مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة الثانية عشرة - شهر فبراير سنة 1932
مباحث في مسؤولية المحامي في الجلسة أمام قاضي الإحالة
(1)
إن سلطة الحكم، في اعتداء وقع على المحكمة، سلطة استثنائية تتناقض مع كل أصول القضاء، ومع قواعده، ومع كل ضمانات العدالة، وهي ترتبط بكرامة القاضي نفسه، فالقاضي خصم، يوجه الدعوى ويحكم فيها، ثم هو يحكم لنفسه ولذاته، بل ولشهوة غضبه، ثم ينفذ الحكم حالاً، ولو مع الاستئناف، فهذه سلطة هائلة لا مثيل لها في أنظمة القانون، فلا تعطي إلا بنص صريح يؤكدها.
ولقد عنى الشارع، ببيان هذه السلطة في مواد متعددة - فوردت في المواد من (85) إلى (90) مرافعات، وهو خاص بالمحاكم المدنية، ولم تكن واردة في قانون تحقيق الجنايات الأول، فصدر بها دكريتو خاص في 27 نوفمبر سنة 1896 حيث جعل في المادة (244) من ذلك القانون، بنص معين، سنبحث فيه في موضع آخر، ثم تعدلت هذه السلطة في قانون تحقيق الجنايات الحالي، فتقررت في المادة (237) بحدود أوسع.
ويظهر من هذه المواد جميعها، أن ولاية الحكم في جنحة الجلسة إنما هي للمحاكم المدنية على اختلافها، وللمحاكم الجنائية كذلك، إذا جلست للحكم تعمل بمقتضى ولاية قضائية معينة فإذا وقعت جنحة عليها - أو أمام أنظارها، انقلبت محكمة جنحة - لها الحق أن تحكم فورًا على الطريقة المعروفة، فلا يمكن أن تقبل هذه الولاية إلا (لمحكمة) جلست للحكم فما يعرض عليها من النزاع، مدنيًا أو جنائيًا.
تظهر هذه الحقيقة بصفة قاطعة إذا لاحظنا الفارق بين المادتين (244) التي وضعها دكريتو يوليو سنة 1896، وبين المادة (237) الواردة في القانون الحالي، فإن هذه الولاية كانت معلقة في المادة (244)، على أن تكون المحكمة مختصة أصلاً بالفصل في الجنحة التي وقعت أما في المادة الأخيرة فقد محى الشرط وتقررت السلطة للمحاكم المعينة في المواد بغير نظر إلى نوع اختصاصها الأصلي الذي جلست لأجله.
وهذا يدل على أننا في معرض سلطة شاذة لا بد لها من نص خاص، فإنها أولاً لم تكن موجودة، ثم وجدت بقيد معين، ثم رفع القيد.
أما القاضي الذي يجلس لعمل آخر لا يشكل بجلسته محكمة تفصل قضائيًا في نزاع معروض فليس له تلك السلطة، بل كل قاضي يشكل محكمة لا تدخل في حدود تلك النصوص، أي لا تكون منعقدة بمقتضى قانون المرافعات، ولا بمقتضى قانون تحقيق الجنايات، لا يمكن أن يكون له هذه السلطة إلا بنص صريح.
(2)
على أننا إذا قصرنا البحث على التشريع الخاص بقاضي الإحالة لوجدناه قاطعًا في تأييد هذه الحقيقة، فإن قانون تشكيل محاكم الجنايات الصادر في سنة 1905 ورد فيه نظام الإحالة في المواد من (9) إلى (15)، ولم يتقرر فيه سلطة لقاضي الإحالة تنظم ما يجوز أن يحصل أمامه في الجلسة حتى ولو كان متعلقًا بمجرد التشويش، غير أن الشارع رأى أن نظام الجلسة، لا بد أن يكون في يد قاضي الإحالة، ولكن من حيث منع التشويش الذي يحصل فقط، فصدر تعديل بقانون نمرة (7) سنة 1914، أضاف إلى المادة (11)، مادة (11) مكررة، جاء فيها أن لقاضي الإحالة حقوق القاضي الجزئي ولكن فقط فيما يختص بنظام الجلسة discipline وإعلان الشهود وسماعهم.
ولا شك أن تقرير السلطة على هذا الوجه بالقيد المعين، لا يقبل المزيد ولا يدخل حق الحكم في جنحة تقع في الجلسة.
أراد القاضي أن يقدم دليلاً على ولايته فذهب إلى قانون المجالس الحسبية يستدل بنص فيه، على أن الشارع قيد رئيس المجلس الحسبي فجعل سلطته قاصرة على التشويش لا تمتد إلى الحكم في جنحة تقع في الجلسة.
التدليل غريب، فإن ولاية القضاء لا بد لها من نص يبينها، فلا تأتي من طريق التدليل النظري، ولا من طريق القياس أبدًا.
على أنه ليس قياسًا صحيحًا، أن نقول إن حرمان قاضي من ولاية معينة، معناه، إثباتها لقاضي آخر لم تقرر له تلك الولاية بذاتها، في أي نص من النصوص، فالقياس خارج عن حد المنطق خروجًا ظاهرًا.
بل إذا شئت الاستنتاج على الطريق الصحيح فلا بد أن تقول إن الشارع إذا كان قد منع قاضي المجلس الحسبي ورئيس جلسة من الحكم في الجنحة، فهو قد منع ومن باب أولى قاضي الإحالة من الحكم فيها أيضًا، لأن قاضي المجلس الحسبي إنما جلس ليحكم في حقوق الناس بل في أعز ما يحرص عليه الناس من حقوقهم، فليس غريبًا أن يكون له حق الحكم في جنحة وقعت في جلسته، فمنعه من هذا الحق يقتضي من باب أولى منع قاضي الإحالة منه.
ونرجع إلى القول بأن المسألة ليست مما يفصل فيها من طريق الاستنتاج، بل لا بد لها من نص صريح، وهو غير موجود بل النص الموجود قاصر على أن للقاضي (نظام الجلسة) وهذا صريح في أنه ممنوع من الحكم في جنحة.
(3)
على أن قاضي الإحالة ليس محكمة بحال من الأحوال، فلا هو محكمة مصر، ولا أية محكمة مدنية أخرى، ولا هو محكمة ابتدائية، ولا محكمة جزئية، ولا محكمة استئناف، لكنه قاضي إحالة فقط.
أنه لا يحكم في شيء أبدًا، لا في موضوع القضية المعروضة عليه ولا في أي أمر آخر لأنه لم يجلس ليحكم، وليس له أية ولاية من ولايات القضاء.
إنما ينحصر اختصاصه في أن يسمح للنيابة بتقديم الدعوى لمحكمة الجنايات، أو لا يسمح فعمله إذا بالخصومة إذا رأى أن يأذن، أو منع منها إذا رأى أن يمنع، وفرق بين الإذن بالخصومة وبين القضاء فيها، فسلطته إدارية، بل لا سلطة له في الواقع، فإن رئيس النيابة يستطيع أن يحفظ القضية بناءً على عدم صدق الشهود، أما قاضي الإحالة فهذا العمل متنازع فيه إذا صدر منه.
من أجل هذا، ورد في قانون تشكيل محاكم الجنايات أن قاضي الإحالة، ليس من الضروري أن يعقد جلسة بل يصح أن يؤدي مأموريته، بعد اطلاعه على الأوراق وبدون تحديد جلسة ولا إعلان أحد.
بل هو لا يختص بالحكم، حتى ولا بمصاريف الدعوى، فإذا كانت القضية فيها مدعي مدني وقرر القاضي بأن لا وجه لإقامة الدعوى، فلا يستطيع أن يحكم بإلزام المدعي المدني بالمصاريف ولا أن يقدرها بأمر يصدر منه بناءً على طلب المتهم.
وهذا يؤكد أنه ليس له أي ولاية قضائية في أي أمر من الأمور حتى ما كان ملحقًا بما ينظر فيه كالمصاريف، فمحال أن يكون له حق الحكم في جنحة تقع في جلسته.
(4)
ولا بد لنا أن نقارن بين نصوص القانون الفرنسي، والنصوص المصرية، فإن ذلك قاطع في أن قانوننا لا يمكن تطبيقه إلا على أساس أن قاضي الإحالة لا يجوز له أن يستعمل هذا الحق، ذلك أن قانون تحقيق الجنايات الفرنسي قضى في المادتين (504) و(505) أنه يعطي حق الحكم في جنحة الجلسة لكل محكمة، ولكل قاضٍ يجلس للقيام بأية مأمورية قضائية سواء كانت للحكم في نزاع أو للتحقيق البسيط، ما دام أن العمل حاصل علنًا، ولهذا كان لا بد للمفسرين والأحكام أن تتفق على أن هذا الحق مقرر لجميع القضاة على وجه العموم حتى لقاضي التحقيق.
أما الشارع المصري، فإنه وهو ينقل عن القانون الفرنسي لم يرد الأخذ بهذا التعميم، بل اختصر في نصوصه سواء في المرافعات أو في تحقيق الجنايات، على تقرير هذا الحق للمحكمة فقط، فالخلاف بينه وبين القانون الفرنسي، في أنه حذف كليمات (كل قاضي)، وفي هذا الحذف والعدول عن التعميم، وتقييد الحق بأنه للمحكمة، الدلالة القاطعة على أن قاضي الإحالة ليس له هذا الحق.
إن الحادثة ليست جنحة جلسة
أولاً: إن الحكم قد جردها من هذه الصفة:
قد يدهش القارئ لهذا الكلام، فيسأل، ولكن كيف جردها الحكم من هذه الصفة !! والحكم صريح في أنه يعتبرها جنحة وقعت في الجلسة !!!
إن لجنحة الجلسة، صفة خاصة، وأحكامًا كلها شاذة، ولا نريد أن نعيد منها هنا للمرة الثالثة ما كتبناه من قبل، ولكنا نذكر هنا ما لم نذكره فيما تقدم.
ذلك إن جنحة الجلسة هي الواقعة التي تقع ماديًا على المحكمة أو على أحد الناس، بحيث يلحظها الجمهور الحاضر، يشاهدها رؤى العين، ويدركها إدراكًا تامًا مهما كان إدراكه ضعيفًا، بحيث لا يتردد أحد في أنها جنحة وقعت فعلاً.
عند هذا تكون عقوبتها واجبة، وواجبة حالاً بلا إمهال، على اعتبار أن العقوبة هنا إنما هي في الواقع دافع عن النفس ومن شأن الدفاع عن النفس أن يكون ردًا سريعًا وأن يحصل في لحظة الاعتداء بلا إمهال ولا تأجيل !!
هنا يمكننا أن ندرك لماذا ثبت هذا الحق الشاذ للقاضي، فهو خصم، ومع ذلك فهو حكم، لأن هذا هو شأن حق الدفاع على وجه العموم، فلم تقرر هذه السلطة للمحافظة على كرامة القاضي كما يقال عادةً، فإن كرامة القاضي لا تتأثر باعتداء أي معتدٍ، بل يبقى جلاله بعد الاعتداء كما كان قبله أن المسألة أبسط من هذا، فقد رأى الشارع أن يعطي للمحكمة إذا انعقدت جلستها أن تدافع عن تلك الجلسة أو عن نفسها بطريق عينه، فلا بد أن يكون الاعتداء هنا ماديًا لا تختلف فيه الآراء ولا يحتاج لبحث، ولا لمداولة، وحينئذٍ يتحقق شرط الدفاع، وإلا فلا سلطة للمحكمة بأي حال من الأحوال.
ومن شروط الدفاع، بل شرطه الجوهري، أن يكون المعتدى عليه في حالة لا تمكنه من الالتجاء إلى السلطات العامة، بل يكون مضطرًا ماديًا أن يقابل الاعتداء بمثله، أما إذا كان في وسعه أن ينتظر، وأن يشكو، فقد سقط حق الدفاع.
ولقد حصل في حادثتنا، أن حضرة القاضي بعد أن وجه الاتهام ثم سمع الدفاع أجل الحكم إلى جلسة أخرى، فأثبت أن الواقعة قد خرجت من حدود الاعتداء المادي الظاهر وأنها تحتاج إلى مداولة، وتقبل اختلاف الآراء، فلا القاضي واثق أنه اعتدى عليه لأنه لا يزال في حيرة، ولا الجمهور من باب أولى يدرك هذا الاعتداء.
لهذا قرر القاضي، أن المسألة نزاع عادي لا بد من إحالته على الجهات المختصة، فلم يعد له الحق في أن يحكم في الواقعة بوجه من الوجوه.
إننا سواء بحثنا في نصوص القانون، أو في مطولات المفسرين، نجد تلك القاعدة مقررة بالنص هناك وهنا، ونجدها ثابتة بإجماع المفسرين.
إن قانون المرافعات جعل القاضي المدني مخيرًا بين أمور ثلاثة، فأما أن يحكم حالاً، وأما أن يؤجل الحكم ليوم معين، وأما أن يحرر محضرًا ويترك الفصل في الواقعة للحكم فيها بالطرق المعتادة مادة (89) و(90).
وإذا سألت ما هي الأسباب التي تقضي اختيار أحد هذه الأمور الثلاثة لا نجد لذلك قاعدة في القانون.
أما إذا أردت أن تتبين حكمة قانونية لكل من هذه الأمور الثلاثة، فلا تتردد في أن الحكم حالاً إنما يكون في حالة الاعتداء المادي الظاهر الذي لا يقتضي نزاعًا ولا يقبل دفاعًا ولا يحتمل مداولة، بل يكون الحكم فيه قاصرًا على مجرد تدوين واقعة مادية لا نزاع فيها، شاهدها الجمهور الحاضر، والجمهور في كل نظام هو ضمانة عدالة القاضي، فالعقوبة إنما تكون نتيجة حتمية أو ميكانيكية لتلك المشاهدة العامة وهذا القيد بذاته يرجع بنا إلى طبيعة حق الدفاع وسببه. ولقد قبل الشارع في المادة (90) من باب التساهل، وللمحكمة المدنية فقط جواز تأجيل الحكم إلى يوم معين، أما إذا توجه الاتهام وسمع القاضي المرافعة، ثم لم يعين يومًا محددًا للحكم فقد سقطت ولايته وارتفع اختصاصه وضاعت الإجراءات التي وقعت، ووجب تقديم الحادثة للفصل فيها بالطرق العادية.
أما في المحاكم الجنائية وقاضي الإحالة محضر لتلك المحاكم ودستوره في جميع أعماله إنما هو قانون تحقيق الجنايات، فقد جاءت نصوص القانون مخالفة لقانون المرافعات، وذلك سواء في القانون القديم أو في التعديل الجديد، ونصت صراحةً على ضرورة الحكم في الجلسة بدون تأجيل هذا نص المادة (244) في القانون القديم:
(الجنح والمخالفات التي تقع في الجلسة يحكم فيها حال انعقاد الجلسة، وذلك إذا كانت المحكمة مختصة والحكم الذي يصدر في هذه الحالة يكون نافذًا حالاً ولو مع الاستئناف).
أما القانون الجديد فقد أراد أن يزيد في التأكيد على ضرورة الحكم حالاً، فجاء نص المادة (237) كما يأتي:
(إذا وقعت جنحة أو مخالفة في الجلسة يحكم فيها في نفس تلك الجلسة).
وفي النسخة الفرنساوية: استعمل كلمتي seance tenante أي بدون أن يقوم القاضي للمداولة.
كل هذا لا يفهمه أحد إلا إذا فهم معنا، أن هذا حق دفاع، والدفاع من شأنه الاعتداء الذي لا يختلف فيه أحد، ومن شأنه أن يحصل ردًا سريعًا للاعتداء، وفي لحظته فإذا كان التأجيل في الاستطاعة فقد خرجنا عن حدود الاعتداء المادي الواضح، فتجاوزنا حدود الدفاع فسقطت سلطة القاضي ولا يجوز له الحكم.
لهذا اتفق جمهور المفسرين، عملاً بالنص عندهم أيضًا وهو موافق النص عندنا، على أن القاضي إذا أجل الحكم فقد سقط اختصاصه وتجرد عن حق الحكم في الدعوى وإن اختلف فقه المحاكم في هذه النقطة بذاتها.
يقول أصحاب البنديكت جزء (11) ما يأتي:
صفحة
فقرة
131
564
أن للقضاة أن يختاروا استعمال هذه الولاية الاستثنائية ولهم أن يقتصروا على تحرير محضر بالوقائع التي حصلت في جلستهم ويحيلوا صاحبها على المحكمة المختصة.
566
ولكن إذا اختاروا استعمال هذه السلطة فيجب عليهم أن يحكموا حالاً والجلسة قائمة، بمجرد إثبات الوقائع في المحضر. (فقد أراد الشارع بالمادة (505) أن يطبع في الأذهان بواسطة)
(العقوبة السريعة والشديدة روح احترام السلطة القضائية والأعمال العامة والقضاة الذين يؤدون التحقيقات المطلوبة). (فوستان هيلي جزء (6) فقرة (2928) ثم لوجرافون جزء (1) صفحة
(568) ثم كارنو جزء (3) صفحة (396) ثم بورجيون جزء (2) صفحة (454) ثم لوسيليه جزء (3) فقرة (1693) ثم شاسان جزء (2) فقرة (2054)
569
ولهذا فقد حكم أن قاضي الجنح الصغيرة والمخالفات إذا أجل الحكم في واقعة سب حصلت في جلسته إلى ثمانية أيام فقد تجاوز بذلك حدود اختصاصه حكم النقض 3 أكتوبر سنة 1851 سيرى سنة 52 جزء (1) صفحة 280. حكم النقض 17 أغسطس سنة 1860 سيرى سنة 62 جزء (1) صفحة 752.
وقد قلنا - ولا يجوز للباحث المنصف أن يخفي شيئًا - أن في فقه المحاكم خلافًا - ولهذا تجد بعد هذه العبارات في نفس الصفحة ما يأتي:
570
ومع هذا فإن الأحكام ترى أنه إذا حصل تحقيق الواقعة في الجلسة فيستطيع القاضي أن يؤجل الحكم، فإن هذا التأجيل يفيد الاتهام والمتهم وقد يكون لازمًا لتنوير القاضي، ولكن أصحاب الكتاب رجعوا بعد ذلك إلى الرأي الأول، فجاء في صفحة 132/ 576 (إذا لم يصدر حكم العقوبة حالاً يسقط ذلك الاختصاص الاستثنائي المقرر في المادة (505) ويجب أن يتبع في الحادثة طرق المحاكمة العادية) النقض والإبرام 19 مارس سنة 1812.
وأمام هذا الخلاف في رأي الأحكام - فإن النص صريح في القانون حاسم في الأخذ بالرأي الذي يقول به - لأنه قرن الاختصاص بضرورة الحكم في الجلسة، وجمهور المفسرين مع رأينا كما رأيت.
على أن الذي جعل بعض الأحكام أو أكثرها يشذ عن إجماع المفسرين إنما هو الخطأ في فهم أصل هذا الحق ومقصوده، فإنهم على الدوام يرجعون به إلى تأكيد احترام القضاة والواقع أن هذا سبب لا معنى له كما قدمنا، فإن كل فرد من الناس له حق الاحترام، وإن تنوعت العقوبة باختلاف الحالات - ووهم قولهم إن اعتداء أي إنسان على القاضي هادم لكرامة القضاء أو احترامه، ولكن الأصل الذي صدر عنه هذا الحق إنما هو حق الدفاع المقرر للفرد، فكان يجب تقديره من باب أولى للقاضي وهو جالس لتوزيع العدالة بين الناس، فإذا فهم هذا الأصل ظهر واضحًا لماذا اشترط الشارع ضرورة الحكم حالاً ؟
بل إن النصوص تقول كذلك: إن هذا الحكم ينفذ في الحال رغمًا عن الاستئناف، وهذا أيضًا لأن الواقعة انتقلت من مجال التقاضي العادي إلى مجال الدفاع، وكل دفاع مرتبط تنفيذه بلحظته على هذا - فالأدلة على ترجيح بطلان الحكم إذا حصل تأجيله إلى جلسة أخرى أرجح من الرأي الذي يقول بصحته مع التأجيل.
وأقرب ما يقال في هذا الرأي الأخير إنه يجمع بين المتناقضين، إذ هو يقتضي اعتبار الحادثة اعتداءً ماديًا شاهده الجمهور فلا يقبل النزاع، ولأجل هذا تنعدم كل ضمانات القضاء، ثم في الوقت نفسه يؤكد بل إن الحادثة غير واضحة ووجه الحق فيها يحتاج إلى مداولة، وغريب أن يكون القاضي في نفسه شك في هل أهين، ولا يجد من هذا الشك سببًا لإحالة دعواه على زملائه، فيحكمون فيها في جوهم الهادئ ومع استيفاء جميع الضمانات.
ولا نفهم حقيقة كيف ينازعنا منصف في أن هذا أولى بكرامة القاضي، وبجلال القضاء على وجه العموم.
ثانيًا: لأن الحكم ومحضر الجلسة يؤكده - صريح في أنه صادر في قضية رفعتها النيابة. بقوله (قضية النيابة نمرة…).
وهنا نرجع إلى ما أشرنا إليه في آخر البحث الأول.
هذه الجملة تخرج بالحادثة عن أنها جنحة جلسة، وتخرج بالحكم عن أنه صدر في جنحة جلسة ضد أحد أعضاء المحكمة.
ذلك إن الجنحة، التي من هذا القبيل لا يرفع الدعوى فيها غير المحكمة نفسها، أما وكيل النيابة فلا يملك رفعها.
هو يبدي رأيه بناءً على طلب المحكمة منه، وفرق بين إبداء الرأي بناءً على طلب المحكمة وبين سلطة تقديم الدعوى فعلاً، فإن النيابة لا تملكها في الجلسة.
ذلك هو نص القانون، بل نصوصه الصريحة، فإن المواد (85) إلى (89) مرافعات صريحة في أن رئيس الجلسة هو الذي يملك وحده سلطة بوليس الجلسة وهو الذي يرفع فيها الدعوى وهو الذي يحقق ثم يحكم في الجلسات المدنية، حيث لا يوجد ممثل للنيابة - فالمحكمة وحدها هي التي تقدر أولاً ووحدها هل وقعت أمام أنظارها وأنظار الجمهور جنحة يجوز المحاكمة من أجلها أو لم تقع.
كذلك نجد هذا صريحًا من المقارنة بين المادتين (244) من قانون تحقيق الجنايات القديم و(237) من القانون الأخير، فإن الأولى وكان القانون في عهدها لا يجيز للمحكمة أن تحكم في جنحة في الجلسة إذا وقعت عليها، بل عليها أن تحيلها فقط إلى النيابة نراها تقضي بأن المحكمة لا تحكم في الدعوى إلا بناءً على طلب النيابة، فصاحب الدعوى قديمًا هي النيابة أما المادة الأخيرة (237)، وهي التي صدرت في يونيو سنة 1896 في نفس التاريخ الذي صدر فيه تعديل المادة (89) مرافعات، فقد اتفقت هي والمادة (89) في النص، فانتقل حق إقامة الدعوى من النيابة إلى المحكمة ولم يبقَ للنيابة إلا إبداء الرأي بعد أن ترفع الدعوى فعلاً.
وقد كان هذا ضروريًا ومتمشيًا مع منطق الشارع ومع أحكام النصوص ومقتضيات الوقائع. أما مع منطق الشارع فلأن القانون إذا أعطى حق مراقبة الجلسة وضبط نظامها إلى المحكمة، فمن الضروري أن تكون هي وحدها صاحبة الحق في تأكيد أنه وقعت أمامها جنحة أو لم تقع وفي رفع الدعوى بناءً على تدوينها هي، فإن تقديم الدعوى جزء من حق البوليس العام، أو المسيطر على النظام العام.
أما أنه متمشيًا مع أحكام النصوص، فلأنه أعيد ما كان التشريع القديم لا يعطي للمحكمة أن تحكم من تلقاء نفسها إلا في التشويش فقط، لا في الجنحة التي تقع، على شرط أن يكون على غير المحكمة، كان منطقيًا أن لا ترفع الدعوى العمومية في ما عدا التشويش، إلا من السلطة التي تملكها في جميع الأحوال فكان لا بد للمادة (244)، أن تقول بناءً على طلب النيابة أما بعد إن أدخل الشارع الجنحة التي تقع على المحكمة، أو على الغير في حكم التشويش فجعلها من سلطة المحكمة، فكان لا بد لهذا من أثره في حق رفع الدعوى، فانتقل الحق إلى المحكمة بذاتها واقتصرت وظيفة النيابة على إبداء الرأي إذا كانت ممثلة في الجلسة وإن لم تكن ممثلة فرأيها ليس جوهريًا، ولا لزوم له أصلاً.
أما أنه تمشيًا مع مقتضيات الوقائع التي يجوز أن تحصل ومع السلطة الجديدة أيضًا، فلأن القانون أعطى للمحكمة سلطة الحكم حتى على الموظفين الموجودين في الجلسة إذا وقعت الجنحة من أحدهم، فإذا ما وقعت الجنحة من وكيل النيابة، وكان حق دفع الدعوى العمومية منحصرًا في شخصه فقد انعدم حكم النصوص، وتعطلت سلطة المحكمة وهي مقررة بالنص. بناءً على هذا فلا بد لنا من القول إن (المحكمة) هي وحدها التي تملك رفع الدعوى العمومية في حالات جنحة الجلسة بجميع أنواعها.
ولا بد لنا أن نرجع هنا أيضًا إلى أن هذا الرأي هو الذي يتفق وحده مع الحكمة التي تؤكدها على أنها هي السبب الوحيد لاعتبار جنحة الجلسة قائمة، تلك الحكمة، هي أن جنحة الجلسة لا بد وأن تكون مكونة من واقعة مادية لا نزاع فيها تقع على المحكمة ويلحظها الجمهور، ويشعر القاضي بسببها أن كرامته أو كرامة مجلسه قد اعتدى عليها، وهو وحده الذي يستطيع أن يقدر هذا الشعور، ولا يستطيع غيره أن يقدره، إذ من المحال أن يشاركه في شعوره أحد مهما كان مركزه في الجلسة، فليس لوكيل النيابة أن يشعر بالنيابة عن القاضي وأن يعلن أن جنحة وقعت في الجلسة حيث لا يراها القاضي وقعت، بل هو لا يملك مجرد إلفات النظر إليها، لأن إلفات النظر يستدعي التسليم حتمًا بأن الواقعة لم يلحظها القاضي، ولم يضطرب لأجلها، وهذا وحده كافٍ لإخراجها من دائرة جنحة جلسة وقعت على المحكمة أولاً وبالذات. على أن حق الإلفات هذا الذي لا تقبله طبيعة الاتهام والواقعة إذا تقرر على خلاف ما يدركه العقل، فإنه ولا شك ينتهي بأن يترك مجال الاستنتاج واسعًا، فللنيابة أن تنتزع كلمة لم تثر في نفس القاضي أي أثر سيئ، فهي بطبيعة الحال لم تحدث أثرًا في نفس الجمهور نقول للنيابة حينئذٍ إن تنتزع من هذه الكلمة بطريق التأويل ثم الاستنتاج البعيد من حلقة لأخرى ومن مقدمة إلى نتيجة، جنحة فكرية لم يلحظها أحد، وبهذا يتحول ميدان الجلسة إلى ميدان قتال، وتحكيم للشهوات، ومفاجآت، لا يجوز أن يكون هذا مجالها.
لا نظن أن هذه مسألة منحوتة من الألفاظ بدون مراعاة للواقع ولا تفترض بأن موافقة المحكمة للنيابة على طلبها قد يكون رفعا للدعوى، وبهذا التصديق قد انتهى الأمر وتم ما يريده القانون أما:
أولاً: فلأن تعيين السلطات التي ترفع الدعوى أو التي تحكم، إنما هو أمر أساسي ترتبط به السلطة القضائية، فيجب أن تكون الأعمال في حدود النصوص وإلا كان القانون لهوًا، ولا يحتال عليه بمثل هذه الاعتراضات.
وإما ثانيًا: فلأن حق الدفاع الذي يمثله المحامي وحق الاتهام الذي يمثله وكيل النيابة متساويان في الجلسة، إن لم يكن الترجيح لحق الدفاع، فلا نريد أن ندخل في ميدان تفاضل، فالمحامي وعضو النيابة متساويان تمام المساواة بالجلسة، لا يملك أحدهما على الآخر أية نوع من أنواع السلطات والمراقب على الجلسة، والمسؤول عنها وحده بلا شريك، ولا مرشد، إنما هو القاضي، فإذا أعطيت لعضو النيابة حق الإرشاد فقد جعلته قيمًا على المحكمة، وهذا غير مقبول.
وإما ثالثًا: فلأن طبيعة جنحة الجلسة تأبى الإرشاد كما قدمنا، فالواقعة لا تحتمل مثل ذلك مطلقًا.
وأما رابعًا وأخيرًا: وهذا يصلح وحده وجهًا لبطلان الحكم وسيأتي الكلام عليه في موضع آخر، فلأن حضرة رئيس النيابة اغتصب فعلاً وفي الواقع سلطة بوليس الجلسة لنفسه وأكد هذا الاغتصاب علنًا بمجرد افتتاح الجلسة حيث أكد أنه هو الذي سيتولى بوليس الجلسة وأنه هو الذي سيرفع الدعوى إذا صدرت أية كلمة يراها هو في نظره، ويصرف النظر عن سلطة القاضي يستحق المؤاخذة، فيكون له أن يعتبرها جنحة جلسة.
بل إنه أقام نفسه مقام القيم على حضرة القاضي حيث سمح لنفسه، أن يوجه له نصائح المسيطر على شعوره والمسير لحركات نفسه، فإذا به يلقي عليه الدرس، بأن يخرج عن حلمه وصبره مع قوم لا ينفع معهم إلا الضرب من حديد، وأنه سيضرب ولا بد ضربته. ولقد أقره حضرة القاضي على هذا الاغتصاب، وتركه يشتغل في خطبته من جملة إلى ما بعدها، ولقد وافق على هذا الاغتصاب في حكمه حيث يقول في رواية الواقع، إنه عقب (كلمة) ألقاها رئيس النيابة حصل كذا وكذا كأنها كلمة مشروعة ومما يقال في جلسته، وكان اغتصاب سلطته كان حقًا لا نزاع فيه.
من هنا حينئذٍ نقطع بأن المسألة اغتصاب لحق وقع بالاتفاق، كان حضرة القاضي يملك أن يتنازل عن ولايته، فيلقي بها بتصرف حضرة رئيس النيابة، وهذا كله خطأ في خطأ.
ومن هنا نستطيع أن نقول أيضًا إذا شئت التدقيق في النتائج القانونية إن المحامين ورئيس النيابة والقاضي إنما كانوا في جلسة رئيس النيابة لا في جلسة محكمة، فوصف الواقعة بأنها جنحة جلسة، يتصادم مع الوصف القانوني المقرر في المحضر.
ورابعًا: إن اغتصاب سلطة المحكمة على هذا النحو هو بذاته اعتداء على المحكمة، فهو مكون لجنحة وقعت في الجلسة، وقد كان هذا الاعتداء وسيلة للاعتداء على المحامين بالإغراق في السب والتفنن في وضع صيغته تفننًا غريبًا، عجزنا عن أن نرجعه إلى ما نعرفه عن حضرة رئيس النيابة من الهدوء وحسن الآداب، فوقعت جنحة ثانية على غير المحكمة، أي على المحامين، فكيفما كان رد المحامين ولا أجده ردًا مقنعًا، فهو نتيجة للواقعة الأصلية التي وقعت من حضرة رئيس النيابة وليست أقوال المحامين كيفما قدرناها، إلا صرخة المفجوع من جنحة وقعت عليه، فانتزاع صرخة الاستغاثة أورد الفعل من واقعة أصلية ظاهرة واقعتها، ومؤكد حكمها وجعل تلك الصرخة هي الأصل، وهي المكونة للجنحة تصرف غريب في ذاته لا يقبله العقل ولا القانون، ولا الشعور، كأنك تأخذ الذي ضرب في الجلسة فصرخ مستغيثًا أو مستنكرًا، فيقول يا هذا لقد شوشت بصراخك على الجلسة فتكون جنحة التشويش، أما الذي ضرب فلا جناح عليه ولا مسؤولية لأن من حقه أن يضرب.
ولقد كانت صرخة الأستاذ مكرم هي صرخة الذوق السليم، حيث طلب محاكمة النيابة، وإن وقعت به الفجيعة عن إدراك أن جنحة الجلسة لا يجوز لأحد غير القاضي أن يرفع الدعوى العمومية بشأنها، ولكنها كانت صرخة الحق، لأن حضرة رئيس النيابة اعتدى بلا نزاع على القاضي فاغتصب سلطته، وعلى المحامين فأهانهم، وعلى الواقع حيث أخذ من نتيجته استنكار إهانته جسمًا لجنحة مستقلة فجاراه حضرة القاضي على ما أراد، فكان من هذا الخليط حكم لا نستطيع أن نفهم سنده كيفما كانت وجهة النظر.
يحضر المحامي في الجلسة لا متفرجًا، ولا متطفلاً على المحكمة أو على النيابة، ولا يستوي مركزه في الجلسة مع فرد من الجمهور، بل هو يحضر بمقتضى القانون ليؤدي مأمورية مقررة اعتبرتها الأنظمة في كل زمان ومكان أساسًا لإقامة العدل بين الناس، فهو ذو شأن في الجلسة، وشريك للقاضي، وللنيابة وله أعمال معهم، وعليه واجبات يؤديها لا للقضاة ولا للنيابة، بل للمصلحة الاجتماعية العامة، وهو في تأدية واجباته له حقوق قد يعترض بها سلطة القاضي، فله مثلاً أن يمنعه من استجواب المتهم.
ومن الطبيعي أن تأدية مثل هذه المأمورية تقتضي مناقشة وجدالاً بين الذين يشتركون في عمل واحد.
والمناقشة بما تستدعيه من التمسك بالرأي والحرص عليه قلما تخلو من حركة، أو ظاهرة يبدو منها أن صاحب أحد الرأيين لا يحترم رأي الآخر، أو لا يحفل به، فمن السهل جدًا أن ينتزع منها اتهام بالإهانة.
ولكن هذه المناقشة في ذاتها، إنما هي قيام بواجب، فلا تتحول عن أصلها، ولا يمكن أن ينتزع منها جنحة.
لهذا كان لا سبيل لأن يعتبر المحامي في تأدية واجباته فردًا من الجمهور الحاضر فإذا تكلم وهو يؤدي ذلك الواجب كان معتديًا تطبق عليه المواد المعروفة.
عرضنا هذا البحث بتفصيل مستفيض على محكمة النقض والإبرام، فصدر حكمها بأن المحامي تصح مؤاخذته وقد ورد في الحكم المستأنف الآن أن حكم محكمة النقض قد فصل في هذا البحث فلا محل للرجوع إليه.
الواقع أن هذا فهم غير صحيح، فإن محكمة النقض لم تبحث فيما عرضناه عليها ولم تتعرض له بكلمة، ولعلها أرجأت البحث إلى فرصة أخرى، ولعلها رأت أن الواقعة المعروضة عليها لا تحتمل هذا البحث لأنها بماديتها وكما ثبت واقعتنا تبيح توقيع العقوبة إذ كان موضوعها أن المحامي، بعد أن أصدرت المحكمة حكمها، فانتهت بذلك مأمورية المحامي ولم يبقَ له صفة في أن يتكلم ولا حق له في أن يعترض وجه كلامه للمحكمة وقال إن هذا خطأ.
رأت محكمة النقض أن الواقعة على هذا الشكل لا تسمح بالقول إن المحامي كان يؤدي واجبه أمام القضاء، فاكتفت بتدوين ذلك في حكمها، وأخذته أساسًا لرفض النقض، فالبحث لا يزال باقيًا وسنده على رأينا واضح يرجع إلى نصوص القانون وإلى المبادئ العامة.
على أن في الموضوع بحثًا جديدًا وهو الذي عقدنا له هذا التمهيد.
ذلك أن الشارع، بعد أن قرر مأمورية المحامي ووضع له من الأنظمة ما أراد، فعين واجباته ولا نقول وحقوقه، لأن المحامي في الواقع مثقل بالواجبات وليس له حق من الحقوق، حتى ما ظهر أنه حق، فإنك في الواقع إذا تأملته رأيته واجبًا ثقيلاً.
نقول بعد أن قرر الشارع كل هذا، وضع المحامي في أداء مأموريته وفي طريقة أدائها تحت مراقبة سلطة التأديب، وقد اختار لها أعلى محكمة قضائية تشرف على تطبيق القانون في البلاد - وهي محكمة النقض - فالنظر في هل عمل المحامي في الجلسة كان في حدود مأموريته حقيقة أو هو قد تجاوزها إلى الاعتداء - إنما هو بحث فني تأديبي صرف - لا ينظر فيه إلا تلك السلطة التي عهد إليها أن تفصل في شأن المحامي لتقدر عمله بهذه الصفة. هذه مسألة أولية، يجب الفصل فيها قبل النظر في جنحة الاعتداء، مثلها مثل المسائل الأولية التي يتوقف عليها الحكم في الموضوع المطروح، إذ لا يخلو الحال من أمرين:
فأما أن تفصل محكمة النقض أن المحامي كان في حدود واجباته، إذا اضطرته الظروف أن يقول ما يدعي إنه إهانة - وحينئذٍ فلا مسؤولية عليه، وإما أن تفصل بالعكس أن الحال لم يكن يقتضي ذلك الكلام وحينئذٍ تجوز محاكمته على أساس أنه خرج عن حدود واجباته، فحقت عليه مسؤولية الاعتداء.
من الواضح أن ما جعله الشارع تحت حماية سلطة معينة، لا يجوز لسلطة أخرى أن تفصل فيه، إلا بعد أن تنتهي تلك السلطة من النظر فيما كان من اختصاصها، وحينئذٍ يمهد الطريق للسلطة المختصة بتوقيع العقوبة - فتستقيم المسؤوليات - ويتأكد للمحامي أداء واجبه أمام القضاء ولا تكون سلطة القاضي في إزعاج المحامي كلما تناقش سيفًا معلقًا على رأسه يمنعه من تأدية واجباته في دائرتها الحقة.
إن الرأي الذي يخالفنا يلغي كل تشريع يختص بالمحاماة، وينتهي بنا إلى التسليم بأن الشارع إنما يكتب في تشريعه فيصدر القوانين متناقضة تهدم بعضها البعض، وإن قانون المحاماة بما فيه من الأنظمة والضمانات والسلطات المحددة لا أثر له إذا حصلت مناقشة توهمها القاضي أو وكيل النيابة إنها غير لائقة فيصبح للقاضي الجزئي مثلاً أو لقاضي الإحالة أن يحل نفسه محل سلطة محكمة النقض والإبرام - ويحكم أن المحامي قد خرج عن حدود واجباته - وهذا من اختصاص السلطة التأديبية العليا، ونعيد أنها هي السلطة العليا في البلاد لمراقبة تنفيذ القانون والإشراف على القضاء والمحاماة معًا ليقوم كل منهما بتأدية مأموريته في دائرتها الواجبة.
هب أن المحكمة المدنية جزئية أو ابتدائية حكمت على المحامي مرة، ثم أخرى، فإن هذا يكون داعيًا حتمًا إلى تقديمه إلى محكمة النقض للنظر في أمره حيث ثبت أن اعتاد أن يخرج عن حدود مأموريته وتكرر منه الاعتداء على القضاء فماذا يكون من الأمر حينئذٍ !!
إذا قلت إن محكمة النقض تكون ملزمة أن تأخذ بالأحكام التي صدرت من المحكمة الجزئية على اعتبار أنها قد حازت قوة الشيء المحكوم فيه فقد عطلت سلطة النقض وجعلتها تابعة في قضائها إلى محكمة هي موضوعة في جميع أحكامها تحت مراقبة تلك المحكمة العليا، بل قد نقلت سلطة التأديب في الواقع من محكمة النقض إلى المحكمة الجزئية التي حكمت وهذا لا يجوز، وإن اضطرت خضوعًا للحق أن تقول إن محكمة النقض هي صاحبة الحق المطلق في النظر في هل المحامي تجاوز واجبه أو كان في دائرته، فماذا تعمل بتلك الأحكام إذا حكمت محكمة النقض أن المحامي إنما قام بواجبه خير قيام وأنه لم يعتد أصلاً !!!
ترى من هذا حقًا أن محاكمة المحامي بسبب تأدية مأموريته في الجلسة، إنما يأتي بنا إلى إلغاء هذه المأمورية، وإلى إلغاء سلطة محكمة النقض معها، وهذه متناقضات لا يمكن أن يسلم بها في نظر الذين يطبقون القوانين على ما تقتضيه من الحقوق والواجبات واحترام توزيع السلطات ومراعاة قواعد الاختصاص.
وإني في هذا المقام أرجو أن لا يشوب البحث الرجوع إلى المفسرين للاختلاف العظيم بين التشريعين الفرنساوي والمصري.
ذلك أن الشارع الفرنسي أصدر لظروف سياسية وانقلابات اجتماعية خطيرة قوانين عدة للحد من حرية الخطباء خصوصًا المحامين فصدر قانون في 30 مارس سنة 1808 يعطي للمحكمة الحكم على المحامي في الجلسة تأديبيًا وجنائيًا معًا.
وصدر كذلك قانون في 20 نوفمبر سنة 1822 وفرض على المحامي أن لا يعترض في مرافعاته إلى نظام الحكم وإلا جاز للقاضي أن يحكم عليه في الحال.
وصدر قانون في 29 يوليو سنة 1881 فأعطى للقضاة سلطة إيقاف المحامي إلى ستة شهور وأخيرًا، فإن قانون المرافعات عندهم يعطي للقضاة الحق بنص صريح في إبعاد كل مرافعة من الدوسيه أو اعتبارها مشطوبة.
وكل هذا التشريع المتوالي لا أثر له عندنا.
ومع وجوده هناك فقد رأى فريق كبير من المفسرين أن مادة قانون المرافعات لا تنطبق على المحامي، ورأى فريق آخر متأثرًا بهذه القوانين أنها تنطبق.
وترى أن ذلك التشريع بذاته دليل على تفسير القانون المصري إلى الناحية التي نراها فلقد كان عندهم قانون المرافعات بنصه الذي عندنا وقد كان عندهم قانون تحقيق الجنايات بنصه الذي عندنا بل هو أوسع وأعم كما قدمنا، ومع هذا أحس الشارع الفرنسي أن تلك النصوص لا تنطبق على المحامي فدفعته الحاجة إلى كل ما تجددت إلى تشريع خاص يدخل المحامي في دائرة المسؤولية إذا شملت مرافعته تعريضًا بالسلطات أو إخلالاً بالواجبات التي رآها ولو أن التشريع الأصلي الأوسع من تشريعنا كان يشمل المحامي، لما صدرت هذه القوانين المتوالية.
وتؤخذ تلك القوانين كذلك معززة للرأي الذي نقول به - لأن القانون الذي قرر للقاضي سلطة الحكم على المحامي - أعطاه في الوقت نفسه سلطة الحكم في مسؤوليته التأديبية، وهذا قاطع في أن الأمرين متلازمان وفي أن الحكم في الجنحة لا سبيل له إلا أن يحكم أولاً في المسألة التأديبية، حينئذٍ كلما بحثنا، ومن أية وجهة كان البحث لا نجد حلاً لتنفيذ القوانين، يوفق بين الواجبات، ويحترم قواعد الاختصاص، إلا بأن نقول إن المحامي إذا اُتهم بالخروج عن حدود واجباته وجب إحالة أمره أولاً على السلطة المختصة بالفصل في هذا الأمر بالذات، فإذا حكمت أنه قد تجاوزها فعلاً أصبح فردًا خاضعًا للمسؤولية المقررة في قانون العقوبات.
إنه لا سبيل للحكم بعقوبة مهما كانت وجهة النظر
إن توقيع العقوبة، مرتبط بنص المادة (117) بأن يكون الاعتداء وقع على الموظف أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها.
إن القانون لا يحمي الموظف، مراعاةً لشخصيته، إذ لا يريد الشارع أن يخلق من الموظفين آلات لتعذيب الناس، فيخرج بهم عن المسؤوليات القانونية، ليكونوا وبالاً على الجمعية التي تقررت وظائفهم لخدمتها، وللدفاع عنها جماعات وأفرادًا، فلا حمية للموظف إلا بقدر ما هو يستحقها، وبشرط أن يكون في دائرتها.
ولا شك أن حضرة رئيس النيابة، قد خرج في تلك الجلسة عن حدود وظيفته خروجًا بينًا لم يقف فيه عند مجرد الخروج عن واجب الوظيفة، بل تجاوز هذا الموقف السلبي إلى الاعتداء فعلاً، فهو حينئذٍ قد ثار على القانون، فليس له أن يطلب حمايته.
ولقد أراد حضرة وكيل النيابة في الجلسة الأخيرة بعد أن علم أن هذا من المباحث التي نعرضها أن يرد فقال إن المفسرين مجمعون والقضاء كذلك مجمع على أن للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه في حدود رد الاعتداء وبشرط أن يخشى الخطر، ولكن ليس له أن يعتدي بالكلام الجارح !! ثم قرأ في الجلسة تلك الفقرات التي أشار إليها في كتاب جرسون.
ونحن لا نرانا في حاجة للتدليل على المبدأ الذي يقول به لأن نرجع إلى مفسرين فإنه استخفاف بالعقل البشري، أن يقال إن الذي يعتدي على القانون، وعلى الناس، فلا يعرف وظيفته، ولا يدرك حرمتها يجب أن يكون اعتداؤه مقدسًا، ويجب أن يفهم المعتدى عليه أنه إذا رد الاعتداء، لا باعتداء مثله بل بمجرد استنكار ذلك الاعتداء ووصفه بأنه منكر لا يجوز العقوبة لأن للمعتدي حرمة !!!
إنه من الخطأ أن يقال إن للمعتدي حرمة، فما كانت الحرمة لأي شخص يعتدي، إنما الحرمة للوظيفة المقررة، فإذا ما اعتدى صاحبها فقد تجرد عن وظيفته، وعن حرمتها، وأصبح في دائرة هي دائرة الأفراد، بل دائرة المعتدين فلا يستطيع بعد الاعتداء أن يتراجع إلى الوراء ليبقى في دائرة الوظيفة، بل إني اكتفى، بتلك الفقرات التي أشار إليها حضرة وكيل النيابة فإنها تؤيد ولا شك بالرأي الذي نقول به - بل إننا لا نعتبره رأيًا - إذ الطبيعة الثابتة لا رأي فيها غير الواقع الحتمي.
تلك الفقرات صريحة في أن المعتدى عليه من الناس، إنما يجب عليه أن لا يتجاوز في رده حد العمل الواجب لرد الاعتداء.
ليس في تلك الفقرات أن رد الاعتداء، غير جائز ولا يستطيع أحد أن يقول هذا، بل هي تقول يجب أن يكون الرد في دائرة الرد حقيقة، ومن نوع الاعتداء الواقع.
وقد ضرب جرسون الوقائع التي حكم فيها فإذا بها كلها، تمثل لنا موظفًا يريد القبض على فرد في غير حدود القانون، أو يريد أن يدخل عقارًا في غير حدود القانون فيقول جرسون إن من حق الفرد في هذه الحالة أن يستعمل كل قوته الجسمية لرد هذا الاعتداء بالقوة، أما الشتم فلا يجوز، لأنه لا يوصل إلى الغاية المقصودة من رد الاعتداء.
هب أن هذا قول لا بد لنا أن نأخذ به، فتقبل عقولنا أن من حق الفرد أن يضرب الموظف الذي يهجم عليه أما للقبض عليه أو ليدخل بيته، ولكن ليس من حقه أن يقتصر على أن ينتهره أو يصرخ في وجهه لعله يرجع !!!
هب أن هذا معقول فما معنى هذا الرأي، وما هي نتيجته الصحيحة !!!
إنما معناه إذا أخذته أساسًا، أن يكون الرد من جنس الاعتداء، ومن طريقه، فليس للمعتدى عليه أن يرد باللسان، حيث يكون الموظف قد اعتدى باليد !!!
على هذا إذا كان اعتداء الموظف قد وقع باللسان، فلا بد حتمًا بناءً على هذا الرأي نفسه أن يحصل الرد باللسان، ولا ينتظر أحد أن يكون الرد تمليقًا وتمجيدًا !!
وإن أردت أن تقول، كلا !! بل كان يجب تنفيذًا لرأي جرسون أن يجد المحامون طريقًا لمنع رئيس النيابة أن يتكلم فقط، فيكون من حقهم، على رأيك أنت لا على رأينا، أن يصعدوا إلى موقف رئيس النيابة وأن يضعوا جميعًا أيديهم على فمه لمنعه من أن يستمر في الاعتداء. وإذا تعذر عليهم هذا، أو وجدوه غير لائق فنطقوا بكلمة استنكار، كان من تلك الكلمة جنحةإنه عبث، نرجو أن يقول القضاة فيه كلمتهم، للحق ولكرامة القضاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية
23 سبتمبر 2011
أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم
مجلة المحاماة - العدد الثاني
السنة الأولى - مصر في أول أغسطس سنة 1920
المباحث القانونية والتشريعية
بحث في أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم
جرت المحاكم على تقدير تلك الأتعاب تقديرًا تافهًا جدًا فهي تتراوح أمام محكمة الاستئناف بين مائة قرش إلى أربعمائة ولا تزيد في الغالب على ألف قرش إلا في بعض قضايا نادرة جدًا لا يمكن أن تكون أساسًا يعتمد عليه عند البحث في هذه المسألة، وتتراوح تلك الأتعاب أمام المحاكم الابتدائية بين مائة قرش وثلاثمائة قرش وهي لا تزيد في الغالب على ستمائة قرش في بعض قضايا تناولت إجراءات عديدة ومطولة، أما في المحاكم الجزئية فلا تزيد تلك الأتعاب غالبًا على مائتي قرش وقد تكون أحيانًا خمسة عشر قرشًا أو عشرة قروش فقط.
والباحث في هذه المسألة يجد نفسه بين عاملين جديرين بالعناية.
العامل الأول: أخلاقي وهو ضرورة العناية في تسهيل التقاضي بين الناس حتى تتربى النفوس على التمسك بالحقوق واحترام حقوق الغير من طريق قوة القانون.
وقد دلت الإحصائيات على أن عدد القضايا مرتبط - في الكثير من الأمور - بمقدار ما يتكلفه المتقاضون من المصاريف.
وبديهي أن الأتعاب التي يحكم بها على الخصم داخلة ضمن ما يتكلفه المتخاصمون متى لجأوا إلى سلطة القضاء.
غير أننا لا نريد أن نبالغ في قيمة هذا العامل لأن رخص التقاضي قد يؤدي أيضًا إلى وجود دعاوى كثيرة ليس لها من أساس وتصبح المغالاة في تسهيل التقاضي مدعاة للشكوى من طريق آخر.
والعامل الثاني: له مساس بالعدالة نفسها من حيث تفاهة تلك الأتعاب فهي لا تعوض من حكم لصالحه ما يكون قد دفعه إلى محاميه أو ما يقرب من ذلك وفي هذا ظلم ظاهر.
نضيف إلى ما تقدم أن كثيرًا من إجراءات التنفيذ لا يحكم فيها بأتعاب على الخصم مع أن سبب الالتجاء إلى تلك الإجراءات هو عناد المحكوم عليهم أو مماطلاتهم بقصد مضايقة المحكوم لهم وبقصد الوصول بذلك إلى صلح ينتزعه أولئك المماطلون من دائنيهم بتنازل الآخرين عن جزء من حقوقهم.
ومما تجب ملاحظته في هذا المقام أن عدد القضايا في مصر كثير جدًا وقد لاحظ جناب المستر جون أدون مارشال في مقال نشرته له (مجلة مصر العصرية) أن عدد القضايا في مصر يساوي عددها في إنجلترا تقريبًا مع أن سكان القطر المصري لا يزيد على ثلث سكان إنجلترا وإن المصالح موضوع تلك الدعاوى أهم بكثير في إنجلترا منها في مصر.
ويظهر مما تقدم أن الخطر في العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير تلك الأتعاب هذا التقدير التافه إنما هو خطر وهمي أكثر منه حقيقي وأنه ليس في زيادة تلك الأتعاب زيادة معقولة تصعيب في التقاضي بهذا المقدار الذي قد يتصوره البعض في أول الأمر من دون التفات إلى الزيادة المضطردة في عدد القضايا والتي يوجد كثير منها على غير أساس جدي ومن دون التفات إلى ما تقتضيه العدالة في رفع نوع من الظلم واقع على المكوم عليهم كما أسلفنا.
لهذا كله يترجح عندنا العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير هذه الأتعاب ووضع مبدأ يقضي بزيادتها زيادة معقولة.
وقبل أن نبدي رأيًا في كيفية هذه الزيادة يحسن بنا أن نبدي الملاحظة الآتية وهي: أننا غير مقيدين بآراء الشراح الفرنساويين في هذا العدد ذلك لأن لائحة الرسوم القضائية في فرنسا الصادر بها الدكريتو المؤرخ 16 فبراير سنة 1807 والتي تعدلت بدكريتو 21 يناير 1845 قد نصت صراحةً في المادة (80) و(82) على تحديد تلك الأتعاب بخمسة عشر فرنكًا داخل باريس وعشرة فرنكات خارجها في الأحكام الحضورية أما في الأحكام الغيابية فقد تحددت بخمسة فرنكات وأربعة فرنكات (راجع مؤلف جرسونيه جزء أول صحيفة نمرة 424 نوتة 254 وتعليقات دالوز على قانون المرافعات صحيفة نمرة 1103 وكذلك البندكت)، ويقول شراح هذه القانون إن هذه الأتعاب ليست في الحقيقة كل ما كان واجب الدفع أتعابًا للمحاماة على الخصم وإنما لوحظ في تقديرها أنها عبارة عن كل ما يمكن أن يكون قد صرف في شؤون المحاماة فهي أشبه شيء بمصاريف الانتقال.
لذلك كانت قيمتها عندهم تافهة جدًا ولا يوجد في قوانيننا نص كهذا يقيدنا ويضطرنا إلى تفسير حكمة تقدير هذه الأتعاب على النحو الذي ذهب إليه الشراح الفرنسويون بل يوجد عندنا نصوص تغاير هذا النص الفرنساوي كما سنبينه فيما يلي.
بعد هذه الملاحظة يحسن بنا أن نعرض أهم الآراء في هذا الموضوع: يوجد رأي قائل بجعل لائحة الرسوم القضائية أساسًا عند الحكم بالأتعاب على الخصم الذي خسر الدعوى فتكون تلك الأتعاب مساوية على الأقل لنصف الرسوم النسبية مثلاً أو مساوية لها.
غير أن هذا الرأي معيب لأن لائحة الرسوم القضائية مبنية على قيمة الدعوى بغض النظر عن قيمة العمل فيها والزمن الذي تستغرقه وثروة الخصوم ومثل هذا لا يصلح أن يكون أساسًا عند تقدير الأتعاب سواء في ذلك أتعاب الوكيل بالنسبة لموكله أو أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم وفوق هذا فإن هذه اللائحة موضع نقد فلا يصح أن نعلق شيئًا على شيء منتقد في ذاته.
ويوجد رأي آخر يقول بأن الواجب عند تقدير هذه الأتعاب ملاحظة كونها المقابل لما يدفعه المحكوم لصالحه إلى محاميه.
وهذا الرأي معيب كذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن الحكم على الخصم الذي خسر الدعوى بأتعاب ملحوظ في تقديرها أنها المقابل تمامًا لما يدفعه من كسب الدعوى إلى محاميه مما قد يؤثر في الاتفاق الحاصل بين من كسب الدعوى ووكيله ويخلق نزاعًا جديدًا قد لا يوجد، وهذا إذا أخذنا بالرأي الغالب القائل بجواز تعديل قيمة هذه الاتفاقات زيادة ونقصانًا متى قام النزاع بشأنها.
ثانيًا: أن ملاحظة ثروة الخصم ليس لها محل هنا وبمعنى أن من خسر الدعوى لا يصح أن يطالب بأتعاب لوحظ عند تقديرها ثروة خصمه وإنما المسؤول عنه عدلاً هو تلك الأتعاب التي لوحظ فيها قيمة القضية وأهمية العمل فيها والزمن الذي استغرقته ويمكننا الآن بعد بيان ما تقدم أن نبدي رأينا في هذا الموضوع.
أمامنا المادة (37) من لائحة الرسوم القضائية للمحاكم المختلطة، والمادة (35) من الأمر العالي المؤرخ 7 أكتوبر سنة 1897 ونصها:
(يجوز طلب أجرة المحامين أو الوكلاء ممن حكم عليه بمصاريف الدعوى بشرط أن تكون هذه الأجرة مقدرة بمعرفة المحكمة أو القاضي، ويراعى في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل الذي باشره والمحامي أو الوكيل والزمن الذي قضاه في ذلك وحالة ثروة المتخاصمين ولا يعتد بالأوراق التي صار تحريرها بغير حاجة إليها).
(وإذا اقتضى الحال لتقدير الأجرة التي يلزم دفعها للمحامي أو الوكيل من موكله فتراعى أيضًا الأحوال المبينة آنفًا).
وقد جرت المحاكم على تطبيق هذه القواعد عند تقدير الأتعاب بين الوكيل والموكل وأهملته عند الحكم بالأتعاب لأحد الطرفين المتخاصمين على الآخر وفي ذلك ما فيه من مخالفة روح التشريع وحرفية النص.
على أن هذا النصر في ذاته معيب من حيث إنه يقضي بمراعاة ثروة الخصوم عند تقدير الأتعاب المحكوم بها على من خسر الدعوى ومن رأينا أن المحكوم عليه لا يكون مسؤولاً إلا عن الأتعاب التي يلاحظ في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل والزمن دون التفات إلى ثروة من حكم لصالحه لذلك نرى أن يعدل هذا النص بالكيفية الآتية:
(حذف عبارة وحالة ثروة المتخاصمين من الفقرة الثانية ووضعها في الفقرة الثالثة).
وبهذا التعديل يصبح النص أقرب إلى العدالة.
أما الفوائد التي تنجم عن تقرير هذا المبدأ فهي كثيرة أهمها:
أولاً: وضع حد للطلبات الباهظة بين المتقاضين.
ثانيًا: تقليل عدد القضايا التي تُرفع على غير أساس جدي.
ثالثًا: رفع ظلم واقع على المحكوم لمصلحته فيما يتعلق بأتعاب المحاماة.
رابعًا: منع تأثير الحكم بالأتعاب على الخصم في عقد الاتفاق بين من كسب الدعوى ومحاميه لأن حالة ثروة من كسب الدعوى ومركز المحامي الذي يترافع فيها لم يكونا من العوامل في تقدير تلك الأتعاب.
السنة الأولى - مصر في أول أغسطس سنة 1920
المباحث القانونية والتشريعية
بحث في أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم
جرت المحاكم على تقدير تلك الأتعاب تقديرًا تافهًا جدًا فهي تتراوح أمام محكمة الاستئناف بين مائة قرش إلى أربعمائة ولا تزيد في الغالب على ألف قرش إلا في بعض قضايا نادرة جدًا لا يمكن أن تكون أساسًا يعتمد عليه عند البحث في هذه المسألة، وتتراوح تلك الأتعاب أمام المحاكم الابتدائية بين مائة قرش وثلاثمائة قرش وهي لا تزيد في الغالب على ستمائة قرش في بعض قضايا تناولت إجراءات عديدة ومطولة، أما في المحاكم الجزئية فلا تزيد تلك الأتعاب غالبًا على مائتي قرش وقد تكون أحيانًا خمسة عشر قرشًا أو عشرة قروش فقط.
والباحث في هذه المسألة يجد نفسه بين عاملين جديرين بالعناية.
العامل الأول: أخلاقي وهو ضرورة العناية في تسهيل التقاضي بين الناس حتى تتربى النفوس على التمسك بالحقوق واحترام حقوق الغير من طريق قوة القانون.
وقد دلت الإحصائيات على أن عدد القضايا مرتبط - في الكثير من الأمور - بمقدار ما يتكلفه المتقاضون من المصاريف.
وبديهي أن الأتعاب التي يحكم بها على الخصم داخلة ضمن ما يتكلفه المتخاصمون متى لجأوا إلى سلطة القضاء.
غير أننا لا نريد أن نبالغ في قيمة هذا العامل لأن رخص التقاضي قد يؤدي أيضًا إلى وجود دعاوى كثيرة ليس لها من أساس وتصبح المغالاة في تسهيل التقاضي مدعاة للشكوى من طريق آخر.
والعامل الثاني: له مساس بالعدالة نفسها من حيث تفاهة تلك الأتعاب فهي لا تعوض من حكم لصالحه ما يكون قد دفعه إلى محاميه أو ما يقرب من ذلك وفي هذا ظلم ظاهر.
نضيف إلى ما تقدم أن كثيرًا من إجراءات التنفيذ لا يحكم فيها بأتعاب على الخصم مع أن سبب الالتجاء إلى تلك الإجراءات هو عناد المحكوم عليهم أو مماطلاتهم بقصد مضايقة المحكوم لهم وبقصد الوصول بذلك إلى صلح ينتزعه أولئك المماطلون من دائنيهم بتنازل الآخرين عن جزء من حقوقهم.
ومما تجب ملاحظته في هذا المقام أن عدد القضايا في مصر كثير جدًا وقد لاحظ جناب المستر جون أدون مارشال في مقال نشرته له (مجلة مصر العصرية) أن عدد القضايا في مصر يساوي عددها في إنجلترا تقريبًا مع أن سكان القطر المصري لا يزيد على ثلث سكان إنجلترا وإن المصالح موضوع تلك الدعاوى أهم بكثير في إنجلترا منها في مصر.
ويظهر مما تقدم أن الخطر في العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير تلك الأتعاب هذا التقدير التافه إنما هو خطر وهمي أكثر منه حقيقي وأنه ليس في زيادة تلك الأتعاب زيادة معقولة تصعيب في التقاضي بهذا المقدار الذي قد يتصوره البعض في أول الأمر من دون التفات إلى الزيادة المضطردة في عدد القضايا والتي يوجد كثير منها على غير أساس جدي ومن دون التفات إلى ما تقتضيه العدالة في رفع نوع من الظلم واقع على المكوم عليهم كما أسلفنا.
لهذا كله يترجح عندنا العدول عن القاعدة التي اتبعت إلى الآن في تقدير هذه الأتعاب ووضع مبدأ يقضي بزيادتها زيادة معقولة.
وقبل أن نبدي رأيًا في كيفية هذه الزيادة يحسن بنا أن نبدي الملاحظة الآتية وهي: أننا غير مقيدين بآراء الشراح الفرنساويين في هذا العدد ذلك لأن لائحة الرسوم القضائية في فرنسا الصادر بها الدكريتو المؤرخ 16 فبراير سنة 1807 والتي تعدلت بدكريتو 21 يناير 1845 قد نصت صراحةً في المادة (80) و(82) على تحديد تلك الأتعاب بخمسة عشر فرنكًا داخل باريس وعشرة فرنكات خارجها في الأحكام الحضورية أما في الأحكام الغيابية فقد تحددت بخمسة فرنكات وأربعة فرنكات (راجع مؤلف جرسونيه جزء أول صحيفة نمرة 424 نوتة 254 وتعليقات دالوز على قانون المرافعات صحيفة نمرة 1103 وكذلك البندكت)، ويقول شراح هذه القانون إن هذه الأتعاب ليست في الحقيقة كل ما كان واجب الدفع أتعابًا للمحاماة على الخصم وإنما لوحظ في تقديرها أنها عبارة عن كل ما يمكن أن يكون قد صرف في شؤون المحاماة فهي أشبه شيء بمصاريف الانتقال.
لذلك كانت قيمتها عندهم تافهة جدًا ولا يوجد في قوانيننا نص كهذا يقيدنا ويضطرنا إلى تفسير حكمة تقدير هذه الأتعاب على النحو الذي ذهب إليه الشراح الفرنسويون بل يوجد عندنا نصوص تغاير هذا النص الفرنساوي كما سنبينه فيما يلي.
بعد هذه الملاحظة يحسن بنا أن نعرض أهم الآراء في هذا الموضوع: يوجد رأي قائل بجعل لائحة الرسوم القضائية أساسًا عند الحكم بالأتعاب على الخصم الذي خسر الدعوى فتكون تلك الأتعاب مساوية على الأقل لنصف الرسوم النسبية مثلاً أو مساوية لها.
غير أن هذا الرأي معيب لأن لائحة الرسوم القضائية مبنية على قيمة الدعوى بغض النظر عن قيمة العمل فيها والزمن الذي تستغرقه وثروة الخصوم ومثل هذا لا يصلح أن يكون أساسًا عند تقدير الأتعاب سواء في ذلك أتعاب الوكيل بالنسبة لموكله أو أتعاب المحاماة التي يحكم بها على الخصم وفوق هذا فإن هذه اللائحة موضع نقد فلا يصح أن نعلق شيئًا على شيء منتقد في ذاته.
ويوجد رأي آخر يقول بأن الواجب عند تقدير هذه الأتعاب ملاحظة كونها المقابل لما يدفعه المحكوم لصالحه إلى محاميه.
وهذا الرأي معيب كذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن الحكم على الخصم الذي خسر الدعوى بأتعاب ملحوظ في تقديرها أنها المقابل تمامًا لما يدفعه من كسب الدعوى إلى محاميه مما قد يؤثر في الاتفاق الحاصل بين من كسب الدعوى ووكيله ويخلق نزاعًا جديدًا قد لا يوجد، وهذا إذا أخذنا بالرأي الغالب القائل بجواز تعديل قيمة هذه الاتفاقات زيادة ونقصانًا متى قام النزاع بشأنها.
ثانيًا: أن ملاحظة ثروة الخصم ليس لها محل هنا وبمعنى أن من خسر الدعوى لا يصح أن يطالب بأتعاب لوحظ عند تقديرها ثروة خصمه وإنما المسؤول عنه عدلاً هو تلك الأتعاب التي لوحظ فيها قيمة القضية وأهمية العمل فيها والزمن الذي استغرقته ويمكننا الآن بعد بيان ما تقدم أن نبدي رأينا في هذا الموضوع.
أمامنا المادة (37) من لائحة الرسوم القضائية للمحاكم المختلطة، والمادة (35) من الأمر العالي المؤرخ 7 أكتوبر سنة 1897 ونصها:
(يجوز طلب أجرة المحامين أو الوكلاء ممن حكم عليه بمصاريف الدعوى بشرط أن تكون هذه الأجرة مقدرة بمعرفة المحكمة أو القاضي، ويراعى في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل الذي باشره والمحامي أو الوكيل والزمن الذي قضاه في ذلك وحالة ثروة المتخاصمين ولا يعتد بالأوراق التي صار تحريرها بغير حاجة إليها).
(وإذا اقتضى الحال لتقدير الأجرة التي يلزم دفعها للمحامي أو الوكيل من موكله فتراعى أيضًا الأحوال المبينة آنفًا).
وقد جرت المحاكم على تطبيق هذه القواعد عند تقدير الأتعاب بين الوكيل والموكل وأهملته عند الحكم بالأتعاب لأحد الطرفين المتخاصمين على الآخر وفي ذلك ما فيه من مخالفة روح التشريع وحرفية النص.
على أن هذا النصر في ذاته معيب من حيث إنه يقضي بمراعاة ثروة الخصوم عند تقدير الأتعاب المحكوم بها على من خسر الدعوى ومن رأينا أن المحكوم عليه لا يكون مسؤولاً إلا عن الأتعاب التي يلاحظ في تقديرها قيمة الشيء المتنازع فيه والعمل والزمن دون التفات إلى ثروة من حكم لصالحه لذلك نرى أن يعدل هذا النص بالكيفية الآتية:
(حذف عبارة وحالة ثروة المتخاصمين من الفقرة الثانية ووضعها في الفقرة الثالثة).
وبهذا التعديل يصبح النص أقرب إلى العدالة.
أما الفوائد التي تنجم عن تقرير هذا المبدأ فهي كثيرة أهمها:
أولاً: وضع حد للطلبات الباهظة بين المتقاضين.
ثانيًا: تقليل عدد القضايا التي تُرفع على غير أساس جدي.
ثالثًا: رفع ظلم واقع على المحكوم لمصلحته فيما يتعلق بأتعاب المحاماة.
رابعًا: منع تأثير الحكم بالأتعاب على الخصم في عقد الاتفاق بين من كسب الدعوى ومحاميه لأن حالة ثروة من كسب الدعوى ومركز المحامي الذي يترافع فيها لم يكونا من العوامل في تقدير تلك الأتعاب.
متى تسقط أتعاب المحاماة المطالب بها أو الصادر بها حكم
مجلة المحاماة - العدد الخامس
السنة السادسة - عدد فبراير - يناير 1926
متى تسقط أتعاب المحاماة المطالب بها أو الصادر بها حكم
القاعدة العامة في مصر هي أن جميع الحقوق والتعهدات والدعاوى تسقط بمضي 15 سنة على آخر عمل قاطع للمدة قانونًا ما عدا المستثنيات التي منها ما يسقط بمضي خمس سنين كالفوائد والإيجارات ونحوها (مادة (211) مدني، و(275) مختلط، و(2277) فرنسي)، والكمبيالات والسندات التجارية (مادة (194) تجاري، و(201) تجاري مختلط، و(189) تجاري فرنسي) أو بثلاث سنوات الأشياء المسروقة والضائعة (مادة (86) مدني، و(115) مدني مختلط، و(2279) مدني فرنسي) أو سنة ((209) و(210) مدني، و(273) و(274) مدني مختلط) أو بسنتين (مادة (2273) و(2272) مدني فرنسي).
وبحثي الآن في أتعاب الأطباء والمحامين (في القانون الأهلي فقط) والمهندسين وثمن المبيعات لغير التجار إلخ من جهة ورسوم أقلام الكتاب والمحضرين من جهة ثانية، وسبب هذا السقوط الأخير:
أولاً: إن كل هذه الأحوال خاصة بأجور أو بثمن مأكولات ونحوها (ورسوم أقلام الكتاب والمحضرين) أي جميعها مفروض فيه أن أصحابها لا يسكتون عن المطالبة بها.
ثانيًا: لأن العادة قد جرت فيها تقريبًا على عدم أخذ كتابةً بها، وإذا تحررت فلا يحافظ عليها طويلاً الدائن ولا المدين ولكن يجب ملاحظة ما يأتي:
أولاً: إن المبالغ التي تسقط بمرور 360 يومًا هي:
1 - أتعاب المحامين (في القانون الأهلي لا المختلط ولا الفرنسي).
2 - أتعاب الأطباء.
3 - أتعاب المهندسين.
4 - ثمن المبيعات لغير التجار مطلقًا (أي للأفراد).
5 - ثمن المبيعات للتجار فيما عدا ما يتعلق بتجاراتهم (أي لحاجيات التجار الشخصية لا لمحلاتهم التجارية).
6 - أجور مؤدبي الأطفال ومعلميهم.
7 - ماهية الخدمة.
8 - الرسوم المستحقة لأقلام الكتاب أو المحضرين (210 مدني).
ثانيًا: إن أتعاب المحامي ونحوها تختلف مدة سقوطها بحسب الأحوال:
1 - إذا لم يعترف المدعى عليه بالدين صراحةً أو ضمنًا تكون مدة السقوط 360 يومًا من تاريخ إتمام العمل المطالب به حتى لو استجدت أتعاب أو أجور أو… أخرى.
2 - إذا وجد اعتراف بذلك فيسقط الحق بمضي 15 سنة هلالية (لعدول الطرفين على العادة) من تاريخ آخر اعتراف أو عمل قضائي قاطع للمدة.
راجع (فينيه) (fenet) جزء (15) صحيفة 570، و571 محاضر تحضير القانوني المدني الفرنسي (لوران) مدني جزء 32 صحيفة 530، و531 نبذة 543، و544 و545 (أوبرى ورو) طبعة 4 جزء 8 صحيفة 446 (بلانيول) طبعة 2 جزء 2 صحيفة 206 نبذة 674 (ماركاديه) طبعة 6 جزء 12 صحيفة 332 و333 بودري لاكنتنري المطول جزء 25 (سقوط الحقوق) صحيفة 404 نبذة 574 (داللوز) تعليقات على القانون المدني جزء 2 صحيفة 1229 نبذة 3 و4 و9 و14 و15 (من أن إرسال المريض أو صاحب الدعوى خطابًا إلى المحامي أو الطبيب بأنه سيسعى في دفع الأتعاب أو المكافأة أو سيمر على مكتبه أو عيادته للشكر إلخ يحول بينه وبين التمسك فيما بعد بسقوط الحق بالمدة القصيرة بل لا بد من مضي المدة الطويلة أو إبراز مخالصة كتابية)، (والمسيو دوهلس) سقوط الحق نبذة 107 (والتون) جزء 2 صحيفة 553 (والدكتور محمد بك كامل مرسي) الملكية والحقوق العينية صحيفة 418 و419 والاستئناف المختلط 9 مايو سنة 894 (مجلة القضاء والتشريع المختلطة جزء 6 صحيفة 287 محكمة مصر الأهلية في 22 نوفمبر سنة 1916 في القضية نمرة 941 سنة 1916 مدني كلي المرفوعة مني شخصيًا ضد السيد محمد أحمد العفيفي وضد الشيخ حسانين علي يوسف (محجوز لديه)، ومحكمة شبين الجزئية 6 ديسمبر سنة 903 (المجموعة الرسمية الأهلية سنة 5 صحيفة 176)، ومحكمة طنطا الجزئية أول يونيه سنة 1903 (مجلة الحقوق سنة 18 صحيفة 159).
ثالثًا: منازعة المدعى عليه في أصل الحق أو مقداره لأي دين من الديون المذكورة في المادة (209) مدني يعد اعترافًا منه بعدم دفعه - وبالتالي لا يصح له الجمع بين النقيضين الاعتراف بالمديونية والتمسك بسقوط الحق أي الدفع - كما يقول العلامة بودري في الجزء 25 (سقوط الحقوق) صحيفة 488.
(Il ne sera pas non plus recavable ل le faire s’il a avoué tacitement le fait du non paiement, par exemple en commençant par nier la dette et contester qu’il n’ait été débiteur).
وراجع كتاب الملكية والحقوق العينية لحضرة الدكتور محمد بك كامل مرسي صحيفة 420 حاشية 2 محكمة منوف الجزئية 17 إبريل سنة 1917 (المجموعة الرسمية) سنة 18 صحيفة 249.
رابعًا: إذا صدر حكم بأي دين من الديون المنوه عنها في المادة (209) مدني لا يسقط الحق في تنفيذه إلا بمرور المدة الطويلة خلافًا للحكم بالفوائد وغيرها مما هو مذكور بالمادة (211) مدني التي يسقط الحق في تنفيذ الحكم بها فيما زاد عن خمس سنوات من آخر إجراء صحيح كما تقدم في مقالي السابق نشره بمجلة المحاماة سنة 5 عدد 8 صحيفة 665.
خامسًا: أنه وإن جاز للمدعى عليه في حال مطالبته بالفوائد ونحوها الجمع في وقت واحد الاعتراف بعدم الدفع والتمسك بسقوط الحق في المطالبة أو التنفيذ بما زاد عن خمس سنوات منعًا من وقوع المدين في الخراب بتراكم فوائد عشرات السنين عليه لإهمال الدائن أو لسوء نيته إلا أن ذلك غير جائز في حالة المطالبة بشيء مما هو مسطر في المادة (209) مدني أهلي، وبعبارة أوضح اعتراف المدعى عليه صراحةً أو ضمنًا بعدم الدفع يمنعه في الزمن نفسه من التمسك بمضي سنة لأن سبب السقوط في هذه المادة هو:
1 - وجود قرينة فقط على التخالص لاحتمال ضياع سند السداد.
2 - لأن السقوط بمضي سنة مسلط في ذات الحق كله لا على جزء فقط منه أو ملحق له كما في حالة الفوائد ونحوها فإن أصل الدين باقٍ ولا يسقط إلا ما زاد عن فوائد خمس سنوات فقط.
سادسًا: إذا كانت الأجرة مما يدفع مسانهة فالسقوط يكون بمضي خمس سنوات (مادة 211 مدني) لا 360 يومًا (مادة 209 مدني) راجع المسيو دوهلس مضي المدة نبذة 194، وشرح القانون المدني للمرحوم أحمد باشا فتحي زغلول صحيفة 114.
سابعًا: في حالة السقوط بالمدة الطويلة (مادة (208) مدني، و(272) مختلط و(2262) فرنسي) أو السقوط بخمس سنوات في المسائل المدنية (كالفوائد ونحوها مادة (211) مدني، و(275 مختلط، و(2277) فرنسي) أو السقوط بثلاث سنوات (حالة السرقة والضياع مادة (86) مدني، و(115) مختلط، و(2279) فرنسي) تقضي المحاكم لسقوط الحق بمجرد:
1 - طلب المدين السقوط.
2 - تحققها من مضي هذه المدة.
3 - عدم قطعها قانونًا.
أما في الأحوال المذكورة بالمادة (209) مدني أهلي (273 مختلط، و2272 و2273) فلا يتم السقوط قانونًا إلا بعد تحليف المدعى عليه يمين الاستيثاق (مادة (212) أهلي و(276) مختلط، و(2275) فرنسي) أو ورثته أو الأوصياء ونحوهم على أنهم لا يعلمون بوجود الدين (مادة (213) أهلي، و(277) مختلط، و(2275) فرنسي).
ويجب على المحكمة أن تطلب من تلقاء نفسها اليمين من المدعى عليه في هذه الأحوال أو من ورثته أو الأوصياء ونحوها المسيو دوهلس سقوط الحق نبذة 202 وشرح القانون المدني للمرحوم أحمد باشا فتحي زغلول صحيفة 114 ويمين الاستيثاق هذه تختلف عن اليمين المنوه عنها في المادة (194) تجاري لأن المحاكم لا تحلف التاجر المدعى عليه من تلقاء نفسها بل لا بد من أن يطلب الدائن ذلك.
ثامنًا: مبدأ الـ 360 يومًا المذكور في المادتين (209) و(210) مدني هو:
1 - تاريخ استحقاق الدين فمثل إذا باشر المحامي عدة قضايا فيبتدئ سقوط الحق من انتهاء كل قضية على حدتها لذا تقول المادة (209) مدني (ولو استحقت ديون جديدة من قبيل ما ذكر في ظرف الـ 360 يومًا المذكورة).
2 - وأما بالنسبة للرسوم المستحقة لأقلام الكتاب المحضرين (مادة 210 مدني)، فإن السقوط يبتدئ:
أولاً: من تاريخ انتهاء المرافعة في الدعوى التي تحررت في شأنها الأوراق.
ثانيًا: من تاريخ تحرير هذه الأوراق إذا لم تحصل مرافعة في القضية.
أحمد منيب
المحامي
السنة السادسة - عدد فبراير - يناير 1926
متى تسقط أتعاب المحاماة المطالب بها أو الصادر بها حكم
القاعدة العامة في مصر هي أن جميع الحقوق والتعهدات والدعاوى تسقط بمضي 15 سنة على آخر عمل قاطع للمدة قانونًا ما عدا المستثنيات التي منها ما يسقط بمضي خمس سنين كالفوائد والإيجارات ونحوها (مادة (211) مدني، و(275) مختلط، و(2277) فرنسي)، والكمبيالات والسندات التجارية (مادة (194) تجاري، و(201) تجاري مختلط، و(189) تجاري فرنسي) أو بثلاث سنوات الأشياء المسروقة والضائعة (مادة (86) مدني، و(115) مدني مختلط، و(2279) مدني فرنسي) أو سنة ((209) و(210) مدني، و(273) و(274) مدني مختلط) أو بسنتين (مادة (2273) و(2272) مدني فرنسي).
وبحثي الآن في أتعاب الأطباء والمحامين (في القانون الأهلي فقط) والمهندسين وثمن المبيعات لغير التجار إلخ من جهة ورسوم أقلام الكتاب والمحضرين من جهة ثانية، وسبب هذا السقوط الأخير:
أولاً: إن كل هذه الأحوال خاصة بأجور أو بثمن مأكولات ونحوها (ورسوم أقلام الكتاب والمحضرين) أي جميعها مفروض فيه أن أصحابها لا يسكتون عن المطالبة بها.
ثانيًا: لأن العادة قد جرت فيها تقريبًا على عدم أخذ كتابةً بها، وإذا تحررت فلا يحافظ عليها طويلاً الدائن ولا المدين ولكن يجب ملاحظة ما يأتي:
أولاً: إن المبالغ التي تسقط بمرور 360 يومًا هي:
1 - أتعاب المحامين (في القانون الأهلي لا المختلط ولا الفرنسي).
2 - أتعاب الأطباء.
3 - أتعاب المهندسين.
4 - ثمن المبيعات لغير التجار مطلقًا (أي للأفراد).
5 - ثمن المبيعات للتجار فيما عدا ما يتعلق بتجاراتهم (أي لحاجيات التجار الشخصية لا لمحلاتهم التجارية).
6 - أجور مؤدبي الأطفال ومعلميهم.
7 - ماهية الخدمة.
8 - الرسوم المستحقة لأقلام الكتاب أو المحضرين (210 مدني).
ثانيًا: إن أتعاب المحامي ونحوها تختلف مدة سقوطها بحسب الأحوال:
1 - إذا لم يعترف المدعى عليه بالدين صراحةً أو ضمنًا تكون مدة السقوط 360 يومًا من تاريخ إتمام العمل المطالب به حتى لو استجدت أتعاب أو أجور أو… أخرى.
2 - إذا وجد اعتراف بذلك فيسقط الحق بمضي 15 سنة هلالية (لعدول الطرفين على العادة) من تاريخ آخر اعتراف أو عمل قضائي قاطع للمدة.
راجع (فينيه) (fenet) جزء (15) صحيفة 570، و571 محاضر تحضير القانوني المدني الفرنسي (لوران) مدني جزء 32 صحيفة 530، و531 نبذة 543، و544 و545 (أوبرى ورو) طبعة 4 جزء 8 صحيفة 446 (بلانيول) طبعة 2 جزء 2 صحيفة 206 نبذة 674 (ماركاديه) طبعة 6 جزء 12 صحيفة 332 و333 بودري لاكنتنري المطول جزء 25 (سقوط الحقوق) صحيفة 404 نبذة 574 (داللوز) تعليقات على القانون المدني جزء 2 صحيفة 1229 نبذة 3 و4 و9 و14 و15 (من أن إرسال المريض أو صاحب الدعوى خطابًا إلى المحامي أو الطبيب بأنه سيسعى في دفع الأتعاب أو المكافأة أو سيمر على مكتبه أو عيادته للشكر إلخ يحول بينه وبين التمسك فيما بعد بسقوط الحق بالمدة القصيرة بل لا بد من مضي المدة الطويلة أو إبراز مخالصة كتابية)، (والمسيو دوهلس) سقوط الحق نبذة 107 (والتون) جزء 2 صحيفة 553 (والدكتور محمد بك كامل مرسي) الملكية والحقوق العينية صحيفة 418 و419 والاستئناف المختلط 9 مايو سنة 894 (مجلة القضاء والتشريع المختلطة جزء 6 صحيفة 287 محكمة مصر الأهلية في 22 نوفمبر سنة 1916 في القضية نمرة 941 سنة 1916 مدني كلي المرفوعة مني شخصيًا ضد السيد محمد أحمد العفيفي وضد الشيخ حسانين علي يوسف (محجوز لديه)، ومحكمة شبين الجزئية 6 ديسمبر سنة 903 (المجموعة الرسمية الأهلية سنة 5 صحيفة 176)، ومحكمة طنطا الجزئية أول يونيه سنة 1903 (مجلة الحقوق سنة 18 صحيفة 159).
ثالثًا: منازعة المدعى عليه في أصل الحق أو مقداره لأي دين من الديون المذكورة في المادة (209) مدني يعد اعترافًا منه بعدم دفعه - وبالتالي لا يصح له الجمع بين النقيضين الاعتراف بالمديونية والتمسك بسقوط الحق أي الدفع - كما يقول العلامة بودري في الجزء 25 (سقوط الحقوق) صحيفة 488.
(Il ne sera pas non plus recavable ل le faire s’il a avoué tacitement le fait du non paiement, par exemple en commençant par nier la dette et contester qu’il n’ait été débiteur).
وراجع كتاب الملكية والحقوق العينية لحضرة الدكتور محمد بك كامل مرسي صحيفة 420 حاشية 2 محكمة منوف الجزئية 17 إبريل سنة 1917 (المجموعة الرسمية) سنة 18 صحيفة 249.
رابعًا: إذا صدر حكم بأي دين من الديون المنوه عنها في المادة (209) مدني لا يسقط الحق في تنفيذه إلا بمرور المدة الطويلة خلافًا للحكم بالفوائد وغيرها مما هو مذكور بالمادة (211) مدني التي يسقط الحق في تنفيذ الحكم بها فيما زاد عن خمس سنوات من آخر إجراء صحيح كما تقدم في مقالي السابق نشره بمجلة المحاماة سنة 5 عدد 8 صحيفة 665.
خامسًا: أنه وإن جاز للمدعى عليه في حال مطالبته بالفوائد ونحوها الجمع في وقت واحد الاعتراف بعدم الدفع والتمسك بسقوط الحق في المطالبة أو التنفيذ بما زاد عن خمس سنوات منعًا من وقوع المدين في الخراب بتراكم فوائد عشرات السنين عليه لإهمال الدائن أو لسوء نيته إلا أن ذلك غير جائز في حالة المطالبة بشيء مما هو مسطر في المادة (209) مدني أهلي، وبعبارة أوضح اعتراف المدعى عليه صراحةً أو ضمنًا بعدم الدفع يمنعه في الزمن نفسه من التمسك بمضي سنة لأن سبب السقوط في هذه المادة هو:
1 - وجود قرينة فقط على التخالص لاحتمال ضياع سند السداد.
2 - لأن السقوط بمضي سنة مسلط في ذات الحق كله لا على جزء فقط منه أو ملحق له كما في حالة الفوائد ونحوها فإن أصل الدين باقٍ ولا يسقط إلا ما زاد عن فوائد خمس سنوات فقط.
سادسًا: إذا كانت الأجرة مما يدفع مسانهة فالسقوط يكون بمضي خمس سنوات (مادة 211 مدني) لا 360 يومًا (مادة 209 مدني) راجع المسيو دوهلس مضي المدة نبذة 194، وشرح القانون المدني للمرحوم أحمد باشا فتحي زغلول صحيفة 114.
سابعًا: في حالة السقوط بالمدة الطويلة (مادة (208) مدني، و(272) مختلط و(2262) فرنسي) أو السقوط بخمس سنوات في المسائل المدنية (كالفوائد ونحوها مادة (211) مدني، و(275 مختلط، و(2277) فرنسي) أو السقوط بثلاث سنوات (حالة السرقة والضياع مادة (86) مدني، و(115) مختلط، و(2279) فرنسي) تقضي المحاكم لسقوط الحق بمجرد:
1 - طلب المدين السقوط.
2 - تحققها من مضي هذه المدة.
3 - عدم قطعها قانونًا.
أما في الأحوال المذكورة بالمادة (209) مدني أهلي (273 مختلط، و2272 و2273) فلا يتم السقوط قانونًا إلا بعد تحليف المدعى عليه يمين الاستيثاق (مادة (212) أهلي و(276) مختلط، و(2275) فرنسي) أو ورثته أو الأوصياء ونحوهم على أنهم لا يعلمون بوجود الدين (مادة (213) أهلي، و(277) مختلط، و(2275) فرنسي).
ويجب على المحكمة أن تطلب من تلقاء نفسها اليمين من المدعى عليه في هذه الأحوال أو من ورثته أو الأوصياء ونحوها المسيو دوهلس سقوط الحق نبذة 202 وشرح القانون المدني للمرحوم أحمد باشا فتحي زغلول صحيفة 114 ويمين الاستيثاق هذه تختلف عن اليمين المنوه عنها في المادة (194) تجاري لأن المحاكم لا تحلف التاجر المدعى عليه من تلقاء نفسها بل لا بد من أن يطلب الدائن ذلك.
ثامنًا: مبدأ الـ 360 يومًا المذكور في المادتين (209) و(210) مدني هو:
1 - تاريخ استحقاق الدين فمثل إذا باشر المحامي عدة قضايا فيبتدئ سقوط الحق من انتهاء كل قضية على حدتها لذا تقول المادة (209) مدني (ولو استحقت ديون جديدة من قبيل ما ذكر في ظرف الـ 360 يومًا المذكورة).
2 - وأما بالنسبة للرسوم المستحقة لأقلام الكتاب المحضرين (مادة 210 مدني)، فإن السقوط يبتدئ:
أولاً: من تاريخ انتهاء المرافعة في الدعوى التي تحررت في شأنها الأوراق.
ثانيًا: من تاريخ تحرير هذه الأوراق إذا لم تحصل مرافعة في القضية.
أحمد منيب
المحامي
الخطوات الأولى في المحاماة
كتبهااحمد الجمل ، في 29 ديسمبر 2008 الساعة: 03:07 ص
مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة الحادية عشرة - مايو سنة 1931
الخطوات الأولى في المحاماة
المحاضرة
التي ألقاها حضرة صاحب السعادة محمد نجيب الغرابلي باشا نقيب المحامين في حفلة افتتاح المحاضرات السنوية للمحامين تحت التمرين بالقاعة الكبرى بمحكمة الاستئناف الأهلية
في يوم الخميس الموافق 9 إبريل سنة 1931 الساعة الرابعة ونصف مساءً
حضرات السادة،
باسم الله افتتح محاضراتنا في هذا العام لإخواننا المحامين تحت التمرين وأبدأ بشكركم على تفضلكم بتلبية دعوة النقابة إلى احتفالنا المتواضع كما أني أعرب لحضراتكم عن سروري وسرور زملائي بتشريفكم لهذا الاجتماع لأنه ليس أحب إلى نفوسنا من أن يجتمع خدام العدالة على هذا النحو البسيط الخالي من الكلفة والتعقيدات الرسمية ليهبوا شيئًا من ثمرة تجاربهم إلى إخوانهم الناشئين في المحاماة.
فالمحامي الذي يجتاز دور التمرين بحاجة إلى أن يستنير، ليس فقط بتجارب إخوانه الذين سبقوه في المحاماة، بل هو محتاج أيضًا إلى أن يسترشد بتجاريب إخوانه القضاة ورجال النيابة الذين وإن كانوا لا يمارسون مهنته إلا أنه تربطهم به رابطة الغرض المشترك وهو خدمة العدالة، هذا فضلاً عن أن من القضاة من كانوا محامين ومن المحامين من كانوا قضاة وهؤلاء وهؤلاء يستطيعون بفضل ما اكتسبوه من الخبرة والمران أن يسدوا إلى إخواننا المبتدئين خيرًا كثيرًا.
لذلك فإنه مما يزيد سروري وسرور حضرات زملائي أن نسمع في اجتماعاتنا الصغيرة هذه من وقت لآخر كلمة من رجال القضاء أو من رجال النيابة يدلون فيها بما يعن لهم من الأفكار لتوحيد جهود القضاء والنيابة والمحاماة.
كما أننا وقد اعتزمنا أن نقرن محاضراتنا بتمرينات عملية يقوم بها حضرات المحامين المبتدئين أنفسهم يتدربون فيها على تحرير الأحكام والقيام بوظيفة النيابة العمومية إلى جانب تمرنهم على الدفاع ليلمس المحامي بالفعل حاجة القضاء وحاجة النيابة وحاجة المحاماة إلى التعاون الوثيق في خدمة العدالة، نرجو أن لا يضن حضرات رجال القضاء والنيابة بأن يشاركوا حضرات المحامين في إبداء ما يعن لهم من الملاحظات على أعمال هذه المحاكم الإعدادية.
وهذه الطريقة قد سبقتنا إليها نقابة المحامين لدى المحاكم المختلطة فنحن إنما نحذو في ذلك حذو هؤلاء الزملاء المحترمين الذين سبقونا إلى هذا الإصلاح، ولعل نقابة المحامين لدى المحاكم الشرعية ترى من جانبها أيضًا الأخذ بهذه الطريقة فتكون النقابات الثلاث قد وحدت خطتها في إفادة حضرات المحامين تحت التمرين.
وظيفة المحاماة
حضرات الزملاء المحترمين،
إن المحاماة هي دفع الأذى، والإنسان مفطور بطبيعته على دفع الأذى عن نفسه، ولكنه قد يعجز عن ذلك لأسباب شتى، حينئذٍ تقضي المروءة على كل إنسان قادر أن يهب للدفاع عن ذلك العاجز فإذا قام شخص أو أشخاص بذلك الدفاع سقط هذا الفرض عن الباقين لأنه فرض كفاية.
ولما كان تزايد السكان واتساع العمران وكثرة المنشآت واختلاف صور المعاملات يقضي بتخصص بعض الرجال لدراسة الحقوق وطرق المطالبة بها والدفاع عنها كان طبيعًيا أن يلتجئ هؤلاء الضعفاء إلى من انقطعوا إلى دراسة الحقوق لأن نبل المرء ومروءته وشرف مقصده، كل ذلك لا يكفي لجعله مدافعًا حسن الدفاع بل لا بد من أن يكون ملمًا بالحقوق التي يريد أن ينتصر لها عالمًا بأساليب المطالبة بها أو الذود عنها.
فالباعث إذن على احتراف مهنة المحاماة هي نزعة شريفة إلى الدفاع عن المظلومين، وهذه النزعة الشريفة لا تؤتي ثمارها إلا بدراسة الحقوق وتطبيقها تطبيقًا صالحًا وكلا الأمرين لا غنى له عن الأخر، فدراسة الحقوق لا تؤهل الإنسان للمحاماة إذا كان مجردًا عن هذه النزعة الشريفة كما أن هذه النزعة الشريفة وحدها لا تجعل من الإنسان محاميًا إذا هو لم يدرس الحقوق علمًا وعملاً.
فالمحامي هو قبل كل شيء نصير المظلوم ثم هو بعد ذلك الرجل القانوني الذي يستطيع أن ينتصر لذلك المظلوم انتصارًا مفيدًا.
وعلى هذا الأساس يجب أن يفهم الناس وظيفة المحاماة فمن وجد في نفسه ميلاً فطريًا لنصرة المظلوم ومحاربة الباطل فليسلك سبيل المحاماة إذا أراد ومن لا يحس في نفسه بهذا الميل الغريزي فإني أنصحه أن يبتعد عن المحاماة وأن يشق له في الحياة طريقًا أخر.
وإني أوجه القول إلى أولئك الذين يحفزهم حب الكسب إلى الاشتغال بالمحاماة فأقول لهم إنه من الخطر على العدالة أن يكون غرض الإنسان من الاشتغال بالمحاماة مجرد الكسب، لأنه إذا أصبح هم المحامي الإثراء من هذه المهنة كان معنى ذلك أن المحاماة عنده وسيلة وأنتم تعلمون أيها السادة أن الوسيلة عرضة للتعديل والتحوير حتى تؤدي الغرض المقصود بالذات.
فالمحاماة إذن هي في أيدي طلاب المال عرضة للتعديل والتحوير بما يوافق هواهم ويحقق لهم مطامعهم المادية وقد تنتهي بهم الحال إلى أنك تنظر إلى المحاماة بين أيدي هؤلاء الطامعين فلا تكاد تعرفها لما طرأ عليها من التشويه بل إنها قد تنقلب في أيديهم إلى شيء آخر تنكره المحاماة نفسها هو تشجيع الظالمين وأكل أموال المظلومين.
ومتى كان جمع المال غاية فما أشقى المحاماة بهذه الغاية بل ما أشقى العدالة بمحاماة تكون وسيلة لجمع المال لأن كل وظيفة من وظائف العدالة تفسد وتنقلب إلى خطر محقق إذا كان صاحبها طالب عيش قبل كل شيء إذ أن الوظيفة تكون في هذه الحالة مسخرة لخدمة الشخص وليس الشخص هو المسخر لخدمة الوظيفة، فيا لها من جريمة شنيعة جريمة أولئك الذين يستخدمون وظائف العدل لإشباع بطونهم قبل أن يشبعوا العدالة نفسها.
فترة التمرين
ينظر بعض حضرات المحامين المبتدئين إلى فترة التمرين نظرة غير مستحبة مصحوبة بشيء غير قليل من الضجر وعدم الاصطبار، لأن حامل شهادة الحقوق المملوء حماسًا للمهنة يريد أن يبرز وحده لميدان العمل المستقل ويدلي من فوره بدلوه بين الدلاء ويضرب بسهم في هذا الميدان الشريف بلا مهل ويرى أن ارتباطه بمكتب محامٍ يتمرن فيه يفقده لذة الاستقلال بالعمل الذي تصبو إليه نفسه.
كما أن المحامين الذين ألجأتهم الظروف إلى الاشتغال بالمحاماة يستعجلون الوقت الذي تكون لهم فيه مكاتب مستقلة يجدون فيها موارد للكسب.
والواقع أن مدة التمرين متى أحسن استعمالها هي خير وبركة على المحامي المبتدئ فهي لا تحرمه من استقلاله بالعمل إلي حد ما لأنه يمكنه أن يترافع باسمه أمام المحاكم الجزئية وفي الوقت نفسه توفر له معينًا ومرشدًا في خطواته الأولى يأمن بجانبه العثار الخطر ويفتح عينيه على كثير من الحقائق العملية التي يحتاج إلى الإلمام بها قبل أن يتوسط ميدان العمل في المحاماة كما تجعله يتصل بأرباب القضايا اتصالاً نافعًا.
فمواظبته على العمل في المكتب الذي يتمرن فيه وعلى حضور جلسات المحاكم هي دراسة تطبيقية جليلة الفائدة.
والمحامي الذي يؤدي التمرين أداءً شكليًا يعرض نفسه لأذى كبير ويعمل على تأجيل إصلاح الخطأ الذي يتعرض له كل مبتدئ ثم تكون أخطاؤه بعد ذلك محسوبة عليه ولا يلبث أن يؤثر ذلك في عمله أدبيًا وماديًا وعندئذٍ يشعر بالندم ولكن بعد فوات الوقت على تفريطه في مدة التمرين.
وليس بعيب أن يخطئ المحامي المبتدئ لأن التعثر في الخطوات الأولى لا يدل على شيء من العجز بل هو طبيعي في كل بداية ولكن متى انقضت الفترة المعقولة لذلك فعندئذٍ يكون تعثره دليلاً في الغالب على نقص في استعداده ومن شأن ذلك أن يضعف الثقة به والثقة هي رأس مال المحامي.
فلنقبل إذًا على التمرن على أعمال المحاماة في المدة المقررة للتمرين بانشراح ولنفرح كلما عثرنا لأن هذا يدل على أننا نتقدم وأننا كنا بحاجة إلى هذا التمرين لنتحاشى مثل هذا العثار في المستقبل.
إتمام مدة التمرين - ابتداء المحامي في العمل
ولاشك أن من بين حضرات المحامين من أوشك أن يتم مدة التمرين وهؤلاء وقد أصبحوا على قيد خطوات من باب الخروج تتزاحم عليهم خواطر النفس: هل يقيمون في مصر أو في الإسكندرية أو في عاصمة أخرى من عواصم الأقاليم ؟
وكأني بمباهج العواصم تجذبهم إليها ليمتعوا أنفسهم بعد عناء الدرس وفترة التمرين بحياة ناعمة مرحة تجلو صدأ هذه السنين الطوال التي قضوها عاكفين على الدرس والتحصيل، وهم معذورون في هذا التفكير ألم يسهروا الليالي الطوال مدة الدراسة ويعانوا من مضض الامتحانات وغير الامتحانات ما يجعلهم بحاجة إلى نسمات هذه العواصم الكبيرة، أليسو بحاجة إلى أن يتنسموا نسيم السعادة قبل ضياع الفرصة وذبول العمر؟ لا شك أنهم معذورون.
ولكن هل صحيح أن هذا هو طريق السعادة التي يرجونها لأنفسهم، إني أشك في ذلك كثيرًا بل إذا كانت لاختباراتي الضئيلة قيمة فإنني أرى أن الغاية التي يسعون إليها لا يحققها أن يبدأوا عملهم في مصر ولا في الإسكندرية ولا في تلك العواصم الكبيرة التي ترنو إليها أبصارهم الآن فهناك المزاحمة شديدة والجو يكاد يختنق بأنفاس المحامين المقيمين في تلك العواصم وبسبب ذلك يحتاج المحامي المبتدئ إلى زمن أطول لإبراز مواهبه وسط هذا الضجيج.
وسيجد صعوبة في أن يشق له طريقًا وسط هؤلاء جميعًا بالسرعة التي يحلم بها وأخشى أن يؤثر ذلك في نفسيته فينقلب ساخطًا على المحاماة لأنه لم يجد قطوفها دانية بقدر ما كان يتصور وإذا سخط الإنسان على العمل فيالبؤسه وطول شقائه.
فكيفية الابتداء لها أثر كبير في سير العمل نفسه ولقد عرفت زملاء لي في الدراسة كان لهم من الاستعداد للمحاماة ما يغبطون عليه فلما ابتدأوا بداية غير موفقة لم ينجحوا في المحاماة واضطروا إلى أن يلوذوا بوظائف الحكومة بينما نجح غيرهم ممن أحسنوا الابتداء نجاحًا فوق المنتظر.
وكان السبب في عدم توفيق أولئك هو أنهم بدأوا العمل في العواصم الكبيرة فلم تتهيأ لهم الفرصة لإبراز مواهبهم فانطفأت في نفوسهم شعلة التحمس للمحاماة ثم لم يلبثوا أن انقلبوا ساخطين عليها وسعوا للتخلص منها.
اختيار محل الإقامة
وأحسن بداية في رأيي يبدأ المحامي بها عمله بعد إتمام مدة التمرين هي أن يتخذ محل إقامته في محل محكمة جزئية فلن يجد هناك سوى عدد قليل من المحامين المقيمين فعلاً ولا يخفى أن أرباب القضايا يفرحون بالمحامى المقيم ويفضلونه على غيره ممن لا يرون وجوههم إلا يوم الجلسة ولا يجدون الوقت الكافي لبسط معلوماتهم إليهم بسطًا شافيًا.
والمحامي المقيم في مقر المحكمة هو كالطبيب المقيم في المستشفى فمكتب المحامي يعالج الحقوق كما أن المستشفى يعالج الأمراض ومتى كان المحامي مقيمًا سهل اتصال أرباب القضايا به واستفتاؤهم له في شؤونهم القضائية، وبهذا الاتصال الجدي المباشر في العمل يلمسون ما يكون في المحامي من المزايا وحينئذٍ تؤتي هذه المزايا ثمارها الطيبة المباركة بدون توانٍ ثم تأخذ في النمو والزيادة شيئًا فشيئًا كلما طالت مدة إقامته، وبذلك يشعر المحامي بلذة الثقة ولذة العمل ولذة الكسب.
وليست هذه كل مزايا هذا الابتداء بل إن له مزايا مهمة أخرى:
أولا:ً رخص تكاليف الحياة عنها في العواصم الكبيرة وسهولة إيجاد الموازنة بين إيرادات المحامي المبتدئ ومصروفاته.
ثانيًا: المركز الأدبي الممتاز الذي يشعر به المحامي في الجهة التي يقيم فيها.
ثالثًا: ما يستفيده أهل البلد الذي يقيم فيه المحامي من اشتراكه في رفع مستوى الوسط الذي يعيش فيه باعتباره رجلاً مهذبا مثقفًا.
رابعًا: إشعار الناس بحقيقة المحاماة والفرق بينها وبين تلك الصناعة الزائفة التي تنكرها المحاماة.
ولا يتسرب إلى الذهن أنني أشير على المحامين المبتدئين بأن يجعلوا محل إقامتهم في الجزئيات باستمرار، كلا بل هذه هي الخطوة الأولى فإذا ما شعر المحامي من نفسه القدرة على أن يخطو خطوة أوسع فيكون قد مهد لها بهذه الخطوة الأولى حتى لا تزل قدمه في الخطوة الثانية، بل إنه قد يكون لمصلحته ولمصلحة المهنة أن يخطو عندئذٍ هذه الخطوة الثانية وينقل مكتبه إلى مقر محكمة كلية ليخلو مكانه إلى مبتدئ آخر وليضم كفاءته إلى الكفاءات الأخرى بعد أن يكون قادرًا على المزاحمة الشريفة التي هي في مصلحة العدالة تلك المزاحمة التي تقتصر على العمل الصالح المنتج حتى إذا رسخت قدمه في المحاماة نهائيًا أمكنه متى أراد أن يقيم في البلد الذي يحبه فقد ينتهي به المطاف إلى القاهرة ولكنه يضع قدمه فيها حينئذٍ وهو مستعد للكفاح ومنازلة الأقران من كبار المحامين في ميدان الخدمة السامية للعدالة المقدسة من دون أن تضايقه مطالب الحياة.
وهكذا يمكن لمن يبتدئ عمله أمام محكمة جزئية أن ينتهي بالإقامة في القاهرة إن شاء وأن يتمتع بمباهج العاصمة وأوساطها الراقية كما يريد وهو قادر على ذلك مالك لناصية العمل، هذا إذا لم تزهده لذة العمل ولذة الكسب في تغيير الإقامة.
ولا شك أن ذلك أفضل من أن يبتدئ في العاصمة مثلاً ثم تلجئه الحال بعد ذلك إلى أن يقيم في مقر إحدى الجزئيات ساخطًا متبرمًا.
اختيار الكتبة
ويأتي بعد اختيار محل الإقامة اختيار الكتبة.
سيجد المحامون الذين ينزلون إلى مقر الجزئيات فوجًا من الكتبة يتزاحمون عليهم للاشتغال معهم لأن هؤلاء الكتبة يفضلون المحامي المقيم على سواه إذ أنهم أدركوا بالاختبار أن مكتب المحامي المقيم يكون أكثر احترامًا وأكثر دخلاً وبالتالي أقدر على دفع المرتبات الطيبة للمستخدمين فليفتح المحامي عينيه جيدًا عند اختيار كتبته، وليقع اختياره على المعروفين بالأمانة والكفاءة منهم لأن أرباب القضايا يجب أن يشعروا بأن مستنداتهم وأسرارهم ليست عرضة للتلاعب والإفشاء بفعل كاتب مشكوك في أمانته، ولن تفيد أمانة المحامي إذا كان الكاتب موضع ريبة في نفس أرباب القضايا.
السلوك الشخصي وأثره في النجاح
ومتى أحسن المحامي الانتفاع بمدة التمرين ووفق إلى اختيار محل الإقامة الملائم واستخدم في مكتبه عمالاً أمناء لم يبقَ عليه إلا أن يسير على بركة الله في عمله بخطى متئدة مطمئنة وهو مملوء ثقةً بالمستقبل.
ولما كان رأس مال المحامي كما قدمنا هو الثقة فإن لسلوكه الشخصي تأثير كبير على عمله ومن الفضول أن نبين لحضراتكم أن المحامي هو أولى الناس بالتحلي بمكارم الأخلاق فإذا كان التحلي بمكارم الأخلاق واجب على كل إنسان فهو على المحامي أوجب وله ألزم.
رأيت بعض المحامين افتتحوا عملهم بضجة هائلة واشتغلوا وكسبوا ثم لم يلبثوا أن عرفوا فتركوا واندثروا،
ورأيت محامين افتتحوا عملهم برزانة وسكون ثم لم يلبثوا أن عرفوا ففازوا وأكرموا وكان العامل المهم في الحالين هو السلوك الشخصي.
وهكذا الكفاءات تطغى عليها الأخلاق السيئة فتقتلها أو تشرق عليها الأخلاق المرضية فتكسبها لألأ وسناءً.
فعلينا إذًا أن نتواصى بمكارم الأخلاق لنكون محامين صالحين جديرين بشرف مهنتنا فلا نشوه كفاءاتنا ولا نزعزع الثقة بنا فيضيع مستقبلنا،
ولا تقتل كرامة المحامي مثل الإعلان عن نفسه فإنه استجداء للثقة وعنوان على العجز، والثقة تُمنح لا تُطلب والعمل الطيب يفوح شذاه ويتضوع عبيره، والمحاماة نجدة دفاع لا سلعة تُعرض في الأسواق لتباع.
قبول المحامي للقضايا
ومن أكبر الكبائر في المحاماة أن يقبل المحامي القضية عن يد وسيط يشترك معه في قليل أو كثير من أتعابه وعلى من ابتُلي بهذا الداء أن يتصور أنه يعيش على السمسرة لا على الثقة وأنه يعمل في كنف السماسرة لا في ظل المحاماة.
فإذا سعى صاحب القضية إلى المحامي فليفسح له صدره لسماع أقواله بغير ملل ولا ضجر وقد يرافق صاحب القضية أحيانًا قريبه أو صديقه ليقوم مقامه في إبداء معلوماته للمحامي فيجب على المحامي أن يترك صاحب القضية نفسه يتكلم ليرسل الكلام على سجيته بدون تصنع ومن غير لف ولا دوران فإن ذلك أدنى أن لا يغش المحامي في تقدير مركز طالب التوكيل وليُعنَ عناية تامة بالوقوف منه على الوقائع الصحيحة للدعوى وليكن في ذلك مدققًا كل التدقيق لأن الوقوف على الوقائع الصحيحة يمكنه من إعطاء الرأي الصحيح.
فإن تبين أن صاحب القضية ليس على حق فيما يدعيه فعليه أن يصارحه بذلك مبينًا له وجه الضرر من استرساله في الخصومة وما يجره عليه ذلك من خسارة الدعوى وخسارة المال ومرارة الحكم ومشونة الباطل.
فإذا فاز بإقناع المبطل بالارتداد عن باطله فقد غنم:
أولاً: راحة ضميره لأنه أنهى خصومة بين طرفين،
وغنم ثانيًا: ثقة صاحب القضية الذي اقتنع ببطلان خصومته فارتد وهو يحمد الله على توفير الكرامة والمال،
وغنم ثالثًا: حسن الأحدوثة حين يعرف الناس له ذلك وأنه طالب الحق لا طالب مادة، ورب قضية رفض المحامي قبولها كانت سببًا في عدة قضايا يسند إليه فيما بعد مباشرتها،
فليتدبر ذلك حضرات المحامين المبتدئين وليعلموا أنهم لن يخسروا أتعاب القضية التي يرفضون قبولها بحق وأنهم بالعكس سيكسبون بهذا الرفض النزيه أضعافه.
وقد تكون قيمة الدعوى مغرية وقد تكون أتعابها إذا قبلها المحامي ضخمة وقد يكون المحامي حين يرفضها في ضيق من المال لظرف من الظروف، فليحذر المحامي أن يكون لهذه الأمور تأثير على رأيه لأنه إذا قبل قضية خاسرة تحت تأثير هذه الاعتبارات فهو إذًا مخادع.
إن كثيرًا من المنازعات يمكن تسويتها صلحًا بين المتخاصمين غير أن العناد أو الطمع قد يحمل أحد الطرفين على الالتجاء إلى المحاكم فإذا ما أيقن هذا المعاند أو هذا الطامع بأنه لن يبوء من القضية إلا بالفشل وأنه سيخسر الدعوى ويخسر إلى جانبها الأتعاب التي يدفعها للمحامي ومصاريف الدعوى وأتعاب محامي الخصم التي تقدرها المحكمة وأنه فوق ذلك سيخسر الصلح المعروض عليه أو الذي يمكنه الحصول عليه وديًا فقد يعيده ذلك إلى صوابه ويسعى إلى التفاهم مع خصمه بطريقة ودية ويكون الفضل في ذلك للمحامي الشريف الذي أخلص النصيحة وحسم الشر ووفر على المتقاضين الإنفاق على الخصومة والاسترسال في المنازعات.
فعلى المحامين أن يكونوا في هذه الحالة مصابيح للتنبيه إلى الخطر لا مزالق لسقوط الموكلين في الهاوية، أما إذا اطمأن المحامي إلى أن صاحب القضية على حق فليأخذ بيده في ضوء الحقيقة إلى ساحة العدل وليقف بجانبه منتصرًا لحقه مناضلاً عنه بكل مقدرته، بذلك يكون العمل شريفًا لذيذًا مباركًا.
أتعاب المحامي
وليكن مقابل أتعاب المحامي هو آخر ما يفكر فيه بعد تفهم وقائع الدعوى من موكله واستقرار رأيه على قبول التوكيل عندئذٍ يكون في مركز يسمح له أن يحدد مقابل أتعابه مراعيًا مقدار المجهودات التي يبذلها وقيمة الدعوى وحال الموكل.
وليجتنب المحامي المبالغة في تقدير أجره ولتكن هناك موازنة عادلة بينما يعطي وبينما يأخذ فكل ما يأخذه المحامي من الأتعاب زائدًا عن قيمة المجهودات التي يبذلها لا يكون إلا عن وهم أو تبرعًا من الموكل ومحرم على المحامي أن يستفيد من طريق الوهم كما أن كرامته تأبى عليه أن يأكل من تبرعات الناس وتقضي عليه أن يكون في مركز المتكرم المتفضل.
فإذا ساغ للموكل أن يطمع في مجهودات المحامي فلا يسوغ للمحامي أن يطمع في مال الموكل وليعتبر المحامي مقدم الأتعاب وديعة في ذمته للموكل لا يستحله إلا بالعمل فلا يكون مثله مثل الذين يفقدون شهية العمل بعد أن يذوقوا لذة القبض والمحامون جميعًا هم وكلاء عن صاحب كل حق معسر لا يجد ما ينفقه في أتعاب المحاماة فليجد الفقراء في مكاتب المحامين مكانًا يسع المطالبة لهم بحقهم من غير مقابل، وليجعلوا ذلك زكاةً عن عملهم وتطهيرًا لما قد يرتكبونه من الخطأ غير عامدين أثناء قيامهم بواجباتهم.
ومن حق المحامي بل من واجبه ألا يقبل جزاءً على أتعابه يجرح عزة المحاماة،
أما أولئك الذين يقبلون أتعابًا تزري بكرامتهم وكرامة مهنتهم فإنهم يجنون على أنفسهم وعلى زملائهم معًا.
دراسة القضايا
وعلى المحامي متى قبل القضية أن يبدأ فورًا بتحضيرها في مكتبه فيدون وقائعها ويرسم خطة الدفاع فيها ويستوفي المستندات التي تؤيد هذا الدفاع ويشرع في البحوث القانونية التي تساعده على تدعيم مركزه في الخصومة إن اقتضى الحال ذلك.
وليعلم أن أوقاته قد تعلق بها حق موكليه جميعًا فإذا كانت القضايا الموجودة بمكتبه كافية لأن تشغل جميع أوقاته فلا يسوغ له بحال أن يقبل قضايا جديدة لا يتسع لها وقته لأنه إما أن يهملها وإما أن يأخذ لها من الوقت اللازم للعناية بالقضايا التي ارتبط بها فعلاً قبل ذلك وفي كلا الأمرين إخلال بواجبه نحو موكليه.
وليس المحامي البارع هو الذي يزدحم مكتبه بملفات القضايا بل إن المحامي البارع هو الذي لا يوجد في مكتبه سوى قضايا محضرة ومعنيًا بها.
وليفسح المحامي صدره لصاحب القضية كلما أراد أن يدلي إليه بشيء جديد في الدعوى لأنه صاحب حاجة ولرب كلمة يقولها أو واقعة يسردها تفيد المحامي في دفاعه فائدة غير منتظرة وليجعل المحامي اتصال الموكل به شخصيًا في كل ما يتعلق بموضوع الدعوى فلا يكله في شيء من ذلك إلى الكاتب لأن الكاتب لا يمكنه أن يستقصي الوقائع بالدقة الواجبة كما يفعل المحامي ولا يستطيع تقدير هذه الوقائع وتأثيرها في سير الدعوى كما تعود المحامي، مع مراعاة أن يكون عادلاً في توزيع أوقاته على موكليه بدون تفريط ولا إفراط.
وينبغي للمحامي أن يعمل على كسب ثقة المحكمة فلا يترافع في قضية إلا بعد أن يلم بموضوعها تمام الإلمام وبعد أن يستجمع نقط الدفاع فيها ويركزها تركيزًا يصون مرافعته عن الشطط والحشو والتكرار وأن يعبر عن أفكاره بعبارة بسيطة واضحة دقيقة منزهًا آراءه عن سماجة المكابرة ومنزهًا لسانه عن لوثة المهاترة، مراعيًا حرمة القضاء وكرامة المحاماة.
وعليه أن يكون للقاضي مساعدًا ومعينًا على إنجاز العمل وتعرف وجه الحق وإصدار حكمه بالعدل وأن يشعره بالفعل أنه ينتصر للمظلوم ويعمل لاستخلاص حق مهضوم فإن ذلك أدنى إلى استرعاء سمع المحكمة واهتمامها بأقواله واحترامها لآرائه مهما كان رأيها مخالفًا.
وليس كسب ثقة المحكمة بأن يتساهل المحامي في التمسك بحقه وحق موكله بل إن هذا التمسك واجب لا محيص له عنه، فالمحامى الذي يعتذر بأن المحكمة لم تثبت أقواله في محضر الجلسة مثلاً مسؤول عن هذا الإغفال إذ هو لم يلح الإلحاح كله في تدوين أقواله بمحضر الجلسة لأن واجب الكاتب أن يثبت أقوال الخصوم خصوصًا ما يرون أنه من أسس دفاعهم وعلى المحامي أن يثبت من تدوين كل ما يعتبره أساسيًا في دفاعه وليوجه المحامي خطابه في ذلك أولاً إلى القاضي باعتباره المدير للجلسة فإن عارض القاضي فليوجه خطابه للكاتب باعتباره مسؤولاً عن تحرير محضر الجلسة وعليه أن يلح في ذلك بكل أنواع الإلحاح فإذا أصر الكاتب على عدم إثبات ما يطلبه المحامي بادر المحامي فورًا بتقديم طلبه هذا كتابةً أو علانيةً إلى كاتب الجلسة ثم يرفع شكواه بعد ذلك إلى جهة الاختصاص وليكن رد المحامي على الخصم زعزعةً لا جعجعةً، وإفحامًا لا التحامًا، وإقناعًا لا صراعًا.
وليجتنب التأجيلات التي لا مبرر لها والطلبات الشكلية والدفوع الفرعية التي لا تدينه من الحق ولا تحميه من الباطل فإن ذلك مضيعة للوقت وإملال للعدل وإطالة للخصومة وتعطيل لسير العدالة.
كذلك يجب ألا يفوت المحامي أن محكمة النقض هي محكمة قانون لا محكمة موضوع وأن المبادئ الهامة التي تقررها هذه المحكمة العليا أولى بأن تشغل جميع أوقاتها بدلاً من تبديد مجهوداتها في بحث أوجه غير جدية.
المحامي وزملاؤه
وليحافظ المحامي على كرامة زملائه وليتجنب تحميلهم المغارم بحجة الغيرة على حقوق موكليه فلا يطلب إبطال المرافعة مثلاً في قضية يعلم أن الخصم وكل فيها محاميًا لأن الغائب في هذه الحالة هو المحامي للخصم وليس من حق المحامي الحاضر أن يتولى بنفسه تأديب زميله الغائب بتعريضه لخسارة ربما كانت فادحة لا تحتملها كل ثروته في حين لا يخسر الخصم شيئًا متى كان المحامي مليئًا مع أن هناك طريق خاص لتأديب المحامي بسبب إهماله.
ويعمل المحامي أيضًا على كسب ثقة زملائه بأن يحسن الاستماع إليهم وينزه لسانه عن العيب فيهم أو استفزازهم وليعلم أن كرامته من كرامتهم وعزته من عزتهم.
وليترفع المحامون من تلقاء أنفسهم عن مخالفة واجباتهم سرًا وعلانية فإن ذلك أولى بهم وأليق بكرامتهم.
المكاتب الفرعية
وإذا قضيتم مدة التمرين فإياكم والمكاتب الفرعية فإنها تعرض عملكم للفساد وتعرض عيشتكم للكساد لأنها تدار بمعرفة كتبة يقبلون فيها قضايا لم تسمعوا أربابها ولم تعرفوا قبل الارتباط بها حلالها من حرامها.
إياكم وهذه الحوانيت فإنها مقابر المحامين وبلاء المتقاضين تُنتهك في كثير منها حرمات الحق وتُدبر المؤامرات على العدل لأنها ليست تحت إشراف المحامين الفعلي ليصونوها عن هذه المفاسد ويحاربوا فيها وقوع هذه الجرائم.
ولها فوق ذلك أسوأ الأثر في تقدير أتعاب المحامين حتى ضج أكثر المحامين بالشكوى منها وتحمسوا لإعلان الحرب عليها وهي نتيجة طبيعية لشعورهم بكرامتهم واهتمامهم لوضع حد لهذا الاعتداء الصارخ على شرف مهنتهم.
ولي وطيد الأمل في أن يتعاون حضرات المحامين مع نقابتهم على استئصال هذا الداء وتطهير جو المحاماة من هذا الوباء وأنه لا تمضي مدة طويلة حتى تكون جميع المكاتب سعيدة باستقرار حضرات المحامين فيها حتى إذا ما سعى إليها أرباب القضايا وجدوا أمامهم الهداة المرشدين وخدام العدالة الصادقين.
ولا شك عندي في أن ذلك من شأنه أن يوزع العمل على مكاتب المحامين توزيعًا طبيعيًا عادلاً في مصلحة العدالة وفي مصلحة أرباب القضايا وفي مصلحة المحامين أنفسهم فتتخلص العدالة من المنتجات الرديئة التي تنتجها المكاتب الفرعية ويتصل أرباب القضايا بالمحامين رأسًا في كل ما يتعلق بالعمل الفني الذي يهمهم ويرتفع مقابل أتعاب المحامي إلى الحد الذي يكافئ مجهوده ويليق به.
فمتى تعاون حضرات زملائي المحامين على تنفيذ هذه الخطة في وقت واحد جاءت النتيجة وفق مصلحتهم جميعًا.
هذه أيها السادة هي الكلمات التي رأيت أن أدلي بها الآن لإخواني المحامين المبتدئين متمنيًا لهم كل التوفيق راجيًا لهم من الله سبحانه وتعالى كل سعادة.
وإني أكرر لحضراتكم شكر زملائي وشكري ولا يسعني إلا أن أختتم محاضرتي بتلك الكلمات الخالدة التي قالها أبو المحامين:
(يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل وأن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون).
كتبهااحمد الجمل ، في 29 ديسمبر 2008 الساعة: 03:07 ص
مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة الحادية عشرة - مايو سنة 1931
الخطوات الأولى في المحاماة
المحاضرة
التي ألقاها حضرة صاحب السعادة محمد نجيب الغرابلي باشا نقيب المحامين في حفلة افتتاح المحاضرات السنوية للمحامين تحت التمرين بالقاعة الكبرى بمحكمة الاستئناف الأهلية
في يوم الخميس الموافق 9 إبريل سنة 1931 الساعة الرابعة ونصف مساءً
حضرات السادة،
باسم الله افتتح محاضراتنا في هذا العام لإخواننا المحامين تحت التمرين وأبدأ بشكركم على تفضلكم بتلبية دعوة النقابة إلى احتفالنا المتواضع كما أني أعرب لحضراتكم عن سروري وسرور زملائي بتشريفكم لهذا الاجتماع لأنه ليس أحب إلى نفوسنا من أن يجتمع خدام العدالة على هذا النحو البسيط الخالي من الكلفة والتعقيدات الرسمية ليهبوا شيئًا من ثمرة تجاربهم إلى إخوانهم الناشئين في المحاماة.
فالمحامي الذي يجتاز دور التمرين بحاجة إلى أن يستنير، ليس فقط بتجارب إخوانه الذين سبقوه في المحاماة، بل هو محتاج أيضًا إلى أن يسترشد بتجاريب إخوانه القضاة ورجال النيابة الذين وإن كانوا لا يمارسون مهنته إلا أنه تربطهم به رابطة الغرض المشترك وهو خدمة العدالة، هذا فضلاً عن أن من القضاة من كانوا محامين ومن المحامين من كانوا قضاة وهؤلاء وهؤلاء يستطيعون بفضل ما اكتسبوه من الخبرة والمران أن يسدوا إلى إخواننا المبتدئين خيرًا كثيرًا.
لذلك فإنه مما يزيد سروري وسرور حضرات زملائي أن نسمع في اجتماعاتنا الصغيرة هذه من وقت لآخر كلمة من رجال القضاء أو من رجال النيابة يدلون فيها بما يعن لهم من الأفكار لتوحيد جهود القضاء والنيابة والمحاماة.
كما أننا وقد اعتزمنا أن نقرن محاضراتنا بتمرينات عملية يقوم بها حضرات المحامين المبتدئين أنفسهم يتدربون فيها على تحرير الأحكام والقيام بوظيفة النيابة العمومية إلى جانب تمرنهم على الدفاع ليلمس المحامي بالفعل حاجة القضاء وحاجة النيابة وحاجة المحاماة إلى التعاون الوثيق في خدمة العدالة، نرجو أن لا يضن حضرات رجال القضاء والنيابة بأن يشاركوا حضرات المحامين في إبداء ما يعن لهم من الملاحظات على أعمال هذه المحاكم الإعدادية.
وهذه الطريقة قد سبقتنا إليها نقابة المحامين لدى المحاكم المختلطة فنحن إنما نحذو في ذلك حذو هؤلاء الزملاء المحترمين الذين سبقونا إلى هذا الإصلاح، ولعل نقابة المحامين لدى المحاكم الشرعية ترى من جانبها أيضًا الأخذ بهذه الطريقة فتكون النقابات الثلاث قد وحدت خطتها في إفادة حضرات المحامين تحت التمرين.
وظيفة المحاماة
حضرات الزملاء المحترمين،
إن المحاماة هي دفع الأذى، والإنسان مفطور بطبيعته على دفع الأذى عن نفسه، ولكنه قد يعجز عن ذلك لأسباب شتى، حينئذٍ تقضي المروءة على كل إنسان قادر أن يهب للدفاع عن ذلك العاجز فإذا قام شخص أو أشخاص بذلك الدفاع سقط هذا الفرض عن الباقين لأنه فرض كفاية.
ولما كان تزايد السكان واتساع العمران وكثرة المنشآت واختلاف صور المعاملات يقضي بتخصص بعض الرجال لدراسة الحقوق وطرق المطالبة بها والدفاع عنها كان طبيعًيا أن يلتجئ هؤلاء الضعفاء إلى من انقطعوا إلى دراسة الحقوق لأن نبل المرء ومروءته وشرف مقصده، كل ذلك لا يكفي لجعله مدافعًا حسن الدفاع بل لا بد من أن يكون ملمًا بالحقوق التي يريد أن ينتصر لها عالمًا بأساليب المطالبة بها أو الذود عنها.
فالباعث إذن على احتراف مهنة المحاماة هي نزعة شريفة إلى الدفاع عن المظلومين، وهذه النزعة الشريفة لا تؤتي ثمارها إلا بدراسة الحقوق وتطبيقها تطبيقًا صالحًا وكلا الأمرين لا غنى له عن الأخر، فدراسة الحقوق لا تؤهل الإنسان للمحاماة إذا كان مجردًا عن هذه النزعة الشريفة كما أن هذه النزعة الشريفة وحدها لا تجعل من الإنسان محاميًا إذا هو لم يدرس الحقوق علمًا وعملاً.
فالمحامي هو قبل كل شيء نصير المظلوم ثم هو بعد ذلك الرجل القانوني الذي يستطيع أن ينتصر لذلك المظلوم انتصارًا مفيدًا.
وعلى هذا الأساس يجب أن يفهم الناس وظيفة المحاماة فمن وجد في نفسه ميلاً فطريًا لنصرة المظلوم ومحاربة الباطل فليسلك سبيل المحاماة إذا أراد ومن لا يحس في نفسه بهذا الميل الغريزي فإني أنصحه أن يبتعد عن المحاماة وأن يشق له في الحياة طريقًا أخر.
وإني أوجه القول إلى أولئك الذين يحفزهم حب الكسب إلى الاشتغال بالمحاماة فأقول لهم إنه من الخطر على العدالة أن يكون غرض الإنسان من الاشتغال بالمحاماة مجرد الكسب، لأنه إذا أصبح هم المحامي الإثراء من هذه المهنة كان معنى ذلك أن المحاماة عنده وسيلة وأنتم تعلمون أيها السادة أن الوسيلة عرضة للتعديل والتحوير حتى تؤدي الغرض المقصود بالذات.
فالمحاماة إذن هي في أيدي طلاب المال عرضة للتعديل والتحوير بما يوافق هواهم ويحقق لهم مطامعهم المادية وقد تنتهي بهم الحال إلى أنك تنظر إلى المحاماة بين أيدي هؤلاء الطامعين فلا تكاد تعرفها لما طرأ عليها من التشويه بل إنها قد تنقلب في أيديهم إلى شيء آخر تنكره المحاماة نفسها هو تشجيع الظالمين وأكل أموال المظلومين.
ومتى كان جمع المال غاية فما أشقى المحاماة بهذه الغاية بل ما أشقى العدالة بمحاماة تكون وسيلة لجمع المال لأن كل وظيفة من وظائف العدالة تفسد وتنقلب إلى خطر محقق إذا كان صاحبها طالب عيش قبل كل شيء إذ أن الوظيفة تكون في هذه الحالة مسخرة لخدمة الشخص وليس الشخص هو المسخر لخدمة الوظيفة، فيا لها من جريمة شنيعة جريمة أولئك الذين يستخدمون وظائف العدل لإشباع بطونهم قبل أن يشبعوا العدالة نفسها.
فترة التمرين
ينظر بعض حضرات المحامين المبتدئين إلى فترة التمرين نظرة غير مستحبة مصحوبة بشيء غير قليل من الضجر وعدم الاصطبار، لأن حامل شهادة الحقوق المملوء حماسًا للمهنة يريد أن يبرز وحده لميدان العمل المستقل ويدلي من فوره بدلوه بين الدلاء ويضرب بسهم في هذا الميدان الشريف بلا مهل ويرى أن ارتباطه بمكتب محامٍ يتمرن فيه يفقده لذة الاستقلال بالعمل الذي تصبو إليه نفسه.
كما أن المحامين الذين ألجأتهم الظروف إلى الاشتغال بالمحاماة يستعجلون الوقت الذي تكون لهم فيه مكاتب مستقلة يجدون فيها موارد للكسب.
والواقع أن مدة التمرين متى أحسن استعمالها هي خير وبركة على المحامي المبتدئ فهي لا تحرمه من استقلاله بالعمل إلي حد ما لأنه يمكنه أن يترافع باسمه أمام المحاكم الجزئية وفي الوقت نفسه توفر له معينًا ومرشدًا في خطواته الأولى يأمن بجانبه العثار الخطر ويفتح عينيه على كثير من الحقائق العملية التي يحتاج إلى الإلمام بها قبل أن يتوسط ميدان العمل في المحاماة كما تجعله يتصل بأرباب القضايا اتصالاً نافعًا.
فمواظبته على العمل في المكتب الذي يتمرن فيه وعلى حضور جلسات المحاكم هي دراسة تطبيقية جليلة الفائدة.
والمحامي الذي يؤدي التمرين أداءً شكليًا يعرض نفسه لأذى كبير ويعمل على تأجيل إصلاح الخطأ الذي يتعرض له كل مبتدئ ثم تكون أخطاؤه بعد ذلك محسوبة عليه ولا يلبث أن يؤثر ذلك في عمله أدبيًا وماديًا وعندئذٍ يشعر بالندم ولكن بعد فوات الوقت على تفريطه في مدة التمرين.
وليس بعيب أن يخطئ المحامي المبتدئ لأن التعثر في الخطوات الأولى لا يدل على شيء من العجز بل هو طبيعي في كل بداية ولكن متى انقضت الفترة المعقولة لذلك فعندئذٍ يكون تعثره دليلاً في الغالب على نقص في استعداده ومن شأن ذلك أن يضعف الثقة به والثقة هي رأس مال المحامي.
فلنقبل إذًا على التمرن على أعمال المحاماة في المدة المقررة للتمرين بانشراح ولنفرح كلما عثرنا لأن هذا يدل على أننا نتقدم وأننا كنا بحاجة إلى هذا التمرين لنتحاشى مثل هذا العثار في المستقبل.
إتمام مدة التمرين - ابتداء المحامي في العمل
ولاشك أن من بين حضرات المحامين من أوشك أن يتم مدة التمرين وهؤلاء وقد أصبحوا على قيد خطوات من باب الخروج تتزاحم عليهم خواطر النفس: هل يقيمون في مصر أو في الإسكندرية أو في عاصمة أخرى من عواصم الأقاليم ؟
وكأني بمباهج العواصم تجذبهم إليها ليمتعوا أنفسهم بعد عناء الدرس وفترة التمرين بحياة ناعمة مرحة تجلو صدأ هذه السنين الطوال التي قضوها عاكفين على الدرس والتحصيل، وهم معذورون في هذا التفكير ألم يسهروا الليالي الطوال مدة الدراسة ويعانوا من مضض الامتحانات وغير الامتحانات ما يجعلهم بحاجة إلى نسمات هذه العواصم الكبيرة، أليسو بحاجة إلى أن يتنسموا نسيم السعادة قبل ضياع الفرصة وذبول العمر؟ لا شك أنهم معذورون.
ولكن هل صحيح أن هذا هو طريق السعادة التي يرجونها لأنفسهم، إني أشك في ذلك كثيرًا بل إذا كانت لاختباراتي الضئيلة قيمة فإنني أرى أن الغاية التي يسعون إليها لا يحققها أن يبدأوا عملهم في مصر ولا في الإسكندرية ولا في تلك العواصم الكبيرة التي ترنو إليها أبصارهم الآن فهناك المزاحمة شديدة والجو يكاد يختنق بأنفاس المحامين المقيمين في تلك العواصم وبسبب ذلك يحتاج المحامي المبتدئ إلى زمن أطول لإبراز مواهبه وسط هذا الضجيج.
وسيجد صعوبة في أن يشق له طريقًا وسط هؤلاء جميعًا بالسرعة التي يحلم بها وأخشى أن يؤثر ذلك في نفسيته فينقلب ساخطًا على المحاماة لأنه لم يجد قطوفها دانية بقدر ما كان يتصور وإذا سخط الإنسان على العمل فيالبؤسه وطول شقائه.
فكيفية الابتداء لها أثر كبير في سير العمل نفسه ولقد عرفت زملاء لي في الدراسة كان لهم من الاستعداد للمحاماة ما يغبطون عليه فلما ابتدأوا بداية غير موفقة لم ينجحوا في المحاماة واضطروا إلى أن يلوذوا بوظائف الحكومة بينما نجح غيرهم ممن أحسنوا الابتداء نجاحًا فوق المنتظر.
وكان السبب في عدم توفيق أولئك هو أنهم بدأوا العمل في العواصم الكبيرة فلم تتهيأ لهم الفرصة لإبراز مواهبهم فانطفأت في نفوسهم شعلة التحمس للمحاماة ثم لم يلبثوا أن انقلبوا ساخطين عليها وسعوا للتخلص منها.
اختيار محل الإقامة
وأحسن بداية في رأيي يبدأ المحامي بها عمله بعد إتمام مدة التمرين هي أن يتخذ محل إقامته في محل محكمة جزئية فلن يجد هناك سوى عدد قليل من المحامين المقيمين فعلاً ولا يخفى أن أرباب القضايا يفرحون بالمحامى المقيم ويفضلونه على غيره ممن لا يرون وجوههم إلا يوم الجلسة ولا يجدون الوقت الكافي لبسط معلوماتهم إليهم بسطًا شافيًا.
والمحامي المقيم في مقر المحكمة هو كالطبيب المقيم في المستشفى فمكتب المحامي يعالج الحقوق كما أن المستشفى يعالج الأمراض ومتى كان المحامي مقيمًا سهل اتصال أرباب القضايا به واستفتاؤهم له في شؤونهم القضائية، وبهذا الاتصال الجدي المباشر في العمل يلمسون ما يكون في المحامي من المزايا وحينئذٍ تؤتي هذه المزايا ثمارها الطيبة المباركة بدون توانٍ ثم تأخذ في النمو والزيادة شيئًا فشيئًا كلما طالت مدة إقامته، وبذلك يشعر المحامي بلذة الثقة ولذة العمل ولذة الكسب.
وليست هذه كل مزايا هذا الابتداء بل إن له مزايا مهمة أخرى:
أولا:ً رخص تكاليف الحياة عنها في العواصم الكبيرة وسهولة إيجاد الموازنة بين إيرادات المحامي المبتدئ ومصروفاته.
ثانيًا: المركز الأدبي الممتاز الذي يشعر به المحامي في الجهة التي يقيم فيها.
ثالثًا: ما يستفيده أهل البلد الذي يقيم فيه المحامي من اشتراكه في رفع مستوى الوسط الذي يعيش فيه باعتباره رجلاً مهذبا مثقفًا.
رابعًا: إشعار الناس بحقيقة المحاماة والفرق بينها وبين تلك الصناعة الزائفة التي تنكرها المحاماة.
ولا يتسرب إلى الذهن أنني أشير على المحامين المبتدئين بأن يجعلوا محل إقامتهم في الجزئيات باستمرار، كلا بل هذه هي الخطوة الأولى فإذا ما شعر المحامي من نفسه القدرة على أن يخطو خطوة أوسع فيكون قد مهد لها بهذه الخطوة الأولى حتى لا تزل قدمه في الخطوة الثانية، بل إنه قد يكون لمصلحته ولمصلحة المهنة أن يخطو عندئذٍ هذه الخطوة الثانية وينقل مكتبه إلى مقر محكمة كلية ليخلو مكانه إلى مبتدئ آخر وليضم كفاءته إلى الكفاءات الأخرى بعد أن يكون قادرًا على المزاحمة الشريفة التي هي في مصلحة العدالة تلك المزاحمة التي تقتصر على العمل الصالح المنتج حتى إذا رسخت قدمه في المحاماة نهائيًا أمكنه متى أراد أن يقيم في البلد الذي يحبه فقد ينتهي به المطاف إلى القاهرة ولكنه يضع قدمه فيها حينئذٍ وهو مستعد للكفاح ومنازلة الأقران من كبار المحامين في ميدان الخدمة السامية للعدالة المقدسة من دون أن تضايقه مطالب الحياة.
وهكذا يمكن لمن يبتدئ عمله أمام محكمة جزئية أن ينتهي بالإقامة في القاهرة إن شاء وأن يتمتع بمباهج العاصمة وأوساطها الراقية كما يريد وهو قادر على ذلك مالك لناصية العمل، هذا إذا لم تزهده لذة العمل ولذة الكسب في تغيير الإقامة.
ولا شك أن ذلك أفضل من أن يبتدئ في العاصمة مثلاً ثم تلجئه الحال بعد ذلك إلى أن يقيم في مقر إحدى الجزئيات ساخطًا متبرمًا.
اختيار الكتبة
ويأتي بعد اختيار محل الإقامة اختيار الكتبة.
سيجد المحامون الذين ينزلون إلى مقر الجزئيات فوجًا من الكتبة يتزاحمون عليهم للاشتغال معهم لأن هؤلاء الكتبة يفضلون المحامي المقيم على سواه إذ أنهم أدركوا بالاختبار أن مكتب المحامي المقيم يكون أكثر احترامًا وأكثر دخلاً وبالتالي أقدر على دفع المرتبات الطيبة للمستخدمين فليفتح المحامي عينيه جيدًا عند اختيار كتبته، وليقع اختياره على المعروفين بالأمانة والكفاءة منهم لأن أرباب القضايا يجب أن يشعروا بأن مستنداتهم وأسرارهم ليست عرضة للتلاعب والإفشاء بفعل كاتب مشكوك في أمانته، ولن تفيد أمانة المحامي إذا كان الكاتب موضع ريبة في نفس أرباب القضايا.
السلوك الشخصي وأثره في النجاح
ومتى أحسن المحامي الانتفاع بمدة التمرين ووفق إلى اختيار محل الإقامة الملائم واستخدم في مكتبه عمالاً أمناء لم يبقَ عليه إلا أن يسير على بركة الله في عمله بخطى متئدة مطمئنة وهو مملوء ثقةً بالمستقبل.
ولما كان رأس مال المحامي كما قدمنا هو الثقة فإن لسلوكه الشخصي تأثير كبير على عمله ومن الفضول أن نبين لحضراتكم أن المحامي هو أولى الناس بالتحلي بمكارم الأخلاق فإذا كان التحلي بمكارم الأخلاق واجب على كل إنسان فهو على المحامي أوجب وله ألزم.
رأيت بعض المحامين افتتحوا عملهم بضجة هائلة واشتغلوا وكسبوا ثم لم يلبثوا أن عرفوا فتركوا واندثروا،
ورأيت محامين افتتحوا عملهم برزانة وسكون ثم لم يلبثوا أن عرفوا ففازوا وأكرموا وكان العامل المهم في الحالين هو السلوك الشخصي.
وهكذا الكفاءات تطغى عليها الأخلاق السيئة فتقتلها أو تشرق عليها الأخلاق المرضية فتكسبها لألأ وسناءً.
فعلينا إذًا أن نتواصى بمكارم الأخلاق لنكون محامين صالحين جديرين بشرف مهنتنا فلا نشوه كفاءاتنا ولا نزعزع الثقة بنا فيضيع مستقبلنا،
ولا تقتل كرامة المحامي مثل الإعلان عن نفسه فإنه استجداء للثقة وعنوان على العجز، والثقة تُمنح لا تُطلب والعمل الطيب يفوح شذاه ويتضوع عبيره، والمحاماة نجدة دفاع لا سلعة تُعرض في الأسواق لتباع.
قبول المحامي للقضايا
ومن أكبر الكبائر في المحاماة أن يقبل المحامي القضية عن يد وسيط يشترك معه في قليل أو كثير من أتعابه وعلى من ابتُلي بهذا الداء أن يتصور أنه يعيش على السمسرة لا على الثقة وأنه يعمل في كنف السماسرة لا في ظل المحاماة.
فإذا سعى صاحب القضية إلى المحامي فليفسح له صدره لسماع أقواله بغير ملل ولا ضجر وقد يرافق صاحب القضية أحيانًا قريبه أو صديقه ليقوم مقامه في إبداء معلوماته للمحامي فيجب على المحامي أن يترك صاحب القضية نفسه يتكلم ليرسل الكلام على سجيته بدون تصنع ومن غير لف ولا دوران فإن ذلك أدنى أن لا يغش المحامي في تقدير مركز طالب التوكيل وليُعنَ عناية تامة بالوقوف منه على الوقائع الصحيحة للدعوى وليكن في ذلك مدققًا كل التدقيق لأن الوقوف على الوقائع الصحيحة يمكنه من إعطاء الرأي الصحيح.
فإن تبين أن صاحب القضية ليس على حق فيما يدعيه فعليه أن يصارحه بذلك مبينًا له وجه الضرر من استرساله في الخصومة وما يجره عليه ذلك من خسارة الدعوى وخسارة المال ومرارة الحكم ومشونة الباطل.
فإذا فاز بإقناع المبطل بالارتداد عن باطله فقد غنم:
أولاً: راحة ضميره لأنه أنهى خصومة بين طرفين،
وغنم ثانيًا: ثقة صاحب القضية الذي اقتنع ببطلان خصومته فارتد وهو يحمد الله على توفير الكرامة والمال،
وغنم ثالثًا: حسن الأحدوثة حين يعرف الناس له ذلك وأنه طالب الحق لا طالب مادة، ورب قضية رفض المحامي قبولها كانت سببًا في عدة قضايا يسند إليه فيما بعد مباشرتها،
فليتدبر ذلك حضرات المحامين المبتدئين وليعلموا أنهم لن يخسروا أتعاب القضية التي يرفضون قبولها بحق وأنهم بالعكس سيكسبون بهذا الرفض النزيه أضعافه.
وقد تكون قيمة الدعوى مغرية وقد تكون أتعابها إذا قبلها المحامي ضخمة وقد يكون المحامي حين يرفضها في ضيق من المال لظرف من الظروف، فليحذر المحامي أن يكون لهذه الأمور تأثير على رأيه لأنه إذا قبل قضية خاسرة تحت تأثير هذه الاعتبارات فهو إذًا مخادع.
إن كثيرًا من المنازعات يمكن تسويتها صلحًا بين المتخاصمين غير أن العناد أو الطمع قد يحمل أحد الطرفين على الالتجاء إلى المحاكم فإذا ما أيقن هذا المعاند أو هذا الطامع بأنه لن يبوء من القضية إلا بالفشل وأنه سيخسر الدعوى ويخسر إلى جانبها الأتعاب التي يدفعها للمحامي ومصاريف الدعوى وأتعاب محامي الخصم التي تقدرها المحكمة وأنه فوق ذلك سيخسر الصلح المعروض عليه أو الذي يمكنه الحصول عليه وديًا فقد يعيده ذلك إلى صوابه ويسعى إلى التفاهم مع خصمه بطريقة ودية ويكون الفضل في ذلك للمحامي الشريف الذي أخلص النصيحة وحسم الشر ووفر على المتقاضين الإنفاق على الخصومة والاسترسال في المنازعات.
فعلى المحامين أن يكونوا في هذه الحالة مصابيح للتنبيه إلى الخطر لا مزالق لسقوط الموكلين في الهاوية، أما إذا اطمأن المحامي إلى أن صاحب القضية على حق فليأخذ بيده في ضوء الحقيقة إلى ساحة العدل وليقف بجانبه منتصرًا لحقه مناضلاً عنه بكل مقدرته، بذلك يكون العمل شريفًا لذيذًا مباركًا.
أتعاب المحامي
وليكن مقابل أتعاب المحامي هو آخر ما يفكر فيه بعد تفهم وقائع الدعوى من موكله واستقرار رأيه على قبول التوكيل عندئذٍ يكون في مركز يسمح له أن يحدد مقابل أتعابه مراعيًا مقدار المجهودات التي يبذلها وقيمة الدعوى وحال الموكل.
وليجتنب المحامي المبالغة في تقدير أجره ولتكن هناك موازنة عادلة بينما يعطي وبينما يأخذ فكل ما يأخذه المحامي من الأتعاب زائدًا عن قيمة المجهودات التي يبذلها لا يكون إلا عن وهم أو تبرعًا من الموكل ومحرم على المحامي أن يستفيد من طريق الوهم كما أن كرامته تأبى عليه أن يأكل من تبرعات الناس وتقضي عليه أن يكون في مركز المتكرم المتفضل.
فإذا ساغ للموكل أن يطمع في مجهودات المحامي فلا يسوغ للمحامي أن يطمع في مال الموكل وليعتبر المحامي مقدم الأتعاب وديعة في ذمته للموكل لا يستحله إلا بالعمل فلا يكون مثله مثل الذين يفقدون شهية العمل بعد أن يذوقوا لذة القبض والمحامون جميعًا هم وكلاء عن صاحب كل حق معسر لا يجد ما ينفقه في أتعاب المحاماة فليجد الفقراء في مكاتب المحامين مكانًا يسع المطالبة لهم بحقهم من غير مقابل، وليجعلوا ذلك زكاةً عن عملهم وتطهيرًا لما قد يرتكبونه من الخطأ غير عامدين أثناء قيامهم بواجباتهم.
ومن حق المحامي بل من واجبه ألا يقبل جزاءً على أتعابه يجرح عزة المحاماة،
أما أولئك الذين يقبلون أتعابًا تزري بكرامتهم وكرامة مهنتهم فإنهم يجنون على أنفسهم وعلى زملائهم معًا.
دراسة القضايا
وعلى المحامي متى قبل القضية أن يبدأ فورًا بتحضيرها في مكتبه فيدون وقائعها ويرسم خطة الدفاع فيها ويستوفي المستندات التي تؤيد هذا الدفاع ويشرع في البحوث القانونية التي تساعده على تدعيم مركزه في الخصومة إن اقتضى الحال ذلك.
وليعلم أن أوقاته قد تعلق بها حق موكليه جميعًا فإذا كانت القضايا الموجودة بمكتبه كافية لأن تشغل جميع أوقاته فلا يسوغ له بحال أن يقبل قضايا جديدة لا يتسع لها وقته لأنه إما أن يهملها وإما أن يأخذ لها من الوقت اللازم للعناية بالقضايا التي ارتبط بها فعلاً قبل ذلك وفي كلا الأمرين إخلال بواجبه نحو موكليه.
وليس المحامي البارع هو الذي يزدحم مكتبه بملفات القضايا بل إن المحامي البارع هو الذي لا يوجد في مكتبه سوى قضايا محضرة ومعنيًا بها.
وليفسح المحامي صدره لصاحب القضية كلما أراد أن يدلي إليه بشيء جديد في الدعوى لأنه صاحب حاجة ولرب كلمة يقولها أو واقعة يسردها تفيد المحامي في دفاعه فائدة غير منتظرة وليجعل المحامي اتصال الموكل به شخصيًا في كل ما يتعلق بموضوع الدعوى فلا يكله في شيء من ذلك إلى الكاتب لأن الكاتب لا يمكنه أن يستقصي الوقائع بالدقة الواجبة كما يفعل المحامي ولا يستطيع تقدير هذه الوقائع وتأثيرها في سير الدعوى كما تعود المحامي، مع مراعاة أن يكون عادلاً في توزيع أوقاته على موكليه بدون تفريط ولا إفراط.
وينبغي للمحامي أن يعمل على كسب ثقة المحكمة فلا يترافع في قضية إلا بعد أن يلم بموضوعها تمام الإلمام وبعد أن يستجمع نقط الدفاع فيها ويركزها تركيزًا يصون مرافعته عن الشطط والحشو والتكرار وأن يعبر عن أفكاره بعبارة بسيطة واضحة دقيقة منزهًا آراءه عن سماجة المكابرة ومنزهًا لسانه عن لوثة المهاترة، مراعيًا حرمة القضاء وكرامة المحاماة.
وعليه أن يكون للقاضي مساعدًا ومعينًا على إنجاز العمل وتعرف وجه الحق وإصدار حكمه بالعدل وأن يشعره بالفعل أنه ينتصر للمظلوم ويعمل لاستخلاص حق مهضوم فإن ذلك أدنى إلى استرعاء سمع المحكمة واهتمامها بأقواله واحترامها لآرائه مهما كان رأيها مخالفًا.
وليس كسب ثقة المحكمة بأن يتساهل المحامي في التمسك بحقه وحق موكله بل إن هذا التمسك واجب لا محيص له عنه، فالمحامى الذي يعتذر بأن المحكمة لم تثبت أقواله في محضر الجلسة مثلاً مسؤول عن هذا الإغفال إذ هو لم يلح الإلحاح كله في تدوين أقواله بمحضر الجلسة لأن واجب الكاتب أن يثبت أقوال الخصوم خصوصًا ما يرون أنه من أسس دفاعهم وعلى المحامي أن يثبت من تدوين كل ما يعتبره أساسيًا في دفاعه وليوجه المحامي خطابه في ذلك أولاً إلى القاضي باعتباره المدير للجلسة فإن عارض القاضي فليوجه خطابه للكاتب باعتباره مسؤولاً عن تحرير محضر الجلسة وعليه أن يلح في ذلك بكل أنواع الإلحاح فإذا أصر الكاتب على عدم إثبات ما يطلبه المحامي بادر المحامي فورًا بتقديم طلبه هذا كتابةً أو علانيةً إلى كاتب الجلسة ثم يرفع شكواه بعد ذلك إلى جهة الاختصاص وليكن رد المحامي على الخصم زعزعةً لا جعجعةً، وإفحامًا لا التحامًا، وإقناعًا لا صراعًا.
وليجتنب التأجيلات التي لا مبرر لها والطلبات الشكلية والدفوع الفرعية التي لا تدينه من الحق ولا تحميه من الباطل فإن ذلك مضيعة للوقت وإملال للعدل وإطالة للخصومة وتعطيل لسير العدالة.
كذلك يجب ألا يفوت المحامي أن محكمة النقض هي محكمة قانون لا محكمة موضوع وأن المبادئ الهامة التي تقررها هذه المحكمة العليا أولى بأن تشغل جميع أوقاتها بدلاً من تبديد مجهوداتها في بحث أوجه غير جدية.
المحامي وزملاؤه
وليحافظ المحامي على كرامة زملائه وليتجنب تحميلهم المغارم بحجة الغيرة على حقوق موكليه فلا يطلب إبطال المرافعة مثلاً في قضية يعلم أن الخصم وكل فيها محاميًا لأن الغائب في هذه الحالة هو المحامي للخصم وليس من حق المحامي الحاضر أن يتولى بنفسه تأديب زميله الغائب بتعريضه لخسارة ربما كانت فادحة لا تحتملها كل ثروته في حين لا يخسر الخصم شيئًا متى كان المحامي مليئًا مع أن هناك طريق خاص لتأديب المحامي بسبب إهماله.
ويعمل المحامي أيضًا على كسب ثقة زملائه بأن يحسن الاستماع إليهم وينزه لسانه عن العيب فيهم أو استفزازهم وليعلم أن كرامته من كرامتهم وعزته من عزتهم.
وليترفع المحامون من تلقاء أنفسهم عن مخالفة واجباتهم سرًا وعلانية فإن ذلك أولى بهم وأليق بكرامتهم.
المكاتب الفرعية
وإذا قضيتم مدة التمرين فإياكم والمكاتب الفرعية فإنها تعرض عملكم للفساد وتعرض عيشتكم للكساد لأنها تدار بمعرفة كتبة يقبلون فيها قضايا لم تسمعوا أربابها ولم تعرفوا قبل الارتباط بها حلالها من حرامها.
إياكم وهذه الحوانيت فإنها مقابر المحامين وبلاء المتقاضين تُنتهك في كثير منها حرمات الحق وتُدبر المؤامرات على العدل لأنها ليست تحت إشراف المحامين الفعلي ليصونوها عن هذه المفاسد ويحاربوا فيها وقوع هذه الجرائم.
ولها فوق ذلك أسوأ الأثر في تقدير أتعاب المحامين حتى ضج أكثر المحامين بالشكوى منها وتحمسوا لإعلان الحرب عليها وهي نتيجة طبيعية لشعورهم بكرامتهم واهتمامهم لوضع حد لهذا الاعتداء الصارخ على شرف مهنتهم.
ولي وطيد الأمل في أن يتعاون حضرات المحامين مع نقابتهم على استئصال هذا الداء وتطهير جو المحاماة من هذا الوباء وأنه لا تمضي مدة طويلة حتى تكون جميع المكاتب سعيدة باستقرار حضرات المحامين فيها حتى إذا ما سعى إليها أرباب القضايا وجدوا أمامهم الهداة المرشدين وخدام العدالة الصادقين.
ولا شك عندي في أن ذلك من شأنه أن يوزع العمل على مكاتب المحامين توزيعًا طبيعيًا عادلاً في مصلحة العدالة وفي مصلحة أرباب القضايا وفي مصلحة المحامين أنفسهم فتتخلص العدالة من المنتجات الرديئة التي تنتجها المكاتب الفرعية ويتصل أرباب القضايا بالمحامين رأسًا في كل ما يتعلق بالعمل الفني الذي يهمهم ويرتفع مقابل أتعاب المحامي إلى الحد الذي يكافئ مجهوده ويليق به.
فمتى تعاون حضرات زملائي المحامين على تنفيذ هذه الخطة في وقت واحد جاءت النتيجة وفق مصلحتهم جميعًا.
هذه أيها السادة هي الكلمات التي رأيت أن أدلي بها الآن لإخواني المحامين المبتدئين متمنيًا لهم كل التوفيق راجيًا لهم من الله سبحانه وتعالى كل سعادة.
وإني أكرر لحضراتكم شكر زملائي وشكري ولا يسعني إلا أن أختتم محاضرتي بتلك الكلمات الخالدة التي قالها أبو المحامين:
(يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل وأن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون).
المحاماة أجل مهنة في العالم
مجلة المحاماة - العدد الثالث
السنة الثالثة والثلاثون1952
المحاماة أجل مهنة في العالم
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
تقدير المحاماة:
عنوان هذا المقال مأخوذ عن كلمة خالدة لفولتير قال فيها: (كنت أتمنى أن أكون محاميًا، لأن المحاماة أجل مهنة في العالم).
وفي الحق أنه ليس بين المهن ما يسمو على المحاماة شرفًا وجلالاً، ولا ما يدانيها روعة وتضحية ومجدًا، ذلك أن رسالتها هي تحقيق العدالة بالوقوف إلى جانب المظلوم والأخذ بناصر الضعيف، والدفاع عن شرف الأفراد وحياتهم وحرياتهم وأموالهم، والمحامي يقوم بإسداء النصيحة للكبير، كما أنه القيم الطبيعي على الصغير، يلجأ إليه الأغنياء والفقراء على السواء، ومن عملائه الأمراء والعظماء، يضحى بوقته وصحته وأحيانًا بحياته في الدفاع عن متهم بريء أو ضعيف مهضوم الحق.
ومن أبلغ ما قيل في وصف المحاماة وتقديرها ما قاله دوجيسو رئيس مجلس القضاء الأعلى بفرنسا في عهد لويس الخامس عشر:
(المحاماة عريقة كالقضاء - مجيدة كالفضيلة - ضرورية كالعدالة - هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب - حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان - المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبدًا له - ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة، غنيًا بلا مال رفيعًا من غير حاجة إلى لقب، سعيدًا بغير ثروة) [(1)].
وفي تقدير عمل المحامي قال المغفور له الأستاذ عبد العزيز فهمي رئيس محكمة النقض عند افتتاح أولى جلساتها في سنة 1931 (إذا وازنت بين عمل القاضي وعمل المحامي لوجدت أن عمل المحامي أدق وأخطر: لأن مهمة القاضي هي الوزن والترجيح، أما مهمة المحامي فهي الخلق والإبداع والتكوين).
هذه شهادة قاضي القضاة في مصر، وتلك شهادة كبير القضاة في فرنسا، وكلاهما من الشهود العدول الذين لا سبيل إلى اتهامهم بالتحيز للمحاماة أو محاباة المحامين…
المحامي كما يجب أن يكون:
يخطئ من يظن أن مؤهلات المحامي هي فقط الحصول على إجازة الليسانس أو الدكتوراة في القوانين، كما يخطئ من يعتقد أن صناعة المحامي هي مجرد الكلام أو أن دراساته قاصرة على كتب القانون، إذ المحامي النابه يجب أن تستمر دراساته يوميًا طوال حياته، وتتناول - إلى جانب كتب القانون والموسوعات العلمية والقضائية - كتب الأدب والتاريخ والفلسفة والمنطق والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس.
بل إن عمل المحامي يحتاج إلى ثقافة متنوعة متجددة واطلاع شامل دائم على مختلف العلوم والفنون، حتى يستطيع الاضطلاع بمهمة الدفاع في القضايا المختلفة التي يوكل إليه أمرها من مدنية وتجارية وجنائية وعسكرية وسياسية وإدارية وتأديبية وضرائبية، وما لم يكن المحامي مطلعًا على شتى العلوم والفنون ومختلف القوانين والقرارات وكتب الشراح وأحدث الأحكام، في كل فرع من تلك الفروع، فإنه يجد نفسه عاجزًا عن القيام بواجبه فيما يعرض له يوميًا من مشكلات وما قد يواجهه أمام المحاكم من مناقشة الفنيين من الخبراء والتعليق على آرائهم.
المحاماة أشق مهنة في العالم:
كما أن المحاماة أجل مهنة في العالم فإنها أيضًا أشق مهنة في العالم، فهي تفرض على المحامي أن يكرس لها كل وقته ومجهوده، وهي لا تدع له وقتًا للراحة أو الرياضة، يبدأ المحامي دائمًا عمله مبكرًا ويقضي ساعات الصباح عادةً في أداء واجبه أمام مختلف المحاكم متنقلاً بين دار القضاء العالي والمحكمة الكلية والمحاكم الجزئية ومحكمة القضاء الإداري - فضلاً عن المحاكم والمجالس العسكرية والشرعية والملية وغيرها - هذا إذا كان محاميًا بالقاهرة، أما إذا كان محاميًا بإحدى المحافظات أو المديريات أو المراكز فإن عمله يكون أشق إذ يقتضيه السفر بالقطارات والتنقل بالسيارات بين مقر المحكمة الكلية التي يعمل في دائرتها، ومقر محكمة الاستئناف التي تستأنف الأحكام أمامها والمراكز التي تقع فيها المحاكم الجزئية التابعة لها.
فإذا عاد المحامي بعد الظهر إلى منزله مكدودًا محطم الأعصاب لا يكاد يجد وقتًا لتناول الطعام أو للراحة، إذ يتعين عليه أن يعود إلى مكتبه لاستقبال عملائه - حيث يقضي شطرًا من الليل في تفهم ما يعرض عليه من مشكلات، والإفتاء فيما يستشار فيه من منازعات، وتدوين ملاحظاته عما يعهد به إليه من قضايا، حتى إذا ما انتهى من هذا العمل المضني بين إزعاج التليفون ومضايقات بعض العملاء ومساوماتهم - ولم يستدعِ لحضور تحقيق أو مجلس صلح أو تحكيم - كان عليه أن يبدأ دراسة قضايا اليوم التالي وإعداد دفاعه فيها مستعينًا بالمراجع القانونية، كما أن عليه تحرير المذكرات في القضايا التي حجزت للحكم والقضايا التي لا زالت في التحضير، وهو مضطر لتحريرها ومراجعتها لتقديمها في المواعيد المحددة لها وإلا تعرض للمسؤولية في حالة التأخير عن تقديم مذكرة في قضية محجوزة للحكم، وعرض موكله للحكم عليه بغرامة في حالة التأخير عن تقديم مذكرة في قضية معروضة على قاضي التحضير، والموكل لا يرحم والقاضي لا يعذر، والمحامي فوق هذا وذاك مسؤول أمام ضميره عن أداء واجبه على الوجه الأكمل، ولهذا فهو يقضي الليل ساهرًا باحثًا منقبًا، حتى إذا ما أتم عمله وأرضى ضميره آوى إلى فراشه ليقضي ما بقي من الليل مسهدًا يستعرض أعمال اليوم ويفكر في مشكلات الغد….
هذا موجز للعمل اليومي للمحامي، ومنه يتضح أن المحامي كالشمعة يحترق ليضيء للآخرين، ومع ذلك فكثيرًا ما تقابل مجهوداته وتضحياته الغالية بالجحود ونكران الجميل من جانب الموكلين الذين ما أن يكسبوا قضاياهم حتى يتنكروا لمحاميهم، رغبةً في إهدار حقوقه بعد أن حصل لهم على حقوقهم المهضومة !!
ولذلك كانت المحاماة من أشق المهن وأكثرها إرهاقًا للعقل والجسم والأعصاب، حقًا إن المحامي ينعم بشيء من الاستقلال والحرية وقد يصيب بعض الجاه، وهو ما يحسده عليه الكثيرون ناسين أن ذلك يكون دائمًا على حساب راحته وصحته وأعصابه، وأحيانًا يدفع المحامي ثمنًا لتلك الحرية وذلك الجاه حياته نفسها، وما أغلاه من ثمن !!
ومن أبلغ ما قيل في وصف حياة المحامي ومتاعبه ما قاله العلامة جارسونيه:
(إن المحامي يترافع في يوم واحد أمام محاكم متعددة في دعاوى مختلفة، ومنزله ليس مكانًا لراحته ولا بعاصم له من مضايقة عملائه، إذ يقصده كل من يريد أن يتخفف من أعباء مشاكله وهمومه، ولا يكاد ينتهي من مرافعة طويلة إلا ليعالج مذكرات أطول، فعمله معالجة مختلف المشاكل وتخفيف متاعب الآخرين، وأستطيع القول إنه بين مواطنيه يمثل الرجال الأولين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهية) [(2)].
محامون يتولون زعامة الشعوب ورئاسة الدول:
لما كانت دراسات المحامين وأعمالهم تتناول شتى نواحي الحياة، وصناعتهم تقتضي التمكن من الخطابة والبلاغة، إلى جانب إلمامهم بنفسية الجماهير ودراستهم لدساتير الأمم والقوانين الدولية والإدارية والمالية، كان من الطبيعي أن يبرز من بين المحامين من تولوا زعامة الأمم وقيادة الشعوب ورئاسة الدول والحكومات والبرلمانات، ومن اختيروا لأرفع مناصب القضاء.
ويكفي في هذه العجالة أن نشير إلى أن غاندي زعيم الهند كان محاميًا، كما أن مصطفى كامل وسعد زغلول زعيمي مصر الخالدين كانا محاميين.
وقد تولى رئاسة جمهورية فرنسا كثيرون من المحامين ونقباء المحامين نذكر منهم: جول جريفى ولوبيه وفالليير وبوانكاريه وميلليران، كما تولى رئاسة الوزارة في فرنسا في أحرج أوقات الحرب محامون - منهم ألكسندر ريبو ورينيه فيفانى وارستيد بريان وغيرهم…
أما في مصر فقد تولى رئاسة الوزارة في العصر الحديث من المحامين: سعد زغلول ومصطفى النحاس وحسن صبري وأحمد ماهر وإبراهيم عبد الهادي ونجيب الهلالي، كما تولى رئاسة مجلس الشيوخ ورئاسة مجلس النواب من المحامين: محمود بسيوني ومحمد محمود خليل ومحمد حسين هيكل وويصا واصف وعبد السلام فهمي جمعة وحامد جودة.
وأما من تولى منصب الوزارة من رجال المحاماة فأكثر من أن يحيط بهم الحصر، ويكفي أن نذكر أن غالبية الوزراء في العهود الأخيرة كانوا دائمًا من المحامين.
وقد قدمت المحاماة للقضاء أفذاذًا شرفوا القضاء كما شرفت بهم المحاماة، نذكر منهم الزعيم الخالد سعد زغلول ونقيب المحامين عبد العزيز فهمي والفقيه الكبير حامد فهمي وكثيرين غيرهم ممن شغلوا ولا زالوا يشغلون بكل جدارة أرفع مناصب القضاء.
الوزراء والمستشارون والقضاة يشتغلون بالمحاماة:
ولا يفوتنا أن نسجل في هذه المناسبة أن عددًا كبيرًا من الوزراء والمستشارين والقضاة - الذين استقالوا أو أحيلوا إلى المعاش لبلوغهم السن القانوني ومنهم رؤساء ووكلاء محكمة النقض ومحاكم الاستئناف - اشتغلوا بالمحاماة، حتى لقد كاد يصبح تقليدًا أن كل وزير من رجال القانون أو مستشار أو قاضٍ يتقاعد، يبادر فور تقاعده إلى الاشتغال بالمحاماة، ففي ميدانها الحر الفسيح متسع للجميع…
حوادث بين القضاة والمحامين:
ولقد كان هذا التبادل بين رجال القضاء ورجال المحاماة، وذلك التقدير الكريم من القضاء لمهنة المحاماة، مدعاة للاحترام المتبادل والود والوئام والتعاون بين الفريقين، ولكن لسوء الحظ كثيرًا ما يقع من الحوادث بين القضاة والمحامين ما يعكر صفو العلاقات بين القضاء الجالس والقضاء الواقف، ونحن لا نلوم فريقًا دون فريق، ولكننا نرجع الحوادث إلى أسبابها للعمل من الجانبين على تلافيها واستمرار التعاون والاحترام المتبادل بينهما لتحقيق رسالتهما المشتركة في خدمة العدالة.
ولعل أهم أسباب هذا الخلاف ما أشار إليه حضرة المستشار الكبير محمد مختار عبد الله في محاضرته (المحاماة في نظر القاضي) حيث قال:
(إن جميع أسباب الاحتكاك بين القضاء والمحاماة منشؤها في الغالب رول طويل مربك يبغي القاضي أن ينجزه من جهة، ومن جهة أخرى رغبة حارة من جانب المحامي في إرضاء ضميره بعرض كل ما لديه من وقائع وأسانيد، ولا يمكن التوفيق بين الطرفين إلا إذا قدر كل منهما وجهة نظر الآخر، وكان في أداء واجبه مخلصًا في مساعدة الطرف الآخر أيضًا على أداء واجبه، وقد يكون حماس المحامي باعثًا له على أن يبالغ في الاهتمام بمسائل يرى القاضي المثقل بالرول الطويل أن الوقت لا يتسع للإنصات إليها، كما قد يبالغ القاضي في الرغبة في الإنجاز بحيث يحرج المحامي أمام ضميره وأمام موكليه، وهذه الصعوبة نشعر أنها في ازدياد كل يوم، فالإحصائيات القضائية تدل على اضطراد الزيادة في عدد القضايا وبعد أن كانت المائة هي العدد الذي لا يحلم بوصول رول القاضي الجزئي إليه أصبح مشحونًا أحيانًا بعدة مئات، وإذن لا مفر من التعاون الفعلي بين القضاء والمحاماة ليرضي كل ضميره [(3)].
حصانة المحامي في الجلسة:
ولقد كان تعدد حوادث الاحتكاك بين القضاة والمحامين حافزًا للمشرع على أن يتدخل فيضع من التشريعات ما يحمي المحاماة أثناء وجوده بالجلسة للقيام بواجبه، ويحيطه بحصانة يمتنع معها على القاضي أن يحاكمه أو يحكم عليه إذا وقع منه أثناء انعقاد الجلسة ما يعده القاضي اعتداءً عليه أو إخلالاً بنظام الجلسة، إذ يقتصر حق القاضي في مثل هذه الحالة على تحرير محضر بما حدث، مع جواز إحالة المحامي إلى قاضي التحقيق لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه يستوجب مؤاخذته جنائيًا وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستوجب مؤاخذته تأديبيًا، وفي الحالين لا يجوز أن يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد أعضائها عضوًا في الهيئة التي تنظر الدعوى الجنائية أو التأديبية إذا أقيمت.
وقد استحدثت هذه الحصانة في مصر بقانون المحاماة رقم (98) لسنة 1944 ثم نص عليها
قانون المرافعات الجديد في المادة (130)، كما نص عليها قانون الإجراءات الجنائية في المادة (245)، لكي يتسنى للمحامي أن يقوم بواجبه المقدس في الدفاع عن موكليه بكل حرية واطمئنان على الوجه الذي يرضي ضميره، ولكي لا يكون القاضي - الذي يعتقد أن المحامي اعتدى عليه أو أخل بنظام الجلسة - خصمًا وحكمًا في آنٍ واحد، ولكي لا يقضي في دعوى هو أحد طرفيها تحت تأثير غضب أو ضيق صدر بسبب (الرول الطويل المربك الذي عليه أن ينجزه)، كما يقول حضرة المستشار محمد مختار عبد الله…
ولعل هذه الحصانة - مع النصائح الغالية التي أشار على الفريقين باتباعها حضرة المستشار محمد مختار عبد الله - كفيلة بعدم تكرار حوادث الاحتكاك بين القضاة والمحامين ليتعاون الجميع في ود دائم واحترام متبادل على أداء رسالتهما المشتركة في خدمة العدالة.
(2)
بيان:
تكلمنا في العدد الماضي عن تقدير القضاء لمهنة المحاماة، واستخلصنا منه صحة كلمة فولتير (إن المحاماة أجل مهنة في العالم)، ثم تناولنا الكلام على عمل المحامي وحياته اليومية، وأثبتنا أن المحاماة - كما أنها أجل مهنة في العالم - هي أيضًا أشق مهنة في العالم، وتكلمنا عن المحامي كما يجب أن يكون، وأشرنا إلى ثقافته وتنوع دراساته، وأوردنا بيانًا موجزًا عن المحامين الذين تولوا رئاسة الدول والحكومات والبرلمانات وزعامة الشعوب، والذين تولوا أرفع مناصب القضاء، والوزراء والمستشارين والقضاة الذين تركوا مناصبهم للاشتغال بالمحاماة، وأخيرًا تكلمنا عن متاعب المهنة وأخصها الحوادث التي تقع بين القضاة والمحامين وأسبابها وعلاجها، وانتهينا إلى الكلام عن حصانة المحامي في الجلسة والقوانين التي نظمتها [(4)].
وفي عدد سابق تكلمنا عن مقابل أتعاب المحاماة الذي يقضي به على الخصم الذي خسر الدعوى، وما جرى به العرف من الحكم بمبالغ تافهة لا تعوض صاحب الحق عما أنفقه في سبيل الوصول إلى حقه، وأوردنا حكم القانون وآراء الشراح وأحكام القضاء التي توجب كلها الحكم لصاحب الحق بقدر من أتعاب المحاماة يوازي ما دفعه فعلاً، أو ما كان يجب أن يدفعه، إلى محاميه الذي عهد إليه في استرداد حقه المغصوب أو دفع دعوى خصمه المبطلة [(5)].
ونختم هذه السلسلة بالكلام عن واجب المحامي، ثم عن المحامين تحت التمرين.
واجب المحامي:
إن واجب المحامي هو الدفاع عن المظلوم، ولكن هل كل المتهمين مظلومون ؟ وماذا يفعل المحامي إذا وكل عن متهم معترف ؟ بل ماذا يفعل إذا وكل عن متهم منكر اعترف له بارتكاب الجريمة ؟
هذه أسئلة لا تجد ردًا عليها في الكتب، ولكننا نعرف الرد عليهم من تقاليد المحاماة الشريفة العريقة، حقًا إنه ليس كل المتهمين مظلومين، ولكن قل إن تجد منهما غير جدير بالرحمة والعطف، فكثيرًا ما نصادف متهمين مثقفين من عليه القوم دفعتهم الظروف دفعًا إلى ارتكاب جريمة في ثورة غضب، أو دفعًا لإهانة، وجلَّ من لا يخطئ…..
وهناك متهمون ارتكبوا جرائم دون أن يكونوا مسؤولين عنها لسبب من أسباب الإباحة وموانع العقاب: كمن يرتكب جريمة بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة (مادة 60 عقوبات)، ومن يرتكب جريمة دفاعًا عن النفس أو المال (مادة 61 عقوبات) أو من يرتكب جريمة وهو فاقد الشعور أو الاختيار في عمله، إما لجنون أو عاهة في العقل، وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة إذا أخذها قهرًا عنه أو على غير علم منه بها، (مادة 62 عقوبات) أو الموظف الذي يرتكب الفعل تنفيذًا لأمر صادر إليه من رئيس تجب عليه إطاعته أو اعتقد أنها واجبة عليه، أو يرتكب الفعل بحسن نية تنفيذًا لما أمرت به القوانين أو ما أعتقد أن إجراءه من اختصاصه (مادة 63 عقوبات).
وهناك متهمون غير مسؤولين مسؤولية كاملة عن الأفعال التي ارتكبوها لمرض عقلي أو نفسي أو عصبي - كالعته والشيزوفرانيا والحالات السيكرباتية….
في هذه الحالات يجب على المحامي أن يبرز ويثبت للمحكمة ظروف الحادث، وسبب الإباحة أو موانع العقاب إن وجدت، وحالة المتهم وقت ارتكاب الجريمة من الوجهة العقلية والنفسية والعصبية، مستعينًا بتاريخ المتهم وأثر الوراثة وتقارير الأطباء الأخصائيين، مع بيان الظروف المخففة.
ولكن ما العمل إذا كان المتهم قد أنكر ارتكاب الجريمة وباح لمحاميه بارتكابها ؟
لا شك أن في هذه الحالة تعارضًا بين ضمير المحامي وواجبه إذ هو لا يستطيع إفشاء سر المهنة، كما أن ضميره لا يطاوعه على طلب البراءة.
ومن حسن الحظ إن هذه الحالة نادرة الوقوع، حيث لا يبوح المتهم عادةً لمحاميه بارتكاب الجريمة إذا كان قد أنكر ارتكابها أمام المحققين، حيث لا يجد فائدة تعود عليه من الاعتراف للمحامي.
فإذا حدث ذلك فإنه يجب على المحامي أن يتنحى عن الدفاع في القضية - إرضاءً لضميره ومحافظةً على مصلحة موكله - وفي هذه الحالة يوكل المتهم محاميًا آخر لن يبيح إليه في هذه المرة بسره، فيتولى المحامي الجديد الدفاع عنه مرتاح الضمير لطلب البراءة.
وهذه إحدى التضحيات التي تحتمها على المحامي تقاليد مهنته الشريفة…
المحامون تحت التمرين:
إن مدة السنتين التي يقضيها المحامي تحت التمرين هي إحدى الصعوبات التي تواجه خريجي الحقوق، بل هي الصدمة الأولى التي تجابهم، إذ يرون زملاءهم من خريجي المعاهد الأخرى يباشرون عملهم فور تخرجهم، ويتقاضون مرتبات محترمة تتناسب مع مؤهلاتهم، بينما يضطرون هم - دون سواهم - إلى قضاء هذه الفترة يقومون بأعمالهم أمام المحاكم وفي المكاتب دون أن يتقاضوا أجرًا مناسبًا، أو دون أن يتقاضوا أجرًا أصلاً…
والذنب في ذلك ليس ذنبهم، بل ذنب النظام السخيف الذي يفرض عليهم قضاء أربع سنوات كاملة في كلية الحقوق يحشون أدمغتهم بدراسات نظرية وتفصيلات دقيقة وفروض قد لا تتحقق أبدًا ويندر أن تصادفهم في العمل أصلاً دون أن يتمرنوا على تحرير عرائض الدعوى والمذكرات، أو يشهدوا جلسات المحاكم وما يدور فيها من مرافعات، أو يطلعوا على الأحكام والتحقيقات، أو يلموا بمختلف إجراءات التقاضي أمام المحاكم، وتحرير العقود وشهرها بمكاتب التوثيق والشهر العقاري !!!
ولا ندري لماذا لا تختزل بعض الدراسات النظرية، والتفصيلات التي لا طائل تحتها، وتخصص السنان الأخيرتان - إلى جانب الدراسة النظرية - للتمرين عمليًا على تحرير عرائض الدعاوى والمذكرات وإجراءات التحقيق وشهود جلسات المحاكم وزيارة أقلام الكتاب والمحضرين ومكاتب التوثيق والشهر العقاري تحت إشراف أساتذتهم، كما هو الحال في الكليات العملية مثل كليات الطب التي يقضي طلبتها العامين الأخيرين في المران بالمستشفيات - وكليات الهندسة التي يتمرن طلبتها في المصانع - ومدارس المعلمين التي يقوم طلبة السنة النهائية ليس فقط بزيارة المدارس بل بإلقاء الدروس على التلاميذ !!!
هذا هو الحل العملي الوحيد لمشكلة المحامين تحت التمرين، ففيه حفظ لكرامتهم وتجنيبهم صعابًا لا يجوز أن يتعرض لها أمثالهم من الشباب في مستهل حياتهم العملية.
[(1)] آبلتون: (مهنة المحاماة) صـ 21.
وهنري روبير: (المحامي) تعريب حليم سيفين صـ 55.
[(2)] جارسونيه جزء 1 صـ 413.
[(3)] من محاضرة قيمة ألقاها على المحامين تحت التمرين حضرة الأستاذ محمد مختار عبد الله المستشار بقاعة محكمة الاستئناف يوم 10 ديسمبر سنة 1931، وهي منشورة بمجلة المحاماة السنة الثانية عشرة بالعددين السادس والسابع صـ 559 و671.
[(4)] المحاماة السنة الثانية والثلاثون العدد الثالث صـ 547.
[(5)] المحاماة السنة الثالثة والثلاثون العدد الثامن صـ 1230.
السنة الثالثة والثلاثون1952
المحاماة أجل مهنة في العالم
لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي
تقدير المحاماة:
عنوان هذا المقال مأخوذ عن كلمة خالدة لفولتير قال فيها: (كنت أتمنى أن أكون محاميًا، لأن المحاماة أجل مهنة في العالم).
وفي الحق أنه ليس بين المهن ما يسمو على المحاماة شرفًا وجلالاً، ولا ما يدانيها روعة وتضحية ومجدًا، ذلك أن رسالتها هي تحقيق العدالة بالوقوف إلى جانب المظلوم والأخذ بناصر الضعيف، والدفاع عن شرف الأفراد وحياتهم وحرياتهم وأموالهم، والمحامي يقوم بإسداء النصيحة للكبير، كما أنه القيم الطبيعي على الصغير، يلجأ إليه الأغنياء والفقراء على السواء، ومن عملائه الأمراء والعظماء، يضحى بوقته وصحته وأحيانًا بحياته في الدفاع عن متهم بريء أو ضعيف مهضوم الحق.
ومن أبلغ ما قيل في وصف المحاماة وتقديرها ما قاله دوجيسو رئيس مجلس القضاء الأعلى بفرنسا في عهد لويس الخامس عشر:
(المحاماة عريقة كالقضاء - مجيدة كالفضيلة - ضرورية كالعدالة - هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب - حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان - المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبدًا له - ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة، غنيًا بلا مال رفيعًا من غير حاجة إلى لقب، سعيدًا بغير ثروة) [(1)].
وفي تقدير عمل المحامي قال المغفور له الأستاذ عبد العزيز فهمي رئيس محكمة النقض عند افتتاح أولى جلساتها في سنة 1931 (إذا وازنت بين عمل القاضي وعمل المحامي لوجدت أن عمل المحامي أدق وأخطر: لأن مهمة القاضي هي الوزن والترجيح، أما مهمة المحامي فهي الخلق والإبداع والتكوين).
هذه شهادة قاضي القضاة في مصر، وتلك شهادة كبير القضاة في فرنسا، وكلاهما من الشهود العدول الذين لا سبيل إلى اتهامهم بالتحيز للمحاماة أو محاباة المحامين…
المحامي كما يجب أن يكون:
يخطئ من يظن أن مؤهلات المحامي هي فقط الحصول على إجازة الليسانس أو الدكتوراة في القوانين، كما يخطئ من يعتقد أن صناعة المحامي هي مجرد الكلام أو أن دراساته قاصرة على كتب القانون، إذ المحامي النابه يجب أن تستمر دراساته يوميًا طوال حياته، وتتناول - إلى جانب كتب القانون والموسوعات العلمية والقضائية - كتب الأدب والتاريخ والفلسفة والمنطق والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس.
بل إن عمل المحامي يحتاج إلى ثقافة متنوعة متجددة واطلاع شامل دائم على مختلف العلوم والفنون، حتى يستطيع الاضطلاع بمهمة الدفاع في القضايا المختلفة التي يوكل إليه أمرها من مدنية وتجارية وجنائية وعسكرية وسياسية وإدارية وتأديبية وضرائبية، وما لم يكن المحامي مطلعًا على شتى العلوم والفنون ومختلف القوانين والقرارات وكتب الشراح وأحدث الأحكام، في كل فرع من تلك الفروع، فإنه يجد نفسه عاجزًا عن القيام بواجبه فيما يعرض له يوميًا من مشكلات وما قد يواجهه أمام المحاكم من مناقشة الفنيين من الخبراء والتعليق على آرائهم.
المحاماة أشق مهنة في العالم:
كما أن المحاماة أجل مهنة في العالم فإنها أيضًا أشق مهنة في العالم، فهي تفرض على المحامي أن يكرس لها كل وقته ومجهوده، وهي لا تدع له وقتًا للراحة أو الرياضة، يبدأ المحامي دائمًا عمله مبكرًا ويقضي ساعات الصباح عادةً في أداء واجبه أمام مختلف المحاكم متنقلاً بين دار القضاء العالي والمحكمة الكلية والمحاكم الجزئية ومحكمة القضاء الإداري - فضلاً عن المحاكم والمجالس العسكرية والشرعية والملية وغيرها - هذا إذا كان محاميًا بالقاهرة، أما إذا كان محاميًا بإحدى المحافظات أو المديريات أو المراكز فإن عمله يكون أشق إذ يقتضيه السفر بالقطارات والتنقل بالسيارات بين مقر المحكمة الكلية التي يعمل في دائرتها، ومقر محكمة الاستئناف التي تستأنف الأحكام أمامها والمراكز التي تقع فيها المحاكم الجزئية التابعة لها.
فإذا عاد المحامي بعد الظهر إلى منزله مكدودًا محطم الأعصاب لا يكاد يجد وقتًا لتناول الطعام أو للراحة، إذ يتعين عليه أن يعود إلى مكتبه لاستقبال عملائه - حيث يقضي شطرًا من الليل في تفهم ما يعرض عليه من مشكلات، والإفتاء فيما يستشار فيه من منازعات، وتدوين ملاحظاته عما يعهد به إليه من قضايا، حتى إذا ما انتهى من هذا العمل المضني بين إزعاج التليفون ومضايقات بعض العملاء ومساوماتهم - ولم يستدعِ لحضور تحقيق أو مجلس صلح أو تحكيم - كان عليه أن يبدأ دراسة قضايا اليوم التالي وإعداد دفاعه فيها مستعينًا بالمراجع القانونية، كما أن عليه تحرير المذكرات في القضايا التي حجزت للحكم والقضايا التي لا زالت في التحضير، وهو مضطر لتحريرها ومراجعتها لتقديمها في المواعيد المحددة لها وإلا تعرض للمسؤولية في حالة التأخير عن تقديم مذكرة في قضية محجوزة للحكم، وعرض موكله للحكم عليه بغرامة في حالة التأخير عن تقديم مذكرة في قضية معروضة على قاضي التحضير، والموكل لا يرحم والقاضي لا يعذر، والمحامي فوق هذا وذاك مسؤول أمام ضميره عن أداء واجبه على الوجه الأكمل، ولهذا فهو يقضي الليل ساهرًا باحثًا منقبًا، حتى إذا ما أتم عمله وأرضى ضميره آوى إلى فراشه ليقضي ما بقي من الليل مسهدًا يستعرض أعمال اليوم ويفكر في مشكلات الغد….
هذا موجز للعمل اليومي للمحامي، ومنه يتضح أن المحامي كالشمعة يحترق ليضيء للآخرين، ومع ذلك فكثيرًا ما تقابل مجهوداته وتضحياته الغالية بالجحود ونكران الجميل من جانب الموكلين الذين ما أن يكسبوا قضاياهم حتى يتنكروا لمحاميهم، رغبةً في إهدار حقوقه بعد أن حصل لهم على حقوقهم المهضومة !!
ولذلك كانت المحاماة من أشق المهن وأكثرها إرهاقًا للعقل والجسم والأعصاب، حقًا إن المحامي ينعم بشيء من الاستقلال والحرية وقد يصيب بعض الجاه، وهو ما يحسده عليه الكثيرون ناسين أن ذلك يكون دائمًا على حساب راحته وصحته وأعصابه، وأحيانًا يدفع المحامي ثمنًا لتلك الحرية وذلك الجاه حياته نفسها، وما أغلاه من ثمن !!
ومن أبلغ ما قيل في وصف حياة المحامي ومتاعبه ما قاله العلامة جارسونيه:
(إن المحامي يترافع في يوم واحد أمام محاكم متعددة في دعاوى مختلفة، ومنزله ليس مكانًا لراحته ولا بعاصم له من مضايقة عملائه، إذ يقصده كل من يريد أن يتخفف من أعباء مشاكله وهمومه، ولا يكاد ينتهي من مرافعة طويلة إلا ليعالج مذكرات أطول، فعمله معالجة مختلف المشاكل وتخفيف متاعب الآخرين، وأستطيع القول إنه بين مواطنيه يمثل الرجال الأولين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهية) [(2)].
محامون يتولون زعامة الشعوب ورئاسة الدول:
لما كانت دراسات المحامين وأعمالهم تتناول شتى نواحي الحياة، وصناعتهم تقتضي التمكن من الخطابة والبلاغة، إلى جانب إلمامهم بنفسية الجماهير ودراستهم لدساتير الأمم والقوانين الدولية والإدارية والمالية، كان من الطبيعي أن يبرز من بين المحامين من تولوا زعامة الأمم وقيادة الشعوب ورئاسة الدول والحكومات والبرلمانات، ومن اختيروا لأرفع مناصب القضاء.
ويكفي في هذه العجالة أن نشير إلى أن غاندي زعيم الهند كان محاميًا، كما أن مصطفى كامل وسعد زغلول زعيمي مصر الخالدين كانا محاميين.
وقد تولى رئاسة جمهورية فرنسا كثيرون من المحامين ونقباء المحامين نذكر منهم: جول جريفى ولوبيه وفالليير وبوانكاريه وميلليران، كما تولى رئاسة الوزارة في فرنسا في أحرج أوقات الحرب محامون - منهم ألكسندر ريبو ورينيه فيفانى وارستيد بريان وغيرهم…
أما في مصر فقد تولى رئاسة الوزارة في العصر الحديث من المحامين: سعد زغلول ومصطفى النحاس وحسن صبري وأحمد ماهر وإبراهيم عبد الهادي ونجيب الهلالي، كما تولى رئاسة مجلس الشيوخ ورئاسة مجلس النواب من المحامين: محمود بسيوني ومحمد محمود خليل ومحمد حسين هيكل وويصا واصف وعبد السلام فهمي جمعة وحامد جودة.
وأما من تولى منصب الوزارة من رجال المحاماة فأكثر من أن يحيط بهم الحصر، ويكفي أن نذكر أن غالبية الوزراء في العهود الأخيرة كانوا دائمًا من المحامين.
وقد قدمت المحاماة للقضاء أفذاذًا شرفوا القضاء كما شرفت بهم المحاماة، نذكر منهم الزعيم الخالد سعد زغلول ونقيب المحامين عبد العزيز فهمي والفقيه الكبير حامد فهمي وكثيرين غيرهم ممن شغلوا ولا زالوا يشغلون بكل جدارة أرفع مناصب القضاء.
الوزراء والمستشارون والقضاة يشتغلون بالمحاماة:
ولا يفوتنا أن نسجل في هذه المناسبة أن عددًا كبيرًا من الوزراء والمستشارين والقضاة - الذين استقالوا أو أحيلوا إلى المعاش لبلوغهم السن القانوني ومنهم رؤساء ووكلاء محكمة النقض ومحاكم الاستئناف - اشتغلوا بالمحاماة، حتى لقد كاد يصبح تقليدًا أن كل وزير من رجال القانون أو مستشار أو قاضٍ يتقاعد، يبادر فور تقاعده إلى الاشتغال بالمحاماة، ففي ميدانها الحر الفسيح متسع للجميع…
حوادث بين القضاة والمحامين:
ولقد كان هذا التبادل بين رجال القضاء ورجال المحاماة، وذلك التقدير الكريم من القضاء لمهنة المحاماة، مدعاة للاحترام المتبادل والود والوئام والتعاون بين الفريقين، ولكن لسوء الحظ كثيرًا ما يقع من الحوادث بين القضاة والمحامين ما يعكر صفو العلاقات بين القضاء الجالس والقضاء الواقف، ونحن لا نلوم فريقًا دون فريق، ولكننا نرجع الحوادث إلى أسبابها للعمل من الجانبين على تلافيها واستمرار التعاون والاحترام المتبادل بينهما لتحقيق رسالتهما المشتركة في خدمة العدالة.
ولعل أهم أسباب هذا الخلاف ما أشار إليه حضرة المستشار الكبير محمد مختار عبد الله في محاضرته (المحاماة في نظر القاضي) حيث قال:
(إن جميع أسباب الاحتكاك بين القضاء والمحاماة منشؤها في الغالب رول طويل مربك يبغي القاضي أن ينجزه من جهة، ومن جهة أخرى رغبة حارة من جانب المحامي في إرضاء ضميره بعرض كل ما لديه من وقائع وأسانيد، ولا يمكن التوفيق بين الطرفين إلا إذا قدر كل منهما وجهة نظر الآخر، وكان في أداء واجبه مخلصًا في مساعدة الطرف الآخر أيضًا على أداء واجبه، وقد يكون حماس المحامي باعثًا له على أن يبالغ في الاهتمام بمسائل يرى القاضي المثقل بالرول الطويل أن الوقت لا يتسع للإنصات إليها، كما قد يبالغ القاضي في الرغبة في الإنجاز بحيث يحرج المحامي أمام ضميره وأمام موكليه، وهذه الصعوبة نشعر أنها في ازدياد كل يوم، فالإحصائيات القضائية تدل على اضطراد الزيادة في عدد القضايا وبعد أن كانت المائة هي العدد الذي لا يحلم بوصول رول القاضي الجزئي إليه أصبح مشحونًا أحيانًا بعدة مئات، وإذن لا مفر من التعاون الفعلي بين القضاء والمحاماة ليرضي كل ضميره [(3)].
حصانة المحامي في الجلسة:
ولقد كان تعدد حوادث الاحتكاك بين القضاة والمحامين حافزًا للمشرع على أن يتدخل فيضع من التشريعات ما يحمي المحاماة أثناء وجوده بالجلسة للقيام بواجبه، ويحيطه بحصانة يمتنع معها على القاضي أن يحاكمه أو يحكم عليه إذا وقع منه أثناء انعقاد الجلسة ما يعده القاضي اعتداءً عليه أو إخلالاً بنظام الجلسة، إذ يقتصر حق القاضي في مثل هذه الحالة على تحرير محضر بما حدث، مع جواز إحالة المحامي إلى قاضي التحقيق لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه يستوجب مؤاخذته جنائيًا وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستوجب مؤاخذته تأديبيًا، وفي الحالين لا يجوز أن يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد أعضائها عضوًا في الهيئة التي تنظر الدعوى الجنائية أو التأديبية إذا أقيمت.
وقد استحدثت هذه الحصانة في مصر بقانون المحاماة رقم (98) لسنة 1944 ثم نص عليها
قانون المرافعات الجديد في المادة (130)، كما نص عليها قانون الإجراءات الجنائية في المادة (245)، لكي يتسنى للمحامي أن يقوم بواجبه المقدس في الدفاع عن موكليه بكل حرية واطمئنان على الوجه الذي يرضي ضميره، ولكي لا يكون القاضي - الذي يعتقد أن المحامي اعتدى عليه أو أخل بنظام الجلسة - خصمًا وحكمًا في آنٍ واحد، ولكي لا يقضي في دعوى هو أحد طرفيها تحت تأثير غضب أو ضيق صدر بسبب (الرول الطويل المربك الذي عليه أن ينجزه)، كما يقول حضرة المستشار محمد مختار عبد الله…
ولعل هذه الحصانة - مع النصائح الغالية التي أشار على الفريقين باتباعها حضرة المستشار محمد مختار عبد الله - كفيلة بعدم تكرار حوادث الاحتكاك بين القضاة والمحامين ليتعاون الجميع في ود دائم واحترام متبادل على أداء رسالتهما المشتركة في خدمة العدالة.
(2)
بيان:
تكلمنا في العدد الماضي عن تقدير القضاء لمهنة المحاماة، واستخلصنا منه صحة كلمة فولتير (إن المحاماة أجل مهنة في العالم)، ثم تناولنا الكلام على عمل المحامي وحياته اليومية، وأثبتنا أن المحاماة - كما أنها أجل مهنة في العالم - هي أيضًا أشق مهنة في العالم، وتكلمنا عن المحامي كما يجب أن يكون، وأشرنا إلى ثقافته وتنوع دراساته، وأوردنا بيانًا موجزًا عن المحامين الذين تولوا رئاسة الدول والحكومات والبرلمانات وزعامة الشعوب، والذين تولوا أرفع مناصب القضاء، والوزراء والمستشارين والقضاة الذين تركوا مناصبهم للاشتغال بالمحاماة، وأخيرًا تكلمنا عن متاعب المهنة وأخصها الحوادث التي تقع بين القضاة والمحامين وأسبابها وعلاجها، وانتهينا إلى الكلام عن حصانة المحامي في الجلسة والقوانين التي نظمتها [(4)].
وفي عدد سابق تكلمنا عن مقابل أتعاب المحاماة الذي يقضي به على الخصم الذي خسر الدعوى، وما جرى به العرف من الحكم بمبالغ تافهة لا تعوض صاحب الحق عما أنفقه في سبيل الوصول إلى حقه، وأوردنا حكم القانون وآراء الشراح وأحكام القضاء التي توجب كلها الحكم لصاحب الحق بقدر من أتعاب المحاماة يوازي ما دفعه فعلاً، أو ما كان يجب أن يدفعه، إلى محاميه الذي عهد إليه في استرداد حقه المغصوب أو دفع دعوى خصمه المبطلة [(5)].
ونختم هذه السلسلة بالكلام عن واجب المحامي، ثم عن المحامين تحت التمرين.
واجب المحامي:
إن واجب المحامي هو الدفاع عن المظلوم، ولكن هل كل المتهمين مظلومون ؟ وماذا يفعل المحامي إذا وكل عن متهم معترف ؟ بل ماذا يفعل إذا وكل عن متهم منكر اعترف له بارتكاب الجريمة ؟
هذه أسئلة لا تجد ردًا عليها في الكتب، ولكننا نعرف الرد عليهم من تقاليد المحاماة الشريفة العريقة، حقًا إنه ليس كل المتهمين مظلومين، ولكن قل إن تجد منهما غير جدير بالرحمة والعطف، فكثيرًا ما نصادف متهمين مثقفين من عليه القوم دفعتهم الظروف دفعًا إلى ارتكاب جريمة في ثورة غضب، أو دفعًا لإهانة، وجلَّ من لا يخطئ…..
وهناك متهمون ارتكبوا جرائم دون أن يكونوا مسؤولين عنها لسبب من أسباب الإباحة وموانع العقاب: كمن يرتكب جريمة بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة (مادة 60 عقوبات)، ومن يرتكب جريمة دفاعًا عن النفس أو المال (مادة 61 عقوبات) أو من يرتكب جريمة وهو فاقد الشعور أو الاختيار في عمله، إما لجنون أو عاهة في العقل، وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة إذا أخذها قهرًا عنه أو على غير علم منه بها، (مادة 62 عقوبات) أو الموظف الذي يرتكب الفعل تنفيذًا لأمر صادر إليه من رئيس تجب عليه إطاعته أو اعتقد أنها واجبة عليه، أو يرتكب الفعل بحسن نية تنفيذًا لما أمرت به القوانين أو ما أعتقد أن إجراءه من اختصاصه (مادة 63 عقوبات).
وهناك متهمون غير مسؤولين مسؤولية كاملة عن الأفعال التي ارتكبوها لمرض عقلي أو نفسي أو عصبي - كالعته والشيزوفرانيا والحالات السيكرباتية….
في هذه الحالات يجب على المحامي أن يبرز ويثبت للمحكمة ظروف الحادث، وسبب الإباحة أو موانع العقاب إن وجدت، وحالة المتهم وقت ارتكاب الجريمة من الوجهة العقلية والنفسية والعصبية، مستعينًا بتاريخ المتهم وأثر الوراثة وتقارير الأطباء الأخصائيين، مع بيان الظروف المخففة.
ولكن ما العمل إذا كان المتهم قد أنكر ارتكاب الجريمة وباح لمحاميه بارتكابها ؟
لا شك أن في هذه الحالة تعارضًا بين ضمير المحامي وواجبه إذ هو لا يستطيع إفشاء سر المهنة، كما أن ضميره لا يطاوعه على طلب البراءة.
ومن حسن الحظ إن هذه الحالة نادرة الوقوع، حيث لا يبوح المتهم عادةً لمحاميه بارتكاب الجريمة إذا كان قد أنكر ارتكابها أمام المحققين، حيث لا يجد فائدة تعود عليه من الاعتراف للمحامي.
فإذا حدث ذلك فإنه يجب على المحامي أن يتنحى عن الدفاع في القضية - إرضاءً لضميره ومحافظةً على مصلحة موكله - وفي هذه الحالة يوكل المتهم محاميًا آخر لن يبيح إليه في هذه المرة بسره، فيتولى المحامي الجديد الدفاع عنه مرتاح الضمير لطلب البراءة.
وهذه إحدى التضحيات التي تحتمها على المحامي تقاليد مهنته الشريفة…
المحامون تحت التمرين:
إن مدة السنتين التي يقضيها المحامي تحت التمرين هي إحدى الصعوبات التي تواجه خريجي الحقوق، بل هي الصدمة الأولى التي تجابهم، إذ يرون زملاءهم من خريجي المعاهد الأخرى يباشرون عملهم فور تخرجهم، ويتقاضون مرتبات محترمة تتناسب مع مؤهلاتهم، بينما يضطرون هم - دون سواهم - إلى قضاء هذه الفترة يقومون بأعمالهم أمام المحاكم وفي المكاتب دون أن يتقاضوا أجرًا مناسبًا، أو دون أن يتقاضوا أجرًا أصلاً…
والذنب في ذلك ليس ذنبهم، بل ذنب النظام السخيف الذي يفرض عليهم قضاء أربع سنوات كاملة في كلية الحقوق يحشون أدمغتهم بدراسات نظرية وتفصيلات دقيقة وفروض قد لا تتحقق أبدًا ويندر أن تصادفهم في العمل أصلاً دون أن يتمرنوا على تحرير عرائض الدعوى والمذكرات، أو يشهدوا جلسات المحاكم وما يدور فيها من مرافعات، أو يطلعوا على الأحكام والتحقيقات، أو يلموا بمختلف إجراءات التقاضي أمام المحاكم، وتحرير العقود وشهرها بمكاتب التوثيق والشهر العقاري !!!
ولا ندري لماذا لا تختزل بعض الدراسات النظرية، والتفصيلات التي لا طائل تحتها، وتخصص السنان الأخيرتان - إلى جانب الدراسة النظرية - للتمرين عمليًا على تحرير عرائض الدعاوى والمذكرات وإجراءات التحقيق وشهود جلسات المحاكم وزيارة أقلام الكتاب والمحضرين ومكاتب التوثيق والشهر العقاري تحت إشراف أساتذتهم، كما هو الحال في الكليات العملية مثل كليات الطب التي يقضي طلبتها العامين الأخيرين في المران بالمستشفيات - وكليات الهندسة التي يتمرن طلبتها في المصانع - ومدارس المعلمين التي يقوم طلبة السنة النهائية ليس فقط بزيارة المدارس بل بإلقاء الدروس على التلاميذ !!!
هذا هو الحل العملي الوحيد لمشكلة المحامين تحت التمرين، ففيه حفظ لكرامتهم وتجنيبهم صعابًا لا يجوز أن يتعرض لها أمثالهم من الشباب في مستهل حياتهم العملية.
[(1)] آبلتون: (مهنة المحاماة) صـ 21.
وهنري روبير: (المحامي) تعريب حليم سيفين صـ 55.
[(2)] جارسونيه جزء 1 صـ 413.
[(3)] من محاضرة قيمة ألقاها على المحامين تحت التمرين حضرة الأستاذ محمد مختار عبد الله المستشار بقاعة محكمة الاستئناف يوم 10 ديسمبر سنة 1931، وهي منشورة بمجلة المحاماة السنة الثانية عشرة بالعددين السادس والسابع صـ 559 و671.
[(4)] المحاماة السنة الثانية والثلاثون العدد الثالث صـ 547.
[(5)] المحاماة السنة الثالثة والثلاثون العدد الثامن صـ 1230.
أثر نقض الحكم فيما يكون قد تم من التنفيذ بمقتضاه
مجلة المحاماة مصر سنة 1933
يقع أحيانًا أن يتم تنفيذ الحكم قبل الفصل في النقض المرفوع عنه.
فماذا يكون مصير ذلك التنفيذ الذي تم إذا ما نقض الحكم الذي حصل التنفيذ بمقتضاه.
وهل يكون لمن نقض الحكم لصالحه أن ينفذ حكم النقض ذاته لاسترداد ما دفعه تنفيذًا للحكم المنقوض أم يلزم لذلك رفع دعوى جديدة.
وإن قامت صعوبة في وجه التنفيذ بحكم النقض ذاته فما هي الجهة المختصة بالنظر في تلك الصعوبات.
أثر نقض الحكم:
وإن كان الطعن في الحكم بطريق النقض والإبرام لا يوقف تنفيذه عملاً بالمادة (13) من قانون النقض إلا أن مصير هذا التنفيذ معلق بمصير الحكم المطعون فيه والذي حصل التنفيذ بمقتضاه عملاً بالمادة (31) من نفس القانون وهي تنص على أنه: (يترتب على نقض الحكم (إلغاء جميع الأحكام والأعمال اللاحقة للحكم المنقوض متى كان ذلك الحكم أساسًا لها….)
وبديهي أن تنفيذ الحكم المنقوض هو من الأعمال اللاحقة له والتي كان ذلك الحكم أساسًا لها فيترتب على نقض الحكم إلغاؤها.
وزادت المذكرة التفسيرية المرافقة لقانون النقض هذا المعنى وضوحًا فقد جاء بالصحيفة (31) ما يأتي - (وقد كان من الضروري النص على ذلك صراحة في القانون إذ أن الطعن بطريق النقض لا يوقف التنفيذ وكان من الجائز أنه بينما تكون القضية منظورة أمام محكمة النقض يكون الخصوم سائرين في إجراءات نزع الملكية أو غيرها من الإجراءات)
(المبينة على الحكم المطعون فيه… )
إذن وطبقًا لما تقدم يُلغى من تلقاء نفسه وبقوة القانون كل تنفيذ تم بحكم ألغته محكمة النقض والإبرام ويقع هذا الأثر ولو لم تذكره محكمة النقض صراحة في حكمها لأن القانون ذكره صراحة في مواده.
يراجع جارسونيه جزء (6) ص (758) فقرة (443) (طبعة ثالثة) فقد جاء به عند سرد آثار نقض الحكم ما يأتي:
(L’arrêt de cassation,……. produit quatre effets: - 443 1. Le rétablissement des choses en l’etat ou elles étaient au moment où l’arrêt casse a été rendu: conséquence naturelle de l’annulation de cet arrêt et qui va de soi quand même la cour a omis de le dire en cassant)
فنقض الحكم يؤثر بذاته في مركز الخصوم ويعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الحكم المنقوض فيجب لذلك أن ترد كافة المبالغ المدفوعة نفاذًا للحكم المنقوض، وتسقط كافة التسجيلات والحقوق العينية التي ترتبت على العقار بمقتضى ذلك الحكم - يراجع أيضًا.
(Dalloz Repertoire (cassation) No. 2014)
كيف يطلب الرد:
أما وقد تقرر أن إلغاء التنفيذ السابق يحصل قانونًا بمجرد نقض الحكم الذي تم التنفيذ بمقتضاه فلا حاجة إذن لاستصدار حكم جديد بإلغاء هذا التنفيذ ورد ما دفع بمقتضاه.
بل يعتبر حكم النقض بذاته هو السند التنفيذي بهذا الإلغاء والرد.
ويمكن تنفيذ ذلك الحكم لاسترداد ما دفع تنفيذًا للحكم المنقوض.
وبهذا المعنى تجري أحكام القضاء الفرنسي، يراجع:
(Dalloz Pratique (Cassation) page 229 No 402 L’arrêt de casaation a encore cet effet d’obliger les parties qui ont obtenu l’arrêt cassé a restituer toutes les sommes qu’elles ont recues en exécution de cct arrêt: encore que la cour de cassation n’ait pas ordonné la restitution et sans qu’il soit necessaire d’aatendre la decision de la cour de renvoi)
وقد شذ عن هذا الرأي حكم صدر من محكمة كولمار في 26 أغسطس سنة 1835 وحكم لمحكمة ليون في 29 مارس سنة 1855 فيرى هذان الحكمان أن التنفيذ لا يكون إلا بمنطوق صريح فإن جاء حكم النقض خاليًا من النص الصريح على الرد امتنع التنفيذ بحكم النقض لأن الأحكام يجب أن تكون صريحة قاطعة.
وهذا رأي ينقصه صريح نص القانون ومفهوم أثر النقض من أنه يلغي كافة الأعمال التي ترتبت على الحكم المنقوض والتي كان أساسًا لها.
وتطبيقًا للقواعد سالفة الذكر يكون للمحكوم لصالحه من محكمة النقض الحق في أن يسترد ما دفعه كاملاً وفوائده، وتسري الفوائد - كما قضى بذلك القضاء الفرنسي بعد تردد - من يوم إعلان الحكم الذي يقوم مقام المطالبة الرسمية.
الجهة المختصة بنظر الإشكالات:
قد يكون الامتناع عن تنفيذ حكم النقض من جهة المحضر المكلف بالتنفيذ، وقد يكون الاعتراض من جهة الخصم المطلوب التنفيذ ضده، وقد يكون مبنى الاعتراض أن حكم النقض لا يجوز تنفيذه لخلوه من منطوق صريح ملزم بالرد وقد يكون مبنى الاعتراض أسباب موضوعية متعلقة بالسداد، فما هي الجهة المختصة بنظر هذه الصعوبات التي تعترض التنفيذ.
1 - إن كان الامتناع من جانب المحضر فيرجع صاحب الشأن إلى رئيس المحكمة، طبقًا للمادة (283) مرافعات.
2 - وإن كان من جانب الخصم فله أن يرجع إلي محكمة النقض بطريق التفسير.
3 - على أن الجهة العادية لفض هذه الإشكالات هي القضاء المستعجل الكائن في دائرته التنفيذ، يراجع: (Dalloz pratique (Cassation) No. 404)
وقد عرض على محكمة النقض والإبرام - بتقرير بالتفسير Pourvoi en interprétation لتبدي رأيها في امتناع قلم المحضرين عن تنفيذ حكم لها لرد ما دفع بالحكم المنقوض وكان ذلك في طعن رفعه السيد منز في أحكام أصدرته محكمة بروكسل لمصلحة السيد لاتزبرج وألغتها محكمة النقض بعد إن كان هذا الأخير قد نفذها فطلب السيد منز من قلم المحضرين تنفيذ حكم النقض لاسترداد ما دفعه تنفيذًا للأحكام الملغاة فتوقف المحضرون بحجة أن حكم النقض خالٍ من منطوق صريح بالرد، فقدم السيد منز تقريرًا بطلب تفسير الحكم من محكمة النقض فقررت ما يأتي:
(La cour - attendu que l’effet nécessaire et légal de l’annulation de dites arrêts de la cour de Bruxelles a été de remettre les parties au même et semblable état où elles étaient avant la pronunciation de ces arrêts: qu’il suit de là qu ‘ en cassant et annulant les dites arrêts la cour a implicitement autorisé le Sieur Mens à exiger la restitution des capitaux, frais et interêts par lui payés au sieur Lanbsberg en exécution de dites condemnations).
ومن كل هذا يثبت:
أن مصير التنفيذ الذي يتم بحكم مطعون فيه بطريق النقض معلق بمصير ذلك الحكم أن نقض سقط التنفيذ تبعًا وبقوة القانون.
وإن استرداد ما دفع تنفيذًا للحكم المنقوض جائز بمقتضى الحكم الذي نقضه بغير حاجة إلى رفع دعوى جديدة، وإن حصل إشكال في التنفيذ فالمرجع فيه إلى الجهة المختصة بذلك وهي القضاء المستعجل الكائن في دائرته التنفيذ ويمكن الرجوع بطريق طلب التفسير إلى ذات المحكمة التي أصدرت الحكم.
عبد الرحيم غنيم
يقع أحيانًا أن يتم تنفيذ الحكم قبل الفصل في النقض المرفوع عنه.
فماذا يكون مصير ذلك التنفيذ الذي تم إذا ما نقض الحكم الذي حصل التنفيذ بمقتضاه.
وهل يكون لمن نقض الحكم لصالحه أن ينفذ حكم النقض ذاته لاسترداد ما دفعه تنفيذًا للحكم المنقوض أم يلزم لذلك رفع دعوى جديدة.
وإن قامت صعوبة في وجه التنفيذ بحكم النقض ذاته فما هي الجهة المختصة بالنظر في تلك الصعوبات.
أثر نقض الحكم:
وإن كان الطعن في الحكم بطريق النقض والإبرام لا يوقف تنفيذه عملاً بالمادة (13) من قانون النقض إلا أن مصير هذا التنفيذ معلق بمصير الحكم المطعون فيه والذي حصل التنفيذ بمقتضاه عملاً بالمادة (31) من نفس القانون وهي تنص على أنه: (يترتب على نقض الحكم (إلغاء جميع الأحكام والأعمال اللاحقة للحكم المنقوض متى كان ذلك الحكم أساسًا لها….)
وبديهي أن تنفيذ الحكم المنقوض هو من الأعمال اللاحقة له والتي كان ذلك الحكم أساسًا لها فيترتب على نقض الحكم إلغاؤها.
وزادت المذكرة التفسيرية المرافقة لقانون النقض هذا المعنى وضوحًا فقد جاء بالصحيفة (31) ما يأتي - (وقد كان من الضروري النص على ذلك صراحة في القانون إذ أن الطعن بطريق النقض لا يوقف التنفيذ وكان من الجائز أنه بينما تكون القضية منظورة أمام محكمة النقض يكون الخصوم سائرين في إجراءات نزع الملكية أو غيرها من الإجراءات)
(المبينة على الحكم المطعون فيه… )
إذن وطبقًا لما تقدم يُلغى من تلقاء نفسه وبقوة القانون كل تنفيذ تم بحكم ألغته محكمة النقض والإبرام ويقع هذا الأثر ولو لم تذكره محكمة النقض صراحة في حكمها لأن القانون ذكره صراحة في مواده.
يراجع جارسونيه جزء (6) ص (758) فقرة (443) (طبعة ثالثة) فقد جاء به عند سرد آثار نقض الحكم ما يأتي:
(L’arrêt de cassation,……. produit quatre effets: - 443 1. Le rétablissement des choses en l’etat ou elles étaient au moment où l’arrêt casse a été rendu: conséquence naturelle de l’annulation de cet arrêt et qui va de soi quand même la cour a omis de le dire en cassant)
فنقض الحكم يؤثر بذاته في مركز الخصوم ويعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الحكم المنقوض فيجب لذلك أن ترد كافة المبالغ المدفوعة نفاذًا للحكم المنقوض، وتسقط كافة التسجيلات والحقوق العينية التي ترتبت على العقار بمقتضى ذلك الحكم - يراجع أيضًا.
(Dalloz Repertoire (cassation) No. 2014)
كيف يطلب الرد:
أما وقد تقرر أن إلغاء التنفيذ السابق يحصل قانونًا بمجرد نقض الحكم الذي تم التنفيذ بمقتضاه فلا حاجة إذن لاستصدار حكم جديد بإلغاء هذا التنفيذ ورد ما دفع بمقتضاه.
بل يعتبر حكم النقض بذاته هو السند التنفيذي بهذا الإلغاء والرد.
ويمكن تنفيذ ذلك الحكم لاسترداد ما دفع تنفيذًا للحكم المنقوض.
وبهذا المعنى تجري أحكام القضاء الفرنسي، يراجع:
(Dalloz Pratique (Cassation) page 229 No 402 L’arrêt de casaation a encore cet effet d’obliger les parties qui ont obtenu l’arrêt cassé a restituer toutes les sommes qu’elles ont recues en exécution de cct arrêt: encore que la cour de cassation n’ait pas ordonné la restitution et sans qu’il soit necessaire d’aatendre la decision de la cour de renvoi)
وقد شذ عن هذا الرأي حكم صدر من محكمة كولمار في 26 أغسطس سنة 1835 وحكم لمحكمة ليون في 29 مارس سنة 1855 فيرى هذان الحكمان أن التنفيذ لا يكون إلا بمنطوق صريح فإن جاء حكم النقض خاليًا من النص الصريح على الرد امتنع التنفيذ بحكم النقض لأن الأحكام يجب أن تكون صريحة قاطعة.
وهذا رأي ينقصه صريح نص القانون ومفهوم أثر النقض من أنه يلغي كافة الأعمال التي ترتبت على الحكم المنقوض والتي كان أساسًا لها.
وتطبيقًا للقواعد سالفة الذكر يكون للمحكوم لصالحه من محكمة النقض الحق في أن يسترد ما دفعه كاملاً وفوائده، وتسري الفوائد - كما قضى بذلك القضاء الفرنسي بعد تردد - من يوم إعلان الحكم الذي يقوم مقام المطالبة الرسمية.
الجهة المختصة بنظر الإشكالات:
قد يكون الامتناع عن تنفيذ حكم النقض من جهة المحضر المكلف بالتنفيذ، وقد يكون الاعتراض من جهة الخصم المطلوب التنفيذ ضده، وقد يكون مبنى الاعتراض أن حكم النقض لا يجوز تنفيذه لخلوه من منطوق صريح ملزم بالرد وقد يكون مبنى الاعتراض أسباب موضوعية متعلقة بالسداد، فما هي الجهة المختصة بنظر هذه الصعوبات التي تعترض التنفيذ.
1 - إن كان الامتناع من جانب المحضر فيرجع صاحب الشأن إلى رئيس المحكمة، طبقًا للمادة (283) مرافعات.
2 - وإن كان من جانب الخصم فله أن يرجع إلي محكمة النقض بطريق التفسير.
3 - على أن الجهة العادية لفض هذه الإشكالات هي القضاء المستعجل الكائن في دائرته التنفيذ، يراجع: (Dalloz pratique (Cassation) No. 404)
وقد عرض على محكمة النقض والإبرام - بتقرير بالتفسير Pourvoi en interprétation لتبدي رأيها في امتناع قلم المحضرين عن تنفيذ حكم لها لرد ما دفع بالحكم المنقوض وكان ذلك في طعن رفعه السيد منز في أحكام أصدرته محكمة بروكسل لمصلحة السيد لاتزبرج وألغتها محكمة النقض بعد إن كان هذا الأخير قد نفذها فطلب السيد منز من قلم المحضرين تنفيذ حكم النقض لاسترداد ما دفعه تنفيذًا للأحكام الملغاة فتوقف المحضرون بحجة أن حكم النقض خالٍ من منطوق صريح بالرد، فقدم السيد منز تقريرًا بطلب تفسير الحكم من محكمة النقض فقررت ما يأتي:
(La cour - attendu que l’effet nécessaire et légal de l’annulation de dites arrêts de la cour de Bruxelles a été de remettre les parties au même et semblable état où elles étaient avant la pronunciation de ces arrêts: qu’il suit de là qu ‘ en cassant et annulant les dites arrêts la cour a implicitement autorisé le Sieur Mens à exiger la restitution des capitaux, frais et interêts par lui payés au sieur Lanbsberg en exécution de dites condemnations).
ومن كل هذا يثبت:
أن مصير التنفيذ الذي يتم بحكم مطعون فيه بطريق النقض معلق بمصير ذلك الحكم أن نقض سقط التنفيذ تبعًا وبقوة القانون.
وإن استرداد ما دفع تنفيذًا للحكم المنقوض جائز بمقتضى الحكم الذي نقضه بغير حاجة إلى رفع دعوى جديدة، وإن حصل إشكال في التنفيذ فالمرجع فيه إلى الجهة المختصة بذلك وهي القضاء المستعجل الكائن في دائرته التنفيذ ويمكن الرجوع بطريق طلب التفسير إلى ذات المحكمة التي أصدرت الحكم.
عبد الرحيم غنيم
عدم جواز قبول المدعي المدني لأول مرة بعد إعادة القضية من محكمة النقض للفصل فيها من جديد
مجلة المحاماة
بحث
لحضرة الأستاذ أحمد السادة المحامي
يهمنا الإشارة مبدئيًا إلى أن الدعوى المدنية هي أصلاً من اختصاص المحكمة المدنية وحدها، والقاضي المدني هو القاضي الطبيعي للدعوى المدنية، وإنما أجاز المشرع للمدعي المدني استثناءً أن يلجأ بدعواه إلى المحكمة الجنائية بشروط خاصة, وقد قيل هذا التدخل بقيود وشروط متعددة معروفة كلها ترمي إلى الحد من استعمال هذا الحق نظرًا لأن الدعوى الجنائية بإجراءاتها تتفق بطبيعتها مع المسائل المدنية, فنجد أن المشرع قد منع المدعي من التدخل في الدعوى الجنائية إذا سبق له أن اختار الطريق المدني كما أنه منع المدعي بالحق المدني من المعارضة في الحكم الغيابي الذي يصدر في الدعوى, وقد أقر قانون الإجراءات الجنائية الجديد كل هذه المبادئ وزاد عليها أن اعتبر أن المدعي المدني الذي يتخلف عن أحد الجلسات يعتبر تاركًا لدعواه (المادة (261) من قانون الإجراءات) بل أن بعض الشرائع تمنع تدخل المدعي المدني في الدعوى الجنائية إطلاقًا مثل القانون الألماني (المادة (111) تحقيق جنايات ألماني).
على ضوء كل ذلك نتناول بيان عدم قبول المدعي المدني لأول مرة بعد إعادة القضية من محكمة النقض للفصل فيها من جديد بما يأتي:
إن القول بعكس ذلك غير جائز قانونًا ومخالف للمبدأ القانوني المعروف والمعمول به في مسائل الطعن في الأحكام والقائل بأن الشخص لا يضار بطعنه.
ولهذا القول خطورته من وجهة الإجراءات الجنائية، فإن الإخلال به يترتب عليه أن يقوم إلى جانب النيابة خصم له مصلحة خاصة غير مقيدة بشعور الصالح العام، أو بشعور العدالة في ذاتها، فيترافع ضد المتهم لإثبات الجريمة مما قد يكون له الأثر في تكوين عقيدة المحكمة ومما يجعل على القاضي من تلقاء نفسه أن يمنع تدخله منعًا للإخلال بالأوضاع والأصول المحترمة في الإجراءات الجنائية، خصوصًا وأن هذا الخصم قد أصبح الحكم الأول بالنسبة إليه نهائيًا ومانعًا له من الالتجاء إلى القضاء الجنائي للحصول على حقه المدني, ولم يبقَ أمامه إلا القضاء المدني بسكوته على المطالبة بحقه أثناء المحاكمة الأولى حتى صدر الحكم فيها وأصبح من المتعين أن تكون المحاكمة الثانية مقصورة على النظر في مركز المحكوم عليه وقت صدور الحكم المنقوض, بحيث لا يترتب على النظر والفصل فيه إلا تحسينه أو على الأكثر عدم الإضرار به, والقاعدة العامة التي عليها إجماع الرأي سواء في مصر أو في فرنسا على أن الدعوى عند الإعادة تظل في نفس الحدود وبين نفس الخصوم الذين كانوا ماثلين في الدعوى عند نظرها في أول مرة, ولا يجوز لمن لم يكن خصمًا في الدعوى عند نظرها في أول مرة أن يأتي ويطلب دخوله مدعيًا عند نظر القضية في الإعادة, وهو ما سنبينه فيما يلي:
في مصر
1 - حكمت محكمة النقض بتاريخ 14 يونيه سنة 1948 حكمًا منشورًا بمجلة المحاماة العددان الخامس والسادس السنة 29 ص (568) قاعدة رقم (278) قرر المبدأ الآتي:
(إن طبيعة الطعن بطريق النقض والإبرام وأحكامه وإجراءاته لا تسمح بالقول بجواز تدخل المدعي بالحق المدني في الدعوى الجنائية لأول مرة بعد إحالتها من محكمة النقض إلى محكمة الموضوع لإعادة الفصل فيها بعد نقض الحكم وإذن فيكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ إذ قبل الدعوى المدنية عند إعادة نظر الدعوى الجنائية ويجب في سبيل وضع الأمور في نصابها نقضه بهذا الصدد والقضاء بعدم قبول الدعوى المدنية).
2 - وقد أصدرت المحكمة الجنائية تأييدًا لهذا المبدأ حكمًا بتاريخ 7 فبراير سنة 1951 منشورًا بمجلة المحاماة العدد الثامن السنة الحادية والثلاثين ص (1442) قاعدة رقم (414) قررت فيه المبدأ الآتي:
(إن طبيعة الطعن بطريق النقض وأحكامه وإجراءاته لا تسمح بتدخل خصم آخر في الدعوى لأول مرة بعد إحالتها من محكمة النقض إلى محكمة الموضوع لإعادة الفصل فيها بعد نقض الحكم بأن تنظرها بحالتها من حيث الموضوع والخصوم ومن ثم فلا يجوز تدخل المدعي بالحق المدني لأول مرة أمام المحاكمة الجنائية بعد إحالة القضية من محكمة النقض ما دام لم يكن ممثلاً في الدعوى من قبل بما لا يسمح لأيٍ كان أن يتدخل في الدعوى، فالقضية تنظر بحالتها التي كانت عليها قبل النقض، من حيث الخصومة والموضوع، ولا يجوز قبول خصوم جدد في الدعوى ومن ثم يتعين رفض طلب التدخل).
3 - وقد أيدت هذا الرأي أيضًا محكمة جنايات مصر في حكمها الصادر بجلسة 28 إبريل سنة 1951, في قضية النيابة العمومية رقم (5776) وايلي سنة 1948 (ورقم (883) كلي سنة 1948) بذات المبدأ (والحكم لم يُنشر).
4 - ولعل ما يتناقض مع هذا المبدأ في الإجراءات ما نصت عليه المادة (438) من قانون الإجراءات الجنائية والمعمول به الآن من أن:
(إذا طعن مرة ثانية في الحكم الصادر من المحكمة المحال عليها الدعوى، تحكم محكمة النقض في الموضوع، وفي هذه الحالة تتبع الإجراءات المقررة في المحاكمة عن الجريمة التي وقعت).
فإذا ما رفع نقض مثلاً بعد نقض الحكم الأول، وكانت دعوى المدعي المدني قد قبلت عند نظر الجناية بعد نقض الحكم، فإن محكمة النقض عند تطبيق المادة (438) تكون أمام حالتين: الدعوى العمومية وقد نظرت مرتين أمام المحكمة الجنائية، والدعوى المدنية وقد نظرت مرة واحدة.
5 - والمشرع المصري قد اتجه نفس الاتجاه عند إصدار قانون الإجراءات الجنائية الجديد، فأصل الفقرة الثانية من المادة (436) من هذا القانون عند تقديم مشروع القانون من الوزارة إلى البرلمان كانت كما يأتي:
(لا يجوز تشديد العقوبة على المتهم إذا كان الطعن مرفوعًا منه وحده).
وجاء تفسيرًا لذلك بالمذكرة الإيضاحية:
(وإذا كان مقتضى القواعد القانونية أن المحكوم عليه لا يصح أن يضار بتظلمه فقد نص في المادة 466/ 2 (أصبحت المادة (436) من القانون) على أنه لا يجوز تشديد العقوبة على المتهم إذا كان الطعن مرفوعًا منه وحده وهذا مطابق للتطور الأخير في أحكام محكمة النقض).
(مجموعة محمود عاصم (97)).
فلما عرض المشرع لأول مرة على مجلس الشيوخ رأى تعديل هذه المادة وجاء في تقرير المجلس ما يأتي:
حذفت الفقرة الأولى لأنها بديهية ونتيجة لازمة لنقض الحكم وإعادة الدعوى لمحكمة الموضوع للفصل فيها من جديد وعدلت عبارة الفقرة الثانية بالنص بصفة عامة على أن الطاعن غير النيابة لا يضار بطعنه، (المرجع السابق ص (197)).
فصدرت المادة بعد عرضها على المجلسين بالنص الآتي:
(إذا كان نقض الحكم حاصلاً بناءً على طلب أحد من الخصوم غير النيابة العامة، فلا يضار بطعنه).
وكأن رأي المشرع (البرلمان) أن لا يكون تحاشي الضرر قاصرًا على تشديد العقوبة بل يتناول الحالة العامة للمتهم، والمدعي المدني في حالتنا كما قدمنا هو خصم جديد منضم إلى النيابة لا لتأييد المتهم في دفاعه وإنما لتأييد النيابة في مخاصمتها له وإذن فليس موقفه لصالحه بل للإضرار به وقد كان الادعاء المدني مسيئًا إلى مركزه في أول مرة، وإذن فيبين أن المادة واتجاه المشرع ينطبق على حالتنا تمامًا.
في فرنسا
أما في فرنسا فإن الأحكام متواترة ومتعددة في هذا الشأن وآراء رجال الفقه كلها مستقرة على هذا الرأي بلا أدنى خلاف:
1 - فقد أصدرت محكمة النقض الفرنسية حكمًا في هذا الشأن منشور في مجلة داللوز الدورية سنة 1934 القسم الأول في باب النقض صحيفة 21 حيث قررت بأن الاختصاص في حالة إعادة نظر الدعوى بعد النقض يكون قاصرًا على نفس الموضوع ونفس الخصوم بمعنى أن الخصومة تنتقل بحالتها التي كانت عليها عند نظر القضية في أول مرة وبناءً على ذلك فإن الخصم الذي لم يكن ماثلاً في الدعوى عند نظرها في أول مرة قبل صدور الحكم بالإلغاء والإعادة ليس له أن يقيم نفسه مدعيًا مدنيًا لأول مرة أمام المحكمة عند نظر القضية بعد الإعادة.
(La juridiction de renvoi après cassation est saisie du même procés avec les mêmes parties. C’est à dire de procés tel qu’il a éré presenté devant les premiers juges, avec les seules parties qui ont figuré dans l’instance dès lors une partie qui n’a pas figuré dans l’instance ayant donné lieu au jugement lassé n’est pas recevable à se constituer pour la première fois partie civil devant le juge de renvoi.
2 - وهذا هو رأي العلامة جارو في مطولة تحقيق الجنايات جزء (5) ص (499) بند (1949) حيث قال:
(En principe l’arrêt de Cassation avec renvoi a pour effet de déférer
(Le procés et les parties) ainsi que s’exprime l’article 427 du Code d’instruction à l’examen de la juridiction saisie.
En ce qui concerne les parties, toutes celles mises en cause par le pourvoi suivi d’annulation, mais seulement celles - là, seront en instance devant la juridiction de renvoi.
وترجمته: (الحكم بالنقض مع إعادة القضية لمحكمة الإعادة نتيجة إعادة القضية والخصوم (على حد تعبير المادة (427) من قانون تحقيق الجنايات الفرنساوي) إلى المحكمة الجديدة, ففيما يتعلق بالخصوم في الحكم المقضي بإلغائه هؤلاء فقط هم الذين يكونون طرفًا في الخصومة أمام محكمة الإعادة).
3 - وجاء في الـ Juris Classeures طبعة سنة 1950 تحت عنوان (سلطة واختصاص المحكمة عند إعادة نظر القضية بعد نقضها) وذلك تعليقًا على المواد (407) - (442) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي بند (205) ما يأتي حرفيًا:
(Si la Cour Suprême a annulé l’arrêt de condamnation, qu’une partie civile qui ne s’était pas costituée devant la première juridiction saisie serait irrecevable pour se présenter devant la juridiction de renvoi)
ترجمة ذلك: (إذا قضت المحكمة العليا ببطلان حكم الإدانة فإن المدعي المدني الذي لم يكن قد ادعى مدنيًا أمام الهيئة الأولى التي نظرت القضية لا يجوز قبوله عند إعادة نظر القضية بعد الإحالة).
وأساس هذا الرأي كله يستند، كما قدمنا، إلى قاعدة عامة معروفة هي أن المتهم لا يضار من طعنه ولا يجوز أن يترتب على إلغاء الحكم بناءً على سعيه الإساءة إليه سواء من ناحية تشديد العقوبة ضده أو من ناحية تدخل أشخاص مطالبين بحقوق لم يشاء استعمالها عند نظر القضية في أول مرة.
وهذا المبدأ قد حرصت كل التشريعات على النص عليه وقد نص عليه قانون الإجراءات الجنائية الجديد في المادة (436) كما هو مفهومها.
هذه الآراء التي قدمناها صريحةً في عدم جواز قبول تدخل المدعي المدني لأول مرة سواء كان القضية أصلاً فيها مدعٍ مدني غير الشخص الذي يطلب تدخله أو لا يوجد فيها أي مدعٍ مدني إطلاقًا, ولا فرق بين الحالتين، لأن الشخص الذي يطلب دخوله لأول مرة إنما يدخل مدعيًا بحق جديد لنفسه مستقل عن حق المدعي المدني الذي تدخل أولاً - والسبب الذي يقيم كل منهما دعواه عليه مختلف وإن كان متشابهًا، حقيقةً أن وفاة المجني عليه هي مصدر التعويض ولكن أحد المدعين يطالب مثلاً بتعويض أدبي لحق شعوره وإحساسه، وآخرون يطالبون بتعويض أدبي لحقهم هم خاصة ليس هو التعويض الأدبي الأول فالطلبان مختلفان من ناحية الموضوع والخصوم والسبب، فهي دعوى جديدة مستقلة تمامًا بأركانها جميعًا عن دعوى المدعي الأول، ومن ثم تكون غير مقبولة.
بحث
لحضرة الأستاذ أحمد السادة المحامي
يهمنا الإشارة مبدئيًا إلى أن الدعوى المدنية هي أصلاً من اختصاص المحكمة المدنية وحدها، والقاضي المدني هو القاضي الطبيعي للدعوى المدنية، وإنما أجاز المشرع للمدعي المدني استثناءً أن يلجأ بدعواه إلى المحكمة الجنائية بشروط خاصة, وقد قيل هذا التدخل بقيود وشروط متعددة معروفة كلها ترمي إلى الحد من استعمال هذا الحق نظرًا لأن الدعوى الجنائية بإجراءاتها تتفق بطبيعتها مع المسائل المدنية, فنجد أن المشرع قد منع المدعي من التدخل في الدعوى الجنائية إذا سبق له أن اختار الطريق المدني كما أنه منع المدعي بالحق المدني من المعارضة في الحكم الغيابي الذي يصدر في الدعوى, وقد أقر قانون الإجراءات الجنائية الجديد كل هذه المبادئ وزاد عليها أن اعتبر أن المدعي المدني الذي يتخلف عن أحد الجلسات يعتبر تاركًا لدعواه (المادة (261) من قانون الإجراءات) بل أن بعض الشرائع تمنع تدخل المدعي المدني في الدعوى الجنائية إطلاقًا مثل القانون الألماني (المادة (111) تحقيق جنايات ألماني).
على ضوء كل ذلك نتناول بيان عدم قبول المدعي المدني لأول مرة بعد إعادة القضية من محكمة النقض للفصل فيها من جديد بما يأتي:
إن القول بعكس ذلك غير جائز قانونًا ومخالف للمبدأ القانوني المعروف والمعمول به في مسائل الطعن في الأحكام والقائل بأن الشخص لا يضار بطعنه.
ولهذا القول خطورته من وجهة الإجراءات الجنائية، فإن الإخلال به يترتب عليه أن يقوم إلى جانب النيابة خصم له مصلحة خاصة غير مقيدة بشعور الصالح العام، أو بشعور العدالة في ذاتها، فيترافع ضد المتهم لإثبات الجريمة مما قد يكون له الأثر في تكوين عقيدة المحكمة ومما يجعل على القاضي من تلقاء نفسه أن يمنع تدخله منعًا للإخلال بالأوضاع والأصول المحترمة في الإجراءات الجنائية، خصوصًا وأن هذا الخصم قد أصبح الحكم الأول بالنسبة إليه نهائيًا ومانعًا له من الالتجاء إلى القضاء الجنائي للحصول على حقه المدني, ولم يبقَ أمامه إلا القضاء المدني بسكوته على المطالبة بحقه أثناء المحاكمة الأولى حتى صدر الحكم فيها وأصبح من المتعين أن تكون المحاكمة الثانية مقصورة على النظر في مركز المحكوم عليه وقت صدور الحكم المنقوض, بحيث لا يترتب على النظر والفصل فيه إلا تحسينه أو على الأكثر عدم الإضرار به, والقاعدة العامة التي عليها إجماع الرأي سواء في مصر أو في فرنسا على أن الدعوى عند الإعادة تظل في نفس الحدود وبين نفس الخصوم الذين كانوا ماثلين في الدعوى عند نظرها في أول مرة, ولا يجوز لمن لم يكن خصمًا في الدعوى عند نظرها في أول مرة أن يأتي ويطلب دخوله مدعيًا عند نظر القضية في الإعادة, وهو ما سنبينه فيما يلي:
في مصر
1 - حكمت محكمة النقض بتاريخ 14 يونيه سنة 1948 حكمًا منشورًا بمجلة المحاماة العددان الخامس والسادس السنة 29 ص (568) قاعدة رقم (278) قرر المبدأ الآتي:
(إن طبيعة الطعن بطريق النقض والإبرام وأحكامه وإجراءاته لا تسمح بالقول بجواز تدخل المدعي بالحق المدني في الدعوى الجنائية لأول مرة بعد إحالتها من محكمة النقض إلى محكمة الموضوع لإعادة الفصل فيها بعد نقض الحكم وإذن فيكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ إذ قبل الدعوى المدنية عند إعادة نظر الدعوى الجنائية ويجب في سبيل وضع الأمور في نصابها نقضه بهذا الصدد والقضاء بعدم قبول الدعوى المدنية).
2 - وقد أصدرت المحكمة الجنائية تأييدًا لهذا المبدأ حكمًا بتاريخ 7 فبراير سنة 1951 منشورًا بمجلة المحاماة العدد الثامن السنة الحادية والثلاثين ص (1442) قاعدة رقم (414) قررت فيه المبدأ الآتي:
(إن طبيعة الطعن بطريق النقض وأحكامه وإجراءاته لا تسمح بتدخل خصم آخر في الدعوى لأول مرة بعد إحالتها من محكمة النقض إلى محكمة الموضوع لإعادة الفصل فيها بعد نقض الحكم بأن تنظرها بحالتها من حيث الموضوع والخصوم ومن ثم فلا يجوز تدخل المدعي بالحق المدني لأول مرة أمام المحاكمة الجنائية بعد إحالة القضية من محكمة النقض ما دام لم يكن ممثلاً في الدعوى من قبل بما لا يسمح لأيٍ كان أن يتدخل في الدعوى، فالقضية تنظر بحالتها التي كانت عليها قبل النقض، من حيث الخصومة والموضوع، ولا يجوز قبول خصوم جدد في الدعوى ومن ثم يتعين رفض طلب التدخل).
3 - وقد أيدت هذا الرأي أيضًا محكمة جنايات مصر في حكمها الصادر بجلسة 28 إبريل سنة 1951, في قضية النيابة العمومية رقم (5776) وايلي سنة 1948 (ورقم (883) كلي سنة 1948) بذات المبدأ (والحكم لم يُنشر).
4 - ولعل ما يتناقض مع هذا المبدأ في الإجراءات ما نصت عليه المادة (438) من قانون الإجراءات الجنائية والمعمول به الآن من أن:
(إذا طعن مرة ثانية في الحكم الصادر من المحكمة المحال عليها الدعوى، تحكم محكمة النقض في الموضوع، وفي هذه الحالة تتبع الإجراءات المقررة في المحاكمة عن الجريمة التي وقعت).
فإذا ما رفع نقض مثلاً بعد نقض الحكم الأول، وكانت دعوى المدعي المدني قد قبلت عند نظر الجناية بعد نقض الحكم، فإن محكمة النقض عند تطبيق المادة (438) تكون أمام حالتين: الدعوى العمومية وقد نظرت مرتين أمام المحكمة الجنائية، والدعوى المدنية وقد نظرت مرة واحدة.
5 - والمشرع المصري قد اتجه نفس الاتجاه عند إصدار قانون الإجراءات الجنائية الجديد، فأصل الفقرة الثانية من المادة (436) من هذا القانون عند تقديم مشروع القانون من الوزارة إلى البرلمان كانت كما يأتي:
(لا يجوز تشديد العقوبة على المتهم إذا كان الطعن مرفوعًا منه وحده).
وجاء تفسيرًا لذلك بالمذكرة الإيضاحية:
(وإذا كان مقتضى القواعد القانونية أن المحكوم عليه لا يصح أن يضار بتظلمه فقد نص في المادة 466/ 2 (أصبحت المادة (436) من القانون) على أنه لا يجوز تشديد العقوبة على المتهم إذا كان الطعن مرفوعًا منه وحده وهذا مطابق للتطور الأخير في أحكام محكمة النقض).
(مجموعة محمود عاصم (97)).
فلما عرض المشرع لأول مرة على مجلس الشيوخ رأى تعديل هذه المادة وجاء في تقرير المجلس ما يأتي:
حذفت الفقرة الأولى لأنها بديهية ونتيجة لازمة لنقض الحكم وإعادة الدعوى لمحكمة الموضوع للفصل فيها من جديد وعدلت عبارة الفقرة الثانية بالنص بصفة عامة على أن الطاعن غير النيابة لا يضار بطعنه، (المرجع السابق ص (197)).
فصدرت المادة بعد عرضها على المجلسين بالنص الآتي:
(إذا كان نقض الحكم حاصلاً بناءً على طلب أحد من الخصوم غير النيابة العامة، فلا يضار بطعنه).
وكأن رأي المشرع (البرلمان) أن لا يكون تحاشي الضرر قاصرًا على تشديد العقوبة بل يتناول الحالة العامة للمتهم، والمدعي المدني في حالتنا كما قدمنا هو خصم جديد منضم إلى النيابة لا لتأييد المتهم في دفاعه وإنما لتأييد النيابة في مخاصمتها له وإذن فليس موقفه لصالحه بل للإضرار به وقد كان الادعاء المدني مسيئًا إلى مركزه في أول مرة، وإذن فيبين أن المادة واتجاه المشرع ينطبق على حالتنا تمامًا.
في فرنسا
أما في فرنسا فإن الأحكام متواترة ومتعددة في هذا الشأن وآراء رجال الفقه كلها مستقرة على هذا الرأي بلا أدنى خلاف:
1 - فقد أصدرت محكمة النقض الفرنسية حكمًا في هذا الشأن منشور في مجلة داللوز الدورية سنة 1934 القسم الأول في باب النقض صحيفة 21 حيث قررت بأن الاختصاص في حالة إعادة نظر الدعوى بعد النقض يكون قاصرًا على نفس الموضوع ونفس الخصوم بمعنى أن الخصومة تنتقل بحالتها التي كانت عليها عند نظر القضية في أول مرة وبناءً على ذلك فإن الخصم الذي لم يكن ماثلاً في الدعوى عند نظرها في أول مرة قبل صدور الحكم بالإلغاء والإعادة ليس له أن يقيم نفسه مدعيًا مدنيًا لأول مرة أمام المحكمة عند نظر القضية بعد الإعادة.
(La juridiction de renvoi après cassation est saisie du même procés avec les mêmes parties. C’est à dire de procés tel qu’il a éré presenté devant les premiers juges, avec les seules parties qui ont figuré dans l’instance dès lors une partie qui n’a pas figuré dans l’instance ayant donné lieu au jugement lassé n’est pas recevable à se constituer pour la première fois partie civil devant le juge de renvoi.
2 - وهذا هو رأي العلامة جارو في مطولة تحقيق الجنايات جزء (5) ص (499) بند (1949) حيث قال:
(En principe l’arrêt de Cassation avec renvoi a pour effet de déférer
(Le procés et les parties) ainsi que s’exprime l’article 427 du Code d’instruction à l’examen de la juridiction saisie.
En ce qui concerne les parties, toutes celles mises en cause par le pourvoi suivi d’annulation, mais seulement celles - là, seront en instance devant la juridiction de renvoi.
وترجمته: (الحكم بالنقض مع إعادة القضية لمحكمة الإعادة نتيجة إعادة القضية والخصوم (على حد تعبير المادة (427) من قانون تحقيق الجنايات الفرنساوي) إلى المحكمة الجديدة, ففيما يتعلق بالخصوم في الحكم المقضي بإلغائه هؤلاء فقط هم الذين يكونون طرفًا في الخصومة أمام محكمة الإعادة).
3 - وجاء في الـ Juris Classeures طبعة سنة 1950 تحت عنوان (سلطة واختصاص المحكمة عند إعادة نظر القضية بعد نقضها) وذلك تعليقًا على المواد (407) - (442) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي بند (205) ما يأتي حرفيًا:
(Si la Cour Suprême a annulé l’arrêt de condamnation, qu’une partie civile qui ne s’était pas costituée devant la première juridiction saisie serait irrecevable pour se présenter devant la juridiction de renvoi)
ترجمة ذلك: (إذا قضت المحكمة العليا ببطلان حكم الإدانة فإن المدعي المدني الذي لم يكن قد ادعى مدنيًا أمام الهيئة الأولى التي نظرت القضية لا يجوز قبوله عند إعادة نظر القضية بعد الإحالة).
وأساس هذا الرأي كله يستند، كما قدمنا، إلى قاعدة عامة معروفة هي أن المتهم لا يضار من طعنه ولا يجوز أن يترتب على إلغاء الحكم بناءً على سعيه الإساءة إليه سواء من ناحية تشديد العقوبة ضده أو من ناحية تدخل أشخاص مطالبين بحقوق لم يشاء استعمالها عند نظر القضية في أول مرة.
وهذا المبدأ قد حرصت كل التشريعات على النص عليه وقد نص عليه قانون الإجراءات الجنائية الجديد في المادة (436) كما هو مفهومها.
هذه الآراء التي قدمناها صريحةً في عدم جواز قبول تدخل المدعي المدني لأول مرة سواء كان القضية أصلاً فيها مدعٍ مدني غير الشخص الذي يطلب تدخله أو لا يوجد فيها أي مدعٍ مدني إطلاقًا, ولا فرق بين الحالتين، لأن الشخص الذي يطلب دخوله لأول مرة إنما يدخل مدعيًا بحق جديد لنفسه مستقل عن حق المدعي المدني الذي تدخل أولاً - والسبب الذي يقيم كل منهما دعواه عليه مختلف وإن كان متشابهًا، حقيقةً أن وفاة المجني عليه هي مصدر التعويض ولكن أحد المدعين يطالب مثلاً بتعويض أدبي لحق شعوره وإحساسه، وآخرون يطالبون بتعويض أدبي لحقهم هم خاصة ليس هو التعويض الأدبي الأول فالطلبان مختلفان من ناحية الموضوع والخصوم والسبب، فهي دعوى جديدة مستقلة تمامًا بأركانها جميعًا عن دعوى المدعي الأول، ومن ثم تكون غير مقبولة.
واجب المحاكم في قضايا الخبرة
مجلة المحاماة – العدد الخامس
السنة العشرون سنة 1940
واجب المحاكم في قضايا الخبرة
بحث حول المادة (243) مكررة من قانون المرافعات
من زمن بعيد والشكوى عامة مستفيضة من قضايا الخبرة والصعوبات التي تقوم في وجهها وتلاقيها، وهي شكوى ذات حدين: حدها الأول جمهور المتقاضين، وحدها الثاني الخبراء.
فهي من ناحية الجمهوري: تتردد بين ما يحسه أطراف الدعوى من تراخٍ في العمل وتهاون في أدائه وعدم توخي جانب الحق في التحري عنه والسير به بعيدًا عن الرقابة القضائية الفعالة.
وهي من ناحية الخبراء: تقوم على عدم التيسير لهم في أجورهم وأرزاقهم والصعوبة التي يجدونها في تحصيل المصاريف التي ينفقونها مقدمًا وبنوع خاص في تحصيل ما يقدر لهم من الأتعاب وليس في قانون المرافعات من الوسائل المجدية ما يكفي لتلافيا.
لهذا رأى الشارع مشكورًا أن يتدخل ويصلح ذات البين.
ففي 10 يوليه سنة 1933 صدر القانون رقم (75) لسنة 1933 والقانون رقم (76) لسنة 1913 بتعديل قانون الخبراء وتعديل بعض مواده في قانون المرافعات تعديلاً وإن لم يصل في مجموعه إلى حد الكمال إلا أنه في يقيني وتقديري أشبه بعلاج مسكن لحالة استفاضت الشكوى منها وضاقت صدور الناس بها.
من بين هذه التعديلات مادة جديدة، هي المادة (243 مكررة)، أضافها الشارع إلى الفرع الرابع من الفصل الثاني من الباب السابع من الكتاب الأول من قانون المرافعات ونصها كالآتي:
يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين للمحكمة رأيه والأوجه التي تبرره وللمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لاستنارتها في الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم وتحصل المناقشة في هذه الجلسة ولو لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها إلا إذا وجدت أسباب استثنائية وجب إثباتها في المحضر وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره.
وقد عنى الشارع الإفصاح عما أراده ودار بذهنه عند إضافة هذا النص الجديد بما جاء في مذكرته الإيضاحية المؤرخة 9 نوفمبر سنة 1932 ونصها كالآتي:
(وينص المشروع كذلك على أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير وللفصل في الموضوع إن كانت القضية صالحة للفصل فيها، ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه، ولا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة الخبير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة، وقد أجيز للمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنويرها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم كما أجيز لها في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها).
عبارة هذا النص المحكم لا إشارته تقطع في الدلالة على الآتي:
1 - حضور الخبراء أمام المحاكم لشرح تقاريرهم ومناقشة أعمالهم مناقشة علنية وبحضور أطراف الدعوى أصبح إجراءً واجبًا وحتميًا من إجراءات المرافعة في قضايا الخبرة.
وهذا الوجوب ظاهر من قول المادة: (يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين رأيه والأوجه التي تبرره)، وقولها: (وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره (بما يستفاد منه قطعًا ويقينًا أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا بد منه.
وهو ظاهر أيضًا من عبارة المذكرة الإيضاحية وقولها: (أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير) وقولها: (ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرره ومناقشته فيه) وقولها: (كما أجيز لها – أي للمحكمة - في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها) إذ في القول بأنه يجب على القاضي أن يحدد جلسة للمناقشة في التقرير وأنه يتحتم حضور الخبير للإدلاء برأيه ما يقطع ولا شك في أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا يغني عنه ولا يعفي منه سوى اتفاق الخصوم على عدم لزومه.
2 - وهو إجراء له حكمته وأهميته ليدلي الخبير أمام المحكمة برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه و (لتوجه إليه المحكمة من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم) وعلى حد تعبير المذكرة: (لا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة التقرير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة).
3 - وهو إجراء واجب لازم ليس للمحكمة أن تعفي الخبير منه وتتسلب من مقتضاه إلا باتفاق الخصوم.
ولكي تدرك جوهر هذا التعديل وأهميته أرجع إلى ما جرى عليه العمل قبله ثم قارن بين الوصفين وأحكم منصفًا.
( أ ) فقد جرى العمل قبل التعديل على أن يباشر الخبير مأموريته ويقدم تقريره عنها بعيدًا عن رقابة المحكمة الفعالة تاركًا لها مهمة مراجعته وفحصه وتفهمه وبعيدًا عن رقابة الخصوم ملقيًا عليهم عبء الدفاع عنه أو الطعن عليه، ويومئذ تكون الغلبة لمن هو ألحن بحجته….
ومع أنه قل أن تخلو أعمال الخبراء من عيوب وطعون، فقد قل كذلك أن تأمر المحكمة بحضورهم لمناقشتهم فيما اختلف عليه لديها مكتفية بترجيح إحدى وجهتي النظر وتغليبها على الأخرى هكذا في غيبة الخبير صاحب الرأي ومن واقع ما عساه يكون مقدمًا لديها من أوراق ومذكرات..!!..
وإن هي تجوزت وأمرت بحضوره ففي نطاق ضيق محدود ولمناقشته (فيما هو لازم) أو على قدر معلوم وللكشف عن بعض مسائل غمضت واستعصى حلها عليها ليشرح لها رأيه ومبررات هذا الرأي عن آخرها.
(ب) أما الآن فقد أصبح مجرد قيام الخبير بمباشرة مأموريته وتقديم تقريره عنها إجراء غير كافٍ ولا شافٍ، بل لا بد له من إجراء آخر يتبعه ويكمله، هو تحديد جلسة لمناقشة التقرير وحضور الخبير أمام المحكمة ليشرح رأيه ويبين أسانيده ومناقشته فيه.
وعندئذ تتهيأ للمحكمة الفرصة لسماع رأي الخبير ومبرراته ولتوجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع النزاع وفي عمل الخبير نفسه.
وعندئذ تتهيأ للخصوم الفرصة لإبداء ما لديهم من اعتراضات وطعون على عمل الخبير في موجهته وبحضوره لا في غيبته وبعيدًا عنه.
وعندئذ أيضًا تتهيأ للخبير الفرصة للدفاع عن تقريره والرد بنفسه على الطعون الموجهة إليه أولى من إلقاء هذا العبء على عاتق من جاء التقرير في مصلحته.
وبهذا تتهيأ الفرص جميعًا للكشف عن حقيقة النزاع ورأي الخبير ووجه الحق فيه علنًا وبحضور أصحاب الشأن في الدعوى.
وما بهذا الإجراء الجديد من شذوذ ولا عجب:
إذ الواقع أن حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه وبيان الأوجه التي تبرره ومناقشته فيه مناقشة علنية وبحضور أصحاب الشأن هو وضع للخبير تحت رقابة المحكمة الفعالة ورقابة الخصوم المباشرة، وفي ذلك ضمان بعيد لحسن سير العمل والاقتراب به ولو نسبيًا إلى حدود الكمال.
وما من شك في أن الخبير الذي يباشر مأموريته وهو يعلم بأنه (موضوع تحت المراقبة) وملزم بالدفاع عن تقريره أمام المحكمة قل أن يخاطر بنفسه ويخاطر بجهوده خشية إحراجه والتضييق عليه.
لا بل لك أن تقول بأن حضور الخبير أمام المحكمة ليبين رأيه ومبرراته علنًا وفي مواجهة أصحاب الشأن يهيئ لها مجالاً أوسع للكشف عن حقيقة النزاع والحكم على عمل الخبير وتقدير الطعون المسندة إليه وبالتالي يسهل لها سبيل استنارتها وتكوين رأيها والفصل في الدعوى عن عقيدة وباطمئنان.
وأخيرًا… فلا أقل من أن نفترض بأن مناقشة أعمال الخبير بغير حضوره وفي غيبته قد تسهل للخصوم طريق استرابته وتجريحه واستباحته وتترك لهم حبل الطعن ممتدًا على الغارب، فيعاتبونه حينًا، ويلومونه حينًا، ويعنفونه أحيانًا، ومن شأن التعديل أن يهيئ له فرصة الدفاع عن نفسه وعن عمله أمام المحكمة وبحضور أصحاب الشأن وشهود الجلسة وفي ذلك ما فيه من مصلحة محققة له أقلها درء الحدود وسد الذرائع وقطع الألسنة التي قد يحلو لها أن تتحرك للطعن عليه عفوًا وبالباطل.
قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير قبل أن تطلع عليه.
ليس هذا بعذر… وفي وسع المحكمة استجلاءً للحقيقة وبغير حاجة إلى نص في القانون أن تؤجل القضية لاطلاعها هي كما تؤجلها لاطلاع الخصوم ولو اطلاعًا أوليًا وبالقدر الذي يمكنها من تتبع الرأي والمناقشة فيه، ومع ذلك فها هو الشارع قد عالج هذا النقص وأوجب تحديد جلسة للمناقشة في التقرير حتى وإن لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها.
على أن الفكرة في التعديل لا تقف عند حد (المناقشة) ولكنها تمتد إلى غرض أبعد وأسمى، ذلك هو حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح لها تقريره ويدلي برأيه وأسانيده، وقد يغني هذا الشرح عن المناقشة، وقد يفتتح لها ألف باب وباب، ومن يدرينا فقد تكشف مع الحذر والتفرس عن خفايا وخبايا قد لا تصل إليها أو تتعفف عنها ألسنة الدفاع وقد لا تفيد معها محاولة الإقناع.
ولعل الشارع أراد بتعديله أن يضع لقضايا الخبرة دستورًا جديدًا بعدم سماع المرافعة فيها قبل أن تطلع المحكمة على تقرير الخبير وقبل أن يحضر ليشرحه لها بنفسه وقبل أن يتمكن الخصوم من مواجهته بطعونهم ومناقشته فيها مناقشة علنية.
كذلك قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير وهي لا مصلحة لها فيها في تلك المناقشة وكيف تسير بها قبل أن يترافع الخصوم وتتبين طعونهم فتقدرها بقدرها وتسمح بعد ذلك أولاً تسمح بالمناقشة.
وهو اعتراض مردود، إن لم يكن بذاته مصدر الشكوى وموضع الداء، رأى الشارع علاجه أو تسكينه بتحتيم حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح تقريره وتمكين طرفي الخصوم من مناقشته والطعن عليه في مواجهة الخبير وبحضوره، حيث قدر بأن مثل هذه المناقشة الحضورية العلنية لا بد وأن تكشف عن حقيقة النزاع وتجلي أوجه الحق فيه وأوجه الخطأ أو الصواب في أعمال الخبير وادعاءات الخصوم بشأنها.
ولم لا يكون الشارع قد أراد أن يجعل مناقشة أعمال الخبراء حقًا موسعًا للخصوم بعد أن كان حقًا ضعيفًا متزلزلاً ومقيدًا برأي المحكمة فتأمر بها أو لا تأمر على حسب الأحوال.
والآن… ما قولك في أن هذا النص الكامل الفاضل مهمل التطبيق في مجال العمل، ألا تأسف معي على أن الشارع في وادٍ، ولا يزال العمل في وادٍ.
أحمد زكي
المحامي
بوزارة الأوقاف
السنة العشرون سنة 1940
واجب المحاكم في قضايا الخبرة
بحث حول المادة (243) مكررة من قانون المرافعات
من زمن بعيد والشكوى عامة مستفيضة من قضايا الخبرة والصعوبات التي تقوم في وجهها وتلاقيها، وهي شكوى ذات حدين: حدها الأول جمهور المتقاضين، وحدها الثاني الخبراء.
فهي من ناحية الجمهوري: تتردد بين ما يحسه أطراف الدعوى من تراخٍ في العمل وتهاون في أدائه وعدم توخي جانب الحق في التحري عنه والسير به بعيدًا عن الرقابة القضائية الفعالة.
وهي من ناحية الخبراء: تقوم على عدم التيسير لهم في أجورهم وأرزاقهم والصعوبة التي يجدونها في تحصيل المصاريف التي ينفقونها مقدمًا وبنوع خاص في تحصيل ما يقدر لهم من الأتعاب وليس في قانون المرافعات من الوسائل المجدية ما يكفي لتلافيا.
لهذا رأى الشارع مشكورًا أن يتدخل ويصلح ذات البين.
ففي 10 يوليه سنة 1933 صدر القانون رقم (75) لسنة 1933 والقانون رقم (76) لسنة 1913 بتعديل قانون الخبراء وتعديل بعض مواده في قانون المرافعات تعديلاً وإن لم يصل في مجموعه إلى حد الكمال إلا أنه في يقيني وتقديري أشبه بعلاج مسكن لحالة استفاضت الشكوى منها وضاقت صدور الناس بها.
من بين هذه التعديلات مادة جديدة، هي المادة (243 مكررة)، أضافها الشارع إلى الفرع الرابع من الفصل الثاني من الباب السابع من الكتاب الأول من قانون المرافعات ونصها كالآتي:
يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين للمحكمة رأيه والأوجه التي تبرره وللمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لاستنارتها في الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم وتحصل المناقشة في هذه الجلسة ولو لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها إلا إذا وجدت أسباب استثنائية وجب إثباتها في المحضر وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره.
وقد عنى الشارع الإفصاح عما أراده ودار بذهنه عند إضافة هذا النص الجديد بما جاء في مذكرته الإيضاحية المؤرخة 9 نوفمبر سنة 1932 ونصها كالآتي:
(وينص المشروع كذلك على أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير وللفصل في الموضوع إن كانت القضية صالحة للفصل فيها، ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه، ولا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة الخبير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة، وقد أجيز للمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنويرها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم كما أجيز لها في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها).
عبارة هذا النص المحكم لا إشارته تقطع في الدلالة على الآتي:
1 - حضور الخبراء أمام المحاكم لشرح تقاريرهم ومناقشة أعمالهم مناقشة علنية وبحضور أطراف الدعوى أصبح إجراءً واجبًا وحتميًا من إجراءات المرافعة في قضايا الخبرة.
وهذا الوجوب ظاهر من قول المادة: (يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين رأيه والأوجه التي تبرره)، وقولها: (وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره (بما يستفاد منه قطعًا ويقينًا أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا بد منه.
وهو ظاهر أيضًا من عبارة المذكرة الإيضاحية وقولها: (أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير) وقولها: (ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرره ومناقشته فيه) وقولها: (كما أجيز لها – أي للمحكمة - في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها) إذ في القول بأنه يجب على القاضي أن يحدد جلسة للمناقشة في التقرير وأنه يتحتم حضور الخبير للإدلاء برأيه ما يقطع ولا شك في أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا يغني عنه ولا يعفي منه سوى اتفاق الخصوم على عدم لزومه.
2 - وهو إجراء له حكمته وأهميته ليدلي الخبير أمام المحكمة برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه و (لتوجه إليه المحكمة من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم) وعلى حد تعبير المذكرة: (لا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة التقرير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة).
3 - وهو إجراء واجب لازم ليس للمحكمة أن تعفي الخبير منه وتتسلب من مقتضاه إلا باتفاق الخصوم.
ولكي تدرك جوهر هذا التعديل وأهميته أرجع إلى ما جرى عليه العمل قبله ثم قارن بين الوصفين وأحكم منصفًا.
( أ ) فقد جرى العمل قبل التعديل على أن يباشر الخبير مأموريته ويقدم تقريره عنها بعيدًا عن رقابة المحكمة الفعالة تاركًا لها مهمة مراجعته وفحصه وتفهمه وبعيدًا عن رقابة الخصوم ملقيًا عليهم عبء الدفاع عنه أو الطعن عليه، ويومئذ تكون الغلبة لمن هو ألحن بحجته….
ومع أنه قل أن تخلو أعمال الخبراء من عيوب وطعون، فقد قل كذلك أن تأمر المحكمة بحضورهم لمناقشتهم فيما اختلف عليه لديها مكتفية بترجيح إحدى وجهتي النظر وتغليبها على الأخرى هكذا في غيبة الخبير صاحب الرأي ومن واقع ما عساه يكون مقدمًا لديها من أوراق ومذكرات..!!..
وإن هي تجوزت وأمرت بحضوره ففي نطاق ضيق محدود ولمناقشته (فيما هو لازم) أو على قدر معلوم وللكشف عن بعض مسائل غمضت واستعصى حلها عليها ليشرح لها رأيه ومبررات هذا الرأي عن آخرها.
(ب) أما الآن فقد أصبح مجرد قيام الخبير بمباشرة مأموريته وتقديم تقريره عنها إجراء غير كافٍ ولا شافٍ، بل لا بد له من إجراء آخر يتبعه ويكمله، هو تحديد جلسة لمناقشة التقرير وحضور الخبير أمام المحكمة ليشرح رأيه ويبين أسانيده ومناقشته فيه.
وعندئذ تتهيأ للمحكمة الفرصة لسماع رأي الخبير ومبرراته ولتوجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع النزاع وفي عمل الخبير نفسه.
وعندئذ تتهيأ للخصوم الفرصة لإبداء ما لديهم من اعتراضات وطعون على عمل الخبير في موجهته وبحضوره لا في غيبته وبعيدًا عنه.
وعندئذ أيضًا تتهيأ للخبير الفرصة للدفاع عن تقريره والرد بنفسه على الطعون الموجهة إليه أولى من إلقاء هذا العبء على عاتق من جاء التقرير في مصلحته.
وبهذا تتهيأ الفرص جميعًا للكشف عن حقيقة النزاع ورأي الخبير ووجه الحق فيه علنًا وبحضور أصحاب الشأن في الدعوى.
وما بهذا الإجراء الجديد من شذوذ ولا عجب:
إذ الواقع أن حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه وبيان الأوجه التي تبرره ومناقشته فيه مناقشة علنية وبحضور أصحاب الشأن هو وضع للخبير تحت رقابة المحكمة الفعالة ورقابة الخصوم المباشرة، وفي ذلك ضمان بعيد لحسن سير العمل والاقتراب به ولو نسبيًا إلى حدود الكمال.
وما من شك في أن الخبير الذي يباشر مأموريته وهو يعلم بأنه (موضوع تحت المراقبة) وملزم بالدفاع عن تقريره أمام المحكمة قل أن يخاطر بنفسه ويخاطر بجهوده خشية إحراجه والتضييق عليه.
لا بل لك أن تقول بأن حضور الخبير أمام المحكمة ليبين رأيه ومبرراته علنًا وفي مواجهة أصحاب الشأن يهيئ لها مجالاً أوسع للكشف عن حقيقة النزاع والحكم على عمل الخبير وتقدير الطعون المسندة إليه وبالتالي يسهل لها سبيل استنارتها وتكوين رأيها والفصل في الدعوى عن عقيدة وباطمئنان.
وأخيرًا… فلا أقل من أن نفترض بأن مناقشة أعمال الخبير بغير حضوره وفي غيبته قد تسهل للخصوم طريق استرابته وتجريحه واستباحته وتترك لهم حبل الطعن ممتدًا على الغارب، فيعاتبونه حينًا، ويلومونه حينًا، ويعنفونه أحيانًا، ومن شأن التعديل أن يهيئ له فرصة الدفاع عن نفسه وعن عمله أمام المحكمة وبحضور أصحاب الشأن وشهود الجلسة وفي ذلك ما فيه من مصلحة محققة له أقلها درء الحدود وسد الذرائع وقطع الألسنة التي قد يحلو لها أن تتحرك للطعن عليه عفوًا وبالباطل.
قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير قبل أن تطلع عليه.
ليس هذا بعذر… وفي وسع المحكمة استجلاءً للحقيقة وبغير حاجة إلى نص في القانون أن تؤجل القضية لاطلاعها هي كما تؤجلها لاطلاع الخصوم ولو اطلاعًا أوليًا وبالقدر الذي يمكنها من تتبع الرأي والمناقشة فيه، ومع ذلك فها هو الشارع قد عالج هذا النقص وأوجب تحديد جلسة للمناقشة في التقرير حتى وإن لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها.
على أن الفكرة في التعديل لا تقف عند حد (المناقشة) ولكنها تمتد إلى غرض أبعد وأسمى، ذلك هو حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح لها تقريره ويدلي برأيه وأسانيده، وقد يغني هذا الشرح عن المناقشة، وقد يفتتح لها ألف باب وباب، ومن يدرينا فقد تكشف مع الحذر والتفرس عن خفايا وخبايا قد لا تصل إليها أو تتعفف عنها ألسنة الدفاع وقد لا تفيد معها محاولة الإقناع.
ولعل الشارع أراد بتعديله أن يضع لقضايا الخبرة دستورًا جديدًا بعدم سماع المرافعة فيها قبل أن تطلع المحكمة على تقرير الخبير وقبل أن يحضر ليشرحه لها بنفسه وقبل أن يتمكن الخصوم من مواجهته بطعونهم ومناقشته فيها مناقشة علنية.
كذلك قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير وهي لا مصلحة لها فيها في تلك المناقشة وكيف تسير بها قبل أن يترافع الخصوم وتتبين طعونهم فتقدرها بقدرها وتسمح بعد ذلك أولاً تسمح بالمناقشة.
وهو اعتراض مردود، إن لم يكن بذاته مصدر الشكوى وموضع الداء، رأى الشارع علاجه أو تسكينه بتحتيم حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح تقريره وتمكين طرفي الخصوم من مناقشته والطعن عليه في مواجهة الخبير وبحضوره، حيث قدر بأن مثل هذه المناقشة الحضورية العلنية لا بد وأن تكشف عن حقيقة النزاع وتجلي أوجه الحق فيه وأوجه الخطأ أو الصواب في أعمال الخبير وادعاءات الخصوم بشأنها.
ولم لا يكون الشارع قد أراد أن يجعل مناقشة أعمال الخبراء حقًا موسعًا للخصوم بعد أن كان حقًا ضعيفًا متزلزلاً ومقيدًا برأي المحكمة فتأمر بها أو لا تأمر على حسب الأحوال.
والآن… ما قولك في أن هذا النص الكامل الفاضل مهمل التطبيق في مجال العمل، ألا تأسف معي على أن الشارع في وادٍ، ولا يزال العمل في وادٍ.
أحمد زكي
المحامي
بوزارة الأوقاف
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)