بسم الله الرحمن الرحيم

أهلا بكم فى مدونة محمد جابر عيسى القانونية

23 سبتمبر 2011

بحث تعاصر النية مع الفعل المادي

مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة العشرون سنة 1939

بحث تعاصر [(1)] النية مع الفعل المادي
De la concomitance de l’intention et du fait matériel.

تمهيد وعرض للمسألة:
الجريمة – في القانون الجنائي - عمدية وغير عمدية، مثل الأولى القتل عمدًا، ومثل الثانية القتل خطأ، ولا بد في هذه وتلك من عنصر أدبي شخصي هو في الحالة الأولى توجيه الإرادة والعمل أو الامتناع نحو إحداث النتيجة: القتل، وفي الحالة الثانية التزام موقف إيجابي أو سلبي وفق الأحوال يؤدي إلى حصول النتيجة المحرمة: القتل، بغير أن تكون مقصودة ابتداءً أو مقبولة قبولاً احتماليًا [(2)] والفصيلة الأولى، أي الجرائم العمدية، هي المقصودة في هذا البحث، فهي لا تقوم بغير وجود (النية) – نية القتل في مثالنا - ولا تقوم بغير وجود (الواقعة المادية) واقعة القتل في هذا المثال.
لا بد إذن من اجتماع هذين الركنين، هذه حقيقة بسيطة لا نزاع حولها، ولكن متى يجب أن يكون هذا الاجتماع؟ وما هي النسبة الزمنية المتبادلة بين كل من الركنين؟ هذه هي المسألة التي نحاول معالجتها الآن.
ولاحتفظ بمثال القتل عمدًا، ولا فرض أن زيدًا من الناس ينقم من بكر أمورًا وقد انتهى إلى عقد العزم والنية عقدًا نهائيًا على قتل غريمه بكر وحدد لذلك اليوم الأخير من شهر معين هو شهر يناير وحدث أن خرج زيد يقود سيارته في اليوم الأول من شهر يناير المذكور، وكان بكر يسير في طريق السيارة دون أن يفطن زيد إلى وجوده ووقع من زيد خطأ ترتب عليه موت أشخاص اتضح فيما بعد أن بكرًا واحد منهم، هنا وجدت نية القتل عند زيد، وحصل أيضًا منه إزهاق النفس الإنسانية التي كان انتوى ازهاقها، فهل نأخذه بجريمة القتل عمدًا؟ كلا الركنين موجود ولكنهما لم يتلبس أحدهما بالآخر، لم يوجدًا في وقت واحد.
الرأي الغالب:
أما الرأي الغالب فيحتم التعاصر بين الركنين ولا يقبل إدانة المتهم في الفرض السابق على أساس القتل عمدًا لأنه ارتكب القتل عندما حدث القتل خطأ لا عمدًا.
وهذا الرأي يستند إلى أساس نظري كما يعتمد على بعض النصوص القانونية: فإن النية الخبيثة وحدها لا عقاب عليها وما لم تقترن ببدء في التنفيذ على الأقل فصاحبها لا يمكن اعتباره مجرمًا بالمعنى القانوني بل أنه قد يصرح عن نيته الخبيثة بأعمال تحضيرية ولكنه إن وقف عند هذا المدى لا يعاقب لأنه لما يشرع في التنفيذ، وما دام الأمر كذلك فلا سبيل إلى محاسبة قائد السيارة على نية القتل التي طوى عليها جوانحه لأنها نية بغير تنفيذ ولا بدء في تنفيذ، فإن كان قد قتل غريمه فيما بعد غير منتو قتله في هذه الساعة لأنه غير عالم بوجوده وغير راغب في وقوع حادثة لا يعلم من يكون ضحيتها، فحسابه محدود بهذه الحادثة: إن ثبت عليه خطأ أخذ بالقتل خطأ وإلا فالأمر قضاء وقدر ولا تثريب عليه.
أما النصوص القانونية التي يعتمد عليها هذا الرأي الغالب فمنها - في قانون العقوبات المصري - المادة (62) (فقرة أولى) التي تعفي من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الفعل) فاقد الشعور أو الاختيار في عمله لجنون أو عاهة في العقل، فإذا كان المتهم قد انتوى ارتكاب الجريمة وهو عاقل ثم أصيب بالجنون وارتكب تلك الجريمة مجنونًا فلا عقاب عليه وذلك لأن النية لم تصاحب الفعل المادي.
وكذلك الفقرة الثانية من المادة المذكورة التي تعفى من العقوبة من يكون (وقت ارتكاب الجريمة) فاقدًا الوعي بسبب السكر الخ.
وتمت مواد كثيرة تشير إلى ركن النية مقرونًا بالركن المادي فالمواد (206) و (208) و (213) و(214) و(215) و(217) و(220) و(221) (باب التزوير) تستعمل عبارات مع علمه (بتقليدها أو بتزويرها) و (بقصد التزوير) الخ مضافة إلى الفعل المادي.
ولقد أراد المشرع المصري الخروج على هذه القاعدة العامة قاعدة التعاصر في مسألة واحدة بخصوصها فاضطر إلى سن تشريع خاص استحدث به جريمة جديدة هي جريمة العثور على شيء ضائع والاحتفاظ به، أما التشريع الذي جرمها به فهو دكريتو سنة 1899 الذي قال:
(كل من يعثر على شيء أو حيوان ضائع ولم يتيسر له رده إلى صاحبه في الحال يجب عليه أن يسلمه أو أن يبلغ عنه إلى أقرب نقطة للبوليس في المدن أو إلى العمد في القرى).
ويجب إجراء التسليم أو التبليغ في ظرف ثلاثة أيام في المدن وثمانية أيام في القرى ومن لم يفعل ذلك يعاقب بدفع غرامة يجوز إبلاغها إلى مائة قرش وبضياع حقه في المكافأة المنصوص عنها في المادة الثالثة.
فإذا كان حبس الشيء أو الحيوان مصحوبًا بنية امتلاكه بطريق الغش فتقام الدعوى الجنائية المقررة لمثل هذه الحالة ولا يبقى هنالك وجه للمحاكمة عن المخالفة.
هذا التشريع الخاص هو – طبقًا للرأي الغالب - دليل على أن الأصل تحتيم تعاصر النية والفعل المادي وإلا ما أحتاج المشرع إلى تشريع يصدره بخصوص مسألة بعينها ما دام الحكم الذي يريده ثابتًا ومستفادًا من المبادئ العامة.
أي أن أصحاب الرأي الغالب يستنتجون من هذا الدكر يتو بمفهوم العكس A Contrario ما يؤيد نظريتهم [(3)].
بل ذهب الأستاذ جرانمولان إلى أبعد من ذلك فقال أن هذا المبدأ العام - وهو وجوب تعاصر النية والركن المادي - ظل محترمًا حتى في هذا الدكريتو فمن يعثر على شيء ضائع ثم تطرأ عليه بعد هذا العثور نية الاحتفاظ به لنفسه لا يرتُكب جنحة السرقة ولا جنحة مشبهة بها لأن الدكريتو المذكور لم يرد الخروج على القاعدة العامة وإنما أحال عليها، وسيأتي تفصيل رأيه.
رأي القضاء الفرنسي:
وليس في التشريع الفرنسي نص خاص بالعثور على شيء والاحتفاظ به فماذا كان موقف القضاء الفرنسي من هاذ الفعل؟ كان موقفه مؤيدًا للرأي الغالب لأنه فرق بين حالتين: الأولى وجود نية الغش عند العثور على الشيء، والثانية طروء هذه النية بعد العثور عليه، وفي الأولى قضى بالعقاب، وفي الثانية قضى بالبراءة.
وقد لخص الأستاذ جرانمولان هذا الموقف بقوله في كتاب (قانون العقوبات المصري - الجزء الثاني - ص (425) - فقرة (1670)) ما يأتي:

La jurisprudence francaise distingue si l’intention frauduleuse existait au moment ou la chose a été trouveé ou si elle n’est survenue que postérieurement.
Elle admet qu’il y a vol si l’intention de s’approprier l’objet est née au moment de la prise de possession car la soustraction fraudu leuse résulte de l’enelèvement de la chose trouvée avec l’intention de se l’approprier.
Dans la seconde hypothèse où la chose a été ramassée sans intention d’appropriation et où cette intention n’est survenue qu’ultérieurement, il n’y a pas vol. La loi exige, en effet, la soustration frauduleuse c’est - à - dire que l’intention criminelle existe au moment où la chose est appréhendée tandisque, dans l’espèce, elle ne s’est formée qu’après coup.

وترجمة ما تقدم:
(يميز القضاء الفرنسي بين حالة وجود نية الغش في اللحظة التي عثر فيها على الشيء، وحالة عدم وجود هذه النية إلا بعد العثور عليه، ويقرر القضاء وجود جريمة سرقة إذا كانت نية تملك الشيء قد ولدت في لحظة الحيازة لأن الاختلاس ينتج من حمل الشيء المعثور عليه حملاً مصحوبًا بنية تملكه.
أما في الفرض الثاني حيث يكون الشيء قد حمل بغير نية تملكه وحيث تكون هذه النية قد وجدت فيما بعد، فلا سرقة، أن القانون يشترط - في الواقع – (الأخذ بنية الغش) ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
وقد أشار الأستاذ جرانمولان في حاشية ص (425) المذكورة إلى أحكام قضائية فرنسية منها حكم النقض في 25 إبريل سنة 1884 وحكم النقض في 11 أغسطس سنة 1879 وحكم النقض في 16 مايو سنة 1903.
رأي الأستاذ جرانمولان:
والتأمل في الفقرات التي اقتبسناها يظهر أن الأستاذ جرانمولان يوافق على رأي القضاء في فرنسا، وتمت عبارة نود أن يقف عندها لما لها من أهمية في خصوص قضيتنا تلك هي قول الأستاذ:
(إن القانون يشترط في الواقع، الأخذ بنية الغش (la soustraction frauduleuse ومعنى هذا أن النية الجنائية يجب أن توجد في اللحظة التي يؤخذ فيها الشيء، وهي في هذا الفرض لم توجد إلا متأخرة).
رأي الأستاذ بالنسبة للقانون المصري:
وقد انتقل الأستاذ جرانمولان إلى القانون المصري ثم قال بغير تردد أن الحلول التي تقررت في فرنسا يجب الأخذ بها في مصر حيث النصوص والمبادئ متفقة مع ما يقابلها في فرنسا:

Les solutions de la jurisprudence francaise semblent devoir être admises en droit egyptien où les textes et les principes sont les mêmes.

(المرجع السابق ص (426) فقرة (1671)).
دكريتو 1899:
ولقد وصل الأستاذ، في تمسكه بهذا المبدأ المجمع عليه، إلى حيث خالف رأي لجنة المراقبة القضائية وارتأى أن دكريتو سنة 1899 ليس من شأنه التأثير فيه أي أن العثور على شيء بغير وجود نية تملكه ثم طروء هذه النية فيما بعد لا يعاقب عليه في مصر لأن هذا الدكريتو لم يفعل أكثر من الإحالة على قانون العقوبات وهذا القانون لا يقبل مطلقًا، لا بروحه ومبادئه العامة ولا بنصوصه، أن يعاقب على فعل جنائي لم يقترن بنية جنائية وإنما ولدت بعده. وهاكم نص قول الأستاذ في هذا الصدد:

Mais, quoiqu’ il parle de rétention frauduleuse, sans exiger que la soustraction elle même ait ete frauduleuse, ce texte se borne à renvoyer au code pénal; il ne parait pas qu’il ait entendu innover hi decider qu’il y a vol même dans le cas où l’intention de s’approprier l’object he prend naissance qu’après la mainmise sur l’objet perdu.

(المرجع السابق ص (427) – تابع الفقرة (1671)).
وأنه ليسترعي انتباهنا قول الأستاذ في الفقرة المتقدمة (ومع أنه – أي الدكريتو - يتكلم عن الاحتفاظ بنية التملك بغير اشتراط أن الأخذ عند العثور نفسه كان بنية التملك، فإن هذا النص يقنع بالإحالة على قانون العقوبات، ولا يبدو أنه أراد التجديد أو أراد تقرير وجود السرقة حتى في حالة عدم تولد نية التملك إلا بعد وضع اليد على الشيء الضائع).
وقد سنحت لمحكمة النقض في مصر فرصة قريبة لمعالجة هذه النقطة الفرعية فقضت بغير ما ارتآه جرانمولان.
قالت محكمة النقض:
(يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور على الأشياء الضائعة أن يتوافر لدى العاثر على الشيء الضائع نية امتلاكه سيان في ذلك إن كانت هذه النية مقارنة للعثور على الشيء أو لاحقة عليه [(4)].
وقد جاء هذا ردًا على طعن للمتهم لخصته محكمة النقض بقولها، (وحيث أن أوجه الطعن تتلخص في أن الطاعن لم تكن عنده نية اختلاس الأشياء الضائعة وقت أن عثر عليها مع أن توفر تلك النية وقت العثور على الشيء ضروري لتطبيق قانون الأشياء الضائعة الخ).
وظاهر مما تقدم أن المتهم بنى أول وجه للطعن على تلك المسألة القانونية وتمسك فيها بالقول الذي قال به جرانمولان ولكن محكمة النقض رفضت قبوله [(5)]
رأي القلة:
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النقطة الأساسية فنقول أن الرأي القائل بوجوب التعاصر هو الرأي السائد ولكنه ليس الرأي المجمع عليه.
وقد تصدى لانتقاده الأستاذ البرت شيرون A. Cheron في دروس ألقاها على طلبة الدكتوراه وطلبة المعهد الجنائي بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، وقال، بالقياس إلى الحجج النظرية، أنه لا ينازع في وجوب توفر صلة jointure بين النية والفعل المادي وأن هذه الصلة هي في الأغلب صلة في الزمان يتوفر بها التعاصر المذكور، ولكن ليس من المحتم أن تكون هذه الصلة دائمًا صلة زمنية وإنما المحتم أن توجد بين الأمرين رابطة منطقية فإن وجدت فلا مانع، من الوجهة الاجتماعية ولا الوجهة الخلقية، تمنع العقاب ويضرب لرأيه مثلاً، رجلاً انتوى سرقة حافظة نقود موجودة في معطف رجل آخر ولكنه لم يرتكب السرقة خوفًا من أن يراه ثم حدث بعد ذلك أن أراد الأول (ولنسمه (1)) أن يرتدي معطفه فأخطأه وارتدى معطف صاحب الحافظة (ولنسمه ب) فلما فطن إلى خطئه انتفع من هذا الخطأ واختلس حافظة النقود، ثم يضرب مثلاً ثانيًا رجلاً عثر على مال في الطريق فاتجه صوب الشرطة لتسليمه ولكنه غير في الطريق نيته واحتفظ به لنفسه، في هذين المثلين لا توجد الصلة الزمنية التي نسميها التعاصر ولكن توجد الصلة المنطقية وهي، في رأي الأستاذ شيرون، كافية للإدانة.
ويستند الأستاذ أيضًا إلى ما أثبته علم النفس من وجود العقل الباطن ففي المثلين المتقدمين توجد رابطة لا شعورية بين العثور البريء والاحتفاظ غير البريء والسكران الذي ارتكب فاقدًا وعيه جريمة كان انتوى ارتكابها في وعيه قد تأثر في جريمته بعزيمته السابقة التي اختزنها عقله الباطن ولو أنها في الظاهر لم تكن موجودة وقت مقارفة الجرم.
أما النصوص التي ارتكن إليها أصحاب الرأي الغالب فلا يراها الأستاذ شيرون قاطعة، ذلك أنهم تمسكوا بما جاء فيها من عبارات مثل (مع علمه بذلك) الخ ولكن كل هذه الـ Adverbes لا تفيد أكثر من اشتراط النية ولكنها لا تفيد وجوب تعاصر النية مع الفعل.
وأما المادة الـ (57) التي تشير إلى وقت ارتكاب الفعل فهي في رأي الأستاذ حجة قوية تدعم رأي من يخالفهم ولكنه يرى أن في تلك المادة عينها ما يعزز رأيه هو ذلك أنها لا تعفى من العقوبة إلا من تناول الخمر (بغير علمه أو بغير رضاه) ومعنى هذا أن من يتناول الخمر عالمًا بتناولها ليتشجع على ارتكاب جريمة انتوى ارتكابها حالة صحوه، لا ينجو من العقوبة رغم أن النية لن تكون معاصرة للفعل، وقد أردف الأستاذ هذا بقوله أنه يعلم أن المحاكم تبرئ في هذا الفرض على أساس انعدام النية [(6)]
ولكنه ينتقد هذا القضاء لأنه يخالف النص الصريح الذي يشترط أن يكون تناول الخمر بغير علمه أو بغير رضائه ثم لأنه يتنافى مع المصلحة الاجتماعية لأن السكر مع سبق الإصرار لا يجوز اعتباره سببًا من أسباب عدم العقوبة في حين تعتبره المادة (92) من القانون الإيطالي ظرفًا مشددًا.
أما دكريتو مايو سنة 1898 فإن الأستاذ يتساءل لماذا لا نعتبره تقريرًا للقاعدة بدل أن نعتبره خروجًا على القاعدة، فهو يفسره على أساس مفهوم الموافقة في حين أن أصحاب الرأي السابق أخذوا بمفهوم المخالفة.
ونلاحظ نحن فوق ما تقدم أن من الممكن أن يقال - من وجهة نظر الأستاذ شيرون - أن المشرع الصمري في الدكريتو المذكور قصر همه على استحداث جريمة جديدة هي إهمال تسليم الشيء المعثور عليه في حين أن نية اختلاسه لم توجد مطلقًا لا عند العثور ولا بعد العثور وقد جعل هذه الجريمة المستحدثة مجرد مخالفة، ثم خشي أن يفهم من هذا خطأ رغبته في تخفيف واقعة أخذ الشيء أو الحيوان بنية - الاحتفاظ به أي اختلاسه يجعلها مخالفة وهي في الأصل جنحة فعمد إلى هذا التنبيه في الفقرة الأخيرة، فالجريمة المستحدثة إذن بهذا الدكريتو ليست هي العثور على شيء ثم طروء نية اختلاسه بعد العثور عليه لأن هذه الواقعة ليست في حاجة إلى تشريع خاص يجعلها جنحة، وإنما الجريمة المستحدثة بالدكريتو هي أخذ الشيء الضائع وإهمال تسليمه للسلطة المنصوص عليها في المادة المعين دون أن يقترن هذا الإهمال بنية اختلاسه.
ثم نلاحظ ثانيًا أن أصحاب هذا الرأي غير السائد كانوا يستطيعون أن يجدوا في موقف الأستاذ جرانمولان ثغرة ذلك أنه ارتأى إدانة من تناول المسكر أو المخدر عمدًا تشجعًا على ارتكاب جريمة ثم ارتكبها فاقد الوعي، فإن هذا الرأي يفهم من الأستاذ شيرون ولكنه يتسق بسهولة مع ما ذهب إليه الأستاذ جرانمولان في تفسير دكريتو 1898.
ثم نلاحظ ثالثًا أن فريقي الباحثين - في استهدائهم بالنصوص - لم يتكلموا عن النصوص الفرنسية والمصرية - الخاصة بحالة الاشتراك اللاحق للجريمة فقد (كان القانون الفرنسي، فوق معاقبة من يعتاد على إيواء المجرمين الذين يقطعون الطرق ويفسدون أمن الدولة باعتباره شريكًا لهم، تقضي بأن من يخفي أشياء مسلوبة أو مختلسة أو مأخوذة بطريق ارتكاب جناية أو جنحة مع علمه بذلك، يعامل معاملة الشريك ي هذه الجناية أو الجنحة (م 51 – 62)، وكان القانون المصري السابق على سنة 1904 يحتوي على أحكام مطابقة لهذه الأحكام الفرنسية ويجعل من إخفاء الأشياء المحصلة من طريق الجناية أو الجنحة اشتراكًا فيها بعد ارتكابها (م 68 – 69).
غير أن هذا النص الخاص بحالة الاشتراك بإخفاء الأشياء كان موضعًا لانتقاد الفقهاء في فرنسا لأنه يترتب عليه تحميل المخفي مسؤولية جريمة وقعت على غير علم منه، دون أن يتفق سلفًا على ارتكابها ودون أن يساهم فيها، ولأنه لا يتصور من الوجهة القانونية البحتة أن يشترك شخص في الجريمة بعد إتمام تنفيذها، لأن الاشتراك يتضمن اتفاقًا سابقًا على الجريمة وقصد التعاون على إحداثها، مع أن المخفي يعاقب كشريك ولو لم يتوفر عنده شيء من ذلك، فإن لم يكن بد من عقابه فلا يحاسب كأنه شريك في الجريمة التي وقعت بل على فعله كجريمة مستقلة، فلما عدل القانون المصري في سنة 1904 كان لهذه المطاعن أثرها عند المشرع فألغى الحكمين السابقين، وهما الاشتراك بالاعتياد على إيواء كبار المجرمين والاشتراك بإخفاء الأشياء المحصلة من طريق جناية أو جنحة، وبذلك قضى على حالة الاشتراك اللاحق للجريمة، وجعل من إخفاء الأشياء جريمة قائمة بذاتها، ولكنها مقصورة على ما جاء من طريق السرقة دون الجرائم الأخرى، (م 322 ع)، وكذلك فعل المشرع الفرنسي بقانون أصدره في 22 مايو سنة 1915 فألغى الاشتراك بإخفاء الأشياء، مع إبقائه النص الخاص بالاعتياد على إيواء المجرمين، واعتبر إخفاء الأشياء جريمة خاصة ولكنه جعلها عامة على الأشياء المحصلة بطريق أي جناية أو جنحة (م – 46 ع. ف) [(7)].
إذن فالقانون الفرنسي والمصري كانا، قبل تعديلهما، يعرفان حالة الاشتراك اللاحق في جريمة فيعتبران شريكًا فيها من لم تكن عنده نية الاشتراك قبل أو وقت ارتكابها ولكن النية الإجرامية ولنسميها تجوزًا نية الاشتراك - وجدت لاحقة على الفعل، ولكن القانونين لم يأخذا بهذا الاشتراك للاحق إلا في جرائم معينة، أفلا يمكن إذن أن نستنتج من هذا، بمفهوم العكس، أن القاعدة هو وجوب توفر نية الاشتراك مصاحبة للجريمة المشترك فيها؟ ثم أن القانونين عدلا من أحكامهما لاستثنائية المشار إليها تحت ضغط الانتقاد الفقهي الذي أومأنا إليه؛ ألا نرى أن هذا الانتقاد يصدر عن عين الأساس الذي يصدر عنه الرأي الغالب في أمر تعاصر النية مع الفعل المادي؟ وهذه الحلول الوضعية التي انتهى إليها القانونان في شأن إخفاء الأشياء المتحصلة من جريمة (أية جناية أو جنحة) في فرنسا وجريمة السرقة فقط في مصر) ألا تدل على أن المشرع عندما أراد تجريم هذا الفعل احتاج إلى نص خاص إذ لم تسعفه المبادئ العامة التي تحتم تعاصر النية والفعل المادي؟
هذا كله من وجهة نظر الرأي الغالب، فهل يستطيع الرأي الآخر أن يجد في هذه المسألة استنادًا له؟ لست أرى هذا إلا أن يفسرها على أساس مفهوم الموافقة Par analogie كما فعل عندما قابل دكريتو سنة 1898 الذي أسلفنا العرض له.

ختام

نرى من العرض المتقدم أن محكمة النقض عندنا لم تفصل في المسألة الرئيسية التي عالجناها ولكنها أتيح لها الفصل في نقطة فرعية حين قضت بأن الواقعة المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو واقعة معاقب عليها أي أن التعاصر غير مطلوب فيها ولو أنها أسست هذا العقاب على القواعد العامة لكان قضاؤها هذا فصلاً في المسألة الرئيسية، ولكن الظاهر أنها قضت بالعقوبة تطبيقًا للدكريتو أي لهذا النص الخاص الذي رأينا كيف تناقض الرأيان في تفسير دلالته بالقياس إلى مسألة التعاصر بوجه عام.
والواقع أن هذا الدكريتو مفتقر إلى تعديل في الصياغة وأن قوله (الجريمة الواردة في القانون) هو تعمية لا ندري مسوغًا لوجودها فهي أشبه بلغة الساسة منها بلغة المشرعين.
وقد آن الوقت أيضًا لكي يتساءل الباحثون هل ينصحون للمشرع بتحديد موقفه من هذه المسألة الكلية مسألة تعاصر النية تحديدًا واحدًا وواضحًا بالقياس أي جميع الجرائم العمدية.
عبده حسن الزيات
المحامي



[(1)] المجلة: لم نقرأ في المعجمات كلمة تعاصر ولا معاصرة بهذا المعنى والأفضل أن يقال ملابسة النية للفعل المادي أو اقترانها به ونوجه النظر إلى أن الهوامش الآتية هي للأستاذ صاحب المقال.
[(2)] هذا عرض إجمالي كان يفتقر إلى مزيد من الدقة والبيان لو أن المقصود في هذا المقال تحديد الركن الأدبي وعناصره والنية الاحتمالية الخ:
ولكنا نرى – مع ذلك – أن نشير إلى المذهب الذي قال بأن المسؤولية الجنائية قد توجد في بعض الجرائم بغير وجود هذا العنصر الشخصي أي بغير وجود عمد وبغير وجود خطأ فهذه.
مسؤولية مادية موضوعية objective صيغة على غرار المسؤولية المادية المشهورة بالمسؤولية الشيئية في القانون المدني Respon. Réelle ومن القائلين بهذا الرأي برنس وقد شيده على أساس من بعض مواد قانون العقوبات أو اللوائح الأخرى التي تعاقب على أمور بغير اشتراط عمد أو خطأ من المتهم: مثل العثور في حقيبة المسافر على أشياء تستوجب رسومًا جمركية ولكن المسافر لم يقرر وجودها.
ولكن هذه النظرية قد قوبلت بالإنكار من مؤلفين كثيرين منهم جارو وجارسون وجرانمولان وشيرون فعندهم أن المسؤولية الجنائية لا تقوم بغير هذا العنصر الأدبي الشخصي فإذا ثبت - في المثل المتقدم - أن الأشياء دست على حقيبة المسافر بغير علمه نجا من المسؤولية الجنائية.
وقد أعود إلى هذه النقطة ببحث أوسع في عدد قادم.
[(3)] لم يفرد أحد لهذه المسألة، مسألة المعاصرة فصلاً خاصًا غير الأستاذ البرت شيرون في دروسه التي ألقاها على طلبة المعهد الجنائي وطلبة دبلوم القانون العام بقسم الدكتوراه بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول - فإذا قلنا الرأي الغالب وأصحابه فإنما نستند إلى أنهم لم يخرجوا على هذا الرأي تسليمًا به، كما نستند إلى أنهم عند الكلام على بعض الجرائم العمدية في القسم الخاص يشيرون إلى قاعدة التعاصر ويشترطونه (مثلاً الأستاذ أحمد بك أمين عند كلامه عن السرقة) ص (643) - والأستاذ زكي العرابي في كتابه عن القسم العام من قانون العقوبات ص (103) عند كلامه عن السكر كسبب لعدم المسؤولية فهو يقول تعليقًا على المادة (57) (أن السكر متى كان تامًا يترتب عليه فقد الشعور ولا يصح معاقبة الجاني في جرائم العمد إلا إذا وجد القصد الجنائي وقت ارتكاب الجريمة).
[(4)] 7 فبراير 1938 – الطعن رقم 589 سنة 8 ق - المحاماة (س 18 - ع 9 - ص 814).
[(5)] وبالتمعن في عبارات محكمة النقض نرى أنها قالت (يجب لتطبيق مواد السرقة في أحوال العثور الخ) – فهل نفهم من هذا أنها تعتبر تلك الواقعة، من جهة التكييف القانوني، سرقة أو أنها تراها جنحة أخرى ليست بسرقة ولكن تطبق عليها مواد السرقة؟ هنا نواجه هذه النقطة الفرعية، نقطة التكييف القانوني للجريمة المذكورة في الفقرة الأخيرة من المادة الأولى من الدكريتو، فإن لجنة المراقبة القضائية قد اعتبرتها مشابهة للسرقة assimilé ولكن الأستاذ شيرون يقول أنه لا داعي لهذه التسوية assimilation لأن الواقعة في رأيه واقعة سرعة النية فيها غير متعاصرة مع الفعل المادي، وهذا نص قوله:

(Suivant mon opinion, il n’y a pas besoin d’assimilation; c’est un vol où l’intention n’est pas concomitante au fait matériel.

أما الأستاذ جرانمولان فهو يرى كما تقدم أن المشرع المصري لم يقصد اعتبار الواقعة سرقة ولا جنحة أخرى، وقد أشار إلى أن بعض القوانين الأجنبية جعلت الواقعة المذكورة جنحة ولكنها لم تجعلها في مرتبة السرقة ثم علق على ذلك بقوله أن هذه الواقعة تستحق العقاب ولكن بأخف من عقاب السرقة لأن السارق يدبر الجريمة أما من يعثر على شيء ثم تطرأ عليه نية الاحتفاظ به لنفسه فالمصادفة هي التي هيأت له الجريمة فهو أقل من السارق خطورة.
[(6)] هذا نص قول الأستاذ:

je sais bien que les tribunaux acquittent dans ce cas , pour défaut p’intcntion. Mais cette jurisprudence me paraît trés contestable.

ويبدو لي أن في قول الأستاذ أن المحاكم تبرئ في هذه الحالة كثيرًا من التعميم لأن بعض الأحكام حكمت بالإدانة وقررت أنه (يشترط لتطبيق المادة (57) من قانون العقوبات أن تكون الغيبوبة التي يستند إليها المتهم لطلب الحكم بأنه غير مسؤول جنائيًا ناشئة عن عقاقير مخدرة أخذها المتهم قهرًا عنه أو على غير علم منه بها) (النقض في 3 - 3 - 1924 - المحاماة (س 5 ص 1).
[(7)] الأستاذ علي بدوي - الأحكام العامة في القانون الجنائي - الجزء الأول ص (322) و (323) وحاشيتيها.

في المسؤولية المدنية للأفراد

مجلة المحاماة - العدد التاسع

السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923

في المسؤولية المدنية للأفراد

لمحتان

تاريخية وتشريعية

1 - لمحة تاريخية

نعلم أن القانون الفرنسي وُضع في سنة 1804 في وقت لم يعرف فيه العالم هذه النهضة الاقتصادية العامة التي ظهرت في عصر القرن التاسع عشر وعظم شأنها في القرن العشرين وعلى الأخص بعد الانتهاء من الحرب العالمية التي خُتمت بمعاهدة صلح فرساي سنة 1918 وكان القانون الفرنسي متشبعًا بالروح الفردية Individualiste ولم يقم للشؤون الاقتصادية على اختلاف أنواعها وزنًا إلا بقدر ما كان معروفًا في ذلك الزمن المنصرم، وقد تلقت الشعوب الأخرى القانون الفرنسي بصدور رحبة وعملت على الأخذ به لما كانت تشعر به من التعطش نحو التقنين من طريق التجميع ولما كانت تأنسه من وحدة الشبه من حيث الحالة الاقتصادية العامة، وقد أخذت مصرنا قوانينها في سنة 1875 وسنة 1883 مختلطًا وأهليًا بعد إدخال شيء من التعديل رجع فيه إما إلى ما قرره القضاء والفقه الفرنسيان بعد سنة 1804 وإما إلى ما أقرته التقاليد والعادات المصرية التي بنيت في كثير منها على الشريعة الإسلامية وعلى ما قرره العمل في هذا الجو المختلط بين المصريين والأجانب مختلفي الأجناس.

ولما كان عهد عصر ترقيها الصناعي والتجاري حديثًا لم يفكر شارعها المصري سنة 1875 وسنة 1883 في أن يضع قوانين تضمن لها ما يمكن أن تصل إليه فيما بعد من ازدياد في الرقي وتقدم في المدنية، لذا أصبحت القوانين المصرية هذه لا تلتئم مع ما قطعته من أشواط المدنية وأصبح من الضروري الحتمي الرجوع إلى ما قررته الشعوب الأخرى في عصرنا الحاضر من قوانين تشريعية وآراء قضائية ومذاهب فقهية وذلك عملاً بما قضى به القانون المصري من الأخذ بالعدالة والقانون الطبيعي فيما سكت فيه القانون عن التقنين في بعض المسائل، وهذا هو ما جرى عليه العرف القضائي المختلط والأهلي في مسائل عدة لم ترد لها نصوص خاصة بالقوانين المصرية.

ولقد كان لنظرية المسؤولية شأن يذكر في عالم القانون عند كل شعب متمدين وذلك لتقدم الصناعة ورواج التجارة في الأوقات الحاضرة، وكان من شأن التقدم التجاري العالمي أن اضطرت بعض الشعوب إلى تعديل شرائعها طبقًا لما اقتضته نواميس الرقي في التجارة والصناعة، فقررت من الوجهة التشريعية مبادئ قانونية ربما كانت لا تؤيدها النصوص القانونية القديمة في ظاهرها حتى تقطع بذلك ما يحوم من الشك والتردد حول مبادئ جديدة كونتها الظروف الاجتماعية الحديثة قسرًا وقهرًا.

وهذا ما فعلته فرنسا مثلاً سنة 1898 وغيرها من الشعوب الأخرى في تقرير قواعد قانونية من الوجهة التشريعية في نظرية المسؤولية تلتئم مع الضرورات الاجتماعية المدنية العصرية.

وأما المسائل الأخرى الخاصة بنظرية المسؤولية والتي لم يشرع لها تشريع خاص كما حصل سنة 1898 فيما يتعلق بالهلاك الصناعي risque professionel والمسؤولية الشيئية responsabilité objective فإنها قد تأثرت بهذا التشريع الجديد، ووجدت لها منه أكبر نصير في تقرير المبادئ الجديدة والعمل على تفسير النصوص القديمة تفسيرًا يضطرد مع الضرورات الاجتماعية الحديثة interprétation objective لا مجرد الجمود على نصوص قديمة لا تصلح أداة في الإلمام بما جد من طريق الوقوف على ما كان يريده الشارع إذ ذاك، لا على ما تريده الجماعات الحاضرة بتطوراتها الحالية interprétation subjective .

ولقد فاضت أبحاث المؤلفين والكاتبين في نظرية المسؤولية قبل سنة 1898 وبعدها ولم تترك مسألة من المسائل التفريعية إلا وأشبعتها بحثًا على ضوء الضرورات الاجتماعية الحاضرة.

ولكنا نأسف مع الآسفين لما نراه من بعض كبار المؤلفين العصريين مثل بلانيول وكابتان وكولين في إصرارهم وعنادهم المستمر على الأخذ في نظرية المسؤولية طبقًا للمواد الفرنسية الأولى من المادة (1804)، وإن كان أسفنا عظيمًا في هؤلاء العلماء إلا أن اغتباطنا كان أعظم عندما رأينا فريقًا كبيرًا من كبار المؤلفين وأصحاب النهضة العلمية القانونية في الوقت الحاضر قد خرجوا عن حد الوقوف على النصوص القديمة وقرروا مبادئ قانونية تتفق مع النمو العمراني العالمي الاقتصادي مثل Saleilles وجاهد بعضهم في تفسير هذه المبادئ الجديدة الخاصة بالمسؤولية بالرجوع إلى المواد (1382) - (1386) تفسيرًا دقيقًا وبمهارة علمية وجيهة كما فعل الأستاذ Josserand شيخ أستاذة القانون بمدينة ليون.

2 - اللمحة التشريعية

( أ ) التشريع المختلط:

وُضعت القوانين المختلطة سنة 1875 ووضعها المحامي الفرنسي المعروف Maunoury وقد عمل فيها على تقليد الشارع الفرنسي، ولكن جاء التقليد أبتر وممسوخًا، وملاحظاتنا في ذلك ما يأتي:

1 - وردت المواد الفرنسية (1382) – (1386) تحت عنوان (الجنح وأشباه الجنح) déltis et quasi - délits، ووردت المواد المختلطة الخاصة بالمسؤولية (211) - (215) تحت عنوان (الالتزامات الناشئة عن العمل) obligations résultant du fait إذ أدخل معها الشارع المختلط موادًا أخرى خاصة بأعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق. وربما قيل بأنه كان الأجدر فصل هذه الأنواع المختلفة عن بعضها البعض لأن الالتزام الناشئ عن المسؤولية هو غير الالتزام الناشئ عن أعمال الفضولي ودفع ما لا يستحق.

ولكن نسارع إلى ملاحظة أنه ربما كان في هذا الوضع التشريعي المختلط ما يؤيد مذهبنا الذي سنقول به بعد فيما يتعلق بالمسؤولية الشيئية responsabilite objective (أي المسؤولية التي لا يشترط فيها إثبات التقصير faute بل المسؤولية المؤسسة على مجرد الضرر غير المشروع) أي الرجوع في هذه المسؤولية لا إلى مجرد الجنحة وشبه الجنحة بل إلى مجرد العمل fait.

2 - قررت المادة (211) المسؤولية بالتضامن بين المقصرين وقد فعلت خيرًا لأنها قلدت في ذلك ما كان قد قرره القضاء الفرنسي بعد أن سبق له الأخذ بنظرية عدم التجزئة indivisibilité وهذه المادة لا مثيل لها في القانون الفرنسي الصادر في سنة 1804.

3 - قررت المادة (212) مدني ما يأتي:

(كل عمل مخالف للقانون tout fait poursuivit par la loi يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر الناشئ عنه ما لم يكن الفاعل غير مدرك لأفعاله سواء كان عدم تمييزه بالنسبة لسنه أو لسبب آخر).

والمفهوم من هذه المادة ومن عبارة (كل عمل مخالف للقانون) أنها تختص بالمؤاخذة sanction وتقرير الجزاء عن الجرائم الجنائية infractions ولم تتكلم مطلقًا عن الجرائم المدنية dêlits civils وأشباه الجرائم المدنية quasi - delits وقررت هذه المادة عدم مسؤولية من يحدث بالغير ضررًا وهو غير مدرك لما يفعله كالصبي غير المميز أو المجنون أو المعتوه والسكران فيما إذا لم يشرب الخمر بمحض رغبته.

هذه الفقرة من تلك المادة لا نظير لها بالقانون الفرنسي إنما قررها (مونوري) بناءً على ما قرره القضاء الفرنسي في هذا الشأن باعتبار أن التقصير faute لا بد فيه من شرط الإدراك لدى المقصر.

وقد قامت ضجة هائلة عند الشراح حول شرط الإدراك في التقصير إذ لاحظوا ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي لا بد فيها من الإدراك، والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد التعويض وضرورته (بلانيول ج 2 صـ 288 ف 879 هامش 3 الطبعة الثامنة سنة 1921).

وإذا كان القضاء الفرنسي يجري على قاعدة مسؤولية عديمي الأهلية فيما إذا أثروا على حساب الغير من طريق يشبه التعاقد quasi ex coutractu فلماذا لا يصبح هؤلاء مسؤولين أيضًا عندما يلحقون ضررًا بالغير؟ ولقد تأثر القضاء الفرنسي بهذه الضجة وأخذ بما نقول به بحكم واحد (دالوز الدورية سنة 67 رقم 2 صـ 3، ومجلة سيري الدورية سنة 66 رقم 2 صـ 259).

على أن رفع المسؤولية عن عديم الإدراك فيه مساس مزعج أحيانًا بالعدالة المطلقة، إذ ما ذنب رجل بائس يعيش في بيت له يضمه وأولاده ويكد ليله ونهاره في مواساتهم فيأتي له صبي غير مدرك قد ملك من الضياع ما لا عد له ولا حصر فيحرق له منزله ثم هو لا يُسأل عن ذلك، أليس من المزعج عدالة أن يتمتع الصغير غير المدرك بضياعه عند بلوغه بينما يتضور الرجل المحروق منزله ألمًا؟

أليس من العدالة أن ينظر في الأمر بعين نظرية ضرورة التعويض أولى من هذا التحكم في شرط الإدراك على غير جدوى؟

لذا عمل الشارع الألماني على معالجة هذا النقص، فبعد أن قرر بالمادة (827) ما قرره الشارع المختلط بالمادة (212) إذ قرر بالمادة (829) بأنه يجوز الحكم بتعويض عندما تقضي العدالة بذلك.

إن هذا التشريع الألماني معيب من الوجهة الفنية العلمية لأنه يجمع بين النقيضين لمبدأين متعارضين، وكان الواجب علميًا الأخذ بواحد دون الآخر، أما الأخذ بمبدأ التعويض فهو الأوجب لاتفاقه مع المبادئ القانونية الصحيحة من ضرورة التفرقة بين المسؤولية الجنائية التي يشترط فيها الإدراك والمسؤولية المدنية التي ترجع في أساسها إلى مجرد تعويض الضرر، ولأن ذلك ينادي بإجابة صوت العدالة.

أما شارعنا المختلط فقد التزم جانبًا دون الجانب الآخر ويكون قد فعل خيرًا لو كان أخذ على الأقل بما قرره القانون الألماني سنة 1900 لأن القضاء الفرنسي سبق له أن قرر هذا المبدأ الجديد سنة 1866 أي قبل وضع القوانين المختلطة سنة 1875 كما رأينا.

قلنا إن الشارع أراد بالمادة (212) تقرير المؤاخذة عن الجرائم الجنائية ولكن سارع الشارع المختلط إلى سن مادة أخرى ظن في وضعها أنها ترمي إلى تقرير الجزاء عن الجنح المدنية وأشباه الجنح وأراد بهذه المادة الأخرى، وهي المادة (213)، أن يقرر مسؤولية الشخص عن أعماله هو أي جنحة المدنية وأشباه جنحة وعن أعمال من هم تحت رعايته فوضع المادة (213) بالكيفية الآتية (كذلك يلزم الإنسان بضرر الغير الناشئ عن تقصير من هم تحت رعايته أو عن إهمالهم أو عدم الدقة والانتباه منهم أو عن عدم ملاحظته إياهم) فجاء هذا الوضع مشوهًا مبتورًا وعلى غاية من المسخ والاضطراب وذلك:

1 - لأن عبارة المادة تفيد أن الإنسان مسؤول عن أعمال من هم تحت رعايته، وأعمالهم هي التقصير faute والإهمال négligence وعدم الدقة والانتباه imprudence فهذه الأعمال المنسوبة للغير هي التي يُسأل عنها الشخص الموكل إليه حق رعاية المقصرين والمهملين والطائشين، وختمت المادة عبارتها بقولها (أو عن عدم ملاحظته إياهم) وهذا التعبير يشعر بأن الشخص مسؤول عن أعمال غيره أولاً وهي التقصير والإهمال والطيش وعن عمله هو ثانيًا وهو عدم الملاحظة، كأن التقصير والإهمال والطيش طائفة مستقلة عن عدم الملاحظة، على أن أصل المسؤولية هو عدم الملاحظة الذي يعتبر في ذاته تقصيرًا faute من جانب الموكول إليه أمر الرعاية، فإذا قصر الموكول إليه أمر الرعاية اعتُبر مسؤولاً عن أضرار الأشخاص الموضوعين تحت رقابته فيما إذا وقع منهم ضرر سببه أعمالهم الخاصة بهم وهي تقصيرهم وإهمالهم وطيشهم، أي أن المسؤولية موقوفة فقط على عدم الرقابة فإذا كانت الرقابة صحيحة فلا مسؤولية، وكان يجب وضع المادة بما يفيد أن المسؤولية واقعة في حالة عدم الرقابة، بمعنى أنه إذا ثبتت الرقابة وثبت أداؤها من جانب الرقيب فلا مسؤولية عليه مطلقًا عند وقوع الحادث، حتى ولو كان سبب وقوع الحادث الأعمال الخاصة بالغير تقصيرًا كان أو إهمالاً أو طيشًا وهذا هو ما قالته المادة (1384) الفرنسية في فقرتها الأخيرة حيث قررت بأن لا مسؤولية إذا أثبت الموكول إليهم الرعاية أنهم لم يستطيعوا منع وقوع الحادث الناشئ عن الضرر، بمعنى أنه لا مسؤولية عليهم حتى ولو قام البرهان على التقصير والإهمال والطيش من جانب من هم تحت رعايتهم إذا ثبتت صحة رقابتهم، وهذا على عكس ما تشير إليه المادة (213) مختلط لأن الفقرة الأولى منها تشعر بالمسؤولية من تقصير الغير وإهماله وطيشه مع ثبوت الرقابة، وهو ما لا يقبله لا الحق ولا العدالة، تلك العدالة équité التي اعتبرت دائمًا وأبدًا أساسًا لنظرية المسؤولية وعلى الأخص في العصر الحاضر الذي نفخت فيه الاشتراكية المعتدلة بروح من عندها.

(ب) ذكرت المادة (213) التقصير والإهمال والطيش وعدم الملاحظة، وهذه صور لشبه الجنحة (يراد بالجنحة المدنية، العمل غير المشروع الضار بالإنسان ويكون فاعله قد تعمد إحداثه، وشبه الجنحة هو نفس العمل غير المشروع والضار ولكنه لا عمد فيه) ولم تذكر مطلقًا الجنحة المدنية.

أو ليس من المعقول أن من يُسأل بسبب تقصير وإهمال وطيش من هم تحت رقابته، يُسأل أيضًا فيما إذا تعمدوا الإضرار بالغير؟

(جـ) لم يقرر الشارع بهذه المادة (213) مسؤولية نفس الشخص عن جنحه هو ولا عن أشبه جنحه هو أيضًا، وكان يجب على الشارع أنه ما دام قد قرر مسؤولية الفرد بالمادة (212) عن جرائمه الجنائية أن يقرر بالمادة (213) مسؤوليته عن جرائمه المدنية، أي الجنح المدنية وأشباه الجنح، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما خانه التعبير السقيم جدًا الذي جعله قالبًا للمادة (213)، لأنه يظهر أنه أراد تقرير ذلك ولكن جاءت العبارة الأخيرة من المادة، وهي (أو عدم ملاحظته إياهم) مذهبة بغرضه (يجب مراجعة النص الفرنسي لأنه أوضح في بيان غرض المشرع من النص العربي لأن هذا النص الأخير قد عالج من حيث الوضع والتركيب بعض الشوائب الشكلية للمادة (213) المذكورة)، وكان الأجدر بالشارع أن يقول بأن الإنسان يُسأل عن تقصيره هو وإهماله وطيشه ويُسأل أيضًا عن نتائج عدم ملاحظة من هم تحت رعايته، ولكنه لم يفعل بل ساق الجمل مع بعضها البعض بحيث تنصرف جميعها إلى أنه مسؤول فقط عن أعمال غيره، وأما أعماله هو فلا يُسأل فيها إلا عن عدم الملاحظة فقط، وهذا نقص معيب كما لا يخفى.

(د) بدأت المادة (213) بعبارة (وكذلك) وهي تشعر مع اتصالها بالمادة (212) المتقدمة عليها بأن لا مسؤولية مطلقًا على الشخص فيما إذا وقع الحادث بمعرفة من هم تحت رعايته وكانوا غير مدركين لما يفعلونه (راجع دي هلتس De Hults ج 4 صـ 10 ن 6) وهذا لا يقبله العقل، لأن الغرض من مسؤولية من وكل إليه أمر العناية بشخص هو تقرير جزاء عند عدم المراقبة على من فرض فيهم القانون نقصًا في الإدراك كالقصر والمجانين والمعتوهين وغيرهم ممن أشارت إليهم المادة (213)، والمفروض أن الحادث يقع بسبب عدم الإدراك أو ضعفه وبسبب عدم الرقابة، وما شرعت الرقابة إلا لأجل سد النقص في الإدراك القائم.

(هـ) هذه هي عيوب المادة (213) باعتبارها في ذاتها، وفي ربطها مع المادة (212) السابقة عليها نرى أن الشارع المختلط قد شوه المواد الفرنسية التي أراد أن يقلدها ويوجزها، فمسخها كل المسخ، أما المواد الفرنسية فقد جاءت في مجموعها جيدة، إذ قررت المادة الأولى منها وهي (1382) مسؤولية الشخص عن عمله باعتباره جنحة مدنية، ثم قررت المادة (1383) مسؤوليته عن شبه الجنحة، وجاءت المادة (1384) وقررت مسؤوليته عن أعمال من هم تحت رقابته أو الأشياء الموجودة تحت يده، ثم بينت من هم هؤلاء الأشخاص الملاحِظون والملاحَظون فقررت أن الملاحظين هم الأب، والأم عند وفاة الأب، والمخدومون Maitres وأصحاب الأعمال والأشغال Commettants والمربون Instituteurs وأرباب الصنائع Artisans وذكرت بأن الملاحَظين هم القصر Mineurs المقيمون مع آبائهم والمستخدمون Préposés وصبية المدارس éléves وصبية المصانع Apprentis.

فجاء الشارع المختلط ونظر إلى الثلاثة المواد المذكورة (1382) و(1383) و(1384) وأراد أن يدمجها كلها في مادة واحدة وهي المادة (213) فجاءت هذه المادة وهي تفيض بهذه الشوائب التي بيناها.

لذلك وجب بحق في تقرير نظرية المسؤولية ضرورة الرجوع إلى المواد الفرنسية فيما ذهب فيه القضاء والفقه الفرنسيان في تفسيرهما، باعتبار أن الشارع المصري لم يرد مخالفة الشارع الفرنسي في شيء، إنما رمى فقط إلى مخالفته في الوضع دون المعنى والجوهر (دي هلس ج 4 صـ 118 ن 8).

لذلك لما جاء الشارع الأهلي سنة 1883 لم يشأ البتة تقليد زميله المختلط في هذا الوضع المشوب بل خالفه بعض المخالفة فيه بما سنبينه بعد.

5 - قررت المادة (214) مسؤولية السيد أو المخدوم عن أفعال خدمته متى وقعت وهم يؤدون العمل له، أي متى كان الضرر واقعًا منهم في حالة تأدية وظائفهم.

ويلاحظ على هذه المادة أنها قد قطعت من المادة (1384) الفرنسية التي جاءت جامعة شاملة.

6 - ثم قررت المادة (215) وهي الأخيرة من مواد المسؤولية مسؤولية مالك الحيوان عن الضرر الناشئ عنه سواء كان في حيازته أو متسربًا، وقد أخذت هذه المادة من المادة (1385) الفرنسية التي جاءت أتم منها إذ قررت مسؤولية المالك حتى ولو كان الحيوان تحت حيازة الغير، وهو ما لم تقل به المادة المختلطة وكان يجب أن تقول به.

7 - قررت المادة الأخيرة (1386) الفرنسية مسؤولية المالك للمباني bâtiments إذا تسبب عنها ضرر ناشئ عن تهدمها ruine فيما إذا كان هذا التهدم آتيًا من عدم العناية بها défaut d’entretien أو من عيب بنفس العمارة vice de construction ولم نرَ أثرًا لهذه المادة بالتشريع المختلط، ولا نعرف الحكمة في عدم نقلها بالقانون المختلط، كما أننا لم نعرف الحكمة لهذا الشارع المتعب في كونه لم ينقل بتشريعه أيضًا هذه الجملة الأخيرة الواردة بالفقرة الأولى من المادة (1384) فرنسي، وهي الفقرة الخاصة بمسؤولية الشخص عن الأشياء الموجودة تحت يده des choses que l’on a sous sa garde ولهذه الفقرة أهمية كبرى وصلة عظيمة جدًا بالمادة (1386) فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية responsabilité objective لأن المادة (1384) قررت مسؤولية الحائز للأشياء بوجه عام ولم تبح حق إقامة الدليل على عدم إمكان منع الضرر، كما أباحت هذا الحق بالنسبة للآباء والمربين فقط، أي أنها لم تبح إقامة الدليل على انتفاء التقصير بالنسبة لمالكي الأشياء أو الحائزين لها وبالنسبة للمخدومين وأرباب الأشغال، وهذا موطن صالح جدًا لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية كما ذهب إليه الأستاذ جوسران Josserand وكذلك المادة (1386) فإنها قررت مسؤولية المالك للمباني عند التهدم الناشئ عن عدم الصيانة وعن عيب لاصق بنفس العمارة ولم تبح هي الأخرى إقامة الدليل على انتفاء التقصير في حالة العيب اللاصق بالعمارة (لأن المسؤولية في حالة عدم الصيانة لا يؤخذ بها إلا عند عدم الصيانة، فإذا ثبتت الصيانة فلا مسؤولية)، وهذه أيضًا بيئة أخرى صالحة لإثبات نظرية المسؤولية الشيئية أو نظرية الضمان Risqne. وقد ذهب بعض الشارحين إلى القول بأن هذه المادة لم ترد على سبيل الحصر في تقرير المسؤولية بالنسبة للمباني بل جاءت على سبيل التمثيل بالنسبة لجميع الأشياء وذلك استنادًا إلى التعميم الوارد بالعبارة الأخيرة من الفقرة الأولى من المادة (1384) الخاصة بالأشياء.

فإذا كانت المادة (1384) والمادة (1386) الفرنسيتان هما بتلك الأهمية الكبرى في عالم التشريع والتفسير القضائي والفقهي فكيف جاز حينئذٍ للشارع المختلط وهو المحامي الفرنسي المشهور (مونوري) أن يغفل ذكرهما بينما كان قد بدأ فعلاً المعلق الشهير على الأحكام (لابيه Labbé) الإفاضة في الكتابة على المسؤولية بمجلة سيري Sirey الدورية؟ كيف يغفل أمرهما ومكانهما كما رأينا في عالم القانون؟ كل ما نستطيع أن نقوله في هذا الشأن كما لاحظناه أكثر من مرة في التشريع المصري من سنة 1875 إلى سنة 1183 تقريبًا أن المشرع المصري يُعنَى بالتقليد إلى حد أن ينسى أصول التقليد وأبجدياته، لذا نعيد القول بأن دعامة الشرح في هذه النظرية ما أقامه أطواد القانون في الوقت الحاضر من صروح النقد الحار وإشباع المبادئ القانونية بروح لا تجمد على نص صامت بل تشاد فوق أصول لحمتها الضرورات الاجتماعية وسداها العدالة كما أشار إلى ذلك بحق دي هلس (ج 4 ص 8 ن 2).

(ب) التشريع الأهلي:

أما وقد انتهينا من التشريع المختلط فنأتي الآن على بيان موجز أيضًا لأمر التشريع الأهلي.

لقد عُني بوضع القوانين الأهلية القاضي الإيطالي موريوندو Moriondo وقد نسخ القوانين المختلطة وعدل فيها بالرجوع إلى الملاحظات الآتية:

1 - أنه جعل المادة أحيانًا تشمل المادتين في القانون المختلط.

2 - لاحظ ما أنتجه العمل القضائي من سنة 1875 إلى سنة 1883 وهي سنة وضع القوانين الأهلية.

3 - أنه خالف في كثير من نصوصه القانون المختلط.

والذي يهمنا من ذلك كله هو ما جاء في المواد الخاصة بنظرية المسؤولية، وقد فعل خيرًا الشارع الأهلي في أنه لم يعمل كما عمل الشارع المختلط في وضع المادتين (212) و(213) ذلك لأنه أدرك أن عبارة هاتين المادتين جاءت مشوهة تشويهًا غريبًا ذهب بالأصول القانونية المرجوة، لذا أخذ الشارع الأهلي يعالجهما، وقد أحسن الاختيار في طريق العلاج حيث إنه نقل المادة (1382) الفرنسية نقلاً وجعلها الفقرة الأولى من المادة (151) من القانون المدني الأهلي ونصها ما يأتي كالأصل المصري الفرنسي العبارة

(Tout fait quelconque de l’homme, qui cause â autrui un dommage, oblige celui par la faute duquel il est arrivé, â le réparer.)

ثم ورد هذا النص بالنسخة العربية المصرية الأهلية كما يأتي:

(كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر) ومن مقارنة النصين مع بعضهما البعض نرى أن بالنص العربي نقصًا يكاد يذهب بركن أساسي قديم معروف في عالم نظرية المسؤولية وهو ركن التقصير Faute الذي كان دائمًا وأبدًا حتى قبيل العهد الأخير الدعامة التي ترتكن إليها نظرية المسؤولية، لأن كلمة التقصير وردت بالنسخة الفرنسية فأغفلها المترجم إغفالاً جعل النص محلاً للأخذ والرد فيما يتعلق بنظرية استعمال الحق والاعتساف في استعمال الحق Abus du droit والمسؤولية الشيئية Responsabilité objective، وإذا أخذ النص العربي على ظاهره لكان هادمًا لأبسط المبادئ القانونية لأن ظاهره يقرر أن الإنسان مسؤول عن جميع الأضرار التي تصيب الغير بفعله هو، وأيًا كان فعله مشروعًا وغير مشروع، وهذا أمر مستحيل عملاً وعمرانًا، لأن الحياة هي دائمًا وأبدًا في كل عصر وفي كل بيئة عبارة عن مصارعة ومزاحمة بين الأشخاص: هي كسب لفريق وخسارة على فريق آخر، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل منفعة، ويستحيل أن يحصل تحصيل المنفعة دون إلحاق نقص بأموال الغير، والمعاملات بين الناس تشاد فيما بينهم في الأخذ بأكثر من الإعطاء، فإذا كان كذلك وأخذت المادة الأهلية العربية على ظاهرها لترتبت على ذلك استحالة مادية في عالم الحياة: وهذا ما لم يرده الشارع طبعًا، لذا وجب وضع النص العربي بطريقة تتفق تمامًا مع النسخة الفرنسية، بأن تضاف عبارة (بسبب تقصيره) بعد كلمة (فاعله)، وكان يحسن بالشارع الأهلي أن يضع مادة جديدة عقب المادة (151) هذه أو أن يدمجها بها ويكون مرمى المادة الإلمام بنظرية التمتع بالحقوق ومتى يعتبر مشروعًا ومتى يعتبر مصدرًا للتعويض كما فعل ذلك القانون الألماني بالمادة (220) حيث قررت هذه الأخيرة ما يأتي: (لا يباح التمتع بالحق إذا كان الغرض منه منصرفًا إلى إلحاق الضرر بالغير) وهذا المبدأ هو المقرر للنظرية الشهيرة جدًا المعروفة بنظرية الاعتساف في استعمال الحقوق Abus des droits وهي النظرية التي قررها القضاء المصري مختلطًا وأهليًا بأحكام عدة.

أما الفقرة الثانية من المادة (151) فهي نفس المادة (213) مدني مختلط حرفًا بحرف، وما ذكرناه بشأن العيوب الوضعية للمادة (213) مختلط يمكن أن يقال به هنا فلا حاجة لتكراره، وكان يجب على الشارع الأهلي إذا أراد أن يجعل فقرتي المادة (151) متماسكتين ومتلازمتين في تأدية معانٍ منسجمة أن يذكر بالفقرة الأولى ما يشير أيضًا إلى أشباه الجنح الخاصة بفعل الإنسان نفسه كالإهمال والطيش وهما المشار إليهما بالمادة (1383) الفرنسية، ولكن نسارع إلى ملاحظة أن الشراح لاحظوا أن المادة (1383) إنما جاءت تكرارًا للمادة (1382) باعتبار أن هذه المادة الأخيرة تؤدي المعنى الذي قالت به المادة (1383) باعتبار أن التقصير يكون إما إيجابيًا أو سلبيًا، ومع وجاهة هذه الملاحظة أيضًا فإن وضع المادة (151) بفقرتيها يعتبر مع ذلك غير وجيه، لأنه كان يجب ذكر عبارة (الإهمال والطيش) بالفقرة الأولى، وجعل عبارة (عدم الملاحظة) بالفقرة الثانية حتى تكون الفقرة الأولى شاملة للتقصير الإيجابي والسلبي من طريق التعيين، وحتى تكون الفقرة الثانية قاصرة فقط على عدم الملاحظة، مع الإحالة على الفقرة السابقة عليها، أو أن الشارع الأهلي يحذف عبارة الإهمال والطيش من المادة (151) باعتبار أن كلمة التقصير الواردة بالفقرة الأولى تنصرف إلى التقصير الإيجابي والسلبي معًا، لأنه عند عدم التعيين في التقصير ينصرف المعنى إلى التعميم.

هذا التشويه الذي وقع فيه الشارع الأهلي سببه التشريع المختلط الذي كان موضوعًا بين يديه.

وكان على الشارعين الأهلي والمختلط أن يلاحظا هما الآخران ما لاحظه شراح القانون الفرنسي على المادة (1382) فلا يقعان فيما وقع فيه الشارع الفرنسي سنة 1804 إذ لوحظ على المادة (1382) في قولهما Tout fait quelconque أن كلمة quelconque غير صحيحة بجانب كلمة التقصير Faute لأنه ليس كل عمل fait يعتبر ملزمًا بالتعويض، إنما هو العمل التقصيري fait fautif، هذا مع ملاحظته أيضًا أن أنصار نظرية المسؤولية الشيئية يرون في كلمة التقصير الواردة بالمادة (1382) الفرنسية أنها لم ترد من طريق التعيين والتحديد للعمل الضار في ذاته، إنما جاءت فقط من طريق الإيضاح والتفسير، باعتبار أن العمل الضار يعتبر في ذاته مصدرًا للالتزام بالمسؤولية بصرف النظر عما إذا كان قد شابه تقصير أم لا، ويكون المسوغ القانوني حينئذٍ للمسؤولية هو قاعدة الغرم بالغنم لا التقصير، مع ملاحظة أن ذلك لا يتعارض مع حق استغلال الحقوق والمزاحمة في مجال الحياة باعتبار أن للمسؤولية الشيئية مجالاً للعمل غير مجال الانتفاع بالحقوق وتصريفها في وجوهها المشروعة.

ولم يقرر الشارع الأهلي ما قررته المادة (212) مختلط من حيث عدم المسؤولية عند عدم إدراك المتسبب في الضرر، وبماذا يفسر هذا السكوت؟ هل أراد الشارع الأهلي مخالفة الشارع المختلط مخالفة ظاهرة، أي أنه أراد أن لا يأخذ بنظرية شرط الإدراك في المسؤولية المدنية، وأن التعويض حتمي ولو كان المقصر غير مدرك؟ أم أنه أراد أن يقلد الشارع الفرنسي في المادة (1382) التي قررت قاعدة المسؤولية بوجه عام تاركةً أمر التفصيل إلى ظروف الحال وما تمليه هذه على القضاء؟ أم أن الشارع الأهلي أراد بسكوته أن يجاري القضاء الفرنسي فيما ذهب إليه من ضرورة شرط الإدراك (مع ملاحظة أن القضاء الفرنسي حكم سنة 1866 كما بينّا بعدم شرط الإدراك)؟

أمام صمت الشارع الأهلي كان للشكوك والأخذ والرد مجال، وإذا كان الأمر كذلك وجب حينئذٍ تقرير نظرية تتفق مع الأصول القانونية والعدالة.

ولكن قبل تقرير هذه النظرية التي تتفق مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة، وهي النظرية القائلة بعدم توافر شرط الإدراك لما في ذلك من الخلط بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية، كما بينّا ذلك في مكانه، نرى أولاً ضرورة معرفة ما هو الرأي الذي يمكن أن يكون قد اتخذه الشارع أمام هذا الصمت الهادئ؟

الذي نقول به بلا تردد أن الشارع الأهلي لو كان أراد أن يأخذ بما قررته المادة (212) المختلطة لكان نقلها حرفًا بحرف إلى تشريعه، وأما كونه لم ينقلها فهذا يقطع على أنه لم يرد الأخذ بها أو على الأقل يقطع في أنه لم يرد البت في هذه النظرية بل تركها لأمر القضاء والفقه.

وأما كونه رجع فيها إلى ما قرره القضاء الفرنسي في ضرورة شرط الإدراك فقد رأينا أن هذا القضاء قضى بعكس ذلك سنة 1866، والذي يهمنا من ذلك كله أن في سكوت الشارع ما يبرر للقضاء والفقه حق تقرير قاعدة قانونية تلتئم مع الأصول القانونية الصحيحة والعدالة.

ولذا نقول بحق بأنه أمام هذا الصمت الأهلي يجب الأخذ بنظرية ضرورة التعويض أي الأخذ بنظرية المسؤولية المدنية وعدم خلطها بنظرية المسؤولية الجنائية كما لاحظ ذلك بلانيول بحق، وكما فعل الشارع الألماني بالمادة (829) في معالجته للمادة (827).

وأما ما قرره القضاء المصري من ضرورة اشتراط الإدراك فهو لم يكن مقنعًا إلى حد التردد فيما تقرره (محكمة أجا الجزئية في 22 يناير سنة 1918، المجموعة الرسمية المجلد 19 صـ 133).

وقد نقل الشارع الأهلي المادتين (214) و(215) مدني مختلط حرفًا بحرف وصاغهما بالمادتين (152) و(153) مدني أهلي، وهاتان المادتان لا تكفيان لتقرير نظرية المسؤولية في باقي وجوهها الأخرى وهي الوحيدة التي أشار إليها الشارع الفرنسي بالمادة (1384) فقرة أولى فيما يتعلق بالمسؤولية الناشئة عن الأشياء الجامدة، وبالمادة (1386) الخاصة بالمسؤولية الناشئة عن تهدم المباني، ولهذا النقص في التشريع المصري مختلطًا وأهليًا مثار للقول فيما يتعلق بنظرية المسؤولية الشيئية، وهي هذه النظرية التي احترقت لها أقلام الكاتبين قبل سنة 1898 والآن أيضًا، وعلى الأخص فيما يتعلق بمصرنا لأنه لم يتقرر للآن ببلادنا قوانين للعمال تقوية بنظرية الضمان الصناعي risque professionnel.

عبد السلام ذهني

مدرس بمدرسة الحقوق الملكية

استثمار أموال القصر والمحجور عليهم وودائع المحاكم الأهلية والشرعية

مجلة المحاماة - العدد الرابع

السنة الخامسة - يناير سنة 1925
استثمار أموال القصر والمحجور عليهم
وودائع المحاكم الأهلية والشرعية
اقتراح
مقدم لوزارتي الحقانية والمالية
من مبادئ الرقي العصري في السياسة المالية وجوب استثمار الأموال المدخرة وعدم جمودها في الخزائن.
وإذا حسن ذلك في أموال من كان مطلق التصرف فأحرى أن يراعى في أموال عديم الأهلية.
لذلك فإنا نشكر لإدارة المجالس الحسبية سعيها في حمل الأوصياء والقوام على استثمار أموال محجوريهم بشراء سندات مالية للحكومة ذات فائدة مضمونة أو بشراء عقارات ذات إيراد أو بتسليفها بالفائدة القانونية بتأمين عقاري صحيح.
على أنه من المحقق أنه يصعب على بعض الأوصياء والقوام سلوك هذا السبيل بسبب عقبات أو موانع شخصية أو مركزية فيترتب على ذلك جمود المال الكثير بدون ثمرة لأصحابه زمنًا طويلاً.
وقد تحقق لي أن متوسط مجموع المبالغ الجامدة في خزائن المجالس الحسبية يبلغ سنويًا نحو أربعمائة ألف جنيه، ومتوسط ما في أيدي الأوصياء والقوام يبلغ حوالي مائتي ألف جنيه فتكون الجملة ستمائة ألف جنيه ليس من حسن السياسة تركها عديمة الثمرة.
وقد طرأ على فكري اقتراح في معالجة هذه الحالة عرضته منذ شهر مارس الماضي على وزارة الحقانية وآثرت نشره ليبحثه رجال القانون ورجال المالية من الوجهتين الحقوقية والاقتصادية عسى أن يخرج من بحثه ممحصًا ذا فائدة للمصلحة العامة.
أما العلاج الذي أقترحه فهو أن تشتري الحكومة بقيمة متوسط المبالغ المودعة لديها ولدى الأوصياء الذين يلزمون بتسليمها ما لديهم، أعني بقيمة الستمائة ألف جنيه سندات مالية من سندات الدين المصري الموحد أو الدين الممتاز ذات فائدة تبلغ الآن حوالي خمسة ونصف بالماية أو ما يقرب من هذه النسبة، وتحفظ الحكومة هذه السندات لديها على ذمة أصحاب الودائع من عديمي الأهلية بحيث تكون هذه السندات مملوكة في الواقع لأصحاب الودائع التي دفعت في ثمنها، ويعتبر أصحاب الودائع شركاء في شركة محاصة مدنية رأس مالها الستمائة ألف جنيه التي اشتريت بها السندات، ويحق لهم اقتسام أرباحها التي تبلغ بواقع 5.5 بالماية 33000 جنيهًا فإذا توزعت هذه الأرباح على رأس المال أصاب كل مائة غرش من رأس المال خمسة غروش ونصف وهي غلة قل أن تعطيها أفضل الأطيان.
على أني أرى أن لا يعطى صاحب الوديعة ربحًا يزيد عن أربعة في الماية من قيمة ماله وأن تحفظ الحكومة ما يزيد من ريع السندات نظير مصاريف إدارتها لهذا العمل وأن لا يحاسب صاحب الوديعة على نصيبه من الربح إلا منذ بدء الشهر التالي لإيداعه أمواله وحتى نهاية الشهر السابق لتاريخ سحبه الوديعة على مثال ما هو جارٍ في ودائع صندوق التوفير بالبوستة.
وأرى في الأربعة بالمائة فائدة جليلة تفضل ما يُعطَى من الفائدة من السندات إذا اشتراها وكيل صاحب الوديعة مباشرةً لأن المشتري يضيع عليه زمن لحين الشراء ويبذل مصاريف كثيرة في الشراء والبيع ويخاطر في تحمل بعض الخسارة إذا نزلت قيمة السندات وقت البيع أما الحكومة فإنها إذا اشترت السندات فهي تدين ذاتها وهي لا تضطر لبيعها في وقت من الأوقات، هذا فضلاً عن أنه لا يصح أن تتوقع الحكومة هبوط أسعار سنداتها وإلا كانت عديمة الثقة بمكانتها المالية.
وليس في إعطاء الفائدة غبن على الحكومة لأن المادة (493) من القانون الأهلي المدني أوجبت على حافظ الوديعة أن يرد محصولها وفوائدها، فدفع الفائدة لأصحاب الودائع حق شرعي لهم في ذمتها لأنها هي تتقاضى فائدة عن تلك الودائع من البنك الأهلي حيث مودعة جميع أموالها الجامدة.
وقد يصح تطبيق هذا الاقتراح ليس فقط على أموال القصر المحجور عليهم، بل أيضًا على الأموال المودعة في خزائن المحاكم الأهلية حيث تبقى الشهور بل السنين الطويلة بدون أن يستفيد منها أصحابها بينما تأخذ عنها الحكومة رسم إيداع قدره واحد بالماية وتتقاضى الحكومة فائدة تذكر عن إيداعها بالبنك الأهلي [(1)].
ويصح أيضًا تطبيق هذه القاعدة في ودائع المحاكم الشرعية حيث يوجد عشرات بل مئات الآلاف الجنيهات محفوظة لذمة شراء عقارات لأوقاف أهلية فتبقى جامدة عاطلة الزمن الطويل لما يعترض قبول البدل من العقبات الكثيرة.
وأرى أخيرًا أنه إذا لم ترضَ الحكومة القيام بهذه العملية فيصح أن يوكل بها لبنك مصر الذي لا يرفضها لما فيها من الفائدة الأكيدة فضلاً عما فيها من الخدمة الوطنية التي أنشئ من أجلها ذلك المصرف الوطني.
وأرجو أن لا يقوم على الطريقة المقترحة اعتراض شرعي يحول دون إمكان تنفيذ الاقتراح بحجة تحريم الشرع الإسلامي التعامل بالفوائد فإن الأمر محلل شرعًا بشركة المحاصة التي ذكرتها آنفًا فضلاً عن أن هناك فتاوى مشهورة تجعل الأمر ميسورًا شرعًا ولا تعتبر فائدة السندات من الربا المحرم.
وفي سائر الأحوال فإننا اليوم في عصر جديد يقضي بضرورة استثمار الأموال المخزونة فإذا ما جارينا الرقي الغربي في ذلك كان جمودنًا سببًا في ثبوت تغلب الغرب علينا في مضمار التجارة والصناعة الذي يحركهما المال غير الجامد، ولا نجني من نهضتنا السياسية فائدة تذكر إذ نرى أنفسنا مثقلين بالدين المطلوب للغرب فتذهب فيه ثروة بلادنا وثمرة جهودنا.
إذًا يخلق بنا أن نتنبه فنسير إلى الأمام في تلك النهضة المباركة التي تقدمنا فيها رجال بنك مصر بالأعمال المالية والتجارية والصناعية فكانوا لنا قدوة حسنة وأظهروا للغربيين مثلاً صالحًا لما يرجى أن يأتيه الشرقيون من العمل النافع.
إميل بولاد
المحامي

[(1)] إن المحاكم المختلطة تتناول على ودائعها بالبنك الأهلي فائدة سنوية قدرها ثلاثة بالماية تعطي اثنين منها لأرباب الودائع.

السبب الصحيح في التقادم الخمسي والأوضاع الشكلية في التسجيل الجديد

مجلة المحاماة - العدد السادس

السنة السابعة – مارس سنة 1927

السبب الصحيح في التقادم الخمسي

والأوضاع الشكلية في التسجيل الجديد

للدكتور عبد السلام ذهني بك القاضي بمحكمة مصر الكلية الأهلية

والأستاذ السابق للقانون المدني والتجاري بكلية الحقوق بالجامعة المصرية

السبب الصحيح عند الرومان:

1 - الأوضاع الشكلية في العهد الأول.

2 - القاضي الروماني وصحيفة النزاع والملكية الحيازية.

3 - ما يرمي إليه القاضي الروماني من منشوراته السنوية.

السبب الصحيح والقانون الفرنسي:

1 - أركان السبب الصحيح من الوجهة القانونية البحتة.

2 - السبب الصحيح والعقود الباطلة بأنواعها الثلاثة.

3 - السبب الصحيح والأوضاع الشكلية للعقود الشكلية.

السبب الصحيح في القانون المصري:

1 - القانون المصري والفرنسي واحد.

2 - المذهب القائل باعتبار المالك من طبقة الغير.

3 - أركان التقادم الخمسي ثلاثة: التعاقد والمدة والنية.

4 - في التقادم الخمسي والتقادم الطويل وأثر السبب الصحيح في الأول.

5 - اختلاف وجهة النظر في تقرير السبب الصحيح عند الرومان وفي القوانين المصرية والفرنسية الحاضرة.

6 - السبب الصحيح والتقادم الخمسي شرط مصادفة المجلس الحسبي ونظرية علم الأفراد بقيود القانون.

السبب الصحيح وقانون التسجيل الجديد:

1 - الالتزامات الشخصية بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد.

2 - الأوضاع الشكلية وانتقال الملكية وارتباطها بالالتزامات الشخصية.

3 - العقد غير المسجل والبطلان المطلق.

قررنا بكتابنا في الأموال (صـ 571 - 575 ن 398 - 399) وبمقالنا المنشور بمجلة المحاماة (المجلد (6) صـ 597 - 629) وبرسالتنا في التسجيل وحماية المتعاقدين والغير (صـ 22 ن 21) أن نظرية التقادم الخمسي قد تأثرت بقانون التسجيل الجديد، وأنه لا بد في العقد لأجل أن يكون سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني الصحيح أن يكون مسجلاً، وأنه في حالة عدم تسجيله لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بمضي خمس سنوات، وأنه لا بد من مضي مدة 15 سنة للتملك، أي لا بد من التقادم الطويل، وقد أوضحنا ذلك على الأخص بكتابنا في الأموال وأتينا بالعلل القانونية من جميع وجوهها، بما أوجزناه بمقالنا بالمحاماة.

ولقد قرأنا أخيرًا للأستاذ حامد بك فهمي المحامي بحثًا قيمًا بمجلة المحاماة (المجلد (7) صـ 97 - 103) أفاض فيه القول بنقض رأينا وذهب فيه غير ما ذهبنا، وقال بصحة السبب الصحيح إذا لم يكن مسجلاً، وأن التقادم الخمسي جائز برغم عدم تسجيل العقد الحاصل بين البائع غير المالك والمشتري، ورجع في تأييد رأيه إلى القانون الروماني وإلى أصول التسجيل الفرنسي الموضوع سنة 1855، وإلى ما قرره قضاؤه وفقهه، وإلى القانون المصري وقضائه وفقهه، وإلى أن قانون التسجيل الجديد لم يمس التقادم الخمسي في شيء ما، ثم ختم بحثه بأن (اشتراط تسجيل السبب الصحيح لإفادة الملك، من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه الفقيه).

وإنا وإن كنا نعلم أن هذا البحث لا يُعرض على القضاء المصري إلا ابتداءً من أول يناير سنة 1928، لأنه لا بد من مضي خمس سنوات على الأقل حتى يكون للبحث محل أمام القضاء، وحتى يمكن للمشتري أن يدعي الملكية بالتقادم الخمسي في ظل قانون التسجيل الجديد، فإنا لا نرى مندوحة مع ذلك من بحث الموضوع قبل حلول أوأن الفصل فيه قضائيًا، لأن من شأن القائمين بالحركة الفقهية، أن يتلمسوا مواطن الأخذ والرد في القانون، حتى يستطيع أصحاب الشؤون في المعاملات أن يأخذوا عدتهم للطوارئ المقبلة من حيث الاختلاف في الآراء، وحتى ينضج الرأي بين أيدي المختلفين بما يدلون به من وجهات النظر المختلفة.

وإنا نرى البدء أولاً بالنظرية الرومانية وكيف عالج القاضي الروماني préteur قوة القيود التشريعية القديمة في عصر الطفولة للرومان، وعمل على التوفيق بينها باعتبارها رمزًا للصيغة الرومانية البحتة، وبين تطور الحالات الاجتماعية عندهم، بل كان يذيعه سنويًا على الكافة بمنشوره السنوي edictum من الأصول القانونية القيمة حتى يعلم جماهير الناس بما سيقضي به القاضي فيما إذا تخاصم إليه المتنازعون، ثم نعرج بعد ذلك على بيان نظرية التسجيل الحاضر، وأن القانون الفرنسي الصادر في 23 مارس سنة 1855 وهو مصدر التسجيل المصري المختلط الموضوع سنة 1875 والأهلي سنة 1883، لم يأخذ مطلقًا بمذهب القاضي الروماني وما أذاعه بمنشوره، وأن الفقه والقضاء الفرنسيين سارا في طريق السبب الصحيح والتقادم القصير بغير الطريقة الرومانية، على العكس مما جاء بمقال الناقد حامد بك ثم نعود بعد ذلك إلى قانون التسجيل الجديد الصادر في 26 يونيو سنة 1923 وبيان ما أحدثه من مبدأ جديد في تقرير التسجيل وفي جعله من الأوضاع الشكلية من حيث نقل الملكية فقط، برغم ما للعقد في ذاته من الأثر القانوني في تقرير التزامات شخصية بين عاقديه، وفي هذا الإيضاح تبرز الفروق البينة بين السبب الصحيح الروماني والسبب الصحيح الفرنسي، والمصري في عهد القانون المدني، والسبب الصحيح في عهد قانون التسجيل الجديد، وسنبين في أي طائفة من طوائف البطلان الثلاثي أو الثنائي يقع عقد البيع غير المسجل وقد أصبح التسجيل من الأوضاع الشكلية، وما هو أثر ذلك مع قيام الالتزامات الشخصية، وما رتبناه على هذه الأخيرة من أصول وأحكام من حيث المطالبة بالتسليم وما إلى ذلك.

القانون الروماني والسبب الصحيح:

رأينا أن نثبت بكتابنا في الأموال (صـ 1002 - 27 1 ن 681 - 693) بابًا خاصًا في إثبات الملكية وكيفية الدفاع عنها وتطور أداة الدفاع عن الملكية في العصور الرومانية والعصور الوسطى وفي عهد القانون الفرنسي الحاضر وقضائه وفقهه، وأخيرًا في عهد القانون المصري وقضائه، وبينّا بكتابنا أطوار الملكية عند الرومان وما قرروه من الملكية الحيازية، أي الملكية الناقصة propriété bonitaire بجانب الملكية الرومانية البحتة propriété quiritaire التي كانت وقفًا على جماعة الرومان أنفسهم، والتي كانت لا تنتقل إلا بأوضاع شكلية خاصة، أهمها البيع العلني أو الإفراغ العلني mancipatio للأشياء النفيسة res mancipi (وكلمة mancipatio أو mancipium مكونة من كلمتين: manus بمعنى اليد وcapio بمعنى مسك: إشارة إلى أن المشتري يضع يده على المبيع ويدعي ملكيته له في حضرة البائع الذي لا ينازع (انظر في ذلك مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء ص 39 - 42)، وإذا حصل التبايع في هذه الأشياء النفيسة بغير طريقة الإفراغ العلني وحصل بالمناولة اليدوية traditio، فلا يكتسب المشتري الملكية الرومانية البحتة المحمية بدعوى إثبات الملكية rei vindicatio، إنما يكتسب فقط الملكية الحيازية، وهذه الملكية النافعة كما يسميها حامد بك (المحاماة (7) صـ 99 العامود الأول في منتصفه) وإن كانت لا ترتفع إلى مستوى الملكية الرومانية البحتة ولا تستفيد من دعوى إثبات الملكية، إلا أن القاضي الروماني بوبليسيوس publicius قرر لها دعوى خاصة صورية لحمايتها سُميت باسمه la publicienne يستعين بها صاحبها في حمايتها ضد الغير، وكان يعمل القاضي المحضر، الذي يحرر صحيفة النزاع formule ويرفعها إلى القاضي الذي يفصل فيها، في أن يفترض في تلك الصحيفة فرضًا صوريًا أن المشتري قد تملك بالتقادم مع أنه في الحقيقة لم تمضِ مدة التقادم.

ولقد أتينا بهذه اللمحة الرومانية السريعة برسالتنا في التسجيل، وكنا نرمي بها إلى بيان وجه الشبه بين الملكية الناقصة عند الرومان، وما يتقرر للمشتري في وقتنا الحاضر، في ظل قانون التسجيل الجديد من الحقوق بشأن العقار المبيع له، وضرورة حماية هذه الحقوق ضد البائع وضد الغير أيضًا (انظر رسالتنا في التسجيل صـ 8 - 10 ن 13 - 14) وقصدنا من ذلك أن نعمل على رفع الغرابة التي يمكن أن تلاحظ على ما قررناه بشأن العقد غير المسجل من ضرورة حماية صاحبه ضد كل من يعتدي على حقوقه بشأن العقار المبيع، إذ قررنا للمشتري الحق في مقاضاة البائع بتسليمه العقار المبيع، والعمل على احترام الالتزامات القانونية الناشئة عن البيع غير المسجل، وما إلى ذلك من الحقوق الأخرى.

قلنا بأن القاضي الروماني préteur وقد قرر بمنشوره السنوي الذي يذيعه كل عام على الأفراد قبل البت شكليًا فيما يُرفع إليه من الأقضية، قرر الملكية النافعة أو الملكية الناقصة أو الملكية بحكم القاضي propriété prétorienne، لمن اشترى شيئًا نفيسًا بغير الأوضاع الشكلية وقرر أيضًا هذه الملكية الحيازية habere in bonis لمن اشترى من غير مالك بسبب صحيح وحسن نية (انظر جاستون مي G May في القانون الروماني، الطبعة الرابعة عشرة سنة 1922 صـ 268)، وأصبح بذلك لدى الرومان نوعان من الملكية: الرومانية البحتة والملكية الناقصة، ثم تطور هذان النوعان مع تطور إجراءات المرافعات عندهم، وعلى الأخص عندما زال العمل بصحيفة الدعوى التي كان يجهزها القاضي المحرر لها، بما يشبه عندنا اليوم قاضي التحضير المصري، واندمجت الملكيتان معًا، أي توحدت الملكية، وارتفعت عنها القيود الشكلية القديمة والأوضاع المعقدة التي أصبحت لا تلتئم مع رقي المدنية عند الرومان وما أصابوه من وفرة في المرافق الحيوية.

وقد عول الرومان في تقريرهم لأداة الحماية لدى صاحب الملكية النافعةpossesseur bonitaire على السبب الصحيح jnsta causa وحسن النية، ويرون، كما نرى نحن في العصور الحاضرة، بالسبب الصحيح العملية القانونية Acte juridique التي تحصل بين البائع والمشتري، أي البيع، ويترتب عليها تقرير التزامات في ذمة كل واحد من الطرفين (جاستون مي صـ 328 ن 88 - انظر أيضًا جيرار Girardفي القانون الروماني الطبعة السابعة سنة 1924 صـ 319 - وانظر مذكراتنا في القانون الروماني في نظرية الأشياء صـ 138 وما بعدها) والمراد بالسبب الصحيح وبالعملية القانونية، أن يتراضى العاقدان على نقل الملكية من يد أحدهما إلى يد الآخر، كما يقول جيرار، أو أن يكون السبب الصحيح دالاً بنفسه على رغبة المتعاقدين في الإفراغ والكسب، كما يقول حامد بك نقلاً عن المؤلف (ديد ييه) الذي رجع إليه (المحاماة 7 صـ 99 العامود 2 في وسطه).

وهنا قرر حامد بك (صـ 99 العامود 2 في وسطه) ما يأتي (ولذا لم يشترطوا في السبب الصحيح الوارد على مال منسيبي (يريد الشيء النفيس res mancipi) أن يقع بالأوضاع الشكلية الواجب اتباعها في نقل الملكية الرومانية) ثم عقب حضرته ذلك بما يأتي: (وإلى مثل هذه النتيجة بلغ الفقهاء والشارحون للقانونين الفرنسي والمصري).

ثم أورد حضرة الناقد بعد ذلك ما قرره فقهاء العصور الحاضرة ابتداءً من بوتييه في تعريف السبب الصحيح، وما قرره بودري ودي هلس، وعلى الأخص هذا الأخير (ج 3 صـ 352 ن 118) في أنه لا يشترط في السبب الصحيح أن يكون قد نقل الملكية فعلاً، بل السبب الصحيح هو العقد الذي يرمي بطبيعته إلى نقل الملكية، لولا أنه قد عابه عيب واحد وهو صدوره من غير مالك.

ومن هذا البيان لحضرة الناقد نرى أنه يريد القول بصحة السبب الصحيح وجعله ذا أثر في التقادم الخمسي، ما دام قد انصرف هذا السبب الصحيح إلى مجرد النية لدى العاقدين في نقل الملكية، وأنه لا عبرة مطلقًا بالقيود الشكلية والأوضاع المرعية القانونية التي تكون مقررة لصحة السبب الصحيح في ذاته، والتي لا تنتقل الملكية إلا بها وبتوافرها، أي أن حضرة الناقد قصر السبب الصحيح على مجرد النية في نقل الملكية، وأن هذه النية هي المعول عليها دون الأوضاع الشكلية، فإذا وقعت ولم تحصل الأوضاع الشكلية، اعتبر بأن هناك سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحجة حضرة الناقد في ذلك، القانون الروماني، وما أجازه الرومان في تقرير الملكية النافعة أي الملكية الحيازية أو الناقصة، لمن تملك شيئًا نفيسًا من غير طريقة الإفراغ العلني بالأوضاع الشكلية المعروفة عندهم، وما قرره بوتييه في أن المراد بالسبب الصحيح أن يكون صالحًا للاطمئنان به عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر.

وهذه القاعدة التي يقررها حضرة الناقد، في أن فقهاء الفرنسيس والمصريين أخذوا بالقاعدة الرومانية، قاعدة لا نقره عليها، وكذلك طريقة التدليل في تقريرها طريقة لا نقره عليها أيضًا.

أما بشأن القاعدة في ذاتها وبأن علماء العصر الحاضر من فرنسيين ومصريين لم يأخذوا بالنظرية الرومانية القضائية البحتة، فالأمر في ذلك يرجع إلى ما قرره حقًا حضرة الناقد في قوله: (ورأيتهم لا يعتبرون العقود غير المنعقدة أو الباطلة بطلانًا مطلقًا أصليًا سببًا صحيحًا، ويعتبرون العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا كبيع القاصر والمكره) فكيف يقال حينئذٍ بأن الحاضرين أخذوا بنظرية الغابرين، في الوقت الذي لم يأخذوا فيه بها؟ ولقد سبق لنا أن بينّا بكتابنا في الالتزامات النظرية العامة (صـ 235 - 247 ن 253 - 264) أقام البطلان الثلاثي، البطلان المعدم للعقد، والبطلان المطلق، والبطلان النسبي، وأقسام البطلان الثنائي وهو البطلان المطلق بوجه عام والبطلان النسبي، ورأينا أن البطلان المطلق يجعل العقد كأنه لم يكن، سواء أكان ينقص العقد ركن من أركان تكوينه كالمبيع في البيع، أم ينقصه شرط شكلي من الأوضاع العلنية المقررة لتكوين العقد بالذات، كشرط الرسمية في عقد الهبة مثلاً، إذ العقد في الحالتين يعتبر غير موجود، لا تلحقه إجازة تصححه وترفع شائبته، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي، فلا هبة، لأن رضاء العاقدين وحده لا يكفي لإنشاء عقد الهبة، بل لا بد من ركن الرسمية، وبدونه لا أثر للهبة من الوجهة القانونية، وهذا الركن في الوضع الشكلي للعقد الرسمي، أي ركن الشكلية للعقد الشكلي acte solennel، لازم لوجود العقد من الناحية القانونية، فإذا وجد العقد شكلي الأصل دون أن يتوافر فيه ركن الشكلية، فلا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي (انظر كتابنا في الأموال صـ 571 ن 398 وما بعدهما).

والإفراغ العلني عند الرومان mancipatio أي البيع بالميزان في حضرة الشهود الخمسة وما إلى ذلك، هو عقد شكلي، بحيث لا تنتقل الملكية عندهم إلا به، وقبل حصول البيع العلني، يحصل الإنفاق البسيط pactum بين المتعاقدين على البيع، فإذا تمت العلانية انقلب الإنفاق المجرد من كل أثر قانوني، إلى عقد ملزم منشئ لحقوق ومقرر لواجبات، وإذا لم تحصل العلانية، فلا ينتج التعاقد البسيط أثرًا قانونيًا ما.

ولكن لما كان القاضي الروماني المحضر للدعوى والمحرر لصحيفة النزاع لا يفصل في النزاع في ذاته ولكنه يحدد بصحيفته موضوع النزاع، وكان يذيع على الكافة منشوره edictum السنوي بما سينويه من العمل بالمبادئ القانونية التي يقررها هو قبل العمل بها - لما كان ذلك القاضي préteur يعمل على التخفيف من شدة الأوضاع الشكلية للقانون الروماني القديم البحت، فإنه كان يجري في ذلك مع سنة الرقي، ويصرف همه في أن يجعل المبادئ القانونية من المرونة بحيث يجب أن تتفق مع ما يقطعه الشعب الروماني كل يوم من أشواط المدنية في مجالات الرقي، لذا أباح الملكية الناقصة، أي الملكية القضائية، وقرر لها أداة لحمايتها كما رأينا، واستند في تقريرها إلى اعتبار المشتري للشيء بغير الأوضاع الرومانية البحتة، مالكًا بالتقادم، وهذا الاعتبار صوري مجازي لا حقيقة له، إذ افترض القاضي بأن المشتري قد ظل واضعًا يده المدة المكسبة بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم يضع يده هذه المدة، وقد فعل ذلك، القاضي الروماني واستعان بالمجاز والصورية ليصيب غرضين:

أولاً: احترام القيود الشكلية الرومانية البحتة.

ثانيًا: جعل هذه القيود الشكلية بحيث لا تعيق سير الأمور الحيوية الخاضعة لنواميس الرقي الطبيعي.

وقد انتهت الملكية بنوعيها، الملكية الرومانية البحتة، والملكية القضائية، إلى نوع واحد، وتوحدت الملكية لما هجر الرومان أوضاعهم الشكلية الأولى التي كانت تلتئم مع طبائعهم عندما كانوا شعبًا صغيرًا، وقبل أن تدخل إليهم المدنية، وقبل أن يتوسعوا في معاملاتهم التجارية مع الغير.

ومن هنا نتبين أن القاضي الروماني préteur في تقريره للملكية الحيازية وحمايته للحائز الذي لم يملك بالطرق والأوضاع الشكلية المعروفة، وتعويله على مجرد حصول العملية القانونية acte jiridique بين الطرفين وانصرافهما إلى نية تمليك الواحد منهما للآخر، أو كما يقول بوتييه كما نقله عنه الأستاذ حامد بك، أن المراد من السبب الصحيح (أن يكون صالحًا للاطمئنان عند تناول العين من يد صاحبها الظاهر) - هذا القاضي الروماني وقد أراد بالسبب الصحيح العملية القانونية التي تنم وحدها عن نية التمليك، لا عن نقل الملكية بالذات، لم يعمل ذلك ولم يجزه ويقره بمنشوره السنوي، إلا لأنه كان يرمي إلى معالجة شؤون رومانية بحتة، وأنه كان يريد التوفيق بين احترام الأوضاع الشكلية الرومانية القديمة، وبين عدم تعطيل حركة النمو الاجتماعي القسري الذي يسوق الشعب الروماني في تيار الرقي الجارف.

ولما جاءت القوانين الفرنسية وقررت العقود الشكلية ومن بينها الهبة، فإنها قررت تقريرًا صريحًا بأن (العقد الباطل شكلاً لا يصلح سببًا للتملك بمضي المدة من عشر سنوات إلى عشرين سنة) (المادة (2227) من قانون نابليون) وهذا الحكم خاص بما يقابل عندنا التقادم الخمسي، وهو ما جرى عليه الفقه والقضاء الفرنسي، أي أن العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص ركن الشكلية فيه، لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، بل لا بد للتملك من مضي 15 سنة.

وعلى هذا يكون القول من حضرة الناقد بأن فقهاء العصر أخذوا بالقاعدة الرومانية قولاً لم يصب مكانه من الصحة، كما أن طريقة التدليل في تقرير هذه القاعدة، طريقة لم تصادف مكانها من الصحة أيضًا، لأن العلة عند الرومان في تقرير القاعدة لديهم لم تكن هي العلة عندنا في عصورنا الحاضرة.

عقد البيع غير المسجل وقانون التسجيل الجديد:

إذا علمنا ما تقدم فلننظر الآن فيما إذا كان عقد البيع في ظل قانون التسجيل الجديد، وفي حالة عدم تسجيله، عقدًا ناقلاً للملكية، أم هو غير ناقل لها، وبعبارة أخرى هل هذا العقد غير المسجل عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط (بصرف النظر عن كونه في ذاته عقدًا منشئًا لالتزامات ومقررًا لحقوق) أم هو عقد باطل بطلانًا نسبيًا تلحقه الإجازة؟ وفي الحالة الأولى لا يعتبر سببًا صحيحًا، وفي الحالة الثانية يعتبر كذلك.

ونحن نقول بأن عقد البيع غير المسجل في ظل قانون التسجيل الجديد، عقد باطل بطلانًا مطلقًا، من حيث نقل الملكية، ونقل الملكية فقط، وعلى هذا الاعتبار لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وحضرة الناقد حامد بك يقول العكس.

وأدلة حضرته نوجزها فيما يأتي:

1 - أن عقد البيع غير المسجل، ما دام أنه منشئ لحقوق والتزامات، فهو إذن (صالح لأن يطمئن به المشتري في تلقي العين ممن هي تحت يده، لتضمنه الالتزام بنقل ملكيتها إليه، وإن لم ينقلها بالفعل).

2 - أن الفقه الفرنسي، ما عدا القليل منه، والقضاء الفرنسي، وكذلك الفقه والقضاء بمصر، كل ذلك يرى أن لا محل لتسجيل السبب الصحيح حتى يحتج به ضد المالك الحقيقي (كلمة (المشتري) الواردة بمقال الناقد صـ 101 العامود الثاني السطر 6 في آخره، حقيقتها (المالك الحقيقي)).

3 - أن المادة (76) مدني الخاصة بالسبب الصحيح لم ترد بالمواد الملغاة بقانون التسجيل الجديد المصري، ولا يمكن على كل حال أن يمسها هذا القانون بشيء ما.

4 - أن المادة (264) مدني المقررة لبطلان عقد البيع الصادر من غير المالك الحقيقي، لا يلحقها أيضًا قانون التسجيل الجديد الذي انصرف إلى تقرير ضرورة تسجيل العقد الصادر من المالك الحقيقي لا إلى تقرير تسجيل العقد الصادر من غير المالك الحقيقي.

5 - أن المالك الحقيقي لا يمكن اعتباره داخلاً ضمن طائفة الغير الذين تلقوا الملكية عن مالك واحد وحفظوها بالتسجيل، وليس من الغير أيضًا الدائن العادي ولا من تلقى الملكية عن غير المالك الحقيقي.

6 - أن العقد الذي يصدر من غير المالك الحقيقي، لا ينقل الملكية حتى ولو تسجل فإن هذا العقد ولا تسجيله ينقلان الملكية، إنما الذي يُكسب الملكية للمشتري من غير مالك هو في الواقع وضع اليد مدة خمس سنوات.

هذه هي أدلة حضرة الناقد، ونرى الآن أن ندلي بأدلتنا نحن في تقرير رأينا الذي قلنا به، وننقد أدلته في طريق إقامتنا الحجة على صحة رأينا.

قلنا في مواطن عدة مما نشرناه مقالات وتأليفًا، وأقرنا عليه القضاء الأهلي والمختلط أخيرًا وأقرنا عليه الأستاذ حامد بك بمقاله الأخير والسابق عليه، إن عقد البيع لم يصبح في ظل قانون التسجيل الجديد عقدًا شكليًا Acte solennel، بل ظل كما كان من قبل عقدًا رضائيًا acte consensuel ينعقد بتمام حصول الرضاء والقبول من الطرفين، ويترتب على انعقاد العقد صحته وتقرير حقوق وواجبات ترجع لطبيعة العقد، وهو ما يسمى بالالتزامات الشخصية الواردة بالمادة الأولى من قانون التسجيل، ورجعنا في تقرير هذه القاعدة وفي التدليل عليها إلى المادة (873) من القانون الألماني الصادر سنة 1872 وإلى الأعمال التحضيرية لمشروعي توحيد أقلام التسجيل بمصر والسجلات العقارية الموضوعين بمعرفة اللجنة الدولية المختلطة سنة 1904 وإلى مناقشات اللجنة التي وضعت قانون التسجيل الجديد وإلى مذكرته الإيضاحية (ورجع القضاء المختلط إلى تقرير اللجنة البلجيكية: انظر حكم محكمة مصر المختلطة الصادر في 21 يناير سنة 1926 وتعليقنا عليه بمجلة المحاماة 6 صـ 827) ومن شأن هذه الحقوق والواجبات أن تبيح لكل عاقد الحق في المطالبة بها والخضوع لها قبل تسجيل العقد، فللبائع حق مطالبة المشتري بالوفاء بالثمن، وللمشتري حق مطالبة البائع بالتسليم، وإذا امتنع البائع عن العمل على المصادقة على توقيعه طبقًا للمادة (6) من قانون التسجيل، جاز للمشتري رفع الدعوى إما بطلب الحكم بصحة التوقيع، أو بطلب الحكم بصحة التعاقد ثم تسجيل الحكم في الحالتين مع العقد، فتنتقل الملكية، ولا تنتقل الملكية إلا بالتسجيل، والتسجيل هنا مظهر من الأوضاع الشكلية solennel لازم لنقل الملكية، وبدونه لا يمكن ويستحيل نقل الملكية، والقاضي نفسه لا يملك أن يصدر حكمه ليحل محل الوضع الشكلي وهو التسجيل، وكل ما له الحكم بصحة التعاقد، فإذا تسجل الحكم مع العقد انتقلت الملكية، وإلا فلا تنتقل مطلقًا بدونه، وهذا الوضع الشكلي للتسجيل في نقل الملكية هو ككل وضع من الأوضاع الشكلية للعقود الشكلية actes solennels لا يتقرر الحق بدونه، وهو يحكي تمامًا الوضع الشكلي لعقد الرهن العقاري غير الحيازي، أي العقد التأميني hypothéque، فإذا تعاقد دائن ومدين على أن يرهن هذا الأخير للأول عقارًا له رهنًا رسميًا ولم يفِ بوعده فلا يملك الدائن ولا القاضي حق إكراه المدين على الرهن، وكل ما للقاضي الحكم بتعويض للدائن، كل ذلك لأن الرهن عقد شكلي لا ينعقد إلا بتمام الوضع الشكلي والإجراءات الشكلية، ولا يستطيع القاضي أن يحل فيها بحكم محل القيود المقررة بالقانون (انظر كتاب التأمينات لنا صـ 133 ن 125).

إذا تقرر ذلك، ولا شبهة فيه، أصبح عقد البيع في ذاته عقدًا صحيحًا ونافذًا من حيث تقرير التزامات وحقوق ناشئة عن طبيعة البيع، ولا يمكن أن يكون نافذًا للملكية إلا بتسجيله، ومن غير التسجيل يستحيل استحالة مطلقة نقل الملكية إلى المشتري، وعقد البيع على هذا الاعتبار عقد رضائي وشكلي في آنٍ واحد، فهو رضائي لأنه ملزم لطرفيه بالتراضي والاتفاق عليه، وشكلي لأن الملكية لا تنتقل فيه إلا بأوضاع شكلية حتمها القانون، ولا محل لاحتمال القول بالغرابة في أن يكون العقد الواحد في ذاته رضائيًا وشكليًا، ذلك لأن الجمع بين رضائية وشكلية العقد الواحد هو من وضع الشارع المصري الذي أراد أن يكون العقد غير المسجل ملزمًا وغير ناقل للملكية في آن واحد، وفعل الشارع المصري الأخير ذلك على خلاف ما قرره مشروع السجلات العقارية سنة 1904 في أن يكون عقد البيع رسميًا ومسجلاً، بحيث إذا انعقد عرفيًا فيصبح باطلاً بطلانًا مطلقًا لا يترتب عليه أي أثر ما، أي لا ينتج الالتزامات الشخصية المقررة بالمادة الأولى من قانون التسجيل الجديد (انظر كتابنا في الأموال صـ 869 ن 593 وما بعدهما) والتعاقد على البيع لعقد غير المسجل يشبه التعاقد على الرهن الرسمي دون حصول الرهن، إذ التعاقد فيهما صحيح من حيث تقرير حقوق، وليس التعاقد هذا وفي ذاته باطل، إنما القيود الشكلية فيها تجعل التعاقد عليها تعاقدًا لا بد في نفاذه من عقد شكلي خاضع لإجراءات شكلية قررها الشارع بالذات للنظام العام، والأوضاع الشكلية في الرهن الرسمي هي حضور المدين الراهن أمام الموثق مع شهوده وما إلى ذلك، ولا يملك القاضي إلزام المدين بتنفيذ هذا الالتزام، والأوضاع الشكلية في التسجيل هي وضع العقد في ملف على حدة طبقًا لقانون التسجيل الجديد، وبنظام خاص لتسهيل العلانية لدى الكافة، لا حاجة فيها إلى حضور البائع شخصيًا، ولذا إذا أمر القاضي بتسجيل العقد، صح تنفيذ أمره لبعده عما له مساس بالحرية الشخصية للبائع.

إذا علم ما تقدم، ففي أي طائفة من العقود الباطلة يمكن وضع عقد البيع غير المسجل فيها؟ فهل يوضع في طائفة العقود الباطلة بطلانًا مطلقًا، أو في طائفة العقود الباطلة بطلانًا نسبيًا؟ فإن قيل بالبطلان النسبي، وجب اعتبار عقد البيع غير المسجل سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، وإن قلنا بالبطلان المطلق وجب عدم اعتباره سببًا صحيحًا، ولزم على ذلك، التقادم الطويل بمدة 15 سنة.

والعقد الباطل بطلانًا نسبيًا عقد صحيح في ذاته شابته شائبة ترجع لشخص أحد العاقدين وهو المجني عليه، فإذا لزمته الشائبة بطل مفعول العقد، وإذا زالت برغبة المجني عليه ولفعله هو نفذ العقد.

فإذا وقع العقد تحت سلطان الإكراه فسد العقد وزال مفعوله، ولكن يجوز للعاقد الذي وقع الإكراه عليه أن يتنازل عن حقه في تمسكه بسبب الإكراه، وبذا يصح العقد، وكذلك القول فيما إذا عاب العقد عيب الغلط أو الغش، وإذا عاب العقد فقد الأهلية لدى أحد العاقدين بأن كان قاصرًا جاز للقاصر وحده الطعن في العقد بالبطلان، ويجوز له السكوت عن الطعن بعد بلوغه، وبذا يصح العقد وينفذ.

ومن هنا نرى أن البطلان النسبي يرجع لعمل الفرد وحقه الشخصي، فإن شاء التمسك به، فيبطل العقد، وإن شاء التنازل عنه فيصح العقد، دون أن يكون هناك دخل في الحالتين للنظام العام، والبطلان النسبي على هذا الاعتبار بطلان شخصي خاص لا عام (راجع كتابنا في الالتزامات النظرية العامة صـ 243 ن 262).

والعقد الباطل بطلانًا مطلقًا عقد شابه عيب يتصل بالنظام العام اتصالاً محكمًا ولا يتعلق برغبة العاقدين وحرية رضائهما فيه، بل لا بد من الخضوع للأوضاع الشكلية التي قررها القانون، كالرسمية في الرهن التأميني أو في الهبة، ويجوز لكل من العاقدين وللغير أيضًا التمسك بالبطلان، فإذا حصلت الهبة بعقد عرفي جاز للواهب نفسه طلب بطلان العقد، كما يجوز للقاضي أن يقضي به من تلقاء نفسه، لأن البطلان متعلق بالنظام العام، لا بالمصلحة الشخصية البحتة للأشخاص، وهذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يقبل التصحيح، أي لا يملك العاقدان تصحيحه بإرادتهما دون الخضوع للأوضاع الشكلية (الالتزامات لنا في النظرية العامة صـ 239 - 241 ن 256 - 258).

هذا العقد الباطل بطلانًا مطلقًا لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأنه وإن كان قد شملته رغبة الطرفين في التمليك، في حالة الهبة مثلاً، واطمأن فيه الموهوب إليه، إلا أن الرغبة المحضة للطرفين لا تكفي لنقل الملكية، بل لا بد لركن الشكلية، وهذا الحق في المطالبة بالبطلان لا يسقط عن الواهب بالتقادم الطويل فيما إذا كان مدعيًا، كما لا يسقط حق الدفع بالبطلان إذا كان الواهب مدعى عليه (المادة (2262) مدني فرنسي والمادة 208/ 272 مدني مصري - الالتزامات لنا النظرية العامة صـ 241 - 242 ن 259 - 260. إنما يرى القضاء الفرنسي، في أنه إذا صح عدم جواز زوال حق طلب البطلان بالتقادم، أي عدم جواز اكتساب العقد الباطل بطلانًا مطلقًا قوة قانونية بفعل الزمن وهو التقادم، فإنه يرى من طريق آخر أن التقادم يحدث أثره وينصب على الشيء محل عقد الهبة فيكتسب الموهوب له ملكيته له بالتقادم: انظر الهامش (1) من صفحة 241 من كتابنا في الالتزامات. وانظر كتابنا في الأموال صـ 572 ن 399 والهامش (3)، وفي عدم جواز سقوط الدفع بالبطلان المطلق مهما طال الزمن فذلك يرجع للقاعدة المعروفة القائلة بأن الدعاوى معقودة بزمن وأما الدفوع exceptions فهي دائمة خالدة: انظر في ذلك كتابنا في القانون التجاري صـ 329 ن 252).

وإذا علم الآن البطلان النسبي والبطلان المطلق ففي أيهما يدخل عقد البيع غير المسجل؟ قلنا إنه يدخل في طائفة البطلان المطلق، لأن التسجيل هنا شرط لازم لصحة العقد في نقله للملكية، ولا يقبل تصحيحًا ولا تأييدًا بغير التسجيل، وهذا العقد لا يعتبر سببًا صحيحًا بالمعنى القانوني العصري، لا بالمعنى الروماني القضائي، لأن العقد الذي يعتبر في عصورنا الحاضرة سببًا صحيحًا هو العقد الذي يملك بطبيعته وكيانه القانوني فيما إذا صدر من المالك الحقيقي verus dominus فإذا فرض وصدر العقد من هذا المالك الحقيقي دون مراعاة الأوضاع الشكلية فيه فإنه لا يملك، وإذا صدر من غير المالك فلا يملك أيضًا بالتقادم الخمسي، لأنه لا يعتبر سببًا صحيحًا قد توافرت فيه أركان الصحة القانونية اللازمة للعقود الشكلية.

ولا يعتبر العقد سببًا صحيحًا ليس فقط إلا عند توافر شروط الأوضاع الشكلية فيه إذا كان من العقود الشكلية actes solennels، بل لا يعتبر سببًا صحيحًا أيضًا إلا إذا حاز الشروط القانونية التي يقررها القانون بالذات في سبيل حماية البائع حماية شخصية، ويقع ذلك فيما إذا بيع عقار القاصر لمشترٍ دون مراعاة أخذ مصادقة المجلس الحسبي، إذ في هذه الحالة لا يجوز للمشتري اعتبار عقده سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي بل لا بد له من التقادم الطويل مدة 15 سنة (استئناف أهلي في 20 مارس سنة 1906م ر 1، 8 صـ 57 عدد 029 - ح 21 صـ 0257 - مرجع القضاء ص 382 ن 01377 - ح 22 ص 083 - مرجع القضاء صـ 381 ن 01375 - د، 907، 1، 0406 - كتابنا في الأموال صـ 572 والهامش (5) وصـ 574 والهامش 02 - ومرسى المزاد الذي يحصل على جهة الإدارة عقب إجراءات نزع الملكية إن جاءت مخالفة للقوانين والأوامر لا يعتبر سببًا صحيحًا لتمليكها العين بوضع اليد خمس سنوات: انظر في ذلك زقازيق حكم استئنافي 14 فبراير سنة 1906 ح 22 صـ 0169 - مرجع القضاء صـ 382 ن 1383) وألا يرى في ذلك بأن الحكم بعدم اعتبار عقد البيع الصادر من الوصي دون مراعاة قيد مصادقة المجلس الحسبي سببًا صحيحًا هو حكم أبلغ في عدم اعتبار العقد الذي ينقصه ركن شكلي من الأوضاع الشكلية سببًا صحيحًا؟ إن العقد الذي ينقصه وضع شكلي لازم لإنشائه، والعقد الذي ينقصه شرط لازم لصحته كمصادقة المجلس الحسبي، هو عقد لا يمكن اعتباره سببًا صحيحًا، والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن القيد القانوني بالوضع الشكلي إن كان العقد رسميًا، أو القيد القانوني بالمصادقة، هذا القيد من الشروط التي قررها القانون بالذات لصحة العقد، ويستحيل قانونًا وبداهةً أن يكون العقد الخالي عن هذا القيد الشكلي أو التصادقي سببًا صحيحًا، لأن السبب الصحيح هو العمل القانونيacte juridique المملك في ذاته فيما لو صدر من المالك الحقيقي، وكل ما ينقص العقد هو صدوره من غير المالك فقط، أي أن العذر الذي جعل الشارع يغتفر فيه للمشتري خطأه إنما هو العذر الخاص بجهل المشتري بعدم ملكية البائع له، واعتقاد هذا المشتري في أنه اشترى من المالك الحقيقي، والخطأ هنا واقع، وواقع فقط، على خطأ موضوعي لا قانوني، وأما إذا وقع الخطأ على أمر قانوني واشترى المشتري دون مراعاة القيد الشكلي أو التصادقي، فإن الشارع لا يغتفر للمشتري خطأه، لأنه من المفروض على كل فرد كائنًا من كان أن يعرف القانون وقيوده (المادة (29) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية).

وإذا كان العقد الذي تنقصه مصادقة المجلس الحسبي لا يعتبر سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم، وهو ليس بالعقد الشكلي الخاضع لأوضاع شكلية، ألا يكون من باب أولى عقد البيع غير المسجل الذي يعتبر عقدًا شكليًا فيما يتعلق، ويتعلق فقط، بنقل الملكية؟ إن التسجيل كشرط لازم لنقل الملكية، قيد وضعي قانوني لا يستطيع معه المشتري أن يقول باعتبار عقد البيع سببًا صحيحًا، لأنه وإن كان البيع عملية قانونية يطمئن إليها المشتري عند التعاقد في نقل الملكية إليه، فإنه يجب أن يلاحظ أن هذا الاطمئنان ليس بصحيح قانونًا إلا إذا قام المشتري من جانبه بما يقضي عليه به القانون من شروط لازمة لصحة العقد، بحيث إذا أهمل المشتري في مراعاة الشروط القانونية التي يجب على المشتري أن يعلمها ويعرفها تمام المعرفة، فلا يصح مطلقًا اعتبار العقد في هذه الحالة سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي، لأن التقادم الخمسي لا يصح الأخذ به واعتباره وسيلة في التملك إلا إذا كان المشتري حسن النية، ومعنى حسن النية ليس فيما يتعلق بالشروط القانونية لصحة العقد، بل ينصرف حسن النية فقط إلى جهل المشتري بملكية المبيع لشخص آخر غير البائع له، ولا يمكن أن ينصرف حسن النية إلى جهل المشتري للشروط القانونية، ولا ينفذ التقادم الخمسي إلا إذا اصطحب حسن النية بالسبب الصحيح، والسبب الصحيح هو العملية القانونية التي اطمأن إليها المشتري واعتبرها أداة لنقل الملك إليه، ولا يصح اطمئنان المشتري ويؤخذ باطمئنانه قانونًا إلا إذا عمل من جانبه ما يحتمه عليه القانون، ولا يمكن أن يعتبر في جهله حسن النية، وفي هذه الحالة لا يستفيد مطلقًا من التقادم الخمسي، وحسن النية الذي يبيح التملك بالتقادم الخمسي هو اعتقاد المشتري أن البائع له مالك، أي الخطأ الموضوعي erreur de fait، وأما الخطأ القانوني erreur de droit فلا يمكن اعتباره حسن نية مملك بالتقادم (إلا في حالة وضع اليد وتملك الثمار فإن الخطأ القانوني يعتبر بمثابة حسن نية يجيز تملك الثمار لواضع اليد: بلانيول ج (1) الطبعة الثامنة سنة 1920 صـ 703 ن 2293).

هذا ولا يقف السبب الصحيح في أن يطمئن فيه مكتسب الملكية إلى تملك العقار، بل يجب في ذاته أن يكون صالحًا لنقل الملكية، أي منشئًا لها، وعلى ذلك فلا يعتبر سببًا صحيحًا الوفاء بوجه عام والإرث والقسمة والأحكام والصلح والعقد المعلق على شرط (راجع في تفصيل ذلك كتابنا في الأموال صـ 566 - 570 ن 396 - 397).

ومما مر يتبين أن السبب الصحيح ليس هو بوجه عام كل عملية قانونية acte juridique يطمئن إليها المشتري بوجه عام في نقل الملكية إليه، وأنه لا عبرة في التقادم الخمسي بالعملية القانونية التي تنصرف إلى مجرد إظهار النية في نقل الملكية، وأن العبرة فيه إنما هو وضع اليد - إنما السبب الصحيح من الوجهة القانونية الصحيحة في عصورنا القانونية الحاضرة وطبقًا للأصول القانونية الواقعة droit positif، هو العملية القانونية المنشئة للملكية بحيث تقع صحيحة في ذاتها وطبقًا للقيود القانونية سواء كانت هذه القيود قد وردت لحماية النظام العام بوجه عام، أو وردت لحماية بعض المصالح الفردية الجديرة بحماية القانون، كضرورة مصادقة بعض الهيئات العامة على تصرفات أولي الأمر، فإذا جاءت العملية القانونية وشابها نقص في القيود القانونية العامة أو الخاصة فلا يجوز اعتبارها سببًا صحيحًا، بل يجب اعتبارها سببًا غير صحيح، ولا عبرة مطلقًا بمجرد رغبة العاقدين في نقل الملكية، ما دام أن هذه الرغبة قد تقيدت بقيود قانونية عامة (في حالة العقود الشكلية) أو خاصة (في حالة العقود الخاضعة لمصادقة بعض الهيئات).

وأما القول من جانب حضرة الناقد حامد بك فهمي في أن الشرائع الحاضرة والفقهاء الحاضرين قد أخذوا بالنظرية الرومانية القضائية القديمة فهو قول لا نقره عليه كما قلنا لأن عمل القاضي الروماني في تقرير أداة حماية للمشتري بغير الأوضاع الشكلية العتيقة إنما كان يرمي به إلى الإفلات من قوة القيود الرومانية القديمة، وإلى جعل الحقوق طليقة في طريق التطور الاجتماعي، مع المحافظة بقدر الإمكان على احترام القيود القانونية القديمة، ولذا استعان القاضي الروماني كما قلنا بالمجاز والصورية في تقريره أداة الحماية للمشتري، بأن افترض فيه مجازًا بأنه تملك بالتقادم، مع أنه في الحقيقة لم تمضِ عليه مدة التقادم المملكة.

ولا يمكن بحال تشبيه التشريع العصري وعمل القضاء العصري بما كان عليه الرومان وعلى الأخص في عهدهم الأول عهد الطفولة والقيود الجافة الشاذة بما كان يلتئم مع حالتهم شبه البدوية، وأكبر دليل على ذلك أن العقد الحاضر، وهو الباطل بطلانًا مطلقًا لنقص الوضع الشكلي فيه، لا يصلح سببًا صحيحًا مملكًا بالتقادم الخمسي كما رأينا.
إذا علمنا ذلك كله فإنا نرى أن الأدلة التي احتج بها حضرة الناقد حامد بك على صحة رأيه لا تصلح لدحض النظرية التي قلنا بها، والآن نستعرضها واحدًا فواحدًا ونرد عليها:
الدليل الأول (راجعه في مكانه):
يقول حضرة الناقد بأن السبب الصحيح هو ما اطمأن إليه المشتري وقت التعاقد بوجه عام، وهذا التعميم بلا تقييد غير صحيح من الوجهة القانونية كما رأينا، بل لا بد في السبب الصحيح المملك بالتقادم الخمسي والذي يطمئن إليه المشتري، أن يكون حاويًا لقيوده القانونية التي اشترطها القانون بالذات، كما بينا ذلك، ويظهر لنا أن حضرة الناقد متأثر بالنظرية الرومانية. وقد بينّا أن لا محل للأخذ بها في عصورنا الحاضرة، وقد تغيرت أصول القوانين وأحكامها.
الدليل الثاني (راجعه في مكانه):
يقول الناقد بأنه لا يشترط في السبب الصحيح أن يكون مسجلاً حتى يحتج به على المالك الحقيقي، ويرجع في ذلك إلى الفقه والقضاء هناك وهنا، ونقول نحن بأن المسألة وإن كانت خلافية وصدرت أحكام فرنسية متناقضة فيها كما بينّا ذلك بكتابنا في الأموال (صـ 844 ن 582) إلا أنّا نميل إلى الأخذ بعدم ضرورة تسجيل السبب الصحيح، في عهد القانون المدني لا في عهد قانون التسجيل الجديد، حتى يكون حجة على المالك الحقيقي.
ويرى الناقد حامد بك أن قانون التسجيل الجديد لم يأتِ بجديد بشأن هذه القاعدة، أي لا ضرورة في نظره إلى تسجيل السبب الصحيح حتى يحتج به على المالك الحقيقي، ويستند في ذلك إلى الحجج التي أوجزناها في الأدلة (3) و(4) و(5) و(6) وهي:
الدليل الثالث:
يقول الناقد إن المادة (76) مدني الخاصة بالسبب الصحيح لم ترد ضمن المواد الملغاة بقانون التسجيل الجديد ولا يمكن على كل حال أن يمسها هذا القانون بشيء ما، والذي نلاحظه على هذا الدليل الثالث ما يأتي:
إن الشارع في وضعه لقانون التسجيل الجديد قد احتاط بالمادة (16) في أنه بعد أن ذكر المواد التي ألغاها هذا القانون، قرر إلغاء كل نص مخالف له ولم يرد له ذكر بقانون التسجيل الجديد، وبفرض أن الشارع لم يضع هذه القاعدة فإن المواد المخالفة له تصبح لاغية ولا محالة، والمواد التي يجب أن تعتبر ملغاة هي المواد الخاصة بنقل الملكية، ذلك النقل الذي حصل بأداة قانونية مملكة أي بعملية قانونية أو عمل قانوني acte juridique مملك، وهذه الأداة القانونية هي العقد، أي عقد البيع، أي البيع فقط، سواء كان صادرًا من المالك الحقيقي أو غير المالك الحقيقي، لأن البيع فيهما واحد من حيث كونه أداة قانونية صالحة لنقل الملكية، فالعقد الصادر من المالك الحقيقي صالح في ذاته لنقل الملكية، ولا ينقصه إلا التسجيل، والعقد الصادر من غير المالك الحقيقي صالح أيضًا، ولكن ليس وحده بل لا بد لشرط آخر، لنقل الملكية، وينقصه شرط يعوض عليه ما فاته من شرط لازم له، وهو صدوره من المالك الحقيقي، وهذا النقص فيه لا يمكن سده إلا بوضع اليد، فلا وضع اليد وحده يملك، ولا العقد ذاته يملك، بل لا بد للاثنين معًا ومعهما حسن النية ابتداءً، وقد جاء قانون التسجيل وأضاف شرطًا أصليًا جوهريًا على العقد الناقل للملكية، وهو شرط التسجيل حتى تنتقل الملكية، والتي بدونه لا يمكن، ولا يمكن أن تنتقل الملكية، والتسجيل الجديد هنا وضع شكلي لازم للعقد حتى تنتقل الملكية به بالفعل والواقع، وإذا كان التسجيل من الأوضاع الشكلية فهو نافذ على الأداة القانونية، وهي البيع، صدر البيع من المالك الحقيقي أو من غير المالك الحقيقي، لأنه ينصب على الأداة، أي على العملية القانونية، وهذا الوضع الشكلي من جانب الشارع يجب أن ينفذ على العقد في ذاته مهما كانت الصفة القانونية لمصدره، مالكًا حقيقيًا كان أو غير مالك، لأن الشارع راعى في تقريره لهذا القيد العلني والوضع الشكلي النظام العام، ولذا لا يملك المتعاقدان من إرادتهما حرية تجعلهما في حل من نقل الملكية بمجرد تبادل الرضاء، بل هذه الإرادة أصبحت معطلة ولا تستطيع وحدها نقل الملكية، والتسجيل على هذا الاعتبار أمر تشريعي صادر من الشارع نفسه لا محيص عن نفاذه في عقد البيع، وعقد البيع نفسه بصرف النظر عن مصدره وعقد البيع غير المسجل يستحيل أن يكون في ذاته ناقلاً للملكية، بل ينقصه شرط جوهري وهو التسجيل، وقد رأينا أن السبب الصحيح من الوجهة القانونية العلمية الصحيحة، ليس فقط كل عملية قانونية تحصل بين البائع غير المالك وبين المشتري، بل يجب أن يتوافر في هذه العملية صلاحيتها في ذاتها لأن تكون ناقلة للملكية فيما لو صدرت من المالك الحقيقي، وإذا كان البيع، وهو صادر من المالك الحقيقي، لا ينقل وحده وفي ذاته الملكية، فكيف يمكن القول بأن هذا البيع نفسه، إذا صدر من غير المالك الحقيقي، يصبح في ذاته أداة قانونية ناقلة للملكية؟ إن قيل بأن العبرة في التقادم الخمسي إنما هو وضع اليد وحده ومرور مدة الخمس السنوات، فهذا القول غير صحيح من الوجهة القانونية كما بينّا ذلك في مكانه، لأن في التقادم الخمسي لا بد من توافر الأركان الثلاثة السبب الصحيح ووضع اليد وحسن النية ابتداءً، والركن الواحد فيها لا ينقل الملكية مطلقًا، ومن الواجب على من يتمسك بالتقادم الخمسي أن يقيم الدليل على وجود كل ركن على حدة، ولا يستطيع الادعاء بحسن النية مثلاً إلا إذا أقام الدليل من جانبه، وهو محمل بالإثبات، على أنه فعل ما يمكن عمله قانونًا حتى تأكد من صحة تملك البائع له، بحيث إذا لمح في عمله إهمال لو فطن إليه لعلم بأن البائع له غير مالك، فلا يعتبر في هذه الحالة حسن النية (انظر في ذلك كتابنا في التأمينات صـ 123 ن 119) وكذلك في السبب الصحيح يجب أن يعرف المشتري بأن عقد البيع وحده ليس كافيًا ولو صدر من المالك الحقيقي في نقل الملكية بل لا بد فيه من التسجيل، هذا ويجب أن يلاحظ هنا أن من شأن مضي مدة الخمس سنوات أن يصحح العيب في العقد، والعيب اللاحق بالعقد هو صدوره من غير المالك، هذا في عهد القانون المدني، وأما في عهد قانون التسجيل الجديد، فإن هناك عيبًا آخر لحق العقد فوق عيبه الأول، والعيب اللاحق هو عدم التسجيل، وعدم التسجيل هذا، وهو وضع شكلي، لا يسقط كما بينّا بالتقادم الطويل ومن باب أولى التقادم القصير، وحق المطالبة بالبطلان المطلق غير قابل للتقادم في ذاته، إنما الذي يترتب على مضي المدة الطويلة، هو أن محل التعاقد يصبح وقد خرج بفعل الزمن عن ملك المدعي، ومما يؤكد صحة القول بعدم جواز سقوط حق البطلان بالزمن، أنه يصح أن يستحيل إلى دفع فرعي exception يجوز التمسك به مهما طال الزمن فيما إذا هوجم صاحب حق البطلان المطلق وأصبح مدعى عليه، وذلك أخذًا بالقاعدة التي ذكرناها في أن الدعاوى مؤقتة والدفوع خالدة.
ويجب أن نلاحظ هنا أنه وإن صح القول بأن العقد غير المسجل منشئ مع ذلك لحقوق وواجبات، وصح ما قلناه أيضًا بأنه يجوز للمشتري مطالبة البائع بالتسليم، ورفع دعوى بصحة التعاقد أو صحة الإمضاء وتسجيل الحكم فيهما، وأنه بناءً على ذلك لا يجوز للبائع دفع الدعوى قِبله بالبطلان المطلق الناشئ عن عدم التسجيل، باعتبار أن التسجيل عملية من الأوضاع الشكلية التي يمكن حصولها دون حاجة لعمل شخصي من جانب البائع: قلنا إن صح ذلك كله وهو صحيح حتمًا فإن العقد في ذاته قبل التسجيل من حيث الالتزامات الشخصية فقط، شيء، والعقد في ذاته قبل التسجيل من حيث نقل الملكية شيء آخر، فهو في الأول ملزم وصحيح، وفي الثاني غير نافذ وحده في نقل الملكية، ولأنه غير نافذ في نقل الملكية، لذا تقرر له أثر من حيث الالتزامات الشخصية، إذ لا محل لهذه الأخيرة إذا انتقلت الملكية، ولا تنتقل هذه إلا بالوضع الشكلي الخاص، وهو التسجيل.
والتسجيل الجديد يخالف على طول الخط التسجيل القديم، إذا كان القديم وسيلة علانية للغير، وهم حملة الحقوق العينية العقارية عن عقار واحد وعن مالك واحد، وأما التسجيل الحاضر فهو وضع شكلي وشرط جوهري لنقل الملكية في ذاتها، ولا بد أن يترتب على ذلك حتمًا أن يصبح التسجيل أيضًا وسيلة علانية وأداة إشهار على الكافة، فالتسجيل الحاضر ليس هو التسجيل الماضي فحسب، بل ركن من أركان أثر العقد في نقل الملكية، وبه تتحتم طبيعة وبداهة العلانية، إنما هو وضع من الأوضاع الشكلية اللازمة لتكوين العقد تكوينًا قانونيًا صحيحًا قبل أي شيء آخر.
الدليل الرابع من أدلة الناقل (راجعه في مكانه):
يقول بأن المادة (264) القائلة ببطلان عقد البيع الصادر من غير المالك الحقيقي لا يلحقها قانون التسجيل الجديد، وقد بينّا نحن أن التسجيل يقع على عقد البيع في ذاته مهما كان مصدره، المالك الحقيقي أو غيره، ما دام أن التسجيل أصبح شرطًا لازمًا لنقل الملكية حالاً، إن صدر من المالك الحقيقي، أو مستقبلاً إن صدر من غير المالك الحقيقي ومضت مدة التقادم، وقد رأينا أن أثر المدة إنما يقع، ويقع فقط، على تصحيح العقد من حيث صدوره من غير المالك ولا يمكن أن يقع على تصحيح العقد من حيث شائبة النقص فيه وهي عدم تسجيله، وقد بينّا أن هذه الشائبة وهي تتعلق بوضع شكلي روعي فيه النظام العام ويترتب عليها البطلان المطلق، لن تزول بفعل الزمن أي بالتقادم الطويل ومن باب أولى التقادم القصير.
الدليل الخامس (راجعه):
يقول الناقد إن المالك لا يعتبر من طبقة الغير فلا يستفيد من التسجيل، وقد بينّا نحن أن التسجيل قد وُضع ولوحظ فيه النظام العام، وأنه وضع شكلي يستفيد منه كل شخص من طبقة الغير أم لا، ويحكم به القاضي من تلقاء نفسه، نعم وإن كان البائع لا يصح أن يتمسك في وجه المشتري بعدم التسجيل كما بينّا ذلك في مكانه فإن ذلك يرجع ويرجع فقط، إلى أن العقد غير المسجل منشئ لالتزامات شخصية اشتغلت بها ذمة البائع، باعتبار أنه ملزم بتمكين المشتري من القيام بإتمام عملية التسجيل، ولأنه من سعى في نقض ما تم على يديه فسعيه مردود عليه، أما التسجيل في ذاته باعتباره وضعًا شكليًا وركنًا جوهريًا في نقل الملكية، فإنه يجب إقصاؤه جانبًا عن الالتزامات الشخصية التي قررتها المادة الأولى من قانون التسجيل الذي ما وُضع إلا تمهيدًا لنظام السجلات العقارية المنوي إنشاؤه فيما بعد.
والقاعدة التي يقول بها صاحب النقد في أن المالك لا يعتبر من الغير، إنما تصح في عهد القانون القديم وهو القانون المدني، في موطن التقادم الخمسي، ولكن لا تصح هذه القاعدة الآن وقد أصبح التسجيل وضعًا شكليًا يستحيل أن تنتقل الملكية بغيره، ولكل ذي شأن ومصلحة، حق الاستفادة منه، والمالك الحقيقي ذو شأن ظاهر في ذلك، ولا يمكن الاحتجاج عليه بمضي المدة وحده، بل لا بد في أن تكون العملية القانونية التي اطمأن إليها المشتري، وهي السبب الصحيح، عملية صالحة في ذاتها لنقل الملكية، بحيث لو كانت صدرت من المالك الأصلي لانتقلت الملكية، وما دام أنها غير ناقلة للملكية فيما إذا صدرت من المالك الحقيقي بسبب عدم تسجيلها، فهي كذلك غير ناقلة للملكية إذا صدرت من غير المالك الحقيقي.
الدليل السادس (راجعه):
يقول صاحب النقد بأن العبرة في التقادم الخمسي إنما هو مضي المدة فقط، وقد بينّا أن القول على هذا الإطلاق غير مجدٍ، بل لا بد في التقادم الخمسي من توافر الأركان الثلاثة: السبب الصحيح المملك قانونًا، ووضع اليد وحسن النية. والواحد منها دون الآخرين غير كافٍ لصحة التقادم الخمسي.
هذا هو ما أردنا أن نرد به على نقد حضرة الناقد حامد بك، وإنا نرى أن لا نختمه بما ختم به مقاله في (أن اشتراط تسجيل السبب الصحيح من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه الفقيه) ونعتقد على غير ما يعتقد هو أن القول بالتسجيل في السبب الصحيح في عهد قانون التسجيل الجديد ليس من (العبث الذي يتنزه عنه الفقيه) وما ظننا أننا كنا فيما نشرناه من بحوث مستفيضة في هذا الشأن باللغة العربية في مؤلفاتنا ومقالاتنا وباللغة الفرنسية في مجلة جازيت المحاكم المختلطة، بحال (من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه كل فقيه) بل كنا نعمل على ضوء ما وفقنا إليه من أعمال تحضيرية وأصول قانونية عامة، وما كان القضاء الفرنسي (من العبث الذي يجب أن يتنزه عنه كل قضاء) عندما قرر اعتبار المالك الحقيقي في طبقة الغير في حالة التقادم الخمسي (محكمة استئناف الجزائر في 15 نوفمبر سنة 1890، د 91، 5، 0405 - س، 91، 2، 53) ولو أن القضاء الفرنسي قد عدل عن هذا الرأي (وأحدث الأحكام دائرة العرائض بمحكمة نقض باريس في 28 فبراير سنة 905 س، 906، 1، 505 مع تعليق الأستاذ Napuet. راجع في ذلك كابتان. ج أول الطبعة الثانية سنة 1919 صـ 968، وكتابنا في الأموال صـ 844 ن 582) كما أن القضاء المصري لم يكن أيضًا بحال من (العبث الذي…) عندما قرر بأن الدائن العادي يعتبر من طبقة الغير، ويجوز له التمسك بعدم تسجيل عقد المشتري في عهد التسجيل القديم (استئناف مختلط 72 مايو سنة 1914م ت ق، 26، 398 والجدول العشري الثالث صـ 655 ن أ. 68. استئناف أهلي 28 مايو سنة 1912م ر 1 ـ 13 صـ 266 عدد 128 ومجموعة عياشي صـ 130 ن 579 ح 28 صـ 0213 - وأقر هذه القاعدة بعض الشرائع الأجنبية، ومنها القانون البلجيكي والإسباني والهولندي. انظر في ذلك كابتان المتقدم صـ 0963 - بلانيول ج 1 ن 2623 صـ 816) - إنما هي آراء يدلي فيها كل بما يوفق إليه وليس فيها من الشذوذ ما يسمى عبثًا، وأملنا فيما بسطناه هنا من هذا البحث الغاص بالحجج أن لا نكون (من العبث الذي…) كما أنّا نعتقد بحق بأن مقال الناقد لم يكن (من العبث الذي…) والحقيقة ضالة الباحثين. والله الموفق.

مدى اختصاص النيابة العامة بالفصل في مواد الحيازة

مجلة المحاماة – العدد الرابع

السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث
مدى اختصاص النيابة العامة بالفصل في مواد الحيازة لحضرة الأستاذ أحمد رفعت خفاجي وكيل نيابة ميت غمر
1 - تمهيد:
قد يتنازع شخصان على عقار أرضًا كان أم مبنى يدعى كلاهما أحقيته في حيازته فيتعرض كل منهما للآخر، وقد يغتصب شخص عقار آخر عنوة عنه وذلك باستعمال القوة أو بغير علمه وذلك بأن يضع يده عليه ليلاً ويزرعه إن كان أرضًا ويقيم فيه إن كان منزلاً، وقد يقيم شخص أعمالاً جديدة على أرضه أو على أرض غيره فينازعه آخر في إتمام هذه الأعمال، فما هي الجهة المختصة بالفصل في المنازعات التي تدور حول الحيازة، والتي تقرر بتمكين هذا أو ذاك من حيازة العقار؟
2 - صعوبة البحث:
ولعل ما دفعنا إلى هذا البحث ما لمسناه من الوجهة العملية – من أن النيابة العامة ممثلة في رجالها تضع نفسها حكمًا في مثل هذه المنازعات فتتصدى لمدى أحقية طرفي النزاع في حيازة العقار وذلك عندما تلجأ إليها جهة الإدارة للإفادة عما يتبع من تمكين زيد أو عمرو من حيازة العقار، وأن هذا الاتجاه جعلنا نتساءل عن السند القانوني لاختصاص النيابة العامة وهل هناك نص تشريعي يؤيد هذا الاختصاص وينظمه، وهل يمتد الاختصاص لأمور أخرى غير اختصاصها الأصلي الخاص بتحريك الدعوى العمومية ومباشرتها، هذا ما سنعالجه في هذا الصدد.
3 - أهمية البحث:
ولا يفوتنا أن نذكر بهذه المناسبة أن هذا البحث ليس بحثًا فقهيًا أي دراسة من الوجهة النظرية البحتة فحسب بل إن له نتائج عملية في غاية من الأهمية والخطورة فعلى ضوء هذا البحث يمكننا أن نعرف مدى حجية قرار النيابة في هذه المسائل وهل هو ملزم لطرفي الخصومة وما هو الجزاء المترتب على إصرار أحد طرفي النزاع على عدم تنفيذه وما هو مدى مسؤولية جهة الإدارة في عدم تنفيذه وهل لها أن تخالفه إذا رأت ضرورة لذلك حماية للأمن والنظام الاجتماعي.
4 - موقف القانون المدني وقانون المرافعات:
ولا شك أن الاختصاص بالفصل في مواد الحيازة موكول – بصفة أصلية - إلى القضاء المدني سواء أكان قضاء مستعجلاً أم عاديًا، ففي وسع أحد طرفي الخصومة أن يلجأ إلى المحاكم المدنية لتفصل في موضوع النزاع فتصدر حكمًا واجب التنفيذ لما يحمل من صيغة تنفيذية تلزم النيابة العامة ورجال الضبط بتنفيذ الأحكام الصادرة من الجهات القضائية.
ولما نشر القانون رقم (131) سنة 1948 المؤرخ في 16 يوليو سنة 1948 والخاص بإصدار القانون المدني تناول في القسم الثاني منه الحقوق العينية وأهمها حق الملكية وعالج في الفرع السابع من الفصل الثاني موضوع الحيازة كسبب من أسباب كسب الملكية وذلك في المواد (949) وما بعدها فتكلم عن الحيازة بصفة عامة ثم في دعاوى حماية الحيازة actions possessoires وهي:
1 - دعوى منع التعرض La complainte
2 - دعوى استرداد الحيازة La réimetegrande
3 - دعوى وقف الأعمال الجديدة La dénonciation de nouvelle oeuver
أما الأولى: ويقصد بها منع الاعتداء على الحيازة سواء أكان الاعتداء ماديًا باغتصابها أم قانونيًا بالادعاء أمام القضاء بأن الحيازة لغير الحائز فلقد جاء النص عليها في المادة (961) من القانون المدني التي تقرر:
(من حاز عقارًا واستمر حائزًا له سنة كاملة ثم وقع له تعرض في حيازته جاز له أن يرفع خلال السنة التالية دعوى بمنع هذا التعرض).
أما الثانية: ويقصد بها رد الحيازة إلى من اغتصبت منه بالقوة أو بغير علمه فلقد ورد ذكرها في المواد (958)، (959)، (960) من القانون المدني:
المادة (958): (1 - لحائز العقار إذا فقد الحيازة أن يطلب خلال السنة التالية لفقدها ردها إليه فإذا كان فقد الحيازة خفية بدأ سريان السنة من وقت أن ينكشف ذلك.
2 - ويجوز أيضًا أن يسترد الحيازة من كان حائزًا بالنيابة عن غيره).
المادة (959): (1 - إذا لم يكن من فقد الحيازة قد انقضت على حيازته سنة كاملة وقت فقدها فلا يجوز أن يسترد الحيازة إلا من شخص لا يستند إلى حيازة أحق بالتفضيل والحيازة الأحق بالتفضيل هي الحيازة التي تقوم على سند قانوني فإذا لم يكن لدى أي من الحائزين سند أو تعادلت سنداتهم كانت الحيازة الأحق هي الأسبق في التاريخ.
2 - أما إذا كان فقد الحيازة بالقوة فللحائز في جميع الأحوال أن يسترد خلال السنة التالية حيازته من المعتدى).
المادة (960): ( للحائز أن يرفع في الميعاد القانوني دعوى استرداد الحيازة على من انتقلت إليه حيازة الشيء المغتصب منه ولو كان هذا الأخير حسن النية).
أما الثالثة: ويقصد بها منع السير في أعمال لو تمت لكونت اعتداءً ماديًا على حيازة العقار أو على حق مقرر عليه ولقد ورد ذكرها في المادة (962) من القانون المدني التي تنص:
(1 - من حاز عقارًا واستمر حائزًا له سنة كاملة وخشي لأسباب معقولة التعرض له من جراء أعمال جديدة تهدد حيازته كان له أن يرفع الأمر إلى القاضي طالبًا وقف هذه الأعمال بشرط ألا تكون قد تمت ولم ينقض عام على البدء في العمل الذي يكون من شأنه أن يحدث الضرر.
2 - وللقاضي أن يمنع استمرار الأعمال أو أن يأذن في استمرارها وفي كلتا الحالتين يجوز للقاضي أن يأمر بتقديم كفالة مناسبة تكون في حالة الحكم بوقف الأعمال ضمانًا لإصلاح الضرر الناشئ من هذا الوقف متى تبين بحكم نهائي أن الاعتراض على استمرارها كان على غير أساس وتكون في حالة الحكم باستمرار الأعمال ضمانًا لإزالة هذه الأعمال كلها أو بعضها إصلاحًا للضرر الذي يصيب الحائز إذا حصل على حكم نهائي في مصلحته).
وحقيقة الأمر أن تفسير هذه المواد وشرحها شرحًا مفصلاً محله القانون المدني وقانون المرافعات ويكفينا أن نقرر في هذا المقام أن الحيازة التي يحميها القانون بمقتضى هذه الدعاوى الثلاث هي الحيازة الهادئة raisible الظاهرة publique غير الغامضة non équivoque المستمرة مدة سنة على الأقل والمحكمة المختصة بالفصل في هذه الأمور هي محكمة المواد الجزئية وذلك طبقًا لما ورد في المادة (47) من القانون رقم (77) سنة 1949 الخاص بإصدار قانون المرافعات المدنية والتجارية والتي تنص:
(تختص محكمة المواد الجزئية بالحكم ابتدائيًا:
( أ ) (دعاوى الحيازة…)
ولا شك أن المحكمة الجزئية المختصة هي المحكمة التي يقع في دائرتها العقار محل النزاع إذ أن هذه الدعاوى دعاوى عينية عقارية وذلك تطبيقًا لنص المادة (56) من قانون المرافعات.
(في الدعاوى العينية العقارية ودعاوى الحيازة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها العقار أو أحد أجزائه إذا كان واقعًا في دوائر محاكم متعددة).
ويجب ملاحظة هذه الدعاوى الثلاث قد ترفع بصفة عاجلة أمام محكمة الأمور المستعجلة وذلك إذا تبين أن الدعوى متعلقة بمسائل مستعجلة يخشى عليها من فوات الوقت كما يجب ملاحظة أن الأحكام الصادرة في هذه الدعاوى قابلة للطعن فيها بطريق الاستئناف.
5 - عدم اختصاص النيابة العامة:
وفي كثير من الأحوال لا يلجأ أحد طرفي النزاع إلى القضاء المدني ليفصل فيه ويقول كلمته في من له الحق في حيازة العقار محل النزاع وإنما يظل يتعرض لخصمه تعرضًا ماديًا فيقابل خصمه التعرض بالتعرض مما يؤدي إلى تكدير صفو السلام أو مما قد يتطور الأمر فيعتدي كل طرف على الآخر وترتكب جرائم ضد النفس تتفاوت في خطورتها حسب الظروف منها جرائم الضرب المفضي إلى الموت المعاقب عليها في المادة (236) من قانون العقوبات أو جرائم الضرب الذي ينشأ عنه عاهة مستديمة المعاقب عليها في المادة (240) من القانون المذكور.
فهل يجوز للنيابة العامة أن تتدخل في هذا النزاع وتصدر قرارًا واجب التنفيذ على طرفي النزاع وتراقب تنفيذه جهة الإدارة خاصة وأن في وسع من صدر القرار في غير صالحه أن يلجأ إلى القضاء المدني على النحو السابق شرحه كي يحصل على حكم في الخصومة يحمل الصيغة التنفيذية يتعين تنفيذه بمعرفة النيابة العامة والإدارة ويجعل قرار النيابة السابق لا حجية له بصدد هذا الحكم القضائي.
هذا هو الجاري عليه العمل الآن بين بعض رجال النيابة العامة.
إلا أن الباحث في النصوص القانونية لا يجد نصًا يخول للنيابة العامة هذا الاختصاص فضلاً عن أن روح فقه قانون تحقيق الجنايات لا يؤيد هذا الاتجاه.
فلقد نص قانون تحقيق الجنايات على أن اختصاص النيابة بصفة أصلية هو تحريك الدعوى العمومية mise en mouvement ومباشرتها exercise فالنيابة العامة وهي التي تنوب عن الهيئة الاجتماعية تختص دون غيرها برفع الدعوى الجنائية طالبة الحكم على الجاني توطئة لتنفيذ العقوبة عليه.
كما صدر بعض قوانين مستقلة خولت للنيابة العامة اختصاصات أخرى غير هذا الاختصاص الأصلي وهي:
1/ التدخل في الدعاوى المدنية والتجارية أمام القضاء المدني والتجاري وذلك إما بصفة أصلية: كما جاء في المادة (196) من قانون التجارة التي تجيز للنيابة العامة أن تطلب بدعوى مبتدئة الحكم بإشهار إفلاس التاجر المتوقف عن الدفع – وكما جاء في القانون المدني الجديد في المادة (96) منه أنه يجوز للنيابة العامة أن تطلب من المحكمة الابتدائية الحكم بحل جمعية من الجمعيات. ففي هاتين الحالتين ترفع النيابة هذه الدعاوى بصفة أصلية، وأما أنها تتدخل بصفتها طرفًا منضمًا وهي ما أوجبه القانون في المسائل الحسبية والأحوال الشخصية المتعلقة بالأجانب وإلا كان الحكم باطلاً ومظهر هذا التدخل هو الاطلاع على أوراق القضية وتقديم مذكرات فيها.
2/ المحافظة على حقوق القصر وعديمي وناقصي الأهلية وذلك تنفيذًا لقانون المحاكم الحسبية رقم (99) سنة 1947 المعدل بالقانون رقم (126) سنة 1951.
3/ إقامة الدعاوى التأديبية على رجال القضاء وموظفي المحاكم.
4/ الحضور في الجمعية العمومية التي تعقد بالمحاكم لترتيب الأعمال القضائية.
5/ إدارة الأعمال المتعلقة بنقود المحاكم وتفتيش صندوق الأمانات والودائع.
6/ ملاحظة وتفتيش السجون وذلك ضمانًا لتنفيذ القوانين واللوائح الخاصة بها.
هذا هو الاختصاص الأصلي للنيابة العامة وكذا الاختصاصات الأخرى المعطاة لها بناءً على نصوص قانونية صادرة بقوانين خاصة - أما اختصاصها بالفصل في مواد الحيازة فلم يرد ذكره في نص قانوني ما، هذا من جهة نصوص القانون.
أما من جهة روح القانون فالنيابة العامة أنشئت لتحريك الدعوى العمومية ومباشرتها أي لاتخاذ الإجراءات القانونية لضبط الجرائم وتقديم المجرمين للمحاكمة فليس لها أي اختصاص إداري آخر، فالنيابة العامة وإن كانت تابعة للسلطة التنفيذية ممثلة في شخص وزير العدل فإن اختصاصها محدود بنصوص القانون ينصب أساسًا وبصفة أصلية على الدعوى العمومية أي مباشرة حق التحقيق والاتهام ومن ثم ليس لها أي شأن بالأمن العام وضمان سلامته والمحافظة على حسن سيره إذ أن هذا من صميم اختصاص جهة الإدارة التي تتبع في النهاية إلى وزير الداخلية وبالتالي ليس للنيابة العامة أن تتدخل في المنازعات القائمة بين الأفراد والتي لا تكون جريمة ما، بل والتي ربما تؤدي إلى ارتكاب جريمة طالما أن جريمة ما لم تقع، فإذا تنازع زيد مع عمرو على عقار كلاهما يدعى حيازته وأحقيته في ملكيته وتعرض كل منهما للآخر ولم يلجأ كلا الطرفين للقضاء المدني فلا يسوغ للنيابة العامة أن تقحم نفسها في هذا النزاع المدني فتفصل فيه لأنها ليست جهة قضاء مدني كما أن ليس لها أن تنهي النزاع بين الطرفين ولو مؤقتًا فتصدر قرارًا في موضوع الحيازة محافظة على السلم العام وذلك لأنها ليست الجهة المختصة بالمحافظة على الأمن العام واتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تكدير صفوه.
وما يجب الإشارة إليه في هذا الشأن أن ما تقدم ينصب على النزاع حول الحيازة الذي لا يكون جريمة.
أما إذا كون النزاع بين الطرفين جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات تعين على النيابة العامة أن تتدخل فتباشر حقها في الاتهام مثال ذلك ما نص عليه قانون العقوبات في المادتين (369) و (370) عقوبات.
م 369 – (كل من دخل عقارًا في حيازة آخر بقصد منع حيازته بالقوة أو بقصد ارتكاب جريمة فيه أو كان قد دخله بوجه قانوني وبقى فيه بقصد ارتكاب شيء مما ذكر يعاقب…).
م 370 – ( كل من دخل بيتًا مسكونًا أو معدًا للسكنى أو في أحد ملحقاته أو في سفينة مسكونة أو في محل معد لحفظ المال وكانت هذه الأشياء في حيازة آخر قاصدًا من ذلك منع حيازته بالقوة أو ارتكاب جريمة فيها أو كان قد دخلها بوجه قانوني وبقى فيها بقصد ارتكاب شيء مما ذكر يعاقب… ).
وأركان هاتين المادتين هي دخول عقار بصفة غير مشروعة أي بدون إذن حائزة أو رغم إرادته وكان هذا العقار في حيازة آخر ويقصد بالحيازة هنا الحيازة هنا الحيازة الفعلية كاملة كانت أم ناقصة، وذلك بقصد منع حيازة الحائز بالقوة، فيجب أن يعلم الجاني أن العقار الذي دخله في حيازة شخص آخر فإذا اعتقد بحسن نية أن العقار في حيازته هو وأن الحائز مغتصب له إن كان يعلم أن العقار في حيازة آخر ودخله دون أن يقصد منع حيازته بالقوة أو ارتكاب جريمة فيه أو أن يضع يده على عقار في غياب صاحبه أو يدخل عقارًا بقصد امتناع حائزة بأحقيته في الحيازة دون أن يستعمل القوة أو استأجر عقارًا ثم انتهت إجازته وبقي في العين محل الإيجار فلا جريمة في كل هذه الأحوال.
فإذا استوفيت أركان هاتين المادتين وجب على النيابة العامة أن ترفع الدعوى العمومية، أما إذا لم تستوفِ هذه الأركان فلا جريمة في الأمر ومن ثم فلا اختصاص للنيابة العامة في هذا النزاع.
6 - ما هي الجهة المختصة:
ولكن إذا سلمنا أن النيابة العامة غير مختصة بالفصل في مواد الحيازة فأين الجهة المختصة التي يمكن الالتجاء إليها للفصل فيها ما دام أحد الطرفين لم يطرح النزاع على القضاء المدني وذلك رغبة في حماية الأمن والنظام ؟!
لعل الرجوع إلى فكرة التفرقة بين الضبطية الإدارية أو الضبط الإداري والضبطية القضائية أو الضبط القضائي هو الذي يسعفنا للإجابة على هذا السؤال:
فالضبطية الإدارية هي التي من وظيفتها حفظ الأمن العام باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع وقوع الجرائم، وتحقيق ذلك متروك لسلطان السلطة الإدارية فلها أن تعمل على تنفيذ القوانين فتراقب تنفيذها وتمنع المحكومين من مخالفتها ولها أن تصدر أوامر إدارية actes administratifs للمحافظة على الأمن والسلام في الداخل، والضبطية الإدارية يباشرها رجال الإدارة بالمديريات والمحافظات والمدن والقرى.
أما الضبطية القضائية فمن وظيفتها البحث عن الجرائم وإثبات حالتها ومرتكبيها وجمع الأدلة على ارتكابها ورفع الدعوى العمومية على الجانين أي جمع عناصر التحقيق والاتهام ورجال الضبطية القضائية نصت عليهم المادة الرابعة من قانون تحقيق الجنايات وهي المقابلة للمادة (23) من قانون الإجراءات الجنائية وأعضاء النيابة العامة هم رؤساء رجال الضبطية القضائية.
فإذا تنازع شخصان على قطعة أرض أو مبنى يدعى كلاهما حيازته وأحقيته في وضع يده عليه دون الآخر وكلاهما يتعرض للآخر وقد يستفحل بينهما النزاع فيخشى من وقوع جرائم ضد النفس فيختل الأمن ويفسد النظام فمن المختص بالفصل في هذا النزاع بصفة مؤقتة ؟ ومن المختص بإصدار قرار فيه يكفل حفظ الأمن والنظام ؟؟
لا شك أن الضبطية الإدارية أي جهة الإدارة هي التي يقع على كاهلها المحافظة على الأمن ومنع وقوع الجرائم ولها بسبيل ذلك أن تتخذ الاحتياطات التي ترى لزومها لضمان ذلك كما لها أن تصدر أوامر وقرارات تعتقد وجوبها حسمًا للنزاع ومنعًا لاحتكاك طرفيه خشية وقوع جرائم فلها أن تصدر أمرًا بتمكين زيد أو تمكين عمرو من حيازة العقار موضوع النزاع أو رفع يد كليهما مع تكليف كل منهما في كل الأحوال بالالتجاء إلى القضاء المدني للحصول على حكم في الخصومة والحقيقة أنها عند ما تباشر ذلك إنما تباشر عملاً من صميم اختصاصها وذلك بصفتها الهيئة المهيمنة على الأمن والتي من وظيفتها منع وقوع الجرائم وحسبها أن تصدر قرارها مستهدية بما يستوجبه حماية الأمن والنظام الاجتماعي كما أن في وسع من صدر قرار جهة الإدارة في غير صالحه أن يسرع فيلجأ إلى القضاء المدني ليحصل على حكم في الحيازة واجب التنفيذ لما يحمل من صيغة تنفيذية كما أن في وسعه أن يتظلم من القرار الإداري الصادر من جهة الإدارة إلى مجلس الدولة وهي جهة القضاء الإداري فله أن يطلب إما إلغاء هذا القرار أو طلب التعويض اللازم عن الضرر الذي حدث لديه من جراء هذا القرار إذا استوجب مسؤولية جهة الإدارة.
7 - خاتمة:
وخلاصة البحث: أن الرأي الصحيح - في اعتقادنا - أن الاختصاص في مواد الحيازة أساسًا وبصفة أصلية وعادية معقود لجهة القضاء المدني يفصل فيه على هدى من القواعد المقررة في فقه القانون المدني وفقه قانون المرافعات، أما إذا تراخى كلا الطرفين ولم يلجأ للقضاء المدني وفضل التشاحن والتعرض لخصمه في العقار موضوع النزاع فلا تختص النيابة العامة بالفصل في هذا النزاع، اللهم إلا إذا لبس النزاع حول الحيازة ثوب الجريمة المنصوص عليها في المادتين (369)، (370) من قانون العقوبات، وحسب جهة الإدارة أن تفصل فيه إما بتمكين أحدهما من حيازة العقار موضوع النزاع أو رفع يدهما عنه وتكليفهما في كلتا الحالتين بالالتجاء للقضاء المدني وذلك مع مراعاتها للحق والعدالة والقانون من جهة وحمايتها للأمن والنظام الاجتماعي من جهة أخرى.

متى تسقط الفوائد والأجرة والحكر ونحوها المحكوم بها؟

مجلة المحاماة - العدد الثامن

السنة الخامسة - مايو سنة 1925
متى تسقط الفوائد والأجرة والحكر ونحوها المحكوم بها؟
القاعدة العامة في فرنسا (مادة (2262) مدني) أن كافة الحقوق والتعهدات والديون والدعاوى يسقط الحق في المطالبة بها بمضي 30 سنة، وفي مصر بمرور 15 سنة هلالية (مادة (208) مدني أهلي و(272) مدني مختلط أخذًا عن الشريعة الإسلامية الغراء - عدم جواز سماع الدعوى حسب اصطلاح الفقهاء) ما عدا المستثنيات التي منها:
1 - أتعاب المحامين والمهندسين والأطباء وثمن المبيعات لغير التجار وأجور المعلمين ومؤدبي الأطفال ومرتبات المستخدمين… إلخ ورسوم أقلام الكتاب والمحضرين ((209) و(210) مدني أهلي - (273) و(274) مدني مختلط و(2272) و(2273) و(2274) مدني فرنسي) فإنها تسقط بمضي 360 يومًا بشرط حلف اليمين - ما لم يوجد اتفاق كتابي صريح أو ضمني أو إنكار لذات الحق كما سيأتي في مقال آخر.
2 - ملكية الشيء المسروق أو الضائع يسقط الحق في المطالبة بها بمضي 3 سنوات ((86) مدني أهلي و(115) مدني مختلط و(2779) مدني فرنسي) - بدون حلف يمين.
3 - الكمبيالات والسندات التجارية وأوامر الدفع والتحويل (دون باقي الأعمال التجارية) تسقط بمضي 5 سنوات من تاريخ استحقاقها أو البروتستو أو آخر عمل – بشرط حلف المدين اليمين ((194) تجاري أهلي و(201) تجاري مختلط و(189) تجاري فرنسي).
4 - الفوائد والمرتبات والأجور والأحكار… إلخ أي كل ما يستحق دفعه سنويًا أو لأقل من سنة يسقط بمضي 5 سنوات بدون حلف يمين (مادة (211) مدني أهلي و(275) مدني مختلط و(2277) مدني فرنسي).
والبحث في هذا المقال يدور حول النقط الآتية:
أولاً: ماذا تشمل المادة (211) مدني أهلي؟
تشمل ما يأتي:
1 - جميع أنواع الفوائد سواء عن التأخير في الدفع - أو مقابل الانتفاع بالقرض… إلخ:
- المسيو دوهلس نبذة (186).
- الدكتور محمد بك كامل مرسي كتاب الملكية والحقوق العينية صحيفة (417).
- والتون جزء (2) صحيفة (525) و(527).
2 - كافة أجور الأراضي والمنازل ونحوها.
3 - الحكر: الاستئناف الأهلي 7 يناير سنة 1908 مجلة الحقوق سنة 18 صحيفة (345).
4 - الأموال الأميرية بالنسبة للمالك لا الحكومة.
5 - المعاشات بأنواعها.
6 - النفقات.
7 - المكافآت التي تُعطَى للمستخدمين العموميين أو للخصوصيين بصفة معاش دوري.
8 - كل ما يُدفع سنويًا أو في دور أقل من سنة كاشتراكات المجلات والجرائد.
ثانيًا: هل يجوز للمدين مع اعترافه صراحةً أو ضمنًا بعدم الدفع التمسك بسقوط الحق بمضي خمس سنوات؟
- نعم - لأن هذه المادة (211 مدني أهلي) وما يقابلها في فرنسا (2277 مدني) قد جعلت لمنع وقوع المدين في الخراب بتراكم فوائد سنين كثيرة عليه - لا للسبب (مادة (209) مدني أهلي) الخاص بسقوط أتعاب الطبيب بسنة (أو سنتين في فرنسا مادة (2722) مدني) وهو أن العادة عدم أخذ إيصال بذلك أو عدم المحافظة عليه:
- الاستئناف المختلط 3 يناير سنة 1895 (مجلة القضاء والتشريع المختلط جزء (7) صحيفة (73)).
- محكمة بني سويف 2 يونيه سنة 1914 (مجلة الحقوق جزء (31) صحيفة (212)).
- الدكتور محمد بك كامل مرسي: الملكية والحقوق العينية صحيفة (417).
ثالثًا: هل تسري هذه المادة (211 أهلي) على ريع الاغتصاب؟
لا – لأن المادة جعلت:
أولاً: لوقاية المدين حسن النية من الخراب.
ثانيًا: لأنها خاصة بأحوال يستحق فيها الإيجار أو الفائدة أو الحكر أو المرتب… إلخ في أقساط سنوية أو أجزاء من سنة من جهة وكان يجوز للدائن المطالبة بها في أي وقت بعد الاستحقاق من جهة أخرى خلافًا لحالة المدين المغتصب.
وثالثًا: لأنها كلها مبنية على تعهدات أو اتفاقات خلافًا لحالة الريع حيث أساسها جنحة أو شبه جنحة.
- الاستئناف المختلط 20 مايو سنة 1897 (مجلة القضاء والتشريع المختلطة جزء (9) صحيفة (357)) ومجموعة أحكام العشر سنين الأولى المختلطة حكم رقم (3394).
- الاستئناف الأهلي 27 مارس سنة 1912 (المجموعة الرسمية الأهلية سنة 13 صحيفة (187)).
- الاستئناف الأهلي 16 يونية سنة 1914 (مجلة الشرائع سنة أولى صحيفة (252)).
- الاستئناف الأهلي 15 يونية سنة 1915 (مجلة الشرائع سنة ثانية صحيفة (308)).
- الاستئناف الأهلي 26 يناير سنة 1916 (مجلة الشرائع سنة ثالثة صحيفة (370)).
- داللوز مدني (مادة (2277) نبذة (213)، (214)، (215)، (216)).
ولكن الرحمة قد تغلبت على محكمة الاستئناف الأهلية فقضت مرة (وكأنها تقول الرحمة فوق العدل) بسقوط ريع الاغتصاب بمرور خمس سنوات مخالفة غرض القانون. – راجع الاستئناف الأهلي 22 ديسمبر سنة 1910 المجموعة الرسمية 12 حكم رقم (50) ومجموعة حضرة حمدي بك السيد الأولى صحيفة (119) حكم رقم (636).
رابعًا: هل تنطبق المادة (211) المذكورة على المطالبة قبل الحكم فقط أم على حالة صدور الحكم بذلك أيضًا.
وبعبارة أوضح متى تسقط الفوائد والأجور ونحوها المحكوم بها؟
جميع المحاكم والشراح متفقون قديمًا وحديثًا على أن الحكم بأصل الحق أو الدين حتى لو كان مما يسقط الحق في المطالبة به بسنة (بمصر) أو بسنتين (في فرنسا) قبل الحكم - يجعل هذا الدين تابعًا للقاعدة العامة في السقوط أي المدة الطويلة (30 سنة في فرنسا و15 سنة بمصر).
ولكن بما أن الفوائد والأجور والأحكار والنفقات والمرتبات والاشتراكات ونحوها مما يتراكم بالسكوت عن المطالبة به وبذا يصبح المدين مهددًا بالخراب خلافًا لحالة الحكم عليه بأتعاب طبيب أو محامٍ أو ما شاكل ذلك فإن أصل الدين لا ينمو – فقد أراد الشارع الفرنسي عند تحضيره المادة (2277) مدني حماية المدين من الوقوع في الدمار بسكوت الدائن لسببٍ ما عن المطالبة بفوائده أو بإيجاره أو نفقته… إلخ، سواء كان ذلك قبل رفع الدعوى – أو بعد رفعها والسكوت عن الاستمرار فيها مدة طويلة أو بعد الحكم بالفائدة ونحوها.
غير أن المحاكم الفرنسية قد أخطأت في أول الأمر في تفسير المادة (2277) مدني بأن فرقت بين حالتي المطالبة قبل الحكم وبعده فقضت بأن المطالبة قبل الحكم تسقط بخمس سنوات وبعد الحكم تسقط بثلاثين سنة (أو 15 سنة بمصر) متمسكة بظاهر ألفاظ المادة (2277) (المقابلة للمادة (211) أهلي و(275) مختلط) زاعمة أن الحكم بمبلغ وفوائده يدمج الحقين في بعضهما ويجعلهما كتلة واحدة يسري عليها السقوط العام بالمدة الطويلة (30 سنة هنالك و15 سنة هنا).
وأخيرًا قد أدركت المحاكم والشراح في فرنسا هذا الخطأ فعدلت عن التفرقة بين الحالتين كما يقول العلامة بودري لاكنتنري في كتابه شرح القانون المدني المطول جزء (25) (الخاص بسقوط الحقوق De la prescription) صحيفة (516) نبذة (785) (a peu près abandonnèe en doctrine et en jurisprudence) للأسباب الآتية:
1 - لأن الحكمة من تقصير مدة السقوط في المطالبة بالفوائد هي نشل المدين من الخراب بتراكم فوائد عشرات من السنين عليه - وهذا موجود في حالة المطالبة بالحق ذاته أو الحكم به فعلاً فيجب طبعًا وعقلاً أن تكون النتيجة واحدة
(Deux situations identiques se sauraient être régies d’une maniére différente).
2 - لأن روح القانون وغرض الشارع واضح وعلى الأخص من مراجعة محاضر تحضير القانون المدني الفرنسي من أنه لا يريد التفرقة بين الحالتين لأن المدين مهدد بالخراب في كلتيهما - والدائن مهمل من جهة أخرى في الصورتين.
3 - أن الحكم بمبلغ وفوائده هو في الواقع حكم بأصل الدين (يسقط بالمدة الطويلة) وحكم بجزء تبعي وهو الفوائد (تسقط بخمس سنوات).
4 - لا شيء يمنع الدائن قانونًا من التنفيذ بالفوائد كلما أراد لأنه غير ملزم بالحجز وفاءً لجميع مطلوبه وملحقاته في آنٍ واحد.
5 - (ويرى شخصي الضعيف) أن سقوط حق الدائن في المطالبة بفوائد المدة الزائدة على خمس سنوات لا يضره ضررًا بليغًا لأن له والحالة هذه الحق:
أولاً: في أصل دينه.
ثانيًا: في فوائد خمس سنوات من آخر عمل يقطع المدة.
وعلى هذا الرأي:
- دالوز: التعليقات الجديدة على القانون المدني (طبعة 1907) جزء (4) صحيفة (1965) نبذة (95) و(96) و(97) و(98).
- أوبري ورو طبعة (4) جزء (8) صحيفة (434).
- لوران - مدني - جزء (32) صحيفة (471) نبذة (448).
- بلانيول جزء (2) صحيفة (195) نبذة (639).
- فينيه Fenet محاضر تحضير القانون المدني الفرنسي جزء (15) صحيفة (298) و(299).
- المسيو دوهلس المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية سابقًا جزء (3) صحيفة (374).
- الدكتور محمد بك كامل مرسي الملكية والحقوق العينية صحيفة (417).
وقد حكمت محكمة الاستئناف المختلطة في 28 مارس سنة 1923 (مجلة القضاء والتشريع المختلطة سنة 1922 - 1923 أي جزء (35) صحيفة (324)) بما يأتي:
(La déeision de justice qui condamne au paiement d’un capital et des intérêts sans capitaliser les intérêt leur laisse leurs caractêres d’arriérages payables périodiquement ou par termes en les rendant ainsi sujets à la prescription quinquennale..)
أي أن الحكم بمبلغ وفوائده (بدون تجميد الفوائد) لا يسلب هذه الفوائد صفة (المتأخرات والملحقات الواجب دفعها دوريًا أو على أقساط – وبالتالي لا يمنع من سقوطها بمضي خمس سنوات).
وقد حكمت محكمة الاستئناف الأهلية بتاريخ 6 مايو سنة 1925 (في الاستئناف نمرة (423) سنة 42 قضائية (المرفوع مني شخصيًا ضد حضرة الدكتور حسين أفندي همت بصفاته)) بالدائرة المدنية رياسة سعادة محمد بك مصطفى وبعضوية حضرتي صاحبي العزة شاكر بك أحمد المستشار ومحمد بك نور القاضي المنتدب - بسقوط الحق في الفوائد المحكوم بها بمرور خمس سنوات عليها من آخر عمل.
أحمد منيب
المحامي بالمحاكم المختلطة والاستئناف الأهلي والشرعي