة المالية أصموا أذانهم عن سماع شكوى المحامين وغيرهم من أرباب المهن الحرة في شأن قانون الضرائب وأبوا في إصرار عجيب أن يستمعوا إلى صوت الحق ومنطق الأرقام، بحجة (مصلحة الخزانة)، وفاتهم أن المشروع الذي وضعناه يحقق مصلحة الخزانة قبل مصلحة أرباب المهن الحرة، وأن هؤلاء لا يطلبون استثناءً أو امتيازًا بل يهدفون إلى الاحتفاظ بأسرار الناس التي أؤتمنوا عليها، مع الاحتفاظ بكرامتهم، وتوفير أوقاتهم، ولو ضحوا في سبيل ذلك بمصلحتهم الخاصة.
ولو كان هذا الموقف من جانب الحكومة مدعاة لاهتمام أرباب المهن الحرة جميعًا فطلبوا إلى نقاباتهم عقد جمعياتهم العمومية غير العادية لبحث الموضوع من جميع الوجوه…
ولا زلنا نأمل في حكمة أولي الأمر أن يعيدوا النظر في الموضوع على ضوء إحصاءات دقيقة عن حصيلة الضريبة على أساس الإيراد الفعلي في سنة 1951، وعن حصيلتها على الأساس المقترح، ونحن على يقين من أن الأرقام ستطمئنهم على مصلحة الخزانة فلا يبقى ثمة محل للتردد في إجابة أرباب المهن الحرة إلى مطلبهم العادل بفرض الضريبة على الأساس الذي اقترحناه أو أي أساس حكمي آخر…
قفل جدول المحامين وتحديد عدد من يُقبل بكليات الحقوق:
أما ما يطلبه المحامون بعد ذلك فهو وجوب قفل جدول المحامين وتحديد عدد من يُقبل سنويًا بكليات الحقوق.
ذلك لأن المحامين يشكون مُر الشكوى من زيادة عددهم زيادة اكتظت بها المهنة ونزلت بمستوى الأتعاب في كثير من الجهات إلى درجة لا تتفق وكرامة المحاماة، فضلاً عما يترتب على ذلك من آثار في جهود المحامين قد تضر بمصلحة المتقاضين…
ولما كان عدد المحامين العاملين يبلغ الآن حوالي خمسة آلاف وخمسمائة محاميًا، وكان عدد طلبة الحقوق الحاليين يربو كثيرًا على مثل هذا العدد، فظاهر أن عدد المحامين سيتضاعف حتمًا في خلال خمس سنوات، وهكذا تزداد الحالة سواء سنة بعد أخرى وتتضاعف أسباب شكوى المحامين والمتقاضين على السواء فتزداد المشكلة تعقيدًا…
لهذا كان من الخير للجميع أن يقفل جدول المحامين بعد خمس سنوات أي بعد أن يتخرج جميع طلبة الحقوق الموجودين الآن بالكليات حتى لا يضار أحد ممن التحق بكليات الحقوق بمثل ذلك الإجراء الذي لم يكن في حسبانهم عند اتجاههم إلى دراسة الحقوق، وأعتقد أن عدد المحامين سيبلغ وقتئذٍ رقمًا يتراوح بين تسعة آلاف وعشرة آلاف محاميًا، وهو أكثر مما تحتاج إليه البلاد، مع مراعاة زيادة عدد السكان في تلك الفترة، فمن المصلحة المحققة أن يقرر من الآن قفل جدول المحامين بعد خمس سنوات.
ومع قفل الجدول يحسن تحديد عدد من يُقبل سنويًا بكليات الحقوق على أساس حاجة المحاماة سنويًا لعدد من الخريجين يحل محل من يُتوفى من المحامين أو يتقاعد أن يلحق بوظائف القضاء والنيابة ونظائرها من الوظائف الأخرى، وحاجة النيابة وإدارة القضايا الحكومة وكليات الحقوق والوزارات والبنوك والشركات سنويًا من الخريجين.
ولا بأس أن يزاد هذا العدد بنسبة يراعى فيها عدد من يرغبون دراسة القانون لمجرد العلم.
وفي هذه الحالة يعهد بتحديد عدد من يُقبلون سنويًا بكليات الحقوق إلى لجنة تشكل من عمداء كليات الحقوق ونقيب المحامين والنائب العام ورئيس إدارة قضايا الحكومة أو من يقوم مقامهم، ويقيننا أن هذا الإجراء ضروري وعاجل، وبه يمتنع تعطل بعض خريجي الحقوق، ويحتفظ المحامون بكرامتهم وشرف مهنتهم، ويستطيعون القيام بواجباتهم على وجه يحقق العدالة ويصون مصلحة المتقاضين.

(7)

1 - نظام تقديم المستندات للمحاكم:
نشرنا بالعدد الأول من السنة الرابعة والثلاثين من المجلة في باب (ما يطلبه المحامون) كلمة عن نظام تقديم المستندات لأقلام الكتاب المناسبة بعض الحوادث التي تتعرض فيها مستندات المتقاضين للضياع، عن عمد أو نتيجة إهمال أو حادث قهري كحريق أو سرقة، دون أن يكون بيد صاحبها دليل على تسليمها إلى قلم الكتاب، ونظرًا لأن المحامين مسؤولون قبل موكليهم عن المستندات التي يتسلمونها منهم، ولا سبيل لإبراء ذمتهم إلا بالاحتفاظ بصور الحوافظ موقعًا عليها من موظفي المحاكم بما يفيد تسلم المستندات، فقد ناشدنا وزارة العدل إصدار كتاب دوري لجميع المحاكم بضرورة توقيع موظفيها على صور الحوافظ التي تقدم لهم بما يفيد تسلمها، حتى يأمن المتقاضون على مستنداتهم وحقوقهم ويتجنب المحامون الكثير من المسؤوليات…
وقد أولت وزارة العدل هذا الموضوع ما هو جدير به من عناية، وأرسل السيد المحترم وكيل الوزارة كتابًا تاريخه 21 من نوفمبر سنة 1953 إلى السيد نقيب المحامين يقول فيه إنه اطلع على المقال المذكور وأنه يهم وزارة العدل أن توجه النظر إلى أن المشرع عالج هذا الموضوع بما نص عليه في الفقرة الثانية من المادة (71) من القانون رقم (147) لسنة 1949 بإصدار قانون نظام القضاء من أنه لا يجوز لموظفي المحاكم أن يتسلموا أوراقًا أو مستندات إلا إذا كانت في حافظة بها بيان بما تشمله وتكون الحافظة مصحوبة بصورة طبق الأصل يوقعها الكاتب بعد مراجعتها والتحقق من مطابقتها للواقع ويردها إلى من قدمها.
وتقول الوزارة في كتابها: (إن في هذا النص الضمان الكافي ليأمن المتقاضون على مستنداتهم وحقوقهم وليتجنب المحامون المسؤوليات التي قد تترتب على ضياع المستندات التي يقدمونها إلى أقلام الكتاب إذا ما قام أولئك وهؤلاء بما فرضه عليهم هذا النص من التزامات وطالبوا بما أعطاه لهم من حقوق، ولا يمكن على كل حال لموظفي المحاكم أن يرفضوا تنفيذ حكم القانون إذا ما طلب إليهم ذلك).
وبتاريخ 29 من نوفمبر سنة 1953 أرسل الأستاذ النقيب كتابًا للسيد المحترم وكيل وزارة العدل يشكره فيه على عنايته بهذا الموضوع ويرجوه إصدار منشور لأقلام كتاب المحاكم المختلفة بوجوب تنفيذ ما جاء بالمادة (71) من القانون رقم (147) لسنة 1949 تنفيذًا دقيقًا، لأن أقلام الكتاب تتباطأ أو تمتنع عن إعطاء المحامين إيصالات بالمستندات التي تسلم لها.
ونحن إذ نكرر الشكر لوزارة العدل وسيادة وكيلها على اهتمامهم بما يطلبه المحامون وعنايتهم بهذا الموضوع، نرجو أن توجه الوزارة منشورًا لأقلام الكتاب بوجوب تنفيذ حكم القانون في هذا الصدد، حيث ظل النص المذكور منذ سنة 1949 معطلاً لم ينفذه أي موظف في جميع محاكم البلاد، كما نلفت نظر الزملاء المحامين إلى التمسك بحقهم في مطالبة موظفي المحاكم بالتوقيع على صور الحوافظ بما يفيد تسلم المستندات، وفقًا لنص القانون ولكتاب السيد المحترم وكيل وزارة العدل.
2 - تجميع المحاكم الجزئية:
أصبح في القاهرة سبع عشرة محكمة جزئية متفرقة في أنحاء العاصمة، وقد كان هذا التشتيت للمحاكم الجزئية سببًا لكثير من المتاعب والنفقات التي تتحملها الدولة وينوء بها المحامون دون مبرر…
وإذا كانت حكمة إنشاء محكمة جزئية في كل قسم من أقسام العاصمة هي تقريب دور المحاكم للمتقاضين وتيسير سبل التقاضي لهم، فإن هذه الحكمة قد أصبحت منتفية الآن بعد أن تيسرت سبل المواصلات وتعددت، بحيث أصبح من السهل على المتقاضين أن ينتقلوا إلى المحكمة - أيًا كان مقرها - في غير عناء ودون نفقة تذكر.
على أن المتقاضين كثيرًا ما يوكلون عنهم محامين في مباشرة القضايا، فيلاقي المحامون غير قليل من العناء والضيق والحرج في سبيل القيام بواجباتهم أمام مختلف المحاكم المتفرقة في جميع أنحاء القاهرة وضواحيها، وكثيرًا ما يستحيل عليهم بسبب ذلك الحضور في قضاياهم شخصيًا، وبعض القضاة لا يعذر، والموكل لا يرحم……، وهكذا يقضي المحامي يومه منطلقًا من شمال القاهرة إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وهو في حرصه على أداء واجبه وخشية عدم إدراكه قضيته، يظل مكدودًا مهمومًا، مشتت الفكر متوتر الأعصاب إلى أن يأذن الله بانقضاء اليوم بخيره وشره، فيعود ليستقبل يومًا آخر قد يكون أحفل بالمتاعب والمسؤوليات…..
هذا من ناحية المتقاضين والمحامين، أما من ناحية الدولة فلعل نصيبها من المتاعب والنفقات ليس أقل من نصيب المحامين: فالدولة تتحمل مبالغ باهظة إيجارًا للأماكن التي تشغلها المحاكم، كما تتحمل من مرتبات الموظفين وأجور البريد والانتقالات وغيرها ما كان يمكن اقتصاد الكثير منه لو كانت المحاكم مجمعة في مبنى واحد…
ناهيك بصعوبة العثور على دور تليق بحاجة المحاكم وكرامة القضاء في كل قسم من أقسام القاهرة، وما تضطر إليه الحكومة أحيانًا من استئجار دور غير صالحة ولا لائقة بأجور باهظة……
ولعل من الطريف في هذا الصدد أن نشير إلى اضطرار الحكومة أخيرًا لاستئجار دار في دائرة محكمة السيدة زينب مقرًا لمحكمة الجمالية !! بالرغم من قدمها وعدم صلاحيتها…، وكذلك دعت الضرورة لوجود محكمة بولاق في دائرة قسم عابدين ومحكمتي الأزبكية وشبرا في دائرة قسم روض الفرج الأمر الذي يدل على انعدام حكمة إنشاء محكمة جزئية في دائرة كل قسم تيسيرًا لسبل التقاضي على المتقاضين كما كان يقال قديمًا تبريرًا لهذا التشتيت….
لهذا كان من أعز أماني المحامين جمع المحاكم الجزئية في مبنى واحد أو مبنيين، ونحن نعلم أن لهذا المشروع ملفًا في وزارة العدل يتضمن بحثًا وعروضًا للقيام بإنشاء مبنى مجمع لمحاكم شمال القاهرة وآخر لمحاكم جنوب القاهرة، وحبذا لو أخرجت الوزارة هذا المشروع من حيز التفكير إلى حيز التنفيذ، إذن لوفرت للمحاكم دورًا تليق بكرامة القضاء، واقتصدت الكثير من الأجور والمرتبات، وحققت للمحامين أمنية عزيزة تخفف عنهم شيئًا من العناء وتيسر لهم سبيل القيام بواجبهم على خير الوجوه.

(8)
نظام تقديم المستندات للمحاكم

يسرنا أن نسجل شكرنا لوزارة العدل وللسيد المحترم وكيل الوزارة على العناية بما كتبناه في هذا الباب عن نظام تقديم المستندات للمحاكم، فلقد أرسل السيد المحترم وكيل وزارة العدل إلى السيد نقيب المحامين بتاريخ 5 يناير سنة 1954 كتابًا طواه على صورة من المنشور الذي أذاعه سيادته على المحاكم بتاريخ 4 يناير سنة 1954 في هذا الشأن ونصه:

وزارة العدل
التفتيش الإداري والكتابي

بشأن تنظيم استلام وتسليم المستندات التي يقدمها السادة المحامون والمتقاضون لأقلام الكتاب

السيد رئيس محكمة الابتدائية
نصت المادة (71) فقرة ثانية من القانون رقم (147) لسنة 1949 بإصدار قانون نظام القضاء في واجبات موظفي المحاكم، على أنه (لا يجوز لموظفي المحاكم أن يتسلموا أوراقًا أو مستندات إلا إذا كانت في حافظة بها بيان بما تشمله، وتكون الحافظة مصحوبة بصورة طبق الأصل يوقعها الكاتب بعد مراجعتها والتحقق من مطابقتها للواقع ويردها إلى من قدمها).
وقد وصل لعلم الوزارة أن أقلام الكتاب لا تقوم بتنفيذ نص هذه المادة.
لذلك ترى الوزارة التنبيه على أقلام الكتاب باتباع ما يأتي بكل دقة:
أولاً: لا تُقبل المستندات التي يقدمها الخصوم أو وكلاؤهم إلى أقلام الكتاب إلا إذا كانت في حوافظ بها بيان بما تشمله ووصف دقيق لحالة المستندات وبعد التحقق من توقيع مقدم الحافظة على كل مستند.
ثانيًا: أن تكون الحافظة من صورتين وبعد مطابقة الصورة على الأصل ترد الصورة إلى مقدم الحافظة موقعًا عليها من كاتب المحكمة بما يفيد الاستلام وتاريخ التقديم.
ثالثًا: يسترد قلم الكتاب صورة الحافظة عند تسليم المستندات، لمقدميها طبقًا لأحكام القانون والتعليمات، وبعد توقيع هؤلاء على الصورة بما يفيد استلام تلك المستندات، تحفظ هذه الصورة مع أصل الحافظة بملف الدعوى.
وتفضلوا بقبول وافر الاحترام،
وكيل وزارة العدل
تحريرًا في 4/ 1/ 1954.
ونقابة المحامين ومجلة المحاماة إذ تكرران الشكر لوزارة العدل وسيادة وكيلها على اهتمامهم بما يطلبه المحامون وعنايتهم بهذا الموضوع يلفتان نظر الزملاء المحامين إلى التمسك بحقهم في مطالبة أقلام الكتاب بالتوقيع على صور الحوافظ بما يفيد تسلم المستندات وفقًا لنص القانون ولمنشور الوزارة الأخير.

إشهار التصرفات العقارية

مجلة المحاماة – العددان السادس والسابع
السنة الثامنة - مارس وإبريل 1928

التسجيل
إشهار التصرفات العقارية

حكمة إشهار هذه التصرفات، طرق الإشهار في الشرائع القديمة، إشهارها في مصر قبل القانونين المختلط والأهلي، إشهارها في فرنسا قبل قانون سنة 1855، قانون سنة 1855 - القانونان المختلط والأهلي، قانون التسجيل الجديد، ترتيب درجات حقوق الامتياز، نظرية سوء النية، إثبات تاريخ العقود رسميًا.
للأستاذ صليب سامي بك رئيس تحرير المجلة

لماذا شرعت علانية التصرفات العقارية؟

إذا أردت شراء عين عقارية وجب عليك، حتى لا تعرض مالك للضياع، أن تشتري هذه العين من مالكها.
أما إذا اشتريتها من غير مالكها فلا يؤثر شراؤك في حق مالكها الحقيقي، فلا تنتقل إليك ملكية العين، ويصبح حقك قاصرًا على الرجوع على بائعك بالثمن، إن كان مفلسًا ضاع عليك مالك.
ولكن من أين تعلم أن العين مملوكة لمن ظننته مالكًا لها وتعاقدت معه بشأنها؟
قد يكون العاقد معك غاصبًا للعين أو مستأجرًا لها فيوهمك وضع يده عليها بملكيته لها، وقد لا يكون له أي حق عليها فيوهمك بأنها ملكه، بل قد يكون مالكًا للعين، مشهورًا بملكيته لها، ولكنه تصرف فيها بالبيع، وأخفى عليك هذا التصرف، فباعها لك بعد أن خرجت من ملكه.
فمن أين لك تحقيق الواقع؟
كان لا بد من حماية المشتري في هذه الحالة، لذلك وضعت جميع الشرائع، من قديم العهد، النظم التي تكفل صيانة حقوق المشتري من عبث البائع، وقد تدرجت هذه النظم وتبدلت، تبعًا لظروف الأحوال ومقتضيات المعاملات، على ما سنراه مفصلاً فيما بعد، وآخر هذه النظم التي أقرتها الشرائع هو نظام التسجيل.

نَبذة تاريخية

1 - عند قدماء اليونان:
فطن اليونان من قديم العهد إلى ضرورة إشهار العقود المنشئة للملكية أو الناقلة لها.
ففي كثير من المدن كانت تسجل ملخصات العقود الناقلة للملكية على لوحات من الرخام، وكان هذا التسجيل يجعلها حجة على الغير.
وفي أتينا كانت تشهر هذه العقود بسجلات دفع الرسوم التي كان يؤديها المشترون [(1)].
2 - عند قدماء الجرمان:
كانت تشهر العقود الناقلة للملكية العقارية بإجراء علني.
فكان الإشهار قديمًا بالتسليم الرمزي، أي بتسليم جزء من العقار يدًا بيد، فإن كان أرضًا بتسليم قبضة من مادتها، سواء كانت طينًا أو حجرًا أو رملاً، أو بتسليم نبات من زرعها إن كانت منزرعة، وإن كان العقار دارًا بتسليم أحد أجزائها كباب أو نافذة، وهكذا.
ثم عدل الجرمان عن إشهار العقود بهذه الطريقة الرمزية إلى طريقة الإشهار بالتسجيل بإثبات تسليم العقار في سجلات جعلت لذلك.
وهذه السجلات - بعد تغييرات كثيرة طرأت عليها – أصبحت السجلات العقارية التي نظمها في النمسا قانون 25 يوليه سنة 1871، وفي بروسيا قانون 5 مايو سنة 1872 [(2)].
وهي أساس تشريع السجلات العقارية في سائر الممالك الأخرى.
3 - عند الرومان:
وقد أدرك الرومان من قديم العهد ضرورة إشهار التصرفات العقارية، على خلاف ما ذهب إليه بعض العلماء، ولكنهم تدرجوا كثيرًا في طرق الإشهار ففي روما كانت طريقة الإشهار تتبع تشريعهم من حيث التغالي في الإجراءات الشكلية حينًا والتساهل فيها حينًا [(3)].
ومن أولى طرق إشهار نقل الملكية عند الرومان طريقتان: الـ (mancipatio) والـ (in jure cession).
وكانت الطريقة الأولى، ومعناها القبض أي استلام العين باليد، تؤدي إلى إشهار البيع بحضور البيع والمشتري، مصحوبين بخمسة شهود وموظف خاص يحمل ميزانًا من الصلب، إلى موقع العقار، ولمس المشتري العقار باليد، وإعلانه في مواجهة البائع ملكيته له، وتسليمه للبائع سبيكة من الصلب رمزًا إلى دفع الثمن [(4)] وما لم تتم هذه الإجراءات فالملكية لا تنتقل للمشتري.
ولكن لهذه الطريقة عيوبها، فالعلانية لا تتوفر فيها إلا بقدر السماع عن حصول هذه الإجراءات ومن جهة أخرى فإن هذه الإجراءات تستلزم في البيوع العقارية انتقال البائع والمشتري بنفسهما إلى محل العقار، لأن الرومان كانوا يحرمون التوكيل في ذلك، فإذا لم يكن ذلك ميسورًا لأحدهما لمانع عرض له أو لبعد موقع العقار تعذر وقوع البيع [(5)].
وكذلك كانت هذه الإجراءات بطبيعتها لا تنصب إلا على البيع المنجز غير المضاف إلى أجل أو المعلق على شرط.
وأما (in jure cessio) فموضوعها الاتفاق بين المشتري والبائع على تصور دعوى استحقاق يرفعها الأول على الثاني أمام القاضي ليثبت حقه على العين موضوع التعاقد.
وقد كثر التعامل بهذه الطريقة عن الطريقة الأولى وخاصة لكونها الطريقة الوحيدة لاكتساب مجرد الحقوق العقارية كحق الارتفاق.
ولكن كان لهذه الطريقة نفس العيوب التي رأيناها في الطريقة الأولى لعدم جواز التوكيل فيها، ولضرورة إحضار المنقول في مجلس القاضي أو انتقاله لجهة العقار [(6)] وأخيرًا لضرورة الاتفاق مبدئيًا، بين البائع والمشتري على كافة اشتراطات البيع، لعدم إمكان مخالفة هذه الشروط أمام القاضي.
وقد وضع الرومان بعد ذلك طريقة ثالثة لإشهار البيع.
وهي الـ (traditio) أي تسليم المبيع، وشروطه:
1 - التسليم المادي للمبيع عقارًا كان أو منقولاً، وهو الركن المادي.
2 - اتفاق البائع على البيع والمشتري على الشراء، وهو الركن المعنوي.
3 - كون المبيع مما يمكن قبضه بأن يكون عينيًا.
4 - أهلية البائع للبيع والمشتري للشراء [(7)].
ولكن التسليم أو القبض قد يحصل في غير علانية، بل وقد يحصل خفية، وأخيرًا كان يستغني عنه بالنص في العقد على حصول التسليم، فكانت المعاملات لا تزال عرضة للخطر، لذلك وضع الرومان عقوبة لمن يبيع عقارًا ليس مملوكًا له.
ولكن هذه العقوبة على شدتها لم تخفف من الأضرار الناشئة عن عدم إشهار التصرفات العقارية.
هذا في التصرفات بعوض.
أما في الهبات فقد صدر قانونان في عهد الإمبراطور قسطنطين بوجوب إشهارها بتسجيل ملخصها insinuation وهو أساس نظام التسجيل في القوانين الحديثة.
ولكن لم يلبث أن فقد هذا التسجيل أهميته من حيث العلانية في عهد خلفاء الإمبراطور قسطنطين وأصبح مجرد أداة للإثبات، ذلك لأن خلفاءه أباحوا التسجيل في غير الجهة التي بها العقار وفقًا لإرادة الواهب، ثم أصبح التسجيل اختياريًا، وانتهى بأن بطل هذا النظام بعدم الاستعمال. [(8)].

في القانون الفرنسي

لاستيفاء البحث في علانية العقود الناقلة للملكية العقارية في القانون الفرنسي، يجب الكلام عن التشريع في أدواره الآتية:
1 - القانون القديم.
2 - التشريع في عهد الثورة.
3 - قانون نابليون.
4 - قانون 23 مارس سنة 1855.
1 - القانون القديم:
لم تكن في غالب المقاطعات الفرنسية طريقة لإشهار نقل الملكية والحقوق العقارية في عقود المعاوضة، بل كان التعاقد على ذلك يحصل بغير علانية، إلى حد أن التسليم أصبح لا محل له بشيوع النص على حصوله في عقود البيع.
ولكن كان لبعض المقاطعات الخاضعة لحكم العادات نظم لإشهار هذه التصرفات احتفظ بها من العصور الوسطى.
ومنها الـ (mantissement) وهو تسليم العقار للمشتري بمعرفة موظفين رسميين يعينهم الملك أو الأمير وإثبات هذا التسليم في سجل عام لكل ذي شأن حق الاطلاع عليه. [(9)].
وكان هذا النظام ساريًا على العقود الناقلة للملكية وكذلك العقود الناقلة أو المنشئة للحقوق العينية العقارية.
وكان لهذا النظام فائدة كبرى.
فإذا تصرف المالك في ملكية العقار، أو رتب عليه حقًا عينيًا، لشخصين على التوالي، كان الحق لصاحب التسليم السابق.
وإن لم يتسلم الاثنان العقار كان الحق لمن وضع يده عليه منهما، وإلا كان لصاحب القد الأسبق في التاريخ
وما لم يحصل التسليم القانوني nantissement، يعتبر العقار باقيًا في ملكية بائعه ولدائنيه حق التنفيذ عليه [(10)].
وكان لمقاطعة بريطانيا نظامًا خاصًا يسمونه Appropriance par bannies، هذا النظام يقتضي الإعلان عن البيع بالنداء بحصوله ثلاث مرات متوالية، بين كل منها أسبوع أو أسبوعان، بواسطة موظف خاص يسمونه bannier، وكان يحصل هذا الإعلان عادة في أيام الآحاد وعلى أبواب الكنيسة، ثم استعيض عن النداء بإعلان يلصق على أبواب الكنيسة.
وكان يعمل لهذا الإجراء محضر يعلن لأقارب البائع ولكل ذي مصلحة ظاهرة، ثم يسجل هذا المحضر بالمحكمة، ويصبح لكل ذي شأن حق الاطلاع عليه.
وأخيرًا استعيض عن هذا الإجراء بنظام تسجيل ملخص العقود Insinuation وهو أساس نظام التسجيل الحالي.
وكان لنظام Appropriance par banies نفس الفائدة المعلومة لنظام التسجيل.
فإذا ادعى شخص ملكيته لعين بطريق الشراء، وجب عليه إشهار شرائه بالطريقة السالفة، وما لم يفعل فعقده لا يكون حجة على الغير، ولكل شخص أراد أن يكتسب حقًا على عقار استطاع الاطلاع على تصرفات صاحب العقار، فيكون على بينة من أمره.
وكانت هناك نظم أخرى لضمان حقوق الدائنين المرتهنين، لا نرى محلاً للتوسع في شرحها، وهي تقضي إجمالاً بإعطاء هؤلاء الدائنين الفرصة للمعارضة في حصول البيع استبقاء لحقهم على العقار.
على أن هذه النظم كانت قاصرة على التصرفات بعوض، أما الهبات فكانت في عهد القانون القديم خاضعة دائمًا لنظام خاص للعلانية من شأنه حماية ذوي الحقوق على العقار.
2 - التشريع في عهد الثورة:
في سنة 1789، على أثر قيام الثورة وسقوط محاكم الأشراف، أُلغي نظام التسليم بقانون 20 – 27 سبتمبر سنة 1790 الذي قضى بوجوب تسجيل العقود بالمحاكم المركزية وإلا أصبحت لا قيمة لها.
وفي 11 برومير من السنة السابعة للثورة (أول نوفمبر سنة 1798)، صدر قانونان غير نظام التسجيل وجعلا العقود ناقلة للملكية بين العاقدين بمجرد صدورها، ولكنها لا تكون حجة على الغير إلا بتسجيلها.
3 - قانون نابليون:
ولكن قانون نابليون أُلغي هذين القانونين، وأُلغي تبعًا نظام التسجيل، فأصبحت العقود بعوض ناقلة للملكية بمجرد صدورها، سواء بين العاقدين أو إزاء الغير.
وكذلك عقود الوصية، أما الهبة فقد نص على عدم الاحتجاج بها على الغير إلا من يوم تسجيلها.
4 - قانون 23 مارس سنة 1855:
كان قانون نابليون لا شك معيبًا بإلغاء نظام التسجيل، والقضاء تبعًا على تأمين المعاملات العقارية.
كان حقًا للنائب العام دوبان Dupin أن يقول لمحكمة النقض في سنة 1840: (يشتري الإنسان ولا يعلم إذا كان سيصبح مالكًا أو لا، يرتهن ولا يدري إن كان سيتقاضى دينه أولاً).
فكان لا بد من تشريع جديد.
ففي 23 ماس سنة 1855 صدر (قانون تسجيل عقود الرهن)، وهو بالرغم من تسميته مطلق الأحكام على جميع التصرفات المنشئة أو المقررة للملكية وللحقوق العينية العقارية، فيما عدا الوصية التي لم ينص القانون على وجوب تسجيلها، والهبة التي نص قانون نابليون (939) على وجوب تسجيلها، ونزع الملكية للمنفعة العامة التي صدر بها قانون خاص في 3 مايو سنة 1841.
وهذا القانون هو مصدر التشريع المصري في القانونين المختلط والأهلي على ما سنرى.

في القانون المصري

يشمل بحثنا في هذا الموضوع الكلام على أدوار التشريع الثلاثة الآتية:
1 - العهد السابق على وضع القانونين المختلط والأهلي.
2 - عهد القانونين المذكورين.
3 - عهد قانون التسجيل الجديد.

1 - عن العهد الأول

لا ندري كيف كان يقع بيع العقار في عهد الفراعنة، وهل كان يشهر البيع أو لا، ولا ندري كذلك إذا كانت شرائع الدول الفاتحة، قبل الفتح الإسلامي، كانت تطبق على البلاد المصرية عند فتحها أو لا.
فلا ندري إن كان نظام التسجيل، الذي كان معروفًا عند قدماء اليونان، ووسائل الإشهار التي شرعها الرومان، كان معمولاً بها في مصر أولاً.
والبحث في ذلك من اختصاص علماء الآثار، الذين نرجو أن يوافونا بما يعلمونه في هذا الموضوع.
كل ما نعلمه أن، في عهد الفرس واليونان والرومان، كانت رقبة الأرض في الديار المصرية ملكًا للحاكم، ومنفعتها لواضعي اليد عليها، وأن الأرض كانت تنقسم إلى قسمين: الأراضي المنعم بها على كبار القوم، وكانت معفاة من كل ضريبة، والأراضي التي كانت لعامة الناس حق الانتفاع بها مقابل دفع الخراج عنها - راجع الإصحاح السابع والأربعين من سفر التكوين.
أما من عهد الفتح الإسلامي إلى عهد القوانين الوضعية المصرية فكانت أحكام الشريعة الإسلامية سارية على الديار المصرية.
ولم تنص هذه الأحكام على إشهار البيع، فكانت ملكية العين تنتقل للمشتري بمجرد البيع (مادة (74) من مرشد الحيران) وكان البيع يثبت بالبينة كسائر العقود، وكان للمشتري التصرف في العين المبيعة قبل استلامها إن كانت عقارًا (مادة (75)).
ولذلك كان مفروضًا تعرض المعاملات العقارية لإخطار كثيرة، بأن تشتري عقارًا من غير مالكه، أو ترتهن عينًا من غير صاحبها، إذا أوهمت بملكية من تعاقدت معه، وليس هناك نظام يساعدك على تحقيق ملكيته قبل التعاقد معه.
إلا أن هذه الأخطار لم يكن لها في مصر الشأن الذي كان لها في سائر البلاد الأخرى، وخاصة في فرنسا في المدة بين وضع قانون نابليون وسنة 1855، وذلك للأسباب الآتية:
الأول: لأن الأراضي، وهي الجزء الأعظم من الثروة العقارية، كانت في مصر خراجية، أي كانت رقبتها مملوكة لبيت المال بينما كان حق الانتفاع بها متروكًا للأهالي لا يتصرفون فيه لا بالبيع ولا بالرهن.
الثاني: لأنه من أوائل القرن الماضي (1813) كلفت الأراضي في سجلات الحكومة بأسماء أصحابها، فكان هذا النوع من التسجيل كافيًا لإشهار الملكية.
الثالث: لأنه لما أبيح التصرف في هذه الأراضي، في النصف الثاني من القرن الماضي، أحيطت هذه التصرفات بضمانات كانت تقي شر التعامل مع غير المالك: فكان لا بد من تحرير حجة شرعية بالتصرف، وكانت هذه الحجة لا تحرر إلا بعد الإذن من المديرية، وبعد التحقق من ملكية صاحب الأرض، بالكشف عليها من سجلاتها.
وإليك التفصيل:
قام الخلاف بين المؤرخين على صفة احتلال العرب للديار المصرية، هل هو فتح عنوة لمقاومة الرومان إغارتهم على مصر، أو هو فتح سلمى باتفاق الأقباط - وهم أهل البلاد - مع العرب على دخول الديار المصرية، وحصول الأقباط منهم على الأمان.
ولكن مما لا شك فيه أن أئمة المذاهب الأربعة متفقون على أن الديار المصرية فتحت عنوة، ويرى بعض المؤرخين، دليلاً رمزيًا إلى هذا الفتح، في ارتقاء الخطباء منابر الصلاة يوم الجمعة في كل جوامع مصر متقلدين سيفًا أو شبه سيف من خشب، بينما يخطب الخطيب في البلاد التي دخلها العرب بغير السيف ويداه مرفوعتان إلى السماء وفي أحديهما كتاب الله [(11)].
إذا أضيف إلى ذلك أن جمهور المصريين لم يدخلوا دين الإسلام عند الفتح، وأن أرض مصر تروى من ماء النيل وهو نهر غير عربي، تبين لك أن أراضي مصر كانت كلها خراجية بحكم الشريعة الغراء، وإذن بقيت الأرض ملكًا للحاكم وللأهلين حق الانتفاع بها لا غير - راجع المادة (21) من القانون المدني المختلط [(12)].
وقد استمرت الحال على ذلك في مصر في عهد الدولة العثمانية، وفي عهد المماليك الذين استبدوا بالحكم في غفلة نائب السلطان العثماني.
وفي عهد المماليك نشأت الالتزامات، ولكنها لم تغير من صفة الأراضي التي كانت تعطي لهم نظير التزاماتهم.
ولما ولي محمد علي باشا الكبير حكم مصر، وجه همه إلى تثبيت حق واضعي اليد على الأراضي ليأمنوا على ملكهم ولينصرفوا إلى إصلاح الأرض وزرعها.
ففي سنة 1813 مسحت الأراضي، ووزعت بين الأهالي، وقيدت بأسمائهم.
ولما صادر محمد علي باشا أملاك المماليك أخذ أراضيهم، التي منحت لهم (رزق بلا مال)، والتي أعطيت لهم مقابل الالتزام (أواسي) ووزعها كذلك بين الأهالي.
إلا أن الأراضي التي وزعت على الأهالي أولاً وثانيًا بقيت ملكًا لبيت المال وكان للأهالي عليها مجرد حق انتفاع.
وفي 23 ذي الحجة سنة 1263 (1846) صدرت أول لائحة في شأن الأراضي الخراجية، فصرح فيها لواضع اليد عليها بإعطائها غاروقة (أي برهن منفعتها) كما أبيح له التنازل عن حقه فيها بالشركة أو البيع الوفائي أو البيع البات.
وإنما شرطت اللائحة وجوب وقوع ذلك ( بالكتابة على ورق دمغة).
وفي 8 جمادى الأولى سنة 1271 (1854) صدرت اللائحة الثانية، فنصت على وجوب حصول التنازل عن حق منفعة الأراضي بالتصرفات السابقة عن يد المديرية وبحجة شرعية.
وأجازت هذه اللائحة انتقال حق المنفعة لورثة المنتفع مطلقًا بالنسبة للبعض، وبقيود خاصة بالنسبة للبعض الآخر.
وقد عني المغفور له سعيد باشا والي مصر بتثبيت حق المنتفعين على الأراضي عناية محمد علي باشا الكبير بذلك.
ففي 5 ذي القعدة سنة 1274 (1858) صدر أمره العالي بإعطاء الفلاحين، الذين شاركوا مشايخ البلاد في الأراضي المنتفعين بها، أو زارعوهم عليها، نصيبهم منها وقيده بأسمائهم.
وفي 24 ذي الحجة سنة 1274 (1858) صدرت اللائحة السعيدية التي وضعها مجلس الأحكام، وهي أول قانون حقيق بهذه التسمية صدر في شأن الأراضي.
أجازت هذه اللائحة:
1 - انتقال منفعة الأراضي لورثة المنتفع طبقًا لقواعد الشريعة الغراء في الإرث، وبشروط نصت عليها اللائحة – بند (1).
2 - تقسيم أطيان العائلة المكلفة باسم أرشدها بين أفرادها، وتكليف حصة كل منهم باسمه ونصت على وجوب ضبط ذلك بإشهاد شرعي يسجل بالمحكمة الشرعية وبالمديرية – بند (2).
3 - تملك منفعة الأرض بوضع اليد عليها ودفع الخراج عنها خمس سنوات متواليات - وإن كان هناك نزاع قائم بشأنها، وجب ثبوت وضع اليد عليها خمس سنوات سابقة على رفع الدعوى – بند (4).
4 - إعطاء الأرض غاروقة (بند 7) وتأجيرها لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات (بند وبيع حق الانتفاع (بند 9).
ولكن اللائحة أبقت رقبة الأراضي لجهة بيت المال بالنص على ذلك صراحة في البنود (1) و (4) و (7) و (9) وبإجازة التصرفات السابقة على سبيل الاستثناء.
وقد شرطت اللائحة وجوب اتباع إجراءات خاصة لإثبات هذه التصرفات، فلا تتم الغاروقة إلا بإذن المديرية والتكليف باسم المرتهن مع بقاء اسم صاحب الأرض، والإجارة إلا بسند ديواني يحرر بالمديرية، والبيع إلا بحجة شرعية بعد الإذن بالمديرية التي يجب عليها تحقيق ملكية البائع قبل الإذن للمحكمة الشرعية بتوقيع البيع.
وفي سنة 1871، في عهد الخديوي إسماعيل باشا، صدرت لائحة المقابلة التي أجازت للأهالي تملك الأرض ملكًا مطلقًا، وإعفاءهم من دفع نصف الضريبة طول حياتهم، إذا هم عجلوا دفع الخراج عن ست سنوات.
ومن الأهالي من دفع الخراج معجلاً فتملك رقبة العين، ومنهم من لم يدفع فبقي منتفعًا بها.
وفي 17 يوليو سنة 1880، في عهد الخديوي توفيق باشا، صدر قانون التصفية الذي ساوى بين الجميع وجعل صاحب الأرض مالكًا مطلقًا لها، كما ساوى بين الأراضي الخراجية والقليل من الأطيان العشرية التي كانت ملكًا خالصًا لأصحابها [(13)].
يتبين مما تقدم:
1 - أن الأراضي، وهي الأصل في الثروة العقارية، كانت خراجية أي مملوكة لبيت المال، وأن حق أصحاب كان قاصرًا على الانتفاع بها، وإنهم لم يملكوا التصرف في منفعتها لا بيعًا ولا رهنًا، ولم يتوارثوا هذه المنفعة إلا في النصف الثاني من القرن الماضي ولكنها لم تصبح ملكًا تامًا لهم.
2 - أنه في سنة 1813 مسحت الأراضي المنزرعة، وكلفت بأسماء المنتفعين بها، وأنه في سنة 1858 وزعت أطيان مشايخ البلاد على شركائهم، وكلفت بأسمائهم.
وفي هذه السنة أيضًا صرح بقسمة أطيان العائلة على أفرادها، وصرح بتكليف حصة كل منهم باسمه، كما اشترط تكليف الأراضي المعطاة غارقة باسم المرتهن علاوة على اسم صاحبها.
3 - وأنه في سنة 1846 صرح لأصحاب الأراضي بالتنازل عن منفعتها وبإعطائها غاروقة، ولكن بشرط حصول ذلك كتابة على ورقة دمغة.
وفي سنة 1858 اشترط، في حصول القسمة بين أفراد العائلة، تحرير إشهاد بذلك على يد قاضٍ شرعي وتسجيله بالمحكمة وبالمديرية، كما علق حصول التنازل عن حق الانتفاع أو إعطائه غاروقة على إذن المديرية وتحرير حجة شرعية.
وإذا تبين لكل ذلك استنتجت معي:
1 - أن انتقال الملكية العقارية لغاية سنة 1880 كان قاصرًا على (الأملاك) العقارية أي الأراضي المبنية، دون الأراضي الزراعية، اللهم إلا الأراضي التي أنعم بها على أصحابها ملكًا خالصًا، وهي قليلة جدًا.
2 - أن الأراضي كانت مكلفة بأسماء أصحابها بسجلات الحكومة ابتداءً من سنة 1813، وأن التصرف في منفعة الأراضي، بالبيع أو الرهن، وحتى إجارتها، إنما كان يحصل كتابة، وبإذن المديرية، وبموجب حجج شرعية في الحالتين الأوليين، وألا يصبح التصرف باطلاً [(14)] وغير حجة على الغير [(15)] وبسند ديواني في الحالة الأخيرة.
وعلى ذلك فالخطر على المعاملات لم يكن ظاهرًا في حالة التشريع القديم، لأنه كان سهلاً على كل شخص، يتعامل مع آخر، أن يتبين ملكيته من سجلات المديرية، وما كانت المديرية لتصريح بتحرير الحجة الشرعية إذا تبين لها عيب في ملكيته.
يضاف إلى ذلك أن لائحة القضاة الصادرة في 26 ديسمبر سنة 1856 قد نظمت طريقة تحرير الحجج الشرعية ووضعت قاعدة التسجيل.
(يلاحظ أن أصل الحجة، الموقع عليه من القاضي، كان يسلم لصاحبها، وكانت تنسخ صورتها في السجل المصان – وفي هذا مخالفة أساسية لما هو جار في العقود الرسمية بالمحاكم الأخرى، حيث يحفظ الأصل بمحفوظات المحكمة، وتسلم صورة منه لذي الشأن).
وجعلت لائحة القضاة للحجج، المطابقة للسجل المصان، قيمة قاطعة في الإثبات، فكان القضاة ممنوعين من سماع أي دعوى تخالف مضمونها - راجع المادة (9).
على أنه يستنتج، من مجموع نصوص هذه اللائحة، أن الحجة الشرعية التي تتضمن بيعًا أو هبة أو وقفًا أو غير ذلك من العقود، لا تكون حجة نافذة على صاحبها أو ورثته إلا إذا كانت مسجلة في السجل المصان، أو بعبارة أخرى، لا يكون لها قوة العقد الرسمي بين المتعاقدين إلا بعد التسجيل، وأن ليس الغرض من تسجيل الحجة الشرعية جعلها حجة على الغير.
وهذا أول عهد التشريع المصري فيما يختص بالسجلات، وأما المضابط فقد ذكرها في المادة (15) من اللائحة المذكورة وعبارتها تنصب على محاضر جلسات المحاكم أكثر منها على مضابط العقود.
وفي 17 يونيه سنة 1880، أي بعد صدور القوانين المختلطة، صدر الأمر العالي بلائحة المحاكم الشرعية، وهي الأولى من نوعها الجديرة بهذه التسمية.
وقد غيرت هذه اللائحة نظام تحرير العقود، فجعلت المضابط هي الأصل الواجب حفظه بدفاتر المحكمة، والحجة الشرعية صورًا منها تسلم لذوي الشأن فيها، كما هو الحال في نظام العقود بالمحاكم المختلطة - راجع المواد (77) و (106) و (107) و (110).
ونظمت هذه اللائحة دفاتر التسجيل - (118) و (119) وجعلت لها فهرستات خاصة - (76) و (120).
كما نصت على تسجيل العقود الناقلة لملكية العقار، والمقررة للحقوق العينية العقارية، بسجلات المحكمة التي بدائرتها العقار، إذا صدرت هذه العقود بمحكمة أخرى - (55)
وعلى وجوب قيد ما يرد إليها من العقود الصادرة من المحاكم المختلطة، أو المسجلة بها من العقود العرفية، وخلاصات الأحكام الصادرة بالبيع القضائي - (90).

2 - عن العهد الثاني
قانونا المحاكم المختلطة والأهلية

كان محظورًا على الأجانب في الأصل تملك عقارات بالديار المصرية، ولكن محمد علي باشا الكبير أنعم على بعضهم (بأبعاديات) أسوة برعاياه، وملكهم إياها ملكًا مطلقًا أي رقبة ومنفعة.
ولما أصدر المغفور له سعيد باشا أمره الرقيم 15 جمادى الأولى سنة 1275 (1885) ببيع الأطيان الخراجية التي تركها واضعو اليد عليها، سمح للأجانب بشراء ما يريدونه منها.
ولما كانت هذه الأطيان خراجية لا تملك رقبتها، أصدر سعيد باشا لهؤلاء الأجانب تقاسيط من الرزنامة، كما كان يفعل بالأباعد التي كان ينعم بها مجانًا، ليملك هؤلاء الأجانب الأرض رقبة ومنفعة.
وفي 19 ربيع الآخر سنة 1277 (1861) أصدر سعيد باشا أمرًا عاليًا يرخص فيه للأجانب بإنشاء وابورات لحليج الأقطان في الأراضي المملوكة لهم.
وقد تأيد حق الأجانب في تلك العقارات بالديار المصرية بصدور الإرادة الشاهانية في 7 صفر سنة 1283 (1867) التي أطلقت لهم هذا الحق في جميع البلاد العثمانية ما عدا الحجاز.
ولما كان الأجانب المقيمون ببلاد الدولة العلية قد احتفظوا بحق التقاضي أمام سلطاتهم في القضايا المدنية والجنائية، بموجب المعاهدات المعقودة مع سلاطين هذه الدولة [(16)] وأهمها معاهدة فرنسا في سنة 1740 (راجع المواد (15) و (26) و (46) و (52) و (71) من هذه المعاهدة) ومعاهدة أمريكا في سنة 1830 (راجع المادة (4)) ومعاهدة بلجيكا سنة 1838 (راجع المادة (8)) اقتضى ذلك توزيع السلطات القضائية في البلاد المصرية، ولما كانت المصلحة العامة تقضي بتوحيد هذه السلطات، فكر المغفور له الخديوي إسماعيل باشا في إنشاء محاكم مصرية للفصل في قضايا الأجانب، وقد استمرت المفاوضات مع الدول ذات الشأن في ذلك من سنة 1769 إلى سنة 1876، التي انتهت بتشكيل المحاكم المختلطة، ولما أنشئت هذه المحاكم، كان مفروضًا وضع نظام تام للتسجيل، بجانب نظام المحاكم الشرعية الناقص، لضمان مصالح الأجانب في مصر، فنص في القانون المدني المختلط على وجوب تسجيل العقود المنشئة أو المقررة للملكية العقارية، والحقوق العينية العقارية، لتكون حجة على الغير، ووضع سباب خاص في هذا القانون لتنظيم عملية التسجيل.
وفي سنة 1883، لما شكلت المحاكم الأهلية، أخذت قوانينها عن القوانين المختلطة حرفًا بحرف (فيما عدا بعض نصوص قليلة).
والقوانين المختلطة نفسها مأخوذة عن قانون نابليون، فالقانون المدني مأخوذ عن الكتابين الأول والثاني من القانون المشار إليه، فيما عدا الإرث، والوصية، وبعض النصوص المتعلقة بالهبة التي لها علاقة بمسائل الأحوال الشخصية.
أما النصوص الخاصة بالتسجيل الواردة بالقانون المدني المختلط، والتي نقلت إلى القانون الأهلي، فمأخوذة عن القانون الفرنسي الصادر في 23 مارس سنة 1855 السابق الكلام عليه.

نصوص التسجيل في القانونين المختلط والأهلي

ورد بعض هذه النصوص في القانونين متفرقًا مع النصوص المتعلقة بأسباب الملكية، والنصوص الخاصة بسائر الحقوق العينية، وورد البعض الآخر منها مجموعات في باب إثبات الحقوق العينية عن أسباب الملكية.
عددت المادة (44) من القانون المدني أسباب الملكية والحقوق العينية، فهي:
1 – العقود.
2 – الهبة.
3 – الميراث.
4 – الوصية.
5 - وضع اليد.
6 - إضافة الملحقات إلى الملك.
7 – الشفعة.
8 - مضي المدة.
وفات هذه المادة النص على سبب تاسع وهو القبض (راجع المادتين (46) و (607) أهلي والمواد (66) و (68) و (734) مختلط) ولكن لا علاقة لهذا السبب بموضوع بحثنا الحاضر، لأنه سبب قاصر على ملكية المنقول.
1 – العقود:
نصت المادة 47/ 69 على أن ملكية الأموال الثابتة والحقوق العينية عليها لا تثبت بالنسبة لغير المتعاقدين، إلا بالتسجيل.
ونصت المادة 270/ 341 على أن ملكية العقار، بالنسبة لغير المتعاقدين من ذوي الفائدة فيه، لا تنتقل إلا بتسجيل عقد البيع كما سيذكر بعد متى كانت حقوقهم مبنية على سبب صحيح محفوظة قانونًا وكانوا حسني النية [(17)].
ونصت المادة 611/ 737
(الحقوق بين الأحياء، الآيلة من عقود انتقال الملكية أو الحقوق العينية القابلة للرهن، أو من العقود المثبتة (خطأ في الترجمة اقرأ (المنشئة)) لحقوق الارتفاق والاستعمال والسكنى والرهن العقاري، أو المشتملة على ترك هذه الحقوق، تثبت في حق غير المتعاقدين ممن يدعي حقًا عينيًا بتسجيل تلك العقود…).
ونصت المادة 612/ 738
(الأحكام المتضمنة لبيان الحقوق (اقرأ - المؤيدة للحقوق) التي من هذا القبيل، أو المؤسسة لها، يلزم تسجيلها أيضًا.
وكذلك الأحكام الصادرة بالبيع الحاصل بالمزاد، والعقود المشتملة على قسمة العقار.
يتبين من هذين النصين
أولاً: أن العقود والأحكام الخاضعة للتسجيل في عهد القانون المدني هي:
( أ ) العقود الناقلة للملكية أو الحقوق العينية العقارية القابلة للرهن العقاري.
(ب) العقود المنشئة لحقوق الارتفاق والاستعمال والسكنى والرهن العقاري.
(جـ) العقود المشتملة على ترك هذه الحقوق.
(د) الأحكام المؤيدة لهذه الحقوق أو المنشئة لها.
(هـ) أحكام مرسى المزاد.
(و) عقود الشركات العقارية فيما يتعلق بدخول أنصبة الشركاء في رأس المال إذا كانت عقارية - راجع بودرى كتاب الالتزام جزء (1) ص (430) - فقرة (385).
(ز) عقود قسمة العقارات المشتركة لا الموروثة – 610/ 736.
(جـ) كتب الوقف بعد القانون رقم (33) لسنة 1920.
ثانيًا: أن العقود والأحكام غير الخاضعة للتسجيل هي:
( أ ) العقود المؤيدة للحقوق المذكورة Déelaratifs
راجع بودرى – ص (431) فقرة (387) و (389) و (290) - فيما عدا عقود قسمة العقار المشترك غير الموروث.
راجع حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 26 مايو سنة 1908 - مجلة التشريع والقضاء سنة 20 ص (247) (ومع ذلك فالمحكمة المذكورة قد قضت في 6 إبريل سنة 1905 - المجلة 17 ص (188) - بوجوب تسجيل العقود المقررة لحقوق الارتفاق).
(ب) إجراءات نزع ملكية العقار للمنفعة العامة - راجع الفقرة الأخيرة من المادة (5) من القانون رقم (5) لسنة 1907 - لأن في إجراءات نزع الملكية العلانية الكافية، كما يقول بودرى فقرة (390 مكررة).
(جـ) الأحكام التي من شأنها زوال الحقوق المنصوص عنها في المادتين (611) و (612) (737) و (738).
راجع حكم المحكمة المذكورة في 28 نوفمبر سنة 1912 – المجلة (25) ص(41).
(د) الأحكام المؤيدة لحقوق ثابتة بعقود مسجلة.
راجع حكمي المحكمة المذكورة في 15 يناير سنة 1914 - المجلة 26 ص (142) و ص (155) - وحكم 7 مايو سنة 1914 - المجلة 26 ص (378).
(هـ) الأحكام المؤيدة لحقوق الإرث تطبيقًا للمادة 610/ 736 راجع الحكمين المذكورين وحكم 27 مايو سنة 1915 - المجلة 27 ص (375).
(و) كتب الوقف قبل قانون رقم (33) لسنة 1920 لعدم انطباق نص المادتين (611) و (612) (737) و (738).
راجع أحكام المحكمة المذكورة في 28 ديسمبر سنة 1905 - المجلة (18) ص (60) وفي 10 مايو سنة 1910 – المجلة - 23 ص (7) – وفي 18 يناير سنة 1916 – المجلة 28 ص (108) راجع أيضًا حكم محكمة الاستئناف الأهلية في 15 إبريل سنة 1916 - قضية وقف المنشاوي باشا ضد السيدة ست بنت موسى رقم (156) سنة 33 قضائية (غير منشور).
راجع حكم المحكمة المذكورة في 18 مايو سنة 1926 - المحاماة 8 ص (170).
أما الحقوق التي ترد عليها العقود وواجب تسجيلها فهي:
1 - حق الملكية العقارية - المواد (47) و (270) و 611/ (69 و 341 و 737).
2 - الحقوق العينية القابلة للرهن، وهي الحقوق المتفرعة عن الملك والتي يجوز التصرف فيها مستقلة (الرقبة وحق الانتفاع) – المادتان (47) و 611/ (69 و 737).
3 - الحقوق العينية الأخرى، حق الارتفاق - المادة 611/ 737 وحق الاستعمال، وحق السكنى - المادة 611/ 737.
4 - حقوق الدائنين على العقار: حق الرهن العقاري - المادة 565/ 689 والمادة (611)، وحق الاختصاص أو الرهن القضائي - المادة 599/ 725 وحق الرهن الحيازي - المادة 550/ 674 وحقوق الامتياز العقارية: حق امتياز بائع العقار وفاء للثمن، وحق امتياز المشتري في رد الثمن عند الفسخ - المادتان (601) فقرة (7) و 614/ (727 فقرة (6) و(741)) وحق امتياز الشركاء في القسمة العقارية (ما عدا قسمة العقار الموروث) – المادتان (602) و 614/ (728 و741) وحق امتياز صائن العقار - المادتان (603) و 614/ (729 و 741).
ونلاحظ هنا أن جمهور شراح القانون المصري يرى إطلاق حق امتياز الصائن على العقار والمنقول [(18)] بينما يرى الأستاذ حامد بك فهمي قصره على المنقول [(19)].
5 - الغاروقة - نص القانون المختلط على وجوب تسجيل الغاروقة في المادة (737)، ولم ينص القانون الأهلي على ذلك بالرغم من النص على الغاروقة في المادة (553)، وذلك لأن هذا النوع من التأمين كان قاصرًا على الأطيان الخراجية دون الأطيان المملوكة ملكًا تامًا، ولأن قانون التصفية قد ألغى هذه التفرقة فأصبحت جميع الأطيان ملكًا تامًا لأصحابها.
وعلى ذلك يمكن القول بأن الغاروقة غير المجسلة كانت حجة على غير المتعاقدين الخاضعين لسلطة المحاكم الأهلية بمجرد صدورها مستوفاة الشرائط طبقًا لأحكام اللوائح القديمة، ولكنها أصبحت غير حجة على الأجانب من عهد صدور القوانين المختلطة ما لم تكن مسجلة.
6 - حق حبس العين - لم ينص القانونان المختلط والأهلي على إشهار هذا الحق بالتسجيل لأنه حق مادي يثبت بوضع اليد على العين والامتناع عن تسليمها.
ولكن إذا فرضنا أن هناك عقدًا صريحًا بحق الدائن في حبس العين، فهل يقتضي تسجيل هذا العقد لحفظ حق الحبس قبل الغير؟ لا نظن ذلك لعدم النص، على أنه إذا كان حق حبس العين ناشئًا عن حق امتياز فهذا الحق نفسه خاضع للتسجيل، وهذا يكفي لإعلان الغير بحق حبس العين.
7 - الحجز العقاري - من المتفق عليه أن الحجز العقاري لا ينشئ للدائن حقًا عقاريًا على العين المحجوزة - راجع حكمي محكمة الاستئناف المختلطة في 28 مارس سنة 1878 - المجموعة الرسمية سنة 3 ص (161) - وفي 26 مايو سنة 1886 - المجموعة المذكورة 11 ص (457) - ولكن القانون نص على وجوب تسجيل تنبيه نزع الملكية - المادة 540/ 706 مرافعات، وعلى تسجيل محضر الحجز العقاري في القانون المختلط – المادة (619) مرافعات – وحكم نزع الملكية في القانون الأهلي - المادة (559) مرافعات.
8 - الإجارة لمدة تزيد عن تسع سنوات - والمخالصة عن الأجرة المعجلة الزائدة عن ثلاث سنين وهذه حقوق شخصية ولكن لخطورتها بالنسبة لحقوق الغير نص القانون على وجوب تسجيلها – مادة 613/ 740
انتهينا من الكلام عن السبب الأول من أسباب الملكية.
2 – الهبة:
نصت المادة (52) (75) من القانون المدني على وجوب تسجيل عقد هبة العقار ليكون حجة على الغير، ولما كانت الهبة ناقلة للملكية فنص المادة 611/ 737 ينطبق عليها أيضًا لإطلاقه.
وللفظ (الغير) هنا معنى خاص، فهو يشمل مطلقًا كل من تلقى حقًا عينيًا على العقار الموهوب بطريق الهبة أو الوصية أي بغير مقابل، ومن تلقى حقًا عينيًا بمقابل ولم يكن عقده ذا تاريخ ثابت قبل تسجيل عقد الهبة، ثم من تلقى بمقابل وبعقد ذي تاريخ ثابت حقًا عينيًا غير ملكية حق قابل للرهن أو حق انتفاع بالاستعمال أو السكنى، أما من تلقى بمقابر أحد هذه الحقوق، وكان عقده ثابت التاريخ قبل تسجيل عقد الهبة، فلا تسري عليه الهبة وإن كانت مسجلة - مادة 617/ 744.
3 – الميراث:
أما ملكية العقار والحقوق العينية العقارية الآيلة بالإرث (فتثبت في حق كل إنسان بثبوت الوراثة( مادة 610/ 736، فهي حجة على الغير بغير حاجة إلى التسجيل.
ولم ينص قانون (23) مارس سنة 1855 في فرنسا على الإرث باعتباره سببًا لنقل الملكية أو الحقوق العينية العقارية، وقد فسر ذلك الفقهاء والقضاء بعدم وجوب التسجيل باعتبار الحق آيلاً عن القانون مباشرة – راجع بودرى الالتزامات جزء (1) ص (427) فقرة (377).
ولا تحتاج إلى التسجيل تبعًا:
1/ الأحكام الصادرة بتثبيت حق الوارث على عقار أو على حق عيني عقاري كما رأينا.
2/ عقود قسمة العقار بين الورثة والأحكام الصادرة بهذه القسمة - راجع حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 29 إبريل سنة 1903 – المجلة 15 ص (262).
3/ عقود تخارج الورثة عن حصتهم في عقارات التركة والأحكام الصادرة في هذا الموضوع، راجع بودرى كتاب الالتزامات جزء (1) ص (429) فقرة (384).
راجع حكمي المحكمة المذكورة في 26 يناير سنة 1899 - المجلة 11 ص (105) وفي 12 ديسمبر سنة 1916 المجلة 29 ص (103).
4/ عقود استرداد الورثة للحصة العقارية المبيعة من التركة والأحكام الصادرة في هذا الموضوع - راجع حكم المحكمة المذكورة في 4 مايو سنة 1911 – المجلة 23 ص (302).
4 – الوصية:
- لم ينص القانون على وجوب تسجيل الوصية أو عدم وجوبه - وظاهر من نصوص القانون ومن طبيعة الحق ذاته أن لا محل للتسجيل:
1/ لأن القانون لم ينص على هذا التسجيل لا في المادة (55) ولا في باب التسجيل.
2/ ولأن المادة (611) نصت على تسجيل الحقوق بين الأحياء والوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت - راجع بودرى كتاب الالتزامات جزء (1) ص (427) فقرة (376) (طبعة سنة 1906).
3/ ولأن تسجيل الوصية لا يمنع الموصي من التصرف في ماله في حياته - ويعتبر ذلك رجوعًا في الوصية، إلا أن هذا الرجوع لا يمس في القانون المختلط حقوق المشترين أو المرتهنين للعين الموصي بها إذا كانوا حسني النية - مادة (78).
4/ ولأن تسجيل الوصية بشيء معين A titre particulier ليس حجة على من تملك العقار الموصي به بمقابل كما رأينا عند الكلام على الهبة - مادة 617/ 744.
5 – الشفعة:
نص قانون الشفعة الصادر في 23 مارس سنة 1901 في المادة (14) على وجوب تسجيل طلب الشفعة، وفي المادة (18) على وجوب تسجيل الحكم الصادر نهائيًا بثبوت الشفعة.
6، 7، 8 -
أما التملك بوضع اليد على العقار الذي لا مالك له Appropriation أو بإضافة الملحقات للملك Accession أو بمضي المدة Preseription ou usucapion فهذه من الأسباب المادية المؤدية للملكية، العلة فيها الغصب أو شبه الغصب، فلا تعاقد ولا عقد، وإذا لا محل للتسجيل.

3 - عهد قانون التسجيل الجديد
قانون رقم (18) و (19) لسنة 1923
1 - مقارنة بين القانون المدني وقانون التسجيل الجديد

1/ استعرضنا نصوص القانون المدني المتعلقة بالتسجيل، وبينا إجمالاً العقود والأحكام الخاضعة للتسجيل وغير الخاضعة له طبقًا لأحكام هذا القانون.
ولا بد أن القارئ قد لاحظ أن هناك عقودًا وأحكامًا لم ينص القانون على وجوب تسجيلها لتكون حجة على الغير، مع أن المصلحة العامة كانت تقضي بهذا التسجيل تأمينًا للمعاملات العقارية الذي شرع من أجله نظام إشهار التصرفات من قديم العهد.
وقد سد القانون الجديد بعض هذا النقص كما سنرى.
2/ ورأينا أن القانون المدني نص على الجزاء في حالة عدم التسجيل عند لزومه بأن جعل الحقوق الآيلة بمقتضى العقد غير المسجل كأن لم تكن بالنسبة للغير.
ولكن القانون الجديد أراد أن يمهد لمشروع نظام السجلات العقارية، فوضع جزاءً أشد صرامة، فنص على أنه يترتب على عدم تسجل العقود والأحكام غير المقررة للحقوق على انتقال الملكية والحقوق العينية بين العاقدين أنفسهم، وهذه هي القعدة الأساسية التي بنى عليها التشريع الجديد.
3/ ولقد نظم القانون الجديد طريقة تسجيل العقود، كما نظم طريقة إشهار الدعاوى وعقود الحوالة بالديون العقارية.
تلك هي الفوارق الثلاثة بين التشريعين.
كانت نصوص القانون المدني مبهمة بعض الإبهام وغير مرتبة ترتيبًا منطقيًا، فالمادة 611/ 737 نصت (على عقود انتقال الملكية أو الحقوق العينية القابلة للرهن والعقود المثبتة لحقوق الارتفاق والاستعمال والسكنى والرهن العقاري أو المشتملة على ترك هذه الحقوق).
(ولفظ (المثبتة) هنا معناه المنشئة Constituifs لا المؤيدة Declaratifs كما يتبين ذلك في عبارة الأصلي الفرنسي للمادة).
وإذا فهذه المادة نصت على العقود المنشئة للحقوق، لا المؤيدة لها، سواء كانت منشئة لها بالذات أو ناقلة أو مزيلة.
والمادة 612/ (738 - 739) نصت على الأحكام المؤيدة لتلك الحقوق أو المنشئة لها، والأحكام الصادرة في دعوى البيع الجبري، والعقود المشتملة على قسمة عين العقار، والمادة 613/ 740 نصت على عقود الإيجار الذي تزيد مدتها عن تسع سنوات وسندات الأجرة المعجلة التي تزيد عن ثلاث سنوات.
والمادة 614/ 741 نصت على بعض الديون العقارية الممتازة.
أما القانون الجديد فقد نص على العقود الواجب تسجيلها بهذه العبارة الجامعة (جميع العقود أو الأحكام الصادرة بين الأحياء، بعوض أو بغير عوض، والتي من شأنها إنشاء حق ملكية أو حق عيني عقاري آخر أو نقله أو تغييره أو زواله – والعقود والأحكام المقررة لهذه الحقوق).
ويرى من ذلك أن القانون المدني قد نص على سبيل الحصر على العقود والأحكام الواجب تسجيلها، كأنما الأصل عدم التسجيل والتسجيل استثناء، أما القانون الجديد فقد وفق إلى نص جامع يشمل كل التصرفات العينية العقارية بين الأحياء، فلا يستثني منها إلا ما خرج عن النص.
ولقد قسم القانون الجديد العقود والأحكام التي تشمل هذه الحقوق إلى نوعين:
1 – العقود والأحكام المنشئة للحقوق.
2 – العقود والأحكام المؤيدة للحقوق، وقد الحق بها عقود الإيجار والمخالصات عن الأجرة المعجلة.
وقد جعل القانون لكل من النوعين مادة مستقلة، كما جعل لكل منهما حكمًا خاصًا أساسيًا لنقل الملكية بين العاقدين، ولم يجعل لسوء النية أثرًا في أرجحية العقد المسجل كما سنرى.
وفي المادة الثانية نص القانون على العقود والأحكام المؤيدة للحقوق، وجعل التسجيل شرطًا للاحتجاج بالحق على الغير، ونص على أن التدليس مبطل لأرجحية العقد المسجل.
ويتبين من مقارنة نصوص القانون المدني بنصوص قانون التسجيل، أن هذا القانون قد نص على وجوب تسجيل عقود وأحكام لم تكن خاضعة للتسجيل في عهد القانون المدني، وإليك بيانها:
1 - العقود المؤيدة لحقوق العينية العقارية بما فيها القسمة، فإن القانون المدني لم ينص في المادة 611/ (737) الأعلى العقود المنشئة للحقوق، ولم ينص في المادة 612/ 739 إلا على عقود قسمة عين العقار، بينما نص قانون التسجيل صراحة في المادة الثانية على وجوب تسجيل هذه العقود.
2 - الأحكام التي من شأنها زوال الحقوق المنصوص عنها في المادة 611/ 737 من القانون المدني.
فإن القانون المدني نص في المادة المذكورة على العقود التي من شأنها إنشاء أو انتقال أو ترك هذه الحقوق، ولكنه اكتفى بالنص في المادة 612/ 738 على الأحكام المنشئة أو المقررة لهذه الحقوق.
ولما كان النص على سبيل الحصر كما رأينا كانت الأحكام المزيلة للحقوق العينية العقارية غير خاضعة للتسجيل في عهد القانون المدني، بينما هي خاضعة له بنص المادة الأولى من قانون التسجيل.
3 - العقود والأحكام التي من شأنها تغيير هذه الحقوق
فإن كان هذا التغيير بالزيادة فهو إنشاء لحق فلا مناص من التسجيل، وإن كان بالنقصان فهو ترك للحق، فإن كان بعقد وجب تسجيله في عهد القانون المدني، وإن كان بحكم فلا حاجة إلى التسجيل.
أما قانون التسجيل فقد نص صراحة على العقود والأحكام التي من شأنها (تغيير) الحقوق العينية العقارية.
وهناك عقود وأحكام لم ينص قانون التسجيل على وجوب تسجيلها.
1 - الوصية:
لأن المادة الأولى إنما نصت على العقود (الصادرة بين الأحياء) فالوصية حجة على ورثة الموصي ولو لم تكن مسجلة، لأن ملكية الحق العقاري الموصي به تنتقل بمجرد الوفاة دون حاجة إلى التسجيل.
وإلى أي مدى تكون الوصية حجة على الغير؟
يجب بحث المسألة من الوجوه الآتية:
( أ ) بالنسبة لمن تلقي حقًا عينيًا عن الموصي على العين الموصي بها.
(ب) بالنسبة لمن تلقي هذا الحق عن الورثة غير الموصي له.
(جـ) بالنسبة لمن تلقي هذا الحق من الموصى له.
والمفروض هنا أن تكون الوصية بغير مقابل وأنها صحيحة، سواء لأنها لغير وارث ولا تزيد عن النصاب القانوني، أو لإجازة الورثة لها (ويرجع في ذلك إلى أحكام قانون الأحوال الشخصية التابع لها الموصي - مادة (55)).
( أ ) بالنسبة لمن تلقى حقًا عينيًا عن المورث على العين الموصي بها.
للموصي الرجوع عن الوصية، فإذا تصرف في العين الموصى بها، كان تصرفه صحيحًا
وقد نص القانون المدني في المادة 617/ 744 على أن تصرف الموصي في العين الموصى بها للغير نافذ في حق الموصى له، إن كان التصرف بمقابل ولو لم يكن بعقد مسجل قبل تسجيل الوصية، وإنما يشترط أن يكون العقد ذا تاريخ سابق على تسجيل الوصية.
ولا يستفاد من هذا النص وجوب تسجيل الوصية لتكون حجة على الغير، لأن القانون لم ينص على ذلك.
وإنما يستفاد منه أنه طالما أن للموصي حق الرجوع في الوصية، وطالما أن الوصية لا ترتب حقًا للموصي له إلا من يوم وفاة المورث، فتصرف الموصي في حياته في العين الموصي بها نافذ في حق الموصى له ولو كانت الوصية مسجلة.
أما إذا ترتب حق للغير على العين الموصى بها بإجراءات ضد الموصي لا باختياره، فلا يمكن أن يقال أن الموصي قصد الرجوع عن الوصية، ولكن في هذه الحالة يرجح حق الغير على حق الموصى له وإن كانت الوصية مسجلة بشرطين، أن يكون حق الغير بمقابل، وأن يكون ثابتًا بعقد ذي تاريخ رسمي سابق على تسجيل الوصية - مادة 617/ 744 وتلك إحدى نتائج القاعدة التي قررها الشارع في المادة (143)، قاعدة أرجحية صاحب الحق بعوض على المتبرع له.
(ب) بالنسبة لمن تلقى الحق عن الورثة غير الموصى له.
الوصية حجة على الورثة وتصبح نافذة ضدهم بمجرد الوفاة، وهي كالحقوق الآيلة عن الإرث حجة كذلك على الغير، فإذا تصرف أحد الورثة في العين الموصى بها فتصرفه باطل ولو لم تكن الوصية مسجلة.
ولكن هل يجوز للورثة إجازة الوصية إضرارًا بحقوق دائنيهم بالذات، أو لهؤلاء الدائنين حق إبطال إجازتهم.
نرى أن لا دخل لهؤلاء الدائنين في هذه الإجازة. لأنه إذا اعتبرنا الوصية تبرعًا من المورث فلا يمكن اعتبار إجازتها تبرعًا من الورثة، وإنما هو دين طبيعي في ذمة المورث Obligation naturelle إذا أجازه الورثة اعتبر ذلك وفاء للدين ورجع أثره إلى تاريخ الوفاة، أي قبل أن تدخل التركة من ملك الوارث فتصبح محلاً لوفاء ديونه، ولأنه إذا كان دين الوارث سابقًا على التركة فلا يمكن أن يكون نصيبه فيها محلاً لضمان الدين وقت إنشائه، وإن كان لاحقًا بالتركة فقد وقعت الإجازة قبله أو عاد أثرها إلى تاريخ الوفاة.
(جـ) بالنسبة لمن تلقي حقًا عينيًا عن الموصى له.
إذ كانت العين الموصي بها لا تملك إلا بوفاة الموصي، فكل تصرف من الموصى له قبل الوفاة باطل، كتصرف الوارث في نصيبه من التركة قبل استحقاقها.
أما إذا كان التصرف حاصلاً بعد وفاة الموصي، فالتصرف حجة طبعًا على الموصى له وهو حجة على الورثة.
وعند التزاحم بين عقد صادر من الموصي له وعقد آخر صادر من الورثة، يفضل العقد الأول ولو لم يكن مسجلاً، لأنه صادر من مالك بينما العقد الثاني صادر من غير مالك، وإذن لم يكن هناك تزاحم بالمعنى القانون بين عقدين صادرين من مالك واحد.
أما إذا كان هناك تزاحم بين عقدين أحدهما صادر من المورث والثاني من الموصي له فالأرجحية فيهما للعقد المسجل، وإن كان الاثنان مسجلين فللأسبق منهما في التسجيل، تطبيقًا للمادة 617/ 745، ولأنه إذا قلنا بأن تصرف الموصي يعتبر فسخًا للوصية، فإن هذا الفسخ لا يؤثر في حق الغير الذي اكتسب حقًا عينيًا على العقار الموصي به وحفظه طبقًا للقانون - مادة (107) مختلط.
هذا هو حكم القانون المدني، أما قانون التسجيل فقد ألغى المادتين 617 و 618 (744 و 745).
- راجع المادة (16) من هذا القانون.
لأنه لم يكن هناك محل للمادة (617) التي قررت الأرجحية للعقد الثابت التاريخ قبل تسجيل الوصية، طالما أن القانون نص على أن الملكية لا تنتقل في العقود المنشئة للحقوق إلا بالتسجيل - مادة (1).
2 – الإرث:
لم ينص قانون التسجيل على وجوب إشهار الحقوق الآيلة بالإرث بل قصر ذلك على (العقود الصادرة بين الأحياء).
ولذلك فلا يخضع للتسجيل: محاضر حصر التركة، والأحكام الصادرة بتثبيت حق الوارث على العقار الموروث، وعقود القسمة بين الورثة والأحكام الصادرة فيها، وعقود تخارج الورثة لبعضهم عن حصتهم في عقارات التركة، والأحكام الصادرة بشأن ذلك، وعقود استرداد الورثة للحصة العقارية المبيعة من التركة، والأحكام الصادرة في هذا الموضوع، كما رأينا.
أما إذا اشتملت هذه العقود والأحكام على حق غير موروث، أو دخلها شخص ليس وارثًا ولو تلقى الحق عن أحد الورثة، وجب التسجيل، لحفظ الحق غير الموروث، ولتكون حجة لغير الوارث على الغير.
وعند تنازع شخصين، تلقى أحدهما الحق عن المورث، والثاني عن أحد الورثة، رجح صاحب العقد المسجل كما في الوصية، للأسباب التي ذكرناها، وبالألوية لأن حق الوارث أقوى من حق الموصى له.
راجع مقال الأستاذ لمبير بمجلة مصر الحديثة المجلد (4) ص 207/ 212 – والأستاذ عبد السلام بك ذهني - إثبات المداينات ج (2) ص (296) والحاشية الأولى ومقاله بمجلة المحاماة س 6 ص (625) - والأستاذ نجيب بك الهلالي في البيع ص (288) ن (459) وما بعدها.
وراجع حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 2 مارس سنة 1916 - مجلة التشريع والقضاء س 28ص (186) - وحكم محكمة الاستئناف الأهلية في 10 مايو سنة 1921، المجموعة الرسمية س 24 رقم (17) - وحكم محكمة النقض الفرنسية - دللوز 1904 - 1 - 5.
3 - العقود والأحكام الصادرة في البيع الجبري للمنفعة العامة:
قدمنا أن إجراءات نزع الملكية للمنفعة العامة لا تخضع للتسجيل في عهد القانون المدني، واستندنا في ذلك إلى نص الفقرة الأخيرة من المادة (5) من القانون رقم (5) لسنة 1907، وإلى أقوال الشراح الفرنسيين ولكن هل يكون كذلك الحكم في عهد قانون التسجيل.
نعتقد ذلك بالرغم من إطلاق نص المادة (1)، لأن هذه الإجراءات من شأنها دخول العقار في المنافع العامة فيصبح غير قابل للتصرف فيه، لأنه يكفي لدخوله في المنافع العامة صدور مرسوم بذلك، وأخيرًا لأن في إجراءات نزع الملكية للمنفعة العامة العلانية الكافية، كما يقول العلامة بودرى.
ولا شك أن في خروج هذه المسائل الثلاث من حكم المادة الأولى من قانون التسجيل نقصًا في التشريع، من شأنه عدم ضمان المعاملات العقارية على الوجه الأكمل، خصوصًا في الوقت الذي شرع فيه في وضع نظام السجلات العقارية.
ولقد نادى بذلك الأستاذ عبد السلام بك ذهني في مقالين نشرا بمجلة المحاماة س 6 ص (597) وس 7 ص (433).
4 - ولقد آثار قانون التسجيل بعض مسائل قد كثر فيها الجدل بين رجال القانون، ومنها ما فصلت فيه المحاكم، ومنها ما لم تفصل فيه إلى الآن.
ومن هذه المسائل:
1/ ماهية (الالتزامات الشخصية) التي نصت عليها الفقرة الثالثة من المادة الأولى.
2/ منشأ حق الشفعة في العقود غير المسجلة.
3/ أثر مبدأ عدم انتقال الملكية في جريمة بيع العقار غير المملوك للبائع.
4/ نظرية سوء النية في القانون الجديد.
5/ التقادم الخمسي، أو السبب الصحيح وقانون التسجيل.
6/ حقوق دائني البائع ودائني المشتري - وغير ذلك من المسائل.
ويرجع جميع هذه المسائل في الواقع إلى مسألة واحدة، وهي تفسير القاعدة الأساسية التي بنى عليها التشريع الجديد، قاعدة عدم انتقال الملكية بين العاقدين إلا بالتسجيل.

1 - ماهية الالتزامات الشخصية

جاء بالفقرة الثالثة من المادة الأولى من قانون التسجيل:
(ولا يكون للعقود غير المسجلة من الأثر سوى الالتزامات الشخصية بين المتعاقدين)
وجاء بالمذكرة الإيضاحية لهذا القانون تحت رقم (4)
(فيتعين مراعاة للمصلحة العامة ضمان إشهار التصرفات العقارية، بتقرير جزاء قانوني يكون أشد صرامة من مجرد عدم إمكان التمسك بهذه التصرفات في وجه غير المتعاقدين، فيتحتم إذًا جعل التسجيل شرطًا أساسيًا لانتقال الملكية والحقوق العينية بالنسبة للمتعاقدين ولغير المتعاقدين على السواء
وهذه القاعدة، التي هي شرط أساسي لنظام السجلات العقارية، إن لم تكن لازمة فهي على الأقل ضرورية لنظام يتخذ تمهيدًا لتلك السجلات).
ويتبين من المذكرة الإيضاحية أن واضعي مشروع القانون قد أخذوا، في تقرير مبدأ عدم انتقال الملكية إلا بالتسجيل، بالمادة (711) من مشروع تنقيح القانون المدني بالبلجيكي، التي نصت على أن (انتقال ملكية العقارات يتم متى أشهر البيع بالطريقة المنصوص عليها في باب الامتياز والرهن العقاري).
وقد عللت ذلك اللجنة التي وضعت مشروع تنقيح القانون البلجيكي بالصعوبات الهامة في العمل التي يثيرها مبدأ انتقال الملكية بمجرد الإيجاب والقبول، وجعلت اللجنة، أساسًا فقهيًا للمادة (711) المذكورة، الفارق بين الحق الشخصي والحق العيني.
فإن الحق الشخصي هو مجرد ارتباط قانوني بين شخصين أو أكثر، فهو بطبيعته ليس حجة على الغير، فليس ما يمنع من إنشاء هذا الحق بمجرد الإيجاب والقبول بين الطرفين.
أما الحق العيني فهو تكليف لشخص أو أكثر على عين ينشئ ارتباطًا قانونيًا بين صاحب الحق والكافة بشأن هذه العين فلا يمكن أن ينشأ هذا الارتباط عن عمل صادر بين العاقدين دون أن يعلم به الغير، وإنما ينشأ بالتسجيل، أي بإعلان هذا الغير.
وما لم يحصل هذا التسجيل فلا يترتب على العقد سوى التزام شخصي بين العاقدين.
إلا أن هذا الحق الشخصي لا يقف عند حد التعويض، وإنما يعطي لصاحبه حق مطالبة من تعاقد معه بتنفيذ ما تعهد به، أي بنقل الحق إليه بالقيام بالإجراءات القانونية اللازمة لإشهار التصرف، لأن نقل الملكية ليس ركنًا من أركان البيع، ولكنه نتيجة من نتائجه، ولأن معنى الالتزامات الشخصية التي نص عليها القانون الالتزامات الناشئة عن طبيعة عقد البيع.
هكذا قررت لجنة تعديل القانون البلجيكي (راجع المذكرة الإيضاحية).
وهكذا ذهب الأستاذ عبد السلام بك ذهني (المحاماة س 6 ص (605) و س 7 ص (439)) والأستاذ حامد بك فهمي (المحاماة س 5 ص (731)) – والأستاذ عبد الوهاب بك محمد (المحاماة س 5 ص (847)).
وبذلك قضت محكمتا الاستئناف المختلطة والأهلية بعد أحكام كثيرة متناقضة صدرت في هذا الموضوع.
قالت محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها الصادر في 21 ديسمبر سنة 1926 (مجلة التشريع والقضاء س 39 ص (102) – المحاماة س 8 ص (238)):
(ليس نقل الملكية ركنًا من أركان البيع ولكنه نتيجة من نتائجه (مادة 336)، وإذا كانت الملكية تنتقل، قبل القانون رقم (19) لسنة 1923، بين العاقدين بمجرد البيع، وبالنسبة للغير بالتسجيل، فإنها أصبحت، على مقتضى هذا القانون،لا تنتقل حتى بين العاقدين إلا بالتسجيل).
(وإذا كانت ملكية العين المبيعة لا تنتقل، على مقتضى القانون المشار إليه، مباشرة وبمجرد البيع - أي أن حق المشتري ليس حقًا عينيًا jus in re – إلا أن حقه بالنسبة للعين المبيعة قد ترتب في ذمة البائع بمجرد البيع Jus ad rem بمعنى أنه أصبح للمشتري حق مطالبة البائع باستيفاء الإجراءات التي توصله إلى تملك العين التي تعهد البائع بنقل ملكيتها إليه).
وقالت محكمة الاستئناف الأهلية (الدوائر المجتمعة) في حكمها الصادر في 3 ديسمبر سنة 1927 (المحاماة س 8 ص (298)):
(نقل الملكية ليس ركنًا من أركان البيع ولكنه أثر من آثاره، بدليل تعريف البيع في القانون (مادة 235)، ولجواز تعليق نقل الملكية على شرط أو إضافته إلى وقت، وجواز بيع ما لا يتحقق وجوده وقت البيع).
(وإن قانون التسجيل لم ينص على بطلان العقد غير المسجل واعتباره كأن لم يكن، ولكنه نص على تعليق نقل الملكية على التسجيل، فيصبح العقد من العقود المعلق فيها نقل الملكية على شرط، فهو صحيح).
(وإن قانون التسجيل قد نص على أنه لا يترتب على العقد غير المسجل إلا التزامات شخصية، دون بيان مدى هذه الالتزامات، ولا على من تقع في ذمته تلك الالتزامات من البائع والمشتري، وإذا كان هذا القانون استثنائيًا جاء مقيدًا لحرية العاقدين وجب تفسير نصوصه بالرجوع إلى أحكام القانون العام).
ويترتب على ما تقدم:
1 - إن للمشتري غير المسجل عقده طلب استيفاء الإجراءات الموصلة للتسجيل فنقل الملكية.
2 - وله حق استلام العين المبيعة قبل التسجيل طالما لم يتعلق بها حق الغير.
3 - وإذا ما استلمها كان هلاكها عليه ولو حصل قبل التسجيل - راجع الأستاذ عبد السلام بك ذهني - المحاماة س 6 ص606).
4 - وللبائع المطالبة بالثمن ولو لم يسجل المشتري عقده.
5 - وهل للمشتري الذي لم يسجل عقده بيع العقار أو رهنه أو ترتيب حق عيني عليه.
الفرض هنا أنه لم يتعلق بالعقار حق للغير عن طريق البائع، وأن من تصرف له المشتري قد حفظ حقه بالتسجيل.
نرى أن صحة التصرف تصبح معلقة على شرط تسجيل عقد المشتري، فإذا ما سجله ولو بعد التصرف، رجع أثر حقه إلى تاريخ الشراء وصح تصرفه، لأن البيع غير المسجل بيع معلق فيه نقل الملكية على شرط التسجيل، كما قالت محكمة الاستئناف الأهلية في حكمها المشار إليه، ولأن أثر الشرط يرجح إلى تاريخ العقد - مادة 105/ 159.
ونرى ضرورة تسجيل عقد المشتري ولو بعد التصرف لتصحيح مركز المتصرف له، لنقل الملكية من البائع للمشتري حتى يستطيع الأخير نقلها للغير لأن قانون التسجيل قد ألغى المادة 619/ 746 التي نصت على الاكتفاء بتسجيل التصرف الأخير عند تعدد عقود انتقال الملكية بين ملاك متوالين.
أما إذا تعلق بالعقار حق للغير عن طريق البائع، وسجل الغير عقده قبل تسجيل عقد المشتري، ولو بعد تسجيل عقد المتصرف له من المشتري، أصبح هذا التصرف معدوم الأثر قبل الغير، لصدوره من غير مالك، ولاستحالة تصحيح مركز المشتري بقطع رجوع أثر تسجيل عقده بتسجيل عقد الغير قبله مادة 106/ 160.
6 - ويترتب على ماهية الالتزامات الشخصية القضايا التي سنعرض لبحثها فيما يلي.

2 - الشفعة وقانون التسجيل

كتب في هذا الموضوع قبلنا الأساتذة حامد بك فهمي (المحاماة س 5 ص (729)) وعبد الوهاب بك محمد (المحاماة س 5 ص (847)) وعبد السلام بك ذهني (المحاماة س 6 ص (612)).
وقد أجمع الأساتذة الثلاثة على ثبوت حق الشفعة في البيع غير المسجل في عهد القانون الجديد.
وقد بنى الأستاذ حامد بك رأيه على أن القانون لا يشترط في الشفعة كون البيع صحيحًا، ناقلاً للملكية، خاليًا من خيار شرط للبائع، كما اشترطت الشريعة الإسلامية ذلك.
واستند الأستاذ عبد الوهاب بك إلى كون التسجيل ليس ركنًا من أركان البيع ولكنه أثر من آثاره، وإلى كون الشفيع إنما يتلقى حقه عن البائع مباشرة، وإلى أن تعليق حق الشفعة على التسجيل من شأنه جعل تعطيل حق الشفعة بيد المشتري لأن أمر التسجيل موكول لإرادته.
وارتكن الأستاذ ذهني بك على أن المشتري غير المسجل عقده مالك على شرط التسجيل، وبتحقق الشرط تنتقل الملكية إليه من يوم الشراء، وأن الشفيع يحل محل المشترط بشرطه، فإذا ما سجل عقده أو حكمه انتقلت الملكية إليه من البائع مباشرة ومن يوم الشراء.
ولقد أخذت محكمتا الاستئناف المختلطة والأهلية بهذا الرأي وقضتا، بالحكمين المشار إليهما، بجواز لأخذ بالشفعة من المشتري غير المسجل عقده للأسباب التي نقلناها عن الحكمين المذكورين، فيما يتعلق بحق المشتري، وللأسباب التي استند إليها الأساتذة المذكورون، فيما يتعلق بحق الشفيع.
وينبني على ذلك أن حق الشفعة يسقط بمضي الميعاد القانوني من يوم العلم بالبيع، وليس من يوم العلم بالتسجيل.
- راجع الحكمين المذكورين.

3 - جريمة بيع العقار غير المملوك للبائع

إذا كانت الملكية لا تنتقل بين العاقدين إلا بالتسجيل، فمعنى هذا أن البائع يظل مالكًا إلى أن يحصل التسجيل، فإذا ما باع العين لثالث صح البيع، وانتقلت الملكية إليه إذا سجل عقده قبل تسجيل عقد المشتري الأول.
فهل تنطبق المادة (293) عقوبات على تصرف البائع في هذه الحالة.
يقول الأستاذ أحمد بك أمين (شرح قانون العقوبات الأهلي - القسم الخاص - ص (738)):
(إما إذا تصرف في عقار سبق له التصرف فيه لشخص آخر، فيختلف الحكم بحسب ما إذا كان حق الملكية السابق التصرف فيه قد انتقل فعلاً إلى المتصرف له أولاً بالتسجيل أم لا - انظر المادة الأولى من القانون نمرة (18) لسنة 1923 الخاص بالتسجيل).
(فإن كان التصرف الأول بيعًا مثلاً وسجل المشتري عقده، فانتقلت الملكية إليه من تاريخ التسجيل فقط، ومن ذلك التاريخ عينه يصبح البائع غير مالك للعين المبيعة، فإذا باعها مرة أخرى بعد تسجيل عقد البيع الأول، عد متصرفًا في مال ثابت ليس مملوكًا له ولا له حق التصرف فيه، وإذن يتعين عقابه بالمادة 293 ع) .
(أما إذا كان المشتري الأول لم يسجل عقده، وباع البائع العقار مرة أخرى إلى مشترٍ ثانٍ، وسجل هذا المشتري الثاني عقده، فإن الملكية تنتقل إليه هو بالتسجيل، ولا عقاب على البائع في هذه الحالة، لأن البيع الأول الذي لم يسجل لم يخرج الملكية من يده قط، ولأنه وقت حصول البيع الثاني كان القانون لا يزال يعتبره مالكًا للعين المبيعة، فإذا كان قد تصرف فيها مرة أخرى فهو قد تصرف في عقار لا يزال مملوكًا له، وإذن لا ينطبق عليه حكم المادة (293 ع)، ذلك بأن المادة الأولى من قانون التسجيل الجديد تنص على أنه ( يترتب على عدم التسجيل أن الحقوق المشار إليها - أي حق الملكية والحقوق العينية العقارية الأخرى - لا تنشأ ولا تنقل ولا تغير ولا تزول لا بين المتعاقدين ولا بالنسبة لغيرهم، ولا يكون للعقود غير المسجلة من الأثر سوى الالتزامات الشخصية بين المتعاقدين).
(ولا دخل لحسن النية وسوئها فيما يتعلق بعلاقة البائع بالمشتريين الأول والثاني في هذه الحالة، كما أن حسن نية المشتري الثاني أو سوءها وقت الشراء لا يغير من وجه المسألة في شيء قط، لأن انتقال الملكية أصبح بحكم القانون الجديد مرتبطًا بالتسجيل وبالتسجيل وحده، ولا تكون الأسبقية بناءً على ذلك إلا لمن انتقلت إليه الملكية فعلاً).
(وإذا باع البائع العقار إلى مشترٍ أول ثم إلى مشترٍ ثانٍ، ثم سجل أحد المشتريين عقده بعد صدور البيعين من البائع، انتقلت الملكية إلى من سجل عقده منهما، أما البائع فلا يعاقب بالمادة (293 ع) على كل حال، لأنه كان مالكًا للعقار وقت صدور كل من البيعين).
(وكذلك يكون الحكم إذا باع البائع عقاره إلى مشتريين على التعاقب ولم يسجل أحدهما عقده لأن الملكية لم تخرج في هذه الصورة عن البائع بحال).
ويقول الأستاذ جندي بك عبد الملك (مجموعة المبادئ الجنائية - ص (698)).
(47 - التصرف السابق - إذا تصرف شخص في عقار سبق له التصرف فيه، فيشترط لعقابه على التصرف الثاني أن يكون التصرف الأول ناقلاً للملكية، وقد كانت الملكية وغيرها من الحقوق العينية، قبل القانون رقم (18) سنة 1923 الخاص بالتسجيل، تنتقل بمجرد حصول العقد فجاء هذا القانون وقضى بأنها لا تنتقل إلا بالتسجيل…).
(فإذا صدر البيع الأول بعد تاريخ العمل بقانون التسجيل (وهو أول يناير سنة 1924) أو لم يكن له تاريخ ثابت رسميًا قبل ذلك التاريخ، ولم يسجل المشتري عقده، وباع البائع العقار مرة أخرى لمشترٍ ثانٍ، فلا عقاب على البائع، سواء سجل المشتري الثاني عقده أو لم يسجل، لأن البيع الأول لم يخرج الملكية من يد البائع).
ويخالف الأستاذ عبد السلام بك ذهني زميليه فيقول (المحاماة س 6 ص (626)).
(وإننا لا نقر هذا الرأي، ونرى محلاً للمؤاخذة الجنائية واعتبار البيع الثاني نصبًا معاقبًا عليه بالمادة (293) عقوبات، فيما إذا كان هناك تواطؤ بين البائع والمشتري الثاني).
وتتلخص الأسباب التي بنى عليها الأستاذ رأيه فيما يلي:
1 - إن المشتري الأول، ولو لم تنتقل إليه الملكية، إلا أن حقه قد تعلق بالعقار، ولأن التدليس مبطل للتصرف الثاني بالرغم من تسجيله، فإذا كان هذا التصرف باطلاً مدنيًا فلا بدَّ أن يكون العقد مؤاخذًا عليه جنائيًا.
2 - أن علة التشريع في جريمة التصرف في ملك الغير، كما ثبت من محضر جلسة مجلسة شورى القوانين، هو الاحتيال على سلب مال الغير، وأن هذه العلة متوفرة لا تزال قائمة في عهد التشريع الجديد.
ونحن نخالف الأستاذ ذهني بك في رأيه وننضم إلى رأي زميليه السابقين للأسباب الآتية:
1 - لأنه وإن كان للمشتري الأول، في عهد القانون الجديد، حق شخصي يتعلق بالعقار Jus ad rem، كما ذهبت إلى ذلك محكمتا الاستئناف المختلطة والأهلية، إلا أن هذه العلاقة تنقطع بمجرد تعلق حق الغير بهذا العقار بالتسجيل.
2 - لأن قانون التسجيل قد قضى على نظرية حسن النية وسوئها، فيما يتعلق بالعقود والأحكام المنشئة للحقوق، كما سنرى
ولأنه على فرض العكس، فإن التواطؤ الذي يشير إليه الأستاذ ذهني بك في السبب الأول، من شأنه أن يحفظ الملكية للمشتري الأول، فلا يحق له التظلم من البيع الثاني، خصوصًا وأن البائع له كان مالكًا للعين المبيعة وقت شرائه.
ولأن المشتري الثاني كذلك لا يحق له في هذه الحالة التظلم من البيع له، لأنه يعلم بأسبقية البيع لغيره فرضًا.
3 - ولأنه لا محل للبحث في علة التشريع طالما أن الركن الأساسي للجريمة (بيع ملك الغير) غير متوفر.
أما الأحكام التي عثرنا عليها في هذا الموضوع فهي الآتية:
حكم محكمة منفلوط في 3 ديسمبر سنة 1924 (المحاماة س 5 ص (553)) وقد أخذ بالرأي الأول.
حكم محكمة جرجا في 30 نوفمبر سنة 1926 (المحاماة س 8 ص (379)) - وحكم محكمة الإسكندرية الاستئنافية في 27 نوفمبر سنة 1927 (المحاماة س 8 ص (516)) - وقد أخذ الحكمان بالرأي الثاني.

4 - نظرية حسن النية وسوئها في مادة التسجيل

( أ ) في القانون المدني - الفرق بين العلم بالبيع السابق وسوء النية
1 - مقابلة بين الأصل الفرنسي والترجمة العربية للمادة (270)
الأصل الفرنسي:

A l’égard des tiers qui sont de bonne foi, qui ont juste titre et qui ont conservé leurs droits daus les formes légales, la propriété n’est transmise, en ce qui concerne les immeubles, que par la tranion de l’acte de vente, ainsi que cela sera

أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا

مجلة المحاماة - العدد الأول والثاني والثالث والتاسع والعاشر
السنة الرابعة والعشرون - سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر سنة 1943

أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا
محاضرة ألقاها الأستاذ محمود كامل المحامي بنادي المحامين في مساء يوم 26 مايو سنة 1944

المحاماة ضرورة تحتمها فكرة العدالة - نظرة الفقه والقضاء في فرنسا إلى المحامين - بيريه - نافر - لابوري - بريسون - فيفاني - هنري روبير - ميليران - اقتراحات في سبيل المحاماة بمصر.
يقول النقيب فرناندباين Fernand Payen والأستاذ جاستون دوفو gaston Duveau في كتابهما (مهنة المحامي وتقاليد المحاماة) La profession de l’Avocat et les usages du Barreau.
(لقد وجد المحامون منذ حرم على الناس أن يفضوا الخلافات التي بينهم بالقوة وسواء كانت القوانين مسهبة مفصلة أو موجزة مقتضية فإنها - في الواقع - تبدو دائمًا غامضة وناقصة فلا يمكن أن تكفي بعض صيغ تصاغ فيها مواد قانون لحل الخلافات التي لا حصر لها والتي يحتمل أن تنشب بين الناس، بل كيف يمكن للشارع أن يتنبأ بكل أنواع تلك الخلافات لكي يواجهها بتشريعه ؟ ففي كل مكان حيث يوجد نص من نصوص القانون يجب أن يوجد أولاً قاضٍ لتفسيره وتطبيقه على الحقائق، وحيث يوجد القاضي يجب أن يوجد إلى جانبه - على الأقل - محاميان.
وكل متقاضٍ يخلط بين مصلحته وحقه وبين حقه الذي يطالب به والحق الذي يقره القانون نفسه وأكثر المتقاضين تمسكًا بأحكام الضمير لا يتورع عن تضحية كل الاعتبارات ما دام في ذلك تمكينًا له من الوصول إلى حقه الذي يقره القانون.
ولذلك اتضحت فائدة اتخاذ بعض وسائل الحيطة لحماية القضاة - بقدر الإمكان - من الوقوع في الخطأ، ولكي يظل المتقاضون - رضوا أو كرهوا - ملتزمين حدود العدل في خصوماتهم، ولم يجدوا لتحقيق ذلك أصلح من أن يوسطوا بينهم وبين القضاة رجالاً يحترفون مهنة الدفاع عن المصالح العادلة، ويتخذون أساسًا لحرفتهم الحرص على قواعد العدل والخلق القويم.
هذا سبب أول من أسباب وجود المحامين، ولكنه ليس السبب الوحيد، فحتى لو راعى المتقاضون ضمائرهم فإن وجود المحامين يظل ضرورة حتمية.
وإذا سأل أحدهم عن السبب فيكفي أن يستمع في مكتب محامٍ إلى صاحب قضية وهو يعرض قضيته على محاميه، ثم يستمع إلى نفس القضية بعد ذلك من المحامي في ساحة المحكمة وهو يعرضها ويناقش وجهات النظر فيها.
أي عمل شاق قام به المحامي في تلك الفترة !
فهم ما قاله صاحب القضية، والتنبؤ بما سكت عنه واستخلاص المهم، ونبذ التافه، واستنباط تاريخ الدعوى من واقع مستنداتها، وشرح الأسباب، وإبداء الدوافع، وتبرير الأخطاء، كل ذلك يقوم به المحامي أثناء عرض الوقائع، وإيضاح النقط الغامضة، وسد الثغرات الناقصة، والتوفيق أحيانًا بين طرفي الخصومة، يقوم به المحامي أثناء تفسيره للعقود المحررة بين المتقاضين، وتحليل المبادئ القانونية والبحث عن الأحكام السابقة التي قررت نفس المبادئ فيما مضى والتعليق عليها، والتوفيق بينها وتطبيقها على النزاع المعروض، يقوم به المحامي عند مناقشة الناحية القانونية من القضية.
آه ! كم يُعاني القضاة لو تركوا وجهًا لوجه مع المتقاضين:
ولكن هذا ليس كل شيء، فحتى لو وهب القضاة القدرة على معرفة كل شيء فإن وجود المحامي تحتمه - مع ذلك - ضرورة نفسية عميقة، فإن الله يعرف كل شيء ومع ذلك فإن بينه تعالى وبين الناس وسطاء، وإلى هؤلاء الوسطاء القديسين يتوجه الناس بما يريدون لا إلى الله تعالى مباشرةً، فيجب أن يكون أمام المتقاضين شخص يطمئنون إلى الاعتراف له بدخيلة نفوسهم رجل مثلهم، رجل يختارونه هم، ينصت إليهم دون أن يكون شريكًا لهم في آثامهم أو أخطائهم ولكن في رفق ودعة، إن النفوس المتأثرة بالنظريات الهندسية، والنفوس الفقيرة الساذجة لا تستطيع أن تهضم كل ذلك إلا بصعوبة، فإذا كانت تقتنع بالنظر إلى المرئيات فإنني على استعداد لأن أضع أمامها لوحة فنية رمزية قديمة موضوعة في أحد متاحف إيطاليا، ففي الوسط جلباب العدالة وفي يدها سيف وميزان وفي طيات ثوبها لعب صغيرة ترمز إلى القضايا، حقيبة نقود وقطيع من الماشية، ومنزل، وقلب، ومن كل جهة أقبل المتقاضون وقد أعمتهم مصالحهم، وتقلصت أصابعهم على عقود ورسائل، وصفحات من كتب القانون وشهادات وإقرارات ونشرات مطبوعة.. مساكين.. فهل يعلم أكثرهم دراية قيمة ما بيده وقيمة ما يقدمه إلى الآلهة ؟ ولكن بين العدالة والمتقاضي يرى في الصورة رجل آخر هادئ لا مصلحة شخصية له، وهو أول من يصلح لكي يدرس ويقدر كل تلك الأوراق المبعثرة، وهو الذي سينبذ ما يثير الشك وما ينم عن التلفيق، وهو الذي سيضع في كفة الميزان ما له وزن صحيح، ومن يدري ؟ ربما التقط من تحت قدمي موكله ورقة قاطعة في الدعوى ألقاها الموكل جهلاً منه مع أن عليها تتوقف ثروته وشرفه وحياته).
ولقد هضم الفرنسيون الذين أخذنا عنهم مجموعة قوانيننا كما أخذنا عنهم أنظمتنا القضائية بما فيها نظام نقابتنا هذه الفكرة الرائعة عن المحاماة وسأقتصر هنا على إعطاء حضراتكم مثلاً واحدًا عن مدى تقديرهم للمحامي… مثلاً عمليًا ناطقًا، رأيته عند زيارتي لسراي محكمة الاستئناف بباريس أو (سراي العدل)، كما يسميها الفرنسيون إذ لفت نظري تماثل بيريه Berryer النقيب الفرنسي وقد نحته المثال شابو Chapu ليقام في تلك المحكمة وهو يمثله مرتديًا ثوب المحاماة وقد اعتمد بيده اليسرى على منصة ووضع يده اليمنى على قلبه، وقد علمت أن هذا التمثال يلعب دورًا فعالاً في حياة المحامين الذين يترددون على محكمة باريس، فقد جرت العادة على أن يحدد المحامون وموثقو العقود وكتبتهم مواعيدهم أمام ذلك التمثال الذي يذكرهم بالرجل الذي كان مجده مجدًا للمهنة التي يتشرفون بالانتساب إليها.
وأثارت زيارتي لسراي العدل في باريس في نفسي الطلعة إلى معرفة الكثير عن (بيربيه) فاتضح لي أن ذلك التماثل المقام له في داخل محكمة باريس ليس هو الوحيد، إذ أن له تمثالاً آخر من البرونز نحته المثال (بار) Barre أقيم في مارسيليا أمام سراي العدل عام 1875 يمثله واقفًا وقد اعتمد بيده اليسرى على منصة الخطابة.
ولم يقتصر الأمر لتخليد ذكرى كبار المحامين في فرنسا على إقامة التماثيل بل إن الأجيال الحديثة من رجال القانون قد اشتركت في ذلك التخليد بوضع رسائل الدكتوراة عن أولئك المحامين، فقد نشرت إحدى تلك الرسائل التي كانت معدة لتقديمها إلى جامعة فرنسية عن (آراء بيرييه) Les Idées de Berryer وواضعها هو لويس مارشان Louis Marchand وكاتب مقدمتها هو شارل مورا Charles Murras المفكر الفرنسي الكبير.
استعراض حياة كبار المحامين إذن، كيف تكونوا، كيف نجحوا ماذا فعلوا لمهنتهم ولوطنهم، طريقتهم في التفكير، وسائلهم في العمل - هذا الاستعراض (البيوجرافي) يكفي لإعطائنا فكرة موجزة سريعة عن الذروة التي وصلت إليها المحاماة في فرنسا وعن الأثر الإيجابي الذي أحدثته في المدنية الفرنسية بكافة مظاهرها، قضائية، أو اقتصادية، أو أدبية، أو سياسية، وسأكتفي في هذه باستعراض حياة عشرة من كبار المحامين الفرنسيين الذين برزت أسماؤهم في تاريخ المحاماة بفرنسا، بل في العالم، والذين أهلتهم المحاماة لكي يلعبوا على مسرح الحياة الدولية أدوارًا هامة تثبت بالدليل القاطع أن تكوين المحامي تكوينًا علميًا وخلقيًا سليمًا هو خير ذخيرة يدخرها الوطن لوقت شدته.

بيير بيرييه Pierre Berryer

ولد بيير بيرييه في باريس عام 1790 وتوفي عام 1868، ورغم ميوله الملكية الكاثوليكية - في مستهل حياته - فإنه تولى الدفاع عن أنصار الجمهورية بعد أن عادت الملكية إلى فرنسا للمرة الثانية، شهرته تعود إلى القضايا التي تولى فيها الدفاع عن حرية الصحافة وفي عام 1826 تولى الدفاع عن لامنيه Lamennais الذي حوكم بسبب نشره كتاب (الدين وعلاقته بالنظام السياسي والمدني) De la religion consideree dans ses rapports avec l’ordre politique et civil.
وفي عام 1830 تقدم إلى الانتخابات العامة كملكي متطرف فانتخب نائبًا ولما عرض عليه بوبشياك polignac الاشتراك معه في الوزارة رفض.
وقد أوفده ملكيو باريس المناصرون لأسرة بوربون ضد أسرة أورليان عام 1832 إلى دوقة بيري Berry ليحاول أن يثنيها عن عزمها الجنوني وهو الهرب إلى غرب فرنسا ولكنه خاب في تلك المحاولة وقبض عليه وقدم إلى محكمة الجنايات إلا أن النيابة العامة تنازلت عن اتهامه وصدر الحكم ببراءته بإجماع الآراء..، ولم يكد يبرأ حتى تولى الدفاع عن شاتو بريان وأيد الالتماسات التي قدمت للإفراج عن دوقة بيري.
ويبدو من مجموعة خطب بيرييه أنه وإن كان ملكيًا يؤمن بحق أسرة بوربون في الحكم إلا أنه كان نصيرًا للآراء الحرة الديموقراطية، وهي آراء أوذي أصدقاؤه بسببها.
ولما سقطت الملكية في فرنسا عام 1848 أصبح الخطيب العظيم الذي ناصرها من مؤيدي الجمهورية، فانتخب نقيبًا للمحامين وفي العام التالي انتخب عضوًا في (الأكاديمي فرانسيز) وأعفاه الإمبراطور من التقليد القديم الذي كان يقضي بأن يتوجه العضو الجديد لزيارة رئيس الدولة، وفي عام 1863 اجتمعت نقابات المحامين الفرعية واحتفلت به احتفالاً رائعًا بمناسبة مضي خمسين سنة على اشتغاله بالمحاماة، وقد ظل خلال الأعوام الخمسة الأخيرة من حياته عضوًا في المجلس التشريعي نائبًا عن مارسيليا.
كان بيرييه خطيبًا مفوهًا امتاز بصوت حبيب إلى آذان المستمعين له رنين مؤثر كما امتاز بخيال لامع وذكاء تسمو به بديهة حاضرة نادرة المثال، وقد جمعت خطبه البرلمانية ومرافعاته في كتاب باسم (مؤلفات بيرييه) Oeuvres de Berryer نشر عام 1868.
ولقد شرح لويس مارشان Louis Marchand في رسالة الدكتوراة التي أعدها عن (آراء بيريه) كيف كان ذلك المحامي العظيم يتقدم العصر الذي عاش فيه باعتناقه لآراء تخالف الآراء السائدة إذ ذاك فإن آراء جان جاك روسو الفلسفية والاجتماعية عن الفردية l’individualisme والتي بسطها في إعلانه لحقوق الإنسان Droits de l’homme قد سيطرت على أفكار الناس في القرن التاسع عشر كما أنها أوحت بكل التشريعات الفرنسية ولكن بيرييه خالف رجال عصره ونهض للدفاع عن حق (الجماعة) التي كان يعدها الهدف الحقيقي لكل إصلاح، فالفرد يجب أن يكون تابعًا للمجموع الذي يعيش فيه وللنوع الذي ينتمي إليه والذي لا يمكن النظر إليه منفصلاً عنه، وفي رأي بيرييه أن الفرد يجب أن يوضع وسط الحياة الصحيحة التي يعيشها، وسط حياته العائلية، أو الريفية أو البلدية أو الصناعية حيث يتجلى بكامل قيمته.
وكان بيرييه خصمًا عنيدًا لكل طغيان ولذلك عارض الفكرة التي كانت سائدة في عصره عن وجوب إحاطة الأسرة بهالة مقدسة، فكان يرى - مع المحافظة على الحقوق العائلية ومع معارضة فكرة الطلاق - أن العلاقة بين الابن وأبيه يجب أن تكون على أساس من الصداقة والود المتبادل وكان يسمح بأن يخالف أحد أبناء الأسرة آراء غيره من أعضائها وكثيرًا ما أعلن بيريه آراء سياسية تخالف آراء أبيه.
ومن آرائه التي تضمنتها رسالة الدكتوراة التي وضعها مارشان والتي أعلنها عام 1831 (في أثناء حياة الشعب الطويلة تتكون مبادئ دستوره الثابتة)، وبعد عشرين عامًا أصر على ذلك الرأي وفسره قائلاً (عندما يتضح أن مبدأ ما قد حمى الشعب وثبتت صلاحيته له وأن ذلك الشعب قد تقدم في ظل قانون ما فإن الواجب احترام ذلك المبدأ المنقذ وعدم تعريضه للمناقشة).

جول فافر Jules Favre

قيد جول فافر اسمه بجدول المحامين بليون عام 1831 وعاش حياة سياسية صاخبة جللها موريس لو كلو Mourice Leclus في كتابه Essai de Biographie Historique et morale المطبوع في باريس عام 1912، وقد قدم للمحاكمة عام 1834 لأنه غالى في نقد حكم أصدرته محكمة ليون بإدانة طالب حر النزعة، ولما دافع عن المتهمين في (قضية إبريل سنة 1835)، وجد من الجمهوريين - أنصاره - من ظنوا أنه ما حضر إلى باريس إلا للبحث عن مسرح أجدر بعرض مقدرته الخطابية الرائعة من ليون ! وقد ذاعت هذه الفكرة عنه وطاردته طول حياته فكان يوصف بأنه (المحامي الذي لا قلب له ولا إيمان له والفصيح بلا مثل أعلى ولا اقتناع الذي يسخر موهبته العظيمة لخدمة الأحقاد والمطامع الشخصية).
ولكن هذا الرأي القاسي إنما كان وليد الفورة الوقتية وتأثر خصومه السياسيين باعتبارات الوقت الراهنة إذ أن جول فافر قد اشتغل إلى جانب المحاماة بالسياسة والصحافة اشتغالاً آثار اهتمام الرأي العام به فكان ينشر مقالاته الداعية إلى تحبيذ الحكم الجمهوري في جريدة Le precurseur بليون، ولكن اشتغاله بالسياسة وبروزه فيها لم يمنعاه يومًا عن أداء واجبه كمحامٍ حتى ولو أغضب رجال حزبه، ولعل أكبر شاهد على ذلك مرافعته الخالدة في القضية المعروفة باسم (قضية إبريل سنة 1835)، فإن أحد رجال بوليس باريس واسمه (باسكييه) خالف القانون ففرض على بعض المتهمين في قضية سياسية محامين معينين ومنعهم من اختيار محامين من أصحاب الآراء السياسية الحرة، وقد تناقش الجمهوريون - الذين كان جول فافر أحد أقطابهم - فيما إذا كان المحامون منهم يتولون الدفاع عن أولئك المتهمين وانتهوا إلى قرار بالامتناع عن ذلك ولكن جول فافر كان الوحيد الذي رأى أن تسخر كل موارد الفصاحة القضائية لخدمة أولئك المتهمين، وغادر ليون إلى باريس وتولى الدفاع عنهم باعتبار أن أداء ذلك الواجب احترام لمبدأ لا يمكن المساس به وهو مبدأ إسمي من كل اعتبار من اعتبارات الخطط الحزبية السياسية، ورغم المجهود الجبار الذي بذله من أجل أولئك المتهمين وسخر فيه نبوغه فقد حكم بإدانتهم ووقع بعد القضية صريع المرض.
ومن آرائه السياسية التي كان يتخذ مرافعاته وسيلة لإعلانها قوله أثناء مرافعته في قضية (أورسيني).
(إن الحكومات تسقط بسبب الأخطاء التي ترتكبها هي نفسها، والله - الذي يحصى ساعاتها في سر حكمته - يعد لأولئك الذين لا يعترفون بقوانينه الأبدية نكبات لا يتوقعونها).
وكان معتزًا بكفاءته إلى حد أنهم عندما طلبوا إليه أن يخطب جماهير الناخبين للإدلاء ببرنامجه السياسي أبى وأجاب.
(إن على الناخبين أن يعرفوا إذا كانوا في حاجة إلي).

فرناند لابوري Fernand Labori

ولد فرناند لابوري بمدينة (ريمس) في 18 إبريل سنة 1860 ومات في باريس عام 1917، وقيد اسمه في جدول المحامين في 11 نوفمبر سنة 1884، وعين عام 1888 سكرتيرًا لمؤتمر المحامين وألقى في ذلك المؤتمر خطابًا رائعًا عن قضيته Collier، وقد كشف هذا الخطاب عن روحه النفاذة المتجردة تمامًا عن الهوى وتحقق ذلك فيما بعد عند مرافعته عن Vaillant في قضية اتهامه بإهانة مجلس النواب عام 1894 وقضية الشريف عبد الحكيم ضد وزارة الخارجية الفرنسية عام 1904، وقضية الشيخ شارل هومبير ضد جريدة (الماتان) عام 1908، وقضية مدام Caillaux التي اتهمت بقتل رئيس تحرير جريدة (الفيجارو) عام 1914، وقد انتخب نقيبًا للمحامين من عام 1911 إلى عام 1913، وقد دعي إلى إنجلترا عام 1901، ورأس المحامي الإنجليزي Mathews - بصفته رئيس جمعية المحامين الإنجليز المعروفة باسم The Hardwick Society - الحفلة التي أقيمت لتكريمه فلما مات (لابوري) قال (ماتيوز) عنه:
(إن لابوري بالجرأة المزهوة والوفاء لعمله كمحامٍ يحتل مكانة عالية في قائمة أكبر محامي العالم، أن اسمه وشهرته لا يمكن أن يزولا بل سيعيشان طويلاً، ما دام نظام المحامين قائمًا على الأرض)، وكتب عنه النقيب Chenu الذي كان محامي الخصوم في قضية مدام كابو.
(إن قامته العالية المستقيمة، وصدره العريض، وكتفيه اللتين تشبهان أكتاف المصارعين - كل ذلك في تجانسه وانسجامه ينم عن قوة لا يمكن قهرها، وقسمات وجهه الجميلة المنتظمة كانت تتفجر حياة في حدة الصراع، كما كانت عيناه ترسلان شررًا وكانت عاطفته المهتاجة تنشر الشحوب على وجهه، وإذا بصوته يرتفع وينتفخ ويدوي منفجرًا كصوت الرعد).

Sa stature haute et droite, sa large poitrine, ses epaules athlethiques donnaient l’impression d’une force irrisistible en son harmonie, Ses beaux traits reguliers s’animaient at souffle du combat, ses yeux lancaient des flames, L’emotion repandait la paleur sur son visage, La voix grandissait, s’enflait, grondait dans un fracas de tonnere.

ولا شك أن مرافعة لابوري في قضية الضابط دريفوس وفي قضية أميل زولا تعتبر عملاً تاريخيًا ارتفع بذلك المحامي العبقري إلى أسمى مراتب البطولة في الانتصار لفكرة العدل ومقاومة الظلم وتثبيت دعائم حرية الرأي إذ أنه لما أدين الضابط دريفوس، واقتنع الكاتب الفرنسي الخالد أميل زولا أن المجلس العسكري الذي أدانه قد تجنب سبيل العدل نشر مقاله المعروف بعنوان (إني أتهم J’accuse) في جريدة الفجر L’aurore فقدم إلى محكمة جنايات السين بتهمة إهانة المجلس العسكري بباريس وتولى لابوري الدفاع عنه وظل يترافع من 7 إلى 23 فبراير 1893، ورغم ذلك حكم بإدانة زولا وكان الحكم يقضي بحبسه سنة وغرامة ثلاثة آلاف فرنك واضطر زولا بعد ذلك إلى هجرة وطنه كمدًا لأنه كان لا يزال يؤمن بأن العدل لم يجرِ مجراه السليم في محاكمة دريفوس ولم يعد إلى فرنسا إلا لما تقررت إعادة المحاكمة أمام المجلس العسكري بمدينة (رين)، وعاد لابوري إلى المرافعة عن الضابط دريفوس أمام ذلك المجلس العسكري واستمرت مرافعته من 7 أغسطس إلى 9 سبتمبر سنة 1899 وفي أثناء هذه المرافعة أطلق عليه رصاص مسدس كاد يرديه قتيلاً فلما حضر جلسة 22 أغسطس سنة 1899 امتنع عن المرافعة ونشر أسباب امتناعه وهذه الأسباب تعود إلى الخلافات السياسية الشديدة بين أحزاب فرنسا التي اتخذت قضية دريفوس ذريعة لتحقيق مآرب شخصية كان يرى المحامي الخالد أن العدالة يجب أن تكون بمنأى عنها.
وكان لابوري يصدر مجلة (المجلة الكبيرة La Grande Revne )، وقد نشر فيها مذكراته عن قضية دريفوس.

تابع المحاضرة التي عنوانها أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا لحضرة الأستاذ محمود كامل المحامي والمنشورة في العدد الأول والثاني والثالث من مجلة المحاماة السنة الرابعة والعشرون
إوجين بريسون Eugiéne Brisson

ولد في Bourges في 31 يوليو سنة 1835 ومات في باريس في 13 إبريل سنة 1912 واختفى بموته منظم من أنشط منظمي الجمهورية الثالثة، وأحد المدافعين المتحمسين عن السياسة الحرة اللادينية، وقد قيد بريسون اسمه في جدول المحامين بباريس عام 1854، وساهم في تأسيس جريدة L’Avenir أول صحيفة جمهورية صدرت في الحي اللاتيني، وفي عام 1864 التحق بتحرير جريدة الـ Temps، وفي عام 1865 ساهم في تحرير الـ L’Avenir national وفي عام 1869 أسس الـ La Revue politique التي عطلتها الحكومة الإمبراطورية بعد سنة من صدورها، وفي تلك الأثناء أصبح بريسون من قادة المعارضة الجمهورية لحكم نابليون الثالث، فحشد لمعارضة الإمبراطورية نشاط المحافل الماسونية التي بدا نفوذه عليها جليًا منذ عام 1856، وقد انتخب عضوًا عن باريس في الجمعية العمومية، ونجح أكثر من مرة في إقناع تلك الجمعية بوجهات نظره في المسائل العامة، وعرف عن نائب باريس إتقانه فن الكلام، وكانت خطبه غالبًا موجزة ولكنها امتازت بالوضوح وقوة الحجة، وفصاحة اللسان، والنغم الملون والردود المفحمة القوية، فهو الذي قاوم في تلك الجمعية اقتراح Ernoul الذي كان يرمي به إلى أن تكون اللجنة الدائمة بتلك الجمعية مختصة بنظر القضايا الصحفية التي يكون المتهمون فيها قد ارتكبوا جريمة إهانة الجمعية حتى عند انتهاء دور انعقادها، وفي عام 1874 طالب بحق الدولة دون غيرها من الهيئات الدينية في منح الدرجات الجامعية، وقد انتخب بعد حل الجمعية العمومية عضوًا في مجلس النواب، ثم رئيسًا للجنة الميزانية ثم - في نوفمبر عام 1881 - رئيسًا لمجلس النواب بدلاً من جامبيتا، وكان قد أصبح في تلك الأثناء الرئيس الذي لا ينازع لحزب اليسار المتطرف وللحزب الراد يكالي وتولى الحكم مرتين إحداهما عام 1885، والأخرى عام 1898 وفي كلتا المرتين كان يدعى إلى الحكم في ظروف دقيقة، بل خطرة، ولكنه كان يضطلع بالمسؤولية في جرأة سجلها له التاريخ بالتقدير، ففي عام 1885 خلف Jules Ferry، وتولى إجراء الانتخابات فكان أول ما فعله أن نصح الموظفين بالحيدة التامة، وفي عام 1889 هدد النظام البرلماني الجمهوري بالخطر فقد قام الجنرال بولانجييه Boulanger بحركة انضم إليها الساخطون على ذلك النظام فأحيل الجنرال إلى الاستيداع وتقدم إلى الانتخابات العامة وانتخب عن دائرتين وكان من برنامجه تعديل الدستور فقدم إلى المجلس اقتراحًا بهذا المعنى، ولكنه أمام المعارضة القوية التي لقيها استقال لكي يتقدم من جديد إلى ثلاث دوائر انتخابية فانتخب عن واحدة منها ومنذ ذلك الوقت اعتبر الجمهوريون الجنرال بولانجييه خطرًا على الجمهورية وصدر أمر بالقبض عليه فهرب إلى بروكسل ولم يجد الدستور الفرنسي حصن الجمهورية الحصين محاميًا يذود عن كيانه وقتئذٍ إلا (بريسون) فألقى خطابًا حماسيًا قرر المجلس بعد الاستماع إليه طبعه ونشره.
وقد دعي (بريسون) إلى الحكم للمرة الثانية في ظروف لا تقل دقة وحرجًا بعد أن استقالت وزارة ميلين Meline بسبب قضية دريفوس التي تولى المرافعة فيها النقيب لا بوري كما قدمنا ولما اقتنع المحامي الوزير بوجوب إعادة النظر في تلك القضية صمم على ذلك رغم معارضة وزراء الحربية الثلاث الذين كانوا يتعاونون معه وهم كافيناك Cavaignac وزير لندن Zurlinden وشانوان Chanoine وقد اضطر الأخير إلى الاستقالة أمام النواب في جلسة 25 أكتوبر سنة 1898 واضطر بريسون إل اعتزال الحكم.
ولم يعتبر بريسون استقالته انتهاء لعمله السياسي، بل استمر يقاوم فكرة التوسع الاستعماري لأنه تبين أن وراء ذلك التوسع تختفي بعض عوامل الرجعية العسكرية التي تهدد كيان الجمهورية كما قاوم نفوذ الكنيسة.
وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن بريسون كان مثالاً لإنكار الذات، وأنه طول مدة رياسته لمجلس النواب - وقد تولى تلك الرئاسة تسع عشرة مرة وتوفي وهو رئيس للمجلس - كان نموذجًا رائعًا لها وقد امتاز بقدرته على تفادي المناقشات المجدبة وسيطرته على سير المناقشات وكانت تكفي كلمة واحدة منه لإيقاف مناقشة واحدة يرى المصلحة في إيقافها، كلمة قوية أو لاذعة… كان محايدًا حيدة مطلقة، وقد أثرت عنه كلماته التي أبان بها خصومه السياسيين عند موتهم.

رينيه فيفياني Rene Viviani

ولد فيفاني في 8 نوفمبر سنة 1863 وتوفي في 6 سبتمبر سنة 1925 وهو مدين بحياته السياسية إلى المحاماة فقد درس الحقوق في باريس ثم بدأ الاشتغال بالمحاماة في الجزائر ولما عاد إلى باريس اشتهر بالدفاع عن قضايا العمال والداعين إلى حركات الإضراب وكان يروج للآراء الاشتراكية في جريدة La Petite Republique وفي عام 1893 انتخب نائبًا عن الحي اللاتيني، وكان يتخذ مقعده في مجلس النواب إلى جانب جوريس Jaurès الزعيم الفرنسي الاشتراكي، وقد تولى إدارة مكتبي الأستاذين Waldeck Rousscau, Brisson المحامين الفرنسيين الذائعي الصيت نفس الوقت الذي كان يتولى أثناءه تحرير جريدة المصباح La Lanterne مع ميليران.
وفي عام 1899 حمل مجلس النواب على إعطاء النساء حق الاشتغال بالمحاماة، وبلغ من إيمانه بقضية المرأة ومساواتها للرجل أن كان المقرر للمؤتمر النسوي الذي عقد عام 1900.
وفي عام 1901 بدأ المناقشة في مشروع القانون الخاص بالنقابات والجمعيات بخطبة كبرى قال فيها:
(إن الأديان السماوية تعزي الناس عن شقائهم بأن تعدهم بتعويض هذا الشقاء في الآخرة، وأنا أطلب منكم أن تعارضوا الأديان الأرضية التي تحاول هي الأخرى أن تعزي الناس عن شقائهم وذلك بأن تضمنوا لهم سعادة أبنائهم)، وفي عام 1906 استدعاه كليمنصو لكي يتولى منصب وزير العمل والتأمين الاجتماعي وقد جاء في خطاب فيفياني وهو يحمل على النظم الاجتماعية العتيقة التي كان يرمي إلى تعديلها جملته المشهورة.
(لقد أطفأنا في السماء أنوارًا لا يمكن أن تضيء بعد).

Nous avons eteint dans le ciel des lumieres qu’on ne rallumera pas

وفي عام 1913 تولى وزارة المعارف العمومية في وزارة دوميرج، ولما قدم مشروع قانون التعليم الحر (اللاديني) إلى مجلس الشيوخ خطب مؤيدًا المشروع فقال مشيرًا إلى مؤلفات روسو وفولتير:
(إن آلاف الرجال قد استجابوا لصوت فلاسفة القرن الثامن عشر الأحرار فانفصلوا عن التقاليد القديمة وأبو أن يسلموا بالعقائد التي كانت تنام بين السحب إلى جانب الخرافات، كما أبو أن يستمروا على إحناء جباههم صاغرة تحت سماء وعدتهم بمعجرات لم تضِء أبصارهم قط، واعتنقوا عقيدة جديدة، إن الإنسانية يجب أن تشتري نفسها، بشقائها وبعملها)، وهذا الرأي - وإن تضمن مهاجمة عنيفة ظالمة للأديان السماوية جميعها - إلا أنه يدل على طريقته في الخطابة ووسيلته في إحداث التأثير.
وفي 13 يونيه سنة 1914 تولى فيفياني رئاسة الوزارة، ولما بدأت الجيوش الألمانية هجومها خطب يوم 4 أغسطس في مجلس النواب خطبة تفيض حماسة قال فيها إحدى جملة المشهورة وهي:
(لا لوم علينا الآن ولذلك لن يتطرق الخوف إلينا فيما بعد) Nous sommes sans reproche, nous serons sans peur وعقب هذه الخطبة نهض النواب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وهتفوا له طويلاً.
وفي إبريل سنة 1917 عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب مع الحلفاء ضد ألمانيا سافر مع الجنرال جوفر إلى واشنجتون وسمح له بالخطابة على منبر (الكونجرس) ومما قاله إذ ذاك:
(سمعت أول أمس أحد خطبائكم يقول في تأثر - قسما بقبر واشنجتون ! أجل، قسمًا [(1)] أيتامًا ! قسمًابمهاد الأطفال وبالقبول ! قسمًا).
وقد جمعت خطبه السياسية بعنوان (الجمهورية والعمل) Republique, Travail (1907) معاشات عمال المصانع والعمال الزراعيين، Les Retraites ouvrieres et paysannes (1910) البعثة الفرنسية إلى أميركا La Mission francaise en Amerique (1917)، وقد كتب بضعة فصول في كتاب جان جوريس الذي أسماه (التاريخ الاشتراكي) L’Historie socialiste.

هنري روبير Henri Robert

ولد هنري روبير في باريس عام 1863 وقيد في جدول المحامين أمام محكمة الاستئناف عام 1885 وبدأ حياته القضائية سكرتيرًا للنقيب (دورييه) ثم تصدر محامي محكمة الجنايات بمرافعاته الواضحة، الملتهبة المثيرة وقد جمع كل المظاهر الخارجية التي تحتاج إليها مهنة المحاماة، فله وجه معبر شديد التأثير تضيئه عينان تشعان حيوية وتنفذان بنظراتهما إلى النفس من خلف (نظارته).
وكان يُخيل إلى الكثيرين خطأ أن دور المحامي ينحصر في الكلام ولكن عند هنري روبير رسالة أخرى هي الإصغاء، متابعة الشهود أثناء أداء شهادتهم وعدم إضاعة شيء مما يقولونه، وتسجيل جملة ما أفلتت من ممثل الاتهام للاستفادة منها عند الحاجة، وتنسيق كل هذا في ذاكرته لاستخدامه أثناء المرافعة، هذا العمل يستدعي دقة نفاذه، وقدرًا كبيرًا من السرعة في وزن الأمور، وقد جعل من ذلك كله (فنًا) نبغ فيه، فن أن يتمكن في لباقة من أرجاء التصريح بالنتيجة النهائية لمناقشة الوقائع، النتيجة التي يشوق إلى معرفتها بالتلويح لها أكثر من مرة تلميحًا يثير الطلعة وينتهي بفتنة المستمعين إليه، وبتلهفهم وهم يحبسون أنفاسهم في انتظار تلك النتيجة فإذا أبرز تلك النتيجة أخيرًا - فإن أولئك المستمعين يحسون براحة الاقتناع..، وعندئذ يكسب الموقف تمامًا.
وقد انتخب هنري روبير نقيبًا عام 1913 ففاز على النقيب لابوري وظل نقيبًا إلى عام 1919 وأصدر كتابًا أسماه المحامي L’avocat.
ومن أشهر القضايا التي شهدت أروع مرافعاته قضية الأومباشي جيوميه Jeomay الذي اتهم بقتل بائعة نبيذ في شارع (سان جيرمان) بباريس انتهت بالحكم على المتهم بالإعدام رغم الجهد الذي بذله هنري روبير وقضية جبرييل بومبارد Gabrielle Bompard البغي التي استدرجت محضرًا من محضري المحاكم إلى غرفة بأحد الفنادق بالاشتراك مع عشيقها ميشيل إيرو Michel Eyaurd وقتلاه خنقًا انتهت بالحكم بالإعدام على إيرو وبسجن جبرييل عشرين عامًا مع الأشغال الشاقة.
وهنري روبير هو القائل (إن كلمة جملة لا فائدة منها يقولها المحامي أثناء مرافعته تهدد مصلحة الموكل بالخطر) Dans une plaidoirie, toute phrase inutile est dangereuse.
وهو القائل (إننا ممثلون نلعب أدوارنا بدون إجراء تجارب سابقة عليها Nous sommes des acteurs qui ne jouent qu’en repétition générale.

إليكساندر ميليران Alexandre Millerand

ولد بباريس في 10 فبراير سنة 1859 وتلقى دراسة الحقوق بها ثم قيد في جدول المحامين المقبولين أمام محكمة الاستئناف، واختير - بعد بوانكاريه - ليكون سكرتيرًا لمؤتمر المحامين وسرعان ما برز اسمه في الأوساط القضائية حتى أصبح مكتبه في مقدمة المكاتب وأهمها، وفي عام 1885 تقدم إلى انتخابات مجلس النواب فلم ينجح ولكنه أعاد الكرة في الانتخابات التكميلية وانتخب نائبًا، وعندئذ اتخذ مكانه في أقصى اليسار إلى جانب كليمانصو، ورغم حداثة عهده بالحياة البرلمانية فإنه سرعان ما اشترك في بضع مناقشات سياسية كشفت عن مواهبه وساهم في التشريعات الخاصة بتعديل قانون العقوبات، وتعديل المواد الخاصة بالتفليس، ولم يكن للحزب الاشتراكي وقتئذٍ إلا عدد محدود، كما أنه كان مفتقرًا إلى التنظيم البرلماني، فامتاز ميليران من بين أعضائه بتوجيهه نشاطه إلى المسائل الاجتماعية، وبدا ذلك النشاط منذ عام 1888 في اهتمامه بتشغيل النساء والأطفال في المصانع، ولما تقدم إلى انتخابات عام 1889 كان من برنامجه الاقتصار على مجلس نيابي واحد واختيار القضاة بواسطة الانتخاب العام، وظل ميليران مدة طويلة متأثرًا بمدرسة كليما نصو السياسية، وتلميذًا له، فاقتبس عنه روح الكفاح واتخاذ موقف الهجوم العنيف، وفي عام 1893 تولى رئاسة تحرير جريدة (الجمهورية الصغيرة) La Petite Republique وهي جريدة كان قد أسسها جامبيتا وتولى تحريرها فيفياني فجعل منها ميليران لسان حال الحزب الاشتراكي في الدعوة إلى الإصلاح، وقد ألف يوم 30 مايو سنة 1896 في مؤتمر المجالس البلدية الاشتراكية خطابه التاريخي الذي دعا فيه إلى نظام الـ Collectivism وقد قال في ذلك الخطاب جملته المشهورة (إننا وإن كنا دوليين إلا أننا في نفس الوقت فرنسيون ووطنيون فلم تخطر لنا قط تلك الفكرة الكافرة المجنونة فكرة أن نبعد عنا ذلك العامل الذي لا مثيل له من عوامل التقدم المادي والأدبي الذي صهرته القرون كما يصهر الحديد، والذي يسمى الوطن الفرنسي).
ولما تولى تحرير جريدة (المصباح) La Lanterne مع فيفياني وبريان عام 1898 دعا إلى الاشتراكية بطريقته الخاصة وهي المزج بين المثل العليا واعتبارات العقل العملية، فكان يرى أن الحزب الاشتراكي يمكنه أن يتولى السلطات العامة بابتعاده عن أعمال العنف واقترابه من الحقائق، وفي عام 1899 عهد إليه فالديك روسو - في وزارته - بمنصب وزير التجارة فاعتبر الاشتراكيون قبوله الاشتراك في وزارة (برجوازيه) خيانة لمبادئهم وعرضوا الموضوع على المؤتمر الاشتراكي الذي عقد في باريس، وبعد مناقشات حادة انتهى إلى قرار بمشروعية الموقف الذي اتخذه ميليران.
وقد أثبت ميليران بعد ذلك في مختلف المناصب الوزارية التي تولاها كيف يستطيع المحامي أن يعمل وينتج ويفيد حتى في الوزارات (الفنية) البعيدة الصلة بالقانون، إذ أنه قبل أن يتولى وزارة الأشغال عام 1909 في وزارة بريان درس التنظيم الاقتصادي للمراكز التجارية في فرنسا فأعاد تنظيم الإدارة المركزية لتلك الوزارة، وأنشأ إدارة للمناجم، وعدل تشكيل المجلس العام للطرق والكباري واللجنة الاستشارية للسكك الحديدية، وخلق مكتب السياحة وجعل للمواني استقلالاً عن الإدارة المركزية في باريس وأدخل عدة إصلاحات على أنظمة البريد، ولما أضرب عمال السكك الحديدية أثناء توليه تلك الوزارة في أكتوبر عام 1910 لم يتردد ميليران - رغم انتمائه هو ورئيس الوزارة إلى الحزب الاشتراكي - في قمع حركة الإضراب بالشدة، كما أنه لما تولى وزارة الحرب من يناير عام 1912 إلى يناير عام 1913 في وزارة بوانكاريه امتاز بتنفيذ عدة مشروعات هامة منها استصدار القانون الخاص بالرتب العسكرية والدعوة إلى التوسع في استغلال موارد إفريقيا، وترقية معسكرات التدريب والأخذ بفكرة المدفع الخفيف في سلاح الفرسان وتشجيع سلاح الطيران وإعادة تنظيم هيئة أركان الحرب.
وفي 18 يناير سنة 1920 عهد إلى ميليران برئاسة الوزارة بعد كليمانصو فشكل وزارته في ثماني وأربعين ساعة عقب استقالة (النمر)، واحتفظ لنفسه بوزارة الخارجية وعكف على حل المشاكل المعقدة التي أنشئت عقب السلم.
وفي 23 سبتمبر عام 1920 انتخب رئيسًا للجمهورية الفرنسية بأغلبية 695 صوتًا من 892 وقد صرح قبل قبوله الترشيح لذلك المنصب السامي بأنه لن يقنع بسكنى (الإيليزيه) كرئيس دولة لا عمل له إلا إمضاء المراسيم بل أنه يحتفظ لنفسه بالحق في التدخل تدخلاً لم يجرؤ عليه أسلافه من رؤساء الجمهورية في توجيه السياسة الخارجية لكي يضمن استمرارها على النسق الذي وضعه لها، وقد أثار ذلك التصريح سخط بعض البرلمانيين الذين لا يوافقون على أن تكون لرئيس الجمهورية سياسة شخصية وجعله يفقد بعض الأصوات.
وقد ظلت حياة ميليران في المحاماة حافلة بأهم القضايا التي عرضت على المحاكم الفرنسية ومن مرافعاته التي تهم المحامين المصريين مرافعته بالإسكندرية أمام محكمة الاستئناف المختلطة بجلسة 18 مارس سنة 1913 عن شركة هليوبوليس ضد الحكومة المصرية في قضية الخلاف بينهما على ضريبة المباني، فإن الشركة نازعت الحكومة حقها في اقتضاء ضريبة على تلك المباني باعتبار أنها شركة أجنبية تتمتع بامتياز عدم الخضوع للتشريع المحلي وكانت الحكومة المصرية قد حصلت على موافقة الدول صاحبة الامتيازات على فرض تلك الضريبة على مباني مدينة القاهرة فاعتبرت هليوبوليس جزء من القاهرة وأصدرت مرسومًا في 15 يونيو سنة 1909 بسريان الضريبة وحكم لصالح الشركة ابتدائيًا فاستأنفت الحكومة الحكم وترافع عنها الأستاذ جرانمولان.
ولعل خير وصف لطريقة ميليران في مرافعاته هو ما نشره فارين Henri Varenne في مجلة Revue du Palais عام 1905 إذ قال: أرأيت أمام المنازل التي تبني تلك الآلة القوية التي ترفع الصخور إلى قمة المبنى ؟ إن حركتها بطيئة، بل ثقيلة، ولكن المحرك يدور بلا انقطاع دورات متسقة النغم، بينما ترتفع الصخرة بجهد وفي غير اهتزاز، مشدودة بالسلسلة دون أن يحدث قط أن تتوقف أثناء ارتفاعها، وفجأة تتعالى الأصوات الحديدية وتحتد، وتتجمع الأدلة وتعلو إلى الذروة وتنفصل الصخرة عن الآلة الرافعة وتدور السلسلة دورات جنونية ثم تهوي نتيجة المرافعة بكل ثقلها، موجزة مفترسة مجهزة على الخصم كتلة واحدة في سخرية ساحقة.
اقتراحات في سبيل المحاماة بمصر
حضرة الأستاذ النقيب - حضرات الزملاء،
لو أنني تلوت على حضراتكم بعد هذه الصورة السريعة التي قدمتها لبعض النقباء وكبار المحامين في فرنسا ما قيل في تمجيد المهنة التي نتشرف بالانتساب إليها والسمو بها إلي ذروة أشرف المهن العقلية لما انتهيت الليلة ولكني أكتفي بأن أقول لحضراتكم بأن فولتير قد قال (إن شيشرون لم يكن قنصلاً أي أول رجل في العالم إلا لأنه كان محاميًا) Cicèron ne fut Consul, c’est à dire le premièr homme de l’Univers, que pour avoir été Avocat وإن جان ده لابرويير Jean de La Bruyére قد قال (إن مهنة المحامي شاقة، مرهقة، وتتطلب فيمن يزاولها ذخيرة غنية وموارد عدة.. إنني أجرؤ على القول إنه في نوعه يشبه في نوعهم أوائل الرجال الذين بشروا بالأديان السماوية).
فماذا فعلنا في مصر لتدعيم كيان هذه المهنة السامية ؟
إنني أؤمن بأن نقابتنا قد أدت معظم الواجب عليها وأن التشريعات المتوالية منذ تأسيس النقابة في عهد المحامي الزعيم سعد زغلول باشا عام 1912 أيام كان وزيرًا للحقانية إلى حين صدور القانون رقم (135) لسنة 1939 قد حققت للمحامين كثيرًا من مطالبهم وساوت بين حقوق وواجبات رجال القضاء الجالس وهم القضاة وحقوق وواجبات رجال القضاء الواقف وهم المحامون ولكنني أعتقد أن هناك أشياء أخرى يجب عملها للمحاماة في مصر وإنني أتقدم إلى الأستاذ النقيب الذي تكرم بتوجيه الدعوة إلى هذه المحاضرة بهذه الاقتراحات موجزة.
أولاً: أن ينتدب مجلس النقابة بعضًا من المحامين في مصر والإسكندرية لإلقاء محاضرات على طلبة السنة النهائية بكليتي الحقوق بجامعتي فؤاد الأول وفاروق الأول عن تاريخ المحاماة في مصر وفرنسا وتقاليد المهنة وواجبات اللياقة بين الزملاء وحياة كبار المحامين في مصر وفرنسا مع تحليل (بيوجرافي) لهم في مختلف نواحي نشاطهم القضائي وغير القضائي وأن تكمل هذه الدراسة بنماذج تعطى لأولئك الطلبة عن الطريقة التي تولى بها كبار أبناء المهنة المرافعة في القضايا الهامة التي نظرتها المحاكم المصرية.
ثانيًا: إقامة تمثال في بهو محكمة الاستئناف لمحامٍ مصري يجمع المحامون على أنه شرف المهنة واحترم تقاليدها وخدمها وإنني أعتقد أن هذا الإجماع سينعقد على اختيار المحامي الذي كان أول من رفعته المحاماة إلى مناصب القضاء العالي ثم إلى منصب الوزارة والذي صدر قانون النقابة في عهده وهو المغفور له سعد زغلول باشا.
ثالثًا: مطالبة وزارة العدل بتخصيص غرفة داخل محكمة الاستئناف لنقيب المحامين على أن يتولى سكرتاريته موظف من وزارة العدل وأن تحاط هذه الغرفة بكل مظاهر التبجيل التي تحاط بها غرفة رئيس محكمة النقض وأن تتولى الدولة دفع مرتبات الحجاب والسعاة التابعين لها لا لأن النقابة عاجزة عن دفعها ولكن احترامًا للمبدأ الساري في فرنسا وفي النظام المختلط المصري والذي يقضي بأن رئيس رجال القضاء الواقف لا يقل قدرًا عن رئيس رجال القضاء الجالس وأن خير وسيلة لحسم كل خلاف يحتمل أن ينشأ بين قاضٍ ومحامٍ هو الالتجاء فورًا إلى النقيب أو من ينوب عنه عند غيابه للبت فيه على أساس الزمالة المتبادلة بين القضاءين.


[(1)] غير واضح بالأصل.

الخدمة العامة والغرض الأسمى من المحاماة

مترجمة عن المستر ديكر شام المحامي بمدينة نيويورك بأمريكا
وواردة بمجلة هار فارد القانونية عدد نوفمبر سنة 1922

يُقدر عدد محامي الولايات المتحدة بنحو مائة وثلاثين ألف أدى كل واحد منهم إلا من استثني من محامي (إنديانا) امتحانًا خاصًا وضعت نظامه المحاكم ونص عليه القانون ليتبين منه سعة مداركه وقيمته الأدبية، وليس الأمر قاصرًا على هذا بل ينبغي على كل محامٍ أن يحافظ على شرف مهنته وأن يراعي الروابط الأدبية التي تضمن دوام التفاهم بين القضاء والدفاع،
ومما ساعد على تحقيق السير بمقتضى هذه القواعد ما للمحاكم من حق فصل المحامي الذي يأتي أمرًا يمس شرف مهنته أو كرامتها ومن ثم فقد جمع هذا النظام الذي لا مثيل له في أنظمتنا بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو ديمقراطي لأنه أفسح باب الدخول في المحاماة لكل من توفرت فيه الشروط الواجبة وأرستقراطي بالمعنى الصحيح لاقتصاره على فئة معينة من أهل العلم والأدب يستعان بهم على فهم قوانين البلاد ويركن إليهم في تمثيل الخصوم أمام القضاء.
على أنه يجب اعتبار مهنة المحاماة من وجهتين الأولى أنها تجمع بين الاستشارة وتمثيل الموكلين في مسائلهم القضائية والثانية أنها تضم نخبة من المتعلمين يمتازون بصفات خاصة فيهم لإلمامهم المتين بقوانين البلاد ودرايتهم بالوسائل المنطقية التي تساعد على التفكير وعلمهم بالنظام الدستوري وشكل الحكومة ولكفاءتهم التي تمكنهم من الاشتراك بطرق عدة في توجيه المجتمع في خطته السياسية.
ولذلك نجد طالب القانون أشد ما يكون حاجة إلى أمرين أولهما الإلمام بالقوانين إلمامًا يؤهله للنجاح فيما وضع من الاختبارات كشرط للاندماج في سلك المحاماة مع قوة فكر وغزارة مادة يساعدانه على إبداء أصوب الآراء للمسترشدين وإجادة درس القضايا والقيام بواجبه على الوجه الأكمل وبهذا يستطيع التغلب على صعوبات العيش الذي هو في الحقيقة منتهى أمل السواد الأعظم من طلاب الحقوق وإن تنوعت بقية الآمال لأن الأغلبية الساحقة لا تدرس القانون إلا لاتخاذه وسيلة من خير الوسائل وأفضل الطرق لاكتساب العيش، ولكن ما لهذا كانت المحاماة، والواجب أن يكون هم المحامي غير ذلك، لأنها مهنة أشرف مما يظن, وإلا لما اختلفت عن غيرها من المهن قيمة ولساوتها شأنًا ولكانت هي وصناعة السباك سواء.
والاشتغال بالقانون يتطلب الرسوخ فيه مع تعمق في البحث بعزيمة لا تعرف الكلل.
وينبغي أيضًا على المحامي أن يكون ملمًا بتاريخ البلاد وحضارتها، وعلى الأخص معرفة مدنية البلاد التي استمدت منها قواعد قانوننا الحديث مع دراية بالفلسفة حتى لا يخطئ في تطبيق القانون على الأعمال التي يأتيها الإنسان حتى درس العوامل الداخلية التي تجول في خاطره وعلم أخلاقه في المجتمع الذي يعيش فيه وعاداته وحالاته النفسية وفهم كل أسباب التطورات وماهيتها.
ليس القانون بتلك الكلمات الصامتة ينطق بها الشارع فتصبح قانونًا بل هو قابل للتطور والنمو تبعًا لنظام التطور الاجتماعي.
نعم قد تكون هناك بعض مبادئ دلتنا عليها التجارب يجب أن تبقى ثابتة ولكن هذا لا يمنع أن تكون معظم أحكام القانون في تقدم مستمر وأن المحامي الذي يودي الاستمرار في مهنته طبقًا لما تقتضيه الذمة يجب أن يتتبع تلك التطورات عن كثب وإلا عجز عن معاونة موكليه في معضلات أمورهم.
ومن أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المحامي متانة الخلق، لأن كثيرًا ما يكون لأخلاق من يتولى تسوية الشؤون بين الأفراد وبعضهم أو بينهم وبين الحكومة أثر كبير في حسم النزاع الذي قد يقصر عن الفصل فيه مجرد تطبيق القانون، وأن خير ما يضرب من الأمثلة على ذلك حالة المحامي ذي الضمير الحي الذي يسعى بنفوذه في فض خصومة قد يعلم أن الفوز فيها له ولكنها ربما كلفت موكله نفقات يثقل كاهله بها وتقضي مضجعه وتقل راحته وتفصم عرى الصداقة بينه وبين رفاق هم له غنية في الحياة لا لشيء سوى شفاء غليل حقد أو إشباع نهمة كيد، على أن مجاراة الموكلين في أميالهم قد تدر نفعًا للمحامي وتكسبه الشهرة الواسعة في مهنته ولكن إذا كانت أخلاق المحامي على ما وصفنا فإنه لن يتأثر في إرشاده لموكله بالمطامع المادية أو الرغبة في ذيوع الصيت.
ولئن كان أول واجب على المحامي أن يبذل قصارى جهده في إعداد نفسه للمهنة التي سيشتغل فيها ولما تتطلبه هذه المهنة من الجهود العظيمة في أول عهده بها فإن هناك أمرًا آخر أهم من هذا اعتبارًا يجب أن يكون نصب عين كل محامٍ مبتدئ ذلك هو الواجب الذي يدين به كل محامٍ للمجموع الذي هو أحد أفراده، فإن درس المحامي للقانون النظامي والقانون الوصفي درسًا متقنًا يجعله أقرب من غيره إلى إدراك تأثير ما يقترح من التدابير التي تتخذها الحكومة على الصالح العام وهذا يحتم عليه أن يقوم بنصيبه من الاشتراك في الشؤون العامة وأن يساعد مواطنيه على فهم الفرق ما بين التدابير النافعة وغير النافعة من أعمال الحكومة، فالتدريب على الزعامة وقيادة الجمهور هو ركن من أهم أركان العمل الذي يجب على كل محامٍ أن يعد نفسه له، وليس من الضروري أن يسعى لتقلد المناصب العامة، فإن المحامي الصغير الذي يعتمد في رزقه على مهنته قل إن يستطيع حمل أعباء وظيفة عامة ولكن أمامه أعمالاً كثيرة أخرى في إمكانه الاشتراك فيها كالعمل مع الحزب السياسي الذي ينتمي إليه أو حضور الاجتماعات السياسية المحلية وفي وسعه أيضًا أن يشترك من آن لآن فيما يسبق الانتخابات من المناقشات العامة وأن يكون دائمًا ملمًا بالأمور التي تكون موضع البحث والمناقشة بين الجمهور كالمسائل التشريعية التي لم يبت فيها والمزايا النسبية في الأشخاص الذين يرشحون أنفسهم للوظائف فإن في الأمة كثيرًا من الممالئين والمأجورين الذي يضرون بالناس تحت ستار النصح لهم كذلك كثيرًا ما تكون إرشادات الصحف وانتقاداتها منبعثة عن اعتبارات هي أبعد ما تكون عن فائدة المجموع فالمحامي النابه الذكي الفؤاد الذي يكلف نفسه مشقة فهم هذه المسائل يغلب أن يكون في استطاعته إمداد الجمهور برأي سديد واضح مقنع بعيد عن الأهواء والغايات فيسود رأيه هذا على رأي غيره من الكتاب المتحيزين أو الخطباء المأجورين مهما كثر عددهم.
وهناك طرق أخرى عديدة يستطيع أن يسلكها المحامون ليخدموا الجمهور، ولقد اشتهر عن المحامين في الجيل الأخير أنهم يؤثرون الفائدة الشخصية وإن تعارضت مع المصلحة العامة وأن حب المال وإن كان في الوصول إليه ما يمس بكرامة المهنة كثيرًا ما كان رائد أولئك النفر الذي بلغوا ذروة المجد في مهنة المحاماة، غير أن هذا النقد لا يخلو من شيء من التحامل والمبالغة لأن الغرض الأساسي من المهنة القيام بالواجب بصدق نحو الموكل وخدمة القضية وقلما رأينا محاميًا دعي إلى خدمة عامة فتأثرت أمياله وعواطفه بمصالح موكليه السابقين بل بالعكس نراه يبذل قصارى جهده في خدمة موكله الجديد وهو الشعب بمثل الإخلاص والنشاط اللذين هما أُس نجاحه في خدمة الأفراد الخاصة، وبقدر ما يستخدم المحامي وتجاربه لخدمة الجمهور تتحقق رغبته في نيل الشرف الرفيع وإعلاء شأن المهنة وأن صاحب الثروة أو العلم أو الكفاءة يحمل في عنقه واجبًا لمواطنيه هو أن يستخدم هذه الأمور للمصلحة العامة وأن الرغبة في تحمل المسؤوليات العامة ومشاركة الغير في أوطارهم وميولهم وأعمالهم المشتركة لمصلحة المجموع لا كبر مظاهر الأرستقراطية كما أبان ذلك إميل فاجيه.
إن ما للمحاماة في الولايات المتحدة من مكانة سامية راجع إلى ما يقدمه أفرادها من الخدمة العامة, فهذا المبدأ وهو مداومة العمل على خدمة الجمهور خدمة خالية من الغرض يجب أن يكون وجهة نظر كل طالب في الحقوق وكل محامٍ حديث العهد بالمحاماة فإنه هو السبيل الموصل للنجاح الذي يصبو إليه كل منهما.